الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)" أيْ هذا تذكيرٌ مرَّة أخري بالاتّفاق بينهما.. أيْ قال العبد الصالح لموسي (ص) مُعَاتِبَاً ومُذَكّرَاً هل لم أقل لك سابقاً من أوّل الأمر إنك لن تَقْدِر علي الصبر معي واتّباعي ومُصاحَبَتِي، لأنك قد تَرَيَ أموراً مِنّي أفعلها يَظهر لك أنها حينها سَيِّئة، وأنت كرسولٍ عليك أن تُنْكِرَ عليَّ فعلها، لكنْ فيها خيراً يَظْهَر لاحِقَاً؟.. هذا، وإضافة "لك" في هذه الآية الكريمة هو لمزيدٍ من التحْديد والتعْيين والتذكِير أىْ ألم أقل لك أنت يا موسى لا لغيرك على سبيل التأكيد والتوثيق، وكذلك للدلالة علي مزيدٍ من اللّوْم والعِتاب لأنَّ المَرَّة الأولي كانت نِسْيانَاً مَقْبُولَاً من موسي (ص) أمَّا هذه المَرَّة ففيها الاعتراض والإنكار المقصود منه والذي يُؤَكّده أنه (ص) لم يَعْتَذِر بالنسيان هذه المَرَّة
ومعني "قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)" أيْ قال موسى (ص) له مُعْتَذِرَاً اعْتِذارَاً شديداً إنْ سألتك عن شيءٍ بعد هذه المرَّة فاتْرُكْنِي ولا تصاحبني، لأنك حينها ستكون قد وَصَلْتَ مِن جِهَتِي عُذْرَاً تُعْذَر به في تَرْكِ مُصَاحَبَتِي لأني سأكون وقتها قد خالَفْتك كثيرا
ومعني "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)" أيْ فسَارَا مَعَاً بعد ذلك إلي أنْ حَضَرَا ووَصَلَا أهل قريةٍ فطَلَبَا من أهلها طعاماً فرَفضوا أن يستضيفوهما كضيوفٍ بسبب بُخْلِهم فوَجَدَا ولَقِيَا في القرية حائطاً مائِلاً يُوشِك أنْ يَنْقَضَّ أيْ يَسقط ويَنْهَدِم فأقامه العبد الصالح أيْ فعَدَّلَ مَيْلَه حتى صارَ مُعْتَدِلَاً قائماً، قال موسي (ص) له لو أرَدْتَ لأخذتَ على هذا العمل أجراً تَصْرِفه في تحصيل طعامنا حيث لم يُضَيِّفونا، وفي هذا مُخَالِفَة أخري منه (ص) لِمَا اتّفَقا عليه ألّا يسأله عن شيءٍ حتي يُحْدِثَ له منه ذِكْرَاً حيث كلامه هو سؤالٌ ضِمْنِيٌّ ولَوْمٌ له واعتراضٌ عليه لماذا لم تأخذ أجراً علي عملك وهم بُخَلاء وقد أتْعَبْتَ نفسك لهم ونحن بحاجةٍ للأجر لأنه سيكون لإطعامنا ولو لم نكن مُحتاجين له لكُنّا تَرَكْناه من باب فِعْل الخير؟!
ومعني "قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)" أيْ هذا الذي قُلْتَه هو فِراقُ بيني وبينك أيْ سبب الفِرَاق بيننا لأنك قد قُلْتَ لى قبل ذلك إنْ سألتك عن شيءٍ بَعْدَها فلا تُصاحِبني وأنت الآن تسألنى عن عدم إرادتي أخذ الأجر، ومع ذلك سأُخْبِرك قبل افتراقِنا بتَفْسِير وحِكْمَة الذي لم تَقْدِر علي الصبر عليه، حيث قد رأيت أموراً مِنّي أفعلها ظَهَرَ لك أنها حينها سَيِّئة، وأنت كرسولٍ عليك أن تُنْكِرَ عليَّ فعلها، لكنْ فيها خيراً يَظْهَر لاحِقَاً.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم لأدبٍ هامٍّ من آداب الصُّحْبَة الطيِّبَة وهو ألّا يَفْتَرِق المُتَصاحِبُون علي شَرٍّ وخِلافٍ وعدم تَفاهُمٍ وتَآلُفٍ وتَآخٍ لأنَّ في ذلك ضعفاً وإتْعاساً لهم في الداريْن بل يَفترقون علي كل خيرٍ وتَوَافقٍ وتَفاهُمٍ وتَحَابٍّ بما يُحَقّق الخير والسعادة لهم فيهما
ومعني "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)" أيْ هذا تفصيلٌ لتأويلِ أيْ تَفسير وحِكَمِ مَا لم يستطع موسي (ص) عليه صبرا.. أيْ قال العبد الصالح لموسي (ص): أمَّا السفينة التي خَرَقْتُها فكانت مَمْلُوكَة لأُنَاسٍ مُحتاجِين يعملون في البحر عليها لتحصيل رزقهم، فقَصَدْتُ أنْ أجعلَ فيها عَيْبَاً بذلك الخَرْق أيْ الثقْب لأنه كان خَلْفهم مَلِك يأخذ كل سفينةٍ سليمةٍ غصباً أيْ قَهْرَاً وإجْبارَاً وظلماً بالقوة بغير حقّ من أصحابها، فهو عَيْبٌ لا يُغْرقها ويَسْهُل إصلاحه لكنه يُبْعِد هذا المَلِك الظالم الغاصِب عن نَهْبِها وسرقتها حيث سيَراها كأنها غير صالحة للاستخدام فتَنْجُو بذلك منه وتَبْقَيَ لأصحابها المساكين
ومعني "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)"، "فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)" أيْ وأمَّا الشابّ الذي قَتَلْتُه فكان أبواه مؤمنَيْن لكنه هو كان كافراً مِن قُطّاع الطرُق فاسداً يُخَوِّف الناس ويَعْتَدِي عليهم ويَسرق مُمتلكاتهم وقد قَتَلَ سابقاً وكان مطلوباً للقِصَاص منه بقَتْله، فخِفْنا أنْ يُرْهِقَهما أيْ يُتْعِبَ والديه طغياناً وكفراً أيْ بسبب شِدَّة طغيانه أيْ ظُلْمه وفساده وعُدْوانه وشِدَّة كفره وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا يؤمن بالله وكتبه ورسله وآخرته وحِسابه وعِقابه وجنته وناره ولا حِساب من وِجْهَة نَظَره فقَتَلْتُه قِصاصَاً منه ولإراحة والديه المؤمنَيْن والخَلْق جميعهم من سُوئه.. "فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)" أيْ فقَصَدْنا بقتله أن يعوِّضهما ربهما ولداً خيراً منه زكاة أيْ أفضلَ كثيراً منه طهارة أيْ صلاحَاً وإسلاماً وأعظم رحمة وعَطْفَاً عليهما وعلي الخَلْق جميعا
ومعني "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)" أيْ وأمَّا الجِدار الذي كان يريد أنْ يَنْقَضَّ فأقَمْتُه من غير أنْ آخُذَ عليه أجراً فكان مَمْلُوكَاً لشابَّيْن يتيمَيْن صغيريْن ضعيفيْن – واليتيم هو من مات أبوه صغيرا – يَسْكُنان في المدينة التي دخلناها ورَفَضَ أهلها أن يُضَيِّفونا وكان تحت هذا الجدار كَنْزٌ تَرَكه أبوهما لهما أيْ مالٌ مَكْنُوزٌ مَدْفُونٌ مُدَّخَرٌ من ذهبٍ وفضَّةٍ ونحوهما لينفعهما بعد وفاته – وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يجتهد مَا أمْكَنَ في تَرْك وَرَثته أغنياء لا فقراء – وكان أبوهما هذا رجلاً صالحاً أيْ مؤمناً بالله تعالي عامِلاً بأخلاق الإسلام فكان ذلك سَبَبَاً فى حُسْن رعايته وتربيته لهما وادِّخاره مَا يَستفيدا به بَعْده، فأرادَ ربك أنْ يَصِلَاَ أقوَيَ أحوالهما من حيث قوّة العقل والجسم ويَستخرجَا كنزهما حينئذٍ من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته إذ لوْلَا أنى أقَمْتُه لانْقَضَّ وخَرَجَ الكنز من تحته قبل استطاعتهما حِفظه وحُسْن الاستفادة منه، وفَعَلْتُ ذلك ليكون رحمة من ربك بهما وكَرَمَاً وفضلاً ورزقاً وحُبَّاً ونِعْمَة وحِكْمَة لهما ولغيرهما.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين للحِرْص علي الصلاح وتَوَارُثه إذ صلاح الآباء حتماً ينفع الأبناء حيث إحسان تربيتهم ورعايتهم والادّخار لهم وصلاح الأبناء قطعاً ينفع الآباء حيث حُسْن البِرِّ بهم وهكذا صلاحٌ في صلاحٍ فيَسعدون ويُكَرَّمُون بصلاحهم تماماً في دنياهم ثم في أخراهم يَسعدون ويكرمون بأن يجتمعوا جميعا بسبب عظيم الثواب عليه فيما هو أسْعَد وأخْلَد في نعيمِ جناتِ ربهم الذي لا يُوصَف، فلْيَحِرص الجميع علي الصلاح إذَن ليسعدوا في الداريْن من خلال التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.." أيْ وما فَعَلْتُ هذا إصْدَارَاً عن رَأْيِي بغَيْرِ تَوْجِيهٍ وتوفيقٍ وتَيْسِيرٍ وإلهامٍ لِعَقْلِي من الله تعالي الذي يَسَّرَ لي الأسباب للوصول إلي المَعلومات والخِبْرات التي مَكَّنَتْنِي مِن حُسْن اتّخاذ القرارات المُناسِبَة الصحيحة في الأوقات المناسبة الصحيحة وبالوسائل المناسبة الصحيحة بما يُحَقّق الخير والسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم.. والإلهام أمرٌ يَحْدُث دائماً وغالِبَاً وكثيراً مع الصالحين العامِلِين بكل أخلاق إسلامهم المُسْتَعِينين دَوْمَاً بربهم وليس أمراً مُسْتَغْرَبَاً كتكريمٍ وعَوْنٍ وتوفيقٍ وتَيْسِيرٍ وحُبٍّ من الله تعالي لهم كما نَبَّهَ لهذا بقوله "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص:7) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فالوَحْي هنا لأمِّ موسي يعني الإلهام لعقلها والتوفيق والتيسير للأسباب لها لأنها لم تَكُنْ بالقطع رسولاً يُوحَيَ إليه.. هذا، وفي كلام العبد الصالح تذكرةٌ بالتوَاضِع وعدم التّعالِي علي الآخرين بالعلم ونسبته إلي العليم سبحانه حيث هو من عنده بتوفيقه وتيسيره مع شكره عليه لكي يُبْقِيه معه ويَجْعله يُحْسِن الانتفاع والسعادة به ولا يَسْحَبه منه بسبب سوء استخدامه له في شَرٍّ لا خير.. هذا، وعند بعض العلماء الذين يَعْتَبِرون العبد الصالح نبياً من الأنبياء أنَّ معني وما فعلته عن أمري أيْ لم أفعله برأيي وإنما بوَحْيٍ من الله تعالي لأني نَبِيٌّ يُوحَيَ إليّ، وإنْ كان من يَعتَبِره ليس نَبِيَّاً من العلماء يَسْتَدِلّون بأنه لو كان نبياً لذَكَرَ ذلك الله تعالي كما هو الحال مع كل أنبيائه الذين ذَكَرَهم في القرآن الكريم، كما أنه لو كان نبيا يُوحَيَ إليه لَمَا تَعَجَّب موسي (ص) من أفعاله حيث هو يُوحَيَ إليه مِثْله.. ".. ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)" أيْ ذلك الذي ذَكَرْتُه وفَسَّرْتُه لك يا موسي هو تَفْسِير وحِكَم الذي لم تَقْدِر علي الصبر عليه.. هذا، وقد حُذِفَت التاء من كلمة "تَسْتَطِع" فصارَت "تَسْطِع" لتسهيل نُطْقها إذ يَصْعُب نُطْق تاءٍ يَتْبَعها طاء، وهما بمعني واحد
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنون اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة الخَيْرِيَّة لا الشَّرِّيَّة لتحقيق كل ما تريد من خيرٍ وسعادةٍ لك ولمَن حولك ولكل البَشَر ولكل المَخْلوقات بل وللكَوْن كله.. وإذا أحْسَنْتَ إدارة كل شئون حياتك في كل مجالاتها بكل عدلٍ وإنْصافٍ وإتْقانٍ وجَوْدَةٍ وتَخَصُّصٍ وخِبْرَةٍ وعلمٍ مُستفيداً بعلمك وبخبرتك وبعلوم وخبرات الآخرين من أهل العلم والخِبْرَة والتّخَصُّص.. فبالعلوم وتطويرها وبالخبرات وتبادلها يَرْقّيَ الجميع ويسعدون، في دنياهم، ثم في أخراهم لمَن يُؤمِن بها ويعمل لها باستحضار نوايا خيرٍ بعقله في كل أقواله وأعماله أثناء ذلك، بينما بالجَهْل وكِتْمان العلم والخِبْرَة يَتَخَلّفون ويتعسون فيهما.. وبالجملة إذا كنتَ نِعْمَ الخليفة لله في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)" أيْ وكذلك يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بَعْده (ص) عن ذي القرنين – وهو مَلِكٌ صالحٌ عادلٌ مؤمنٌ بربه مُتَوَكّلٌ عليه مُتَمَسِّكٌ عامِلٌ بكل أخلاق إسلامه يَجتهد في إصلاح وإسعاد كل الإنسانية في كل الأرض ما أمكن ويُحَصِّل من العلوم والخبرات ما استطاع فأعانه الله ويَسَّرَ له كل أسباب ذلك فأحْسَنَ استخدام هذه الأسباب كلها ونَفَعَ وأسْعَدَ ذاته والآخرين في دنياهم ثم أخراهم – قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم، اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، قل سَأَتْلُوا أيْ سَأَذْكُر وأَقُصّ عليكم منه أيْ من أحواله من الله تعالي من خلال هذا القرآن الكريم، ذِكْرَاً أيْ خَبَرَاً وحديثاً تَتَذكّرون أيْ تَتّعِظون به يَنفعكم ويُسعدكم في الداريْن، لمَن أحْسَنَ استخدام عقله وأرادَ التّذَكّر والاعتبار والانتفاع
ومعني "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)"، "فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)" أيْ نحن قد أعطيناه التمْكِين في الأرض أيْ أسباب القوّة والبقاء التي تُمَكّنه من كل أنواع التّصَرُّف فيها والانتفاع والسعادة بها تمام السعادة، فهي ملْك له ومُسَخَّرَة وهو مُتَمَكّنٌ منها ومِمَّا فيها، وأعطيناه مَكَاناً ومُلْكَاً ومَكَانَة ونُفوذاً وسُلْطانَاً يُديرها به، يُديرها بشَرْع الله، أيْ بنظام الإسلام وبأخلاقيَّاته، ليَنْفع وليُسْعِد الناس جميعا في دنياهم ثم أخراهم بل والخَلْق جميعهم والكَوْن جميعه.. ".. وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)" أيْ وأعطيناه من كل شيءٍ يُريد تحقيقه لمصالح الناس واحتياجاتهم سبباً أيْ طريقاً وأسلوباً يُوصله إليه ووَسِيلَة لتحقيقه، أيْ أعطيناه كل الأسباب المُعِينَة علي التمكين والمُوصلة له من فكرٍ وتخطيطٍ وعلمٍ وخِبْرَةٍ ومُتَخَصِّصِين وجنود ومُعِدَّات وأموال وما شابه هذا.. "فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)" أيْ فاتَّبَعَ كل هذه الأسباب التي آتيناه إيَّاها أيْ كان حريصاً بكل اجتهادٍ علي السيْر وراءها والبحث عنها والتمسُّك والاستعانة والأخْذ والعمل بها وحُسْن توظيفها وتطويرها ليُحَقّق التمكين للإسلام والذي به لا غيره يَتَحَقّق الحقّ والعدل والأمن والخير وبالجملة تَتَحَقّق السعادة التامَّة في الأرض كلها للخَلْق جميعا.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ لأنْ يُحْسِن اتّخاذ الأسباب في كل شئون حياته ليَسعد في الداريْن
ومعني "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)" أيْ كان يُتابِع مَصالِح الخَلْق في مَمْلَكَتِه فذهبَ باتّجاه الغرب إلي أن وَصَلَ مكان غروب الشمس، والمقصود أنه في رعايته لمصالحهم كان يَتَنَقّل حتي إلي أبْعَد الأماكن لتحقيقها حيث مَغْرِب الشمس يُفيد أنه مكان وراء العمران وانتهاء الأرض اليابسة وبداية البحار حتي يري غروب الشمس أمامه دون أيِّ ساتِرٍ فوَجَدها كأنها تَغْرُب في بعض الماء، في عَيْنٍ من الماء، حَمِئَةٍ أيْ طينِيَّةٍ حامِيَةٍ ساخنة، ووَجَد عندها أيْ عند هذه العَيْن الحَمِئَة أيْ في نهاية العمران، قوماً أيْ أُنَاسَاً يَظهر من سياق كلام الآية الكريمة أنهم كانوا كافرين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ويقتتلون فيما بينهم ويَعتدون بالقتال علي المسلمين حولهم إذ كانوا علي حدود وأطراف مَمْلَكَتِه بما يُفيد أنهم كانوا يَسْتَحِقّون العقاب بقتلهم.. ".. قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)" أيْ قال الله تعالي له، أيْ ألْهَمَ عقله، بالتخيير بيْن أنْ يُعَذّبهم أيْ يَقتلهم لاسْتِحْقاقهم لذلك أو أنْ يَتّخِذ فيهم حُسْنَاً أيْ يَجعل فيهم أمراً حَسَنَاً أيْ يُسامحهم ويُعلّمهم الإسلام لفتراتٍ فإنْ لم يستجيبوا بعد ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه عاقَبَهم بما يُناسِب.. هذا، والإلهام أمرٌ يَحْدُث دائماً وغالِبَاً وكثيراً مع الصالحين العامِلِين بكل أخلاق إسلامهم المُسْتَعِينين دَوْمَاً بربهم وليس أمراً مُسْتَغْرَبَاً كتكريمٍ وعَوْنٍ وتوفيقٍ وتَيْسِيرٍ وحُبٍّ من الله تعالي لهم كما نَبَّهَ لهذا بقوله "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص:7) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فالوَحْي هنا لأمِّ موسي يعني الإلهام لعقلها والتوفيق والتيسير للأسباب لها لأنها لم تَكُنْ بالقطع رسولاً يُوحَيَ إليه.. هذا، وبعض العلماء يعتبرونه نَبِيَّاً من الأنبياء بسبب أنَّ الله تعالي قال "قلنا" أيْ أوْحَيْنا إليه، وإنْ كان من يَعتَبِره ليس نَبِيَّاً من العلماء يَسْتَدِلّون بأنه لو كان نبياً لذَكَرَ ذلك الله تعالي كما هو الحال مع كل أنبيائه الذين ذَكَرَهم في القرآن الكريم
ومعني "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)"، "وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)" أيْ هذ بيانٌ لتمام عَدْلِ وحِكْمَةِ وعِلْم وفِكْر ذي القرنيْن وعَوْن وتوفيق وتَيْسِير الله تعالي له هو وفريقه الذين يَستشيرهم ويُعاونوه وحُسْن إدارته لأمور الناس لإسعادهم في الداريْن بأخلاق الإسلام وبتنفيذه لقوانينه العادِلَة، وذلك ليَقتدي به كل مسئولٍ في أيِّ مَوْقِع مسئولية.. أيْ قال ذو القرنيْن رَدَّاً على إلهامِ الله تعالي له بالتّخْيِير فى شأنِ هؤلاء القوم داعِيَاً مُخَاطِبَاً إيَّاه يا ربّ أمَّا مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتْعَسَها وأتْعَسَهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وأَصَرَّ واسْتَمَرَّ علي ذلك بلا توبةٍ وعَوْدَةٍ لك وللإسلام، فسوف نُعاقِبه نحن في الدنيا بما يُناسِب ظُلْمِه تحقيقاً للعدل وحِفْظاً للحقوق، ثم يُرْجَع إلي ربّه، إليك يا ربّ، في الآخرة، فيُعَذّبه عذاباً نُكْرَاً أيْ فظيعاً يُنْكِره العقل ولا يَتصوّره ولا يَعْرِف مِثْله ولا يُمْكِنه وَصْفه من فظاعته وشِدّته وسُوئه وتَنوّعه وتَزايده، وسيكون عذاباً علي قَدْر شُروره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. "وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى.." أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ حال التعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا مَن صَدَّق بوجود الله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر أيْ بالبَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت وبالحساب والعقاب والجنة والنار، وعَمِلَ صالحاً أيْ وعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، فهذا وأمثاله حتماً له منك يا ربّ الحُسْنَيَ جزاءً علي ذلك أيْ له الحالة الحَسَنَة السعيدة في الدنيا ثم الجنة بسعاداتها وخَيْراتها التي لا تُوصَف في الآخرة.. ".. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)" أيْ وكذلك سنقول له مِمَّا نَأْمُره به قولاً وتَكْليفاً يُسْرَاً لا صعوبة فيه ولا مَشَقّة ولا عُسْر، أيْ سنُعامِله بكل يُسْرٍ ورِفْق، أيْ سنُحْسِن إليه وسنَتَلَطّف له بالقول الذي يُشَجِّعه علي كل خيرٍ وسنُيَسِّرَ له كل مُعامَلَة، أيْ سنُقابِل إحسانه هذا بإحسانٍ وصلاحه بصلاحٍ واستقامته بتكريمٍ وقولٍ طيِّبٍ وعطاءٍ حَسَنٍ، وبالجملة سيكون له مِنّا في الدنيا كل التيْسِير، كل المُعامَلَة الحَسَنَة مِمَّن يَحْكُمه ويُدير شئونه، كل حياةٍ مُيَسَّرَةٍ سعيدٍة تمام التيسير والسعادة
ومعني "ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)"، "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)" أيْ ثم اتَّبَعَ كل هذه الأسباب التي آتيناه إيَّاها، من فكرٍ وتخطيطٍ وعلمٍ وخِبْرَةٍ ومُتَخَصِّصِين وجنود ومُعِدَّات وأموال وما شابه هذا، أيْ كان حريصاً بكل اجتهادٍ علي السيْر وراءها والبحث عنها والتمسُّك والاستعانة والأخْذ والعمل بها وحُسْن توظيفها وتطويرها ليُحَقّق التمكين للإسلام والذي به لا غيره يَتَحَقّق الحقّ والعدل والأمن والخير وبالجملة تَتَحَقّق السعادة التامَّة في الأرض كلها للخَلْق جميعا.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ لأنْ يُحْسِن اتّخاذ الأسباب في كل شئون حياته ليَسعد في الداريْن.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (85) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)" أيْ ثم بعد أنْ أدَّيَ وأنْهَيَ مَهامَّه ومصالح الناس عند مَغْرِب الشمس، وكما اتّخَذ الأسباب لذلك هناك اتّخذ أيضا الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة بعدها ليَذهب باتّجاه الشرق ليُحَقّق فيه كذلك الحقّ والعدل والأمن والخير والسعادة بأخلاق الإسلام وبتنفيذه لقوانينه العادِلَة، إلي أنْ وَصَلَ مكان شروق الشمس حيث وجدها تشْرق علي أناسٍ لم يجعل الله لهم ساتِرَاً منها بمعني أنهم في العَرَاء ليس لهم مَساكِن مُحْكَمَة أو حتي ملابس جيدة تَسترهم من حرارة الشمس فهم فقراء ضُعفاء جُهَلاء وعليه أنْ يأخذ بأيديهم لكلّ قوّةٍ وتَطَوُّرٍ وسعادة
ومعني "كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)" أيْ هكذا دائماً كان حال ذى القرنين كما ذَكَرْنا لك، أيْ كما أصْلَحَ وأسْعَدَ أحوال الناس عند مَغْرِب الشمس بأخلاق وقوانين الإسلام كذلك أصْلَحَ وأسْعَدَ أحوال الناس عند مَشْرِق الشمس وكذلك أَصْلَحَ وأسْعَدَ أحوال الخَلْق جميعاً في كل مَمْلَكته الذين هو مسئول عنهم أمام الله تعالي.. ".. وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)" أيْ وقد أحطنا خُبْرَاً أيْ عِلْمَاً بما لديه أيْ بما عنده، أيْ عَلِمْناه بإحاطةٍ من كل جانبٍ بكل علمٍ ليس بعده علم أكثر منه بالقطع وبكل خِبْرَةٍ ليس بعدها خبرة، فلا يَخْفَي علينا خافِيَة من كل خَلْقنا وكَوْننا، عَلِمْنَا ما عنده من كل الأسباب المُعِينَة علي التمكين والمُوصلة له والتي أعطيناه إيَّاها والتي من كثرتها لا يعلمها كاملة إلا نحن من فكرٍ وتخطيطٍ وعلمٍ وخِبْرَةٍ ومُتَخَصِّصِين وجنود ومُعِدَّات وأموال وما شابه هذا، وبما يَبْذل من جهودٍ وأفكارٍ وأساليب إدارية حَسَنة، وبما وَصَل إليهم من بَشَرٍ ومخلوقاتٍ وظروفهم وأحوالهم، فأَعَنَّاه ووَفّقناه وأثَبْناه وأسْعَدناه في دنياه وأخراه، وكذلك نَفعل مع كل مَن يَتَشَبَّه ويَقْتَدِي به ويُحْسِن مِثْله
ومعني "ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)" أيْ ثم اتَّبَعَ كل هذه الأسباب التي آتيناه إيَّاها، من فكرٍ وتخطيطٍ وعلمٍ وخِبْرَةٍ ومُتَخَصِّصِين وجنود ومُعِدَّات وأموال وما شابه هذا، أيْ كان حريصاً بكل اجتهادٍ علي السيْر وراءها والبحث عنها والتمسُّك والاستعانة والأخْذ والعمل بها وحُسْن توظيفها وتطويرها ليُحَقّق التمكين للإسلام والذي به لا غيره يَتَحَقّق الحقّ والعدل والأمن والخير وبالجملة تَتَحَقّق السعادة التامَّة في الأرض كلها للخَلْق جميعا.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ لأنْ يُحْسِن اتّخاذ الأسباب في كل شئون حياته ليَسعد في الداريْن.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآيتين (85)، (89) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
ومعني "حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)" أيْ ثم بعد أنْ أدَّيَ وأنْهَيَ مَهامَّه ومصالح الناس عند مَغْرِب ومَشْرِق الشمس، وكما اتّخَذ الأسباب لذلك هناك اتّخذ أيضا الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة بعدها ليَذهب باتّجاهٍ آخرٍ غيرهما ليُحَقّق فيه كذلك الحقّ والعدل والأمن والخير والسعادة بأخلاق الإسلام وبتنفيذه لقوانينه العادِلَة، إلي أنْ وَصَلَ مكاناً بين السَّدَّيْن أي الجَبَلَيْن – ويُسَمَّىَ الجبلُ سَدَّاً لأنه يَسدّ طريقاً من الأرض كما يَسدّ السَّدُّ طريق الماء – ولم يُحَدِّد سبحانه مكانهما لكنهما ليسا ناحية المَشْرِق أو المَغْرِب ولعلهما في شمال مَمْلَكَته أو جنوبها، ولا يُرَكّز القرآن الكريم علي معرفة مكان حُدُوث الأحداث لأنَّ المُهمّ التركيز علي العِبَر التي فيها ليَنتفع ويَسعد بها مَن أراد الاعتبار، حيث وَجَدَ مِن دونهما أيْ مِن خَلْفِهما أُنَاسَاً لا يَقْتَرِبون مِن أنْ يَفهموا قولاً يُقال لهم والمقصود أنَّ لغتهم تختلف عن لغته أو أنَّ علومهم وخِبْراتهم لا تُذْكَر بالنسبة لحَدَاثَة علومه وكَثْرة خِبْراته بسبب بُعْدهم عن أماكن العلم أو ما شابه هذا، بما يُفيد أنه يجتهد في إصلاح جميع الناس بأخلاق وقوانين الإسلام العادلة مهما ابْتَعَدَت أماكنهم ورغم اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم
ومعني "قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)" أيْ قالوا يا ذا القرنين، لَمَّا رأوا فيه قوة وأمانة وعَدْلاً ونُفوذاً وسُلْطَانَاً، إنَّ يأجوج ومأجوج، وهما أمَّتان كبيرتان بجوارهم، مُفْسِدون في الأرض، بفِعْل ونَشْر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها وبالاعتداء علينا وبإهلاك وتدمير الحَرْث والنَّسْل والبناء وبقتلنا ونَهْب ثرواتنا، فهل نجعل لك أجْرَاً في مُقابِل أن تجعل وتَبْنِيَ بيننا وبينهم حاجِزَاً يَسدّ الفَجْوَة بين الجَبَلَيْن فيَمنعهم من الوصول إلينا ويَحمينا منهم
ومعني "قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)" أيْ قال لهم بعِزَّةٍ وعِفّةٍ وشُكْرٍ لله وتَنْبيهٍ بأنه واجبٌ عليه حمايتهم فهذا من أهمِّ مَهامِّ الحاكم المسلم العادل الذي يسعي دائما لمصلحة مَن يرعاهم ولإسعادهم في الداريْن ولمَنْع الضرر عنهم فيهما: إنَّ مَا جعلني الله فيه من التمكين في الأرض أيْ مِن مَكَانَةٍ ومُلْكٍ ونفوذٍ وسُلْطانٍ وثروةٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وعلمٍ وخِبْرَةٍ ومُتَخَصِّصِين وجنود ومُعِدَّات وأموال وغير ذلك مِمَّا يَجعلني مُتَمَكّنَاً منها مُحْسِنَاً التّصَرُّف فيها بأخلاق الإسلام لأنال سعادتيّ الدنيا والآخرة هو خيرٌ حتماً مِمَّا تَعْرِضُون عليَّ مِن أيِّ أجْرٍ ولا حاجة بي إليه.. ".. فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك أني لا أحتاج مالاً فبالتالي إذَن ساعدوني بكل قوّةٍ مُمْكِنَةٍ منكم وبكل ما أتَقَوَّيَ به من رجالٍ وأدوات ونحو ذلك لكي أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج رَدْمَاً يَحْميكم منهم أيْ حاجزاً مَتِينَاً قوِيَّاً حَصِينَاً، والردْم أشدّ أنواع السدود لأنه يَحْدُث من تَرَاكُم المُكَوِّنات بعضها فوق بعض وتَلاصقها بإحكام.. وفي هذا إرشادٌ لكلِّ مسئولٍ أنْ يَجعل مَن هم في مسئوليته إيجابِيِّين لا سَلْبِيِّين بأنْ يشترك الجميع في الشوري لاتّخاذ القرارات وتنفيذها ليَستشعروا قيمة مَا يقومون به فيُحافظون عليه ويَنتفعون به ويزيدون مِن فِعْل غيره مِمَّا هو أفضل منه فيَتطوَّرون ويَقْوُون فيَسعدون في الدرايْن
ومعني "آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)" أيْ بدأوا في تنفيذ ما اتّفقوا عليه.. أيْ أَعْطُونِي قِطَع الحديد، فقاموا بِرَصِّها بإحكامٍ إلي أن سَوَّيَ هذا الحديد المَرْصُوص بين الصَّدَفّيْن أيْ الجانِبَيْن المُتَقابِلَيْن للجَبَلَيْن اللذيْن يريد إقامة السدّ بينهما واللذيْن يُصادِف أيْ يُقابِل كل منهما الآخر، أيْ حتي إذا جَعَله بمُساواتهما وبمُحاذاة قِمَّتَيْهِما، قال انْفُخُوا النار في قِطَع الحديد هذه باستخدام مَنَافِيخ الهواء لِتَشْتَدّ في اشتعالها فتُذيبها، فنَفَخُوا إلي أنْ جَعَل الحديد نارَاً أيْ مُنْصَهِرَاً يُشْبِه النار في احْمرارها وتَوَهُّجِها، قال حينها أعطوني قِطْرَاً أيْ نحاسَاً مُذَابَاً بالنار أَصُبُّه عليه – وسُمُّي كذلك لأنه عندما يُذاب يَتَقاطَر كقَطرات الماء – أيْ علي هذا الحديد المُنْصَهِر ليَزداد صَلابَة ومَتَانَة وقوّة
ومعني "فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)" أيْ فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج بعد بناء السدّ أن يرتفعوا على ظَهْره ويَصعدوا فوقه لكي يَعْبُروه ليَعتدوا عليهم وذلك لأنه أمْلَس مُرْتَفِع وما استطاعوا كذلك نَقْبَاً أيْ خَرْقَاً له من أسفله ليَمُرُّوا من خلاله وذلك لصَلابته ومَتانته وثَخانته.. هذا، ولفظا "اسطاعوا" و"استطاعوا" بمعني واحد ولكن حُذِفَت التاء الأولي للتخفيف لتُناسِب الصعود حيث هو أخفّ نِسْبِيَّاً من النقْب، وحتي لا يكون هناك تكرار للفظ، وهذا مِن رِقّة ودِقّة أسلوب القرآن الكريم
ومعني "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)" أيْ قال ذو القرنين هذا السدّ الضخْم الذي بنيناه ليكون حاجزاً عن فساد وظلم يأجوج ومأجوج هو رحمة من ربي بالناس حيث بسببه تَتَحَقّق الرحمة والطمأنينة والحياة الطبيعية الآمِنَة السعيدة لهم بلا تهديدات.. وفي هذا توجيهٌ لهم لحُسْن عبادة أي طاعة الله تعالي وشكره والتوكّل عليه ورَدّ الفضل له دائما بتواضُعٍ بلا غرورٍ حيث هو الذي أعانهم ووَفّقهم ويَسَّرَ لهم أسباب هذا العمل الكبير ولوْلاه ما تَمّ وتوجيهٌ لأنْ يكون كل مسئولٍ مِثْله يَتّقِي الله فيمَن هو مسئول عنهم ويبذل جهده لنفعهم وإسعادهم، وذلك لكي يَحفظ لهم نِعَمه ويزيدها عليهم كما وَعَدَ بوَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، ولا يَسْحَبها منهم إذا أساءوا استخدامها في شَرٍّ لا خير.. ".. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)" أيْ وسيَبْقَيَ مَوْجُودَاً فإذا جاء مَا وَعَدَ به ربي من نهاية الدنيا وقيام يوم القيامة، وفي هذا تذكرةٌ لهم بالآخرة، أو ما وعد به من عقابٍ للمُسِيئين في دنياهم قبل أخراهم فابْتَعَدتم عن عبادته وأَصْرَرْتُم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وفَرَّطتم في حماية سَدِّكُم هذا فيُعَذّبكم بإزالته فيَعْتَدِي عليكم أمثال يأجوج ومأجوج فتَفقدون أمانكم وتَهلكون وتَتْسعون، فإذا جاء هذا الوعد جعله أي السدّ حينها دكاءَ أيْ مَدْكُوكَاً مُهَدَّمَاً مُفَتَّتَاً مُسْتَوِيَاً بالأرض، وكان وَعْدُ ربي كله من ثوابٍ وعقابٍ وغيره من وُعُودٍ في الداريْن صِدْقَاً مُتَحَقّقَاً حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلاً تَعِيسَاً علي المُسِيئين حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعاً سعيداً علي المُحْسِنين لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ وجعلنا الناس يومئذٍ أيْ يوم القيامة حيث يُحْشَرُون لحسابهم – أو يوم نزول العذاب الدنيويّ بالمُسِيئين منهم بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ كتَسْلِيطِ ظالمين عليهم أمثال يأجوج ومأجوج أو كزلازل وبراكين وسيول وأوْبِئَة ونحوها – يَمُوج بعضهم في بعضٍ أيْ يَصْطَدِمُون ويَتَخَبَّطون ويَتَدَافعُون ويَتَدَاخَلُون ويَتَخَالَطون كما يَصْطَدِم ويَتَخَبَّط موج البحر بعضه في بعضٍ حين يَهيج، وذلك من شِدَّة اضطرابهم.. ".. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)" أيْ ونُفِخَ يوم القيامة في الآلة التي تُخْرِج صوتاً يُعْلِن بدء البعث أيْ إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم ونُفِخَ بالأرواح في الصُّوُر جَمْع صُورَة أيْ في صُوَرِ الأجساد لتحيا مرة أخري ويبدأ يوم القيامة والحساب، ولا يَعلم كيفية حُدُوث النّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره، وجَمَعْناهم حينها لحسابهم جَمْعَاً تامَّاً لا يَتْرُك أحدا
ومعني "وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)" أيْ وأظْهَرْنا جهنم يومها، يوم القيامة، للكافرين، إظهاراً مُرْعِبَاً يُخيفهم قبل أنْ يُقْذَفوا فيها، ليكون ذلك نوعاً من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ فيها بما لا يُوصَف من عذاب.. والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم
ومعني "الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)" أيْ وذلك لاتّصَافِهم بأنهم هم الذين كانت أعينهم أثناء الدنيا كأنها مُغَطّاة ومُغَلّفة في غطاءٍ وغِلافٍ يَمْنَعها عن ذِكْري ولذلك لا تُبْصِره إبصار تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ لتَنْتَفِع وتَسعد به في الداريْن، أيْ في غِطاءٍ عن آياتي في كل مَخْلوقاتي في كل كَوْنِي وعن تشريعاتي في ديني الإسلام في كل كُتُبي التي أرسلتها إليهم وآخرها القرآن العظيم مع رُسُلي الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) والتي تُصْلِحهم وتُكْمِلهم وتُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه وعن مُعْجِزاتي التي أيَّدْتُ بها رُسُلِي لإثْبات صِدْقهم، وكانوا كذلك لا يطِيقون سَمْعَاً لذِكْرِي في كُتُبي سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ له كله في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم ليسعدوا فيها ثم آخرتهم، فهم كالصُّمِّ الذين لا يَسمعون لأنهم قد فَقَدوا مَنافِع السَّمْع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وعملٍ به، وذلك بسبب شِدَّة كراهيتهم له وحتي لمُجَرَّد سماعه ولشِدَّة إصرارهم علي تَكذيبهم وسُوئهم بلا أيِّ توبةٍ بسبب إغلاقهم لعقولهم وحَوَاسِّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل تَوَهَّمَ الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم، هل تَوَهَّمُوا أنْ يَجعلوا عبادي أيْ مَخْلُوقاتي من دوني أيْ غَيْري أولياء أيْ آلهة يَعبدونها أيْ يُطيعونها فيَتَوَهَّمُوا مُخْطِئين أنها تَنْفعهم أو تَضُرُّهم في دنياهم وأخراهم بأيِّ نَفْعٍ أو ضَرَرٍ أو يَتَوَهَّمُوا أني سأتركهم بلا عقابٍ مُناسِبٍ لذلك حيث كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟! (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الله تعالي هو وحده النافع الضَّارّ).. إنهم قد تَوَهَّمُوا هذا لأنهم كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذِكْر الله وكانوا لا يستطيعون سَمْعَاً كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه ليس هناك أيّ نَفْعٍ لأولياءهم.. أيْ كيف لا نُعاقبهم بما يُناسب سُوئهم ونحن قد أعْدَدنا وجَهَّزنا في الآخرة للكافرين جهنم – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف لتكون لهم نُزُلَاً أيْ مَكَاناً يَنزلون فيه ضيوفاً عليها كالفندق لينالوا فيها ما يَسْتَحِقّون من عذاب.. إننا سنُعاقبهم حتماً بلا أيِّ شَكّ.. وفي هذا استهزاءٌ بهم وتَحْقِيرٌ وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفندق مكاناً للراحة والتكريم والرعاية والعناية والضيافة والسرور لا للعذاب والشقاء بكل أشكاله! فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصيرون إليه وهو النار يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم السَّيِّئة كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديد وتحذير لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)"، "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)"، "أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)"، "ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)" أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ وذمٌّ شديدٌ لمَن كان كذلك من الناس لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حتي لا يستمرّوا علي سُوئهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس، مُحَذّرَاً ومُذَكّرَاً، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل أُخْبِركم بأشَدِّ الناس خُسْرَانَاً لأعمالهم علي الإطلاق فلا أحد أخْسَر منهم حيث يَتْعَبُون ويَشْقُون في عملها ويُضَيِّعُون أوقاتهم وجهودهم وأموالهم وقُوَّاتهم فيها وليس لهم عليها أيّ أجرٍ من الله تعالي لا في دنياهم ولا في أخراهم يَتَمَثّل في كل خيرٍ وسعادةٍ بل عليهم بسببها أعظم ذَنْبٍ ولهم منه أشدّ عقابٍ بما يُناسِبها بكل شَرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟.. "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)" أيْ إنهم هم الذين ضاعَ عملهم وجهدهم وتَحَرُّكهم الدائم مُجْتَهِدين مُسْرِعين فيه بكل هِمَّةٍ وقوّةٍ وعزمٍ ونشاطٍ في الحياة الدنيا ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، وهم أثناء سَعْيهم الضالّ هذا يَظنّون ويَتَوَهَّمُون مُنْخَدِعِين بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أنهم يُحْسِنون صُنْعَاً أيْ يَصْنَعُون صُنْعَاً حَسَنَاً أيْ يعملون عملاً جيداً مُفِيداً مُسْعِدَاً له أجره في الداريْن أيْ أنهم مُهْتَدُون أيْ سائِرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ!!.. إنهم يَتَوَهَّمُون ما هو عَكْس المَعْقول المَنْطِقِيّ المَقْبُول عند أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادِل!!.. إنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! لقد نَسوا شيئاً اسمه الخير، نَسوا أيّ خيرٍ مهما كان صغيراً أو نادرا!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! بل أحيانا من شدّة سَكْرتهم ونسيانهم وتِيهِهم وخَبَلِهم يَفعلون الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّمون أنه الهُدَي والخير والحُسْن!! سواء أكان هذ الشرّ والقُبْح كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وذلك أشدّ درجات الضلال حيث الذى يعمل السوء ويعلم أنه سوء قد يُرْجَيَ ويُؤْمَل صلاحه إذا استفاقَ أمَّا الذى يعمل السوء ويَحسبه عَمَلاً حَسَنَاً فهذا هو الضلال الأكيد الذي قد يَصعب معه العودة للخير.. إنهم قد ضَلَّ سَعْيُهم أيْ ضاعَ عملهم في الحياة الدنيا لأنهم يَتْعَبُون ويَشْقُون في أعمالهم ويُضَيِّعُون أوقاتهم وجهودهم وأموالهم وقُوَّاتهم فيها وليس لهم عليها أيّ أجرٍ من الله تعالي لا في دنياهم ولا في أخراهم يَتَمَثّل في كل خيرٍ وسعادةٍ بل عليهم بسببها أعظم ذَنْبٍ ولهم منه أشدّ عقابٍ بما يُناسِبها بكل شَرٍّ وتعاسةٍ فيهما.. إنهم سيَظلّون كذلك ما لم يَستفيقوا ويُحْسِنوا استخدام عقولهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسوا تماما فيهما.. إنه مَن فَقَدَ التمييز فأصبح لا يُمَيِّز بين الخير والشرّ بل يَريَ الشرّ شيئا حَسَنا مُسْعِدَا سعادة حقيقية مُتَعَمِّقَة مُسْتَمِرَّة ويري الخير شيئا سَيِّئا مُتْعِسَاً، هل مِثْل هذا السفيه يَتسَاوَيَ مع مَن يُمَيِّز بينهما ويتمسّك بكل خيرٍ مُسْعِدٍ ويترك كل شرّ مُتْعِس؟!! لا بكل تأكيد! إنّ فقدان التمييز هذا إنما هو بسبب تَزْيين – أيْ تَحْسِين وتَجْمِيل – تفكيره الشَّرِّيّ بعقله له هذا، إنه بسبب أنه قد وَصَلَ عقله لمرحلة مُزْمِنَةٍ مِن فِعْل الشرّ والتفكير فيه والتخطيط له بحيث نَسِيَ شيئا اسمه الخير!! لقد نَسِيَ أيّ خيرٍ مهما كان صغيرا أو نادرا!! بل وَصَلَ لمرحلةِ ألا يعلم ما هو الخير وما هو الشرّ!! لا يُفرِّق بينهما!! بل أحيانا مِن شدّة سَكْرته ونسيانه وتِيِهِهِ وخَبَلِه يَفْعل الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّم أنه الخير والحُسْن!! إنّ سعيه في حياته، كل حركته، كل أقواله وأفعاله وأفكاره، هي ضلال في ضلال! إنه لم يفعل الشرّ واكتفَيَ بذلك، ولم يُراجِع ذاته أو راجعها وكَتَمَها واستمرّ في شرّه، وإنما أضاف لهذا أنْ يعتبره خيرا ويَحرص علي المُداوَمَة عليه والمزيد منه!! فهل هناك ضلال أكثر من هذا؟! وما كل ذلك إلا لتحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة.. فلْيَحْذَر المسلم حَذَرَاً شديداً أنْ يتَشَبَّه أبداً بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسَ مِثْلهم تمام التعاسة في دنياه وأخراه.. "أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)" أيْ هذا مزيدٌ مِن بَيانِ وتَحْديدِ وتعريفِ أخْسَرَ الأخْسَرين أعمالاً وأضَلّهم سَعْيَاً أيْ عملاً في الحياة الدنيا، هؤلاء هم الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – بآيات ربهم، أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم أوْحَاها لرسله الكرام وآخرها القرآن العظيم الذي أوْحاه لآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي أيديهم لتأكيد صِدْقهم، وكفروا أيْ كذّبوا كذلك بلقائه أيْ بمُقابَلته تعالي في آخرته أيْ في يوم القيامة فلا يُصَدِّقون ببَعْثهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم تراباً ويُكَذّبون حسابه وعقابه وجنته وناره حيث يُعْطِي كلّ خيرٍ وسعادةٍ للمُحْسِنين في دنياهم علي قَدْر إحسانهم ويزيد بفضله وكرمه ورحمته وكلّ شَرٍّ وتعاسةٍ للمُسِيئين فيهما علي قَدْر سُوئهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذَرّة ظلم، فبسبب ذلك كانت بالتالي النتيجة الحَتْمِيَّة أنْ حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصابون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الله تعالي من تمام عَدْله لو فُرِضَ وفَعَلُوا خيراً مَا فإنه يُعطيهم خيراً مُقابِل له في دنياهم فقط كصحةٍ أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ أو غيره لأنه ليس لهم شيء في أخراهم لعدم إيمانهم بها أصْلاً وعدم عملهم شيئاً لها.. ".. فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)" أيْ فبالتالي لا نَجْعَل لهم يوم القيامة قَدْرَاً واعتبارَاً واهتماماً وقيمة لأنَّ الاعتبار والاعتناء يكون بسبب الأعمال الصالحة وقد حبطت تماما، بما يعني احتقارهم وإهانتهم وإهمالهم وإعدادهم لعذاب النار الذي لا يُوصَف حيث ليس لهم عمل خيرٍ يُؤْجَرُون عليه خيراً بل أعمال شَرٍّ لها وزنها العظيم في كفّة ميزان السيئات ستَقْذِفهم حتماً في جهنم ليُعَذّبوا عليها بما يُناسبها
ومعني "ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)" أيْ ذلك المَذْكُور مِن حُبُوط أعمالهم وأننا لا نُقيم لهم يوم القيامة وَزْنَاً، جزاؤهم عليه نار جهنم، بسبب أنهم كفروا بِي واتّخذوا أيْ جَعَلوا آياتي – سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيري أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم أوْحَيتها لرسلي الكرام وآخرها القرآن العظيم الذي أوْحيته لآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي أيديهم لتأكيد صِدْقهم – وجَعلوا كذلك رُسُلِي الذين أرسلتهم ومعهم كُتُبِي التي فيها الإسلام لهدايتهم وإسعادهم في الداريْن، هُزُوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون منها ومنهم ويحتقرونها ويحتقرونهم، بَدَلَاً من تعظيمها وتعظيمهم والعمل بالإسلام الذي أَوْصُوهم به، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، ولذا اسْتَحَقّوا العذاب الذي هم فيه
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فبسبب إيمانهم وعملهم الصالحات كانت لهم عند ربهم مُعَدَّة مُجَهَّزَة مَمْلُوكَة مُخَصَّصَة جنات الفردوس – أيْ جنات الحدائق والخيْرات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكلٌّ في درجةٍ تُناسِب حُسْن أقواله وأفعاله – نُزُلَاً أيْ مَكَاناً رائعاً ورزقاً طيّبا كريماً مُتَزَايِدَاً لهم يَنزلون ويَستقرّون فيه بلا نهاية، وحالهم فيها كحال مَن هو في نُزُلٍ، أيْ في المكان الذي يَنزل فيه الضيف كالفندق حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور، وكل هذا هو مِن عنده سبحانه الغفور الرحيم الودود الرَّزَّاق الوَهَّاب صاحب الفضل العظيم، فأيّ نعيمٍ أعظم من هذا؟! إضافة حتماً إلي جنة الدنيا التي أكرمهم بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)" أيْ يكونون مُقِيمين باقِين خالدين أيْ دائِمين فيها أبداً بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تَرْك لها، لا يطلبون ولا يريدون حِوَلَاً أيْ تَحَوُّلَاً عنها وانتقالاً منها، مِن عِظَمِ وتمام نِعَمها وسعاداتها حيث لا يجدون حتماً أطيب منها مُطْلَقَاً حتى تَشتاق أنفسهم له، بما يُفيد ويُؤَكّد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره أو تَرْكه فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)" أيْ هذا بيانٌ لكمال علم الله تعالي وتمام قُدْرَته بلا نهايةٍ فهو عليمٌ خبيرٌ بكل شيءٍ قادرٌ عليه له كل صفات الكَمَال الحُسْنَيَ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (180) من سورة الأعراف "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا.."، للشرح والتفصيل)، وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده واتقوه وخافوه وراقبوه وحده وافعلوا كل خيرٍ واتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كان البحر حِبْرَاً لقَلَمٍ لكتابة كلمات ربي أيْ علومه وحِكَمه وقُدْرَاته وكل صفاته الحُسْنَيَ الكامِلَة وكلّ مُعْجِزاته في كلّ مَخْلوقاته بكلّ كَوْنه بكل تفاصيلها لانتهي البَحْر رغم كثرة مائه قبل أن تنتهي كلمات ربي ولو حتي أحْضَرْنا بمِثْل البَحْر بَحْرَاً وبِحَارًا أخرى إمْدَادَاً وإعانَة له بعد انتهائه لنَفِدَ ونَفِدَت كلها أيضا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (27) من سورة لقمان "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)" أيْ قل يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده يَتّبِعه فيما أُوحِيَ إليه – لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَا أنا إلا بَشَرٌ إنسانٌ مِثْلكم، فلستُ إلاهَاً فتعبدوني، ولست مَلَكَاً فتقولون أنَّ له قُدْرَات خارِقَة أو خاصَّة ولذا فهو يمكنه تطبيق الإسلام في حياته بهذه القُدْرَات أمّا نحن فليس لنا مِثْلها وبالتالي فلا يمكننا أن نُسْلِم!! لكنّي يُوحَيَ إليَّ من الله تعالي لكي أُبَلّغكم أنّما أيْ أنه مَا إلاهكم أيْ مَعْبُودكم أيها الناس إلا إلاهٌ واحدٌ أيْ مَعْبُودٌ واحدٌ، لا مَعْبُود أيْ مُطَاع إلا هو، أيْ هو الله وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)" أيْ فبالتالي مَن كان يَرْجُو بكل صدقٍ لقاء ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – أيْ يَتمنّي ويَرْغب ويَتشوَّق ويُحب ويَأمَل ويَستبشر ويَسْعَيَ صادقاً لحُسْن لقائه، أي يتمنّي سرعة مَجِيء الآخرة ويوم القيامة للقائه المُنْتَظَر ليَنال أعلي درجات جناته التي وعده بها وليَحصل علي ثواب أعماله الحَسَنَة، أيْ كان مُشتاقا مُحِبّا راغِبَاً صادِقَاً حريصاً علي هذا اللقاء، فعليه بالتالي إذَن أنْ يتّخذ مَا أمكنه من أسبابٍ لإحسان التجهيز له ليكون لقاءً سعيداً آمِنا له ولإثْبات صِدْقه فيما يقوله مِن تَمَنّيه وحُبِّه للقاء ربه، وذلك بأنْ يعمل عملاً صالحاً دائماً في كل لحظات حياته أيْ يعمل دوْماً بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (75) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وأنْ يُحْسِن علي الدوام طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، وأنْ يستعدّ دائما للموت وهو علي الإسلام وعلي كلّ خير، وأنْ لا يُشْرِك أبداً في عبادة ربه أيّ أحدٍ غيره من خَلْقه بأنْ يَتّخذه إلاهاً يعبده كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه أو حتي رسولٍ أو مَلَكٍ أو بَشَرٍ، وأن يكون عمله دائماً خالِصَاً لربه وحده لا رياءً للناس أيْ ليُريهم ذلك فيَمدحوه أو يمتنعوا عن ذمِّه ولا يريد به رضا الله وعوْنه وإسعاده له في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة أيْ يكون مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في كل أقواله وأفعاله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان).. إنه مَن يَفعل ذلك فَلْيَستَبْشِر ولْيَطمَئنّ ولْيَسْعَد بأنَّ أجل الله أي التوقيت المُقَدَّر لهذا وهو يوم القيامة والذي يبدأ بالموت لابُدَّ سيأتي، وكل ما هو آتٍ يوما ما فهو حتما قريب حتي لو تَوَهَّم البعض أنه بعيد، ووَعْد الله لا يمكن أن يُخْلَف مُطْلَقاً.. إنه سينال حتما أجْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة
كهيعص (1)
أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكن حريصاً دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدَاً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَه فَعُدْ سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ الآية الكريمة هي طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه
هذا، ومعني "ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)" أيْ هذا ذِكْر رحمة ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بعبده ورسوله زكريا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل سنَقُصّه عليك لكي يَعْتَبِر ويَنتفع ويَسعد به مَن أراد الاعتبار والانتفاع والسعادة في دنياه وأخراه
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لا بُدَّ مِن إحسان اتّخاذ الأسباب مع الدعاء، فلا رزق مثلا بلا سَعْيٍ حلال له مهما كان شكل أو نوع الدعاء! وهكذا مع كل صور ومُتطلّبات الحياة، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال في كل الشئون، كما يُرَاعَيَ أنَّ مَن يدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُسْتَجَاب له قطعا وهو آثمٌ كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لا بُدَّ ينصرها العدل الكريم سبحانه حتي ولو كانت من غير مسلمٍ إقامة للعدل في الأرض لِيَأْمَن الخَلْق
هذا، ومعني "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)" أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين دَعَا وكَلّمَ زكريا ربّه دعاءً وكلاماً سِرِّيَّاً، في الخَفاء وإسراراً بداخله، لم يعلمه أحد، بينه وبين ربه، وهو سبحانه سميعٌ عليمٌ يعلم تمام العلم ما يحتاجه كل مخلوق، لكنَّ المحتاج يحتاج دائما إلي مَن يشكو إليه احتياجه ليُخَفّف عن نفسه ولكي يُعينه، وهل هناك أكرم وأرحم وأكثر عوْنَاً لكل مُضطّرٍ مِن خالقه مالِك المُلْك القادر علي كل شيء؟! حيث سيُعينه بأنْ يُيَسِّر له الأسباب، إمَّا مباشرة بإعطائه القوّة والقُدْرَة علي ذلك والتوفيق لها، وإمّا بصورةٍ غير مباشرةٍ بأنْ يُيَسِّر له مَن يُعينه علي تحقيق ما يريده.. هذا، وتقدير إخفاء الدعاء أو إظهاره مَتْرُوكٌ لكلّ فردٍ ولكلّ حالٍ وظرفٍ حسبما يراه يُحَقّق المصالح والسعادات له ولغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (55) من سورة الأعراف "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)" أيْ فكان نِداؤه الخَفِيّ الذي نادَىَ به ربه أنْ قال يا ربّ قد ضعف العَظْم مِن جِسْمي، أيْ ضَعُفَ عَظْمِي، بسبب كِبَر سِنّي، والمقصود ضَعُفَ جسمي كله، لأنَّ العظم هو عماد الجسم فإذا ضعف كان غيره من أجزاء الجسم حتماً قد أصابه الضعف.. ".. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي كِبَرِه وضَعْفه وظهور ذلك عليه، أيْ وانْتَشَرَ شَيْب الرأس كانتشار النار في الحَطَب حين تُشْعِله.. ".. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)" أيْ ولم أكن أبداً في أيِّ وقتٍ من الأوقات طوال حياتي يا ربّ مع دعائك أيْ سؤالك ومع عبادتك بدعائك لنا أي بعد دعوتك لبني آدم بالإيمان واتّباع الإسلام – لأنَّ الدعاء يعني العبادة كما قال (ص) "الدعاء هو العبادة" (أخرجه أبو داود والترمذي) – شَقِيَّاً أيْ تَعِيسَاً، أيْ كنتُ دائماً سعيداً تمام السعادة بدعائك وبعبادتك فلم أتركها فكنتُ شَقيّا، فأنا علي الدوام منك بفضلك وكرمك ورحمتك في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ وأَسْتَبْشِر بانتظار كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، والمقصود أني لم أكن فيما سَبَقَ مِن عُمْرِى غير مُسْتَجاب الدعاء منك شَقِيَّاً بذلك وبتَرْك عبادتك وإنما تَعَوَّدْتُ منك يا ربّ إجابة دعائى كلما دعوتك وإسْعادي بالعبادة وما دام الأمر كذلك فأَجِب دعائى وأَسْعِدْني فيما أدعوك به الآن ومُسْتَقْبَلَاً كما أجبتني وأسعدتني في الماضي فأنت أكرم وأرْحَم مَن سُئِل.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم لبعض آداب الدعاء لله تعالي وليكون أقرب للإجابة وهي أنْ يجمع في دعائه بين إظهار الحاجة والاستسلام والتّوَسُّل والاسْتِرْحَام والتّذَلّل والتّوَكّل والتّأَكّد أنه لا قوة إلا به سبحانه وبين ذِكْر نِعَمه عليه وشُكْره عليها كما فَعَلَ الرسول الكريم زكريا (ص)
ومعني "وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)"، "يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)" أيْ هذا بيانٌ لسبب إلحاح زكريا (ص) في الدعاء.. أيْ ياربّ إني وَهَنَ العَظْم مِنّي واشتعل الرأس شَيْبَاً والحال والواقع إني خَشيت الذين يَلُونَنِي مِن وَرائي أيْ مِن خَلْفِي أيْ مِن بَعْدِي أيْ مِن بَعْد موتي ألا يُحْسِنوا حِفْظ وحَمْل الرسالة أي الإسلام وحُسْن تبليغها للآخرين، لقِلّتهم أو لضعفهم أو لبُعْدِهم عن أخلاقه بدرجةٍ من الدرجات أو نحو هذا من أسبابٍ أنت بها يا ربّ عليمٌ خبير، وفوق ذلك كانت ولازالت امرأتى أيْ زوجتي عاقراً أىْ عقيماً لا تَلِد، فبالتالي هَبْ لي مِن لَدُنْك وَلِيَّاً أيْ اعْطِ لي مِن عندك مَن يَلِيني مِن بَعْدي في تبليغ الإسلام للناس، أيْ السبب يكون منك لا مِنّي لأنَّ الأسباب عندي قد زالت وانقطعت لِكِبَر سِنّي ولم يَعُد إلا سبب منك.. "يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)" أيْ وَلِيَّاً تكون صِفَته أنه يَرِثُني في النّبُوَّة ويَرِث كذلك من آل يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم ما كان عندهم من النبوّة والعلم والحِكْمَة وحُسْن الخُلُق، أيْ يكون أهْلَاً وكُفْأ ليَنْتَقِل إليه ويَأخُذ ويَحْمِل ميراثي وميراث عائلة يعقوب وهو الإسلام فيُحْسِن العمل به ودعوة الآخرين له ليسعدوا جميعا في الداريْن.. وفي هذا تأكيدٌ علي حِرْصِه أن يكون مُجْتَمِعَاً فيه كل صفات الخير يتعلّمها منه ومن أجداده الرسل الكرام.. ".. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)" أيْ واجعله يا ربّ بفضلك وكرمك ورحمتك ورعايتك وتَوْفيقك وتَيْسيرك راضِيَاً تمام الرضا أيْ قَابِلا مرْتَاحَاً تماماً بما تُعطيه من عطاء، ومَرْضِىّ عنه منك برضاك التامّ في كل أقواله وأفعاله بسبب إيمانه الصادق وعمله الصالح من خلال تمسّكه بكل أخلاق إسلامه، فتُحَبِّبه لكل خَلْقك فيُحِبُّوه ويكون أيضا مَرْضِيَّاً عنه منهم، بما يعني تمام الأمن له والراحة والنعيم والخير والسعادة في دنياه ثم أخراه، فهو يَرْضَيَ ويُرْضِي غيره ليَسعد الجميع في الداريْن
ومعني "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لصِدْقه وإخلاصه وإحسانه ودعائه أن استجاب الله له بفضله وكرمه ورحمته – ويستجيب كذلك لكل مسلمٍ يَقْتَدِي ويَتَشَبَّه به ويكون مِثْله – فأوْحَيَ إليه عن طريق ملائكته قائلا له يا زكريا نحن نُخْبِرك بخَبَرٍ يَسُرُّك وهو أنك ستُرْزَق بولدٍ اسمه يحيى، أيْ سيَحْيَا سعيداً بالإيمان في الداريْن، ونحن الذين سَمَّيْناه بهذا الاسم تكريماً وتشريفاً لك وله.. ".. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)" أيْ هذا مزيدٌ من التكريم والتشريف لهما.. أيْ لم نَجْعل له سابقاً سَمِيَّاً أيْ مُوَافِقَاً في الإسم مُشَارِكَاً تَسَمَّيَ به مِثْله بل هو أوَّل مَن سُمِّيَ بهذا الاسم ذي المعني الجميل، كما أننا لم نَجْعل له سَمِيَّاً بمعني شَبِيهَاً ومَثِيلَاً لا مِن حيث اسمه ولا مِن حيث أنه وُلِدَ لأبويْن كبيريْن في السنِّ والأم عاقِر ولا مِن حيث أنه سبحانه أكرمه بالنّبُوَّة والحِكْمَة وهو شابّ، إضافة بالقطع إلي كمال صفاته وصلاحه وبِرّه وعمله بكل أخلاق إسلامه ودعوته له ودفاعه عنه كَكُلِّ رسل الله تعالي الكرام
ومعني "قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)" أيْ ولمَّا بُشّرَ بتلك البُشْرَيَ السعيدة اتّجه إلى ربه مُسْتَفْهِمَاً مُتَشَوِّقاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها هذا الغلام مع عدم توافر الأسباب العادِيَّة لِكَبَر سِنّه وعُقْم زوجه ومُقَدِّرَاً ومُعَظّمَاً لقُدْرته علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَاً ومُتَأَكّدَاً منها ومُحِبَّاً فيها ومَسْرُوراً بها ومُنْتَظِرَاً لها وشاكِرَاً عليها، وليس حتماً مُسْتَبْعِدَاً مُنْكِرَاً لها مُتَشَكّكَاً فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا بنَبِيٍّ كريم!!.. أىْ قال يا ربّ كيف يكون لي غلام وحالي أنه كانت ولازالَت امرأتي أيْ زوجتي عاقِرَاً أيْ عَقِيمَاً لا تَلِد وأنا قد وَصَلْتُ من الكبر عِتِيَّاً أيْ مُنْتَهَاه أيْ إلي نهايته أيْ قد تَقَدَّمْتُ فى السِّنِّ تَقَدُّمَاً كبيراً وأيضاً وَصَلْتُ بسببه عِتِيَّاً بمعني يُبْسَاً وجَفافاً ونَحَالَة وضَعفا
ومعني "قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)" أيْ قال الله تعالي مُوحِيَاً إليه من خلال ملائكته مُجِيبَاً إيَّاه عمَّا تعجَّب منه: هكذا الأمر كما تقول مِن كَوْنِ امرأتك عاقراً وبلوغك مِن الكِبَر عتياً ولكن ربك قال خَلْقُ يَحْيَىَ على هذه الكَيْفِيَّة هو أمرٌ هيِّنٌ أيْ سَهْلٌ خفيفٌ عليَّ تماماً لا يَتَطَلّب أيّ جهدٍ بل بمُجَرَّد قول كُنْ فيكون.. لقد رَدَّ الله تعالي عليه لتوضيح الأمر له ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَفعل الله ما يشاء أن يَفعله مِن الأفعال الخارِقَة للعادة فحينما يريد أمراً مَا يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين.. ".. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)" أيْ والدليل القاطِع العقليّ المَنْطِقِيّ على هذا والذي يَقبله أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أني قد خلقتك – ولازِلْت أخْلُق الخَلْق في كل وقتٍ كما تَرَيَ ويَرَيَ الجميع – مِن قَبْل خَلْقِ يَحْيَ ولم تكُ شيئاً موجوداً، فكما أنا قادرٌ علي فِعْل ذلك فأنا كذلك قادرٌ على أن أهَبَكَ الولد رغم كِبَرِك وعُقْرِ امرأتك، فلا تَعْجَب، فأنت تعلم، وعلي الناس جميعاً أن يعلموا، أني علي كل شيءٍ قدير
ومعني "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)" أيْ قال زكريا (ص) داعِيَاً سائلاً الله تعالي معرفة وقت بدء هذه البُشْرَيَ السعيدة يا ربّ اجعل لي عَلامَة ودلالة أسْتَدِلّ بها علي حُدُوثها وحصول الحمل ووجود الولد، لكي أزْدَادَ سروراً واطمئناناً وشكراً، قال له علامتك ألا تستطيع تكليم الناس لمدة ثلاث ليالٍ بأيّامها، حالَ كَوْنك سَوِيَّاً، أيْ مع أنك تكون خلالها سَوِىّ الخَلْق سَليم الحَوَاسّ واللسان ليس بك مرض يمنعك من كلامهم ولكنك ممنوعٌ من الكلام بقُدْرَتنا على سبيل خَرْق العادة، إلا تكليمهم بالإشارة إليهم بيديك ورأسك – كما ذُكِرَ في الآية (41) من سورة آل عمران، برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني – وإلا ذِكْرك لي فإنك ستستطيعه وهذا من علامات قُدْرتي علي كلّ شيءٍ حيث لا يمكنك الكلام إلا بالذكر.. لقد طَلَبَ زكريا من الله تعالي أن يُبَيِّن له كيف ستَتَحَقّق هذه المُعْجِزَة المُسْعِدَة، وهذا قطعا ليس إنكاراً منه (ص) وهو رسول كريم لأنَّ سؤاله عن الكيفية لا عن أصل القضية وفيه شفاء لِنَهَمِ طَلَب العلم والوصول لأعماق الحقائق للاستفادة منها والسعادة بها وهو الأمر الذي يُوافِق العقل المَفْطُور أيْ المخلوق أصلا علي ذلك ليسعد في حياته والذي أحسنَ استخدامه زكريا (ص) وكل الرسل الكرام وكل مسلم اقْتَدَيَ وتَشَبَّه بهم، فهذا الطلَب هو مِثْل طَلَب إبراهيم (ص) ".. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ.." (البقرة:260) (برجاء مراجعة الآية الكريمة لتكتمل المعاني)
ومعني "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)" أيْ فخرج زكريا (ص) علي قومه من المكان الذي يُصَلّي فيه لله تعالي، لتَذْكِرَتهم به وباتّباعهم دينه الإسلام ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماماً في الداريْن، فأوْحَيَ إليهم أيْ فأشَارَ إليهم أيْ فأخْبَرَهم بالإشارة، لأنه لم يَستطع الكلام رغم كَوْنه سَوِيَّاً – وحينها عَلِمَ ببداية حَمْل زوجته بولده يَحْيَيَ حيث هذه هي الآية التي جعلها سبحانه له – أنْ سَبِّحوا الله تعالي بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)" أيْ اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتكم، حين الصباح وحين المساء وفي كل وقت، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم.. هذا، وتخصيص الله تعالي للتسبيح رغم أنه نوعٌ مِن الذكْر وذلك للتنبيه لأهميته، وكذلك تخصيص الصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يتمسَّكون ويعملون بكتاب الله تعالي أيْ بالقرآن العظيم وما فيه من أخلاق الإسلام بقوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجِدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادته، أيْ كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)" أيْ وبعد أنْ وُلِدَ يحيى ونَمَا ووَصَلَ سِنَّاً يَفْهَم فيه ما يُخاطَب به قلنا له عن طريق وَحْيِنَا يا يَحيى خُذ الكتاب – أيْ التوراة وقتها والتي كان فيها الإسلام المُناسِب لزَمَنه – بقوّة، أيْ تَمَسَّك واحْفَظ وافْهَم واعْمَل بما فيه بكلّ هِمَّةٍ وجِدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنه لسعادتك والناس جميعاً.. ".. وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)" أيْ وقد أعطيناه بفضلنا وكرمنا ورحمتنا الحِكْمَة ورَجَاحَة العقل وكثرة العلم والفهم والفقه لأحكام الإسلام والعمل بها والحُكْم بأحكامها وأخلاقها وتشريعاتها – وعند بعض العلماء الحُكْم هو النّبُوَّة وحُسْن تبليغ الإسلام للناس – رغم كَوْنه صبياً أيْ صغير السِّنّ.. وهذا مزيدٌ من بيان آيات الله تعالي وتكريمه وتشريفه لزكريا وولده يحيي حيث أعطاه الله النبوة والحِكْمة صغيراً بعد أن جعله بفضله وقُدْرَته مُؤَهَّلَاً لها ليكون وَلِيَّاً مِن بَعْد والده زكريا كما كان يريد ويدعو
ومعني "وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)" أيْ وأعطيناه كذلك من عندنا، أيْ من فضلنا وكرمنا ورزقنا ورحمتنا وقدرتنا وتوفيقنا وتيسيرنا لأسباب ذلك، حناناً أيْ شَفَقة ورَأفة ورحمة للناس وعَطْفَاً عليهم وحبّاً لهم، خاصَّة والديه، سَعِدَ بها وأسْعَد مَن حوله في الداريْن، وأعطيناه أيضاً زكاة أيْ طهارة من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ رَبَّيْنَاه علي العمل بكل أخلاق الإسلام بتَيْسِير أسباب ذلك لوالديه وغيرهما من المؤمنين حولهما فتَزَكّيَ أيْ فتَرَقّيَ وسَمَا ونَمَا في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات فسَعِدَ وسَعِدوا بذلك في دنياهم وأخراهم، وبالتالي كان تَقِيَّاً أيْ يَخاف الله ويُراقِبه ويُطيعه ويَجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، ويكون دوْمَاً مُتَجَنّبَاً لكلّ شرّ يُبعده ولو للحظة عن حب ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُ أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارِع لفِعْل كل خيرٍ يُسعده ومَن حوله
ومعني "وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)" أيْ وكان كذلك من صفاته الطيِّبَة بَارَّاً أيْ كثير البِرِّ بوالديه أيْ كثير الإحسان إليهما بكل أنواع الإحسان والخير وحُسْن الخُلُق القوليّ والعمليّ، ولم يكن أبداً مُطْلَقَاً في أيِّ وقتٍ جبّاراً أيْ مُتَكَبِّرَاً أيْ مُتَعَالِيَاً علي الله ورسله فلم يُطِعه بل كفر أي كذّب بوجوده وأشرك أيْ عَبَدَ غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَد واستهزأ وتعالَيَ علي الناس فاسْتَعْبَدهم ونَهَب جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظَلَمهم وعَذّبهم واحْتَقَرَهم وقَتَل بعضهم ونَشَر المَظالِم والفساد بينهم، فهو بالجملة يريد إجبار غيره وإرغامه علي ما يريده هو بكلّ ظلمٍ وعدوانٍ وإيذاءٍ وحتي تهديدٍ بقتل.. وكذلك لم يكن أبداً مُطْلَقَاً في أيِّ وقتٍ عَصِيَّاً أيْ عاصِيَاً لله تعالَيَ أيْ مُخَالِفَاً لأخلاق الإسلام يَفْعل الشرور والمَفاسِد والأضرار
ومعني "وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)" أيْ وكلّ أمانٍ واستقرارٍ وخيرٍ وسرورٍ وسلامٍ – بمعني أن يكون سالِماً من أيِّ سوءٍ وشقاءٍ – ورضا، يَفيض عليه ويَغْمُره من الله تعالي بفضله وكرمه ورحمته، من وقت وُلِدَ فلا يُصيبه شَرّ وحين يموت فلا يُعَذّب في قَبْره ووقت يُبْعَث حيَّاً بعد موته للحساب يوم القيامة فيدخل أعلي درجات الجنة، أيْ سلامٌ عليه طوال حياته الدنيويّة والأُخْرَوِيَّة، وذلك بسبب حُسْن وكمال خُلُقِه.. وهذا سيناله كل مسلمٍ يَقْتَدِي ويَتَشَبَّه بالرسل الكرام فيَعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ – مِثْل مريم عليها السلام – عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ – مِثْلها أيضا – دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التّوَاصُل معه (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ – مِثْلها أيضا – دائماً من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعَاً عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ – مِثْلها – مُعْتَصِمَاً دَوْمَاً بالله تعالي وبدينك الإسلام (برجاء مراجعة الآية (100)، (101) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ – مِثْلها – تَخْتَلِي أيْ تَنْفَرِد بنفسك ومع ربك بين الحِين والحِين لمزيدٍ من تقوية صِلَتَك بينك وبينه سبحانه ولمراجعة الذات وللتقييم وللتصويب وللاستغفار وللعَزْم علي التّنْقِيَة من الأخطاء وللدعاء ولِمَا شابَه ذلك من خيراتٍ لتَنْطَلِقَ بعدها في الحياة بكل قوّةٍ نحو كل خيرٍ وسعادةٍ ولِتُحْسِنَ دعوة غيرك لهذا – مِثْلَها – ولِتَصْبِر علي أذاهم مِثْلها (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ تَقِيَّاً مِثْلها.. وإذا كنتَ مِثْلَها صابراً إذا أصابك اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا لتَخْرُج منه مُستفيداً استفاداتٍ كثيرة ومزيداً من الخير (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وبالجملة إذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلَاً بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنك إنْ فعلتَ كل مَا سَبَقَ ذِكْره، فتأكّد أنَّ الله تعالي سيَصْطَفِيك، أيْ سيَخْتارَك، كما اصْطَفَيَ مريم وغيرها من الصالحين، سيَختارَك لكلِّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياك، ثم في أخراك لأعلي درجات جناته، لِمَا هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد
هذا، ومعني "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحْسِنُوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر وتَذَكّر دائماً في الكتاب أيْ مَا في القرآن العظيم مِن قصة مريم حين انْفَرَدَتْ وابْتَعَدَتْ مِن أهلها وقومها حيث جَعَلَت لها مكاناً جِهَة الشرق مِن مكانِ سَكَنِهم، وذلك لتَنْفَرِدَ مع الله تعالي لمزيدٍ من تقوية صِلَتها به بالدعاء والذكر والاستغفار والصلاة والتدريب علي فِعْل الأعمال الصالحات لتَنْطَلِقَ في الحياة بسبب ذلك بكل قوّةٍ نحو كل خيرٍ وسعادةٍ ولِتُحْسِنَ دعوة غيرها لمِثْل هذا ولِتَصْبِر علي أذاهم إذا آذوها
ومعني "فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)" أيْ هذا مزيد من التأكيد علي انتباذها من أهلها.. أيْ وجَعَلَت بينهم وبينها ساتِرَاً، فبالتالي وبسبب ذلك أيْ بسبب حُسْن عبادتها لنا أكْرَمْناها وشَرَّفْناها وأعْلَيْنَا قَدْرَها وشأنها بأنْ أرسلنا إليها مَلَكَنا جبريل الذي يَحمِل روح عيسي (ص) ليَضَعها في رَحِمها لتَلِده من غير أبٍ فتكون أمَّاً لرسولٍ سيكون مُعْجِزَة للناس تُعينهم علي الإيمان بربهم وسيُرْشِدهم له ولاتّباع دينه الإسلام فيَسعدوا، فتَشَبَّه لها بَشَرَاً سَوِيَّاً أيْ مُسْتَوِيَاً أيْ تامَّاً كامِلَاً في الخِلْقَة والخُلُق حَسَن المَنْظَر والهيئة عليه علامات الخير والصلاح وذلك حتي يمكنها رؤيته وسماع كلامه الذي سيَنقله لها من الله تعالي لأنَّ عيون البَشَر وآذانهم غير مُؤَهَّلَة لرؤية الملائكة وسماعها ولو كان ظَهَرَ لها في صورته الملائكية لكانت خافت وما استطاعت مُحادَثته
ومعني "قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)" أيْ قالت مريم له إني أتَحَصَّن وأحْتَمِي بالرحمن منك لو أرَدْتَ أنْ تُسِيء إليَّ إنْ كنتَ تَتّقِيه أيْ تَخافه وتُرَاقِبه وتُطيعه وتَجعل بينك وبين عذابه وقاية بفِعْل الخير وتَرْك الشر.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين بالاعتصام بالله دَوْمَاً القادر علي كل شيء، وبالرحمة وبالعِفّة وبالتقوي، وهي من أُسُس أخلاق الإسلام التي تَمنع إيقاع الأذَيَ والضرَر بالناس فيَسعدون في الداريْن ولا يَتعسون فيهما
ومعني "قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)" أيْ قال لها مُطَمْئِنَاً إيَّاها مَا أنا إلا مَبْعُوث ربك إليك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – والذي اسْتَعَذْتِ واحْتَمَيْتِ به ولَجَأْتِ إليه، لأُعْطِيَكِ، لأكون سَبَبَاً في إعطائك منه سبحانه، بقُدْرته وعِلْمه وحِكْمته ورحمته، ولداً طاهِرَاً من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ يُرَبِّيه علي العمل بكل أخلاق الإسلام بتَيْسِير أسباب ذلك لك ولغيرك من المؤمنين حولكما فيَتَزَكَّيَ أيْ فيَتَرَقّيَ ويَسْمُو ويَنْمُو في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات فيَسْعَد ويُسْعِد الناس في الداريْن حينما يدعوهم للإيمان بربهم واتّباع دينه الإسلام
ومعني "قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)" أيْ قالت مريم له مُتَعَجِّبَة تَعَجُّبَاً شديداً كيف يكون لي ولدٌ والحال والواقع أني لم يَقْرَبْنِي إنسانٌ أيْ لم يُجامِعني زوجٌ عن طريق الزواج الذى أحَلّه الله تعالى ولم أكُ أبداً مُطْلَقَاً بكل تأكيدٍ في أيِّ وقتٍ من الأوقات بَغِيَّاً أىْ فاجِرَة تَبْغِى الرجال أيْ تَطلبهم وتُريدهم أو يَبْغونها للزنا بها، فالولد لا يكون إلا بذلك؟!
ومعني "قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)" أيْ قال لها مُجِيبَاً إيَّاها عمَّا تعجَّبَت منه: هكذا الأمر كما تقولين مِن كَوْنِكِ لم يَمْسَسْكِ بَشَر ولم تكوني أبداً بَغِيَّاً ولكن ربك قال خَلْقُ غلامك على هذه الكَيْفِيَّة بدون أبٍ هو أمرٌ هيِّنٌ أيْ سَهْلٌ خفيفٌ عليَّ تماماً لا يَتَطَلّب أيّ جهدٍ بل بمُجَرَّد قول كُنْ فيكون، هذا أولاً ومِن جِهَة، وثانياً ومِن جِهَةٍ أخري، قال فَعَلْنا هذا لكي نَجعل هذا الغلام منك دلالة مِنّا للناس تَدُلّ على كمال قُدْرَتنا علي كلّ شيءٍ وعِلْمنا به فيُعينهم ذلك علي تَحْريك عقولهم فيُؤمنوا بنا، ولنجعله كذلك رحمة عظيمة منَّا بهم لأنه سيكون رسولنا إليهم وهذه الرحمة ستكون لمَنْ يَهتدي ويَقتدي به في الإيمان بنا واتّباع ديننا الإسلام حيث سيُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في الداريْن.. لقد رَدَّ عليها لتوضيح الأمر لها ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَفعل الله ما يشاء أن يَفعله مِن الأفعال الخارِقَة للعادة فحينما يريد أمراً مَا يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين.. ".. وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)" أيْ وكان أمْرُ خَلْق غُلامك على هذه الكَيْفِيَّة بدون أبٍ أمراً مُقَدَّرَاً مَكْتُوبَاً سابِقَاً فى اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – مَحْكُومَاً به مَفْرُوغَاً منه مُنْتَهِيَاً مِن رَبِّكِ فلابُدَّ أنْ يُقْضَيَ ويُفْعَل ويَحْدُث ويَتَحَقّق بلا أيِّ تَغْييرٍ أو تَبْدِيلٍ أو رَدّ.. وهذا الجزء الأخير من الآية الكريمة قد يكون اسْتِكْمالاً لكلام جبريل عليه السلام أو مِن كلام الله تعالي
ومعني "فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)" أيْ فبِمُجَرَّد انتهاء الحوار بينهما تَحَقّق أمر الله تعالي المَقْضِيّ وحَمَلَت هذا الغلام الزكِيّ في رحمها وانْفَرَدَت وابْتَعَدَت واعْتَزَلَت به وجَعَلَت لها مكاناً بعيداً عن الناس تَجَنّبَاً لتساؤلاتهم أو اتّهاماتهم إلي أنْ يُظْهِر الله الحقّ بالأسلوب وبالتوقيت الذي يراه مناسباً لتكريمها ولرفع شأنها والدفاع عنها
ومعني "فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)" أيْ فاضطّرها المَخَاض حين جاء موعده – وهو التّحَرُّك الشديد للمولود قبل ولادته وما يُصاحِبه من ألم – إلي المَجِيء إلي جِذْع النخلة وهو ساقها الذي تقوم عليه وكانت في المكان الذي انْتَبَذَت فيه وذلك لكي تَسْتَنِد إليه وتَسْتَتِر به عند الولادة ليكون ذلك سَبَبَاً من الأسباب تَتّخِذه فيساعدها علي تَيْسير الأمر وهي تعلم تماماً أنَّ الله تعالي الخالق الرحيم الكريم معها وسيُيَسِّر لها كل أمورها، فقالت حينها كنتُ أتَمَنَّيَ أنّي قد مِتّ قبْل هذا الموقف الشديد وكنتُ نَسْيَاً أيْ شيئاً لا قيمة له يُنْسَيَ عادة، مَنْسِيَّاً أيْ لا يُذْكَر أبداً مِن أيِّ أحد، وهذا الأسلوب في اللغة العربية هو لتأكيد تَمَنّيها أنْ تُنْسَيَ تماما.. لقد تَمَنّت الموت، كأيِّ بَشَرٍ عفيفٍ سيَتَعَرَّض للظلم، مع رضاها التامّ بأمر الله المَقْضِيّ، بسبب ما نَزَلَ وسيَنْزِل غالباً بها مِن هَمٍّ وحزنٍ مُتَوَقّعٍ يَتَمَثّل في أحاديث وشُكوك الناس حولها وقد يَقعون في معاصِي ظُلْمها.. إنَّ تَمَنّى الموت لمِثْل ذلك لا إثم فيه لأنه يَخُصّ الإسلام والمسلمين حيث يريد المسلم أن يموت قبل أن يُسِيء إليهم فيأثم بإساءته، أمَّا تَمَنّي الموت الذي عليه إثم هو ما كان بسبب عدم الصبر علي ألمٍ وضَرَرٍ مَا كمرضٍ أو فقرٍ أو نحوه، كما أنَّ تَمَنّيها الموت يَحْمِل ضِمْنَاً معني الدعاء والتَّوَسُّل لله تعالي مع اليقين أنه يسمعها وسيُحَقّق لها حتماً كلّ خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن وسيَمْنَع عنها كلّ شَرٍّ مُتْعِس فيهما
ومعني "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)"، "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)"، "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله تعالي بمريم – وهي حتماً تكون لكل مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه من المسلمين – وتسليتها وطَمْأَنَتها وتَبشيرها وتثبيته لها وتخفيفه عنها ما أصابها وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ ونادَاها وكَلّمها من مكانٍ أسفل منها، بمُجَرَّد الولادة، جبريل أو عيسي بعد ولادته، أن لا تحزني، أبداً، لأنه قد جَعَلَ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – سَرِيَّاً والمقصود بالسَّرِيِّ هو عيسي (ص) والسَّرِيّ هو العظيم الأخلاق الأَمْثَل الأَكْمَل العظيم الشأن والمَكَانَة بما يُفيد أنه سيكون مَصْدَر خَيْرٍ وأمنٍ وسعادةٍ لها وللناس وهذا يُسَرِّي عنها ويُطَمْئِنها ويُذْهِب حزنها ويُسعدها تماماً.. كذلك من معاني سَرِيَّاً أيْ نهرَاً، وسُمِّيَ كذلك لأنَّ الماء يَسْرِي أيْ يَجْرِي فيه، بما يُفيد كثرة الخيرات التي ستكون تحت طَلَبها.. وهذا مُعْجِزَةٌ إضافية لها لمزيدٍ من تكريمها وطَمْأَنتها وإذهاب هَمِّها وإسعادها مَعْنَوِيَّاً ومادِّيَّاً.. "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)" أيْ وحَرِّكِي إلي جِهَتك بسَاقِ النخلة تُسْقِط أيْ تُنْزِل النخلة عليك رُطَبَاً أيْ بَلَحَاً لم يَتِمّ تجفيفه جَنِيَّاً أيْ اسْتَوَيَ وأصْبَحَ جاهِزَاً للجَنْي أيْ للحصاد بما يُفيد أنه طَرِيٌّ لذيدٌ مُفِيدٌ مُسْعِدٌ.. إنَّ في هذه الآية الكريمة إرشاداً للمسلم بضرورة إحسان اتّخاذ الأسباب ما استطاع لتحقيق أيّ هدفٍ من أهداف الحياة فلا تحقيق للأهداف بدون أسبابٍ فهذا هو نظام الحياة الدنيا مع التوكّل علي الله تعالي حقّ التوكّل أي الاعتماد عليه تمام الاعتماد لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي فبهذا سيُيَسِّر له كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فاتخاذ الأسباب فى طلب الأرزاق أمرٌ واجبٌ وذلك لا يُخالِف مُطلقاً التوكّل على الله لأنَّ المسلم يَتّخِذ الأسباب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع فى مُلْكه سبحانه إلا ما يشاؤه ويريده.. "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)" أيْ وكُلِي واشْرَبِي من كل أرزاق ربك التي رزقك إيَّاها برحمته وكرمه وقُدْرته والتي لا تُحْصَيَ وانْتَفِعِي وتَمَتّعِي بكل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات، وقَرِّي عَيْنَاً أيْ واسْتَقِرِّي واطْمَئِنّي وأرِيحِي بالك وفِكْرك واسْعَدِي تماماً، استقراراً يَشمل عقلك ومَشاعِرك وجسدك وحَالِك والذي يعني تمام السعادة الغامِرة والتي ليس بعدها أيّ سعادةٍ أكثر منها، فأنتِ بالجملة ستكونين في حياةٍ رَغدةٍ أيْ هَنِيئة طيِّبة وافِرة واسِعَة سَهْلَة سعيدة من فضل ربك وكرمه.. ".. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)" أيْ وإنْ رأيتِ أحداً من الناس فسَأَلَكِ عن حالكِ وولدكِ وأنْكَرَ عليك أمركِ، فقولي له إني أَوْجَبْتُ على نفسي لله الرحمن ربي إمساكاً وسُكوتاً عن الكلام وبالتالي فلن أكلم اليوم إنساناً أبداً، وإنما سأترك الكلام لمولودي ليُكَلّمكم هو عن حقيقة أمره فيكون كلامه دليلاً قاطِعَاً لكم في إزالة أيّ اتّهامٍ منكم لي.. إنَّ كلام عيسي (ص) وهو مولود سيكون مُعْجِزَة إضافية لها لمزيدٍ من تكريمها وطَمْأَنتها وإذهاب هَمِّها وإسعادها
ومعني "فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)" أيْ وبعد أن اسْتَمَعَتْ مريم إلى ما قاله ابنها عيسى (ص) – أو جبريل – اطْمَأنّت وازدادت قوّة بقوّة ربها القويِّ المَتين الذي لن يتركها وسيَنصرها وبدأت تُواجِه أهلها وقومها ومعها مُعْجِزَتها مولودها الذي سيكون خيراً لهم وللناس يُوَجِّههم ويُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، فجاءت به وهي تحمله إلي قومها من المكان القَصِيِّ الذي كانت فيه، فقالوا لها مُنْدَهِشِين مُنْزَعِجِين رافِضين يا مريم لقد فَعَلْتِ فِعْلَاً مُنْكَرَاً قَبِيحَاً فَظِيعَاً، يَقْصِدون ارتكابها فاحشة الزنا
ومعني "يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ لِمَا فَعَلَته ولِتَذْكِرتها بحُسْن أصلها وصلاح عائلتها لتسارِع بالتوبة! وذلك حسبما ظَهَرَ لهم ولم يعلموا بَعْدُ تفاصيله وإعجازه.. أيْ يا شَبِيهَة هارون في الصلاح، في الإسلام، يا التي أنتِ مِن سُلاَلَة النبي الكريم هارون (ص) – وعند بعض العلماء أنَّ هارون المقصود هو رجلٌ صالحٌ معروفٌ في عصرها، أو أخوها حقّاً، وليس هارون الذي هو أخو موسي (ص) لأنَّ بينهما قُرُونَاً كثيرة – أيْ ما كان لأختِ مِثْله أنْ تَفْعَل فِعْلتك!!.. ".. مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ لِمَا فَعَلَته والتّعَجُّب منه وأنَّه كان شيئاً فَرِيَّاً ومزيدٌ من التنبيه على أنَّ الفواحش من أبناء الصالحين أقْبَح من غيرهم وأشدّ عقاباً من الله في الداريْن لأنهم تَرَبّوا في بيئةٍ صالحةٍ وعلي الصلاح.. أيْ كيف فَعَلْتِ مَا فَعَلْتِ ومَا كان أبوكِ إنساناً سَيِّئَاً يأتي الفواحش أبداً ومَا كانت أمكِ كذلك مُطْلَقَاً بكل تأكيدٍ في أيِّ وقتٍ من الأوقات بَغِيَّاً أىْ فاجِرَة تَبْغِى الرجال أيْ تَطلبهم وتُريدهم أو يَبْغونها للزنا بها؟! بل كانوا صالحين يُوَجِّهونك لكلّ صلاح، ومع ذلك لم تَتّبِعي صلاحهم، فأنتِ مِن بيتٍ طيِّبٍ طاهِرٍ صالحٍ مُتَّبِعٍ للإسلام فكيف حَدَثَ منك هذا؟!
ومعني "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)" أيْ بَدَأت مريم في الدفاع عن حالها بإلهامٍ وتوفيقٍ وتَيْسِيرٍ من الله تعالي عن طريق إنطاق المولود بالكلام كمُعْجِزَةٍ لها وله عندما يكون رسولاً لمزيدٍ من تكريمها وطَمْأَنتها وإذهاب هَمِّها وتَبْرئتها وإسعادها، فأشارت إليه أيْ إلى مولودها عيسى (ص) ليسألوه ويُكَلّموه فيُخْبِرهم بحقيقة الأمر فقالوا مُتَعَجِّبِين رافِضين غاضِبين ساخِرين كيف نُكَلّم مَن لا يزال في المَهْد طفلاً رضيعاً؟! فإنَّ هذا خارِقٌ للعادة ولم يَحْدُث أبداً مِن قَبْل ولا يقول به عاقل!.. والمَهْد هو الفراش الذي يُمَهَّد أيْ يُجَهَّز ليَنام فيه الرضيع
ومعني "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)" أيْ حينها حَدَثَت المُعْجِزَة وكَرَّم الله تعالي مريم وأعْظَمَ قَدْرَها وبَرَّأها وأثْبَتَ صِدْقها وطَهَارتها وعِفّتها بأنْ أنْطَقَ عيسي (ص) وهو في المَهْد صَبِيَّاً بكلّ حقّ وبمَا يُذَكّرهم بكلّ خيرٍ مُسْعِدٍ لهم في دنياهم وأخراهم، قال إني مُطيعُ الله عَبْدٌ له وحده بلا أيِّ شريكٍ ولستُ أبداً – ولا أمّي – إلاهَاً يُعْبَد ولا ابنُ إله، خَلَقَنِي بقُدْرَته بغير أبٍ كمُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ لإثبات أنه القادر علي كل شيءٍ العالِم تماماً به يَفعل ما يشاء أن يَفعله مِن الأفعال الخارِقَة للعادة فحينما يريد أمراً مَا يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. ".. آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)" أيْ وهذا الخالق العظيم قَضَيَ وحَكَمَ بأنْ أعطاني الإنجيل، أيْ سيُؤْتيني الكتاب، وبأنْ جعلني نَبِيَّاً، أيْ سيَجعلني نبيا، أُبَلّغ الناس بعبادته وحده وباتّباع الإسلام الذي في الكتاب ويُناسِب زَمَنهم والذي سيُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعدهم تماماً في الداريْن لو عملوا بكلّ أخلاقه.. هذا، ولفظ "آتاني" ولفظ "وجعلني" الذي يقوله عيسي (ص) رغم أنه ما زال في المَهْد صَبِيَّاً يُفيدان قُرْب المَجِيء وصِدْقه وتأكيده وكلٌّ منهما فِعْلٌ ماضٍ يعني المستقبل المُحَقّق الوقوع أيْ سيأتي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، وهو للإشعار بتَحَقّق هذا الإتْيان حتى لكأنَّ ما سيَقع في المستقبل قريبا قد صار فى حُكْم الواقع فعلاً، وذلك لأنَّ الله تعالي هو الذي يقوله ويَعِدُ به وهو القادر علي كل شيءٍ وهو الذي قد أتَيَ فِعْلَاً في عِلْمه المستقبليّ ما سيَحدث مِمَّا لا يعلمه أحدٌ غيره ولا يعلمه خَلْقه حيث لا أحد يعلم المستقبل إلا هو سبحانه
ومعني "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)" أيْ وسيَجعلني مُبَارَكَاً للناس وللخَلْق في أيِّ مكانٍ وزمانٍ كنتُ فيه أيْ كثير دائم الخيرِ والنفع لهم مُعَلّمَاً إيَّاهم كلّ مَا يُسْعِد أيْ كُلّيِ بَرَكَة نحوهم أيْ زيادة دائمة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ من الله خالقهم ورازقهم وذلك بسبب دعوتي لهم لعبادته وحده واتّباع الإسلام الذي في الإنجيل والذي سيُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعدهم تماماً في الداريْن لو عملوا بكلّ أخلاقه.. إنَّ كل مسلم يَتَشَبَّه بالرسل الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) فيكون عَبْدَاً لله تعالي وحده عامِلَاً بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله داعِيَاً له مُدَافِعَاً عنه سيَجعله بفضله وكرمه ورحمته مُبَارَكَاً أينما كان أيْ سعيداً في نفسه مُسْعِدَاً لغيره في الداريْن.. ".. وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)" أيْ ويأمرني بالعمل بدين الإسلام والذي منه المحافظة على الصلاة وإعطاء الزكاة ما بَقِيتُ حَيَّاً أيْ طوال حياتي.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يُواظِب علي تأدية الصلوات المفروضة عليه وأن يُؤَدّيها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاع أيْ يُحسنها ويُتقنها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وإرشادٌ كذلك لأنْ يكون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمُعامَلات
ومعني "وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)" أيْ ويأمرني كذلك أن أكون بَارَّاً بوالدتي أيْ كثير البِرِّ بها أيْ كثير الإحسان إليها بكل أنواع الإحسان والخير وحُسْن الخُلُق القوليّ والعمليّ، ولم يُوصِنِي أبداً مُطْلَقَاً في أيِّ وقتٍ أنْ أكون جبّاراً أيْ مُتَكَبِّرَاً أيْ مُتَعَالِيَاً علي الله ورسله فلم يُطِعه بل كفر أي كذّب بوجوده وأشرك أيْ عَبَدَ غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَد واستهزأ وتعالَيَ علي الناس فاسْتَعْبَدهم ونَهَب جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظَلَمهم وعَذّبهم واحْتَقَرَهم وقَتَل بعضهم ونَشَر المَظالِم والفساد بينهم، فهو بالجملة يريد إجبار غيره وإرغامه علي ما يريده هو بكلّ ظلمٍ وعدوانٍ وإيذاءٍ وحتي تهديدٍ بقتل، ولست كذلك أبداً مُطْلَقَاً في أيِّ وقتٍ شَقِيَّاً بمَعْصِيته أيْ تَعِيسَاً مُتْعَبَاً مُعَذّبَاً بها بما يُناسِب في الداريْن بسبب اختياري بكامل حرية إرادة عقلي الكفر وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم ببرّ الوالدين وكبار السِّنِّ وعموم الإنسانية والخَلْق جميعاً وتَرْك التّجَبُّر والعِصْيان ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)" أيْ وكلّ الأمان والاستقرار والخير والسرور والسلام – بمعني أن أكون سالِماً من أيِّ سوءٍ وشقاءٍ – والرضا، يَفيض عليَّ ويَغْمُرني من الله تعالي بفضله وكرمه ورحمته، من وقت وُلِدت فلا يُصيبني شَرّ وحين أموت فلا أعَذّب في قَبْري ووقت أبْعَث حيَّاً بعد موتي للحساب يوم القيامة فأدخل أعلي درجات الجنة، أيْ السلام عليَّ طوال حياتي الدنيويّة والأُخْرَوِيَّة، وذلك بسبب حُسْن وكمال خُلُقِي.. وهذا سيناله كل مسلمٍ يَقْتَدِي ويَتَشَبَّه بالرسل الكرام فيَعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته.. هذا، ولفظ "والسلام عليَّ" بإضافة الألف واللام علي كلمة سلام يُفيد كلّ السلام عليَّ، فهذا مِن صِيَغ المُبَالَغة في اللغة العربية
ومعني "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)" أيْ هذا المَذْكُور المَوْصُوف بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها هو عيسي ابن مريم، وهذا الذي ذَكَرْناه لك عنه في القرآن الكريم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل هو قول الحقّ أيْ القول الصِّدْق التامّ في شأنه الذي فيه يَمترون أيْ يَشُكّون ويُشَكّكون ويُجادِلون فيه المُشَكّكون المُجادِلون أيْ المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون حيث قال بعض اليهود فيه أنه ابن زنا وأنه ساحر وقال بعض النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثةِ آلهةٍ حيث هو وأمّه مريم شركاء لله تعالي في الألوهِيَّة حسب طوائفهم المُتَعَدِّدَة وما شابه ذلك من تحريفٍ وتَخْريفٍ تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. إنه قول الحقّ لأنه كلام الله الذي لا أصدق ولا أحسن ولا أنفع منه كلاما، فلا تَلْتَفِت إلى شَكّهم وجِدالهم وكفرهم، واثْبُتْ عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
ومعني "مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)" أيْ هذا رَدٌّ علي بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لله أن يجعل لذاته العَلِيَّة أيَّ ولد.. وأيّ معني وفائدة لاتّخاذِ ولدٍ له وهو غنيّ عن كلّ شيءٍ لا يحتاج لأيِّ مُعِين؟!.. ".. سُبْحَانَهُ.." أي فسَبِّحوه تعالي أيها الناس، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)" أيْ ولماذا يَتّخِذ ولداً أو شريكاً أو وزيراً أو مُعِينَاً أو غيره وهو الذي إذا أراد أنْ يُحْدِث أمراً من الأمور وحَكَمَ بحُدُوثه فإنه من تمام قُدْرته وكمال علمه بمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد فوراً بلا أيّ تأخيرٍ أو امتناع؟! لأنه له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره، ولأنه له كل ما في السماوات وما في الأَرض أيْ لأنه سبحانه هو الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنهم وكفرهم ولو جميعهم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتهم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد
ومعني "وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)" أيْ وكذلك قال عيسى لقومه وهو لا زال في المَهْد صَبِيَّا: وإنَّ الله تعالي الذي أدعوكم إليه هو وحده لا غيره حتما ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. هذا، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا.. ".. هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)" أيْ هذا الذي أدعوكم إليه هو حتما طريقٌ مُعْتَدِل صحيح صواب مُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن.. إنه طريق الله والإسلام
ومعني "فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)" أيْ فلمَّا جاء عيسي (ص) لمَن حوله مِن اليهود وغيرهم بهذا، اختلفوا فيما بينهم، وتَحَزَّبوا أحزابا، والحزب هو مجموعة من الناس، فمنهم مَن آمن بالله وبرسوله وبإسلامه، فسَعِدَ في الداريْن، ومنهم مَن كفر أي لم يُصَدَّق بهذا، ومنهم مَن ادَّعَيَ كذبا وظلما وزورا وعِنادً أنَّ عيسي إلهٌ أو ابن إلهٍ لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو أمه مريم العفيفة قد ارتكبت الفاحشة فأنجبته أو ما شابه هذا من خرافات وأكاذيب، وكل هؤلاء قد تَعِسوا وتَعَذّبوا في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، تَعِسُوا بقَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ عذابٍ وألمٍ وكآبة وتعاسة.. ".. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)" أيْ فبالتالي سيكون لكل هؤلاء الذين كفروا ومَن تَشَبَّه بهم، أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم، سيكون لهم الوَيْل أيْ الهلاك بسبب مَشْهَدِ أيْ شُهُود أيْ حُضُور يومٍ عظيمٍ في حسابه وعذابه المُؤْلِم المُوجِع المُهْلِك هو يوم القيامة بكل أنواع عذاباته في نار جهنم حيث ما هو أتمّ عذابا وتعاسة وأعظم وأشدّ وأدْوَم وأخْلَد من عذاب دنياهم.. إنهم سيُشاهِدون وسيَحْضرون وسيَنالون من عذابٍ مُهْلِكٍ لا يُوصَف في يومٍ عظيمِ الشأن حيث سيَجتمع جميع الخَلْق عند خالقهم العظيم حيث الحساب الختاميّ الكبير، يومٍ عظيمِ الخير لأهل الخير، عظيمِ الشرّ لأهل الشرّ الذين خابوا وخسروا تمام الخيبة والخُسران بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم في حياتهم الدنيا
ومعني "أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ أَسْمِع بهم وأَبْصِر، وهذه صيغة تَعَجُّب في اللغة العربية تعني مَا أَسْمَعَهم ومَا أبْصَرَهم أيْ ما أعظم وأشدّ سَمْعهم لكل المَسْمُوعات وما أعظم وأشد بَصَرهم بكل المُبْصَرَات يومها، يوم القيامة، يوم يأتوننا أيْ يحضرون إلينا بأقوالهم وأفعالهم السيئة للحساب والعقاب والعذاب حيث سيسمعون بتمام السمع وسيبصرون بتمام البصر العذاب الذي لا يُوصَف المُجَهَّز لهم المُناسِب لسُوئهم، وفي هذا مزيدٌ من التعذيب والترْهيب لهم.. كذلك من المعاني أنه ما أعْجَب حالهم إذ لا يَسمعون ولا يُبْصِرون فى الدنيا حين يكون السمع والبصر وسيلة للإيمان بالله واتّباع الإسلام والسعادة به في الداريْن وهم أسمع ما يكون السمع وأبصر ما يكون البصر عندما يكون السمع والبصر وسيلة لسماع وإبصار العذاب المُتْعِس فى الآخرة!! وحيث لن ينفع لا سمع ولا بصر إذ قد فات الأوَان لأنه يومها وقت حساب لا عمل!! وفي هذا مزيدٌ من الحَسْرَة والندَامَة لهم لمزيدٍ من تَعْذيبهم وتَحْقِيرهم.. فلا يَتَشَبَّه أحدٌ بهم حتي لا يتعس تعاساتهم الدنيوية والأخروية.. ".. لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)" أيْ لكنهم اليوم أي في الدنيا في ضياعٍ واضحٍ أيْ في خطأٍ وابتعادٍ عن طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة حيث تَرَكوا عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم وذلك بسبب تَرْكهم الانتفاع بسمعهم وأبصارهم وحَوَاسِّهم أيْ بسبب إغلاقهم لعقولهم والانتفاع بها في الوصول للإيمان بربهم واتّباع إسلامهم ليسعدوا بذلك في الداريْن فهم بالتالي في تعاسة تامَّة فيهما، وما كل هذا التعطيل للحَوَاسِّ والإغلاق للعقول إلا بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)" أيْ وحَذّرهم يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده، حَذّر جميع الناس خاصة المُكذبين منهم والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين والذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، حَذّرهم بكلّ قُدْوَةٍ وحِكمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، حَذّرهم من يوم الحَسْرَة، أيْ يوم الندم والحُزْن والألم والهَمّ والتّعَب الشديد الدائم، يوم القيامة، حيث يَتَحَسَّر أيْ يَنْدَم ويَحْزَن ويَتَأَلّم المُسِيئون بسبب إساءاتهم، في وقتٍ لن ينفع فيه أيُّ حَسْرَةٍ حيث قد فات الأوَان لأنه يومها وقت حسابٍ لا عملٍ إذ سيُعاقَبُون علي سيِّئاتهم بما يُناسبها من عذابٍ لا يُوصَف، أنْذِرهم حين قُضِيَ الأمْرُ أيْ انْتَهَيَ وتَمَّ ونَفَذَ الأمْرُ والحُكْم وفُرِغَ من الحساب من الله تعالي وأُدْخِلَ المُسيئون النار لعذابهم وإتعاسهم في درجات النار علي حسب سُوئهم وأُدْخِل المُحْسِنون للتنعيم وللإسعاد إسعاداً تامَّاً خالداً لا يُوصَف في درجات الجنة علي حسب إحسانهم، وبالتالي لن ينفع وقتها أيُّ حَسْرَةٍ لأنه قد قُضِيَ الأَمْر، فلعلّ الذين يُسيئون بهذا الإنذار يَستيقظون بأنْ يَتّبِعوا أخلاق الإسلام لِيَنْجُوا ولِيَسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما.. ".. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)" أيْ أنذرهم لأنهم في دنياهم فى حالةٍ يحتاجون فيها إلى الإنذار وهى غَفْلتهم عَمَّا سيُفْعَل بهم وعدم إيمانهم بربهم وبَعْثهم وحسابهم وعذابهم فهُمْ غافِلون أيْ تائِهون ناسُون ضائعون لاهُون لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم وهم كذلك كافرون لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بالله ولا بالبَعْث ولا بيوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار ولذا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم فهم بالتالي تعِيسون في دنياهم وسيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)" أيْ إنّا لنا كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنّنا نحن وحدنا – وإنّا ونحن لتمام التأكيد علي ما سيُقال – الذين نَرِث الأرض ومَن عليها وفيها بعد فنائها وفنائهم كما يصير الميراث للوارِث ونحن الذين نَبْقَي بعد زوالها وزوالهم فقد حَكَمْنَا بفناء الكوْن وكل المخلوقات يوماً مَا بانتهاء الحياة الدنيا الزائلة الفانية وبداية الحياة الآخرة الباقية الدائمة الخالدة وإلينا وحدنا لا إلي غيرنا في الآخرة يوم القيامة سيُرْجَع جميع الناس حين نَبْعثهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم، ونحن أعلم بهم تمام العلم، لنكون نحن الحاكِم بينهم بحُكْمنا العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحْسِن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بنا وتمسّكه وعمله بديننا الإسلام، ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسِده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عنّا وعنه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائنا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنه بالتالي وبما أننا قادرون علي كل شيءٍ عالِمون به فإننا كذلك بمجرّد أن نقول لأيّ شيءٍ كُنْ فيكون كما نُريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسبابٍ ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف فسَنُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوني إذَن واشكروا لي وتوكّلوا عليَّ وحدي لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مثل الرسول الكريم إبراهيم (ص) وكل الرسل الكرام عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحْسِنُوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر وتَذَكّر دائماً في الكتاب أيْ مَا في القرآن العظيم مِن قصة إبراهيم (ص) لأنه كان صِدِّيقاً أيْ عظيماً كامِلَاً في التصديق بما جاءت به الرسل قبله من الله تعالي من حيث الاعتقاد والفهم والفكر والقول والعمل حيث كان صادقاً دائماً في كل أقواله وأفعاله ففِعْله دَوْمَاً يُوافِق قوله، وكان إضافة لذلك نَبِيَّاً من أنبيائنا الكرام – لأنَّ الصِّدِّيقين كثيرون وليسوا أنبياءً كأصحاب الرسل والمؤمنين بهم العاملين بكل أخلاق إسلامهم في كلّ زَمَن – الذين يُنَبِّئُون الناس بما نُوحِيهِ إليهم أيْ يُخْبِرونهم بالإسلام المُناسِب لعصرهم والذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه
ومعني "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مَظاهِر صِدْقه ونُبُوَّته ولكيفية توضيحه لأبيه ما هو فيه مِن بُعْدٍ عن ربه بكلِّ حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وتَدَرُّجٍ ورِفْقٍ وإحسانٍ وبِرٍّ وحُبٍّ وصِدْقٍ للوصول للحقّ ليسعد الجميع في الداريْن.. أيْ واذكر في الكتاب إبراهيم حين قال لأبيه غير المؤمن بالله تعالي الذي يَعْبُد الأصنام: يا أبتِ، أيْ يا أبي، وهو نداء يُفيد في اللغة العربية تمام الحبّ والقُرْب والاحترام والتقدير وأنَّ ما سيُقال بَعْده كله نَفْع وخير، فهو لم يُصَرِّح بضلاله وسَفَهه بل سأله عن السبب الذي يدعوه إلى عبادة ما لا يقبله أي عاقل منصف عادل، وذلك لتحريك عقله وفطرته، لماذا تَعْبُد أيْ تُطيع شيئاً لا يسمع مَن يَدْعوه ولا يُبْصِر أيَّ مُبْصَرٍ ولا يَنْفعك بأيِّ شيءٍ ولا يَمْنع عنك أيَّ ضَرَرٍ لأنه لا يستطيع إغناء ذاته أيْ نفعها أو مَنْع الضرَر عنها كما يُثْبِت الواقع ذلك فكيف يَنْفع غيره إذَن أو يَمنع عنه ضَرَره؟! والمقصود طاعة آلهةٍ أيْ مَعْبُوداتٍ غير الله تعالي كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها.. إنَّ هذا بيانٌ لتمام عَجْز مَا يَدَّعيه وأمثاله كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي.. أيْ بالعقل والمَنْطِق والانْصاف فإنَّ هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تملك أصلاً أقل أسباب القوة والقُدْرَة علي النفع والضرّ كالآذان للسمع وكالأعين للبصر ونحو هذا، فكيف تَرْقَيَ لأنْ تكون آلهة تُحَرِّك الكوْن وتَدَبُّر شئون كلّ الخَلْق؟!! أيُّ سَفَهٍ وانْحِطاطٍ هذا الذي هم فيه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة كتمام القُدْرَة وكمال العلم والسمع والبصر والرزق والنفع والضرَر وغير ذلك بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. إنَّ الذي يَسْتَحِقّ العبادة هو من له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي هي صفات الألوهِيَّة وهو الله تعالي وحده لا غيره.. والاستفهام والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ بكلِّ أدبٍ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)" أيْ هذا مزيدٌ من التوضيح للحقِّ لأبيه بكلِّ حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وتَدَرُّجٍ ورِفْقٍ وإحسانٍ وبِرٍّ وحُبٍّ وصِدْقٍ للوصول إليه ليسعد الجميع في الداريْن حيث لم يَصِفه بالجهل وإنْ كان هو في أعلي درجاته ولا نفسه بالعلم وإنْ كان هو كذلك بل وَضَعَ نفسه في صورةِ رفيقٍ له في سَيْرٍ يكون أعرف بالطريق منه فاستماله برفقٍ قائلاً مُكَرِّرَاً لفظ يا أبَتِ والذي يُفيد كل حبٍّ واحترامٍ ومزيدٍ من محاولة اسْتِمَالَته إليه إني قد وَصَلَنِي من العلم بالله تعالي وبدينه الإسلام عن طريق وَحْيه لي مَا لم يَصِلك فَسِرْ معي بالتالي علي ديني وإلي ما أدعوك إليه من حقّ أرْشدك وأوصلك صراطاً سَوِيَّاً أيْ طريقاً مستقيماً أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً مُتَّجِهاً دائماً نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقَ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، طريقَ الله والإسلام
ومعني "يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)"، "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)" أيْ قال له مُكَرِّرَاً لفظ يا أبَتِ لمزيدٍ من اسْتِمَالَته برِفْقٍ وحُبٍّ واحترامٍ مُتَدَرِّجَاً معه في توضيح الحقّ بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة: لا تُطِعْ الشيطان – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رَمْزٌ لكلِّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – فيما يُوَسْوِسه ويُحَسِّنه لك ويَدعوك إليه مِن عبادة غير الله تعالي كأصنامٍ وغيرها ومِن فِعْل الشرور المُتْعِسَة للنفس وللغير، لأنَّ الشيطان هو كان ولا يَزال وسيَستمرّ عَصِيَّاً للرحمن أيْ عاصِيَاً له أيْ مُخَالِفَاً لأخلاق الإسلام يَدعو لفِعْل الشرور والمَفاسِد والأضرار والتعاسات، فلا تُطِعه إذَن حتي لا تكون سَيِّئَاً تَعِيسَاً.. والرحمن اسم من أسماء الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. هذا، وإضافة العِصْيان إلى إسم الرحمن تُرْشِد المسلم ضِمْنِيَّاً إلى أنَّ المعاصي تَمنع مِن نَيْل رحمة الله تعالي بينما الطاعات هي أعظم الأسباب لنَيْلها.. "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)" أيْ يا أبي إني أخافُ وأُشْفِقُ عليك أن يَلْمَسَكَ ويُصيبك لو أَصْرَرْتَ علي عبادة غير الله تعالي عذابٌ قليلٌ أو كثيرٌ من الرحمن فتكون بسبب ذلك الإصرار وَلِيَّاً للشيطان أيْ مُوَالِيَاً له أيْ مُتَابِعَاً طائِعَاً صَدِيقَاً مُصاحِبَاً مُلَازِمَاً مُحِبَّاً لأنك أَطَعْته فتُعَذّب بالتالي في دنياك أولا بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلك كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكك واستئصالك التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراك سيكون لك ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لأولياء الشيطان، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)" أيْ قال له أبوه الكافر مُقَابِلَاً شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعاده في الداريْن بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قال أَمُعْرِضٌ أيْ أَمُبْتَعِدٌ مُنْصَرِفٌ أنتَ عن عبادة آلهتي أيْ مَعْبُوداتي أيْ أصْنامِي التي أعبدها كارِهٌ تارِكٌ لها يا إبراهيم – أمّا راغِب فيِ أيْ مُحِبّ، ولفظ أنت يريد به تَصْغيره وتَحْقيره – والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لإبراهيم (ص) حيث تَرَك عبادة آلهة آبائه وعَبَدَ غيرها إنه علي خطأٍ كبيرٍ فلعله بذلك يستيقظ ويعود لرُشْدِه فيَعبدها!!.. ".. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)" أيْ ولم يَكْتَفِ بتكذيبه وعِناده وبذَمِّه وتَقليل شأنه بل هَدَّده قائلاً إذا لم تَكُفّْ وتَمْتَنِعْ عن إعراضك عنها ودعوتك لي ولغيري لعبادة الله وحده وتَرْك عبادتها وتَسفيهها وإيذائها وتَسفيه مَن يعبدها ومُحاوَلَة مَنْعه عن عبادتها سأَرْجُمك – واللام والنون للتأكيد – أيْ سأَقْذِفك وأَرْمِيك بالحجارة حتي تُقْتَل، واهْجُرْنِي مَلِيَّاً أيْ وفارِقْنِي زَمَنَاً طويلاً، أبداً، ولفظ "مَلِيَّاً" مأخوذٌ من أمْلَيَ له أيْ أطالَ له الزمن
ومعني "قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)" أيْ قال له إبراهيم (ص) مُقابِلَاً إساءاته بما هو حَسَن كما هو خُلُق المسلم الذي يعمل بكل أخلاق إسلامه مُتَعَامِلَاً معه كابنٍ مسلمٍ بارٍّ بأبيه بكلِّ شَفَقَةٍ ورِقّةٍ ورِفْقٍ ولُطْفٍ وأَدَبٍ وبِرٍّ وإحسانٍ وحبٍّ واحترامٍ وحِكْمٍةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ وصَبْرٍ علي الأذي وحِرْصٍ تامٍّ صادقٍ علي إسعاده في الداريْن، قال مُوَدِّعَاً إيَّاه سلامٌ عليك مِنّي أيْ ستكون سالِمَاً آمِنَاً مِنّي مِن أيِّ سوءٍ حتماً فلن ينالَك مِن جِهَتِي أيّ شيءٍ تَكْرهه بل سيكون لك مِنّي دائماً كلّ سلام، كل خير، وسأستغفر لك ربّي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – أيْ وسأدعو لك ربي بهدايتك له وللإسلام من خلال أنْ تبدأ بأنْ تُحْسِن استخدام العقل ليهديك ويُيَسِّر لك أسباب الهداية فيَتَحَقّق لك بذلك مغفرة ذنوبك.. وفي هذا مُحاوَلَة أخيرة قبل مُفَارَقته لتَذْكِرَته بربه الغفور الرحيم الهادي الكريم.. ".. إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)" أيْ لأنه كان ولازالَ وسيَظلّ كريماً عظيمَ الكَرَمِ بي – وبكلّ مَن يَعبده – ذا فضلٍ عظيمٍ عليَّ مُحْسِنَاً إليَّ مُعْتَنِيَاً بي لطيفاً رحيماً معي قريباً مِنّي يُجيبني في كل ما أدعوه به يُسعدني دائماً في كل شئون حياتي.. هذا، ولفظ "حَفِيّ" مأخوذ من الحَفاوَة أيْ المُبَالَغَة في الاهتمام والإكرام
ومعني "وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)" أيْ وسَأُفارِقكم وسأَتْرُككم وسأتَجَنّبكم وسأَبْتَعِد عنكم وسأفارِق وسأَتَجَنّب مَا تدعون أيْ تَعبدون أيْ تُطيعون من دون الله أيْ غيره من آلهةٍ أيْ مَعْبُوداتٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، وسأظلّ حتماً أدْعُو أيْ أعْبُد ربّي وحده – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – ولا أشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة إرشاداً للمسلم لكي يكون مِمَّن يُحْسِنون الدعوة لله وللإسلام بأنْ يُحْسِن تصنيف المَدْعُوين ويعرف متي يتوقّف لفترةٍ أو يُغَيِّر أسلوبه أو مكان دعوته، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فالتَّرْك لبعض المَدْعُوين المُصِرِّين علي سُوئهم لفترةٍ في بعض الأحيان والأماكن هو ليس تَرَفّعَاً عليهم وتَرْكَاً لدعوتهم لأخلاق الإسلام وإنما لعلّ هذا الموقف يُوقظهم ويَردّهم لربهم ولإسلامهم لأنه قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم فيسعد الجميع بذلك.. ".. عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)" أيْ راجِيَاً آمِلَاً أن أكون سعيداً في الداريْن بعبادة ربي وبدعائه أيْ وبسؤاله دائماً حيث يجيب دعائي فيما أريد كما عَوَّدِني ولا أكون شَقِيَّاً أيْ تَعِيسَاً مِثْلكم فيهما بعبادة آلهتكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (4) من سورة مريم ".. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، ولفظ "عسي" أيْ لعلّ يُفيد الاحْتِمالِيَّة مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافِعَاً وتشجيعاً للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك عابدين لربهم داعين له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه مع تَوَكّله التّامّ علي ربه واستعانته الكامِلَة به.. إنَّ لفظ "عسي" يُفيد الاحْتِمَالِيَّة مع حُسْن الظنِّ بالله تعالي – كما هو مطلوبٌ دائماً من المسلم أن يعتادَ عليه في كل أحواله – والأمل الكبير في أنْ يُحَقّق له هذه السعادة، ولكنه (ص) قال عسي ليُذَكّر ذاته ومَن يَسمعه بالحرص الشديد علي التمسّك والعمل الدائم بكل أخلاق الإسلام وإلا لو قَصَّرَ في بعضها أو كلها فسَتَتَحَقّق بالقطع احتمالية عدم السعادة والشقاوة التي يخشاها وستكون علي قَدْر تقصيره، فهو يَخْشَيَ من ذاته لا من الله تعالي، وهذا يعني شِدَّة تَوَاضُعه وأدبه مع ربه مع شِدّة يقينه بأنه سيُسْعِده وشِدّة حِرْصه علي ذلك
ومعني "فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله تعالي بإبراهيم (ص) – وهي حتماً تكون لكل مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه من المسلمين – وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته له وتخفيفه عنه ما أصابه وتكريمه وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ فعندما فارَقَهم وفارَقَ مَا يعبدون أيْ يُطيعون من دون الله أيْ غيره من آلهةٍ أيْ مَعْبُوداتٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، أسْعَدْناه وعَوَّضْناه نحن ربه الكريم الوهَّاب عن صبره وتحمّله الأذي من أجلنا بسبب الإيمان بنا وتوصيله أمانتنا وديننا الإسلام للآخرين وثباته وصموده علي ذلك دون أيّ ترَاجُع، عَوَّضناه في مُقابِل كل ذلك ما هو أعظم منه وبما يُناسِب كرمنا وفضلنا وبما يُسْعِده ويُنْسِيه كل أذيَ وأسيَ، بأنْ وَهَبْنا له أيْ أعطينا له ورزقناه ابنه اسحاق – بعد إسماعيل – وأعطينا إسحاق يعقوب وجعلنا الأنبياء كلهم مِن هذه الذرِّيَّة الصالحة وأوْحَينا إليهم كل الكتب التي تحمل الإسلام ليكونوا هم الهُداة لكل البَشَر لربهم ولدينهم، لكل خيرٍ وسعادة، ويكون لإبراهيم كلّ هذا الخير في ميزان حسناته يوم القيامة لأنه كان هو السبب فيه.. وليس ذلك التكريم المعنويّ حيث أرفع مَكَانَة لأيّ بَشَر علي وجه الأرض وفقط، بل أعطيناه أيضا أجره في دنياه أي أعطيناه كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذرية الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطيناه تمام السعادة في الدنيا، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أي من الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر.. لقد أعطينا لإبراهيم إسحاق ابناً ويعقوب حفيداً، إذ في رؤية الأحفاد الصالحين سعادة، وكلا منهما قد هديناه أيضا مثل أبيهما إبراهيم أيْ أرْشَدناه وأوْصَلناه لطريق الهداية لله أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وجعلناهما رسوليْن مثله
ومعني "وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)" أيْ وأعطينا لهم ورزقناهم بفضلنا وكرمنا، أيْ لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وللصالحين من ذُرِّيَّاتهم، إضافة لمَنْزِلَة النّبُوَّة بشَرَفها وكَرَمها وعظيم ثوابها في الداريْن، من رحمتنا التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. لقد أعطيناهم النّبُوَّة والمُلْك والعِلْم والحِكْمَة والجاه والسلطان والكَرَامَة والعِزّة والرِّفْعَة والمَكَانَة ومِن كل الأرزاق.. ".. وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)" أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ جعلنا لهم كلامَ صِدْقٍ خيرٍ لا كذبٍ شَرٍّ مِن الناس في حَقّهم، كلاماً عَلِيَّاً أيْ كثير العُلُوّ والشرف أيْ في أعْلَيَ وأعظم وأكبر وأشرف درجةٍ رافِعَاً لمَكَانتهم لا خافِضَاً لها، والمقصود أنهم بعد موتهم جعل الله لهم ذِكْرَاً حَسَنَاً صادِقَاً عظيماً شريفاً كريماً بين الصالحين في الأرض كلها حتي يوم القيامة من شِدَّة حُبِّهم لهم بسبب صلاحهم ودعوتهم لكلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ فيُحِبّهم ويَدعو لهم ويَذْكُرهم بخيرٍ ويَقتدي بهم كلّ مَن يَتَذَكّرهم فيزدادون بذلك مَكَانَة أخرويّة إضافة لمكانتهم الدنيويّة التي كانوا فيها.. وهكذا كلّ مسلمٍ عليه أنْ يَتَشَبَّه بهم ويَفعل كل خيرٍ أثناء حياته ويَتْرُك خيراً كثيراً ما استطاع بعد مَمَاته يُنْتَفَع ويُسْعَد به ليَنْتَفِع هو بذلك ذِكْرَاً حَسَنَاً مَصْحُوبَاً بدعاءٍ حَسَنٍ يَنْفعه ويُسْعِده في آخرته
ومعني "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحْسِنُوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر وتَذَكّر دائماً في الكتاب أيْ مَا في القرآن العظيم مِن قصة موسي (ص) لأنه كان مُخْلَصَاً أيْ خَلّصْناه من أيِّ شائبةٍ مِن شَرٍّ ومِن فِعْله لَمَّاَ تَمَسَّك وعمل بأخلاق إسلامه فأَعَنّاه علي التمسّك والعمل بها كلها والاستمرار عليها وأسْعَدناه بذلك في الداريْن.. لقد أَخْلَصْناه لطاعتنا أيْ اسْتَخْلَصْناه أيْ اخترناه لها وعَصَمْناه مِن كل ما يُغْضِبنا وذلك لحُسْن خُلُقِه بسبب تمسّكه وعمله بإسلامه وهو الذي من أخلاقه الحَسَنَة أنه مُخْلِص حتماً فلا يقول قولا ولا يعمل عملا إلا لله لا لغيره (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء).. إنَّ ذلك قطعاً سيكون حال كل مَن يَفعل مِثْله من المسلمين حيث سيكون من الذين يُصْرَف عنهم السوء والفحشاء ويكون من المُخْلَصِين.. إنَّ موسي من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا.. إنَّ مَن أخْلَصه الله لنفسه من المسلمين فاختاره فهو حتماً مُخْلِصٌ له في عبادته، ومن أخلص فلم يشرك بالله شيئاً فهو بالقطع مِمَّن أَخْلَصه الله.. إنَّ كل مَن كان مُخْلِصَاً صارَ بفضل الله وكرمه مُخْلَصَاً.. إنَّ هذا التوفيق للإخلاص من هؤلاء المُخْلَصِين جاء بعد اختيارهم هم أولا لاتّباع ربهم وإسلامهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيَسَّرَ لهم سبحانه بعد ذلك كلّ هذا الخير ووفّقهم له (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، وكل الرسل بالقطع كامِلُوا الأخلاق مُخْلصون بلا أيِّ شكّ ولكنّ موسي (ص) اشْتُهِر بهذا الوَصْف.. ".. وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)" أيْ وكان إضافة لأنه كان مُخْلَصَاً كان كذلك رسولاً نَبِيَّاً، لأنه ليس كلّ مُخْلَصٍ يكون هكذا، والرسول هو الذي يُرْسَل إلي الناس بكتابٍ أُوُحِيَ إليه من خالقهم فيه وصاياه وأخلاقيّاته وأنظمته ليعملوا بها ليسعدوا بذلك في الداريْن، أمّا النبي فهو ليس معه كتاب وإنما يُنَبّئهم بما يُوحَيَ إليه من الله فيُذَكّرهم بتعاليم في كتبٍ سابقة ولأنبياء ورسل سابقين، وعند بعض العلماء هما بمعني واحد وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي أنَّ موسي (ص) كان يَحْمُل الصِّفَتَيْن حيث قد جمعهما الله تعالي له إذ كان يُنبيء الناس بالإسلام الذي في دين إبراهيم ومَن بَعْده من الرسل إضافة إلي أنَّ الله قد أَوْحَيَ إليه التوراة التي فيها الإسلام الذي يُناسب عصره
ومعني "وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)" أيْ ونادينا موسى من ناحية الطور اليُمْنَيَ من مكان وجود موسي، والطور جَبَلٌ بمنطقة سيناء بدولة مصر.. كذلك من معاني الأيْمَن أيْ المكان الأَبْرَك أيْ الأكثر بَرَكَة لأنَّ الله تعالي كَلّمه فيه وأنزل عليه التوراة بما فيها من إسلامٍ يُناسب عصره لكي يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه.. ".. وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)" أيْ وجعلناه يَقْتَرِب أثناء كَوْنه نَجِيَّاً أيْ مُنَاجِيَاً أيْ مُكَلّمَاً لنا أيْ لكي نَتَنَاجَيَ فيما بيننا أيْ نتكلّم بصوتٍ خفيضٍ لا يسمعه غيرنا حيث نُوحِي إليه وَحْيَنا، وهذا يَدلّ علي عظيم الحبّ والقُرْب والاعتناء والتكريم والتشريف من الله تعالي له.. لقد كانت طريقة الوَحْى إلى موسى (ص) أنْ كَلَّمه الله تكليماً حقيقياً مِن وراء حِجاب أيْ بغير أن يراه وكان كلاماً مباشراً بدون واسِطَةِ مَلَكٍ لكن بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، تكريماً له وعَوْنَاً لأنه سيُواجِه فرعون أطْغَيَ طغاة الأرض وقتها
ومعني "وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)" أيْ وأعطينا له ورزقناه بفضلنا وكرمنا بَعْضَاً مِن رحمتنا ومِن أجل رحمتنا به وعَطْفنا عليه وحُبّنا له – إضافة لمَنْزِلَة نُبُوَّته هو بشَرَفها وكَرَمها وعظيم ثوابها في الداريْن – أخاه هارون ليكون نَبِيَّاً معه من أنبيائنا فيكون عَوْنَاً له فى أداء مهمّة دعوة قومهما حيث المُهِمَّة عظيمة لأنهما سيُواجِهان أكبر مُتَكَبِّرٍ، فرعون ملك مصر في ذلك الوقت، الذي قال ما لم يقله أحد: أنا ربكم الأعلي
ومعني "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحْسِنُوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر وتَذَكّر دائماً في الكتاب أيْ مَا في القرآن العظيم مِن قصة اسماعيل (ص) لأنه كان صادِقَ الوَعْدِ دائماً فلم يُخْلِف أبداً وَعْدَاً وَعَدَ به بل وَفّيَ بكلّ وُعُوده، سواء مع الله تعالي بالوفاء بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، أو مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وأعظم دليلٍ علي أنه يَتَّصِف بهذه الصِّفَة أنه وَفّيَ بأصْعَب وَعْدٍ يمكن تنفيذه حينما وَعَدَ أباه إبراهيم (ص) بالصبر عند ذَبْحه إيَّاه حيث قال له ".. سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات:102) ولذا سَجَّلَ له القرآن الكريم هذه الصفة العظيمة وهي الاستعداد للتضحية بأيِّ شيءٍ حتي بالنفس – والوفاء بذلك – من أجل التمسّك والعمل بدين الله الإسلام ونَشْره والدفاع عنه، وقد نَجَّاهما الله تعالي من كل سوءٍ بسبب صِدْقهما في ذلك ووفائهما بوَعْدِهما وعَوَّضهما بكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. هذا، وكل الرسل بالقطع كامِلُوا الأخلاق صادِقوا الوَعْد بلا أيِّ شكّ ولكنّ إسماعيل (ص) اشْتُهِر بهذا الوَصْف.. ".. وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)" أيْ وكان إضافة لأنه كان صادق الوَعْد كان كذلك رسولاً نَبِيَّاً، لأنه ليس كلّ صادقٍ للوَعْد يكون هكذا، والرسول هو الذي يُرْسَل إلي الناس بكتابٍ أُوُحِيَ إليه من خالقهم فيه وصاياه وأخلاقيّاته وأنظمته ليعملوا بها ليسعدوا بذلك في الداريْن، أمّا النبي فهو ليس معه كتاب وإنما يُنَبّئهم بما يُوحَيَ إليه من الله فيُذَكّرهم بتعاليم في كتبٍ سابقة ولأنبياء ورسل سابقين، وعند بعض العلماء هما بمعني واحد وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد، وإسماعيل (ص) كان علي دين الإسلام لأبيه إبراهيم (ص) مُرْسَلٌ به للناس مُنَبِّيءٌ إيَّاهم بأخلاقه
ومعني "وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)" أيْ ومن صفاته الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة كذلك أنه كان يُوجِب ويُؤَكّد ويُوصِي بشدّة بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ أهله والمقصود كلّ أهل الإسلام بَدْءَاً من النفس والأسرة والأقارب والأنْسَاب والجيران والأصدقاء والزملاء ثم الأَبْعَد فالأَبْعَد بإقامة الصلاة أيْ بالمحافظة علي كل الشعائر – وأهمها الصلاة – والتي تُحَرِّك المَشاعِر بداخل العقول فتَدْفَع بذلك لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ، كالذكر والدعاء وما شابه هذا، مِمَّا يُجَهِّز لإحسان كلّ المعاملات – ومنها إعطاء الزكاة والتي هي من أسس قيام الحياة الاقتصادية ونموّها للناس – بكل أخلاقيَّات الإسلام في كل مجالات الحياة المختلفة الاجتماعية والإدارية والسياسية والتجارية والفكرية وغيرها، ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن.. هذا، وكل الرسل بالقطع كامِلُوا الأخلاق يأمرون أهلهم بالصلاة والزكاة بلا أيِّ شكّ ولكنّ إسماعيل (ص) اشْتُهِر بهذا الوَصْف.. ".. وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)" أيْ وكان في حُكْم ربه وشَرْعه بكرمه وفضله ورحمته، مَرْضِيَّاً أيْ رَضِيَّاً أيْ راضِيَاً تمام الرضا أيْ قَابِلا مرْتَاحَاً تماماً بما يُعْطيه من عطاء، ومَرْضِىّ عنه منه برضاه التامّ في كل أقواله وأفعاله بسبب إيمانه الصادق وعمله الصالح من خلال تمسّكه بكل أخلاق إسلامه، فيُحَبِّبه لكل خَلْقه فيُحِبُّوه ويكون أيضا مَرْضِيَّاً عنه منهم، بما يعني تمام الأمن له والراحة والنعيم والخير والسعادة في دنياه ثم أخراه، فهو يَرْضَيَ ويُرْضِي غيره ليَسعد الجميع في الداريْن
ومعني "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحْسِنُوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر وتَذَكّر دائماً في الكتاب أيْ مَا في القرآن العظيم مِن قصة إدريس (ص) لأنه كان صِدِّيقاً أيْ عظيماً كامِلَاً في التصديق بما جاءه من إسلامٍ من الله تعالي من حيث الاعتقاد والفهم والفكر والقول والعمل حيث كان صادقاً دائماً في كل أقواله وأفعاله ففِعْله دَوْمَاً يُوافِق قوله، وكان إضافة لذلك نَبِيَّاً من أنبيائنا الكرام – لأنَّ الصِّدِّيقين كثيرون وليسوا أنبياءً كأصحاب الرسل والمؤمنين بهم العاملين بكل أخلاق إسلامهم في كلّ زَمَن – الذين يُنَبِّئُون الناس بما نُوحِيهِ إليهم أيْ يُخْبِرونهم بالإسلام المُناسِب لعصرهم والذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. هذا، وقد سُمِّيَ إدريس لكثرة دراسته لكتاب الله تعالى الذي أُوحِيَ إليه وقتها، وهو جدّ أبي نوح (ص)
ومعني "وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)" أيْ وجعلنا له بسبب إيمانه بربه وعمله بكل أخلاق دينه الإسلام مَكَانَة عالِيَة عظيمة العُلُوِّ والشرف وحِكْمَة ومُلْكَاً وحياة آمنة سعيدة في الدنيا والآخرة
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيّبة الحَسَنَة الكريمة السابق ذِكْرها والذين ذَكَرْنا لكم خَبَرهم، هم الذين أنْعَمَ الله عليهم بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ بفضله وكرمه ورحمته وتوفيقه بكل نِعَم الدنيا والآخرة من كل خيرٍ وسعادة من النّبِيِّين الذين بعضهم من ذرِّيَّة آدم مباشرة كإدريس وبعضهم من ذرية مَن حملنا مع نوحٍ في السفينة كإبراهيم وبعضهم من ذرية إبراهيم كإسماعيل – والذي هو جدّ الرسول الكريم محمد (ص) خاتم النّبِيِّين – وإسحق ويعقوب وبعضهم من ذرية إسرائيل أيْ يعقوب كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، أنْعَمَ الله عليهم بأنْ جَعَلهم – وغيرهم – نَبِيِّين أيْ يُنَبِّئُون الناس عنّه الإسلام الذي يُوحِيه إليهم والذي يُناسب عَصْر كلٍّ منهم والذي سيُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه، وسبب اختيارهم لأنْ يكونوا أنبياء أنهم أحسن البَشَر خُلُقَاً قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فآمَنُوا بما كان عليه أبيهم آدم أيْ آمنوا بربهم وعملوا بأخلاق إسلامهم فأنْعَمَ عليهم بأنْ يَسَّرَ لهم أسباب ذلك فسَعِدوا في أنفسهم بنِعَمه وأسْعَدوا مَن حولهم في الداريْن.. ".. وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا.." أيْ ومِن جُمْلَة مَن أنْعَمَ الله عليهم، أولئك الذين هديناهم إلي الإسلام كعموم المسلمين الصالحين المُتّبِعِين لأنبيائهم في العمل بكل أخلاق إسلامهم، ولقد هديناهم لأنهم بدأوا هم أولا بأنْ اختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم فيَسَّرْنا لهم أسباب الهداية له، واجْتَبَيْناهم أي اخْتَرْناهم لكي يَدعوا الناس إليه، أي أرْشَدْناهم وأوْصَلْناهم إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع هدايتهم اجتبيناهم أيْ اخترناهم بسبب حُسْن إسلامهم ليكونوا دعاة لنا وللإسلام لمَن حولهم من الناس.. ".. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ.." أيْ هؤلاء الذين أنْعَمَ الله عليهم من النّبِيِّين ومِمَّن اتّبعوهم من المسلمين الصالحين من صفاتهم وأحوالهم أنهم إذا تُتْلَىَ أيْ تُذْكَر وتُقْرَأ عليهم آيات الرحمن، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق أنبيائهم أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم الأنبياء لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم فيها أخلاقِيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، والرحمن اسم من أسماء الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. هذا، وإضافة الآيات إلى إسم الرحمن لتذكير الناس بأنَّ آياته كلها رحمة لهم أيْ كلها خير وأمن وسعادة في الداريْن لمَن يعمل بها وليست أبداً شَرَّاً وإرْهَاباً وتعاسة بهم فيهما.. ".. خَرُّوا سُجَّدًا.." أيْ خَرُّوا ساجِدين – والسُّجَّد جَمْع ساجِد – أيْ يَخضعون لخالقهم ولتوجيهاته وإرشاداته ويَستجيبون ويَستسلمون لها ويقومون بطاعتها وتطبيقها في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور لأنهم يعلمون أنها أساس سعادتهم السعادة التامّة في دنياهم وأخراهم، وهم أيضا يَخِرُّون أي يَسقطون من أعلي لأسفل يَسجدون لله علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وإسعاده في الداريْن وليَتَدَرَّبوا علي التواضُع لكلّ خَلْق الله وعدم الاستعلاء عليهم وعلي كل كوْنه ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما، وأثناء سجودهم وخارجه هم دائما يُسَبّحون الله أي يُبعدونه عن كل صفة لا تَليق به، وهم دوْما يحمدونه أي يشكرونه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ، يشكرونه بعقولهم باستشعارهم لهذه النِعَم وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وهم علي الدوام يَذْكرونه ويَدْعونه ويَستغفرونه، وبالجملة هم في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم يَعبدون أيْ يُطيعون الله تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة وحده بلا أيّ شريكٍ آخر (برجاء مراجعة معاني العبادة (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَبُكِيَّاً (58)" أيْ وباكِين، والبُكِيّ جَمْع باكِي، أيْ وهم يَبْكُون، فهُمْ عند صلاتهم وسجودهم ودعائهم ربهم وسماعهم آيات الرحمن مِن شِدَّة حبّهم له ولها ولدينهم الإسلام – أو إذا فَعَلوا شيئاً سَيِّئاً – يَتَذَكّرون دائماً رحماته سبحانه وخَيْراته وسعاداته فتَتَحَرَّك مشاعرهم فتَدْمَع أعينهم حبَّاً في كلّ عطاءٍ وفضلٍ منه في الداريْن حيث يَبْكُون فَرَحَاً بأمنه وتوفيقه ورعايته ورضاه وحبه ورزقه واستبشاراً بما ينتظرهم مِن أتمّ السعادة في دنياهم ثم أخراهم وقد يَبْكون كذلك مِن شِدَّة حزنهم إذا فُرِضَ وفَعَلُوا سُوءَاً مَا علي فقدانهم حب ربهم وعوْنه فيَدْفَعهم هذا للمُسَارَعَة بالتوبة والعودة له ولرحمته ولإسلامهم لتعود لهم سعاداتهم، ويَزيدهم سَماع آيات الرحمن وقراءتها وتَدَبُّر مَا فيها مِن أخلاقٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ خُشُوعَاً، وكذلك يزيدهم الله تعالي بفضله وكرمه وتوفيقه وتَيْسيره خشوعاً كما وَعَدَ في قوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، أيْ يزيد عقولهم ومشاعرهم بداخلها كلّما استمعوها لِينَاً واطمئناناً وأمْنَاً وسكينة وهُدوءاً واستقراراً وَرِقّة وخوفاً من ربهم ومُراقَبَة وحبّاً له واستشعاراً بعظمته وهَيْبته وتَدَبُّرَاً وتَعَقّلاً فيها وفي الإسلام الذي بها وانْقِيادَاً واسْتِسْلامَاً وطاعة له وعَمَلاً به كله في كل شئون حياتهم لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة الأنفال "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، والآية (60) من سورة "المؤمنون" "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)"، والآية (23) من سورة الزمر "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ.."، والآيات (107)، (108)، (109) من سورة الإسراء "..إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا"، "وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا"، "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلَاً بكل أخلاق إسلامك في كل أقوالك وأفعالك بكل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ فجاء مِن بَعْد هؤلاء الأخْيَار الصالحين السابق ذِكْرهم الذين أَنْعَمَ الله عليهم خُلَفاء سَيِّئُون شديدوا السُّوء حيث تَرَكوا العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها أثناء حياتهم وتَمَثّل ذلك في أنهم قد أضاعوا الصلاة أيْ تَرَكوها تماماً أو أحياناً أو لم يُواظِبوا عليها أو أخّرُوها عن أوقاتها أو لم يُتْقِنوها ويُحْسِنوها أو تَهَاوَنوا بها وبأهميتها فأهملوا الاستفادة منها في تحريك مَشاعِرهم ككلّ شعائر الإسلام فلم تَدْفعهم لحُسْن التّعامُل مع الآخرين ليَسعدوا بذلك، أو ما شابه هذا مِن إضاعةٍ لها، فتَرْك الصلاة والتقصير فيها والتهاوُن بها والتي هي عِمادٌ مُهِمٌّ من أعمدة الإسلام يُسَهِّل تَرْك غيرها وغيرها من أخلاقه حتي تُتْرَك معظمها أو حتي كلها، كما تَمَثّل تَرْكهم لأخلاقه بعضها أو جميعها في أنهم قد اتّبَعوا الشهوات أيْ كانوا فَجَرَة أيْ مُنْغَمِسين في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكثرةٍ وبلا مُبَالاَةٍ لأيِّ نتائج ويَسيرون خَلْفها ونحوها حيث كانت سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً علي الآخرين وظلماً لهم أم فسادً ونشراً للفساد والشرّ أم ما شابه ذلك.. ".. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)" أيْ فبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة المُنْتَظَرَة سيُلاقُون دائماً أمامهم غَيَّاً أيْ شَرَّاً وسُوءَاً وضلالاً وضَيَاعَاً، في مُقابِل سُوئهم، في دنياهم أولاً، يَتَمَثّل في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم، يَتَمَثّل فيما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنه أمرٌ مُتَوَقّعٌ أنَّ مَن أضاعوا الصلاة واتّبَعوا الشهوات سوف يَلْقَوْن غَيِّاً لأنه من باب الأسباب والنتائج كما نَبَّهَ تعالي لذلك بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7) فمَن أحْسَنَ فلابُدَّ أنْ يَجِدَ حُسْنَاً أيْ خيراً وأمْنَاً وسعادة في الداريْن ومَن أساء فلابُدَّ أنْ يَجِدَ إساءة أيْ شَرَّاً وقَلَقَاً وتعاسة فيهما
ومعني "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره مَنْ تابَ أيْ قام بالتوبة من ذنوبه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. إنه لولا فتح الله تعالي التواب الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَآمَنَ.." أيْ وأسْلَمَ واتَّبَعَ الإسلام إنْ كانَ قد كَفَرَ أيْ لم يُصَدِّق بوجود إلهٍ أو إنْ كان قد أشْرَكَ أيْ عبد غير الله تعالي كصنمٍ أو غيره أو إنْ كان مؤمناً ولكنّه قد كان فاعِلَاً للشرور والمَفاسد والأضرار فيكون إيمانه بمعني تجديد الإيمان بالله بعد توبته بكل صِدْقٍ وإخلاصٍ وإحسانٍ أيْ له تعالي لا رياءً للناس بأنْ يَتْرُك الشَّرَّ ويَفعل الخير ويستكمل مَا قد يراه في نفسه ناقصاً من كل أخلاق الإسلام ويُصَحِّح سريعاً ما قد يَحدث منه من أخطاءٍ أو تَقْصِيراتٍ أو هَفَوَاتٍ أثناء هذا ويتوب منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل وأنْ يَثْبُت ويُدَاوِم علي ذلك بلا أيِّ تَرَاجُعٍ لأيِّ سبب.. ".. وَعَمِلَ صَالِحًا.." أيْ ودَلّلَ وبَرْهَنَ علي حُسْنِ توبته وإيمانه بأنْ عمل صالحاً بعد ذلك واستمرّ عليه أيْ عمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق، وبالجملة عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.." أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها، أي الذين تابوا وآمَنُوا وعملوا الصالحات، لابُدَّ حتماً يُدْخِلهم خالقهم الكريم الودود الغفور الرحيم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)" أيْ ولا يُنْقَصُون أيّ شيءٍ من جزاء أعمالهم الخَيْرِيَّة مهما كان ضئيلاً.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم شيئاً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)" أيْ هذه الجنة التي يدخلها مَن تابَ وآمَنَ وعمل صالحاً هي جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخْرِجه أحد، وهي التي وَعَدَ الرحمن بها عباده المؤمنين الصالحين التائبين بالغَيْب أيْ فآمنوا أيْ صَدَّقوا بها بالغيب أيْ وهم غائبون عنها وهي غائبة عنهم كما آمَنوا بكلِّ غَيْبٍ غيرها أيْ صَدَّقوا تماماً بلا أيِّ شكّ بكلّ ما غابَ عنهم من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. هذا، والوَعْد يعني أنَّ الرحمن بفضله وكرمه قد أعْطَيَ وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ، وإضافة الوَعْد بالجنة إلى إسم الرحمن هو لتذكير الناس بأنَّ وعوده كلها التي وَعَدَهم إيَّاها في الدنيا في كتبه وآخرها القرآن العظيم هي رحمة أيْ خير وأمن وسعادة تامّة لهم في دنياهم وأخراهم، وأنَّ دخول الجنة هو برحمته الواسعة وفضله وكرمه وإحسانه الواسع لا بأعمالهم وإنما الأعمال هي لتحديد درجاتهم فيها بكلّ عدل، وذلك لأنَّ كل أعمالهم في دنياهم مهما عَظُمَت لا تُساوِي نعيم لحظة بها ولذا فدخولها هو من رحمته بهم وحبه لهم.. هذا، ونسبة العباد إليه تعالي أنهم عباده هو تكريم لهم ورَفْع مِن شأنهم وحُبّ فيهم وتشجيع لهم لعمل الخير والاستمرار عليه حيث صِفَة العبد لله تعني تمام العمل بأخلاق الإسلام والحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره.. ".. إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حَتْمِيَّة مَجِيء وتَحَقّق هذا الوَعْد الصادق – وغيره مِن أيِّ وَعْدٍ من وُعُود الرحمن سبحانه – بلا أيِّ إخلاف.. أيْ إنَّ الله الرحمن كانَ ولا زالَ وسيَظلّ دائماً حَتْمَاً وَعْدُه مَأْتِيَّاً أيْ آتِيَاً أيْ سيَأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو بعد حين كما أنَّ من معاني مَأْتِيَّاً أيْ يأتيه المَوْعُود له أيْ يَحْضر ويَجِيء ويَصِل إليه قطعاً – ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار – وذلك لأنه تعالي لا يُخْلِف الميعاد أيْ المَوْعِد مُطْلَقَاً لأنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذَن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
ومعني "لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)" أيْ هذا استكمالٌ للنعيم العظيم التامِّ الذي هم فيه حيث لا يسمعون فيها أيْ في الجنة كلاماً لغواً، أيْ كلاماً لا يُفيد ومِن باب أولي سَاقِطاً بَذِيئاً، ولا يسمعون إلا فقط سلاماً أيْ كلاماً طيِّباً سالِماً من أيِّ لغوٍ أو أيِّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ مُشْتَمِلَاً على كلّ الأمان المتكرِّر والتّحِيَّة الدائمة والحبّ والتّقارُب والتّلاحُم والأدب الدائم والسرور المستمرّ، وكل ذلك يُؤَدِّي حتماً بلا أيّ شكّ إلي نِعْمَةٍ نَفْسِيَّةٍ هائلةٍ حيث تمام راحة البال والأمن والسعادة.. ".. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)" أيْ ومع طمأنينة أنفسهم واستقرارها وراحة بالهم وأمنهم، أيْ ومع سعادتهم النفسية التامَّة، هناك كذلك سعادة مادِّيَّة تامَّة مُتَمَثّلَة في أنَّ لهم رزقهم فيها أيْ عطاؤهم من عظيمِ ووَاسِعِ رزق ربهم وكرمه وفضله ورحمته ورضاه عنهم وحبه لهم من كل أنواع الأرزاق أيْ العطاءات والخيرات النافعات المُسْعِدات التي لا تُحْصَيَ الهَنيئة الطيِّبَة الوافِرَة الواسعة السَّهْلَة حسبما يريدون ويَتمنّون، من أيِّ مكانٍ وبكل وسيلةٍ، بُكْرَة وعَشِيَّاً أي من الصباح حتي المساء والمقصود دوام أرزاقهم في كل أوقاتهم ولحظاتهم بلا أيِّ انقطاعٍ لأنه ليس في الجنة أوقات مُحَدَّدَة كأوقات الحياة الدنيا ولكنه سبحانه يُخاطبنا بما تدركه عقولنا وبما نعرفه من مقاييس دنيانا، فهم بالجملة في نعيمٍ وسرورٍ دائمٍ تامٍّ لا يُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)" أيْ هذه الجنة التي وَصَفْناهَا لكم بهذه الصفات العظيمة هي التي نُعطيها ونُمَلّكها لمَن كان تَقِيَّاً مِن عبادنا كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، وهي ملك خالد له لا يُرَدّ، من عظيم فضلنا وكرمنا عليه ورحمتنا وحُبّنا له، بسبب الذي كان يعمله من خيرٍ وَصَّيناه به في الإسلام أثناء حياته الدنيا.. والتّقِيّ هو الذي يَخاف الله ويُراقِبه ويُطيعه ويَجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، ويكون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو سبحانه قادرٌ علي كل شيء، فهو الذي يُحَرِّك الأسباب والأمور كلها، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، من أجل تحقيق مصالح وسعادات الخَلْق كله.. وإذا كنتَ من المُتَّقِين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، فهو سبحانه يعلم كل شيءٍ عن بني آدم وكل مخلوقاته.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)" أيْ وقل يا جبريل لرسولنا الكريم محمد (ص)، ولكي يَعْلم كلُّ مسلمٍ وكلُّ عاقل: وما نَتَنَزّل نحن الملائكة من السماء إلى الأرض – ولا أيّ جُنْدٍ من جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه مِن أيِّ مكانٍ لآخرٍ وفي أيِّ زمان – إلا بأمر ربك لنا، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، لكي نُحَقّق مصلحة مَا مِن مصالح الخَلْق حسبما تَتَطَلّبه حِكمته ورحمته، فلا نَتَحَرَّك إلا بأمره وبإذنه وبإرادته لا مِن تِلْقاء ذواتنا ولا نَعْصِي له أمراً أبداً بل نُنَفّذه تماماً بلا أيِّ تأخيرٍ أو تغيير.. والملائكة جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه.. وفي هذا بيانٌ أنه تعالي هو صاحب الملْكِ كله في كل كَوْنه في الدنيا والآخرة فهو وحده مالِك وحاكِم جميع البَشَر وكل الكوْن وكل الخَلْق مُلْكَاً تامَّاً المُتَصَرِّف في كل شئونهم المُدَبِّر لها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لهم المُسْتَغْنِي عنهم القادر تماما عليهم العالِم تماما بهم ليس معه أيّ شريك، فاعبدوه أيْ أطيعوه إذَن أيها الناس واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره وعلي كَمَال صِفاته الحُسْنَيَ.. أيْ لربك سبحانه وحده عِلْم ما بين أيدينا أيْ يعلم ما هو أمامنا نحن الملائكة – وبالقطع أنتم البَشَر وكل خَلْقه – أيْ حاضرنا ومستقبلنا، وما خَلْفنا أيْ وراءنا أيْ ماضينا، وما بين ذلك أيْ ومُدّة حياتنا كلها في كل لحظةٍ وكل مكان، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظر الناس في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خيرٍ وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره وعلي كَمَال صِفاته الحُسْنَيَ.. أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لربك أن يكون نَسِيَّاً أيْ ناسِيَاً سبحانه لشيءٍ من الأشياء أو لأحدٍ مِن خَلْقه تارِكَاً مُهْمِلَاً لشئونهم بل كانَ ولازَالَ وسيَظلّ دائما حتماً عالماً بكل أحوالهم راعِيَاً لها كلها يُحِقّق لهم في كل لحظةٍ مَا فيه صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُفِيدَاً مُسْعِدَاً لهم، كما أنه ما كان أبداً ناسِيَاً لأيِّ عملٍ من أعمالهم من خيرٍ أو شَرٍّ ولوعوده بمُحاسَبتهم عليها فسيُجازيهم بما يُناسب في دنياهم وأخراهم بكل دِقّةٍ وعدل، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِرُوا وأحْسِنوا واستمرّوا علي إحسانكم أيها المُحْسِنون وتُوبوا وأَصْلِحوا أيها المُسِيئون ليَسعد الجميع في الداريْن
ومعني "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)" أيْ ربك الله وحده بلا أيِّ شريكٍ هو ربُّ السماوات والأرض وما بينهما، أيْ خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئية، فهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أيْ مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه، وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فهو لا يُمكن أبداً أن يَتركهم أو يهملهم فيهما.. ".. فَاعْبُدْهُ.." أيْ وبالتالي إذَن ولذلك كله فاعبده يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل أيْ فأَطِعْه وحده ولا تُشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وأَخْلِص له وأَحْسِن في كل أقوالك وأفعالك بكل شئون حياتك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، واشْكُره ليَزيدك، وتوكّل عليه دائماً ليُعينك ويُيَسِّر لك كل أمورك، لتَسعد بذلك كله تمام السعادة في دنياك وأخراك.. ".. وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ.." أيْ وكُن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم دائماً ثابِتَاً مُستمرّاً علي عبادته طوال حياتك حتي تَتِمّ سعادتك في الداريْن، وحتي إنْ أصابك، بصورةٍ استثنائيةٍ ولفترةٍ مَا، اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا فاصْبِر عليه وأَحْسِن التّعامُل معه حتي تخرج منه مستفيداً استفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. والاصْطِبار هو درجة عالية من الصبر لا يُصاحِبها أيّ مَلَلٍ أو غضبٍ أو يأسٍ أو نحوه، أيْ الصبر والثبات والصمود والاستمرار بكلّ قوّةٍ واستعانةٍ بالله ومقاومةٍ للشرِّ وبكل أملٍ وتَفاؤلٍ وأمنٍ واطمئنانٍ واستبشارٍ وانتظارٍ بكلّ لحظةٍ لكل خيرٍ وسعادة.. ".. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)" أيْ هذا استفهامٌ للنفْي التّامِّ القاطِع الحاسِم بلا أيِّ احتمال، وللتعليل لبيان سبب استحقاقه سبحانه وحده للعبادة.. أيْ هل عَلِم أو عرف أحدٌ شَبِيهَاً ومَثِيلَاً له، أيْ لله ربّ السماوات والأرض وما بينهما، في كمال كل صفاته الحُسْنَيَ؟! بالتأكيد لا وألف لا!! تعالَيَ عُلُوَّاً كبيراً، أيْ إنك لا تَعْلَم ذلك قطعاً، لأنه ليس يُمَاثله تعالى شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لأنّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، لأنه الخالق لكل شيءٍ القادر عليه العالِم به تماما، وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه بلا أيّ شريكٍ معه
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)" أيْ ويقول الإنسان المُكَذّب بالبعث وبيوم القيامة والحساب والعقاب فيه وبالجنة والنار مُتسائلاً مُسْتَنْكِرَاً رافِضَاً له مُسْتَبْعِدَاً مُسْتَغْرِبَاً حُدُوثه مُسْتَهْزِئاً به مُسْتَكْثِرَاً علي خالِقه فِعْله: هل إذا مِتّ وتَحَلّل جسدي وأصبحتُ عظاماً مُتَفَتّتَة وكنتُ تُرابَاً سأُخْرَجُ حَقّاً مُؤَكَّدَاً – واللام تُفيد هذا التأكيد في سؤاله لبيان مزيدٍ من الاستغراب، واستخدام لفظ "يقول" وهو مضارع يُفيد تِكْرار واستمرار قوله هذا – من قَبْرِي حَيَّاً مرة أخري بجسدي وروحي لحياةٍ آخرةٍ أُحَاسَبُ فيها علي كل أقوالي وأفعالي وأُجَازَيَ بكل خيرٍ وسعادةٍ علي كل خيرٍ فَعَلْته في جنةٍ نعيمها لا يُوصَف وأُعَذّب وأُجَازَيَ بكل شَرٍّ وتعاسةٍ علي كل شَرٍّ قُمْتُ بفِعْله في نارٍ عذابها لا يُوصَف؟! إنَّ هذا لا يُصَدِّقه عقلٌ أبداً!!.. إنَّ السبب في سؤاله هذا وما يُشْبِهه مِن أسئلةٍ وفي كُفره وضَلاله وسُوئه هو أنَّ هذه السَّفِيه ومَن يَتَشَبَّه به قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وهو دليلٌ عقليّ مَنْطِقِيّ واضحٌ قاطِعٌ حاسِمٌ على إمْكَانِيَّة البَعْث يَقْبله أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل.. أيْ وهل يقول ذلك ولا يَتَذكّر أيْ ولا يَتَفَكّر ويَتَنَبَّه ولا يَنْسَيَ هذا الإنسان المُكَذّب للبَعْث أنّا خَلَقناه أيْ أننا نحن قد أوْجَدْناه بقُدْرَتنا مِن عَدَم، مِن قَبْل أيْ مِنْ قبل الحالة التي هو فيها الآن ومِن قبل سؤاله وقوله هذا القول السَّفِيه ومِن قبل بَعْثه، ولم يكن شيئاً أي شيئاً مَذكوراً أيْ مَوْجُودَاً أصلاً بين الناس إلا فى عِلْمنا ثم أوجدناه بعد ذلك من نُطْفةٍ فرَعَيناه ونَمَّيناه في رَحِم أمه وأخرجناه بعد ذلك علي أحسن الصور التي هو عليها، فمَن كان قادراً علي ذلك فهو قادرٌ حتماً علي أن يُعيد إحيائه بعد موته وبَعْثه يوم القيامة لحسابه علي ما فَعَل حيث الخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قَدْر مَا تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. إنَّ هذا المُكَذّب بالبعث لو تَذَكّرَ هذه الحقيقة وتَدَبَّرها مَا كذَّبَ به وما سألَ هذا السؤال أإذا مَا مِتُّ لسوف أُخْرَجُ حَيَّا
ومعني "فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)" أيْ يُقْسِم الله تعالي ربّ الرسول الكريم محمد (ص) وربّ كل الرسل الكرام وربّ كل مسلمٍ وربّ كل إنسانٍ – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – وربّ السماوات والأرض والكوْن كله والخَلْق كلهم، يُقْسِم بذاته العَلِيَّة – وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد!! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه – أننا سنَحْشُرهم، واللام والنون لمزيدٍ من التأكيد علي القَسَم، أيْ سنَجْمَعهم ونَحْشدهم مَحْشُورين مُتَزَاحِمِين يوم الحَشْر أيْ يوم القيامة، بعد بَعْثهم، أيْ نَحْشُر هؤلاء المُكَذّبين بالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار – والناس جميعاً بالقطع – لن نَتْرُك منهم أحداً ولن يَفْلِت حتماً منهم أيُّ أحد، ولَنَحْشُرَنَّ بالتأكيد معهم الشياطين أيْ أشرار الناس الذين كانوا يُرْشِدونهم ويُوَجِّهونهم في دنياهم لكل شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فاستجابوا لهم بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم – والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه – وذلك للحساب والعقاب والعذاب بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. ".. ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)" أيْ هذا مَشْهَدٌ مِن مَشَاهِد يوم القيامة والذي يكون شديداً صعباً طويلاً مُرْعِباً علي المُكَذّبين خفيفاً سَهْلَاً قصيراً مُبَشّرَاً بكل خيرٍ وسعادةٍ للمؤمنين الذين أحسنوا الاستعداد له بالعمل بأخلاق إسلامهم في دنياهم حيث هو يوم جائزتهم التي وعدهم بها خالقهم الكريم الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا.. أيْ ثم لنُحْضِرَنّهم حول جهنم جِثِيَّاً – جَمْع جاثٍ – أيْ جاثِين أيْ جالِسين علي رُكَبهم بتَحَفّزٍ وخوفٍ وانتظارٍ لِمَا هو مَكروه مُسيء مُخيف مُؤلم لهم بما يُفيد تمام الذلّة والإهانة والرُّعْب الذي يمنعهم من القُدْرَة علي الوقوف، وهذا نوعٌ من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ الذي لا يُوصَف في النار
ومعني "ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)" أيْ ثم بعد إحضارهم حول جهنّم جِثِيَّاً، لَنُخْرِجَنَّ ولَنَقْتَلِعَنَّ ولَنَأْخُذَنَّ بكلِّ غِلْظَةٍ وشِدَّةٍ – واللام والنون لتأكيد الفِعْل – مِن كل طائفةٍ ومجموعةٍ وفِرْقةٍ تَشَايَعَتْ أيْ أيَّدَ واتّبَعَ وعاوَنَ أفرادها بعضهم بعضاً على الكفر أو الشرك أو النفاق أو الظلم وعلي فِعْل الشرور والمُفاسد والأضرار، أيُّهُمْ أشَدُّ علي الرحمن عِتِيَّاً أيْ أيّ المُسِيئين من تلك الشيعة أشدّ تَمَرُّدَاً علي الرحمن وعِصْيَانَاً له ومُخَالَفَة لدينه الإسلام وفِعْلَاً للشرور والمَفاسد والأضرار وظُلْمَاً وتَكَبُّرَاً، فنَبْدأ بعذابهم بما يُناسبهم مِن أشدّ العذاب قَبْل الأقلّ منهم في السوء مِمَّن معهم في شِيعتهم حيث يُدْخَلُون النار بَعْدَهم وفي عذابٍ أقل مُناسب لهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، وذِكْر صِفَة الرحمان هنا هو لبيان شِدَّة وفَظَاعَة وقَبَاحَة عُتُوِّهم لأنّ الله تعالي الشديد الرحمة بخَلْقه كان من المُفْتَرَض أن تُقابَل رحمته هذه مِن أيِّ عاقلٍ بحُسْن عبادته أيْ طاعته لا بالكفر به وعصيانه
ومعني "ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)" أيْ هذا بيانٌ لكمال عِلْم وعَدْل الله تعالي، فلن يُظْلَم أحدٌ شيئا، فكلّ مُسِيءٍ سيُجَازَيَ علي قَدْر إساءاته بتمام العِلْم والعدل، لأننا لا يَخْفَيَ علينا أيّ شيءٍ مِن خِلْقِنا.. أيْ ونحن بالتأكيد بلا أيِّ شكّ أعلم مِن أيِّ أحدٍ بالذين هم أحقّ صِلِيَّاً بها أيْ تَصْلِيَة بجنهم أيْ احتراقاً بنارها وشَوْيَاً بلهيبها لجلودهم ولحومهم وأحشائهم وتعذيباً بعذابها المُؤْلِم المُوجِع المُهِين الذي لا يُوصَف
ومعني "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)" أيْ وما منكم أحد أيها الناس إلا حاضِرها ومُشاهِدها – أيْ جهنم – من خلال المرور علي الصراط أيْ الطريق الموجود عليها من أجل رؤيتها، فالمؤمنون المُحْسِنون يَرونها ليحمدوا ربهم حَمْدَاً كثيراً حين يُدْخَلُون الجنة ويُقارِنون نعيمهم بعذاب أهل النار فيزدادون حَمْدَاً لربهم علي رحماته وخيراته وسعاداته عليهم التي لا تُوصَف، والمُسِيئون يُشاهدونها كعذابٍ تَمْهِيدِيٍّ قبل العذاب الفِعْلِيّ الحقيقيّ حينما يدخلونها.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ الآية الكريمة خاصة بالمُسِيئين فقط وليس بعموم الناس والوُرُود عليها ليس بمعني الحُضور والرؤية فقط وإنما بمعني الدخول فيها بعد رؤيتها.. كذلك عند بعض العلماء أنَّ الهاء في قوله "وارِدها" لا تعود علي جهنم وإنما تعني الآخرة بحسابها وعقابها وجنّاتها ونيرانها.. ".. كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ كان ذلك الوُرُود على جهنم، حتماً أيْ لازِمَاً، علي ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أيْ أَوْجَبَه علي ذاته العَلِيَّة، وفي هذا مزيدٌ من تأكيد هذا الحَتْم أي اللزوم.. ".. مَقْضِيَّاً (71)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من تأكيد هذا الحَتْم.. أيْ مُقَدَّرَاً مَكْتُوبَاً سابِقَاً فى اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ عِلْم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – مَحْكُومَاً به مَفْرُوغَاً منه مُنْتَهِيَاً مِن رَبِّكِ فلابُدَّ أنْ يُقْضَيَ ويُفْعَل ويَحْدُث ويَتَحَقّق بلا أيِّ تَغْييرٍ أو تَبْدِيلٍ أو رَدّ
ومعني "ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)" أيْ ثم حتماً نُنْقِذ برحمتنا وفضلنا وكرمنا وقُدْرَتنا وعِلْمنا من عذاب جهنم – بل وسيكون لهم بالقطع في نَعِيم جنّاتنا الذي لا يُوصَف كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ خالِدَة – الذين اتّقوا أيْ الذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)" أيْ ونَتْرُك الظالمين في جهنم جِثِيَّاً – جَمْع جاثٍ – أيْ جاثِين أيْ جالِسين علي رُكَبهم مُهَانِين مَذْلُولين مُعَذّبين بكل أنواع عذابها المُؤْلِم المُهِين الذي لا يُوصَف عاجزين عن القيام والحركة من شِدَّته، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)" أيْ وحينما تُذْكَر أمام المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين آياتنا بينات أيْ دلالاتنا واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْق رسولنا الكريم وأنه مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده ليَثِقوا به ويَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولهم يُرْشِدهم إليها ليَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبه وآخرها القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، قال هؤلاء الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – للذين آمنوا أيْ للذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، قالوا لهم علي سبيل التّفاخُر والتّعالِي والتّكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والتحَجُّج بحُجَجٍ سفيهةٍ ساقِطَةٍ لا قيمة لها مُطلقاً لمحاولة تَبْرير ما هم فيه من سوء، أيّ الفريقين مِنَّا ومنكم في الحياة أفضل إقامة وسَكَنَاً ومَنْزِلَاً وأحسن وأفخم نادِيَاً ومَجْلِسَاً ومُجْتَمَعَاً يُجْتَمَعُ فيه؟! إنهم يقصدون بذلك إدخال الشُّبْهَة علي الناس حتي لا يؤمنوا، بل ويَقصدون خَلْط الأمور حتي عند المسلمين وتشكيكهم في ربهم ودينهم وإثبات أنهم مُخْطِئون وأنَّ الكافرين هم المُصيبون!! إذ لو كان إسلامكم أيها المسلمون هو الأفضل لكان حالكم أفضل مِنّا!! إنَّ هذا هو أكبر دليلٍ علي أننا الأفضل عند الإله الذي تُسَمُّونه الله!! فقد أعطانا ولم يُعطكم!! إنهم يَتجاهَلون أنّ الأمر مُرتبط بالقانون الإلهيّ العادل لجميع البَشَر وهو قانون الأسباب والنتائج، فمَن يُحْسِن اتّخاذ الأسباب يَصِل غالبا لمَا يريد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يُحسنها لا يَصِل حتي ولو كان مؤمنا! ثم يَتَعَمَّدون تَجَاهُل أنَّ كثيراً من الكافرين فقراء وكثيراً من المسلمين أغنياء بفضل الله وتوكّلهم عليه وتيسيره الأسباب لهم أكثر من الكافرين كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا! فهم يَعْتَبِرون مِن شِدَّة عنادهم أنَّ الغِنَيَ والفقر هو مقياس الصواب والخطأ!! فمَن كان غَنِيَّاً فهو بالتأكيد علي صواب ومَن كان فقيراً فهو بالتأكيد علي خطأ!! رغم أنَّ المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه هو حتماً في تمام السعادة دائما – حتي ولو كان قليل المال – بسبب رعاية ربه وحبه ورضاه وأمنه وعونه وتوفيقه وسداده ورزقه ونصره وقوَّته واستبشاره الدائم بانتظاره في آخرته ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، بينما حال الكافر أو المُشْرِك أو المنافق أو الظالم أو الفاسد أو مَن يُشبههم هو علي العكس من ذلك تماما حيث هو بصورةٍ من الصوَر في قَلَقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ و اكتئابٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة هو في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم ينتظره حتماً في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأخلد (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (55) من سورة التوبة "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)" أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم المُكَذّبين المُعاصِرين لكم أيها المسلمون لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وللإسلام قبل فوات الأوَان ونزول العذاب المُناسب بهم في دنياهم قبل أخراهم، وذلك ببيان أنه لو كانت المَظاهِر والأمتعة والهيئات الحَسَنة والأموال والمُمْتَلَكات والحُصون والجنود ونحو هذا من كل أنواع القوَيَ المختلفة تنفع أصحابها لكانت نَفَعَت أولئك المُهْلَكِين من الأمم السابقة وقد كانوا أحسنَ وأقوَيَ حالاً منهم لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يَقيهم أي يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أيْ شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!! فمَن كان أضعف منهم كالمُكَذّبين الحالِيِّين أيْ أسْهَلَ إهلاكَاً فليكن إذَن أكثر حَذَرَاً فيُؤْمِن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل أن يفوت الوقت وينزل به عذابه!.. أيْ وكم أهلكنا قبلهم مِن قَرْنٍ أيْ وكم مِن قَرْنٍ أهلكنا قبلهم أيْ وكثيراً من القرون المُكَذّبة قبلهم أيْ قبل هؤلاء المُكَذّبين الحالِيِّين أهلكناهم بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم للشرور والمفاسد والأضرار – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم، وقد كانوا هم أحسن أيْ أفضل منهم أثاثاً أيْ مَتَاعَاً أيْ من حيث أمْتِعَة البيوت كالأثاثات والمفروشات ونحوها – ومن معاني الأثاث كذلك كل أنواع الأموال عموماً – وأحسن رِئْيَاً أيْ مَنْظَرَاً مَرْئِيَّاً من حيث المَظْهَر والمَلْبَس والفَخَامَة وما شابه ذلك مِن قُصُورٍ ومَبَانٍ ومَرْكَبَاتٍ وحُصُونٍ ومعِدَّات وغيرها
ومعني "قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد لهم لعلهم يستيقظون.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن كان مُنْغَمِسَاً في الضلالة أيْ في الضياع والشرّ والفساد والضرَر مُسْتَمِرَّاً عليها دائماً باحثاً عنها مُصِرَّاً إصراراً شديداً تامَّاً علي عدم مُفارَقتها فسَيَمْدُد له الرحمن مَدَّاً كبيراً فيها أيْ سيَزيده وسيُعطيه مَدَدَاً وازدياداً كثيراً منها فهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلالة فلا يَمنعه منها ويشاؤها له أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، وذِكْر الرحمان هنا هو لتَذْكِرته برحمة ربه التي لم يعمل لنَيْلِها من خلال طاعته لعله يَتْرُك ضلالته ويُطيعه.. كذلك من معاني "فَلْيَمْدُدْ" أيْ سَيُمْلِي له الرحمن أيْ سَيُمْهِله أيْ سَيَتْركه لفترةٍ كافية – دون إهمالٍ حتماً – مُطِيلاً في عُمره مُهَيِّئاً له أسباب نعيمه في حياته الدنيا غير مُسَارِعٍ بعقوبته بما يستحِقّه علي فِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار، فإنْ عاد لربه الرحمن ولإسلامه كان هذا الإملاء له خيرٌ ورحمة من ربه الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليه طويلاً بلا تعجيلٍ بالعقوبة له حيث سيَسعد في الداريْن – وهذا هو سبب ذِكْر الرحمان هنا وليس الله للتذكرة برحمته في الإملاء له – وإنْ لم يَسْتَفِق فحتماً كل الشرّ والتعاسة والعذاب له فيهما إذ كلّما تأخّر يوما كلما اكتسب إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياته تَكْثُر ذنوبه وبالتالي عذابه عليها، فلن يكون له عُذْر حين يُعَذّب فقد تُرِكَ لفترةٍ كافيةٍ ولم يَسْتَفِد بها بأنْ يستيقظ، بل ومِن شِدَّة إصراره علي سُوئه وعدم استفادته من إمهاله تزداد شِدَّة غضب الله عليه فيُمْلِي له لكي يَسْتَدْرِجه للمزيد من السوء أيْ لكي يُقَرِّبه من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجِهَة التي لا يعلم أنَّ العذاب سيأتيه منها، أيْ مِن حيث لا يشعر أنه استدراج بل يَتَوَهَّم أنّ ذلك تفضيل وتكريم له علي غيره مع أنه سبب هلاكه، وذلك من خلال أنَّ الله يَمُدّه بكثيرٍ من النِّعَم وكثيرٍ من أسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمها في فِعْل الكثير من الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سَبَبَاً لعذابه ولهلاكه، وكذلك يُسَهِّل له أنْ يَتَصَرَّف تَصَرُّفاتٍ ويقول أقوالا يتوهّم أنَّ فيها خيراً له فإذا بها تضرّه وتُعذّبه وتهلكه، وهذا لون من ألوان كَيْد الله القويّ له والذى لا يَتَنَبَّه له، وذلك حتي لا يمكنه الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حَسْرَته وأَلَمه والاستهزاء به وبكل ما يَمْلك من قُوَيَ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام من أمثال هؤلاء أيها المسلمون فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. إنهم حتما سيكون لهم عذاب مُهين حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لضلالهم ولاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين والمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ.." أيْ وسَيَسْتَمِرّ مَدّ الرحمان له ولأمثاله مَدَّاً كبيراً إلي أنْ يُشاهِدوا ويَنْزِل بهم واقِعِيَّاً ما يُوعَدون أيْ ما كان يَعِدهم به سبحانه وكَذّبوه في كتبه وآخرها القرآن العظيم وعن طريق رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ومن خلال المسلمين الدعاة مِن بَعْده وهو إمَّا العذاب في الدنيا بسبب تكذيبهم وضلالهم وإصرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بلا أيِّ توبةٍ والمُتَمَثّل في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، وإمَّا عذاب الآخرة حين تقوم الساعة والذي يبدأ بدرجةٍ من الدرجات عند موتهم ودخولهم قبورهم إلي حين العذاب الأتَمّ والأعظم والأشَدّ والذي لا يُوصَف في نار جهنم.. والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار وأَخْذ كل صاحب حقّ حقّه وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. هذا، ولكلّ إنسانٍ ساعة آتية بالتأكيد قبل ساعة يوم القيامة لا ينكرها أحدٌ لأنه يراها ويسمع بها يوميا وهي وقت موته ونهاية أجله في الدنيا حيث دخول قبره وبَدْء حسابه المَبْدَئيّ.. ".. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)" أيْ فسيعلمون حينها، حين نزول العذاب الدنيويّ أو الأخرويّ، عِلْمَاً مُؤَكَّدَاً واقِعِيَّاً بلا أيِّ شكّ، مَن هو مِن الفريقين، فريق المؤمنين المُحْسِنين وفريق الكافرين والمُسِيئين وهم الذين قالوا عن أنفسهم أنهم هم خيرٌ مَقامَاً وأحسنَ نَدِيَّاً، سيعلمون مَن هو شَرٌّ مَكَانَاً أيْ أسوأ مَكَانَة ومَنْزِلَة ومَنْزِلَاً ومُسْتَقَرَّاً وأضعف جُنْداً أيْ أنصاراً وأعواناً وقوة حيث لا يجدون مَن يَمنع عنهم عذابهم، سيعلمون حينها إذ ستَتَكَشّف كل الحقائق أنَّ المؤمنين المُحْسِنين هم أهل الخير والصواب والحقّ والعدل والسعادة في الداريْن وأنَّ الكافرين والمُسِيئين هم أهل الشرّ والخطأ والكذب والظلم والتعاسة فيهما، ولكنهم سيعلمون حين لا ينفع العلم حيث تصويب الأخطاء لم يَعُدْ مُمْكِنَاً وإنما هو التّحَسُّر والندم والألم الشديد لا غير إذ قد نَزَلَ العذابُ بالفِعْل
ومعني "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ويزيدُ الله الذين اهتدوا – في مُقابِل مَن كانوا في الضلالة الذين ذُكِرُوا في الآية السابقة ويُمْدِد لهم مَدَّاً – أيْ أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختاروا اتِّباع خالقهم وإسلامهم لأنهم تأكّدوا بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، يزيدهم حتماً وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا السعي للهداية واجتهدوا في طَلَبها والحرص الصادق الدائم التامّ عليها والتمسّك والعمل بها يزيدهم الله خالقهم العالِم تمام العلم بهم هُدَيً علي هُداهم وفاءً بوعده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيد المُحْسِنين فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وثواباً عليه في الداريْن كما يقول ".. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين" (البقرة:58) وحبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب صَلاحهم وهُداهم، أيْ يزيدهم رشادَاً وصَوَابَاً وحقّاً وعدلاً وخيراً وإحساناً وصِدْقاً وإخلاصاً وحِرْصَاً واجتهاداً وقُرْبَاً منه وحبَّاً له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكاً وعَمَلَاً بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم (ص)، وذلك بأنْ يُوَفَّقهم ويُعاوِنهم ويُيَسِّرَ لهم أسباب كلّ هذا ويُثَبِّتهم عليها وأيضا بأنْ يُعطيهم مِن قوة الإرادة العقلية والصبر والحِكْمة والعَوْن ويُوَضّح لهم ويُبَيّن ويُمَيّز مَا يَتَّقون به أيْ يَتَجَنَّبون كلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة.. وبالتالي وبسبب زيادة الله لهداهم وإعطائهم تقواهم فسَيَجِدُون حتماً في دنياهم البيان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، وسَيَجِدُون النور كله، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمواعظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقوة كلها، والرزق كله، والنصر كله، وبالجملة سَيَجِدُون السعادة كلها.. ثم في أخراهم سيَجدون قطعاً مَا هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)" أيْ المال والبنون والأثاث والمَنْظَر الحَسَن وما شابَه هذا مِن مُتَع الدنيا كل ذلك يَفْنَيَ ولكن الطاعات بكل أنواعها من أقوالٍ وأفعالٍ التي يُصاحِبها نوايا خيرٍ – بما فيها إحسان استخدام المال والبنون وكل المُمْتَلَكَات والأرزاق في كلّ خيرٍ لا شَرّ – هي الباقيات الصالحات التي تَبْقَيَ للإنسان غير فانية يَسعد دائماً بنتائجها من ربه والمُتَمَثّلَة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه حيث هي حتماً خيرٌ عند ربه ثواباً أيْ أفضل وأعظم جزاءً وعطاءً وأجراً دنيوياً وأخروياً مُجَهَّزَاً مُعَدَّاً مَحْفُوظاً له عنده وموجوداً في حُكْمِه وشَرْعِه بكرمه وفضله ورحمته من الأموال والأبناء ونحوها التي يُسَاء استخدامها، وهي حتماً كذلك خيرٌ مَرَدَّاً أيْ أفضل وأعظم مَرْجِعَاً يُرْجَع ويُرَدّ إليه ومَرْدُودَاً على صاحبها من صاحب المال بلا عملٍ صالحٍ إذ هو الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعاً علي أن يكونوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات الباقيات وأحْسَنُوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا لِتَتِمَّ سعاداتهم فيهما (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا)
ومعني "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل نظرتَ وتأمَّلتَ فرأيتَ وعلمتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل هذا الذي قد كفرَ أيْ كذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظره.. ".. بِآَيَاتِنَا.." أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أم آيات في الكوْن حوله أرشده لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربه أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليه فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وَجْه.. ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)" أيْ ومِن علامات كفره بالله وبالبعث وبالآخرة أنه يقول مُتَشَكّكَاً فيها مُسْتَهْزِئَاً بها مُسْتَبْعِدَاً لها مُسْتَعْلِيَاً عليها: ولو افْتِراضَاً كان هناك آخرة موجودة كما تَدَّعون أيها المؤمنون وأُعِدْتُ وأُرْجِعْتُ إلي ربي الذي تَدَّعونه باعتبار أنكم صادقون سَأُوُتَيَ أيْ سَأُعْطَيَ بالتأكيد منه – واللام والنون للتأكيد – مالاً وولداً كثيراً كما الحالة التي أنا فيها الآن، وذلك لكرامَتِي ومَنْزِلَتي عنده ولأننى أهْلٌ للنعيم في كل حال! إذ لوْلا مَكَانتي عنده ما أعطاني ما هو عندي حاليا فأنا مُسْتَحِقّ له وسيَبقي لي وأجد أكثر منه في الآخرة التي تَدَّعونها!! إنه يَتَوَهَّم أنَّ إعطاء نِعَم وخير الآخرة سيكون مثل إعطاء نِعَم وخير الدنيا بلا إيمانٍ بها وعملٍ صالحٍ يُعِدّ لها!! وهذا مِن شدّة جهله وتكبّره وغروره وجرأته علي ربه وقوله عليه بغير علم وتعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)" أيْ وهذا أيضا استفهامٌ وسؤالٌ لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل عَلِمَ الغيب أيْ ما غابَ عنه أيْ المستقبل فرَأَيَ أنه قد أُوتِيَ مالاً وولداً في الجنة حتي يُخْبِر بذلك عن عِلْمٍ ويقينٍ وصِدْق؟!! والمقصود أنه بالتالي إذَن كاذِبٌ سَفِيهٌ حتماً لأنه لا أحد يعلم ذلك إلا عالِم الغيب سبحانه.. أم هل أخَذَ مِن الرحمن عَهْداً أيْ وَعْدَاً بذلك هو له عنده حتى يكون الوفاء به مُتَحَقّقاً لأنَّه تعالي لن يُخْلِف عهده حتما؟! إنه لم يَتّخِذ عند الرحمان أيّ عهدٍ قطعاً لأنه يكفر به أصلاً وهو سبحانه لا يُعطي عهوده بكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن من خلال كتبه ورسله إلا للمؤمنين المُحْسِنين فقط لا للكافرين المُسِيئين بالقطع، وهذا مزيدٌ من إثبات كذبه القبيح.. هذا، ولفظ الرحمان يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)" أيْ لا، ليس الأمر كما يَدَّعِي ذلك الكافر المُسِيء كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً، فهو حتماً لم يَطّلِع علي الغيب ولم يَتّخِذ عند الرحمان عهداً – ولفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه – وسَنَكْتُب أيْ سَنُسَجِّل مَا يقوله – ويعمله – مِن كلِّ سوءٍ في كتاب أعماله بواسطة الملائكة المُوَكّلَة بذلك، والتسجيل يعني التوثيق بحيث لا يُمكنه إنكاره عند حسابه يوم القيامة كما يُفيد ضِمْنَاً عقابه فهو ليس مجرّد تدوين وفقط، أيْ سنُعاقبه في دنياه وأخراه علي كل ذلك وغيره من شرور ومَفاسِد وأضرار بما يَستحِقّه ويُناسبه مِن عقاب.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي تهديده لعله يستيقظ ويَرْتَدِع.. ".. وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)" أيْ ونزيد له من العذاب ازدياداً كثيراً، من كل أنواع العذاب العظيم أي الهائل الشديد المُؤْلِم المُوجِع الذي لا يَعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسِب قوله وفِعْله، في دنياه أولا حيث كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراه له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمن يَفعل ذلك، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره
ومعني "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)" أيْ ونَرِثُ منه ماله وولده وهو ما كان يقول عنه لأوتَيَنَّ مالاً ووَلَدَاً حتماً في الآخرة إنْ كانت موجودة مِثْل الذي عندي في الدنيا، أيْ سنأخذه منه وكل ما يَمْلك بعد موته وإهلاكه كما يَصير المِيراث للوارِث، والمقصود مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي تهديده لعله يستيقظ ويَرْتَدِع قبل الموت والهلاك.. كذلك من المعاني ونَرِثه العقاب المُناسب بالداريْن في مُقابِل ما يقول ويعمل من سوء، فهذا العذاب سيكون مِيراثه الذي سَيَرِثه حتماً.. ".. وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)" أيْ وهذا مزيدٌ من تهديده وتحذيره لإيقاظه.. أيْ ويَحْضر إلينا يوم القيامة بمُفْرَده للحساب والجزاء والعقاب كما أوْجَدناه في الدنيا أوّل مرّةٍ حَافٍ عَارٍ مُنْفَرِدٍ بلا أملاكٍ ولا أولادٍ ولا أصحابٍ ولا أعوانٍ ولا آلهةٍ عَبَدَها إنْ كانَ مُشْرِكَاً يَعْبُد غيرنا ولا أيّ شيءٍ معه إلاّ أقواله التي قالها وأعماله التي عملها في دنياه، وتأكّدَ الآن بلا أيِّ شكّ له ولكلّ مَن ادَّعَيَ مثله كذباً عدم وجود بَعْثٍ ومَوْعِدٍ للحساب والعقاب والجنة والنار أنَّ الأمر حقيقيٌّ صادِق
ومعني "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)"، "كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)" أيْ واتّخَذَ السفهاء غير العقلاء، كالمشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم، آلهة من دون الله أيْ غير الله، أيْ مَعْبُودات يَعبدونها أيْ يُطيعونها غيره، كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، لكي تكون هذه الآلهة لهم – مِن وِجْهَة نَظَرِهم السفيهة – عِزَّاً أيْ مَصْدَرَ عِزَّةٍ ورِفْعَة ومَكَانَةٍ وقوّةٍ ونَصْرٍ وسلطانٍ ونفوذ.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول ليكونوا بَدَلَاً عن لتكون والتي هي صيغة غير العاقل لأنَّ الذين يعبدونها يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم، وكذلك لكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. "كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)" أيْ لا، ليس الأمر كما يَدَّعِي هؤلاء السفهاء كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً، فهذه الآلهة حتماً لن تكون لهم عِزَّاً – ولفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم – بل سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضِدَّاً أيْ أعداءً مُتَضَادِّين أيْ مُتَخَالِفين مُتَخَاصِمِين مُتَعَادِين، أيْ سيَكفر العابدون بعبادتهم لهذه الآلهة وستَكفر هي بهذه العبادة منهم وسيُضَادّ أيْ سيُعَادِي ويُخاصِم ويُخَالِف بعضهم بعضا، والمقصود أنَّ كُلّاً مِن العابِد والمَعْبُود سيَكفر بالآخر أيْ يُكَذّب به، أيْ يَتَبَرَّأ منه، والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف، وسَيُضَادُّه أيْ سَيُعادِيه ويُخاصِمه ويُخالِفه، فالعابِد المُشْرِك مِن البَشَر حينما يحتاج في دنياه للإله – غير الله سبحانه – الذي يَعبده ويَلْجَأ إليه سيَجِده بالقطع أضعف منه! وهل ينفعه أو يَضرّه صَنَمٌ أو حَجَرٌ أو غيره وهو في الأصل مخلوق من المخلوقات لا يستطيع أن ينفع ذاته أو يمنع عنها الضرر فكيف ينفع أو يَضرّ غيره؟!! حينها سيَكفر به ويُضَادُّه، لو أحسن استخدام عقله واستجاب لفطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأزاح عنه الرغبة الشديدة في تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وفي هذا تبشيرٌ للمسلمين الدعاة لله وللإسلام أنَّ هناك كثيرين سيَكفرون بمَعْبُوداتهم وسيُضَادُّونهم مع الوقت وعليهم أن يُحْسِنوا دعوتهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. والمَعْبُودون كذلك أيْ الآلهة التي يعبدونها ستكون في الدنيا ضِدّ العابدين لها قطعاً فيما يريدون، فقد كانوا يريدون منها العِزّة والسعادة فإذا بهم في كلّ ذِلّة وتعاسة! في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، بسبب بُعْدهم عن الله والإسلام، لأنها لا تستطيع نفعهم أو ضرّهم بأيِّ شيءٍ حتماً، لأنَّ النافع والضارّ وحده قطعاً هو الله تعالي (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (5) من سورة الأحقاف "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا مات أحدهم علي شِرْكه هذا، فإنهم في الآخرة بكل تأكيد سيكونون أشدّ كفراً ببعضهم البعض وأشدّ تَضَادَّاً، إذ حينها سيَتَبَرَّأ كلٌّ من الآخر، حيث ستَتَكَشّف كل الحقائق وستَسقط كل ادّعاءاتهم وافتراءاتهم، وسيكونون جميعا في أشدّ التعاسة وأعظمها وأتَمّها وأخلدها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (6) من سورة الأحقاف "وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ"، ثم الآية (14) من سورة فاطر "إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)"، "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)" أيْ هذا بيانٌ لسبب كُفْر الكافرين وسُوء المُسِيئين وهو اتّباعهم للشياطين، وذلك لكي يَتَجَنّبه تماماً المؤمنون المُحْسِنون ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا مثلهم فيهما.. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن أننا أرسلنا أيْ بَعَثْنَا وسَلّطْنا الشياطين علي الكافرين – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – لكي تَؤُزّهُم أَزَّاً أيْ تَهُزّهم هَزّاً شديداً وتُحَرِّكهم تَحَرُّكَاً قوياً نحو كل شرّ، والمقصود أنها تُهَيِّجهم وتُثيرهم وتَغريهم وتَدْفعهم بكل قوّةٍ نحوه فيَستجيبون لها ويَتّبعونها بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم.. والشياطين جَمْع شيطان والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟).. والسبب في أنّا أرسلنا الشياطين علي الكافرين تَؤُزّهم أزَّاً أنهم لمّا مَالُوا وانحرَفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به فكفروا وأصرّوا واستمرّوا على كفرهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحْسِنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير أَمَالَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الكفر والزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الكفر والزَّيْغ والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يجعلهم يكفرون ويُزيغهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الكافرين الزائغين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الكفر والزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذابا مناسبا لشرورهم بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. وذلك علي عكس المؤمنين بالقطع، حيث لهم أيضا تفكير شَرِّيّ بعقولهم وقُرَناء أيْ أصحاب سوءٍ حولهم، ولكنهم يمنعونه ويمنعونهم ويفكّرون في كل خيرٍ مُسْعِدٍ، ويستعينون بربهم ويتمسّكون بقرآنهم وبكل أخلاق إسلامهم ويعملون بها، فيُحَصِّنُون ذواتهم ضِدَّ كلّ هذا، فيُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم أسباب كل خيرٍ ويَعصمهم من الوقوع في أيّ شرّ، ولو وَقَعوا استيقظوا سريعا بالتوبة فيأخذ بأيديهم سبحانه لتعود لهم سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (99)، (100) من سورة النحل "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ"، ثم مراجعة الآية (42) من سورة الحِجْر، ثم الآية (65) من سورة الإسراء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)" أيْ إنَّ أيام المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يُشبههم مَعْدُودَة، نَعُدّها أيْ نَحْسبها لهم بما فيها من أقوالهم وأعمالهم السيئة عَدَّاً أيْ حِسابَاً دقيقاً تامَّاً بلا تفريطٍ ولا تأخير، وإذا كان الأجل مَعْدوداً مُحَدَّدَاً هكذا أيْ أياماً يُمكن عَدَّها فإنه آتٍ بكل تأكيد، فسيَأتيهم عذابهم، في الدنيا أولا، فالأمر قريبٌ، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما ابْتَعَدَ وتَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، وبالتالي فلا تَعْجَل عليهم أيْ فلا يَستعجل أحدٌ العذاب لهم، وإنما سيَأتي به الله حتماً بأَنْسَب توقيتٍ وأسلوب بما يُحِقّق أفضل النتائج لأهل الخير، وفي هذا تسلية لهم وتبشيرٌ بأنه تعالي بالتأكيد سيَنصرهم علي أهل الشرّ، وذلك سواء أكان بتعذيبهم بعذابٍ يَتَمَثّل في قلقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو غيره وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة أو في استئصالٍ تامٍّ من الحياة بإهلاكهم برياحٍ أو زلازل أو فيضانات أو صواعق أو حروب فيما بينهم أو نحو هذا.. ولعلهم يَستفيقون قبل هذا ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن، فهذا من رحمة الخالق، حتي بِأَسْوَأ خَلْقه، فلا يَستعجل أحدٌ قَدَر الله، فهو مُقَدَّرٌ مَحْسُوبٌ بكل حكمةٍ ودِقّة دون أيّ عَبَث ودون أيّ تقديمٍ أو تأخير عن موعده المُحَدَّد (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. هذا، وبالقطع مَن مات مُصِرَّاً علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه فله أتمّ التعاسة وأعظمها وأشدّها في الآخرة بعذابها الذي لا يُوصَف، فهي آتِيَة لابُدّ آتية
ومعني "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)" أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا وتَسْتَعِدّوا بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا في الداريْن، اذكر يوم القيامة يوم نَجْمع المُتّقين إلي جنات وخيرات ورحمات وسعادات الرحمن وفداً مُعَزّزِين مُكَرَّمِين مُنَعَّمِين مُطْمَئِنّين مُبْتَهِجِين.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والوَفْد جَمْع وافِد وهو الجَمْع من الناس الذين يَفِدُون أيْ يقْدِمُون على غيرهم لأمرٍ من الأمور الهامّة، فهُمْ يُسْتَقْبَلون من خالقهم الرحمن بأعظم تكريمٍ في صورةِ وفود، والمعروف أنَّ الوفد يُكْرَم من الوافِد إليه، فكيف يكون الحال إذا كان هو مالِك المُلك كله خالِق الخَلْق أكرم الأكرمين أرحم الراحمين سبحانه؟!.. واختيار اسم الرحمان من أسماء الله تعالي الحُسني لأنه يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعاد المؤمنين المُحْسِنين المُتّقين منهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم
ومعني "وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وبعد الحساب والمُحَاكَمَة العادِلَة نَدْفع المُجرمين إلي عذاب جهنم دَفْعَاً عنيفاً شديداً مُهِينَاً بواسطة ملائكة العذاب، نَسُوقهم وِرْدَاً أيْ يكونون عِطاشَاً مُتَزَاحِمين مُتَخَبِّطين كما تُسَاقُ وتُدْفَع البهائم العِطاش التي تَرِد أيْ تَصِل الماء لتَشرب.. والمُجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. هذا، والله تعالي يُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)" أيْ لا يمتلك يومها، يوم القيامة، أيُّ أحَدٍ مِن الناس الشفاعة أيْ الوَسَاطَة أيْ أن يكون شفيعاً أيْ وَسِيطَاً مُتَوَسِّلَاً يُسْتَجَابُ لِوَسَاطته ولِتَوَسِّله عند الله لكي يَعفو عن أيِّ أحدٍ وينقذه مِمَّا هو فيه من عذاب.. ".. إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)" أيْ لكنَّ الذي مِن المُمْكِن أنْ يُمَلّكه الله حقَّ الشفاعة ويُكرمه ويَأذن له بها هو كلّ مَن كان في دنياه قد اتّخَذَ عند الرحمان عَهْدَاً أيْ أخَذَ مِن الرحمان عَهْداً أيْ وَعْدَاً بذلك هو له عنده من خلال كُتُبه ورُسُله فيكون الوفاء به مُتَحَقّقاً لأنَّه تعالي لن يُخْلِف عَهْدَه حتماً، والمقصود كلّ مؤمنٍ بربه عاملٍ بأخلاق إسلامه، فهؤلاء يمتلكون إمكانيّة الشفاعة لغيرهم لمَكانتهم عند الله إذا سَمَحَ لهم بذلك – ويُشْفَع لهم هم أيضا من الأنبياء والشهداء والصالحين – تكريما لهم ولأنَّه سبحانه يعلم أنَّ الذي سيَشفعون له يَستحقّ الشفاعة حيث كان مسلما لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا، أمّا المُكذّبون فلن تَنفعهم بالقطع أيُّ شفاعةٍ عنده تعالي ولن يكون لهم أيّ أملٍ في أيّ شيءٍ منها لأنهم كانوا لا يُصَدِّقُون بوجود الله والآخرة أصلا!.. هذا، ولفظ الرحمان يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)" أيْ وإضافة لأقوالهم السَّيِّئة السابقة، قال بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله الرحمن زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. هذا، وكما في كل الآيات السابقة التي ذُكِرَ فيها لفظ الرحمان، فإنَّ ذِكْرَه يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)" أيْ هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورَفْضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن يقول ذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ لقد أَتَيْتُم أيها السفهاء بقولكم السَّفِيه هذا أمراً مُنْكَرَاً عظيماً شَنِيعَاً يُنْكِره أيْ يَرْفضه ويُكَذّبه وينْفِيه ولا يَعترف به أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادِل
ومعني "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)"، "أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)"، "وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)"، "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"، "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)"، "وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة قُبْح هذا القول وتأثيره الضَّارّ ليس علي البَشَر فقط حيث يُشَكّك في خالقهم بل حتي علي الجَماد وكل المخلوقات لأنه يَستحقّ عقوبته سبحانه.. أيْ تَقْتَرِب وتُوشِك السماوات أنْ يتشقَّقْنَ مِن ذلك القول الإدّ، وتَتَصَدَّع وتَتَقَطّع الأرض وتَظهر فيها الشقوق والفتحات، وتَسقط الجبال تُهَدُّ هَدَّاً شديداً أيْ تَتَهَدَّم وتَتَكَسَّر وتَتَفَتَّت فتكون مَهْدُودَة مُهَدَّمَة بشِدَّة، وذلك من غَضبها وغَيْظها علي قائله من أجل خالقها سبحانه، لأنه مُغْضِبٌ غَضَبَاً شديداً له مُسْتَجْلِبٌ لعقابه ولولا حِلْمه ورحمته التي تَسْبِق غضبه لأصاب الكوْن كله بمَن فيه وما به عذابٌ أليمٌ بسببه.. "أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)" أيْ مِن أجل أنْ جَعَلوا ونَسَبُوا وادّعوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً للرحمن ولدا.. "وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)" أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للرحمن أن يجعل ولداً لذاته العَلِيَّة، بما يعني أنَّ له زوجة وقد أنجب منها أولادا!! سبحانه وتعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا!! وأيّ معني وفائدة لاتّخاذِ ولدٍ له وهو غنيّ عن كلّ شيءٍ لا يحتاج لأيِّ مُعِين؟! ولماذا يَتّخِذ ولداً أو شريكاً أو وزيراً أو مُعِينَاً أو غيره وهو الذي إذا أراد أنْ يُحْدِث أمراً من الأمور وحَكَمَ بحُدُوثه فإنه من تمام قُدْرته وكمال علمه بمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد فوراً بلا أيّ تأخيرٍ أو امتناع؟! لأنه له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره، ولأنه له كل ما في السماوات وما في الأَرض أيْ لأنه سبحانه هو الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنهم وكفرهم ولو جميعهم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتهم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. وهذا هو بعض معاني قوله تعالي "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره وبُرْهانٌ عليه أنه لا حاجة له سبحانه أبداً لاتّخاذ الولد وهو الغنيّ عن العالمين والذين كلهم عباده.. أيْ ما كل مَن في السماوات والأرض إلا قادم إلي الرحمان عَبْدَاً أيْ طائِعَاً – وكما في كل الآيات السابقة التي ذُكِرَ فيها لفظ الرحمان، فإنَّ ذِكْرَه يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه – والمقصود أنه لإرادة الله تعالي الرحمان وحده لا لإرادة غيره يَسْتَسْلِم ويَنْقاد ويَخْضَع جميع مَن في الكوْن في مُلْكِه سواء أكان راضياً أم كارها، وكل المخلوقات راضية بأنْ تكون عابِدَة له وبأنْ يكون سبحانه الذي هو خالقها ومُرَبِّيها ورازقها ومُعِينها وراعيها ومُرْشدها لكلّ خيرٍ ونفعٍ الغفور الرحيم الودود الكريم المُجيب هو المَلِك عليها يُدير شئونها علي أكمل وجه، إلا فقط وحدهم الكافرون والمشركون ومَن شابههم، يَكرهون ذلك ويَسيرون مُتَخَبِّطِين مُتْعَبِين تُعَسَاء عَكْسه، لأنهم يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ومع ذلك فهم أيضا في كثير من أمورهم مُسْلِمون كَرْهَاً أيْ مُسْتَسْلِمُون مُنْقادون خاضِعون لحُكْمه ولأمره رغم أنوفهم!! في طول الأجل أو قِصَره وفي نوعيتهم وذُرِّيَّاتهم كذكرٍ أو أنثي وفي قانون الأسباب والنتائج حيث قد يتّخذون أحيانا أسبابا ويمنع خالقهم عنهم نتائجها وفي أسباب الرزق من مطرٍ وضوءٍ وهواء وإخراجٍ لزروعٍ وثمارٍ وغيرها وفي حركة الأرض وتناوُب الليل والنهار والشتاء والصيف ونمو خلايا أجسامهم ودَوَابّهم وصحتهم ومرضهم وموت أحبابهم وما شابه هذا من شئون الحياة المختلفة.. لقد رضي المسلمون بربهم وبإسلامهم وتمسّكوا بكل أخلاقه لتأكّدهم التامّ بأنَّ كل هذا هو مَصْدَر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم وهم قد اختاروا هذا طَوْعَاً أيْ اختيارياً بلا أيِّ إكراهٍ أيْ راضِين بكامل حرية إرادة عقولهم وقد شاء الله لهم هذا الاختيار الحرّ حين خَلَقَهم، وبالتالي فالكارهون لله وللإسلام ولا يتّبعونه من الكافرين والمشركين وأشباههم، هم أيضا بصورةٍ غير مباشرةٍ رغم أنفهم تحت مشيئة الله وإرادته في مُلْكِه والتي شاءت أن يكون الإنسان بعقله حُرَّاً في اختيار ما يريد وشاءت أن تكون فطرته بداخل عقله مسلمة!! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنْ اختار الخير فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإنْ اختار الشرّ فله كل الشرّ والتعاسة فيهما (للمزيد من الشرح والتفصيل عن علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام، برجاء مراجعة الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران).. وكذلك هو حال المنافق حيث يُظْهِر أنه أسْلَمَ له سبحانه رغم عدم رغبته في الإسلام وكفره به فهذا مِمَّن أسلمَ كرْهَاً أيْ وهو كارِه لكي يتمكّن من التعامُل مع المسلمين أو العيش بينهم فينتفع بخيراتهم أو يحاول الكَيْد لهم لإضعافهم.. إنَّ هذا الذي سَبَقَ ذِكْره هو في الدنيا، والتي سَمَحَ الله تعالي فيها للإنسان بالاختيار، أمَّا في الآخرة فكل مَن في السماوات والأرض سيَأتِي الرحمان عبداً أيْ خاضِعَاً مُنْقَادَاً تماماً لقُدْرَته وإرادته مُعْتَرِفَاً له بتمام العبودية لا يمكنه أبداً الامتناع عن ذلك مهما كان، فالكلّ عباده، فلا نَسَب بينه وبين أحدٍ ولا ولد ولا زوجة ولا شريك ولا أيّ شيءٍ من هذا الكذب والسَّفَه.. "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، وعلي كمال عِلْمه بكل خَلْقه وتمام قُدْرَته عليهم.. أيْ لقد حَسَبَ وعَدَّ الرحمان جميع مخلوقاته منذ خَلَقَهم وحتي يوم القيامة وحَسَبَ وعَدَّ البَشَرَ منهم وكل أقوالهم وأعمالهم خيرها وشَرِّها حِسَابَاً وعَدَّاً وضَبْطَاً وجَمْعَاً وحِفْظَاً وتحديداً دقيقاً مُحْكَمَاً بكلّ التفاصيل بتمام الدِّقّة رغم الكثرة والتّنَوُّع.. ".. وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)" أي وهذا مزيدٌ من التأكيد علي تمام الإحصاء ودِقّته وعَدْله.. أيْ وعَدَّهم بكل أقوالهم وأفعالهم عَدَّاً دقيقاً عادلاً ليس فيه أيّ خَلَلٍ أو ظلم.. وفي هذا تذكيرٌ لهم أنه تعالي لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ من كل الخَلْق من أقوالٍ وأفعالٍ وأحوالٍ وتصرّفات وأفكار وقد أحْصَىَ كل شيء فى هذا الكوْن وعَدَّه بإحصاءٍ وبعِلْمٍ وبِعَدٍّ تامٍّ دقيقٍ تفصيليٍّ لا إجماليّ.. فليعبدوه إذَن فهو المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك وليتوكّلوا عليه وحده وليشكروه وحده وليُحسنوا أقوالهم وأفعالهم لأنه يُحصيها عليهم بكل دِقّة وسيُحاسبهم عليها في الداريْن بما يُناسِب بكل عدلٍ علي الخير خيراً وسعادة والشرّ شرَّاً وتعاسة.. فمَن يَفعل ذلك يَضْمَن حتماً تمام السعادة في دنياه وأخراه.. "وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكل البَشَر يَحْضر ويَجِيء إلي الرحمان يوم القيامة بمُفْرَده للحساب والجزاء والعقاب كما أوْجَده في الدنيا أوّل مرّةٍ حَافٍ عَارٍ مُنْفَرِدٍ بلا أملاكٍ ولا أولادٍ ولا أصحابٍ ولا أعوانٍ ولا آلهةٍ عَبَدَها إنْ كانَ مُشْرِكَاً يَعْبُد غيره ولا أيّ شيءٍ معه إلاّ أقواله التي قالها وأعماله التي عملها في دنياه، وتأكّدَ الآن بلا أيِّ شكّ لكلّ مَن ادَّعَيَ كذباً وسَفَهَاً عدم وجود بَعْثٍ ومَوْعِدٍ للحساب والعقاب والجنة والنار أنَّ الأمر حقيقيٌّ صادِق.. فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فبسبب إيمانهم وعملهم الصالحات سيَجعل لهم الرحمان وُدَّاً أيْ حُبَّاً، في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (54) من سورة المائدة "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"، والآية (165) من سورة البقرة ".. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ.."، والآية (14) من سورة البروج "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهُمْ لأنهم أحَبُّوا بكلّ صِدْقٍ الرحمان الودود خالقهم سبحانه، وأحبوا رسله ودينهم الإسلام وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاقه، وأحبوا كل خَلْقه، بادَلَهم بوُدٍّ منه أعظم يليق به تعالي، فجعل دنياهم كلها حبَّاً في حبّ، وسلاماً في سلام، وأمناً في أمن، واستقراراً في استقرار، وسعادة في سعادة، لأنهم بهذا الوُدّ الذي يجعله لهم وبحبّه إيّاهم يحبون ربهم وأنفسهم ومَن حولهم والإنسانية كلها والمخلوقات كلها والكَوْن كله، وكلهم يُبَادِلُونهم هذا الحبّ، فتَتَيَسَّر بذلك كل أمورهم وأحوالهم وتَتَحَقّق لهم السعادة التامَّة، ثم لهم حتماً في أخراهم ما هو أشدّ حبَّاً وأمْنَاً وسعادة وأعظم وأتمّ وأخلد في جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. إنَّ مَن يحبّه الرحمان سيكون سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما لهم.. هذا، واختيار اسم الرحمان من أسماء الله تعالي الحُسني لأنه يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعاد المؤمنين المُحْسِنين المُتّقين منهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته بنعيمها الذي لا يُوصَف، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم
ومعني "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنْعَمَ بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن العظيم والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ فلقد جعلنا القرآن – والإسلام – يَسْهل فهمه وحتي حِفظه لكلّ مَن يُحسن استخدام عقله بإنصافٍ وعدلٍ ويَتَدَبَّر فيه، كما يَسهل العمل به والدعوة له لمَن أراد بصِدْقٍ أن يَتَّبعه أيْ سيُيَسِّر ربه له ذلك حتما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، لأنه يُوافِق العقل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ومعني ".. بِلِسَانِكَ.." أيْ باللغة العربية التي يتكلمها لسانك ولسان مَن حولك يا رسولنا الكريم، لأنها أقوي لغة، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة.. والهدف الأسْمَيَ مِن هذا التيسير والحِكْمَة العُظْمَيَ منه ".. لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ.." أيْ فإنّا مَا يَسَّرْناه بلسانك إلا لكي تُبَشّر به المُتّقِين، أيْ لكي تُخْبِرهم وتُذَكّرهم دائما بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتقواهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم كل رعايةٍ منه سبحانه وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وإسعادٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)" أيْ وكذلك، وفي ذات الوقت، وفي المُقابِل، لكي تُحَذّر به أناساً لُدَّاً – جَمْع ألَدّ – أيْ شديدي الخُصُومَة والعَداء والجِدال بغير حقّ للإسلام والمسلمين وشديدي الاعْوِجَاج والانحراف والفساد والقُبْح والسوء بكل أشكاله، تُحَذّرهم أنهم إمَّا يعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا ولا يتعسوا في الداريْن أو لو أصَرُّوا علي ما هم فيه فسيكون لهم حتماً فيهما عقاب بعذابٍ مُناسبٍ لسُوئهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)" أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم اللّدّ المُكَذّبين المُعاصِرين لكم أيها المسلمون لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وللإسلام قبل فوات الأوَان ونزول العذاب المُناسب بهم في دنياهم قبل أخراهم، وذلك ببيان أنه لو كانت الأموال والمُمْتَلَكات والحُصون والجنود ونحو هذا من كل أنواع القوَيَ المختلفة الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها تنفع أصحابها لكانت نَفَعَت أولئك المُهْلَكِين من الأمم السابقة وقد كانوا أحسنَ وأقوَيَ حالاً منهم لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يَقيهم أي يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أيْ شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!! فمَن كان أضعف منهم كالمُكَذّبين الحالِيِّين أيْ أسْهَلَ إهلاكَاً فليكن إذَن أكثر حَذَرَاً فيُؤْمِن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل أن يفوت الوقت وينزل به عذابه!.. أيْ وكم أهلكنا قبلهم مِن قَرْنٍ أيْ وكم مِن قَرْنٍ أهلكنا قبلهم أيْ وكثيراً من القرون المُكَذّبة قبلهم أيْ قبل هؤلاء المُكَذّبين الحالِيِّين أهلكناهم بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم للشرور والمفاسد والأضرار – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم.. ".. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)" أيْ لا تَشْعُر ولا تَرَيَ ولا تَجِد أيَّ أحدٍ منهم ولا تسمع لهم صوتاً خَفِيَّاً فَضْلَاً عن غيره من الأصوات لأننا أهلكناهم تماماً عن آخرهم بحيث أصبحوا مُجَرَّد ذِكْرَيَ وعِبْرَة يُعْتَبَر بها
طه (1)
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. هذا، وعند بعض العلماء، كلمة "طه" هي اسم من أسماء الرسول الكريم محمد (ص)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)" أيْ أنزلنا عليك القرآن لِتَسْعَد، أيْ ما أنزلناه أبداً عليك يا رسولنا الكريم لتُبَلّغه للناس لكي تَشْقَيَ ويَشْقُوا أيْ تَتْعَب ويَتْعَبُوا ويَتْعَسُوا به في دنياهم وأخراهم! بل الأمر علي العكس تماماً، فهو لكلّ راحةٍ وسعادةٍ تامَّةٍ لهم فيهما، لو عملوا بكل أخلاقه.. وفي هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنْعَمَ بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن العظيم والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. لقد جعلنا القرآن – والإسلام – يَسْهل فهمه وحتي حِفظه لكلّ مَن يُحسن استخدام عقله بإنصافٍ وعدلٍ ويَتَدَبَّر فيه، كما يَسهل العمل به والدعوة له لمَن أراد بصِدْقٍ أن يَتَّبعه أيْ سيُيَسِّر ربه له ذلك حتما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، لأنه يُوافِق العقل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. كذلك من معاني الآية الكريمة ما أنزلنا عليك القرآن لكى تَتْعَب وتَتْعَس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده يدعو لله وللإسلام – وكل مسلم هو داعي لهما بما يستطيع – حُزْنَاً علي عدم إسلام مَن لم يُسْلِم، كما قال تعالي "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" (الكهف:6) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فأنت عليك فقط البلاغ، كما قال تعالي "مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ.." (المائدة:99) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، ثم بعد ذلك لهم الاختيار في أنْ يُسْلِموا أو لا يُسْلِموا بكامل حرية إرادة عقولهم بلا أيِّ إكراه، كما قال تعالي ".. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.." (الكهف:29) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)
ومعني "إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)" أيْ لكن أنزلناه ليكون تذكرة، أيْ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. لكنَّ الذي يَنتفع ويَسعد به تمام الانتفاع والسعادة هو فقط مَن يَخشي الله سبحانه أيْ يَخافه أيْ يخاف فقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده له في دنياه وأخراه ويخاف عذابه وإتعاسه له فيهما لو عَصَاه – والخشْيَة هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فيَدْفَعه هذا إلي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه الذي في قرآنه فيَسعد في الداريْن.. أمَّا غيره الذي لا يَخْشَيَ الله فلا يَتّبِع الإسلام لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفع ولا يَتَذَكّر ولا يَسعد حتماً به بل يتعس تمام التعاسة في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْده عنه، إلا إذا استفاقَ وعادَ لربه ولقرآنه ولإسلامه
ومعني "تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)" أيْ هذا القرآن العظيم الذي أُنْزِلَ إليكم هو بلا أيّ شكّ عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ كان تنزيلاً من الله تعالي الذي خَلَقَ الأرض والسماوات العالِيات – جَمْع العُلْيَا – المُرْتَفِعات العظيمات أيْ أَوْجَدهما من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ لا يعلمها إلا هو تعالي ربّ العالمين أيْ خالِق جميع الخَلْق وُمرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، فهو إذَن ليس من عند الرسول الكريم محمد (ص) وليس شعرا أو سِحْرَاً أو قصَصَاً للسابقين أو ما شابه هذا من تخريفات وسَخَافات وادِّعاءات وأكاذيب يَدَّعيها المُكذبون والمُعاندون والمُستكبرون والمُرَاوِغُون والظالمون والفاسدون.. إنَّ هذا القرآن العظيم هو التنزيل الذي أنزله خالِق الخَلْق تعالي الذي يعلم تمام العلم كل ما يُصلح حالهم ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أنزله لكي يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك بما فيه من نُظُمٍ مُتَكَامِلَةٍ تُسْعِد الجميع لو عملوا بكل أخلاقه، وبالتالي فتَمَسَّكوا واعملوا به في كل أحوالكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. هذا، ولعلّ السبب في تقديم الأرض علي السماوات هنا في هذه الآية الكريمة رغم أنَّ أكثر الآيات العكس حيث السماوات أعظم خَلْقَاً، هو أنها تُناسِب لفظ التنزيل للقرآن الكريم الذي أُنْزِلَ علي الناس الذين يعيشون عليها كما أنَّ ذلك يكون تَنْبِيهاً وتحذيراً ضِمْنِيَّاً مُناسِبَاً لِمَن يَتكبّرون ويُفسدون ويَظلمون فيها أن يَنتهوا عن سُوئهم لأنَّ مالِكها المُتَحَكّم فيها الذي يُديرها بنظامه الإسلام هو الله خالقها تعالي لا هم وبالتالي فهو القادر علي إهلاكهم إنْ أصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوء
ومعني "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)" أيْ هو الرحمان، أي أنزله الرحمان، أي الذي أنزل عليك القرآن لتسعد هو الذي خلق الأرض والسماوات العلا هو الرحمن الذي علي العرش استوي، والرحمن اسم من أسماء الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. ".. عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)" أيْ قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه
ومعني "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال مُلْكِه وقُدْرَته وإرادته سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ.. أيْ الله الرحمان وحده هو الذي له كل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرَيَ أيْ وما تحت التراب أيْ وما بداخل أعماق الأرض من خيراتٍ ومِمَّا لا تعلمونه من مخلوقات – وهذا أيضاً مِمَّا في الأرض ولكنه لمزيدٍ من التأكيد علي ملْكِيَّته تعالي لكلّ شيء – وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتماً بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن
ومعني "وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)" أيْ هذا بيانٌ لكَمال عِلْمه سبحانه بعد بيان كمال مُلْكِه وقُدْرَته وإرادته في الآيات السابقة، فكلاهما مُكَمِّلٌ للآخَر، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ.. أيْ وإنْ تعْلِن بالقول – أو الفِعْل – أو تُخْفِه فلا تُعْلِنه، يا رسولنا الكريم ويا كل إنسان، فإنه تعالي يَعلم السِّرَّ أيْ الخَفِيَّ وهو كل ما قِيلَ وفُعِلَ وحَدَثَ وحتي خَطَرَ بالعقول في الخَفاء بلا إعلانٍ سواء في الحاضر أو الماضي، وأَخْفَيَ منه وهو كل ما سيُقالُ مُسْتَقْبَلَاً وسيُفْعَل وسيَخْطُر داخل عقول كل خَلْقه وسيُحَدِّثون به أنفسهم وسيَحْدُث مِن حَدَثٍ مَا، يعلمه في وقته ومكانه المُحَدَّد له رغم أنه لم يُقَلْ بَعْدُ أو يُفْعَل أو يَخْطر أو يَحْدُث، والمقصود أنه سواء أسْرَرْتم أقوالكم وأفعالكم أيها الناس أو أظهرتموها فالله تعالي حتماً يعلمها في الحالتين بالتَّسَاوِي، لأنه عليم بما بداخل العقول مِمَّا لم يُقَلْ أو يُفْعَلْ أصلا فكيف إذا قُلْتُمُوه أو فَعَلْتُمُوه؟! فهو مِن تمام قُدْرته وعلمه يعلم كل شيءٍ ظاهِرٍ أو خَفِيٍّ عن كل مخلوقاته في كل كوْنه في أيِّ زمانٍ ومكانٍ وأيضا وحتماً يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفونه بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما، وما تُظْهِرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه فهو معهم بعِلْمه وبقُدْرته أينما كانوا، وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. كذلك المقصود من الآية الكريمة أنَّ هذا القرآن العظيم هو التنزيل الذي أنزله خالِق الخَلْق تعالي الذي يعلم السِّرَّ وأخْفَيَ منه فهو يعلم تمام العلم كل ما يُصلح حالهم ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وبالتالي فتَمَسَّكوا واعملوا به في كل أحوالكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن
ومعني "اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)" أيْ المَوْصُوف بهذه الصفات الإلاهِيَّة الكامِلَة السابق ذِكْرها والذي أنزل عليكم القرآن العظيم لتَسعدوا لا لتَشقوا به في الداريْن هو الله الذي لا إله إلا هو أي الذي لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، الذي له الأسماء الحُسْنَيَ أي الذي وحده له جميع الأسماء التي تدلّ على أحسن المعاني وأكمل الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فسَمُّوه واذْكُرُوه ونادُوه واعبدوه وحده بها وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق الإسلام التي بالقرآن في كل أحوالكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. وفي هذا تذكيرٌ للناس أن يكونوا جميعاً عابدين لله تعالي وحده ويكونوا مِن الذين يُحْسِنون التعامُل مع أسمائه وصفاته، فكلها الحُسْنَيَ، بمعني الكمال وتمام الحُسن، فإنْ كان سبحانه قادرا فهذا يعني تمام القُدْرَة علي كل شيء، وإنْ كان حكيما فمعناه تمام الحكمة بوَضْع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وهكذا.. ولذا، فعندما تدعوه أيها المسلم تأتي بما أمكن بما يُناسِب دعاءك، فلعلّ هذا قد يكون أقرب للإجابة، وإنْ كان أيّ دعاءٍ مِن أيِّ محتاج له سبحانه الكريم الودود سيكون مُجَابَاً بإذنه تعالي (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء، وكيفية اتَّخاذ أسباب الإجابة، وسعاداته في الداريْن)، فمثلا إنْ كنتَ تريد رزقا تقول ارزقني يا رزَّاق وإن أذنبتَ ذَنْبا فاستغفر الغفور الرحيم، وهكذا.. كذلك تَتَعَبَّد له، أيْ تُطيعه، بهذه الأسماء والصفات الحسني، في كل أقوالك وأفعالك في كل مواقف حياتك، بمعني أنه إذا كان سبحانه سميعا بصيرا فلا تَقُلْ ولا تفعل إلا خيرا لأنه يَسمعك ويُبْصِرك، وإذا كان مُنتقما من كلّ ظالمٍ فكن عادلا لا تظلم أحدا بأيِّ ظلم حتي لا ينتقم منك له، وهكذا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه بأيِّ اسمٍ تَدعوه وتتعامَل معه به سبحانه فقد حَصَلَ المقصود من حُسْنِ تواصُلك معه وحبك له وحبه لك واعتمادك عليه وعوْنه وإسعاده لك، فكلها أسماؤه تعالي وصفاته، وكلها حَسَنَة، وليس له اسم أو وَصْف غير حَسَنٍ!.. وإيَّاك ثم إيّاك أيها الإنسان أن تكون مُلْحِدَاً، أيْ مُنْحَرِفاً عن الحقّ مُتَّجِهَاً للباطل، مُنْحرفا عن الله والقرآن والإسلام مُتَّجِهَاً لغيرهم، وإلا تَعِسْتَ في دنياك علي قَدْر بُعْدك عنهم، ثم في أخراك بما هو أعظم وأتمّ وأخلد تعاسة
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة المُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته (ص) في سورة البقرة والأعراف والقصص والشعراء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني).. هذا، وقصص الأنبياء وغيرهم ليست مُكَرَّرَة وإنما تأتِي مُجَزَّأَة علي مَدَار القرآن الكريم كله للتشويق وللتأكيد علي معنيً مُعَيَّنٍ مُهِمٍّ ولأنَّ كل جزءٍ يَتناوَل القصة مِن زاويةٍ مختلفةٍ وبفوائد أخري بحيث يُكمل بعضها بعضاً وبحيث تُناسِب الأحداث التي تَحْدُث في حياة الناس ليأخذ كل مُتّبِعٍ للقرآن ما يُناسِب ظروفه وأحواله وبيئته وثقافته وعلمه بما يُحَقّق له أعظم وأتَمّ استفادة وسعادة
هذا، ومعني "وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)"، "إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)" أيْ وهل وَصَلَ إلى عِلْمك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم ذلك الخَبَر المُهِمّ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر ومَوَاعِظ وفوائد مُسْعِدَة في الداريْن.. إنه خَبَر وقِصَّة رسولنا الكريم موسي (ص) حين رأيَ أيْ شاهَدَ نارَاً بالقُرْب من جبل الطوُر بأرض سيناء بدولة مصر فقال حينها لزوجته ابْقوا مكانكم إني آنَسْتُ أيْ رأيتُ مَا يُؤْنِس أي ما يُشْعِر بالأُنْس أيْ الطمأنينة والأُلْفَة والفَرَح، آنستُ ناراً سنَنْتَفع بها، لعَلّي أيْ أرجو أن أجِيئكم منها بقَبَسٍ أيْ بشُعْلَةٍ مُقْتَبَسَةٍ أيْ مَأخُوذَةٍ منها نستخدمها في التدفئة أو الإنارة أو الطهْي أو نحو ذلك من منافع، أو أجِدُ علي النار هُدَيَ أيْ عند النار إرشاداً أيْ هادِيَاً يَهْدينا ويُرْشِدنا لطريق سَيْرِنا فلا نُخْطِئه، كذلك من معاني هُدَيَ أيْ هداية أيْ إرشاداً لكل خيرٍ وسعادة، وقد تَحَقّق له أعظم هُدَي بالفِعْل حيث كَلّمه الله تعالي عندها وأوْحَيَ إليه التوراة التي فيها الإسلام المُناسِب لعَصْرهم والذي سيُبَلّغه للناس ليُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه
ومعني "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)"، "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)"، "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)"، "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)" أيْ فلمّا جاءها، أيْ النار، أيْ وَصَلَ إلي مكانها، نُودِيَ من الله تعالي عندها أيْ نادَيَ عليه قائلا: يا موسي.. أيْ بَدَأ سبحانه يُكَلّمه وبدأ (ص) يُدْرِك أنه قد كَرَّمَه تكريماً عظيماً بتَكْلِيمه وباختياره لكي يكون رسولاً للناس يَهديهم لكل خيرٍ وسعادة في الداريْن، يَهديهم للإسلام.. يا موسي، إني أنا ربك الذي يُكَلّمك، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك.. هذا، واستخدام لفظ "ربك" هو لطمأنته فلا يخاف من هذا الحَدَث الذي لم يَحْدُث لبَشَرٍ مِن قبله حيث الربّ يعني التربية والرعاية والإرشاد والرزق، كما أنَّ استخدام لفظ "إنّي" وبعده لفظ "أنا" هو للتأكيد علي أنه سبحانه ربه وهو الذي يُكَلّمه لا غيره.. ".. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)" أيْ وبالتالي إذَن، وإذا كان الأمر كذلك بهذه الأهمية والقُدْسِيَّة العظيمة، فاخْلَع حذاءك لأنك الآن موجودٌ بالوادي المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر مِن السوء المُبَارَك فيه المُكَرَّم المُعَظّم المُسَمَّي طُوَيَ، وهو سَهْلٌ بجانب جبل الطور بأرض سَيْناء بدولة مصر، وسبب قُدْسِيَّته أنه المكان الذي حَدَثَ فيه كلامٌ من الخالق لبَشَرٍ وبدأ فيه نزول كتاب التوراة علي موسي (ص) وبه الإسلام هادِيَاً مُسْعِدَاً للناس في هذا الزمن.. والخَلْع هو أمرٌ رَمْزِيٌّ للدلالة علي قُدْسِيَّة المُهِمَّة التي تَمَّ اختياره لها أيْ عِظَمها وهَيْبتها وبَرَكتها وكرامتها وعليَ مَن كان عليه مهِمَّة مَا عظيمة أنْ يَتَجَرَّد ويَتَفَرَّغ لها مِن أيِّ شَوَاغِل غيرها أقلّ أهمية، كما أنَّ الخَلْع دلالة علي حُسْن التأدّب مع الله في مِثْل هذا الموقف والاستعداد للاستسلام التّامِّ لِمَا سيُوصِي به.. "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)" أيْ وأنا تَخَيَّرْتُك بسبب حُسْن وكَمَال خُلُقِك مِن بين جميع الناس في زمنك لتكون رسولاً مِنّي لهم تُبَلّغهم الإسلام الذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في الداريْن، واخترتك كذلك بكلامي أيْ بتَكْلِيمي إيّاك مباشرة بغير واسطةِ مَلَك ولم أفعل ذلك مع أيِّ رسولٍ غيرك.. وفي هذا تذكير له بالنّعَم العظيمة التي لا تُحْصَيَ والتي فيها كل المصلحة والسعادة له ولغيره ليشكرها ولكي يُوصِيهم بشكرها بإحسان استخدامها ليحفظها له ولهم ويزيده ويزيدهم منها، وأعظمها نِعْمة الإسلام وتكريمه وتشريفه باختياره ليَنال مَكَانَتَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. ".. فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)" أيْ وبالتالي إذَن، وإذا كان الأمر كذلك، فاسْتَمِع لِمَا يُوحَيَ إليك مِنّي مِن التوراة وما فيها مِن إسلامٍ لِتَعْلَمه ولِتُبَلّغه للناس، اسْتَمِع واسْتَمِعوا جميعاً سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ له كله في كل أقوالكم وأعمالكم بكل شئون حياتكم لتَسعدوا في الداريْن.. "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)" أيْ فاسْتَمِع واسْتَمِعُوا أيها الناس لِمَا يُوحَيَ وهو: إنّني أنا الله لا إله إلا أنا أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ أنا وحدي بلا أيّ شريكٍ لي، فأنا الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معي شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبالتالي إذن فاعبدني أيْ أَطِعْنِي وَحْدِي، واعبدوني وحدي، وأقِم، وأقِيموا، الصلاة، أيْ وواظِبوا علي تَأْدِيَة الصلوات المَفروضة عليكم في أوقاتها وأَدُّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أَحْسِنوها وأَتْقِنُوها.. هذا، وتَخْصِيص الصلاة رغم أنها مِن ضِمْن العبادة للتنبيه علي أهميتها وآثارها المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة لمَن يُحْسِن إقامتها.. ".. لِذِكْرِي (14)" أيْ لذكري فيها أيْ لكي تَذْكُرَني وتَذْكُروني فيها – كما تَذْكرني وتذكروني خارجها في كل زمانٍ ومكان (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة صُوَر الذكر وسعاداته في الآية (152) من سورة البقرة "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) – لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بالصلاة إلا لتكون صِلَة بين المَخْلوق وخالِقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)" أيْ إنَّ الساعة أيْ ساعة حُدُوث يوم القيامة هي حتماً وبكل تأكيدٍ قادِمَة يومَاً مَا لا شكّ فيها، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. فلْيُحْسِن بالتالي إذَن كل عاقلٍ الاستعداد لها بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، من خلال أن يعبدني ويقيم الصلاة لذِكْري، كما وَرَدَ في الآية السابقة.. ".. أَكَادُ أُخْفِيهَا.." أيْ أُقارِب أيْ أَقْتَرِب وأوُشِك أنْ أخفيها حتي عن نفسي فكيف أُظْهِرها لكم؟! وهذا أسلوبٌ في اللغة العربية يُفيد المُبَالَغَة الشديدة في الإخفاء فلا يعلمها أيُّ أحدٍ حتي الرسل الكرام.. والحِكْمَة في إخفائها هي لتحقيق مصلحة الإنسان، من أجل دَفْع كلّ عاقلٍ لاستمرار الحَذَر والاستعداد الدائم التامّ لها طوال حياته بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه فيَسعد بذلك في كل دنياه ثم في أخراه، لأنه لا يَعلم متي هي ولا متي موعد موته، لأنه لو كان يَعلم موعدهما لكان من المُحْتَمَل أن يُؤَجِّل الاستعداد لها.. ".. لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)" أيْ لكي تُجْزَيَ من الله تعالي أيْ تُكَافَيء وتُعْطَيَ وتُحَاسَب كلُّ نفسٍ إنسانيةٍ بما أيْ مُقابِل وجَزاء مَا تَسْعَيَ أيْ تَعمل وتقول في دنياها من خيرٍ أو شرّ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقّ حقّه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له، ويُعاقَب كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه، فذلك هو تمام العدل.. وفي هذا بيانٌ للحكمة في حَتْمِيَّة مَجِيء الساعة وهي لكي يتحقّق العدل والحقّ بأن يأخذ كلٌّ حقه، فمَن عمل خيرا فله كلّ خير وسعادة وزيادة ومَن عمل شرَّاً فليس له إلا كلّ شرٍّ وشقاء يناسب شرّه بكل عدل دون أيّ ظلم، إذ ليس من المعقول أن تنتهي هذه الحياة وهذا الكوْن المُحْكَم وهذا الخَلْق الدقيق المُعْجِز وكلّ هذه المُعجزات وكل هذه الأحداث هكذا بصورة عَبَثِيَّة فَوْضَوِيَّة! وإنما مِمَّا يُوافِق العقل والمَنْطِق والفطرة (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) أن يَتَناسَب الختام مع بدء الحياة واستمرارها فيكون في مُنتهي الحِكمة والدقّة والعدل أيضا كما كان الكوْن والخَلْق كذلك دائما من الخالق سبحانه.. فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر!! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فالذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا وعملوا بكلّ أخلاق إسلامهم، لهم قطعا مغفرة أيْ مَحْو لذنوبهم التي قد وقعوا فيها وعفو عنها من ربهم الغفور الرحيم الودود، ولهم مع هذا ما هو أعظم وأسعد – إضافة إلي السعادة التامّة التي كانوا فيها في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم وعملهم بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا – وهو الرزق الكريم أي النفيس الفخم الهائل وهو الجنة بدرجاتها حسب أعمالهم حيث تمام السعادة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. بينما غيرهم المُسِيئين بكل أنواع الإساءات الذين فَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا فحالهم علي العكس تماما حتماً حيث لهم بالتأكيد كلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب شرورهم في عذابٍ مؤلمٍ مُوجِعٍ مُهينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف، بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه وتعاساتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)" أيْ وبالتالي، وإذا كانت آتية حتماً، فلا يَمْنَعك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل، عنها أيْ عن الساعة – أو عن الصلاة وعبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريك – أيْ عن الإيمان بها ودوام تَذَكّرها وحُسْن الاستعداد لها بحُسن العبادة لله باتّباع الإسلام – والنون لتأكيد التحذير مِن الصَّدّ – مَنْ لا يُصَدِّق بها أيْ يُكَذّب بحُدُوثها أيْ بوجود حسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونار، واتّبَعَ هَوَاه أيْ والذي هو مُتَّبِعٌ لِهَواه أيْ سائرٌ خَلْفَ مُطِيعٌ شروره ومَفاسده وأضراره لأنه لا حساب من وِجْهة نظره والذي هو السبب الرئيسي الذي يُؤَدِّي إلي التكذيب بها أو نسيانها، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه سيَمنعك عنها قَدْر استطاعته بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. فَتَرْدَى (16)" أيْ فبالتالي تَرْدَيَ أيْ تَهْلَك، إنْ أنتَ أَطَعْتَ مَن يَصُدّك عنها، أيْ إذا نَجَحَ في صَدِّكَ عنها فلم تُؤمِن بها أيها الإنسان أو نسيتها أيها المسلم فلم تُحْسِن العمل لها فإنك حتماً ستَهْلك حيث ستَتْعَس في دنياك وأخراك، فاحْذَر إذَن كل ذلك أشدَّ الحَذَر لِتَسْعَدَ فيهما
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو سبحانه قادرٌ علي كل شيء، فهو الذي يُحَرِّك الأسباب والأمور كلها، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، من أجل تحقيق مصالح وسعادات الخَلْق كله.. إنَّ الله تعالي يُؤَيِّد رسله بمُعْجِزاتٍ خارِقَاتٍ لِمَا اعتادَ عليه الناس تأكيداً لصِدْقهم فيزدادون ثقة فيهم فيَسْهُل عليهم اتّباعهم والإسلام الذي معهم من ربهم ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم، وكذلك يُؤَيِّد سبحانه كل مسلمٍ مُتَمَسِّك بربه عامِل بكل أخلاق إسلامه بأنْ يُيَسِّر له أسباب ما يريد تحقيقه ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها ما دامت خيراً وسعادة له ولغيره في الداريْن، إمَّا مباشرة بإعطائه القُدْرَة والقوَّة علي ذلك، وإمَّا بصورةٍ غير مباشرةٍ بتيسير بعض خَلْقه له يُعينوه علي ما يريد.. إنَّ هذا هو بعض ما يُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
هذا، ومعني "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)"، "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)" أيْ وما هذه التي في يمينك أيْ في يَدِكَ اليُمْنَيَ يا موسى؟ فهو سبحانه يسأله – وهو يعلم بالقطع – عن عصاه التي بيده لتنبيهه إليها لأنها هي التي سيَحْدُث فيها وبها المُعْجِزَة، فالمقصود من هذا السؤال أنْ يتأكّد أنَّ مَا في يده هو مجرّد عصا فيزداد بعد ذلك تأكّده من قُدْرَته تعالى عندما يراها واقِعِيَّاً أمامه تَنْقَلِب حَيَّة تَسْعَيَ وتزداد طَمْأَنته أنه حتماً سيُؤَيِّده بمُعْجِزاتٍ تَنْصره في مَهامِّه المُقْبِلَة.. هذا، وهو سبحانه يناديه باسمه مرة أخري لِيَزيده طمأنة وتكريماً وبَيَانَاً لحبّه له.. "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)" أيْ قال موسي له سبحانه: التي بِيَمِيني هي عصاي التي أَسْتَنِدُ عليها أثناء سَيْرِي، وأَخْبَطُ بها خَبْطَاً خفيفاً رفيقاً علي غنمي لكي أسوقها، كذلك من معاني أهُشّ أيْ أخْبط بها ورق الشجر ليسقط علي غنمي لتأكل منه، ولِيَ فيها أغراض وأهداف وحاجات ومنافع أخري غير ذلك، يَقْصِد مثلاً دَفْع أذَيَ الحيوانات وحَمْل الماء والطعام علي طرفها وما شابه هذا.. هذا، وقد كان يَكْفِى موسى (ص) فى الإجابة أن يقول هى عصاى ولكنه أضاف إلى ذلك أتَوَكّأ عليها وأهُشّ بها على غنمى لأنَّ المقام يَسْتَدْعِى الإطالة إذ هو مقام حديث العبد مع خالِقه والحبيب مع حبيبه وفي هذا تكريمٌ وتَمَتّعٌ مَا بَعْده تكريم ولا تمتع ولم يَحْدُث لبَشَرٍ غيره، لكنه اختصر في قوله ولِيَ فيها مآرب أخري إمّا حياءً من الله تعالى لطول الكلام فى الجواب وإمّا رجاء أن يسأله عن هذه المآرب المُجْمَلَة فيُجيب عنها بالتفصيل ليَنال مزيداً من التكريم والتّمَتُّع
ومعني "قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)"، "فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)"، "قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)" أيْ قال تعالي لموسي ارْمِها أي ارْم عَصاك علي الأرض يا موسي، لِيُرِيه مَا جعل له فيها مِن مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَة.. إنه سبحانه يُناديه باسمه مرة أخري لِيَزيده طمأنة وتكريماً وبَيَانَاً لحبّه وعَوْنه وتأييده له.. "فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)" أيْ فَرَمَاهَا موسي من يده ففُوجِيءَ بها تَنْقَلِب بقُدْرَة الله تعالي حَيَّة – أيْ ثعباناً كبيراً – تَسِير وتَتَحَرَّك بقوّة وسرعة.. "قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)" أيْ قال الله تعالي الرحيم الودود مُطَمْئِنَاً له خُذْ هذه الحَيَّة التى تَحَوَّلَت عصاك إليها ولا تَخَفْ منها – كما هو حال الإنسان في مِثل هذه الأحوال – فنحن بقُدْرَتنا سَنُرْجِعها حالتها الأولي أيْ عصا كما كانت سابقا.. وفي هذا تجهيزٌ لموسي بتقوية إرادة عقله وبطَمْأَنَته بأنَّ قُدْرَة خالِقه التي لا يمنعها مانِع القادِر علي كل شيءٍ العالِم به معه دائماً تُؤَيِّده وتَنْصُره في نَشْر الإسلام ومقاومة الطغاة الظالمين في زمنه الذين يُحاولون مَنْع نَشْره كفرعون وأعوانه
ومعني "وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)" أيْ وضَعْ يدك مَضْمُومَة تحت جناحك أيْ عَضُدك – وهو أعلي الذراع وسُمِّيَ كذلك لأنه يُشبه جناح الطائر – ثم أخرجها فإنها تَخْرُج بقُدْرَتنا بيضاء ناصِعَة البياض لامِعَة مُتَلألأة ليست كَلَوْنِك الأصليّ، من غير سوءٍ أيْ ليست فيها وليست بسبب أيّ مرضٍ قد يُحْدِث هذا البياض كالبَرَص والبُهَاق ونحوهما، وذلك حتي لا يَتَوَهَّم أنَّ بياضها الشديد هذا قد حَدَثَ بسبب سوءٍ أيْ مرضٍ أصابه فجَعَلَها بيضاء هكذا فيتأكّد بالتالي أنَّ الأمر مُعْجِزَة.. ".. آيَةً أُخْرَى (22)" أيْ لتكون لك مُعْجِزَة أخرى غير مُعجزة العَصَا التى سَبَقَ أنْ أعطيناك إيَّاها.. وفي هذا مزيدٌ من التجهيز لموسي بتقوية إرادة عقله وبطَمْأَنَته بأنَّ قُدْرَة خالِقه التي لا يمنعها مانِع القادِر علي كل شيءٍ العالِم به معه دائماً تُؤَيِّده وتَنْصُره في نَشْر الإسلام ومقاومة الطغاة الظالمين في زمنه الذين يُحاولون مَنْع نَشْره كفرعون وأعوانه
ومعني "لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)" أيْ فَعَلْنا ذلك من إعطائك مُعْجِزَة العَصَا ومُعجزة اليد لكي نُرِيَكَ يا موسي بهاتين المُعجزتين بعضاً مِن مُعجزاتنا الكبرى الدالّة على تمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا وعلي أننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أي الطاعة وعلي صِدْقك فيما ستُبَلّغه للناس من طَرَفنا إذ لا يمكن لأحدٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ أنْ يُكَذّب مِثْل هذه الآيات وعلي أننا بقُدْرتنا علي كل شيءٍ وعِلْمنا به سنكون دائماً معك ومع المؤمنين بك نُؤَيِّدكم ونُعينكم ونَرْعاكم ونَحميكم ونَنْصركم في نَشْر دعوة الإسلام ومقاومة الطغاة الظالمين في زمنكم الذين يُحاولون مَنْع نَشْره كفرعون وأعوانه لكي تَطْمَئِنّوا بذلك فتَنْطَلِقوا بقوّةٍ مُتَوَكّلين علينا واثِقين بنا وبوعودنا مُتمسّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم ناشِرين له مُدَافِعين عنه لتَسعدوا في الداريْن
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنون دَوْمَاً الاستعداد للمَهامِّ التي سيقومون بها في حياتهم، وأوّل وأهمّ أصول هذا الإعداد هو الاستعانة بالقويّ المَتين القادر علي كل شيءٍ سبحانه، ثم فَهْم طبيعة المُهِمَّة وأهدافها وتفاصيلها جيدا، ثم الاستعانة بأهل الخِبْرَة والتّخَصُّص والعلم الأقوياء الأُمَناء لوضع الخطط والوسائل قريبة وبعيدة المَدَيَ لكيفية تحقيقها، ثم تقييم الأمور أثناء التنفيذ والاستزادة من الإيجابِيَّات وعلاج السلْبِيَّات
هذا، ومعني "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)" أيْ اذهب يا موسي إلي فرعون – مَلِك مصر في ذلك الوقت – لأنه طَغَيَ أيْ ظَلَمَ وبَالَغَ في الظلم وتجاوَزَ كل الحدود فيه وفي الفساد والكفر والاستكبار واسْتِعْباد الخَلْق حيث فَعَلَ الظلم بكل أنواعه سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، اذهب إليه فادْعُهُ بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ إلي عبادتي وَحْدِي بلا أيِّ شريكٍ وإلي اتّباع دين الإسلام
ومعني "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)"، "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)"، "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)"، "يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)"، "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)"، "هَارُونَ أَخِي (30)"، "اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)"، "وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)"، "كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)"، "وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)"، "إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)"، "قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)" أيْ سارَع موسي (ص) بدعاء وسؤال خالقه الكريم الرحيم الودود القادر علي كل شيء المالِك له العالِم به أن يُعطيه كل العَوْن والتيسير للأسباب والتوفيق والسداد والرعاية والأمن والتأييد والقوة والنصر ليتمكن من أداء مُهِمَّته بنجاح لينال سعادتيّ الدنيا والآخرة.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ أن يكون كذلك دائم الدعاء لربه دائم السؤال منه دائم التواصُل معه ليُحَقّق السعادة في الداريْن.. أيْ حينها قال موسي (ص): ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اشْرَح لي صَدْرِي أيْ اجعل عقلي وفِكْري وشعوري مُنْشَرِحَاً بالإسلام مَبْسُوطاً مَسروراً مَرْضِيَّاً مُطمئناً مُرْتاحاً مُسْتَبْشِرَاً مُسْتَنِيرَاً مُتَّسِعَاً لا يَضِيق بجدالٍ بغير حقّ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ونحوه.. "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)" أيْ وسَهِّلْ لي كلّ أمرٍ أقوم به في كل شئون حياتي بتيسير الأسباب له ومَنْع المَوانِع عنه.. "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)"، "يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)" أيْ وفُكّ عُقْدَةَ لساني أيْ سَهِّل نُطْقَ كلامِي فلا يَتَعَقّد أو يَتَلَعْثَم بل يكون سَلِسَاً بليغاً واضِحَاً نافِعَاً مُؤَثّرَاً.. "يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)" أيْ لكي يَفْهَم الناس قولي أيْ كلامي لهم ويَعْلَموه ويَعْقِلوه ويَتَدَبَّروه ويُدْرِكُوه ويَتَعَمَّقُوا فيه ويَعملوا به.. "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)"، "هَارُونَ أَخِي (30)"، "اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)"، "وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)" أيْ واجعلي مُؤَازِرَاً أيْ مُعِينَاً من أهلي، هو أخي هارون، شُدَّ به ظَهْرِي يا ربّ، والأَزْر هو الظهر، وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يعني قَوِّنِي به، واجعله شَرِيكَاً لي في أمري أيْ في أمر تبليغ الإسلام للناس حتى نُؤَدّيه على أكمل وَجْه.. "كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)"، "وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)" أيْ لكي نَعْبُدك دائما، أيْ نُحْسِن عبادتك علي الدوام، أنا وأخي ومَنْ يُسْلِم معنا، أي اسْتَجِب يا ربّ دعائي بأنْ تَشْرَحَ لي صَدْرِي وتُيَسِّر لي أمري لكي نُحْسِن العمل بالإسلام والدعوة له والدفاع عنه، وهذا هو المقصود من التسبيح والذكر كثيرا، والتسبيح في الأصل هو تنزيه الله تعالي أيْ إبعاده عن كل صَفَةٍ لا تَليق به حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ للطاعة، والذكر هو كلّ قولٍ أو عملٍ فيه طاعة أيْ هو كل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صُوَر الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين للتعاون علي كل خيرٍ حيث هذا التعاون الخَيْرِيّ سيُعِين حتماً علي مزيدٍ من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. "إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)" أيْ لأنك كنتَ قبل خَلْق الخَلْق ولازِلْتَ وستَسْتَمِرّ قطعاً سبحانك لأنَّ لك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كنتَ بنا وبكل خَلْقك بصيراً أيْ تَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيء، تَرَيَ أسرار الأمور وخَفَايَا العقول، لا يَخْفَىَ عليك شىءٌ من كل أحوالنا وأحوالهم واحتياجاتنا واحتياجاتهم التامَّة لكلِّ عَوْنِك وتوفيقك وسَدادك وحبّك ورضاك ورعايتك وأمْنك ورزقك وقُوَّتك ونصرك وإسعادك في الدنيا والآخرة، فاسْتَجِب لنا برحمتك وكرمك وفضلك ووُدِّك ليَتَحَقّق لنا كل ذلك.. "قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)" أيْ قال الله تعالي له لقد أُعْطِيتَ مِن رحمتنا وكرمنا وفضلنا ووُدِّنا مَسْؤُولَك يا موسي أيْ كلّ مَا سألتَ، فاطْمَئِنّ وانْطَلِق واسْتَبْشِر واسْعَد (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنه سبحانه يُناديه باسمه مرة أخري لِيَزيده طمأنة وتكريماً وبَيَانَاً لحبّه وعَوْنه وتأييده له
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا ذَكَرْتَ دائماً نِعَم ربك عليك وأحسنتَ شُكْره عليها والتي لا يُمكن حَصْرها، نِعَمه منذ كنتَ نُطْفَة وجَنِينَاً في بطن أمك وحِفْظه لك ورعايتك وتغذيتك وتَنْميتك ثم تيسير ولادتك ثم كفالتك وأنت لا تَمْلك ولا تعلم شيئا عند مَن يُحِبّك ويَعطف عليك ويَرْعاك حتي يمكنك الاعتماد علي ذاتك فتَنْطَلِق في حياتك لتَنتفع وتَسعد بكل خيرات الخالق الكريم الرحيم الودود عليك وعلي كل خَلْقه، تُحْسِن شكره بعقلك باستشعار قيمة كل هذه النّعَم، وبلسانك بحمده، وبعملك بأنْ تستخدمها في كل خيرٍ دون أيِّ شرّ، بذلك ستجدها دَوْمَاً باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووَعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)" أيْ هذا تذكيرٌ منه تعالي لموسى (ص) ببعض نِعَمه التي أنعمها عليه والتي لا تُحْصَيَ حتى يزداد هو ومَن يُسْلِم معه ثَبَاتَاً وثقة بوعده أنه حتماً دَوْمَاً معهم بعِلْمه وقُدْرَته وعَوْنه وتأييده ونَصْره ورعايته وحبّه وسيَستجيب دائماً لهم عند دعائهم له فيطمئنوا بذلك ويَنطلقوا ليعملوا بالإسلام ويدعوا له ويدافعوا عنه ويسعدوا به في دنياهم وينتظروا مُسْتَبْشِرين أعلي درجات جنات ربهم في أخراهم.. أيْ ولقد أنعمنا عليك مَرَّة أخري قبل هذه المَرَّة، فنِعْمة هذه المَرَّة والتي هي أعظم النّعَم هي اختياره ليكون رسولاً يُبَلّغ عن الله تعالي الإسلام للناس ويكون قائداً هادِيَاً لهم فيَنال بذلك مَكَانَتَيّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة مع نِعْمة الاستجابة له في كل ما سأل، وذلك لكي يَتذكّرها دائماً ويحمده عليها ليحفظها وليزيدها له، وأمّا النّعَم الأخري التي قبل هذه النعمة والتي أنعم بها عليه فهي رعايته وحِفظه وتنميته منذ ولادته ووَضْعِه عند مَن سَيَرْعاه – وفي هذا تذكرةٌ لكلّ إنسانٍ بأنَّ خالِقه يُحِبّه ويَرْعاه ويَضَعه عند مَن يُحبّه ويَرْعاه ويُنَمِّيه – والتي كانت من غير سؤاله لله إيَّاها فكيف إذا سأله ودعاه فإنه من باب أوْلَيَ حتماً سيَستجيب في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً مُفيداً مُسْعِدَاً له ولغيره، فهذه من صفات الكريم سبحانه، وهذه النّعَم السابقة هي "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)"، "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)" أيْ ولقد مَنَنّا عليك مرّة أخري حين ألْهَمنا وأرْشَدنا إلي أمك في عقلها ما يُوحَيَ أيْ ما يجب أن يُلْهَم حينها ولا يُمكن أنْ يُعْلَم إلا بالإلهام من الله تعالي لأنه وحده الذي يعلم الغيب مِمَّا يَتَعَلّق بكَيْفِيَّة إنقاذك من فرعون الذي كان يَحكم مصر وقت ولادتك والذي كان من شِدَّة ظُلْمه وحِرْصه علي مُلْكِه ورُعْبِه من ضياعه يَقتل مَا أمكن كل مولودٍ يُولَد خوفاً من أن يَكبر فيَنتزع منه هذا المُلْك!!.. هذا، وعدم ذِكْر تفصيل ما يُوحَيَ هو من أجل فتح المجال للعقل ليَتَخَيَّل ما يريد تَخَيُّله مِمَّا أوُحِيَ إليها لبيان عِظَم شأنه وعظيم هذه النعمة.. وهذا الذي ألْهَمْناه إيَّاها هو أن اقذفيه أيْ ضَعِيه أيْ مولودك أيْ أنت في التابوت أيْ الصندوق وَضَعِيه في اليَمِّ أيْ البحر وسيَضَعه – واللام لام الأمر – بأمرنا وقُدْرَتنا ورعايتنا البحر علي الشاطيء بكل أمانٍ واستقرار، فيأخذه فرعون الذي هو عَدُوٌّ لي حيث يقول للناس كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً ما لم يَقُلْه أحدٌ قَبْله ولا بَعْده أنا ربكم الأعلي وهو عدوٌّ له أيْ لموسي في المستقبل حيث سيُعَادِيه حينما يَدْعوه لعبادتي.. ".. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.." أيْ وجَعَلْتُ وأَغْمَرْتُ عليك مَحَبَّة عظيمة مِنّي لا مِن غيري فصِرْتَ بذلك مَحْبُوبَاً بين جميع الخَلْق حتي مِن عدوك فرعون، فكل مَن رآك وَضَعْتُ حبّك في عقله ومشاعره بسبب حُبِّي لك، وكان مِن آثار هذه المَحَبَّة عطف امرأة فرعون عليك وطلبها منه عدم قتلك بل وجَعْلك ولداً له يرعاك كأولاده فعِشْتَ مُعَزّزَاً مُكَرَّمَاً فى بيته مع أنه مستقبلا سيكون عدواً لك.. وهكذا رعاية الله تعالى ومَحَبّته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشرّ والطغيان آمِنَاً مُطمئناً، فكانت هذه من النّعَم عليه والمُعْجِزات له ولكل مسلم يَتَدَبَّرها حيث يَضع المَحَبَّة في قلب عدوه وقلب امرأته وكل مَن حوله فيُشْرِفون جميعاً علي رعايته وخدمته وتنميته!!.. وهكذا إذا أحبَّ الله أحداً لأنه يعمل بكل أخلاق إسلامه جَعَلَ جميع الخَلْق يُحِبّونه فينالَ بذلك تمام التيسير والأمن والخير والسعادة في الداريْن.. ".. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)" أيْ أوْحَيْتُ إلى أمك بما أوحيتُ من أجل مصلحتك ومنفعتك وألقيتُ عليك مَحَبَّة مِنّى لكي يُحبّك الناس ولكي تُصْنَع علي عيني أيْ ولكي تَتَرَبَّي وتَتَشَكّل وتَتَجَهَّز تحت نَظَرِي وإشْرافي وفي رعايتي وحِفْظِي، وأيّ إكرامٍ واهتمامٍ وحبٍّ أعظم مِن هذا؟! أنْ يكون موسي (ص) صَنْعَة ومُنْتَجَاً من صناعة أحسن الخالِقين سبحانه!! وهكذا أيضا يُرَبِّي ويُسْعِد الله كل مسلمٍ يُحِبّه ويَتوكّل عليه ويَسأله رعايته وتوفيقه للتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه
ومعني "إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)" أيْ ومَنَنّا عليك كذلك حين تَسِير أختك خَلْفَك تُتابِعك وتُرَاقِبك وتَطْمِئنّ علي حالك لِتُطَمْئِنَ أمك، فتقول هل أرْشِدكم علي مَن يَرْعاه ويُرَبِّيه، وذلك لَمَّا عَلِمَتْ أنك تَرْفض الرضاعة مِن أيِّ مُرْضِعَة، فأَعَدْنَاك بالتالي إلي أمك لكي تَستقرّ وتَطمَئِنّ ويَستريح بالها وفِكْرها وتَسعد بنَجَاتك وبعودتك لأحضانها ولكي لا تَحزن علي فراقِك، وقتلت رجلا من قوم فرعون خطأ بغير قَصْدٍ فأنقذناك من الحزن الشديد الذي أصابك بسبب هذا وبسبب خوف قَتْلك بأنْ غَفَرْنا لك وأزَلْنا غَمَّك لَمَّا اسْتَغْفَرْتنا وبأنْ خَلّصْناك من شَرِّهم وأخرجناك سالِمَاً منهم.. ".. وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.." أيْ واخْتَبَرْناك اختباراً كثيراً فنَجَحْتَ فيه كله حيث كنتَ دائماً مستقيماً مع كل خيرٍ تارِكَاً أيّ شرٍّ حتي أصبحتَ مُؤَهَّلَاً لأنْ تكون رسولا، فهذه الاختبارات هي مِن مِنَنِنَا أيْ نِعَمِنَا عليك – وعلي كل مسلمٍ نَختبره باختباراتٍ تُناسبه – حيث نُعِينك عليها برحمتنا ونِعْمتنا لاستعانتك بنا فتَخرج منها مُستفيداً استفاداتٍ كثيرة من حيث قوّة إرادة عقلك فتُعينك هذه الإرادة القوية علي العمل بكل خيرٍ ومُقاوَمَة وتَرْك كلّ شرّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وتُعينك علي دعوة غيرك له ونَشْره والدفاع عنه ضِدّ أيِّ مُعْتَدِي فتَسعد بذلك في الداريْن.. هذا، ومن أمثلة هذه الاختبارات التي اختبره الله تعالي بها تَرْك الثراء الذي كان فيه في قصر فرعون بعد حادثة القتل وهروبه منه حيث سافر لمدينة مَدْيَن بجنوب الشام ماشِيَاً غريباً مُحتاجَاً تارِكَاً لمصر ولأمه وأهله وأحبّائه وأرضه وماله وعامِلَاً بالرعي أجيراً هناك ونحو هذا من اختباراتٍ أثناء ذلك.. ".. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)" أيْ وبَقيتَ سنواتٍ في بلاد أهل مَدْيَن وأنت علي هذه الأحوال بهذه الاختبارات المُفِيدَة المُؤَهِّلَة لك تحت رعايتنا نَمُنَّ عليك أثناءها بأنْ نُعينك عليها لتَستفيد منها وتَتَأهَّل بها، ثم حَضَرْتَ بعد ذلك مِن مَدْيَن برحمتنا ونِعْمتنا إلى المكان الذى نادَيْناك فيه بجبل الطور على قَدَرٍ مِنّا مُقَدَّر تقديراً دقيقاً يا موسي أىْ على وِفْق الوقت الذى قَدَّرْناه لمَجِيئك وحَدَّدْناه لتنالَ مِنّا أعظم مِنَّة أيْ نِعْمَة وهي تَكْلِيمك ولتكون رسولاً دون أنْ تَتَقَدَّمَ أو تَتَأَخّرَ عن هذا التقدير لأنَّ كل شىءٍ عندنا مُحَدَّد ومُقَدَّر بوقتٍ لا يَتَخَلّف عنه، فكلّ هذا لم يَكُن عَبَثِيَّاً وفَوْضَوِيَّاً وعشوائيَّاً بل هو بتقديرنا ولُطْفِنا ورحمتنا لِحِكَم ولمنافع ولسعادات كثيرة لا تُحْصَيَ لك وللناس، فكلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نفع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، ولابُدّ أن يتحقّق ويقَع في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مناسباً من أجل مصلحة خَلْقنا وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعه أو يُغَيِّره.. هذا، وهو سبحانه يناديه باسمه مرة أخري لِيَزيده طمأنة وتكريماً وبَيَانَاً لحبّه وعَوْنه وتأييده له
ومعني "وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)" أيْ ومن أعظم مِنَنِي أيْ نِعَمِي عليك أني خَلَقْتك ورَبَّيْتك وشَكّلْتك وجَهَّزْتك وصَنَّعْتك بكل اعتناءٍ تحت نَظَرِي وإشْرافي وفي رعايتي وحِفْظِي واخْتَرْتك وفَتَنْتك فتُونَاً وجِئتُ بك علي قَدَرٍ، كل ذلك لنفسي، أيْ لتكون رسولاً لي، أيْ لرسالتي، أيْ لِتُبَلّغ الإسلام للناس عَنّي، عن نفسي، فأنت تُمَثّلني كأني أنا الذي أُرْشِد خَلْقِي، وذلك من عظيم حُبّي وتكريمي لك، مثلما أحبّ كل رُسُلي الكرام.. وأيّ إكرامٍ واهتمامٍ وحبٍّ أعظم مِن هذا؟! أنْ يكون موسي (ص) صَنْعَة ومُنْتَجَاً من صناعة أحسن الخالِقين سبحانه ويَصْنَعه لنفسه!!.. وهكذا أيضا يُرَبِّي ويُسْعِد الله كل مسلمٍ يُحِبّه ويَتوكّل عليه ويَسأله رعايته وتوفيقه للتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه.. إنَّ في هذا تنبيهاً وإرشاداً ضِمْنِيَّاً لكل المسلمين لأنْ يَتّخِذوا رُسُله تعالي قُدْوَة لهم في كل مواقف ولحظات حياتهم ليكونوا مِثْلهم أهْلَاً لتربية ولصناعة ولاختيار ربهم لهم فيكونوا مثلهم أيضا أئمة قادَة هُدَاة للعالمين ليسعدوا جميعا في الداريْن، وهم سيُحَقّقون بالتأكيد هذه المَكَانَة العالية إذا اجتهدوا في التمسُّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة (33)، (34) من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن نِعْمَة الاختيار وسببها)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وفي وقوفهم أمام الظالمين الذين يُحاولون اسْتِعْباد الناس وجَعْلهم عبيداً لهم لا لربهم لاستغلالهم ونَهْب جهودهم وثرواتهم، سواء أكانوا حُكّامَاً ظالمين مُسْتَكْبِرين مُسْتَبِدّين أم مُعاوِنين لهم أم غيرهم، مُتَوَكّلين في كل ذلك علي ربهم القويّ المَتِين العزيز الرحيم مالِك المُلْك القادر علي كل شيءٍ – مع حُسْن اتّخاذهم لكل الأسباب المُمْكِنَة – أيْ مُعْتَمِدِين عليه سبحانه، أيْ يَجعلونه وكيلاً لهم مُدافعاً عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، مُوقِنين أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وبالجملة ستَسعد إذا اتّخذتَ الرسل الكرام قُدْوَة في عبادتهم لله تعالي وحده بلا أيِّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)"، "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)"، "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)" أيْ هذا بيانٌ لمُهِمَّته بعد البيان السابق لحُسْن تَجْهيزه لها بنِعَمِه تعالي عليه حيث اصْطَنَعه لنفسه.. أيْ اذهب أنت يا موسي ومعك أخوك هارون مُؤَيَّدِين مُطْمَئِنّين بآياتي أيْ بدلالاتي الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقكما وأنكما رسولان من عندي وأني وحدي المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديني الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقكما كالعَصَا وغيرها أم آيات في الكوْن حول البَشَر تقومان بإرشادهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتابنا التوراة الذي أوحيته إليكما تقومان بتلاوتها وقراءتها عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات الإسلام المُناسِب لعصرهم والتي تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)" أيْ ولا تَضْعُفا ولا تَتَكَاسَلَاَ ولا تَتَرَاخَيَا ولا تُقَصِّرَا ولا تُبْطِئا في تبليغ ذِكْري، أي في دعوة الناس لي، أيْ لعبادتي ولاتّباع الإسلام، ليَسعدوا في الداريْن، ولا تَضْعُفَا في دَوَام ذِكْري، فمِمَّا يجعلكما تُحْسِنَا القيام بهذه المُهِمَّة وبكل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْهٍ أن تكونا دائما في ذكري، في ذِكْرٍ لي بكل صُوَر الذكر (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. وفي هذا إرْشادٌ ضِمْنِيٌّ لكل مسلمٍ ليكون كذلك ليسعد تماما في الداريْن.. "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)" أيْ اذهبا معاً إلي فرعون – مَلِك مصر في ذلك الوقت – لأنه طَغَيَ أيْ ظَلَمَ وبَالَغَ في الظلم وتجاوَزَ كل الحدود فيه وفي الفساد والكفر والاستكبار واسْتِعْباد الخَلْق حيث فَعَلَ الظلم بكل أنواعه سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، اذهبا إليه فقوما بدعوته بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ إلي عبادتي وَحْدِي بلا أيِّ شريكٍ وإلي اتّباع دين الإسلام.. "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)" أيْ هذا إرشادٌ لكلّ مسلمٍ لأفضل أسلوبٍ يُمَكّنه مِن إحسان الدعوة لله تعالي وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ لينالَ أعظم الأجر في دنياه وأخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (125) من سورة النحل "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وإذا كان هذا الأسلوب مَطْلوبَاً حتي مع فرعون أسوأ الخَلْق الذي قال أنا ربكم الأعلي وهو ما لم يَقُلْه أحدٌ قَبْلَه ولا بَعْده فما بالنا مع مَن هو أقل منه سُوءَاً أو هو قريبٌ من الإسلام أو هو مسلمٌ لكنه مُقَصِّر؟! لا شَكّ أنَّ دعوتهم لابُدَّ أنْ تكون بما هو أكثر لِينَاً وأنَّ احتمالِيَّة تَذَكّرهم وعودتهم لربهم ولإسلامهم ستكون أكثر!!.. أيْ فقولا له كلاماً لَيِّنَاً أيْ سَهْلَاً رفيقاً رقيقاً لطيفاً مُناسِبَاً مُؤَثّرَاً مُحَرِّكَاً للعقول والمَشاعِر بداخلها مُقَرِّبَاً لله ولدينه الإسلام لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ لا مُبْعِدَاً عنهما مُنَفّرَاً منهما غليظاً شديداً فَظّاً، وما شابه هذا من القول اللّيِّن اللطيف – دون تغييرٍ بالقطع لأيِّ ذرَّةٍ من الحقّ والعدل والخير وهي الصفات الثابتة ثبات الجبال في الإسلام – والذي في الغالب يُؤَثّر في عموم الناس وفي تحريك فِطْرتهم بداخل عقولهم أكثر كثيراً من القول الغليظ الشديد (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وإنْ كان مِن المُمْكِن استخدام هذا القول الشديد أحيانا أو نادِرَاً وبصورةٍ استثنائيةٍ حسبما يُقَدِّره الداعي من مواقف بما يُحَقّق أفضل النتائج كمُخاطَبَة مثلاً ظالمٍ أو فاسدٍ شديد الظلم أو الفساد أو لاسترداد حقّ من الحقوق أو ما شابه هذا من مُتَغَيِّرات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (54) من سورة المائدة ".. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)" أيْ لعلَّه بسبب هذا القول اللّيِّن يَتَذكّر ما يَنْفعه ويُسْعِده فيَفعله وهو أنْ يُسْلِم ويُحْسِن أو يخاف ما يَضُرّه ويُتْعِسه فيَتْرُكه وهو أنْ يَكْفُر ويُسِيء، فإنَّ القول اللّيِّن يُؤَدِّي غالباً لذلك مع أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. أيْ لكي يكون بذلك من المُتَذَكّرين أيْ لعله يتذكّر ذلك، أيْ لكي يتذكّره، لكي يتذكّر ولا يَنْسَيَ مَا هو موجود في فطرته والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما عليه فقط إلاّ أن يتذكّره بحُسن استخدام عقله وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصدق، وعليه أن يحذر بشدّة أن يكون كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبله الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن.. ".. أَوْ يَخْشَى (44)" أيْ ولعله بهذا القول اللّيِّن وهذه التذكرة وهذه المعرفة بعظمة الله تعالي وسلطانه وتمام قُدْرته وكمال عِلْمه يَحْدُث أنْ يَخْشَيَ أيْ يَخْشاه أي يَخافه ويخاف عقابه في الدنيا والآخرة بما يُناسِب سُوئه فيَفعل كل خيرٍ ويَترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)"، "قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)" أيْ قال موسي وهارون ربنا – أي مُرَبّينا وخالِقنا ورازقنا وراعينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إننا نخاف أن يؤذينا فرعون بإفراطٍ علينا أيْ بإسرافٍ أيْ بزيادةٍ ومُبَالَغَة، وكذلك يَفرط علينا بمعني يَسْبِق ويُسارِع علينا بالإيذاء والقتل قبل أن نتمكّن من تَبليغه أن يعبدك وحدك ويَتّبِع دينك الإسلام، أو أنْ يَطْغَي أيْ يزدادَ طغيانه أي تَجَاوُزه الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس فلا يكتفي بإيذائنا أو قتلنا بل يَتَعَدَّيَ فيقول فى حقك يا ربنا ما لا ينبغي لجراءته علي السوء ويُؤذي الناس لإثبات أنه كما يَدَّعِي كذباً وسَفَهَاً أنه ربهم الأعلي.. هذا، والإفراط يُفيد الإيذاء العاجِل بينما الطغيان أشمل منه حيث يشمل ايذاءاً عاجِلاً ومُستقبلا أيضاً وبصُوَرِ إيذاءٍ مختلفةٍ قوليةٍ وفِعْلِيّةٍ ومَنْعٍ من الدعوة لله وللإسلام ونحو هذا من طغيان.. "قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)" أيْ فطَمْأَنَهما الله تعالي مباشرة حيث قال لا تخافا فرعون لأنني معكما دائما بقُدْرَتي وعِلْمي ورحمتي وعَوْني وتأييدي ونَصْري وحمايتي حيث أسمع كلامكما وكلامه وكلام كلّ مَخْلوقٍ وأرى فِعْلَكما وفِعله وفِعْل الجميع أيْ لا يَخْفَىَ علىَّ شىءٌ من حالكما وحاله وحالهم، فاطْمَئِنّا واسْتَبْشِرَا، فهو تحت سُلْطاني ونُفوذي وقُدْرَتي فلا يستطيع أن يتحرّك أو يَتنفّس أو يُؤذي إلا بإذنى.. وكذلك الحال يكون مع كل مسلم دائم التّوَاصُل معه سبحانه حيث سيَجِده دَوْمَاً مُيَسِّرَاً له كل شئون حياته مُسْعِدَاً له كل لحظاتها.. وكذلك حاله إذا خافَ أمراً مَا فلَجَأ إليه فسيُزيله عنه في التوقيت وبالأسلوب الذي يَراه تعالي مُناسباً مُسْعِدَاً له ولغيره، إذ الخوف أمرٌ في فطرة الإنسان جعله الله لمصلحته ولسعادته حيث به يخاف ربه وعِصيانه ونتائجه السيئة المُتْعِسَة فيفعل دائما الصواب ليَسعد في الدارين، ووجوده يَجعله دائماً يَجتهد في مُقاومة كلّ شَرٍّ وضعفٍ حتي لا يُخْطِيء، مُسْتَعِينَاً في ذلك بخالقه، فتَقْوَيَ بالتالي إرادة عقله فيَنْطَلق في الحياة بسبب قوة إرادته هذه يَسْتَكْشفها أكثر وأكثر فيَسعد بها أكثر وأكثر
ومعني "فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)"، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)" أيْ هذا تحديدٌ من الله تعالي لأهداف مُهِمَّتهما حتي لا يَبْتَعِدا عنها فيَفْشَلَا في الأداء، وكذلك يجب علي كل مسلمٍ أن يكون هكذا ليُحَقّق النجاح فيما يريد ليَسعد في دنياه وأخراه.. أيْ وإذا كان الأمر كذلك أنني معكما فبالتالي إذَن اذْهَبَا إلي فرعون وقولاَ له بكلِّ لِينٍ وبأسلوبٍ حَسَنٍ مع قوّةٍ وحَزْمٍ واطمئنانٍ وبلا تَرَدُّدٍ إننا الاثنين رسولان أيْ مَبْعُوثان مِن ربّك إليك والناس ندعوك وندعوهم لعبادته وحده بلا أيِّ شريكٍ ولاتّباع دينه الإسلام لتَسعدوا في الداريْن، ولفظ "ربك" يعني مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك بما يُفيد ضِمْنَاً أنه ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي كذباً وسَفَهَاً وإنّما عليه أنْ يُؤمِن بربّه ربّ العالمين الحقيقيّ ويَتّبِع دينه الإسلام، كما يعني أنهما مَبْعُوثان منه سبحانه ولَيْسَاَ مِن تِلْقاء نفسيهما وبالتالي فهما مُؤَيَّدان بتأييده وقوَّته لعلّه بذلك يَهْتَمّ ويَتَدَبَّر ويَعْقِل أهمية الأمر ويَستجيب هو وغيره.. ".. فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ.." أيْ إنّا رسولاَ ربك فاعبده وأرْسِل أيْ ابْعَث معنا بني إسرائيل لِنَخْرُج بهم إلي أرضٍ غير الأرض التي تَحْكمها وهي أرض الشام ليعبدوا ربهم، ولا تُعَذّبهم بإبقائهم تحت سلطانك كالأسْرَيَ وكالعبيد حيث تُذيقهم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامهم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل تُذَبِّح أبناءهم لإضعاف قوّتهم فلا يُطالِبون بحقوقهم وتَسْتَحْيِي نساءهم أيْ تُبْقِيهِنَّ أحياءً للخِدْمَة ولِيَكُنَّ جوارِي عندك.. هذا، وقولهما "ولا تُعَذّبهم" هو لمزيدٍ من التأكيد علي طلبهم بإرسالهم معهما وهو تعليلٌ لسبب طَلَب الإرسال وهو لتحريرهم – وغيرهم مَمَّن يريد أن يَخْرُج معهم من عبادته لعبادة الله تعالي – من عذابه وظلمه.. ".. قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.." أيْ قد أَتَيْنَاك بمُعْجِزَةٍ من ربك أيْ أحْضَرْنَا لك مُعْجِزَة منه تَدُلّ علي صِدْقِنا فيما ندعوك والناس إليه وأننا مُرْسَلَيْن منه، يَقْصِدان العصا التي تتحوَّل إلي ثعبانٍ حقيقيٍّ ضخمٍ عند إلقائها ثم عودتها لعصا عند استردادها، وغيرها من المُعْجِزات المُبْهِرات التي لا يستطيع فِعْلها بَشَر.. هذا، وتكرارهما للفظ "ربك" هو لمزيدٍ من تذكرته بأنه ليس هو ربّ الناس الأعلي كما يَدَّعِي كذباً وسَفَهَاً وإنّما عليه أنْ يُؤمِن بربّه ربّ العالمين الحقيقيّ ويَتّبِع دينه الإسلام.. ".. وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)" أيْ وهذا من القول اللّيِّن الذي يُذَكّره ويُرَّغبه في ربّه ودينه.. أيْ والسلام علي مَن، لِمَن، سارَ خَلْفَ الهُدَيَ أي اهْتَدَيَ أيْ آمَنَ بربه واتّبَع الإسلام، أيْ وكلّ الأمان والاستقرار والخير والسرور والسلام – بمعني أن يكون سالِماً من أيِّ سوءٍ وشقاءٍ – والرضا، يَفيض عليه ويَغْمُره من الله تعالي بفضله وكرمه ورحمته، طوال حياته الدنيوية ثم الأخروية، بسبب اتّباعه الهُدَيَ، وهذا يُفْهَم منه ضِمْنَاً أنه مَن لا يَتّبِع الهُدَيَ فلا سلامَ حقيقياً له أبداً فيهما.. هذا، ولفظ "والسلام عليَ" بإضافة الألف واللام علي كلمة سلام يُفيد كلّ السلام عليه، فهذا مِن صِيَغ المُبَالَغة في اللغة العربية.. "إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)" أيْ وإذا كان السلام عليَ مَن اتّبَعَ الهُدَيَ، ففي المُقابِل تَنَبَّه واحْذَر: إنّا، أيْ لأنّا، قد أُوحِيَ إلينا مِن ربّك، مِن الله تعالي لا مِن عند أنفسنا، أيْ أَبْلَغَنا عن طريق الوَحْي، أنَّ العذاب بما يُناسِب في الداريْن علي كل مَن كذّب بعقله أيْ لم يُصَدِّق بوجوده سبحانه وبرسله وكتبه وحسابه وعقابه وجنته وناره، وتَوَلّيَ بعمله عن طاعته أيْ أعْرَض أيْ أعطي ظَهْرَه والتَفَتَ وانصرفَ وابتعدَ عن أخلاق الإسلام وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَمَ نَشْرها وآذَيَ مَن يَتّبعها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. إنَّ قولهم هذا هو من القول اللّيِّن له حيث لم يُواجِهاه صراحة بأنه مُكَذّب مُتَوَلّي وإنما مَن كان كذلك فله العذاب.. إنَّ العذاب سيكون حتماً مُناسِبَاً لسوء مَن كَذّب وتَوَلّيَ هو وأمثاله، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)" أيْ بَدَأ فرعون في العِناد والجدال والاستكبار والتّعَالِي والمُرَاوَغَة والإنْكار والتكْذيب: قال لهما إذا لم أكن أنا ربكما فمَن ربكما بالتالي إذَن يا موسي الذي تَدَّعِيَان أنه ربٌّ لكما غيري وأنه أرْسَلكما إليّ؟! وقد أضاف الربّ إليهما ولم يُضِفْه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولتكذيبه بوجود ربّ غيره، فهو لِطُغْيانه وفُجُوره لا يريد أن يعترف بأنَّ ربّ موسى وهارون هو الله ربّه وخالقه سبحانه كما قالا له قبل ذلك إنّا رسولاَ ربك
ومعني "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)" أيْ فأجابه موسي (ص) إجابة مُوجَزَة جامِعَة دقيقة عميقة لا يمكن لأحدٍ أنْ يُكَذّبها مُطْلَقَاً بأنْ يَدَّعِيَ أنَّ أحداً هو الذي يَخْلق هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر الذي يَراه الجميع، قال ربنا هو الله الواحد الأحد الذي أعطي كل مَخْلُوقٍ خَلْقَه الذي هو عليه واختاره له ويَتَمَيَّز به عن غيره مِن شَكْلٍ ولونٍ وصِفَةٍ وذاتٍ وكِبَرٍ وصِغَرٍ ونحو هذا من صفاتٍ تُناسِب عمله الذي خَلَقَه له لكي يكون مُسَخَّرَاً لمَنْفَعَة ولسعادة الإنسان، ثم هَدَيَ أيْ ثم هَدَاه أيْ أَرْشَده إلى وظيفته التى خَلَقه من أجلها وأعطاه الوسائل والإمكانات التى تُحَقّق هذه الوظيفة، وعَرَّفه كيف يَنتفع ويَسعد لذاته ويَنْفَع ويُسْعِد غيره بما أعطاه وغيره من إمكانات، لتكون كل هذه المَخْلوقات في النهاية مُسَخَّرَة لِنَفْع وإسعاد ابن آدم والذي أعطاه خِلْقته التي هو عليها في أحسنِ صُورَةٍ وأعطاه مَوَاصَفات أهمها العقل وهَدَاه أيْ أرْشَده لكي يعرف خالِقه تعالي بالفطرة التي وضعها فيه ويُحْسِن التّوَاصُل معه والعمل بدينه الإسلام ويُحْسِن تَسْخِير هذه المَخْلوقات في هذا الكَوْن فيكون بذلك قد اهْتَدَيَ ووَصَلَ لِمَا أراده الله منه وخَلَقه لأجله وهو الانتفاع التّامّ بالحياة الدنيا والسعادة التامّة فيها ثم السعادة الأتمّ والأعظم والأخْلَد في الآخرة (برجاء مراجعة سبب الحياة والخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) منها)
ومعني " قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)"، "قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)" أيْ قال فرعون لموسي فما حال الأمم السابقة، والقرون جمع قَرْن والقرن هم مجموعة من الناس تعيش في فترة زمنية واحدة واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض، وهذا سؤالٌ من فرعون هدفه إبعاد موسي عن مزيدٍ من الحديث عن الله تعالي ربّ العالمين خوفاً من أنْ يَتَأثّر به الآخرون ويَتّبعوه ويُسْلِموا لأنَّ كلام موسي الذي قاله له سابقاً هو غاية في الإقناع ولا يمكن لأحدٍ تكذيبه وفرعون يَدَّعِي أنه هو ربهم الأعلي، كما أنَّ السؤال هدفه مُحاولة إظهار كذب موسي لمزيدٍ من إبعاد الناس عنه حيث يسأله عن القرون الأولي يريد أن أخبرنا بأحوالهم مُفَصَّلَة فإنْ لم تُخْبِر بها تَفْصِيلاً عن طريق الوَحْي من ربك فأنت لا يُوحَيَ إليك ولا ربّ لك وأنت كاذب!! كما أنك تقول أنَّ الجميع تحت تَصَرُّف ونُفوذ وسُلْطان ربك فلماذا القرون الأولي التي لم تَعْبُده كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم الذين اشْتُهِرَت أحوالهم قد خَرَجَت عن سَيْطَرته وعَبَدَت غيره؟! فأنت كاذبٌ إذَن فيما تقول وتَدْعُو إليه!!.. "قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)" أيْ قال موسي له – بوَحْيٍ من الله تعالي – ما يُسْكِته ويُفْشِل مَكَائده ومُرَاوَغَاته وأكاذيبه: عِلْم هذه القرون الأولي التفصيليّ مَحْفوظٌ عند ربي وحده لا غيره في كتابٍ هو اللوح المحفوظ وكتابِ أعمالهم المُسَجَّلًة فيه وليس عندي فهو غَيْبٌ لا يَعلمه إلا هو سبحانه وإنما أنا عَبْدٌ مِثْلَك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به وهو لا يَخْفَىَ عليه شىءٌ من حالهم وسيُجازيهم بما يَسْتَحِقون من ثوابٍ أو عقاب.. والمقصود أنه لا مَجَالَ لسؤالِك إذَن فلا تَنْشَغِل بمِثْل هذا وانْشَغِل بالأمر الأهمّ الذي ندعوك إليه وهو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام وتَدَبَّرَ فيه وفي صِدْق الأدِلّة التي نأتيك بها.. ".. لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا قَبْله.. أيْ لا يُخْطِيء ربي في شيءٍ أبداً ولا يَضيع منه ولا يُمكن مُطْلَقَاً أنْ يَنْساه، في كل مَخْلُوقات كَوْنه، لأنه سبحانه مُنَزَّهٌ عن الخطأ والنسيان ونحوه وعن كلّ صِفَةٍ لا تَليق به لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)" أيْ هذا استكمالٌ من موسي (ص) لِعَرْض نِعَم الله تعالي علي خَلْقه وإعجازه في كَوْنه وهو الدليل القاطع علي وجوده سبحانه، وذلك بعد أن قاطَعَه فرعون بسؤاله عن القرون الأولي والذي حاول به يائساً تَشْتِيته وتَكْذيبه، لعلّه بهذا التذكير له ولغيره يُحَرِّك عقله وعقولهم فيُحْسِنوا استخدامها فيتذكّروا ربهم وإسلامهم والموجودان في فطرتهم المسلمة أصلا.. أيْ وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وشَكَرَه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، أنه هو الذي جَعَلَ لكم الأرض مَهْدَاً أيْ كالفراش المُمَهَّد المُيَسَّر الذي يَستقِرّ ويستريح عليه مَن جَلَسَ فوقه حيث جعلها مَبْسُوطَة صالحة للسَّيْر عليها ولإنبات الزروع بها وجَعَلَ ونَفَذَ وشَقَّ وسَهَّلَ لكم فِيها سُبُلا أىْ طُرُقاً مُتَعَدَّدَة لكي يَصِل بواسطتها الناس من مكانٍ لآخر لقضاء حوائجهم ولتحقيق ما لا يُمكن حَصْره من المنافع والسعادات.. ".. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاته ومن تمام قدْرته وعلمه ورحمته وعطائه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ فيُخْرِج أيْ فيُنْبِتَ به أيْ بسبب هذا الماء من الأرض أزواجاً أيْ أصنافاً من نباتٍ شَتَّيَ أيْ مُتَنَوِّعٍ مُتَعَدِّدٍ بحيث يَستفيد منه كل مَخْلوقٍ يحتاجه سواء أكان بَشَرَاً أم حيواناً أم غيره، فهو يُنْبِت به كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. هذا، ولفظ "فأخرجنا" هو عند بعض العلماء من كلام الله تعالي استكمالاً لكلام موسي (ص) والذي انتهي عند "وأنزل من السماء ماءً" والذي يُفْهَم منه ضِمْنَاً أنه لِيُحْييكم ويَنْفعكم، وعند بعضهم الآخر هو استكمالٌ لكلام موسي لكنه قاله بصيغة التعظيم للتنبيه على عظيم قُدْرَته ورحمته سبحانه وعظيم شأن هذا الإخراج وآثاره العظيمة المُسْعِدَة فى حياة الناس
ومعني "كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)" أيْ كلوا أيها الناس من كل أصناف المَطاعِم الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي أخرجناها لكم ورزقناكم إيَّاها فهي لنفعكم ولإسعادكم، كلوا من كل أنواع الطيِّبات أيْ النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي خَلَقْناها في الأرض والتي أَحْلَلْناها أيْ سَمَحْنا بها لنفعها ولإسعادها والتي لم تحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، ولا تأكلوا أبداً مِمَّا حَرَّمْناه لضَرَره ولتعاسته عليكم كما يفعل بعضكم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر، وكونوا دوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7)، وشكركم هذا يكون من خلال عبادتنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ واتّباع ديننا الإسلام لا أيِّ دينٍ آخر.. ".. وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ.." أيْ وعليكم رعاية حيواناتكم كالإبل والأبقار والأغنام وغيرها في الأماكن الصالحة للرعْي من الأرض وذلك بإطعامها مِمَّا أخرجنا لكم منها من نباتٍ وسَقْيها بما أنزلنا من ماءٍ مع حُسْن معاملتها لتَنتفعوا وتَسعدوا بها، والأنعام جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله تعالي.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ.." أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آيات عظيمات أيْ دلالات ومُعْجِزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِأُولِي النُّهَى (54)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون بها هم أولوا النُّهَيَ فقط أيْ أصحاب العقول السليمة المُسْتَقِيمة المُنْصِفَة العادِلَة – جمع نُهْيَة أيْ عَقْل وسُمِّيَ العَقْل نُهْيَة لأنه يَنْهَيَ عن كل سوءٍ كما سُمِّيَ العقل عَقْلَاً لأنه يَعْقِل أيْ يَمْنَع ويَرْبِط عن هذا السوء – الذين أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما بها بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم
ومعني "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)" أيْ هذا تذكيرٌ بأصْل الإنسان أنه مِن طينٍ حتي يَتَوَاضَع ولا يَتَعالَيَ علي أحدٍ فيَظلمه كما فَعَلَ فرعون ومَن يَتَشَبَّه به، وتذكيرٌ له كذلك ببعثه بعد موته يوم القيامة حتي يُحْسِن الاستعداد له بالعمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ نحن وحدنا الله تعالي لا غيرنا، مِن الأرض أوجدناكم، مِن تُرابها، أيها الناس، حيث أنْشَأَنا أصْلَكم أباكم آدم إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً وجعلناكم فروعاً عنه من سُلالَته بالتّناسُل فيما بينكم ورزقناكم وأطعمناكم منها ورَعَيناكم ونَمَّيْناكم فيها كما نُنَمِّي النباتات وغيرها، وفيها أيْ في الأرض نُعيدكم أيْ نُرْجِعكم بعد موتكم لتكون قبوراً لكم ولتعودوا تراباً، ومنها نخرجكم إخراجاً مُحَقّقَاً بلا أيِّ شكٍّ يوم القيامة حيث نَبْعثكم بقُدْرتنا أيْ نُحْييكم بأجسادكم وأرواحكم تارة أيْ مرّة أخري بعد كوْنكم ترابا لنُحاسِبكم علي الخير بكل خير وسعادة وعلي الشرّ بما يُناسبه من شرٍّ وتعاسة.. هذا، ومِمَّا يُعِين علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها، وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، كما ذُكِرَ في الآية قبل السابقة، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادرٌ وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا، لأنَّ كل شيء هو يَسِيرٌ علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
ومعني "وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)" أيْ ولقد جعلنا فرعون يَرَيَ أيْ يُشاهِد بعَيْنَيْه ويَعْلَم ويَعْرِف علي يَدِ رسولنا الكريم موسي (ص) آياتنا كلها أيْ دلالاتنا ومُعْجِزاتنا جميعها التي تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجودنا نحن الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة من خلال ديننا الإسلام وعلي أننا المُستحِقّين وحدنا للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا وشَكَرنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، ولفظ "كُلّها" يُفيد كثرتها وبأنه قد كذّبها جميعها بلا استثناء.. وهذه الآيات هي العَصَيَ التي تَتَحَوَّل إلي ثعبان حقيقيّ وإرسال عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم كنوعٍ من التعذيب لهم ليستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم وإخراج يده بيضاء لامعة بعد إدخالها في ملابسه وأخذهم بالسنين أيْ بالجفاف والفقر والتاسعة ضَربه بعَصَاه للبحر فيَنْفَلِق إلي فلْقتَيْن بينهما مَمَرّ يَنْجُو منه موسي (ص) وبنو إسرائيل بينما يَنْطَبِق الماء علي فرعون والمُتَجَبِّرين معه عندما يَمُرُّون فيغرقون.. ".. فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)" أيْ فكان موقفه مُقَابَلَة ذلك بعَكْس ما هو مُفْتَرَضٌ مُتَوَقّعٌ مِن أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الإيمان بالله تعالي والعمل بدينه الإسلام فكَذّب مع كل هذه الآيات التي أَرَيْناه إيَّاها أيْ فلم يُصَدِّقها كلها ولم يُصَدِّق موسي فيما جاء به وادَّعَيَ كذباً وسَفَهَاً أنها سِحْر يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليست من الله تعالي وأنَّ موسي (ص) ساحر لا رسول يُوحَيَ إليه – والفاء تُفيد سرعة التكذيب بلا تَرَدُّدٍ ولا تَدَبُّر – وأبَيَ أيْ ورَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً وتَكَبُّرَاً وتَعَالِيَاً أنْ يُسْلِم واستمرّ علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه وفِعْله الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرّ تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوته بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. هذا، ولفظ "أبَيَ" هو تأكيدٌ لتكذيبه وعِناده واسْتِكْباره وإصراره عليه
ومعني "قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)" أيْ قال فرعون لموسي هل حَضَرْتَ إلينا لكي تُخْرِجنا من أرضنا بسبب سِحْرك يا موسي؟!.. إنه يَدَّعِي كذباً وسَفَهَاً أن ما جاء به موسي (ص) من آياتٍ هو سِحْر يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يَفْعل السِّحْر بالعقل وليست من الله تعالي وأنَّ موسي ساحِرٌ لا رسول يُوحَيَ إليه، رغم أنه في زمنٍ كَثُر فيه السَّحَرَة ويعلم تمام العلم أنَّ تَحَوُّل العصا ليس بسحرٍ مُطلقا وأنه هو ذاته الكاذِب المُدَّعي!!.. إنه يَقْصِد بذلك إبْعاد الناس عن تصديق أنه رسول من عند الله تعالي مُؤَيَّدٌ بمعجزاتٍ منه وعن التفكير في الحقّ الذي جاء به وهو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام ليسعد الجميع بذلك في الداريْن، إضافة لتحريضهم عليه للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحه ومصالح مُعاوِنيه ومَنَاصِبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا.. إنه يحاول مَنْع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّ يَستعبدهم ويَخْدعهم ويَنْهَب جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأَخْذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه بهذا القول الكاذب الذي قاله أنَّ موسي ساحرٌ بَدَأَ يُثير عموم الناس ضِدَّه ويُخَوِّفهم منه ليَقِفوا فى وَجْهِه ويَمْنعوه من نَشْر الإسلام فقال يريد هذا الساحر أن يُخْرِجكم من بلدكم وطنكم ويَنْهَب منكم مُلْككم وسُلْطانكم علي أرضكم ومُمْتَلَكاتكم ويكون هو السلطان عليكم يتحكّم فيكم وفي خيراتكم ويَستعبدكم.. إنَّ هذا هو دائما أسلوب المُسْتَبِدِّين وأعوانهم، الخِداع والقَهْر والقمع، ليظلّوا حاكِمين ناهِبين لثروات وجهود الشعوب، لكنَّ الشعوب بلجوئها لربها وتمسّكها وعملها بأخلاق إسلامها وتَوَحّدها وصَبْرها ومقاومتها تَغْلِب الظالمين دَوْمَاً كما يُثْبِت التاريخ ذلك
ومعني "فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)" أيْ فبسبب سِحْرِك، وإذا كان الأمر كذلك سِحْر في مُقابِل سِحْر، فبالتالي إذَن سنَأتيك – أيْ سَنُحْضِر لك، واللام والنون للتأكيد – مُؤَكَّدَاً بسحرٍ مِثْل سِحْرك، حتى يَتَبَيَّنَ للناس أنَّ الذي جِئْتنا به سِحْرٌ يَقْدِر على مِثْله الساحر، وحتي يَنْظروا أَيّنا الذي سَيَغْلِب، فإنَّ عندنا سَحْرَاً مِثْل سِحْرك فلا تَنْخَدِع بما أنت فيه، واجْعَل، وبالتالي فاجْعَل، أيْ فحَدِّد، بَيْنَنا وبَيْنَك، مَوْعِدَاً مُحَدَّدَاً نَتَقابَل فيه للمُبَارَاة لا نُخْلِفه نحن ولا تُخْلِفه أنت، ويكون مكاناً سُوَيَ أيْ مكاناً مُسْتَوِيَاً مُعْتَدِلَاً ليس فيه تَعَرُّجَات ولا انْحِرافات حتي يَرَيَ جميع الحُضور ما يَحْدُث، ومكاناً مُسْتَوِيَ المسافةِ بين الجميع أيْ مُتَوَسِّطَاً حتي يمكنهم كلهم حضوره بلا تَعَب.. هذا، وقد فوّض فرعون إلي موسي (ص) تحديد الموعد إظهاراً أمام مَن حوله لتمام استطاعته على الإتْيان بمِثْل مَا أَتَىَ به موسى ومعني "قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)" أيْ قال موسي (ص) لفرعون موعدكم للمُنَازَلَة يوم التّزَيُّن، يَقْصِد يوم عيدٍ عندهم كانوا يَتَزَيَّنُون فيه ويَحتفلون ويَجتمعون، وبذلك يكون التَّجَمُّع كبيراً فيَرَيَ كثيرون انتصار الحقّ علي الباطل.. وأطلب أنْ يُجْمَع الناس ضُحَيً أيْ أوّل النهار، وذلك حتي يكون الطقْس مُعْتَدِلَاً والأذهان مُتَفَتّحَة فيَسْهُل تحريكها وإحسان تشغيلها فتَصِل للحقّ
ومعني "فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)" أيْ فانْصَرَفَ فرعون فجَمَعَ كَيْده – والكَيْد هو التدبير الخَفِيّ للشرّ – والمقصود قام بتجميع مَكائده من كل ما يُمكنه أن يَكِيد به موسي ويُؤذيه، من السَّحَرَة المَهَرَة أصحاب الخِبْرَة، ومِن تَجْهيزاتهم، ومِن تَجهيزاته ووسائله للكَيْد، من كل مكانٍ مُمْكِنٍ، ثم أتَيَ أيْ جاء بكل ذلك في المَوْعِد والمكان المُحَدَّد
ومعني "قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)" أيْ قال موسي (ص) لفرعون ولِسَحَرته، وللناس الحاضِرين جميعاً، واعِظَاً مُحَذّرَاً تَحْذيراً شديداً من عقاب الله تعالي لمَن يُكَذّب رسله، حتي يستفيقوا ويؤمنوا به سبحانه ويَتّبِعوا دينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما: وَيْلٌ لكم، والوَيْل كلمة جامِعَة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم، لا تَفْتَروا أيْ لا تَكذبوا علي الله كذباً شديداً لا أَصْلَ له – والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، والجَمْع بين الافتراء والكذب هو لمزيدٍ من التأكيد علي كذبهم الشديد القبيح – كادِّعائكم أنَّ فرعون هو ربكم الأعلي الذي تعبدونه، وأنّيِ ساحرٌ أَتَيْتُ بسِحْرٍ لا رسول مُؤَيَّد بمعجزات، فيُسْحِتَكم بعذابٍ أيْ فيُؤَدِّي ذلك بالتالي إنْ فَعَلْتُمُوه واسْتَمَرَّيْتُم عليه بلا توبةٍ إلي أنْ يُسْحتكم الله تعالي أيْ يَسْتَأصلكم بعذابٍ مَا مِن عنده يُهْلِككم في دنياكم قبل أخراكم.. ".. وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لأنَّ الحال والواقع أنه قد خابَ حتماً، سابقاً وحالياً ومُستقبلاً، أيْ خَسِرَ وفَشَلَ وتَعِسَ في دنياه وأخراه، كل مَن افتري علي الله كذبا
ومعني "فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)" أيْ فتَأَثّر بعض السَّحَرَة وبعض الناس الحاضِرين بوَعْظ موسي (ص) لهم فتَسَبَّب هذا التّأَثّر في أنْ تنازَعوا أيْ تَخَالَفوا أيْ اخْتَلفوا في أمرهم أيْ حالهم فيما بينهم بالنسبة لموسي وأخْفُوا النّجْوَيَ أي الحديث خوفاً من أن يسمعهم فرعون فيُؤذيهم إذ كانوا يَتَناجون أيْ يَتَكَلّمون بصوتٍ خافِتٍ في السِّرّ مُتسائلين هل هو علي الحقّ أم لا حيث صَدَّقه البعض أنه رسولٌ وكذّبه البعض الآخر مُدَّعِيَاً أنه ساحِر.. هذا، والنجوي هي الكلام الخافِت السِّرِّيّ ولفظ "وأَسَرُّوا" يُفيد المُبَالَغَة في الإسرار أيْ وأسَرُّوا ما هو سِرِّيّ أصلا
ومعني "قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)" أيْ هذا بيانٌ لأنَّ رَأْي مَن قالوا أنَّ موسي وهارون ساحران هو الذي غَلَبَ واسْتَقَرُّوا عليه وتَبَنّوه جميعاً وهو رأي فرعون ولقد قالوه خوفاً منه واتّقاءً لشروره وحِفاظَاً علي مَصالحهم معه ومَنافعهم منه.. أيْ قالوا أي قال جميعهم أيْ قال السَّحَرَة والناس الحاضرون بعضهم لبعضٍ عن طريق أنْ أسَرُّوا النّجْوَيَ، قالوا الرأي الذي اسْتَقَرَّ الجميع عليه: ما هذان الرجلان أيْ موسي وهارون إلا ساحران أي يَسْحران العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يَفْعل السِّحْر بالعقل ولَيْسَاَ رَسُولَيْن يُوحَيَ إليهما من ربهما اللذيْن يَدَّعِيَان كذباً أنهما يَعْبُدانه ولا يأتيهما منه أيُّ مُعْجِزَات، يُريدان عن طريق وبسبب سِحْرهما الذي يَقومان به أنْ يُخْرِجاكم من أرضكم أيْ من بلدكم وطنكم ويَنْهَبا منكم مُلْككم وسُلْطانكم علي أرضكم ومُمْتَلَكاتكم ويكونا هما السلطان عليكم يتحكّمان فيكم وفي خيراتكم ويَستعبدانكم، ويُريدان كذلك أنْ يَذهَبَا بطريقتكم المُثْلَيَ أيْ يمْحِيَا ويزيلاَ دينكم الأمْثَل – يَقصدون أنهما سيَمْنَعان عبادة فرعون ويَدْعُوان إلي عبادة إلهٍ يُسَمُّونهما الله لا نعرفه فنَتَضَرَّر ونَتْعَس بذلك!! – ويمْحِيَا جَاهكم ومَنْصِبكم الأمثل وأسلوبكم وعِلْمكم الأمثل في السِّحْر وغيره والذي تَكْسِبون منه رزقكم ومَكَانتكم وشهرتكم فلا تكون بذلك لكم قيمة ويأخذان هما هذه المَكَانة والمَنافع والأرزاق.. إنهم يُرَدِّدُون ذات كلام فرعون بلا تَعَقّلٍ فيه خوفاً منه واتّقاءً لشروره وحِفاظَاً علي مَصالحهم معه ومَنافعهم منه.. إنهم يَقْصِدون بذلك إبْعاد الناس عن تصديق أنهما رسولان من عند الله تعالي مُؤَيَّدان بمعجزاتٍ منه وعن التفكير في الحقّ الذي جاءَاَ به وهو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام ليسعد الجميع بذلك في الداريْن، إضافة لتحريضهم عليهما للتخلّص منهما لأنهما يُهَدِّدان مصالحهم ومَنَاصِبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا.. إنهم يحاولون مَنْع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويَخْدعوهم ويَنْهَبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأَخْذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم بهذا القول الكاذب الذي قالوه أنَّ موسي وهارون ساحِران وأنهما يُريدان الذهاب بطريقتهم المُثْلَيَ بَدَأَوا يُثيرون عموم الناس ضِدَّهما ويُخَوِّفوهم منهما ليَقِفوا فى وَجْهَيْهما ويَمْنعوهما من نَشْر الإسلام.. إنَّ هذا هو دائما أسلوب المُسْتَبِدِّين وأعوانهم، الخِداع والقَهْر والقمع، ليظلّوا حاكِمين ناهِبين لثروات وجهود الشعوب، لكنَّ الشعوب بلجوئها لربها وتمسّكها وعملها بأخلاق إسلامها وتَوَحّدها وصَبْرها ومقاومتها تَغْلِب الظالمين دَوْمَاً كما يُثْبِت التاريخ ذلك
ومعني "فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)" أيْ هذا بيانٌ لتشجيع السَّحَرَة بعضهم لبعضٍ ولتَجميعهم لكل جهودهم من أجل الاجتهاد التامّ في إحسان الأداء حتي يتمكّنوا من هزيمتهما.. أيْ وإذا كان الأمر كذلك، وبالتالي إذَن، وعليه، فقوموا بتَجْميع كلّ كَيْدٍ لكم أيْ كلّ مَا يُمْكِنكم جَمْعه مِن مَكْرٍ وكَيْدٍ وحِيِلَةٍ فلا تَتْرُكوا أيَّ شيءٍ مِن كَيْدِكم إلا قُمْتُم به أيْ تَجَمَّعُوا ضِدَّهما بكلِّ مَا يُمكنكم كَيْده مِن مَكائد وحِيَل وهزيمتهما به أيْ اجْتَمِعوا كلكم أي اعْزمُوا جميعكم على كَيْدِهما مُجْتَمِعين لهما ولا تَخْتَلِفوا فيَخْتَلّ كَيْدُكم، والكَيْد هو التدبير للشرّ.. ثم ائْتُوا صَفّاً أيْ احْضروا مَصْفُوفِين جميعاً مُتَرَاصِّين مُنَظّمِين لا فَوْضَوِيِّين مُبَعْثَرِين وذلك حتي يَظْهَر تأثير سِحْركم مُتَجَمِّعَاً لا مُتَفَرِّقَاً فتَنْتَصِرون.. واعْلَمُوا وتَأَكّدُوا أنه قد فازَ اليوم مَن طَلَبَ العُلَاَ علي مُنافِسه أيْ غَلَبَه حيث سيَفوز بالقُرْبِ من فرعون وعَطاياه حالِيَاً ومُستقبلا
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)" أيْ قال السَّحَرَة يا موسي، إظهاراً لِثِقَتهم التامّة بأنهم غالِبون وإرضاءً لفرعون وتَحَدِّيَاً له وتَعَالِيَاً عليه واستهانة به وغروراً بقُدْراتهم، لكَ أنْ تَخْتار إمّا أنْ تُلْقِيَ أيْ تَضَع وتَرْمِي وتَجْعَل وتُعْطِي أنت أولا مَا معك من سِحْرٍ وإمّا أن نكون نحن أوّل مَن أَلْقَيَ أيْ البادِئين بالإلقاء لِسِحْرِنا، ففي كلتا الحالَتَيْن نحن على ثقةٍ كاملةٍ من هزيمتك
ومعني "قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)" أيْ بفِطْنَة النّبُوَّة وبوَحْيٍ من الله تعالي وتوفيقٍ منه طَلَبَ موسي (ص) منهم البَدْء لِيَسْتَكْشِف مَا عندهم وليكون تأثيره أقوي علي الناس حينما يُلقي هو عصاه في النهاية فتقضي علي كل أسحارهم، فقال لهم مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم بل ألقوا أنتم سِحْركم أولا.. ".. فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)" أيْ فأَلْقَوْا مَا معهم مِن سِحْر، فإذا حِبالهم وعِصِيّهم التى ألقوها جَعَلَت موسى وكلّ مُشاهِدٍ يُخَيَّل إليه أيْ يَتَوَهَّم مِن قوّة ومَهَارَة سِحْرهم أنَّ هذه الحبال والعِصِىّ حَيَّات تَسْعَىَ أيْ تَسِير وتَتَحَرّك بقوّة وبسرعة على بطونها.. هذا، ولفظ "إذا" يُفيد المفاجأة حيث تَفَاجَأ بقوّة هذا السحر كلّ مَن نَظَرَ إليه وتَوَهَّم أنَّ ما فعلوه حقيقة وما هو إلا خيال، وهكذا هو السِّحْر ما هو إلا أوْهام وتَخَيّلات ليست حقيقية يقوم بها الساحر تُؤَثّر علي عقل مَن يراه فيَتَوَهَّم بوجودها
ومعني "فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)" أيْ فبالتالي أحَسَّ وأخْفَيَ موسي في نفسه خوفا، حيث تَحَرَّكَت مَشاعره داخل عقله كأيِّ بَشَرٍ فخافَ في بادِيء الأمر من تأثيرهم علي الناس فلا يُؤمنون به ويَزداد فرعون فَخْرَاً وتَكَبُّرَاً وظُلْمَاً وقَهْرَاً، لكنه حتماً بالقطع بلا أيِّ شكّ مُتأكّد تماماً من نصر الله تعالي له عليهم
ومعني "قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)" أيْ قلنا له حينها من خلال الوَحْي، مُطَمْئِنِين مُؤَيِّدِين مُثَبِّتِين مُبَشّرِين، قلنا نحن الله الخالق الكريم الرحيم الودود القويّ العزيز الرازق الهادِي الحافِظ المُعِين الناصر القادر علي كل شيءٍ الذي يقول للشيء كُنْ فيكون مالِك المُلْك الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي هو مع المؤمنين حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دائماً بقُدْرَته وعِلْمه وعَوْنه وتوفيقه وتيسيره وتأييده وسَدَاده ونَصْره وعِزّته وحمايته ورحمته وكَرَمه ورِزْقه وإسعاده، قلنا له لا تَشْعُر بالخوف يا موسي لأنك أنت بالقطع الأعلي عليهم جميعا، علي فرعون وجُنُوده وسَحَرَته والناس كلهم، أيْ الغالِب المُنْتَصِر ذو المَكَانَة العالِيَة وهم المَغْلُوبون المُنْهَزِمون الأسْفَلُون الذلِيلُون، لأنك علي الحقّ ومعك الحقّ سبحانه وهم علي الباطِل ولا ناصِر لهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (139) من سورة آل عمران "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)" أيْ وارْمِ يا موسي عَصاك التي في يدك اليُمْنَيَ ستَبْتَلِع فوراً بسرعةٍ بقُدْرَتنا مَا عملوا مِن سِحْرٍ كاذبٍ وَهْمِيٍّ خادِعٍ، لأنَّ مَا عملوا مَا هو إلا فقط مَكْرُ وحِيلَة وخَديعَة ساحِرٍ يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يَفْعل السِّحْر بالعقل، فهو كَيْدٌ لا بَقاءَ له ولا ثَبَات، ولا يُفْلِح أيْ لا يَفوز الساحر أبداً بما يُريده مِن سِحْره حيث أتَيَ أيْ أين حَضَر أيْ أينما كان ومِن أيِّ مكانٍ أتَيَ لأنه لا يَصنع للناس إلا التَّخْيِيل والتَّمْوِيه والتّزْوِير والتّزْيِيف للحقائق لأنَّ السِّحْر مُجَرَّد تَخَيُّلات يُريها غيره وليس لها حقيقة ثابتة لا تَتَغَيَّر فمَا هو إلا بعض حركاتٍ خفيفاتٍ سريعاتٍ يقوم بها الساحر بعد أن يتدرَّب عليها يُمْكِنه بها أن يُحْدِث بعض تَهَيُّئات عقلية كاذبة ليست حقيقية فيمَن يشاهده ويَخْدعه بها وليس أكثر من ذلك، وبالتالي فلن يُفْلِح الساحر حتماً حيث أتَيَ لأنَّ كَيْده مَكْشوفٌ مَفْضُوحٌ مَعْلُومٌ قطعاً أنه مُجَرَّد خِداع ووَهْم وليس حقيقيا ولا يَفوز مُطلَقاً علي الحقّ قطعاً
ومعني "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)" أيْ فلَمَّا رَأوا هذه المُعْجِزَة المُبْهِرَة أدَّيَ ذلك بالتالي إلي أنْ أُسْقِطَ السَّحَرَة ساجدين سريعاً لله تعالي علي جِباههم بلا أيِّ تَرَدُّدٍ – والسُّجَّد جَمْع ساجِد – لأنهم علموا أنَّ مَا حَدَثَ ليس سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك، ولفظ "أُلْقِيَ" يُفيد كأنَّ أحداً قد ألقاهم وهو الحقّ المُبْهِر الذي حَدَثَ أمامهم والذي أيقظ إيمانهم الفِطْريّ بعقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) بأنْ أزالَ الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهكذا سيكون حال كل مَن ابتعد عن الله والإسلام إذا أزاحَ هذه الأغشية بأنْ أحسنَ استخدام عقله وعادَ لنداء الفطرة بداخله فإنه لابُدَّ أن يهتدي لربه ولدينه وأن يسعد بذلك تمام السعادة في الداريْن.. لقد سَجَدوا قائلين آمَنّا أيْ صَدَّقنا برب هارون وموسي وبربّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، وقولهم هذا يعني أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه هو أيضا أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه، كما أنَّ بعضهم ذَكَرُوا هارون أولا حتي لا يَتَوَهَّم فرعون أنهم يسجدون له لو قالوا ربّ موسي لأنه يعتبر نفسه ربّه لأنه هو الذي ربّاه منذ كان وليدا!! لكنَّ بعضهم قد قال ربّ موسي وهارون كما نَقَلَ القرآن الكريم هذا في آياتٍ أخري لِيُبَيِّنَ أنَّه كانت لهم أقوالٌ مُتَعَدِّدَة حيث كانوا كثيرين فتَعَدَّدَت أقوالهم
ومعني "قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)" أيْ حينها اشْتَدّ غضب وغَيْظ الطاغية المُسْتَبِدّ فرعون حيث ظهرت هزيمته التامّة أمام الناس الذين يَتَوَهَّمون أنه ربهم وكان يَخدعهم دائما بذلك فانكشف أمره وضعفه بل وذِلّته، فأراد أن يُعَوِّض هذا النقص الذي أصابه بإلقاء التشكيكات والتهديدات!! لقد أصابه الخوف علي مُلْكِه، إذ كيف يؤمنون بربٍّ غيره ثم بعدها لا يعتبرونه مَلِكَاً عليهم ويُزيحونه ويأتون بغيره؟! لقد صُدِمَ بهذا صَدْمَة شديدة لأنه اعتاد أنَّ الجميع عبيدٌ له لا يتحرّكون ولا حتي يفكّرون إلا فيما يأمرهم ويأذن ويسمح لهم أن يتحرّكوا أو يفكّروا فيه!! إنَّ هذا هو دائما حال المُسْتَبِدِّين المُستكبرين، إنهم ما يزدادون بالآيات الواضحات إلا عناداً ومحاربة لله وللإسلام وللدعاة إليهما، من أجل الحفاظ علي مُلْكهم حتي لا يضيع لأنه لو أسلم الناس وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لن يستطيع خداعهم ونهب خيراتهم وثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام يُعَلّمهم حفظ حقوقهم والآخرين والدفاع عنها وحُسن اختيار رؤسائهم وأن يكون أمرهم شوري بينهم دائما في كل شئون حياتهم لا بأمر واحدٍ فقط هو حاكم عليهم بالقوة يَظلمهم ويذلّهم ويَسرقهم.. لقد قال لهم رافضاً فِعْلهم ذامَّاً مُهَدِّدَاً هل آمنتم له أيْ صَدَّقتم لموسي فى دعوته لعبادة الله وحده واتّباع الإسلام وانْقَدْتُم له قبل أن أعطيكم الإذْنَ بذلك؟!.. والاستفهام للذمِّ وللرَّفْض وللتهديد الشديد.. ".. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.." أيْ إنَّ موسي بالتأكيد أستاذكم ورئيسكم الذي عَلّمكم فنون السِّحْر وأنتم تلامذته – واللام للتأكيد – فلذلك هَزَمَكم ولذلك اتّبَعْتموه فهو لم يَغْلِبكم لأنه علي الحقّ ومُؤَيَّد مِن ربّه وإنّما لمَهَارَته حيث هو مُعَلّمكم ولأنكم من أتباعه أصْلَاً فاتّفَقْتم جميعاً علي هزيمتي بما فَعْلتم ضِدِّي وأعلنتم إيمانكم به، فليس ما فَعَله مُعْجِزَة كما تَوَهَّمْتم وهو ليس علي حقّ وإنما هو ساحِرٌ كبيرٌ ماهِرٌ أستاذٌ في السِّحْر!.. إنَّ مقصوده مِن هذا القول إبْعاد الناس عن الاقتداء بهم بالإيمان مِثْلهم، والظهور أمام قومه بمَظْهَر الثبات والتّماسُك بعد أن غَمَرَه وغَمَرَهم الخوف مِمَّا رأوه من مُعْجِزَةٍ عظيمةٍ، حيث هو والجميع يعلمون كذب قوله هذا لأنهم لم يَتَعَلّموا من موسى (ص) ولا كان أبداً أستاذاً لهم ولا بينه وبينهم أيّ صِلَةٍ بل كانوا هم أساتذة في السحر قبل حتي ولادة موسي!.. إنَّ هذا دائما هو أسلوب المُسْتَبِدِّين حينما يرون وَعْي الناس يزداد وقد يتمسّكون ويعملون بأخلاق إسلامهم ويطالبون بحقوقهم يبدأون في خداعهم وتصوير أنَّ ما يحدث من ظهور الحقّ وانتشاره ما هو إلا مؤامرة عليهم!! فالمستبدون من أنْزَه الناس الزاهدين في المُلْك ولا يريدون إلا مصلحتهم وخدمتهم وحفظ استقرارهم واستقلالهم وممتلكاتهم!! وأيّ استقرارٍ واستقلال وأملاك يقصدونها مع كل هذا الاستعباد والذلّ والفقر الذي أوجدوهم فيه بسبب سوء حُكْمهم واستبدادهم وظلمهم؟! إنه أسلوب خبيث لمَنْعهم من اتّباع الإسلام وعليهم أن ينتبهوا له.. لكنَّ البعض مِن شدّة خوفهم ومن طول اعتيادهم وتربيتهم علي الذلّة يُصَدِّقون ذلك! بل والبعض من أصحاب المصالح الفاسدة المُقَرَّبين للمُستبدين الخائفين أيضا علي مصالحهم يُهَلّلون لهم ويساعدونهم ويشكرونهم!!.. ".. فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.." أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما هَدَّدَهم بأنْ يُريهم إيّاه.. أيْ فبالتالي، فبِسَبب ما فعلتم، بالتأكيد – واللام والنون للتأكيد – سأُقَطّع أيديكم وأرجلكم أيها السحرة من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن أيْ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو اليد اليسرى والرجل اليمنى ثم لأعلّقنَّكم أيْ كلّ واحدٍ منكم فلا أترك أيَّ أحدٍ على أخشابٍ علي شكل صليبٍ في جذوع النخل أي في سِيِقان النخيل – لأنها أخْشَن من غيرها والتصليب عليها أشدّ مِن على غيرها – وأنتم علي هذه الحالة الفظيعة سواء كنتم أحياءً حتي تموتوا أو بعد موتكم لتكونوا عِبْرَة لمَن تُحَدِّثه نفسه بالكَيْد لنا أو بالخروج على حُكْمِنا وعبادتنا والإيمان بربّ موسي وهارون، بما يدلّ علي شدّة ظلمه وتَكَبُّره وقَسْوَته مع أبرياء مِثْلهم لم يرتكبوا أيّ جريمة إلا إيمانهم بربهم خالقهم، لأنَّ القَطْع مِن خِلافٍ أشَدّ على الإنسان مِن قطعهما مِن ناحيةٍ واحدة إذ قطعهما من جهة واحدة يُبْقِى عنده شيئاً كاملاً صحيحاً بعكس قطعهما من ناحِيَتَيْن مُخْتَلِفَتَيْن فإنه إفسادٌ للجانبين.. هذا، وعند بعض العلماء أنّ الله تعالي قد نَجّاهم منه بزرع الرَّهْبة في داخله وانشغاله عنهم وذلك لقوله تعالي في آية أخري ".. فَلَاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" (القصص:35).. ".. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتخويف لهم.. أيْ وبالتأكيد ستعلمون أيها السحرة – واللام والنون للتأكيد – أيّنا أيْ أيّ ربٍّ مِنّا أقوَيَ عذاباً لكم ولأمثالكم من الآخر وأدْوَم زَمَنَاً له، أنا أم ربّ موسي!! وهذا عكسٌ للحقائق وتَرْهيبٌ لمَن لا عقل له إذ لا يخاف عذاب الناس ويَفعل السوء خوفاً من عذابهم وإرضاءً لهم ولا يَحْسِب حسابه لعذاب الله تعالي إلا كلّ سَفِيهٍ لأنَّ عذابه سبحانه في نار جهنم لا يُمكن أبداً تخيّله ولا تحمّله ولا الهروب منه والذي هو مُتنوّع وخالد وهائل وعظيم، بينما عذاب الدنيا يمكن تحمّله أو مقاومته أو الفرار منه أو التغلّب عليه بقوة الله أوغير ذلك من الاحتمالات، فلا مُقَارَنَة إذن بين العذابيْن!.. إنَّ فرعون من شِدَّة غفلته يجعل نفسه في مقام الله تعالي بل أعلي!! وهذا بالقطع هو الكذب والزور بعَيْنه!! وما كل تخريفه هذا إلا بسبب خوفه الهائل من إيمان غيرهم فيَنْقَلِبون عليه مِثْلهم ويَضيع مُلْكه!! فأراد الاسْتِبَاق بتخويفهم بعذابه الشديد الدائم!!.. هذا، وعند بعض العلماء لفظ "أيّنا" يُفيد أنا أو موسي، وذلك إمَّا لقَصْد تقليل شأنه (ص) وإظهار ضَعْفه والاستهزاء به لأنه ليس له مُطْلَقَاً في أمر تعذيب الناس في مُقابِل قوّته هو وبَطْشه، وإمَّا لإظهار أنَّ إيمانهم لم يكن بسبب مشاهدة المُعْجِزَة ومُعَايَنَة الدليل بل كان فيما يَدَّعِيه بسبب خوفٍ منه (ص) حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضا فلو خَوَّفهم أكثر فمِن المُمْكِن العودة لعبادته هو!!
ومعني "قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا فاجَأ به السَّحَرَةُ فرعونَ مِمَّا لم يَكُن يَتَوَقّعه، إذ كان يَتَوَهَّم أنهم سيَتَراجَعون أمام تهديده الشديد، ولكنه لا يعلم أنَّ المسلمين أصحاب النوايا الصادقة الذين يريدون التّمسُّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم حينما يَصِل الأمر بهم وتَصِل الأحوال حولهم للاختيار بين ربهم ودينهم الإسلام وبين الحياة كلها فإنهم يَسَتَهِينون بها ويَختارون الموت شهداء في سبيلهما ليُلاقوا ربهم مُعَزَّزِين مُكَرَّمِين في الحياة الآخرة الدائمة الخالدة في أعلي درجات جناتها مع النبيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً حيث السعادة التامَّة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. أيْ قالوا له بكلّ عِزَّةٍ وقوّةٍ وثِقَةٍ بربهم ودينهم وتَمَسُّكٍ بهما وبكلّ حَسْمٍ وقَطْعٍ لأيِّ أمَلٍ له في تَرْك إيمانهم بالله والعَوْدَة لعبادته: لن نُفَضِّلك ونُقَدِّمك ونَختارك أبداً أيْ نُفَضِّل ونُقَدِّم ونَختار عبادتك وأجرك وحِمايتك علي مَا وَصَلَنا وحَضَرَنا من البَيِّنات التى جاءنا بها موسى من ربه – والتى رَأَيْناها وتَدَبَّرْناها بعقولنا وأعظمها عَصاه التى ألقاها فإذا هى حَيَّة عظيمة تَسْعَيَ وتَبْتَلِع حِبالنا وعِصِيِّنا – أيْ الواضِحات مِن كلّ المُعْجِزَات والدلالات القاطِعات الدامِغات المُبَيِّنات التي تُبَيِّن صِدْقه وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. ".. وَالَّذِي فَطَرَنَا.." أيْ ولن نُؤْثِرَك أبداً علي الذي فَطَرَنَا أيْ خَلَقَنَا وأنْشَأَنَا مِن عَدَمٍ خالِقنا الكريم رازِقنا وراعِينا ربنا المَعْبُود وحده بلا أيِّ شرك.. كذلك من المعاني أنَّ هذا قَسَمٌ أقْسَمُوه، أيْ لنْ نُؤْثِرك على ما جاءنا من البَيِّنات، والله الذي فَطَرَنَا.. ".. فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ.." أيْ وبالتالي فافْعَل مَا أنت فاعِل، واحْكُم مَا أنت حاكِم، إفْعَل بنا واحْكُم علينا مَا بَدَا لك، مِن القَطْع والصَّلْب والقتل، فلن نَتَزَعْزَعَ أو نَتَرَاجَعَ عن إيماننا بربنا، بإذنه وقوّته وعَوْنه.. ".. إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)" أيْ لأنه ليس الذي تَقْضِي أيْ تَحْكُم به علينا من عذابٍ إلا فقط في هذه الحياة الدنيا، وهي سريعة الزوال بعذابها وعذابها أهْوَن ولا يُقارَن بعذاب الآخرة والذي هو لا يُحْتَمَل ولا يُوصَف وخالِد لمَن مات كافراً، وسنَتَحَمَّل عذابك بعوْن ربنا ثم نسعد بإيماننا بنعيمه الدائم في الآخرة، فسلطانك لا يَتَجَاوَز هذه الحياة القصيرة مُنْحَصِرٌ فيها فقط وسيَزول قريباً بإذن الله، فأنت تَقْضِي حياتك الدنيا هذه بوقتها ومتاعها وأمورها ثم ستَموت كأيِّ إنسانٍ في أيِّ لحظةٍ ولا سبيل لك علينا فيما بعدها في الآخرة بل سوف يُقْضَىَ عليك فيها بالخلود في عذابها المُهين بجنهم.. إنَّ الآية الكريمة تَدُلّ علي أنَّ كل مَن كان بعيداً عن ربه وإسلامه ثم يَسْتَفِيق فيُحْسِن استخدام عقله، ويُزيل ما عليه من غشاوةٍ بسبب أثمان الدنيا الرخيصة الدنيئة الزائلة يوماً مَا كالمَنْصِب والجاه والمال وغيره، ويعود لفطرته والتي هي مسلمة أصلا، سيَعود بسرعة لكل خيرٍ وسعادة، سيعود لله وللإسلام، كما حَدَثَ مع سَحَرَة فرعون، الذين كانوا منذ لحظاتٍ في أشدِّ حالات العَدَاوَة والكراهية لهما!!
ومعني "إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)" أيْ هذا تأكيدٌ لإيمانهم واستكمالٌ لمواجهته بكلّ عِزَّةٍ وقوّةٍ وثِقَةٍ بربهم ودينهم وتَمَسُّكٍ بهما وبكلّ حَسْمٍ وقَطْعٍ لأيِّ أمَلٍ له في تَرْك إيمانهم بالله والعَوْدَة لعبادته، ولعلّ كلامهم هذا يكون دعوة لغيرهم من الحاضرين لعلّهم يؤمنون مِثْلهم فيسعدون سعادتهم في الداريْن.. أيْ قالوا نحن صَدَّقنا بوجود ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – وبرسوله وبحسابه وعقابه وجنته وناره لكي يغفر لنا بعظيم رحمته وكرمه خطايانا أي ذنوبنا السابقة كلها صغرت أم كبرت حتي ولو كانت عظيمة كثيرة، والخطايا جَمْع خطيئة وهي الذنب العظيم، كَكُفْرنا وفِعْلنا الشرور والمَفاسد والأضرار، أيْ يُسَامِحْنا فلا يُعاقِبنا عليها ويَمْحُها كأن لم تكن ويَمْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن ويَسْتُرْها ويخْفيها فلا يُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، فالتوبة تَمْحُو كلّ مَا قبلها من أخطاءٍ كبيرة أو صغيرة، ولكي يغفر لنا خاصَّة مَا أَجْبَرْتَنا عليه من السِّحْر من أجل مُحاوَلَة مُعَارَضَة موسي رسول الله وهزيمته وإثبات كذبه في هذا الموقف الذي كنّا فيه، والذي أجْبَرْتنا قَبْله سابقا علي تَعَلّمه والعمل به لإلْهاء الناس ولخِداعهم أنك إلهٌ يُمكنه فِعْل أيِّ شيء!.. هذا، ولقد كانوا مُجْبَرِين في بادِيء أمر تَعَلّمهم السِّحْر، وبداية جَمْعهم من بلدانهم لمُجَابَهَة موسي، لكنهم لَمَّا رأوا أنهم ينتفعون به حيث يَتَقَرَّبون به لفرعون وينالون عطاياه المتنوّعة ويَتَجَنّبون شروره بَدَأوا يفعلونه مُختارين ويَحرصون عليه وعلي تحصيل مَكَاسِبه كما بَيَّنَت ذلك آيات أخري من القرآن الكريم حيث كانوا يُساوِمُون فرعون قائلين أئِنَّ لنا لأجراً إنْ كُنّا نحن الغالبين.. هذا، وقد خَصُّوا بالذكر السِّحْر رغم أنه من عُموم خطاياهم التي يَطلبون من الله غفرانها لهم وذلك للإعلان عن شِدَّة كراهيتهم له بعد إيمانهم لأنه كان أسوأ خطاياهم بعد كفرهم حيث كانوا به يَخْدعون الناس ويساعدونهم علي الكفر بربهم والإيمان بفرعون.. ".. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)" أيْ والله حتماً أعظم وأدْوَم منك أجراً لا يُوصَف، في الداريْن، لِمَن أطاعه، وكذلك أَدْوَم منك عذاباً لا يُوصَف فيهما، لِمَن عَصَاه.. فأنت بكل عطائك قليلٌ فانِي بينما هو سبحانه ومُلْكُه وخَيْره عظيمٌ باقي لا يَفْنَيَ.. وفي هذا رَّدٌ عليه يُناسِب قوله ".. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)" (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني)
ومعني "إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)" أيْ هذا إمَّا أنْ يكون من تمام كلامِ السحرة أو ابتداء كلامٍ من الله تعالي.. أيْ إنَّ الحالَ أنَّ مَن يَحْضر لربّه من الناس يوم القيامة وكان في دنياه مُجْرِمَاً أيْ ارْتَكَبَ الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، وماتَ علي ذلك بلا توبة، فإنَّ له أيْ لهذا المُجْرِم حتماً جهنم – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف يُعَذّب بها عذاباً شديداً مِن مَظاهِر شِدَّته أنه لا يموت فيها فيستريح من عذابه بالموت ولا هو يحيا حياة طيِّبَة مُريحة يَسعد بها بما يعني أنه يبقي هكذا في عذابٍ دائمٍ مُستمِرٍّ مُتَنَوِّعٍ في كل لحظةٍ إلي مَا شاء الله علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بلا أيِّ أملٍ في أيِّ خيرٍ بل هو في يأسٍ تامّ
ومعني "وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)" أيْ هذا أيضاً، ومَا سيُقال في الآية القادمة، إمَّا أنْ يكون من تمام كلامِ السحرة أو ابتداء كلامٍ من الله تعالي.. أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن يأته من الناس يوم القيامة وكان في دنياه مؤمناً أيْ مُصَدِّقَاً بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وقد عمل الصالحات أي عمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل وكان ثابِتَاً دائما عليها مُخْلِصَاً مُحْسِناً أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياته حتي وفاته وهو علي هذا.. ".. فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)" أيْ فهؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيِّبَة الحَسَنة لهم حتماً في أخراهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح المَرَاتِب والمنازِل العالية الراقية العظيمة النعيم في درجات الجنات علي حسب درجة أعمالهم وأقوالهم الصالحة.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي الدرجات العُلَاَ في جنة الدنيا التي سيَجدونها وسيُكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم إلا مَن كان مثلهم وذلك بسبب فِعْلهم للخير نتيجة لإيمانهم بربهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا
ومعني "جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)" أيْ هذه الدرجات العُلَيَ التي ستكون لهم في الآخرة هي جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخرجه أحدٌ ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، يُدْخِلهم خالقهم الكريم الودود الغفور الرحيم إيَّاها، وهم تجري من أسفل قصورهم وحدائقهم الأنهار أيْ يُطِلّون علي كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وهم لهم فيها كلّ ما يريدون من أنواع النعيم الطّيِّب التامّ اللّذّة، فمَهما طَلَبوا وَجَدوا ما يَطلبون حتي بمجرّد تَمَنّيه في خاطِرهم، ويكونون خالدين فيها أبداً بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)" أيْ وذلك كله الذي يُعطيهم الله تعالي إيَّاه هو حتماً ودائماً والمُتَوَقّع أجر وعطاء ومكافأة كلّ مَن تَزَكّيَ أيْ مَن يَتَطَهَّر مِن كلِّ سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيسعد في الداريْن، والتزكية هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)" أيْ ولقد أبْلَغْنَا موسي عن طريق الوَحْي – واللام وقد لتأكيد مَا حَدَث – بعد استكبار فرعون علي الاستجابة له بعبادتنا وبإرسال بني إسرائيل معه ليخرجوا من بلاده التي يحكمها وهي مصر إلي بلاد الشام ليكونوا أحرارا ليعبدونا، رغم إحسان دعوته لفترات، أوْحَيْنا إليه أنْ أَسْرِ بعبادي أيْ سِرْ ليلاً بِمَن آمَنَ معك سواء من قومك بني إسرائيل أو غيرهم حين ينام أعداؤكم حتي لا يروكم كنوعٍ من الحَذَر وحُسْن اتّخاذ أسباب النجاة وإجراءاتها، ويَنْسِبهم سبحانه إليه أنهم عباده تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره.. ".. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.." أيْ واجْعَلْ لهم في البحر طريقاً يابِسَاً أيْ جافّاً يَسْهُل السَّيْر عليه للوصول بأمانٍ للشاطيء الآخر من خلال أنْ تَضرب أيْ تَخْبِط ماءه بعصاك فتَحْدُث لكم مُعْجِزَة أخري عظيمة وهي انشقاق الماء لِقِسْمَيْن بينهما طريق جافّ.. وذلك لأنَّ فرعون وجنوده لَمَّا عَلِمُوا بخروجهم ليلاً بدأوا في اتّباعهم واقْتَرَبُوا منهم صباحا وقت الشروق فلم يَعُدْ أمامهم إلا البحر فإمَّا أنْ يُقْتَلُوا أو يَنْزِلوا إليه فيغرقوا فيه، ولقد كان اقتراب فرعون وجنوده هذا منهم بإذْن الله ليَروا مُعْجِزَته تعالي لهم ونعمته عليهم ورحمته بهم بإهلاك أعدائهم وإنْجَائهم.. ".. لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)" أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَثْبيت وتَبشير وإسعاد لهم وبيانٌ أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة وأنه معهم دائماً بقُدْرَته وعِلْمه حيث يُنْعِم عليهم بكل حُبّ ورضا ورعاية وأمن وعوْن وتوفيق ونصر وقُوَّة ورزق وإسعاد.. أيْ فاضرب لهم طريقاً في البحر يَبَسَاً وأنت لا تخاف يا موسي وعبادي المؤمنين معك دَرَكَاً أيْ إدْرَاكَاً أيْ لِحَاقَاً من أعدائكم بكم لإيذائكم، ولا تَخْشَيَ – والخشية شِدَّة الخوف – أيْ ولا تَخاف ولا تَخافوا كذلك غَرَقَاً في البحر عندما تَنْزِلون إلي الطريق الذي فيه فهو مُمَهَّدٌ تماماً لكم
ومعني "فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)" أيْ فسَارَ خَلْفَهم فرعون ومعه جنوده، في الطريق اليابِس الذي شَقّه الله تعالي لهم في البحر، يريدون أن يُدْرِكوهم أيْ يَلْحَقوا بهم ويَقْضُوا عليهم بعد أنْ عَبَرُوه، فغَطّاهم وأحَاطَ بهم من البحر مَا غَطّاهم دون ذِكْرِ تفصيلٍ مَا لأنه لا يُوصَف مِن شِدَّته عليهم وإيلامه وتدميره لهم، فقد غَمَرَهم من الماء مَا لا يعلم حقيقته وفظاعته إلا الله – وإعادة ذات اللفظ "غَشِيَهُم" هو أسلوبٌ في اللغة العربية يُفيد التعظيم والتهويل – فغَرَقوا جميعاً ونَجَا موسى (ص) والمؤمنون معه وتَحَقّقت مُعْجِزَته سبحانه لهم بقُدْرته وفضله وكرمه ورحمته حيث نَصَرَ المُسْتَضْعَفِين المؤمنين علي المُسْتَكْبِرين الكافرين
ومعني "وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)" أيْ وأضَاعَ فرعون قومه أيْ أبْعَدَهم عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، وسارَ بهم في طريق الضياع أي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُؤَدِّي إلي تمام التعاسة فيهما، حيث أمَرَهم بعبادته لا عبادة ربهم الله تعالي فاستجابوا له بلا أيِّ تَعَقّلٍ بكاملِ حرية إرادة عقولهم، ومَا ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا هَدَى (79)" أيْ هذا تأكيدٌ لإضلاله إيِّاهم تماماً، لأنَّ المُضِلَّ قد يُرْشِد مَن يُضِلّه للخير أحياناً في بعض الأمور.. أيْ ومَا أرْشَد، أيْ ومَا أَرْشَدَهم وأَوْصَلَهم أبداً للهداية لله وللإسلام، ولأيِّ خير
ومعني "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)" أيْ هذا تذكيرٌ ببعض أهمّ النِّعَم علي بني إسرائيل لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ يا أبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهم عليهم السلام جميعا، وإسرائيل معناها بالعِبْرِيَّة التي هي اللغة اليهودية عبد الله حيث إسْرَاَ تعني عَبْد وإيِل تعني الله، وأبناؤه المقصود بهم اليهود، ويُناديهم سبحانه بهذه الصفة لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة حيث هم ذرِّيَّة رسولٍ كريمٍ فلا يَصِحّ منهم مُخَالَفَة الإسلام بل عليهم أن يكونوا مثله في اتّباعه والدعوة إليه لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما، يُناديهم أن اذكروا نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، حيث قد أنجيناكم من عدوِّكم أيْ أنْقَذناكم من فرعون مَلِك مصر الظالم وأهله وأعوانه من أصحاب النفوذ والسلطان بأنْ أغْرَقناهم وأهْلَكْناهم أمام أعينكم وأنتم تنظرون إليهم بعد أنْ كانوا يَسُومونكم أيْ يُذِيقُونكم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامكم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل كانوا يُذَبّحون أبناءكم لإضعاف قوّتكم فلا تُطالِبون بحقوقكم ويَسْتَحْيُون نساءكم أيْ يُبْقُونهنّ أحياء للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندهم.. ".. وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ.." أيْ وأعْطَيْناكم الوَعْد عند ناحية الطور اليُمْنَيَ، من مكان وجودكم مع موسي وأنتم مُتّجِهِين ناحيته، والطور جَبَلٌ بمنطقة سيناء بدولة مصر، وذلك لإنزال التوراة علي رسولكم الكريم موسي وتعليمها له ليُعَلّمكم إيّاها لتكون إرشاداً لكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. هذا، ومن معاني الأَيْمَن كذلك أيْ المكان الأَبْرَك أيْ الأكثر بَرَكَة لأنَّ الله تعالي كَلّمه فيه وأنزل عليه التوراة بما فيها من إسلامٍ يُناسب عصره لكي يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه.. ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)" أيْ ونَزّلنا عليكم من السماء بفضلنا وكرمنا ورحمتنا ماءً ليُنْبت المَنَّ وهو يشمل جميع ما مَنَّ الله به على خَلْقه أيْ أعطاهم إيَّاه من أرزاقٍ ولكي يَحْيَي به السَّلْوَيَ الذي تأكلونه وهو طائر يُشْبِه السّمَّان لحمه طيّب لذيذ وصَيْده سَهْل، وعند بعض العلماء السَّلْوَيَ كالمَنّ أيْ كلّ مَا سَلّيَ الله به خَلْقَه من رزقٍ أيْ طَيَّبَ نفوسهم وأسْعَدَهم بواسِطته، فهما بمعني واحدٍ عندهم وذِكْرهما معاً لتأكيد النّعَم للدَّفْع لشُكْرها
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)" أيْ قلنا لبني إسرائيل وللناس رحمة بهم وتَذْكِيراً بنِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ عليهم ليَشكروها لِنَزِيدهم منها كلوا واشربوا من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناكم إيَّاها.. ".. وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ.." أيْ ولا تَتَجَاوَزوا حُدود الإسلام التي شَرَعْنَاها لكم وتظلموا فيه أيْ فيما رزقناكم، بكل صور الظلم، بأنْ تستخدموه في الشرِّ لا في الخير، وبأنْ لا تشكروا خالقكم رازقكم عليه أو تنكروا فضله وتَنْسِبُوه لغيره.. ".. فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي.." أيْ فإنْ طَغَيْتُم فيه، فبسبب ذلك بالتالي حتماً يَحِلّ عليكم غضبي أيْ يَحِقّ ويَجَب ويَنْزِل عليكم غضبى – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ أَكْرَهكم كراهية شديدة لفِعْلِكم وانتقم منكم بعقابي بما يُناسِب في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)" أيْ ومَن يَحِقّ ويَجِب ويَنْزِل عليه غضبي فإنه بالتأكيد حتماً بلا أيِّ شكّ قد هَوَيَ أيْ سَقَطَ بسرعةٍ وبقوّةٍ وبشِدَّةٍ وبقَسْوَةٍ وبِذِلّةٍ وبإهانةٍ وبتَعَاسَةٍ إلي أسفل أيْ سقط في كل سُوءٍ في كل قولٍ يقوله وكل عملٍ يعمله بكل شئون حياته أيْ سقط إلي السَّفَالَة أيْ الانحطاط والوَضَاعَة والحَقَارَة والخِسَّة في كل شيءٍ ثم في آخرته سيسقط قطعاً في قاع نار جهنم بعذابها الذي لا يُوصَف، أيْ بالجملة قد هَلَكَ وتَعِسَ فيهما، حيث سيكون له حتماً في الداريْن عقابٌ بعذابٍ مُناسبٍ لطغيانه، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ تقريباً في ذات الآية هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ من الطغيان، فلْيَتّعِظ إذن مَن أرادَ الاتّعاظ ولْيَبْتَعِد تماماً عنه ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)" أيْ وإني بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً – واللام للتأكيد – كثير عظيم المغفرة أيْ أعفو عن الذنوب وأسامِح فلا أعاقِب عليها وأمْحُوها كأنْ لم تَكُن وأمْحُو عن التائب آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأسْتُرها وأخْفيها فلا أعَذّبه بفضحه بها فيهما، فالتوبة تَمْحُو كلّ مَا قبلها من ذنوبٍ كبيرة أو صغيرة، وهذه المغفرة هي لكل مَنْ تابَ أيْ قام بالتوبة من ذنوبه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. إنه لولا فتح الله تعالي التواب الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَآمَنَ.." أيْ وأسْلَمَ واتَّبَعَ الإسلام إنْ كانَ قد كَفَرَ أيْ لم يُصَدِّق بوجود إلهٍ أو إنْ كان قد أشْرَكَ أيْ عبد غير الله تعالي كصنمٍ أو غيره أو إنْ كان مؤمناً ولكنّه قد كان فاعِلَاً للشرور والمَفاسد والأضرار فيكون إيمانه بمعني تجديد الإيمان بالله بعد توبته بكل صِدْقٍ وإخلاصٍ وإحسانٍ أيْ له تعالي لا رياءً للناس بأنْ يَتْرُك الشَّرَّ ويَفعل الخير ويستكمل مَا قد يراه في نفسه ناقصاً من كل أخلاق الإسلام ويُصَحِّح سريعاً ما قد يَحدث منه من أخطاءٍ أو تَقْصِيراتٍ أو هَفَوَاتٍ أثناء هذا ويتوب منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل وأنْ يَثْبُت ويُدَاوِم علي ذلك بلا أيِّ تَرَاجُعٍ لأيِّ سبب.. ".. وَعَمِلَ صَالِحًا.." أيْ ودَلّلَ وبَرْهَنَ علي حُسْنِ توبته وإيمانه بأنْ عمل صالحاً بعد ذلك واستمرّ عليه أيْ عمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق، وبالجملة عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَله تابَ منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. ثُمَّ اهْتَدَى (82)" أيْ ثم اسْتَمَرَّ علي هُدَاه هذا طوال حياته حتي مَمَاته
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من المُتَشَوِّقِين المُتَلَهِّفِين للتّوَاصُل مع ربهم مالِك المُلْكِ القويّ المَتين القادر علي كل شيء، في كل لحظات حياتهم، يَطلبون منه ما يريدون في دعائهم (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويَتَوَكَلّون دَوْمَاً عليه مع إحسانهم لاتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ويَذْكُرونه علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صورة الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن، ويتمسّكون ويعملون دائماً بكل أخلاق إسلامهم كما كان موسي (ص) وكل الرسل الكرام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)" أيْ وقلنا لموسي بعد إنجائنا له ولِبَنِي إسرائيل المؤمنين وإهلاكنا لفرعون والمُسْتَكْبِرين الكافرين: وما الذي جَعَلَكَ تَتَعَجَّل وتَتَقَدَّم عن قومك يا موسي؟! ولماذا لم تَصْبِر حتى تَقْدِمُون معاً جميعا؟!.. حيث كان سبحانه قد حَدَّدَ له ولهم موعداً عند جبل الطور بأرض سيناء بدولة مصر (كما ذُكِرَ في الآية (80)، برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) ليُوحِي إليه التوراة التي فيها الإسلام الذي يُناسِب عَصْره ليُعَلّمها لهم وللناس ليَعْمَلوا بها ليَسعدوا في الداريْن، ولكنه تَعَجَّلَ في المَجِيء سابقاً قومه في السَّيْر لأنه كان مُتَشَوِّقَاً مُتَلَهِّفَاً لكلام الله تعالي
ومعني "قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)" أيْ قال موسي مُجِيبَاً الله تعالي هم هؤلاء سائرون علي أثري أيْ علي آثار أقدامي مُتَتَبِّعِين إيَّاها، يَقْصِد أنهم قادِمون بَعْدِي خَلْفِي لاحِقون بي قريباً قريبون مِنّي.. ".. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)" أيْ وقد تَعَجَّلْتُ أنا وسَبَقْتُ وأسْرَعْتُ إليك يا ربِّ لكي تزداد رِضَيً عنّي بذلك، لأنَّ الإسراع إلى تنفيذ أمرك والوفاء بالوعد معك يُحَقّق تمام رضاك، ومَن تَرْضَيَ عنه فإنه يحيا في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فإنَّ هذا بكل تأكيدٍ هو الذي سيَحْميك من الوقوع في أيِّ فتنةٍ أيْ شَرٍّ وفسادٍ وضَرَر، لأنَّ الشرَّ لا يمكنه أبداً التّسَلّل لعقلٍ تفكيره دائماً في كل خيرٍ لأنه دَوْمَاً مُتَمَسِّكٌ بربه وبدينه فلا وقت لديه للتفكير في الشرّ!.. هذا، وإنْ أصابك اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا، صَبَرْتَ عليه لتخرج منه مستفيداً استفاداتٍ كثيرة في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، واسْتَعَنْتَ بربك ولَجَأْتَ إليه واعْتَصَمْتَ به وتَوَكّلْتَ عليه أي اعتمدتَ عليه ليُعينك (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)" أيْ قال الله تعالي لموسي (ص) حينها ونحن قد اختبرنا قومك مِن بَعْدِ مُغادَرَتك لهم فلم يَنْجَحُوا في الاختبار فوَقعوا في فتنةٍ أيْ شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ وكان السبب أنْ أَضَلّهم السامِرِيّ أيْ أضَاعَهم أيْ أبْعَدَهم عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، وسارَ بهم في طريق الضياع أي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُؤَدِّي إلي تمام التعاسة فيهما، حيث دعاهم لعبادة عجلٍ لا عبادة ربهم الله تعالي فاستجابوا له بلا أيِّ تَعَقّلٍ بكاملِ حرية إرادة عقولهم، ومَا ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والسامِرِيّ لم يُحَدِّد القرآن الكريم مَن هو ولكنْ مِن سياق الآيات يَتَبَيَّن أنه شخصٌ خَرَج مِن مصر مع مَن خَرجوا من بني إسرائيل وأظهر إسلامه ولكنه كان كافراً وعنده بعض العلم عن عُبَّاد البقر وعن كيفية صناعة الأصنام والتماثيل وما شابَه ذلك مِن ضلال.. هذا، واختبار الله تعالي للناس بين الحين والحين هو لمصلحتهم ولسعادتهم حيث يُعينهم علي هذه الاختبارات برحمته ونِعْمَته لاستعانتهم به فيَخْرُجون منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة من حيث قوّة إرادة عقولهم فتُعينهم هذه الإرادة القوية علي العمل بكل خيرٍ ومُقاوَمَة وتَرْك كلّ شرّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وتُعينهم علي دعوة غيرهم له ونَشْره والدفاع عنه ضِدّ أيِّ مُعْتَدِي فيسعدون بذلك في الداريْن
ومعني "فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)" أيْ فبسبب ذلك بالتالي عادَ موسي (ص) إلي بني إسرائيل بعد مدة الأربعين يوما التي قضاها عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمهم إيّاها لتكون إرشاداً لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم حيث كان قد تَرَكهم مع هارون وذهبَ هو لتَلَقّي الوَحْي من الله تعالي، وكان غضباناً وحزيناً حيث أوْحَيَ سبحانه إليه قبل رجوعه بما فعلوه من عبادة العِجْل، قال ذامَّاً لهم رافِضَاً مُقَبِّحَاً لِفِعْلِهم ليُوقِظهم من غَفْلتهم: ألم يَعِدْكُم ربكم وَعْدَاً حَسَنَاً؟! أي هل لم يُعْطِكم ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – بفضله وكرمه ورحمته وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً حَسَنَاً أيْ طيِّبَاً مُسْعِدَاً صِدْقَاً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ وهو إنزال التوارة عليكم بوَحْيِها لي لتُصْلِحكم وتُكْمِلكم وتُسْعدكم تمام السعادة في الداريْن لو عملتم بكل أخلاقها؟! وقد رأيتم إنْفاذ وَعْده الصادق معكم بمُعْجِزَة إنْجائكم ونَصْركم وهزيمة عَدُوِّكم فرعون وإهلاكه وجنوده رغم عظيم قوّتهم فلماذا إذَن عَبَدْتُم غيره مع أنكم تعيشون فى خيراته وأرزاقه ورحماته ومَعُوناته التي لا تُحْصَيَ؟! أين عقولكم؟!.. والاستفهام والسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يَتَذَكَّر ويَتَفَكَّر ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ثم زادَهم ذَمَّاً ولَوْمَاً لزيادة إيقاظهم بسؤالهم ".. أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد.." أيْ فهل بسبب أنْ طَالَ أيْ بَعُدَ عليكم العهد أي الزمن نَسِيتُم وَعْدَ ربكم الحَسَن الذي وَعَدَكم إيّاه؟! وهذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ لهم لأنَّ الزمن لم يَطُلْ بل كانت الأحداث سريعة مُتَلاَحِقَة لا تَرَاخِيَ ولا تَبَاطُؤ فيها حتى يُمكن أنْ يَحْدُث نِسيانٌ منهم فقد أنْجاهم ربهم وأغرق عدوهم ثم كان الوعد منه باللقاء وكانت خطيئة عبادتهم العِجْل قريبة من ذلك، وكذلك لم يَطُلْ الزمن حتى يكون لهم يأسٌ من الوفاء بالوعد فيكون لهم عذرٌ في الكفر!.. كذلك من المعاني أني كرسولٍ لكم لا زِلْتُ بينكم ولم أَمُتْ ويطول بكم الوقت من غير رسولٍ فتَخْتَلِفوا وتَنْسُوا ربكم ودينكم كما حَدَثَ مع بعض السابقين الذين كفروا بالله أو عبدوا غيره بعد غيابِ رسلهم فتعسوا في دنياهم وأخراهم!!.. والمقصود أنه ليس لهم إذَن أيّ عُذْرٍ في اتّباعهم ضلال السامِرِيّ وعِبادتهم العِجْل.. ".. أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي (86)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الذمِّ واللّوْم الشديد لهم لإيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما.. أيْ أم هل أردتم أنْ تفعلوا فِعْلَاً قَبيحاً يَحِلّ عليكم أيْ يَنْزِل ويَجِب عليكم بسببه غضبٌ من ربكم فأخلفتم موعدى الذى وَعَدْتُمونى إيّاه أيْ فتَسَبَّب عن فِعْلِكم هذا أنْ لم تُوفوا عهدكم معي ولم تَلْتَزِمُوا بتَنْفيذه وهو الثبات علي عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام لا غيره وقُمْتُم بعبادة العِجْل ومُخَالَفَة وَصَايَاي لكم؟! إنَّ عملكم القبيح هذا هو كعمل مَن يُريد ويَتَعَمَّد أنْ يَحِلّ عليه غضبٌ من ربه وهذا ما لا يَفعله عاقل، فإنْ كنتم تريدون ذلك فاستمرّوا إذَن فيما أنتم فيه!!.. هذا، وغضب الله تعالي علي مَن يَغضب عليه سيكون حتماً في الداريْن بعذابٍ مُناسبٍ، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ من فِعْل مَا يُغْضِب الله تعالي، فلْيَتّعِظ إذن مَن أرادَ الاتّعاظ ولْيَبْتَعِد تماماً عنه بأنْ يَفعل كلّ خيرٍ ويَترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)" أيْ قالوا لموسي (ص) مُعْتَذِرين عن خَطَئهم الشَّنِيع مُعْتَرِفين به نادِمِين عليه، ولكنه كان عُذْرَاً أقبْحَ من ذنبٍ، حيث هو عُذْرٌ سَفِيهٌ ضعيفٌ قبيح، أنهم قد خُدِعُوا بالسامِرِيّ فأضَلّهم، بمَا يَدُلّ علي إغلاقهم لعقولهم واحتياجهم لأنْ يَستفيقوا بأنْ يُحْسِنوا استخدامها، قالوا لم نخلف وعدك الذى وَعَدْناك إيّاه أيْ لم نُوفِ عَهْدنا معك ولم نَلْتَزِم بتَنْفيذه وهو الثبات علي عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام لا غيره وقُمْنا بعبادة العِجْل ومُخَالَفَة وَصَايَاك لنا، بمَلْكِنَا أيْ بمِلْكٍ مِنّا لأمْرِنا أيْ ونحن نَمْلِك أمرنا أيْ بتَعَمُّدٍ أيْ بإرادتنا وباختيارنا ولكنْ بأمورٍ أخرى خارجة عن إرادتنا جعلتنا نُخْلِف وَعْدك حيث كنّا تحت تأثيرِ تَضْليلٍ شديدٍ من السامِرِيّ، فنحن مَا أخْلَفنا مَوْعِدك بمَلْكِنا ولكنَّ السبب لذلك هو أنّنا حُمِّلْنا أيْ حَمّلْنا أنفسنا أوزاراً يَقْصِدون أوْزَانَاً من زينة القوم أيْ مِن حُلِيّ المَصْرِيِّين جيراننا التي يَتَزَيَّنون بها والتي كنّا قد اسْتَعَرْناها من بعضهم لِنَتَزَيَّن لعيدٍ لنا، وسَمُّوها أوزاراً لأنهم استشعروا أنها ذنوبٌ مَحْسُوبَةٌ عليهم لأنهم لم يستطيعوا رَدَّها لهم قبل خروجهم من مصر خوفاً من انْكِشاف أمر الخروج فيقتلهم فرعون، فلقد اهتمّوا كثيراً بإثم عدم رَدِّ الأمانة التي معهم رغم أنهم مَعْذورون في ذلك بسبب عدم استطاعتهم رَدَّها ولم يهتمّوا بعظيم إثم الكفر وعبادة العجل!! لكنه علي أيِّ حالٍ يَدُلّ علي أنَّ فيهم خيرا.. فاسْتَدْرَجنَا السامِرِيّ فخَدَعنا تدريجياً فأَوْهَمَنا أنك يا موسي لن تعود إلينا إلا إذا تَخَلّصنا من هذه الحُلِيّ لأنها أمانة عندنا وليست مِلْكَاً لنا ولو استعملناها فستغضب مِنّا فلا تعود إلينا، وهذا حقّ ولكنه كان يريد به باطلا، حيث طلب منا إلقاءها في النار، فقذفناها فيها، وكذلك فَعَلَ هو أيضا فألقي ما كان معه من زينةٍ بها، لأنه كان يريد صَهْر هذه الزينة لكي يَتَمَكّنَ مِن صُنْع العِجْل
ومعني "فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)" أيْ فكانت نتيجة صَهْر مَا قذفوه مِن الحُلِىّ فى النار أنْ أخرج فصَنَعَ لهم السامِرِىّ منه جَسَدَاً علي شكلٍ كان عِجْلاً له صوتُ عِجْلٍ حينما يمرّ الهواء في التجاويف التي فيه، فقالوا أيْ وقال السامِرِيّ هو وأتْباعه الذين ضَلّوا فعَبَدُوا العِجْل من بني إسرائيل بعضهم لبعضٍ وللآخرين: هذا العجل هو مَعْبُودكم ومَعْبُود موسي فاعبدوه، لأنَّ موسى نَسى إلهه هنا وذهب لكي يبحث عنه فى مكانٍ آخر!! بما يَدلّ علي شِدَّة إغلاقهم لعقولهم وسوء أدبهم مع رسولهم الكريم حيث لم يكتفوا بعبادة العجل بل ادّعوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنَّ موسي (ص) الذي يدعوهم إلي عبادة الله تعالي وحده قد كان يَعْبُد العِجْل وأنه قد نَسِىَ مكانه فذهب يبحث عنه!! أو فنَسِيَ موسى أنْ يَذْكُر لكم أنَّ هذا إلهه وإلهكم!!.. هذا، وعند بعض العلماء معني "فنَسِيَ" أنه السامِرِيّ أيْ فنَسِيَ فَتَرَكَ السامريّ ما دعاه إليه موسي من إسلامٍ فضَلّ ودَعَا الناس لعبادة العِجْل الذي صَنَعه لهم
ومعني "أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك مُصِرَّاً علي إغلاق عقله مُستمِرَّاً علي كفره ونفاقه وشَرِّه وفساده بلا أيِّ توبةٍ واتّعاظٍ بما يَحْدُث حوله، ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل لا يُشاهدون ولا يَتَدَبَّرون ولا يَعلمون هؤلاء السفهاء الذي يَعبدون العِجْل، وهل لا يُشاهِد كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لا يَصِل إلي عِلْمه، وهل لا تُشاهدون وتَتدبّرون وتَعلمون أيها الناس ولا يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل أنَّ العِجْل الذي عبدوه ليس له أيّ صفةٍ من صفات الإله الذي لا بُدّ أن يَتّصِف بكل صفات الكمال الحسني من الخَلْق والرزق وتمام العلم وكمال القُدْرَة علي كل شيء والسمع والبصر والكلام والحِكْمَة والمُلْك ونحو هذا، فهو صَنَم! عِجْل!! جماد! لا يَتَكَلّم ولا يُرْشِد لأيِّ طريق خيرٍ وأمنٍ وسعادة!! لا يَرْجِع إليهم أيْ لا يَرُدّ عليهم قولاً يقولونه له ولا يُجيبهم إذا سَألوه ودَعوه!! ولا يَمْلِك لهم أيْ لا يستطيع ضَرَّاً ولا نَفْعَا لهم!! ولا يَرزق ولا يَخْلق ولا يُحي ولا يُميت ولا يَملك الدفاع عن نفسه لو قام بكسره وإيذائه طفل!! إنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! كيف يعبد مَخْلوقٌ مَخْلوقاً مثله بل هو الذي صَنَعَه؟! إنه حتي لا يستطيع ما يستطيعه أيّ بَشَرٍ من الكلام والتوجيه لفِعْلٍ مَا فكيف سَاوُوه بخالق الأجسام والقوَىَ والإمكانات؟!.. هل عَمُوا عن هذه الحقائق؟! هل أصابهم الجنون؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الله تعالي وحده هو النافع الضارّ)
ومعني "وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)" أيْ ولقد – واللام، وقد، في اللغة العربية تُفِيد التأكيد – قال هارون لهم أيْ لهؤلاء السفهاء الذين عَبَدُوا العِجْل من قومه بني إسرائيل، قال هارون أخو موسي والرسول معه يساعده وخليفته الذي اسْتَخْلَفه عليهم ليَرْعاهم ويُحافِظ علي إيمانهم بربهم واتّباعهم لإسلامهم ويُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة، قال لهم مِن قَبْل أنْ يَرْجِع إليهم موسي، مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم، يا قوم، يا أهلي وأحِبَّائي، إنما فُتِنْتُم به أيْ مَا هو إلاّ فتنة لكم وليس ربَّاً أيْ لقد اخْتُبِرْتُم به أيْ بالعِجْل أيْ اخْتَبَرَكُم الله تعالي به لِيَظْهر المؤمنُ منكم مِن الكافر فاجتهدوا في أنْ تَنْجَحوا في هذا الاختبار بأنْ تَتمسّكوا بعبادة الله ولا تَفشلوا فتَعبدوا العِجْل، ولقد وَقَع بعضكم بالفِعْل في الفتنة به أيْ في الشرِّ والضلال بسببه.. هذا، واختبار الله تعالي للناس بين الحين والحين هو لمصلحتهم ولسعادتهم حيث يُعينهم علي هذه الاختبارات برحمته ونِعْمَته لاستعانتهم به فيَخْرُجون منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة من حيث قوّة إرادة عقولهم فتُعينهم هذه الإرادة القوية علي العمل بكل خيرٍ ومُقاوَمَة وتَرْك كلّ شرّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وتُعينهم علي دعوة غيرهم له ونَشْره والدفاع عنه ضِدّ أيِّ مُعْتَدِي فيسعدون بذلك في الداريْن.. ".. وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ.." أيْ وقال لهم كذلك إنَّ ربكم هو الله الرحمان وحده لا غيره كعِجْلٍ أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. هذا، والجَمْع بين لفظ "ربكم" والذي يعني مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ولفظ "الرحمن" والذي هو اسم من أسماء الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم، هذا الجَمْع بين اللفظين يُفيد مزيداً من التأكيد علي اجتهاد هارون (ص) في إعادة الذين عَبَدُوا العِجْل لربهم ولإسلامهم وتَذْكِرَتهم بأنهم لو تابوا سيَتُوب الله تعالي عليهم حتماً بلا أيِّ شكّ لأنه ربهم الرحمان الغفور الرحيم.. ".. فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن سِيرُوا خَلْفِي وأطيعوا أمري أيْ واستجيبوا ونَفّذوا ما آمُرُكُم وأوُصِيكم به لا مَا يأمركم به السامِرِيّ وغيره وهو عبادة ربكم وحده لا غيره والتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم لا بغيره وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)" أيْ قال السفهاء الذين عَبَدُوا العِجْل منهم، بمَا يَدُلّ علي استمرارهم في شِدَّة إغلاقهم لعقولهم واحتياجهم لأنْ يَستفيقوا بأنْ يُحْسِنوا استخدامها، رغم حُسْن دعوتهم من هارون (ص) بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة، قالوا لن نُفَارِق عبادة العجل وسنَظلّ عاكِفين عليه لعبادته أي مُقِيمين مُلازِمِين مُسْتَمِرِّين مُداوِمِين مُواظِبين، حتي أيْ إلي أنْ يَرْجِع أيْ يَعودَ إلينا موسي، فيُخْبِرنا هل نحن علي صوابٍ أم خطأ وهل سيَسَمْحَ لنا بعبادته أو يَمْنَعنا منها!! فهم من شِدَّة سَفَههم وسوء أدبهم يرون أنَّ هارون (ص) ليس رسولاً مُؤَهَّلَاً للنصيحة وللطاعة بل قد اسْتَضْعَفوه واسْتَخَفّوا به!!
ومعني "قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)"، "أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)" أيْ قال موسي (ص) عند رجوعه علي سبيلِ العِتابِ واللّوْمِ يا هارون إذ رأيتهم أيْ حين شاهَدْتَهم ضَلّوا بعبادتهم للعِجْل – أيْ ضاعُوا وابْتَعَدُوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، وساروا في طريق الضياع أي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُؤَدِّي إلي تمام التعاسة فيهما – ما مَنَعك أيْ أيُّ شيءٍ مَنَعَكَ ألاّ تَتّبِعَنِ أيْ تَسِير علي خُطاي فتَنْصَحهم وتُحَذّرهم وتَمْنَعهم قَدْر استطاعتك مِمَّا فَعَلُوه.. كذلك مِن المعاني مَا مَنَعَكَ مِن أنْ تَلْحَق بي وتُخْبِرني بضلالهم أوّل الأمر لنُعالِجَه ونَمنعه ما استطعنا.. ".. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)" أيْ هذا مزيدٌ من العِتابِ واللّوْم له.. أيْ وهل عصيت أيْ خَالَفْتَ أمري الذي أمرتك به وهو حُسْن خِلافَتِي فيهم بعبادة الله تعالي وحده لا غيره والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لا بغيره والدفاع عنه والمُدَاوَمَة والاستمرار علي ذلك؟!
ومعني "قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)" أيْ قال هارون لموسي يا ابنَ أمِّي أيْ يا أخي، مُذَكّرَاً إيّاه بالأمّ رمز الحنان وبعاطفة الأُخُوَّة ليُرَقّق مشاعره نحوه ولِيُخَفّف من غضبه وحُزْنه ولِيُمَهِّد ذِهْنَه لكي يَقْبَل منه تَوْضيحه لعدم تَقصيره وبَذْله لجهده أقْصَيَ استطاعته المُمْكِنَة، لا تمْسِك لحيتي ولا رأسي تَأْنِيبَاً لي فأنا لم أعْصِ أمْرَك، حيث قد فَعَلَ موسي ذلك إظهاراً للغضب مِمَّا حَدَثَ لتَوَهُّمه أنه قد قَصَّر في مَنْعهم عَمَّا فَعَلوا وهو الذي قد أوْصَاه بأن يكون نِعْم الخليفة بَعْده فيهم ويُصْلِح ولا يَتّبع سبيل المُفسدين.. ".. إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)" أيْ هذا بيانٌ لِعُذْره وتعليلٌ لطَلَبِه ألّاَ يأخذ بلحيته وبرأسه لأنه لم يَعْصِه وتعليلٌ لماذا اكتفي بالسكوت بعد نُصْحهم وبَقِيَ بينهم ولم يُفارِقهم ولم يُعاقبهم رغم جريمتهم.. أيْ إني خفْتُ أن تقول فَرَّقْتَ بين بني إسرائيل أيْ جَعْلَتَهم فِرَقَاً ولم تَرْقُب قولي أيْ ولم تُرَاقِبْ أيْ تُرَاعِ وتَحْفَظْ أمري لك بحُسْن رِعايتهم وحُسْن خِلافتك فيهم – أو ولم تَرْقُبْ قولي بمعني ولم تَنْتَظِر قولي في حقيقة الأحوال وتَعْلِيلي فيما رأيته في فِعْلِي هذا – حيث ذلك كان سيَحْدُث غالِبَاً لو كنتُ خَرَجْتُ بمَن ظلّ علي عبادة الله تعالي وحده لأتّبعك وأَصِل إليك وتَرَكْتُ الذين عَبَدوا العِجْل لأنهم قالوا لن نَبْرَح عليه عاكِفين أو كنتُ عاقبتهم بعقابٍ شديدٍ أو نحو هذا مِمَّا قد يُؤَدِّي إلي انْقِسَامِنا والخِلاف والصراع وحتي الاقتتال فيما بيننا، فلَمَّا وَازَنْتُ بين الأمور غَلَبَ علي ظَنّي أنَّ الأكثر مَصلحة والأَخَفّ ضَرَرَاً في ذلك الوقت هو الاكتفاء بالنّصْح مع عدم تَرْكهم والبقاء بينهم لاستمرار نُصْحِهم وإرْشادهم حتي تَرْجِع إلينا ونعالج الأمر معا
ومعني "قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)" أيْ فاطمأن موسي باعتذار هارون وتَقَبَّله وتَوَجَّه بعد ذلك بالحديث لزعيم الفتنة وسبب كل هذا الضرر الشديد الذي حَدَث وهو السامِريّ قائلا له ذامَّاً إيَّاه إذا كان الأمر والحال هكذا فما شأنك يا سامريّ وما أمرك وما حالك وما طَلَبك وماذا تريد بما فَعَلْتَ وما الذي دعاك ودَفَعك لفِعْله؟!.. لقد خاطَبَه (ص) بذلك ليُظْهِر للناس بُطلان كَيْده باعترافه ويَفْعَل به وبما صَنَعه من العقاب ما يكون عِبْرَة للمَخْدُوعين به ولمَن يأتي بَعْدهم ويَفعل فِعْلَهم
ومعني "قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)" أيْ قال السَّامِرِيُّ لموسي (ص) عَلِمْتُ بما لم يَعلموا به قومك، يَقصد أنه عَلِمَ ببعضِ عِلْمٍ عن الأديان والآلهة والمَعْبُودات وكيفية الصناعة وحِيَلها وصناعة التماثيل وما شابه هذا مِن علومٍ لم يَعلموها هُمْ، وقَبَضْتُ قَبْضَة مِن أثرِ الرسول وهو أنتَ أيْ وأخذتُ كذلك شيئاً ونصيباً قليلاً مِن عِلْمِك ودينك الإسلام، فنَبَذْتُها أيْ وتَرَكْتُها وأهْمَلتها أيْ وتركتُ هذه القَبْضَة التي قَبَضْتها منك ولم أعمل بها وهي عبادة ربك وحده واتّباع دينك وعُدْتُ لِمَا كنتُ أعبده وهو العِجْل، وكذلك سَوَّلَتْ أيْ زَيَّنَت لى نفسى أيْ وهكذا حَسَّنَ وسَهَّلَ لي التفكير الشَّرِّيّ بعقلي أنْ أفعلَ ذلك الذي فَعَلْت ففَعَلْتُه وهو صناعة العِجْل وعبادته وتَرْك عبادة ربك ودعوة قومك بني إسرئيل لذلك.. وهذا يدلّ علي أنه لم يكن له أيّ دليلٍ عقلِيٍّ مَنْطِقِيٍّ علي مَا فَعَل وإنما كان فقط مُجَرَّد تَزْيينٍ بفِعْل الشرِّ ففَعَلَه.. وفي هذا تذكيرٌ وتحذيرٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم بأنْ يُقاوِم التفكير الشَّرِّيّ بعقله ولا يَتّبِعه ولا يَفعله مُستعيناً بالله تعالي لكي يُعِينه علي أنْ يَفعل الخير ويَترك الشرّ ليسعد في الداريْن وإلا تَعِسَ فيهما لو فَعَلَه
ومعني "قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)" أيْ هذا بيانٌ لعقاب الله تعالي الشديد له في الدنيا والآخرة.. وسيُعَاقَب حتماً بمِثْله أو بما يُشْبِهه بما يُناسِب قُبْح جريمته كلّ مَن يَفعل مِثْله، إنْ لم يَتُبْ ويَرْجِع لربه ولإسلامه.. أيْ قال موسي (ص) للسامِرِيِّ مَا دُمْتَ قد فَعَلْتَ ذلك فاذهب – وهي كلمة تُفِيد الغضب مِن سُوء فِعْلِه وتُفيد عدم مُخَالَطَته لفترةٍ لعلّه يستفيق بهذه العُزْلَة فيَتوب – أيْ فابْتَعِد فإنَّ لك في الحياة الدنيا، أيْ طول حياتك، كعقوبةٍ مِن الله تعالي علي مَا فَعَلْت، أنْ تقول لكلِّ أحدٍ يَقترب منك لا مِسَاس أيْ لا أمَسُّ أيْ لا ألْمسُ أحداً ولا يَمسُّنى أيْ ولا يِلْمسني أحدٌ ولا أخَالِط أحداً ولا يُخَالِطنى أحد، أيْ ستَعِيش في تمام العُزْلَة عن الناس والكلّ سيَخافك ويَنْفر منك ويَبْتَعد عنك كأنك كالأجْرَبَ وأنتَ ستَخافهم حتي لا تكون بينك وبينهم أيّ صِلَةٍ فتكون مَنْبُوذَاً طَرِيدَاً وحيداً تائِهَاً مُتَحَيِّرَاً ضائِعَاً بسبب ما سيَحْدُث من الضَّرَر المادِّيّ والمَعْنَوِيّ المُؤْلِم المُتْعِس الذي لا يُوصَف لِمَن تَتّصِل به أو يَتّصِل بك، بسبب مَرَضك العُضْوِيِّ الذي سيُصيبك كحُمَّيَ وغيرها أو النفسيِّ كوساوس ونحوها، وما أسْوَأ وأتْعَسَ هذا العقاب بهذا النوع من العذاب.. ".. وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ.." أيْ وبعد هذا العذاب الدنيويّ الشديد، إنَّ لك مع ربك حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ في الآخرة موعداً مُحَدَّدَاً لعذابك الأشدّ لن يُخْلِفك الله تعالى إيَّاه أبداً بل سيُوَفّيه لك كاملاً فيُعَذّبك علي قَدْر شرورك ومَفاسدك وأضرارك بعذابٍ لا يُوصَف في نار جهنم حيث أتمّ التعاسة وأشدّها وأعظمها وأخْلَدها ولن تستطيع التّخَلّف عنه ولا الفرار منه.. ".. وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)" أيْ وانْظُر أيْ وشَاهِد الآن يا سامِرِيّ يا أيها الضّالّ المُضِلّ إلي ما تَدَّعِيه كذبَاً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً وتَخْرِيفَاً أنه مَعْبُودك وهو العِجْل وظَلَلت عاكِفاً عليه لتَعبده أنت وأتْباعك أي مُقِيماً مُلازِماً مُسْتَمِرّاً مُداوِمَاً مُواظِبَاً، لَنُحَرِّقَنّه بالنار أمام أعينكم أيْ سنصْهره ونُذِيبه بها – واللام والنون للتأكيد – ثم لنَنْسِفَنّه أيْ سنَقْذِف ونَنْثُر ذَرَّاته ورماده في البحر بعد نَسْفِه أيْ سَحْقِه وتَفْتِيته وتَفْجِيره وجَعْلِه فُتَاتَاً قَذْفَاً ونَثْرَاً شديداً، فلو كان إلاهاً كما تَدَّعِي لَكَانَ دَافَعَ عن ذاته بل ولَعَذّبنا بسبب فِعْلِنا هذا فيه!! فكيف تعبدوه وهو كما رأيتم عملياً ليس بإلاهٍ مطلقاً ولا يَسْتَحِقّ العبادة إذ كيف لإلهٍ أنْ يُنْسَف ويُفْنَيَ هكذا فأين عقولكم؟!!
ومعني "إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)" أيْ هذا بيانٌ وإعلانٌ للحقِّ بعد إزْهاق الباطل.. أيْ ليس العِجْل أو غيره إلاهكم إنما إلاهكم الله، أيْ مَا معبودكم أيها الناس إلا فقط الله الذي لا مَعْبُود إلا هو وحده يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)" أيْ لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ الذي قد اتّسَعَ عِلْمه كل شيءٍ وأحاطَ أيْ لَفَّ به من كل الجوانب ولا يَخرج عنه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه وتعالي أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه فالكل في مُلْكه وتحت تصرّفه وقُدْرته وسلطانه ونفوذه وحُكْمه فلا يَفلت أحدٌ ولا يَفوته شيء، والكل يحيا في إطار فضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده واتقوه وخافوه وراقبوه وحده وافعلوا كل خير واتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)" أيْ كما قَصَصْنا عليك خَبَرَ موسى وقومه مع فرعون وملئه، كذلك نَقُصُّ عليك أيْ نقرأ عليك ونَذْكُر ونَحْكِي لك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلمٍ ويا كل مُسْتَمِعٍ عاقلٍ – من أنباء أيْ بعض أخبار ما قد سَبَقَ لك أيْ من أخبار الرسل السابقين والأمم السابقة قبلك، ولم تُشاهدها وتَحضرها، لِيَتّعِظَ بها مَن أرادَ الاتّعاظ فيَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، ولِتَكون تصديقاً لك أنك رسولٌ مِن عندنا لأنَّ مِثْل هذه القصص لا يعلمها إلا مَن نُوحِيها إليهم والتي يُصَدِّقها الصادقون من أهل الكتب السابقة فيُسْلِمُون.. ".. وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)" أيْ والحال والواقع أننا قد أعطيناك من عندنا، وأوْحَيْنا إليك، برحمتنا وفضلنا وحِكْمتنا وعِلْمنا وقُدْرَتنا، ذِكْرَاً، وهو هذا القرآن العظيم، لتُبَلّغه للناس جميعا ليعملوا بكل أخلاقه ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، وسَمَّيَ الله تعالي القرآن ذِكْرَاً لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة
ومعني "مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)" أيْ مَن أعْطَيَ ظَهْرَه والتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ عنه أيْ عن هذا القرآن العظيم وما فيه مِن إسلامٍ وتَرَكَه وأهْمَلَه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَم نَشْره وآذيَ مَن يَتّبعه وقاتَلَه، فإنه بسبب إعراضه هذا حتماً سيَحْمِل يوم القيامة ذنباً كبيراً علي ظَهْرِه، والوِزْر هو الحِمْل الثقيل، أيْ سيتحَمّل نتيجة أقواله وأفعاله الشديدة السوء هذه التي كان يفعلها في دنياه بذنوبٍ هائلةٍ ثقيلةٍ وبحسابٍ تامٍّ ثقيلٍ دقيقٍ كاملٍ دون أيّ نُقْصانٍ في أخراه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه سيُعَذّب علي قَدْر سُوئه بعذابٍ بعضه في دنياه وتمامه في أخراه، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)" أيْ وسيَكونون خالدين فيه أيْ في عذاب هذا الوِزْر العظيم بنار جهنم أيْ سيَبْقون مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهُمْ في إقامةٍ دائمةٍ أَبَدِيَّةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها وإنقاذه منها وهم عُصَاة المسلمين، بينما الخلود هو للكافرين أيْ المُكَذّبين بوجود الله أصلا وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا كلّ شرٍّ لأنه لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ".. وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)" أيْ ومَا أسوأ هذا الحِمْل حِمْلَاً لهم يوم القيامة حيث أدْخَلَهم العذاب الخالِد المُؤْلِم المُهِين المُتْعِس الذي لا يُوصَف في النار، بسبب إعراضهم
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)" أيْ هو يوم يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حينها يكون ذلك هو يوم انتهاء الحياة الدنيا بكل ما فيها وبدء البَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لبَدْء حِسابهم.. ".. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)" أيْ ونَجْمَع ونَحْشد المجرمين يومها مَحْشُورين مُتَزَاحِمِين مُتَكَدِّسِين مُهانِين مَذْلُولِين والذين يكونون زُرْقَاً أيْ ألوانهم زَرْقاء شاحِبَة مُسْوَدَّة مِن شِدَّة خوفهم وألمهم وكآبتهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (106) من سورة آل عمران "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.." ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. بينما يَتَجَمَّع أهل الجنة في صورةِ وُفُودٍ مُعَزَّزِين مُكَرَّمِين وجوههم نَضِرَة لاستبشارهم بنَيْل كلِّ خيرٍ وأمنٍ وسعادة.. والمُجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
ومعني "يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)"، "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)" أيْ يَتَحَدَّثون المُجرمون بينهم بصوتٍ خافتٍ خفيفٍ بسبب رُعْبِهم واضطرابهم وذِلّتهم لأنَّ الخائف المَذْعُور المُضطرب المَذْلول لا يمكنه رفع صوته يقولون مَا بَقِيتُم في دنياكم إلا فقط عشراً من الأيام أيْ عشرة أيام، وذلك لأنهم لَمَّا رأوا العذاب الهائل الدائم الذي لا يُوصَف بنار جهنّم والذي ينتظرهم في آخرتهم اسْتَصْغَروا واسْتَحْقَروا كل أعمارهم ومُتَعِهم التي قضوها في حياتهم، بما يُفيد شِدَّة حَسْرَتهم ونَدَمهم وخُسْرانهم في يومٍ لا ينفع فيه الندم حيث يومها سيكون وقت حسابٍ لا عمل وتصويب للخطأ، فقد كانوا يُكَذّبون وجود آخرةٍ وبَعْثٍ وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم فتَبَيَّنَ لهم صِدْق كل هذا الذي كانوا يُكَذّبونه.. "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)" أيْ نحن أعلم مِن أيِّ أحدٍ قطعاً عِلْمَاً تامَّاً بما يقولون المُجرمون مُتَخَافِتِين فيما بينهم فليس تَخَافُتهم خافِيَاً علينا، وفي هذا تذكرةٌ بأنَّ الله تعالي يعلم السِّرَّ ومَا هو أخْفَيَ منه حتي يُحْسِن المسلم كل قوله وفِعْله لأنه سيُجَازَيَ حتماً عليه بما يُناسبه في الداريْن.. ".. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من اسْتِصْغَارهم واسْتِحْقارهم كلّ أعمارهم ومُتَعِهم التي قضوها في حياتهم بما يُفيد مزيداً ومزيداً من شِدَّة حَسْرَتهم ونَدَمهم وخُسْرانهم بسبب مزيدٍ ومزيدٍ من رُعْبِهم واضطرابهم وذِلّتهم لَمَّا رأوا العذاب الهائل الدائم الذي لا يُوصَف بنار جهنّم والذي ينتظرهم في آخرتهم.. أيْ نحن أعلم بما يقولون حين يقول أحْسَنهم طريقة في التفكير والتّذَكّر مَا بَقِيتم في دنياكم إلا فقط يوماً واحداً يَقْصِد زَمَنَاً قليلاً جداً
ومعني "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)"، "فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)"، "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلاً تَعِيسَاً علي المُسِيئين حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعاً سعيداً علي المُحْسِنين لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ ويَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بَعْده (ص) عن مصير الجبال يوم القيامة هل تَبْقَيَ بحالها أم تَزول، فالمُكَذّبون للبَعْث يسألون استهزاءً واسْتِبْعادَاً لحُدُوث الآخرة بتَغَيُّراتها في السماوات والأرض وبحسابها وعقابها وجناتها ونيرانها والتي يَتَحَدَّث عنها القرآن الكريم بينما المسلمون يسألون لمزيدٍ من استشعار أهوالها وفهمها ليُحْسِنوا الاستعداد لها بالعمل بكل أخلاق إسلامهم، فقل – والفاء تُفيد المُسَارَعَة إلى إزالة ما فى ذِهْن السائل مِن تَوَهُّمٍ أنَّ الجبال قد تَبْقَىَ يوم القيامة – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يَنْسِفها أيْ يُفَجِّرها ويَسْحقها ويُفَتّتها ويَنْثرها ويزيلها ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – تَفْجيراً وسَحْقَاً ونَثْرَاً ومَحْوَاً شديداً تامَّاً.. "فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)" أيْ ويَتْركها ربي أيْ يَتْرك أماكنها أيْ أماكن الجبال من الأرض، أرضاً مُنْبَسِطَة مَلْساء لا نبات فيها ولا أثر لأيِّ حياة، والقاع هو المُسْتَوِي المُنْبَسِط المَكْشُوف من الأرض، والصفْصَف هو الأمْلَس.. "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)" أيْ هذا تأكيدٌ وتبيينٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا تُشاهِد أيها المُشَاهِد فى الأرض بعد نَسْفِ الجبال اعْوِجَاجَاً أيْ مَيْلَاً أو الْتِوَاءً أو انْحِنَاءً أو انْحرافَاً أو تَعَرُّجَاً ولا تَرَيَ فيها كذلك أمْتَاً أيْ نُتُوءَاً أيْ بُرُوزَاً قليلاً بل تراها كلها مُسْتَوِيَة مَلْسَاء
ومعني "يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)" أيْ يومها، يوم القيامة، يوم يَحْدُث ذلك، يَتّبِعون الناس جميعا بعد بَعْثهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كَوْنِهم تراباً، يَتّبِعون الداعي أيْ يَسِيرون خَلْفَ المُنادِي الذي يَدعوهم ويُناديهم ويَطلبهم للحساب والعقاب والجنة والنار وهو المَلَك المُوَكَّل بذلك، فلا عِوَجَ له أيْ لا اعْوِجاج لهذا الداعِي مِن أيِّ مَدْعُو بل تمام الاستسلام والانتظام والاستقامة من الجميع بلا أيِّ مَيْلٍ أو الْتِواءٍ أو انْحِناءٍ أو انْحِرافٍ عنه وعن دعوته أيْ بلا أيِّ فَوْضَيَ أو خَلَلٍ أو مُخَالَفَةٍ أو إبْطاءٍ أو امْتِناعٍ عن الاستجابة.. ".. وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)" أيْ والحال حينها أنه سَكَنَتْ الأصوات كلها من كل الناس هَيْبَة ورَهْبَة وتعظيماً وخُضُوعَاً للرحمن وبالتالي فلا تَسمع منها أيها السامع إلا صوتاً خافِتَاً خفيفاً هو فقط صوت حركتهم وهَمْهَمَة شفاههم، بمَا يُفيد هَوْل الموقف وهَيْبَة أحداث هذا اليوم العظيم إذ الجميع مُنْتَظِرٌ لمَوْعِدِ حسابه الختاميّ لكل أقواله وأفعاله ولإعطاء كلِّ صاحبِ حقّ حقّه حيث كلّ خيرٍ وسعادةٍ للمُحْسِنين وكلّ شَرٍّ وتعاسةٍ للمُسِيئين بكلّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ عند أعدل العادِلِين أحكم الحاكمين أرحم الراحمين
ومعني "يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)" أيْ يومها، يوم القيامة، لا تُفيد الشفاعة – أي الوَسَاطَة – مِن أيِّ أحدٍ لأيِّ أحدٍ أيْ يَتَوَسَّل أمامه تعالي لكي يُسْتَجَاب لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، أيْ لا أحد مُطلقا مهما كان يمكنه الشفاعة إلاَّ أن يأذن تعالي أيْ يَسْمَح بها تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه، أيْ يومئذٍ لا تَنْفَع الشفاعة إلاّ شفاعة مَن أذِنَ له الرحمان في ذلك، ورَضِيَ له قولاً أيْ ورَضِيَ له أنْ يتكلّم أيْ ورضِيَ قوله في الشفاعة ورضي قوله الذي قاله في دنياه وهو لا إله إلا الله بما يُفيد أنه أيْ هذ الشافِع مسلم لا كافر أو مُشْرِك، لأنه يعلم أنه لن يتكلّم إلا بكل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخير، وبالجملة لا يَشْفَع ولا يُشْفَع إلا لِمَن أذِنَ له الرحمن، كأنْ يَسْمَحَ للأنبياء والشهداء والصالحين أن يشفعوا لغيرهم تكريما لهم ولأنَّه يعلم أنَّ الذي سيَشفعون له يَستحقّ الشفاعة حيث كان مسلماً يَرْضَيَ الله قوله إذ كان يقول لا إله إلا الله لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا، أمّا الكافرون والمشركون فلن تَنفعهم بالقطع أيُّ شفاعةٍ عنده تعالي ولن يكون لهم أيّ أملٍ في أيّ شيءٍ منها لأنهم كانوا لا يُصَدِّقُون بوجود الله والآخرة أصلا!
ومعني "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال صفاته الحُسْنَيَ، أيْ يعلم ما هو أمامهم أيْ أمام الناس – وكل خَلْقِه – أيْ حاضرهم ومستقبلهم وما خَلْفهم أيْ ورائهم أيْ ماضيهم، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظرهم في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خير وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)" أيْ وهم لا يُحِيطون أيْ لا يُدْرِكون بالتفصيل ومِن كل الجوانب، عِلْمَاً به، أيْ بالله تعالي أيْ بذاته وصفاته ومعلوماته وتدبيراته وحِكَمه ونحو هذا من صفات كماله سبحانه، وكذلك من معاني به أيْ بما بين أيديهم وما خَلْفهم، إلا بالقَدْر الذى أرادَ أن يُعلمهم إيّاه على ألسنة رسله في كتبه التي أوْحَاها إليهم، فهُمْ ليس لهم تَعَلّم وفهْم أيّ شيءٍ من أيِّ نوعٍ من أنواع العلوم إلاّ ما عَلّمهم تعالى وسَهَّله لعقولهم
ومعني "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره مِن خُشوع الأصوات للرحمان يوم القيامة وعدم الشفاعة لأحدٍ إلا بإذنه.. أيْ وسَكَنَتْ وخَضَعَتْ واسْتَسْلَمَتْ الوجوه من الناس – واكْتُفِيَ بذِكْر الوجوه لأنَّ آثار الاستسلام إنّما تَظْهَر في الوجه أكثر من الجسد – يومها هَيْبَة ورَهْبَة وتعظيماً وخُضُوعَاً للحي القيوم أيْ لله تعالي حيث وجوه المؤمنين العاملين بإسلامهم ستكون مع سُكونها واسْتِسْلامها بيضاء مُسْتَنِيرة مِمَّا عليها من نور السعادة مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة بينما وجوه الكافرين والعاصين مع سكونها واستسلامها قد عَنَتْ أيْ في عَنَاءٍ أيْ في شقاءٍ وتَعَبٍ وإذلالٍ حيث ستكون مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة.. ".. لِلْحَيِّ.." أيْ للذي هو وحده سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه.. ".. الْقَيُّومُ.." أيْ الذي يقوم دائما وتماما علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْنه علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ معني "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ" يكون في الدنيا أيضا قبل الآخرة أيْ واسْتَسْلَمَ الناسُ وكلُّ الخَلْقِ لله تعالي كما قال في الآية (83) من سورة آل عمران وغيرها من آيات "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن عَناءِ الظالمين.. أيْ لأنَّ الحال والواقع أنه قد خابَ حتماً، أيْ خَسِرَ وفَشَلَ وتَعِسَ في دنياه وأخراه، كلُّ مَن حَمَلَ ظلماً أيْ فَعَلَ ظلماً في دنياه ولم يَتُبْ منه وحَضَرَ به يَحمله كحِمْلٍ ثقيلٍ علي ظهره في أخراه، بأيِّ نوعٍ من أنواع الظلم التي ظَلَمَ بها نفسه وغيره فأتعسها وأتعسه في الداريْن، سواء أكان هذا الظلم كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نَجْمٍ أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، حيث سيتحَمّل نتيجة أقواله وأفعاله الظالمة هذه التي كان يقولها ويفعلها في دنياه بذنوبٍ هائلةٍ ثقيلةٍ وبحسابٍ تامٍّ ثقيلٍ دقيقٍ كاملٍ دون أيّ نُقْصانٍ في أخراه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه سيُعَذّب علي قَدْر ظُلْمِه بعذابٍ بعضه في دنياه وتمامه في أخراه، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب مَن حَمَلَ ظُلْمَاً الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ مَن يعمل من الأعمال الصالحات، بأيّ نوع من أنواع الخير، مِن ذكرٍ أو أنثي أي من عموم الناس، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلَه تابَ منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فمِثْل هذا لا يَخاف ظلماً حتماً أبداً من الله تعالي أعْدَل العادلين الذي لا يظلم أحداً مطلقا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ ولا يُقابِله بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم بما هو أتمّ وأعظم خيراً وسعادة في أخراه، أو نحو هذا، ولا يَخاف كذلك هَضْمَاً أيْ نَقْصَاً في أجره من خيرِ الله وإسعاده له في الداريْن علي قَدْر تمسّكه وعمله بأخلاق الإسلام، والمقصود بالظلم النقْص الشديد في الحقوق وبالهَضْم النقص القليل بما يُفيد مزيداً من التأكيد علي تمام العدل بلا أيِّ نَقْصٍ مهما كان ضئيلا، بل يُعطيهم سبحانه أجورهم علي ذلك والتي وعدهم بها وافية أي كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، وذلك في الدنيا قبل الآخرة، حيث يتمّ لهم كل الخير والسعادة فيهما، وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ، وهذا هو تمام العدل، وهو سبحانه الكريم العظيم مالِك المُلْك كله فلا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. إنَّ هذا يعني ضِمْنَاً أنه مَن لا يؤمن فهو في خوفٍ حتما حيث هو مُعَرَّض لكل نقصانٍ من الخير والأمن والسعادة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومَن يعمل خيراً مَا وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالك الملك كله!
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)" أيْ وكما أنزلنا إلى الرسل الكرام قبلك نصائح تُصْلِح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن، كذلك أوْحَيْنا إليك هذا الكتاب ليكون قرآناً أيْ كتاباً مقروءاً، عربياً أي باللغة العربية، لأنها أقوي لغة، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة.. ".. وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.." أيْ ونَوَّعْنا وعَدَّدْنا وأكْثَرْنا في هذا القرآن العظيم من أنواع الوعيد على سبيل التحذير والتخويف والتهديد، والوعيد يعني الوَعْد لكنْ بالشرِّ والعذاب والتعاسة لا بالخير والسعادة في الداريْن ويكون علي قَدْر مُخَالَفَة أخلاقه، صَرَّفْنا فيه من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.." أيْ لعل الناس بذلك يتقون، أيْ لكي يَتّقوا، أيْ يَخافوا ربهم ويُراقِبوه ويُطيعوه ويَجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام.. ".. أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)" أيْ ولكي يُوجِد ويُجَدِّد لهم هذا القرآن بهذا التصريف الذي فيه تَذَكّرَاً أيْ اتّعاظاً واعْتِبَارَاً، لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة، وبالتالي فهو يُحْدِث لهم ذِكْرَاً علي الدوام يَدْفعهم دَفْعَاً كبيراً تامَّاً دائماً لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام الذي فيه ليسعدوا تماماً في الداريْن
ومعني "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)" أيْ فتَعَاظَم الله وارتفع وابْتَعَدَ عن كلِّ نَقْصٍ وأيِّ شريكٍ وعن مُمَاثَلَة مخلوقاته في أيِّ شيءٍ فليس كمِثْله أيّ شيءٍ وعَمَّا يَقوله ويَفْعله المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُسْتهزؤن، أيْ فعَظّمُوه واعْلوا شأنه أيها المسلمون فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، فإنه وحده هو المَلِك أيْ المالِك لجميع الأشياء والمُتَحَكِّم في جميع المخلوقات المُتَصَرِّف فيها تَصَرُّف المالِك في مُلْكِه بلا أيِّ مانعٍ علي أكمل وجهٍ بما يُصلح شئونها ويُسعدها فهو المالِك الحقيقيّ ولا يزول مُلْكه أبداً وما يَمْلكه البَشَر ما هو إلا مِمَّا مَلَّكه هو لهم، وهو وحده الحقّ أي الصدْق المستَحِق وحده للعبادة بلا أيِّ شريك الذي وجوده صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصدق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدق كله، والإيمان به وبرُسُله وبكُتُبه هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بنصر المؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبَعْث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضياع وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.." أيْ هذا توجيهٌ وإرْشادٌ لكيفية تَلَقِّي المسلم للقرآن العظيم فيكون بكل حرصٍ وحب وتَلَهّفٍ وتَشوّقٍ وجِدِّية واجتهاد ودوام تَوَاصُل وتَعَقّل وتَعَمّق وتَدَبّر وإنْصَات وتركيز ومُذاكَرَة ومُدَارَسَة ومُبَادَرَة ومُسَارَعَة دون تَأَخّر من أجل العمل التامّ بكل أخلاقه التي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد تمام السعادة في الدنيا والآخرة كل مَن يعمل بها كاملة، مع الحرص التامّ علي حُسن دعوة الناس جميعا له بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ليتحقّق لهم ذلك، كما كان يفعل الرسول الكريم (ص) حيث كان يُحَرِّك لسانه مع جبريل عليه السلام وهو يقرأه عليه عن الله تعالي ليُبَلِّغه للعالمين مُتَعَجِّلاً بقراءته وحِفْظه معه مُحْتَاطَاً ومُتَخَوِّفَاً وحَذِرَاً أن يَتَفَلّت ويَفقد ويَنْسَيَ منه أيّ شيءٍ وذلك من حرصه الشديد (ص) على تمام حفظ وصيانة وتبليغ كل ما أنزل إليه بتمام حروفه وكلماته ونصوصه، فهو كان (ص) يَعْجَل بقراءة القرآن مِن قَبْل أنْ يُقْضَيَ إليه وَحْيُه أيْ من قبل أن يُنْهَيَ ويُتَمّ إبلاغه إليه مِن جبريل وبيان مَعانيه وأحكامه.. هذا، ويُفْهَم من الآية الكريمة عدم التَّعَجّل عند قراءة القرآن الكريم والتعامُل معه بل التَّمَهّل والتَّأَنِّي حتي يمكن تَدَبّر معانيه والعمل بكل نصائحه المُسْعِدَة، مع الازدياد دوْمَاً من العلم بعلومه المختلفة حتي تتمّ السعادة الكاملة به في الداريْن، ويُفهم منها كذلك التَّدَبُّر والتّعَمُّق والتّأَنّي والإتقان والصبر وحُسْن السؤال عند تَلَقّيِ أيّ علمٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ.. ".. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم داعِيَاً سائِلَاً الله تعالي يا ربّ – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – أكْثِرْنِي علماً نافِعَاً مُسْعِدَاً لي وللناس جميعاً وللخَلْق كلهم، إضافة إلي ما عَلّمْتَنِي إيَّاه، لأنَالَ أجْرَه في الداريْن، بأنْ تُيَسِّر لي أسبابه، مِن عِلْمك الذي لا يُحْصَيَ، سواء أكان علماً شَرْعِيَّاً أم قانونياً أم سياسيّاً أم إدارياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم عسكرياً أم ثقافياً أم فنياً أم رياضياً أم غيره.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يكون دائماً حريصاً علي الاهتمام بالعلم ومُصَاحَبَة العلماء وأهل الخِبْرَة والتّخَصُّص، وعلي تبادُل المعلومات والخبرات مع الآخرين، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والقانونية والعسكرية والصناعية والتجارية والزراعية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها، لأنه بالعلوم وتطويرها وبالخبرات وتبادلها يَرْقَيَ الجميع ويسعدون، في دنياهم، ثم في أخراهم لمَن يُؤمن بها ويَعْمَل لها باستحضار نوايا خيرٍ بعقله في كل قولٍ وعملٍ أثناء ذلك، بينما بالجَهْل وكِتْمان العلم والخِبْرَة يَتَخَلّفون ويتعسون فيهما
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً مُتَذَكّراً الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، واتّخَذْتهم دَوْمَاً مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، وكنتَ علي الدوام عازِمَاً علي ذلك، أيْ صاحب عزيمة قوِيَّة وهِمَّة عالية، أيْ صابِرَاً صامِدَاً ثابتاً علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامك بلا أيِّ لحظةِ تَرَاجُع، فسَتَجِد بذلك البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة سَتَجِد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا فهمتَ معني الحياة وأحسنتَ التّعامُل معها (برجاء مراجعة تجربة بدء الحياة وقِصَّتها وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وإذا عِشْتَ حياتك كلها عزيزاً كريما عفيفا مُتَرَفّعَاً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدْرك مِن عملٍ قبيح سَيِّءٍ يضرّك ويتعسك، حيث نَبَّهَكَ خالقك لذلك حين أسجدَ لك ملائكته وجعل الأرض كلها بما عليها وفيها مِن مخلوقاتٍ مُسَخَّرَة لنفعك ولسعادتك إذا أحسنتَ تسخيرها واستخدامها (برجاء مراجعة الآيات (34) حتي (39) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو سبحانه قادرٌ علي كل شيء، فهو الذي يُحَرِّك الأسباب والأمور كلها، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، من أجل تحقيق مصالح وسعادات الخَلْق كله.. وإذا كنتَ من المُحْسِنين طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا.. إنَّ مَا سَبَقَ ذِكْره هو بعض ما يُستفاد من معاني هذه الآيات الكريمة
هذا، ومعني "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)" أيْ ولقد وَصَّيْنا آدم أنْ يَتّبِع وَصَايَانَا ولا يُخالِف وَصِيَّة منها – والمقصود ألا يأكل من الشجرة التي مَنَعَه تعالي هو وزوجته حوّاء من الأكل منها، كما ذُكِرَ في آياتٍ أخري – مِن قَبْل، أيْ مِن قبل أن يُخالِف فيأكل منها أيْ منذ بدء خَلْقِه ومن قبل إرسال الرسل والكتب بتشريعاتنا للناس ومن قبل أن نُخْبِرك بذلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في قرآننا الكريم، فنَسِيَ أيْ فلم يَتَذَكّر آدم وَصِيَّتنا فسَهَا وغَفَلَ وانْشَغَلَ عن دَوَام تَذَكّرها فتَرَكها فخَالَفها ولم يَعمل بها، ولم نَجِد له عزماً أيْ عزيمة أيْ قوةَ إرادةٍ عقليةٍ وثَبَاتَاً في الالتزام بالوَصِيَّة في هذا المَوْقِف بل ضَعُفَ وانْخَدَعَ بوساوس الشيطان له وصَدَّقها ولم يَتَدَبَّر ويَتَعَمَّق في مَساوئها وتعاساتها ويُقاوِمها فلا يَفْعلها ويَفعل ما وَصَّيْناه به من خير، وعند بعض العلماء ولم نَجِد له عزماً أيْ عزماً علي المعصية أيْ قَصْدَاً ونِيَّة سَيِّئة لها وإنما الأمر كان نسياناً للوَصِيَّة ولعقوبات تَرْكها ولتعاساتها الدنيويّة والأخرويّة وهو قد أخطأ ولم يَتَعَمَّدها وكان خَطَؤه تصديق وَسْوَسَة الشيطان حيث لم يَتَصَوَّر أنه يُمكنه أنْ يَصِلَ إلي حَدِّ الجرأة علي الكذب علي ربه بمِثْل ما كذب به ويقوله له، ويكون هذا الجزء من الآية الكريمة عند هؤلاء العلماء هو تأكيدٌ للنسيان أيْ لقوله "فَنَسِيَ"، وفي هذا إرْشادٌ وتنبيهٌ وتحذيرٌ من الله تعالي الخالق الكريم لخَلْقِه والذي يعلم تماماً مَا يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم تمام السعادة في الداريْن لأنه هو خالقهم أنَّ فيهم صِفَتَيْن هما النسيان والضعف في بعض المواقف، حتي يَتَجَنّبوهما فيَسعدوا وإلا تَعِسوا فيهما، وهذا التنبيه والإرشاد هو من حُبِّ الخالق لخَلْقه وحِرْصه علي صلاحهم وكمالهم وتمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم، أمَّا صِفَة النسيان أيْ عدم التّذَكّر – وهي في الأصل صِفَة خيرٍ لمصلحتهم، لكي يَنْسَيَ الإنسان ما قد يصيبه أحيانا من سُوءٍ ولا يظلّ يَتَذكّره فيُحْبِطه فيَمْنَعه عن الانطلاق في الحياة واستكشافها والانتفاع والسعادة بها – فعليهم أنْ يَتَجَنّبوها تمام التّجَنّب عند التّعامُل مع الله ربهم ومع رسلهم الذين يُرْشِدونهم للخير ومع كُتُبهم التي فيها دينهم الإسلام، وإلا لو نَسُوهم لَتَعِسُوا تمام التعاسة في الداريْن، بينما لو ظلّوا دائماً ذاكِرين لهم مُتَمَسّكين بهم بكل عزيمةٍ لَسَعِدُوا تمام السعادة فيهما، وأمَّا صِفَة الضعف فقد خَلَقَ الله الإنسان ضعيفاً حيث هو يضعف أحيانا أو كثيرا في عقله وإرادته وجسده وعلمه وماله وغيره عند تَعَامُله مع كل شئون حياته ولذلك كان من المُناسِب ومن العدل أن يُخَفّف عنه ويُيَسِّر له ما يَضْعُف عنه ولا تستطيعه قُدْراته وإمكاناته والتي هو أعلم بها رحمة منه به وكَرَمَاً عليه وحبا له وإرادة في إسعاده، وذلك من خلال أن تكون كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، فهو تعالي يُنَبِّه الإنسان لضعفه بالنسبة لخالِقه وللكوْن حوله لمصلحته ولسعادته وليس حتما ليُحْبَط ويَقعد بالتالي عن استكشاف الكوْن والانتفاع به والسعادة فيه وهو الذي خَلَقَه كله وسَخّره له كما يقول "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.." (الجاثية:13) ولكن لكي يُحْسِن اتّخاذ أسباب القوة والتي بها سيكون أقوي المخلوقات حيث هو مُؤَهَّل لذلك من خالِقه بما وَهَبَهُ من عقلٍ مَيَّزَه به عن بقية خَلْقه وأهم هذه الأسباب وأولها التّوَاصُل مع الخالق القويّ العزيز والاستزادة من قوّته التي لا تُهْزَم وطَلَب عوْنه وتوفيقه وسداده ورعايته وأمنه ورزقه وإسعاده، ثم اتّخاذ أسباب القوة الفكرية والصحية والجسدية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، ثم التعاون والتحاوُر مع الآخرين الصالحين والاستفادة بقوّاتهم وخبراتهم، وما شابه هذا.. كذلك يُنَبِّه تعالي الإنسان لضعفه حتي لا يَتَعَالَيَ علي غيره، فيَنْفر الناس منه ويَبتعدون فيزداد ضعفا! وأيضا هو تشجيعٌ منه سبحانه ومواساة له إذا وَقَعَ في شَرٍّ مَا لسببٍ مَا دنيويٍّ رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا فيُطَمْئنه أنه يعلم أنه خَلَقَه ضعيفا قد يَقع في مِثْل هذا ولكن عليه أن يتوب ويستفيد خبرة مِمَّا وَقَعَ فيه ولا يعود إليه بعدما ذاقَ أضراره وتعاساته وينصح غيره بذلك وينطلقوا جميعا سريعا نحو ربٍّ غفورٍ رحيم كريم مُعِين ونحو كل خيرٍ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. إلا إبليس أَبَيَ أيْ فيما عدا إبليس فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً وتَكَبُّرَاً وتَعَالِيَاً علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)
ومعني "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)"، "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)"، "وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)" أيْ فبالتالي قلنا يا آدم إنَّ إبليس – ولفظ "هذا" يُفيد التَّحْقِير له – عَدُوٌّ لك ولزوجتك، ولكلّ إنسان، أيْ ضِدَّكما دائماً يريد إضلالكما أيْ إبعادكما عن كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكما وأخراكما، والسعيد هو مَن كان دَوْمَاً حَذِرَاً مِن عدوه، وبالتالي لا يُخْرِجَنّكما من الجنة، والنون لتأكيد النهْي، جنة الدنيا والآخرة حيث كل الخير والأمن والسعادة لمَن أطاعَنِي وعَصَاه، وذلك بأنْ تُطيعاه بمَعْصِيَتي بفِعْل الشرّ الذي يُوَسْوِسه لكما، فبالتالي تَشْقَيَ أيْ تَتْعَس تماما فيهما، بسبب بُعْدِك عن ربك ودينك الإسلام، يا آدم، ويا كلّ مَن يَفعل هذا، فاحْذَرُوا جميعا ذلك تمام الحَذَر.. "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)"، "وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)" أيْ هذا بيانٌ بصورةٍ عامَّةٍ أنَّ في جنة الآخرة – وبعضه في جنة الدنيا – لمَن أطاعَ الله تعالي وعَصَيَ الشيطان بأنْ عمل بأخلاق إسلامه، كل وسائل النّعِيم والراحة والأمن والتّمَتُّع والسعادة فيما لا عينٌ رَأَتْ ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فلا جُوع ولا عُرْي ولا ظَمَأ أيْ عَطَش بل أفخم المأكولات والمشروبات والمَلْبُوسات ولا ضُحَيَ أي لا حَرّ مِن شمسٍ بل ألْطَف الأجْواء والنسائم، وذلك لكي يحرص الجميع علي دخولها بطاعة ربهم وعصيان شياطينهم.. أيْ إنَّ لك يا آدم في هذه الجنة – ويا كل إنسان أطاعَ الله فدَخَلَ جنته الدنيويّة والأخرويّة – أنْ تأكل فلا تَجوع وأنْ تَلْبس فلا تَعْرَىَ، وأنَّ لك ألا تَعْطش فيها ولا تَتَعَرَّض لحَرِّ شمسٍ في الضُّحَيَ وهو وقت النهار
ومعني "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)" أيْ فوسوس الشيطان إلي آدم وحَوَّاء بالشرّ – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب، والوَسَاوِس عموما هي خواطر الشرّ التي تأتي في التفكير العقليّ – بأنْ يأكلا من الشجرة المُحَرَّم عليهما من الله تعالي حتي الاقتراب منها وإلا كانا من الظالِمين أيْ العاصِين المُسْتَحِقّين للعقاب، بأنْ قال له، ولها، يا آدم هل أَدُلّكَ علي، أيْ أُرْشِدُكَ إلي، شجرة الخُلْد أي الخُلُود، أيْ التي مَن أكل منها عاشَ مُخَلّدَاً لا يموت وصارَ صاحب مُلْكٍ لا يَفْنَىَ ولا يَتْلَف ولا يَنْقَطِع ولا يَزول أبدا؟ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (35) من سورة البقرة "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)"، حتي الآية (39) منها، ثم الآيات (19) حتي (25) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا، وقد نادَاه باسمه ليكون أكثر إقبالَاً عليه واستماعاً إليه، وعَرَضَ له الأمر بِلُطْفٍ فى صورةِ سؤالٍ يُفيد التشجيع ليَخْدَعه حيث يُشْعِره بأنه ناصِحٌ مُخْلِصٌ له حريصٌ على مصلحته ومنفعته وسعادته وليس مُخادِعَاً يريد إيقاعه في الشرِّ والتعاسة، ثم أكّدَ وَسْوَسَته وتَحْرِيضه بقَسَمٍ كاذبٍ مُحَاوِلَاً نَفْي أيَّ خِداعٍ أو كذب
ومعني "فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)" أيْ فانْخَدَعَ آدم وزوجته حَوَّاء بوَسْوَسَته فاسْتَجابا لها فأكلا من الشجرة، فلَمَّا أكلا منها وهي التي نهاهما الله تعالي عن الأكل منها، مُخَالِفَيْنِ بذلك لوَصَاياه، كانت نتيجة ذلك أنْ عُوقِبَا بأنْ ظَهَرَت لهما عَوْرَاتهما بعد أن تَسَاقَط عنهما لباسهما بقُدْرته سبحانه، فخَجِلاَ وجَعَلاَ يَلْزِقَان ويُرَقّعان علي عَوْراتهما لستْرِها من ورق أشجار الجنة ورقة فوق أخرى.. وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يَحْصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فقد حَدَثَ ما يُذَكّرهما بما هو راسخٌ في فطرتهما ولكنهما نَسِيَاه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وهو أنَّ الشرَّ مُتْعِسٌ وأنَّ الخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)" أيْ وهكذا خَالَفَ آدم – وحواء – وَصِيَّة ربه ولم يعمل بها فبالتالي أَدَّيَ ذلك إلي أنْ غَوَيَ أيْ وَقَعَ في الغِوَايَة أيْ في الشرِّ والفساد والضَّيَاع الذي يُتْعِسه في الداريْن إنْ لم يَتُبْ
ومعني "ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)" أيْ ثم بعد أنْ أكل آدم من الشجرة اختاره ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – ليكون رسولاً له أيْ مَبْعُوثَاً منه لكل الناس الذين سيأتون مِن نَسْلِه طوال حياته يُعَلّمهم الإسلام الذي سيُوحِيه إليه ليَصْلُحوا به ويَكْملُوا ويَسْعَدوا في الداريْن، وذلك لمَّا تابَ فتابَ عليه أيْ فقَبِلَ تَوْبَته لِصِدْقِه فيها وحِرْصِه عليها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (37) من سورة البقرة "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَهَدَى (122)" أيْ وهَدَاهُ بعد توبته أيْ وأرْشَده وأوْصَله إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ لكل بني آدم أنَّ هذا الاختيار للخير وهذه الهداية للصراط المستقيم ستكون لكل مَن قد اختار هو أولا الإيمان بالله والعمل بأخلاق الإسلام والبُعْد عن كل مَا يُخَالِفه والتوبة منه والرجوع عنه من خلال إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا فاختار الله له بعد هذا الهداية له وللإسلام أيْ فيَسَّر له أسبابها ووَفّقه لها وسَدَّد خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. فاقْتَدُوا به وبكل الرسل الكرام وافْعَلُوا مِثْلهم أيها الناس، فإنْ اقْتَدَيْتَ بهم أيها المسلم، واخترتَ أنت أولا الهداية لله وللإسلام وبدأتَ بالعمل بأخلاقه في كل شئون حياتك، سيَختارك ربك مِثْلما اختارهم، للعمل بكل أخلاق الإسلام والثبات عليها كلها ولتكون داعِيَاً له وللإسلام هادِيَاً لخَلْقه مُنيراً لهم طريقهم في حياتهم قائداً لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وقَارَبْتَ أن تَصِلَ إلي الكَمَال مثلهم، كما يُشَجِّعنا علي ذلك الرسول (ص) بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، وسيُعطيك مِثْلَما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر وبالجملة سيُعطيك السعادة كلها في الداريْن.. وهذا الاختيار هو تكريمٌ عظيمٌ من الله تعالي لكلّ مسلمٍ يَقْتَدِي بهم، فَلْيَشكره إذَن تمام الشكر علي إسعاده تمام السعادة في دنياه وأخراه بهذا الاختيار، ومِن شُكْرِه العمليّ أنْ يجتهد بالتالي تمام الاجتهاد في أن يكون علي مستوي هذا الاختيار، وذلك بالتمسّك والعمل التامّ الجادّ بكل أخلاق إسلامه طوال حياته وحتي مَمَاته، وإلا لو تَرَكَها بعضها أو كلها سيَفقد بالقطع امتيازاتِ هذا الاختيار وسيتعس في الداريْن بتعاسةٍ تُساوِي مِقْدار تَرْكه لها.. وفي هذا تشجيع للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)" أيْ هذا بيانٌ لبدء الحياة علي الأرض وبيانٌ أنَّ التجربة التي أرادها الله تعالي لآدم لكي يُدْرِك إدْراكَاً تامَّاً علاقة الخير بالشرِّ وسعادات وتعاسات كل منهما في الدنيا والآخرة وكيفية توبته سريعا عند أيِّ خطأ قد تَمَّتْ، حيث هو سبحانه رحمة منه ببني آدم لم يشأ أنْ يبدأ أبوهم آدم حياته في الأرض على أساسٍ نظريّ لأنَّ هناك فرقا بين الكلام النظريّ والتجربة العملية، فأبقاه لفترةٍ في مكانٍ كالجنة للتدريب العمليّ علي فِعْل الخير المُفيد المُسعد وتَرْك الشرّ المُضِرّ المُتْعِس – وهذا هو أصل دين الإسلام – أيْ ليَتدرّب علي العمل بأخلاق الإسلام ليَسعد بذلك تمام السعادة في حياته الدنيا ثم حياته الآخرة.. أيْ قال الله تعالي لهما أي لآدم وزوجته حواء انْزِلَاَ من الجنة التي كنتما فيها جميعا إلى الأرض أيْ أنتما وذرِّيَّاتكما بداخلكما والشيطان لتعيشوا فيها، وسيكون بعضكم لبعض عدو، أيْ سيكون الشيطان دائما عدوا لكم يا بني آدم وستَقَعُون في العداوة والتعاسة فيما بينكم لو اتّبَعْتُموه، فعليكم إذَن دوْماً أن تكونوا حَذِرِين منه أشدّ الحَذَر وأن تَتَّخِذوه علي الدوام عدوا، أيْ لا تَتَّبِعوا خطواته وتقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تتمسّكوا وتعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى.." أيْ فإنْ يَأْتِكُم مِنّي هُدَىً أيْ وسيأتيكم مُؤَكَّدَاً أنتم وذرِّيَّاتكم مِن بَعْدِكم مِنّي مِن خلال رسلي الذين سأرسلهم إليكم مِن بينكم هُدَيً أي إرشادٌ هو كُتُبٌ مِنّي فيها وصايا وأخلاقيات وتشريعات هي دين الإسلام التي تَهديكم إلى كل ما فيه الحقّ والعدل والخير والصواب والتي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد كل مَن يعمل بها كلها تمام السعادة في دنياه وأخراه، بما يُفيد أنهم لن يُتْرَكُوا يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل سيكون معهم دائما حتما حتي يوم القيامة هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة وهو دين الإسلام وذلك من عظيم رحمة ربهم وحبه لخَلْقه.. ".. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)" أيْ فمَن سَارَ خَلْفَ هُدَيَ الله وأطاعه كله تماما بلا أيِّ انحرافٍ أو مُخَالَفَةٍ فقطعاً مِثْل هذا بالتالي حتماً دائماً لا يُمكن أبداً مُطلقاً أنْ يَضِلّ أيْ يَضِيع أيْ يَبْتَعِد عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، ويَسير في طريق الضياع أي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُؤَدِّي إلي تمام التعاسة فيهما، ولا يُمكن أبداً مُطلقاً أنْ يَشْقَيَ أيْ يَتْعَس فيهما، بل تمام الهُدَيَ والسعادة
ومعني "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)"، "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)"، "قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)"، "وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن أعرَضَ عن هُدَاي أيْ أعْطَيَ ظَهْرَه له والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ وتَرَكه وأهْمَله بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء، وهُدَيَ الله تعالي يُسَمَّيَ ذِكْرَاً لأنه يَتِمّ مِن خلال كُتُبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الإسلام الذي فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة، فإنَّ لِمِثْل هذا المُعْرِض بسبب إعراضه حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دائماً – حتي يَتوب ويعود لربه ولإسلامه – مَعيشة ضَنْكَاً أي حياة دُنْيَوِيَّة شاقّة ضَيِّقَة عَسِيرَة شديدة الضيق والعُسْر، بدرجةٍ من الدرجات، علي قَدْر مَا تَرَك من الإسلام بعضه أو كله وعلي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، فهو دَوْمَاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مَصيرهم.. ".. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)" أيْ ونَجْمَعه وأمثاله المُعْرِضِين مَحْشُورين مُتَزَاحِمِين مُتَكَدِّسِين مُهانِين مَذْلُولِين يوم القيامة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم تُرابَاً، ليَنالَ مَا يَسْتَحِقّه من عذابٍ لا يُوصَف في نار جهنم، بما يُفيد أنه حينها يكون في مُنْتَهَيَ الذلّة والإهانة والانكسار والعار والندامَة والفضيحة والضعف في مُقابِل إعراضه الذي كان عليه في دنياه ويكون في هذه الحالة من فَظَاعَة المَوْقِف والذهول والرعب الذي يُصيبه وقتها أعْمَيَ أيْ أعمي البَصَر كأنه لا يَرَيَ شيئاً، وأعمي البَصِيرة أيْ أعمي عن الحُجَّة أيْ عاجزاً عن الحجّة التي يَعْتَذِر بها ويُدافِع بها عن نفسه، وذلك في مُقابِل أنه كان في دنياه أعمى البصيرة عن النظر في آيات الله التي في كُتُبه وفي كَوْنه، والبصيرة هي إدراك العقل الذي به يتبَصَّر أيْ يَري ويُدرك ويَتدبَّر، أيْ كان أعمي العقل فلم يُبْصِر الحقّ والعدل والخير والسعادة، فقد عَمِيَ عن اتّباع أخلاق الإسلام في دنياه فتعس بالتالي فيها ثم في أخراه، وذلك لأنه قد عَطّل هذا العقل بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)" أيْ قال هذا المُعْرِض، سائلاً الله تعالي، علي سبيل الفَزَع والانْكِسار والاسْتِسْلام والحَسْرَة والنّدَامَة والذلّة والمَهَانَة والألم والشقاء والكآبة والتعاسة: يا ربّ لماذا حَشَرْتَنِي أعْمَيَ، والحال والواقع أني قد كنتُ بَصِيراً في الدنيا أرَيَ وأفكّر وأُدْرِك وأحَاوِر وأجَادِل؟!.. "قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)" أيْ قال الله تعالي له: الأمر كذلك، حَشَرْتُك أعمي وقد كنتَ بصيراً لأنك جاءتك آياتنا أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أم آيات في الكوْن حولك أرشدوك لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليك فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتك علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَنَسِيتَهَا.." أيْ فتَرَكْتَها وأهْمَلْتَها وأعْرَضْتَ عنها ولم تَعمل بها.. ".. وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)" أيْ وكما تَرَكْتَها في الدنيا كذلك اليوم تُتْرَك في عذاب نار جنهم الذي لا يُوصَف، لا يَتَذَكّرك أحدٌ ولا يستطيع إنقاذك، فعقابك سيكون مُتَمَاثِلَاً مع مَا فعلتَ، فإنَّ الجزاء يكون مِن جِنْس العمل مُوَافِقَاً ومُقَابِلاً ومُساوِيَاً له.. "وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)" أيْ وهكذا دائماً وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد – وهو المَعِيشَة الضنْك في الحياة الدنيا – يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا لكلِّ مَن أسْرَفَ ولكلِّ مَن لم يُؤمن بآيات ربه بما يُناسب إسرافه وكُفْره.. والمُسْرِف هو المُتَجاوِز لحدود الله المُتَجَرِّيء علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدِّي علي الفطرة التي تَرْفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْله يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِر المُبَالِغ في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات الذي لا يقف عند حدٍّ لها ولا يفعلها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون له بعض عُذْرٍ يعتذر به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار.. ومَن لم يؤمن بآيات ربه هو الذي لا يُصَدِّق بآيات ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – أيْ بدلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حوله أرشده لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربه أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليه فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا عانَدَ واستكبرَ واستهزأ وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظره.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد له ولأمثاله، حيث قد وُصِفُوا بالإسراف والتكذيب للتأكيد علي شدّة سُوئهم وشدّة الغضب عليهم وعذابهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتخويف لهم.. أيْ وإنَّ عذاب الآخرة المُجَهَّز لهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – أقوَيَ شِدَّة وألَمَاً وأدْوَم زَمَنَاً من عذاب الدنيا، لأنَّ عذابه سبحانه في نار جهنم لا يُمكن أبداً تخيّله ولا تحمّله ولا الهروب منه والذي هو مُتنوّع وخالد للكافرين وهائل وعظيم، بينما عذاب الدنيا يمكن تحمّله أو مقاومته أو الفرار منه أو التغلّب عليه بقوة الله أوغير ذلك من الاحتمالات، فلا مُقَارَنَة إذَن بين العذابيْن
تفسير الآية (128)، (129)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)" أيْ فهل لم يُبَيِّن لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ويَدُلّهم علي أن يَسلكوا طريق الإسلام ويَتركوا ما يُخالِفه، ما أحَلَّ بكلّ الأمم الكثيرة السابقة عليهم والتي أهلكناها بسبب تمام إصرارها علي عِنادها واستكبارها واستهزائها؟! (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. والعجيب من أمرهم أنهم ".. يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.." أي هم يسيرون في بقايا وآثار مُدُنِهم وقُرَاهم بعد خرابها وهلاكها وليس الأمر بعيدا عنهم ومع هذا لا يُحَرِّكون عقولهم ويَتَّعِظون؟! لقد عَطّلوا هذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلْيَتَّعِظ إذَن هؤلاء الأحياء ولا يَفعل أحدٌ منهم مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم وذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد به في الداريْن.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ.." أيْ إنَّ في ذلك الذي يرونه أمامهم ويَسمعون عنه ويُذْكَر لهم من تاريخهم السَّيِّء وهلاكهم لا شكّ وبكلّ تأكيدٍ – واللام للتأكيد – آيات أي دلالات وعِبَر وعظات ودروس لكلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. لِأُولِي النُّهَى (128)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون بها هم أولوا النُّهَيَ فقط أيْ أصحاب العقول السليمة المُسْتَقِيمة المُنْصِفَة العادِلَة – جمع نُهْيَة أيْ عَقْل وسُمِّيَ العَقْل نُهْيَة لأنه يَنْهَيَ عن كل سوءٍ كما سُمِّيَ العقل عَقْلَاً لأنه يَعْقِل أيْ يَمْنَع ويَرْبِط عن هذا السوء – الذين أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما بها بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم
ومعني "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)" أيْ ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، لوْلاَ كلّ هذا، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." (يونس:93، الجاثية:17)، لَكَانَ لِزَامَاً أيْ لكانَ العذاب لازِمَاً لهم – أيْ يُلازِم ويَسْتَلْزِم ويَسْتَوْجِب لهم – من ربك لا يَنْفَصِل ولا يَتَأَخّر عنهم، أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيراً مع أوّل مَا يفعلونه من شرور!! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن؟!.. ".. وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)" أيْ وأيضا لولا أجلٌ مُسَمَّي من ربك أيْ ولولا وقتٌ مُحَدَّدٌ حَدَّده لهم يقع عنده العذاب وقَبْلَه يُؤَخّره عنهم لعلّهم يعودون للخير لكانَ لِزَامَاً لهم العذاب عاجِلَاً لا آجِلَاً لأنهم يَسْتَحِقّونه، وهذا الوقت قد يكون هو موعد نزول العذاب الدنيويّ والذي يكون بكلّ عدلٍ علي قدْر شرورهم سواء أكان بقَلَقٍ وتوَتّر وضيق واضطراب وصراع ونحوه أم باقتتال مع الآخرين أم بعقابٍ تامٍّ يُهلكهم ويَستأصلهم، أو قد يكون هو موعد بدء عذاب القبر عند موتهم وانتهاء أجلهم في الدنيا، أو قد يكون هو موعد يوم القيامة حيث عذاب جهنم بعد بَعْثهم.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ في الآية الكريمة تَقْدِيمَاً وتَأْخيراً، أي ولولا كلمة سَبَقَت من ربك ولولا أجل مُسَمَّي لكانَ لِزَامَاً العذاب
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنُون دعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنَة ويَصبرون علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا اسْتَعَنْتَ بالصبر في كل موقفٍ وكنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَفعلون كل خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، ومِمَّا يُعين علي الصبر دوام التّواصُل مع الله تعالي بدوام ذِكْره بكل صُوَرِ الذكْر (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، ودوام دعائه (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ودوام شكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ، بالعقل باستشعار قيمتها وباللسان بحمده وبالعمل باستخدامها في كل خيرٍ دون أيِّ شرٍّ حتي تكون دائما باقية وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً حيث يقول ".. لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)" أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون من أنَّ تأخير عذاب أعدائكم هو للإمهال لِحِكَمٍ كثيرةٍ وليس قطعاً إهمالاً لهم ومن أننا حتماً سننصركم في الحياة الدنيا والآخرة فبالتالي إذَن فاصبروا علي ما يقولون هؤلاء المُكَذّبين من تكذيبٍ واستهزاءٍ للإسلام ولكم وكونوا دَوْمَاً من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائماً بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر، وعلى ما يقوله هؤلاء المُكذّبين من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن، هو حقّ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات (121) حتي (127) ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتَبْشِيرٌ وإسعادٌ للرسول الكريم (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيفٌ عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له لينالوا عظيم الأجر في الداريْن.. ".. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.." أيْ وكذلك يُعينكم علي الصبر ويُعالِج ويزيل ضيقكم وهَمّكم وألَمَكم ويَشرح نفوسكم ويَقْضِي حوائجكم ويُسعدكم بعد حزنكم، وإضافة إلي ما أنتم عليه دائماً من تسبيحٍ وحَمْدٍ وذِكْرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ مُسْعِدٍ وصلاةٍ مُسْعِدَةٍ، أن تُسَبِّحوا ربكم أيْ تُنَزّهوه وتُبْعِدوه عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وأن تحمدوه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه، قبل شروق الشمس وقبل غروبها، وأيضا من آناء أيْ من أوقات الليل ومن أطراف النهار أيْ في أوائله وأواخره، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم، أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتكم، حين الصباح وحين المساء وفي كل وقت، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة.. هذا، وتوجيه الله تعالي للرسول (ص) بدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه (ص) دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة.. ".. لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)" أيْ لعلك بذلك ترضي، ولعلكم بذلك ترضون، أيْ لكي ترضي، ولكي ترضوا، أيْ لكي تُؤْجَرُوا بذلك، بهذه الأعمال، مِن ربكم بفضله وكرمه ورحمته، بما تَرْضون به، في دنياكم وأخراكم، أيْ تَشْعُرون بالرضا، أيْ بالقبول التّامِّ والارتياح والاطمئنان والسكون والاستقرار وطِيب الفِكْر وسُروره وتَفاؤله بحالكم السعيد تمام السعادة بحُسْن وجمال تَوَاصُلكم مع ربكم ودينكم وأعمالكم وأرزاقكم وعموم الناس وعموم الخَلْق والكَوْن كله، مع الاسْتِبْشار الدائم بانتظار نعيم أعلي درجات الجنات حيث تمام الرضا برضا الخالق الكريم الرحيم الودود وبما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافِعَاً وتَشجيعاً للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك صابرين ذاكِرين لربهم دائماً بكل صُوَر الذكْر (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة) شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. مع مراعاة أنَّ الذي ذَكَرَ هذا اللفظ "لعلّ" هو أكرم الأكرمين، الله تعالي، وحينما يقوله سبحانه في قرآنه الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالِك المُلْك كله الذي لا يُمكن أن يُعطِي أمَلَاً لأحدٍ بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيَّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!!.. كما يُرَاعَيَ أنَّ وجود احتمالية هي من الإنسان وليس من الله عَزَّ وجَلَّ بمعني أنه قد يُغَيِّر هو من حاله وتَمَسّكه وعمله بإسلامه فيَفْقِد بذلك فِعْلَاً الحصول علي ما وُعِدَ به، فعليه إذَن الحَذَر مِن تَرْك أيِّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام والاستمرار دَوْمَاً عليها كلها لينال وَعْدَه سبحانه
ومعني "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)" أيْ هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. أيْ وكذلك يُعينكم علي الصبر ويُعالِج ويزيل ضيقكم وهَمّكم وألَمَكم ويَشرح نفوسكم ويَقْضِي حوائجكم ويُسعدكم بعد حزنكم أن تُحْسِنوا طلب دنياكم وأخراكم معا، والمقصود قوة الإرادة العقلية وعدم التأثر بالأحوال الدنيوية للمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين والتي قد تكون أحياناً أو حتي كثيراً جيدة، لأنَّ التأثّر بمِثْل هذا قد يُضْعِف العزيمة مِمَّا قد يُؤَدِّي إلي عدم الصبر والانزلاق والانعماس في مُتَعِ الدنيا دون الانتباه لِتَجَنّب ما فيها من شرور.. أيْ ولا تَنْظر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم نظرة تَمَنٍّ ورغبةٍ إلى ما مَتّعْنَا أيْ رَفّهْنا به من مُتَع الدنيا المُتَنَوِّعَة، أزواجاً أيْ أصنافاً مُتَزَاوِجِين أيْ مُتَمَاثِلين ومُتَشابِهين ومُتَعاوِنين في السوء، منهم أيْ من الكفار والمشركين والمنافقين واليهود والنصارى والظالمين والفاسدين ومن يَتَشَبَّه بهم، فإنه مُسْتَصْغَرٌ لا قيمة له بالنسبة لِمَا أوتيته أيْ أُعْطِيته من القرآن العظيم وما فيه من أخلاق الإسلام التي تُصْلِحك وتُكْمِلك وتُسْعِدك تمام السعادة في الداريْن لو عملت بها كلها.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم في دنياه أنَّ عليه قطعاً ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أنْ يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (196)، (197) من سورة آل عمران "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ"، "مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"، ثم مراجعة الآية (55) من سورة التوبة "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من معاني الآية الكريمة تَرْك الحَسَد للآخرين والنظر لِمَا عندهم والحزن لذلك (برجاء مراجعة الآية (27) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ ولا تَمُدَنَّ عينيك إلي ما متّعنا به أزواجاً منهم ليكون هذا المتاع زهرة الحياة الدنيا أيْ مِن زينة الحياة الدنيا، فهو زائلٌ يوماً مَا، وسُمِّيَت زينتها زهرة للتنبيه وللتحذير وللتذكير أنها زينة سريعة الزوال كالزهرة التي لها وقتها ثم تَذْبل وتَنْتَهي مع الوقت سريعا!.. ".. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.." أيْ لكي نَخْتبرهم في ذلك الذي مَتّعناهم به، فمَن يُؤمِن منهم ويَشكر ويَستخدم ما مَتّعناه به في كل خيرٍ لا شَرٍّ ويُحْسِن باستخدامه طَلَبَ الدنيا والآخرة معا أعطيناه وزِدْناه مِن خَيْرنا الذي لا يُحْصَيَ أجراً عظيماً فيهما، ومَن يَكفر ويُصِرّ علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه يكون هذا المَتاع فِتْنَة أيْ شَرَّاً وضَرَرَاً له يَقَع فيه حيث سيَفعل بسبب متاعه هذا الشرور والمَفاسد والأضرار فيَسْتَحِقّ بالتالي حتماً مَا يُناسبه مِن عقابٍ بعذابٍ فيهما.. إنَّ علي الناس جميعاً أنْ يَنْتَبِهوا لذلك ويَحذروا منه تماما، فليس الأموال والأولاد وكل أحداث الحياة إلا اختبار لهم يحتاج إلي حُسن تعامُلٍ معه لِيَرَيَ ويُقَيِّم كلّ فردٍ ذاته هل اتَّبَعَ الإسلام في كل مواقف ولحظات حياته أم لا؟ فإن اتَّبَعَه كله في كل مواقفها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه ثم أخراه، وليَحمد ربه ليُثيبه ويزيده، وإنْ تَرَكَ بعضه أو كله تَعِسَ فيهما علي قَدْر ما يترك، فليجتهد أن يَتَدَارَك حاله ويتمسّك ويعمل به كله لتتمّ سعادته فيهما.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فلْيَصْبِر عليه ليَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)" أيْ وعطاءُ وثوابُ وأجْر ربك في الدنيا والآخرة – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من كل أنواع الأرزاق أيْ العطاءات والأجور التي لا تُحْصَيَ والتي لا تُقَارَن ولا تُوصَف حتماً خير وأبقي مِمَّا عند هؤلاء السابق ذِكْرهم أيْ أعظم وأكثر وأفضل خيراً وأبقي أيْ وأَدْوَم وأخلد حيث هو عطاء لا يَنتهي ولا يَفْنَيَ إلا بنهاية الدنيا ثم في الآخرة لا نهاية ولا فناء ولا انقطاع ولا حدود له، فأخلاق الإسلام المُسْعِدَة التي في القرآن الكريم والتي هي سبب صلاحك وكمالك وسعادتك والتي رزقك الله تعالي إيَّاها وتمسَّكْتَ وعَمِلْتَ بها بتوفيقه وتيسيره لك كل أسباب ذلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، ثم مع هذا الرزق الأعظم وهو الإسلام يرزقك أرزاقه المُفْرِحَة التي تُرْزَقَها منه لَحْظِيَّاً في حياتك بعد إحسانك اتّخاذ أسباب الحصول عليها سواء أكانت مالاً أم صحة أم قوة أم فكراً أم عملاً أم مَكَانَة أم راحة بالٍ أم علاقات اجتماعية طيِّبة أم ما شابه هذا، ثم مَا يَنْتَظِرك ويُدَّخَر لك في آخرتك من رزقٍ خالدٍ لا يُقارَن حيث نعيم جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بشر، كل ذلك بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ خيرٌ وأبْقَيَ مِمَّا عندهم
ومعني "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)" أيْ وكذلك يُعينكم علي الصبر ويُعالِج ويزيل ضيقكم وهَمّكم وألَمَكم ويَشرح نفوسكم ويَقْضِي حوائجكم ويُسعدكم بعد حزنكم أن تُقيموا الصلاة.. أيْ وأْمُرْ أيضا أهلك بالصلاة أيْ وأَوْجِبْ وأَكّدْ علي، وأَوْصِي بشدّة، بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ، أهْلَكَ، أيْ كلّ أهل الإسلام بَدْءَاً من النفس والأسرة والأقارب والأنْسَاب والجيران والأصدقاء والزملاء ثم الأَبْعَد فالأَبْعَد، بإقامة الصلاة، أيْ بالمحافظة علي كل الشعائر – وأهمها الصلاة – والتي تُحَرِّك المَشاعِر بداخل العقول فتَدْفَع بذلك لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ، كالذكر والدعاء وما شابه هذا، مِمَّا يُجَهِّز لإحسان كلّ المعاملات، فهو سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وإقامتها تعني المُوَاظَبَة علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة في أوقاتها وتأديتها دائماً علي أكمل وَجْهٍ قَدْرَ الاستطاعة أيْ إحسانها وإتقانها.. ".. وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا.." أيْ وكُن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم دائماً ثابِتَاً مُستمرّاً عليها طوال حياتك حتي تَتِمّ سعادتك في الداريْن، والاصْطِبار هو درجة عالية من الصبر لا يُصاحِبها أيّ مَلَلٍ أو غضبٍ أو يأسٍ أو نحوه، أيْ الصبر والثبات والصمود والاستمرار بكلّ قوّةٍ واستعانةٍ بالله ومقاومةٍ للشرِّ وبكل أملٍ وتَفاؤلٍ وأمنٍ واطمئنانٍ واستبشارٍ وانتظارٍ بكلّ لحظةٍ لكل خيرٍ وسعادة.. ".. لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ.." أيْ هذا تشجيعٌ على إقامة الصلاة والدوام عليها ببيانِ أنَّ الأمر ليس كما قد يَتَوَهَّم البعض أنها قد تَشْغل عن تحصيل الأرزاق! بل هي ستكون حتماً سَبَبَاً في حُسْن وتَيْسِير أسباب تحصيلها مع البركة فيها أيْ زيادتها لأنَّ الرازق هو الله تعالي وبإقامة الصلاة وباتّباع أخلاق الإسلام تَتَيَسَّر الحياة كلها حيث يَرْضَيَ سبحانه وإذا رَضِيَ رَزَقَ ويَسَّرَ ووَفّقَ وأسْعَدَ مَن يَرْضَيَ عنه بغير حسابٍ ومِن حيث لا يَحْتَسِب ولا يَتَوَقّع ولا يَتَخَيَّل.. أيْ لا نَطْلُب منك رزقاً لأحد، لا لك ولا لغيرك ولا لأيِّ مخلوق، وإنما نحن الذين نرزقك والخَلْق جميعا – علي قَدْر حُسْن اتّخاذكم لأسباب الرزق – من كل أنواع الأرزاق، سواء أكانت صحة أم قوة أم طعاماً وشراباً وكِسَاءً أم مالاً أم فكراً أم عملاً أم مَكَانَة أم راحة بالٍ أم علاقات اجتماعية طيِّبة أم ما شابه هذا، وبالتالي إذَن فلا تَنْشَغِل بالسَّعْي للرزق عن الصلاة والذكْر واتّباع أخلاق الإسلام وحُسْن الاستعداد للآخرة بحُسْن طَلَبِ أسبابها والدنيا معا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (56)، (57)،(58) من سورة الذاريات "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، "مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ"، "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ"، ثم الآية (6) من سورة هود "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)" أيْ وبكل تأكيدٍ العاقبة أيْ النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً لأهل التقوي لا لغيرهم أيْ للمتّقين أي للذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحْرِصُون أشدَّ الحِرْص علي دعوة جميع الناس لله وللإسلام، حُبَّاً فيهم وفي ربك وإسلامك الذي وَصَّاك بهذا لتسعدوا جميعا في الداريْن، لكن مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تَذْكِرَة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والذي حتي لو أتيته بأعظم آيةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئِيَّةٍ وبَذَلْتَ أعظم الجهود للإتيان بها فلن يؤمن!! لأنَّ الأمر لا يَتَعَلّق بنَقْصِ الأدِلّة إذ هي كافية وواضحة وضوح الشمس لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، ولكنَّ الأمر إصرارٌ عقلِيٌّ علي الإعراض والابتعاد لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فمِثْل هؤلاء لا تَسْتَكْثِر إعراضهم وتَحْزَن عليهم وتُحاوِل هِدايتهم بتَرْكِيزٍ كبيرٍ معهم، وإنما ادْع لهم بالهداية بأنْ يُحْسِنوا استخدام عقولهم لِيَصِلُوا إليها، وادْعوهم للإسلام بين الحين والحين، أو اتْرُكهم لفترةٍ كتحذيرٍ وتهديدٍ لهم لعلهم بهذا الترْك يستشعرون سوءهم فيستفيقون فيعودون للخير (برجاء مراجعة الآية (35) حتي (39) من سورة الأنعام، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)" أيْ وقال المُكَذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم، لو يأتينا محمد بآية من ربه أيْ يُحْضِر إلينا دلالة ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حَدَث مع الرسل السابقين كعَصَيَ موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من آيات، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنَّ الله تعالي قادر قطعا علي أن يُنَزّل كلّ آية في أيِّ وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل شئون الحياة لكل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!! إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتماً بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وَقْتِيَّة لا دائمة وأقلّ منها مهما عظمت!.. إنَّ معجزة القرآن حتما كافية لأنه أعجزَ ويَستمرّ يُعْجِز أيَّ أحدٍ أن يأتي بما أتَيَ به من نُظُمٍ وأخلاقيات وتشريعات تُسعد كل البَشَر في كل مكان وكل زمان بكل المُتَغَيِّرات حتي يوم القيامة؟!! وهو يُتْلَيَ عليهم أيْ يُقرأ باستمرارٍ ويَستمعون له ويُمكنهم كلهم الرجوع إليه إذا أرادوا في أيّ وقتٍ وهو إعجاز مستمرّ مع الإنسانية كلها حتي يوم القيامة لأنه محفوظ بينهم بحفظ الله له بينما أيّ معجزة أخري حِسِّيَّة ستنتهي بانتهاء وقتها رغم عظمتها ولا يراها إلا فقط مَن كان حاضرا حينها شاهدا عليها وقد كانت فقط مُناسِبة لعصرها أمَّا بعد ذلك فلم تَعُد مُلائِمة! فأيّ المعجزات إذن أعظم وأكثر استمراريّة في تأثيرها؟!! إنها حتما معجزة هذا القرآن العظيم!! فهذا ما يُقِرّ به أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!.. ".. أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)" أيْ وهل لم تَصِلْهم بَيِّنَة ما في الصحف الأولي؟! أي وهل يُطالِبون بآيةٍ والحال والواقع أنهم قد أتتهم بالفِعْل بَيِّنَة أيْ بيانُ وبُرْهان ما في الصحف الأولي بواسطة هذا القرآن العظيم أيْ بيان مَا في الكتب السابقة التي أوحيناها لرسلنا منذ آدم وحتي نزوله، وكلها صُحف مشهورة يَعلم أكثرها الكثيرون منهم كالتوراة والإنجيل، فهل لم تأتهم هذه المُعجزة العظمي وهل لم يَكْفِهم كل هذا في كَوْنه مُعجزة حتي يطلبوا معجزة غيرها هي أقل منه بلا أيِّ شكّ؟!! أليست هذه أعظم آية أيْ مُعجزة وأعظم بَيِّنَة أيْ دلالة علي صِدْق القرآن والرسول (ص)؟!! أن يكون هذا القرآن العظيم مُصَدِّقاً لِمَا معهم في الصحف الأولي أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّمَاً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله تعالي وكليهما يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، كما أنه يخبرهم بأحوالهم السابقة والتي لم يحضرها ويشاهدها الرسول الكريم محمد (ص) والتي يعلم أكثرها الكثيرون من هؤلاء المُكَذّبين ويَتَنَاقلون فيما بينهم جيلا بعد جيل أخبار هلاكهم بسبب تكذيبهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم بما يدلّ علي صِدْقه (ص) وصِدْق ما جاء به من قرآنٍ كريم، فمَا الذي يجعل المُكَذّبون الحالِيُّون بعد أن أتتهم بَيِّنَة مَا في الصحف الأولي من خلال القرآن آمنين أن يكون حالهم حال أولئك في العذاب والإهلاك؟!!.. إنَّ كل ذلك السَّفَه والتكذيب منهم للقرآن الكريم وعدم إسلامهم سببه إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه ليس أمامهم إذَن إن كانوا عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به
ومعني "وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)" أيْ هذا قَطْعٌ ومَنْعٌ لأيِّ عُذْرٍ لعدم الإسلام.. أيْ ولو نحن أَبَدْنَا وأفْنَيْنَا أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم بعذابٍ يَسْتأصلهم تماماً من دنياهم بصواعق أو زلازل أو براكين أو فيضانات أو أوْبِئَة أو حروب أو غيرها مِن قَبْله أيْ مِن قَبْل إرسال الرسول الكريم (ص) وإنزال القرآن العظيم لقالوا يوم القيامة على سبيل الاعتذار والتَّحَجُّج والمُرَاوَغَة والمُحاولات اليائسة للهروب من عذاب النار الذي لا يُوصَف: يا ربنا لو كنتَ أرسلتَ إلينا رسولاً أيْ مَبْعُوثَاً في دنيانا وأرسلت معه آياتك في كتابك ومُعْجِزاتك التي تُؤَيِّده لتُذَكّرنا ولتُحَذّرنا من مِثْل هذا العذاب والمصير لَكُنَّا اتّبعناها وآمنّا بك وبرسولك فيكون إرسال الرسول سَبَبَاً بالتالي لأنْ نَتّبِع آياتك مِن قَبْل أنْ نَذِلَّ أيْ نُهانَ ونَخْزَيَ أيْ نُفْضَحَ في الداريْن بعذابك!!.. ولكنّا لم نُهْلِكهم بل أرسلنا إليهم رسولنا ومعه آياتنا فبَلّغهم ما أرسلناه به فانْقطع بالتالي عُذْرهم وبَطلت حُجَّتهم أيْ لا عُذْر لهم الآن بعد إرسال الرسول والآيات.. وفي هذا كشفٌ لحجَج ومُرَاوغات مثل هؤلاء ومَدَيَ صِدْقهم أو كذبهم، وهذا من تمام رحمته وحِلْمه سبحانه علي أمثالهم، فمَن يؤمن منهم ويتوب ويعود لربه ولقرآنه ولإسلامه يسعد في الداريْن كبقية المؤمنين بربهم المتمسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم، ومَن يستمرّ ويُصِرّ تمام الإصرار علي تكذيبه وعِناده واستكباره، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فمِثْل هذا إنْ جاءه في دنياه صورةٌ مَا مِن صُوَر العذاب في أيِّ وقت، ثم انتظره في أخراه ما هو أشدّ عذاباً وأتمّ وأعظم، فليس له حينها أيّ حُجَّة أو عُذْر لأنه مُسْتَحِقٌ تماماً له ولم يُظلَم في أيّ شيء!! فمَن أُنْذِرَ فليس له أيّ عُذر! فبما أنَّ القرآن الكريم قد نَزَل ووَصَلَ إليهم ولم يتّبعوه فليس لهم إذَن أيّ حُجَّةٍ بعد ذلك، فهم يَسْتَحِقّون العذاب الذي يُناسب سُوئهم ومَا فعلوه من شرور ومَفاسد وأضرار
ومعني "قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)" أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وهو طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم كلٌّ مِنّا ومِنكم، أيْ نحن المؤمنون وأنتم الكافرون، مُتَرَبِّصٌ أيْ مُنْتَظِرٌ لِمَا سَيَصِير إليه حالنا وحالكم، لِمَا سَيَسْتَحِقّه مِن نتائج في مُقابِل مَا قَدَّم من أعمال، إنْ خيراً فخير وإنْ شَرَّاً فشَرّ، أيْ لِمَن سيكون النصر وستكون السعادة في الداريْن ولمَن ستكون الهزيمة والتعاسة فيهما، وما دام الأمر كذلك فتَرَبَّصُوا أيْ فانتظروا بالتالي إذَن فانتظاركم كله قَلَق وشقاء وانتظارنا كله أمن وسرور واسْتِبْشار (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (52) من سورة التوبة "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فستعلمون مُؤَكّدَاً وقريباً، وكلّ مَا هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً، ستعلمون عندما يَحْدُث نصر الله وتمكينه في الأرض لنا ونَشْر إسلامنا وإسعادنا في الدنيا وستعلمون حتماً في الآخرة يوم القيامة، ستعلمون حينها، مَن هم أصحاب الصراط السَّوِيِّ أيْ الطريق المستقيم أيْ الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، الذي هو طريق الله والإسلام، نحن أم أنتم؟! إنه نحن حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا أنتم، وستعلمون كذلك مَن اهْتَدَيَ أيْ مَن هو الذي اهتدي أيْ مَن أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختار بكامل حرية إرادة عقله الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختار اتّباع خالقه وإسلامه لأنه تأكّد بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحه وكماله وسعادته في دنياه وأخراه، ستعلمون مَن اهْتَدَيَ إلي الصراط السَّوِيِّ فسَعِدَ في الداريْن مِمَّن ضَلَّ أيْ اختار طريق الضلال أيْ الضياع أيْ الابتعاد عنه والسيْر في طريق الشرِّ والفساد فتَعِسَ فيهما، نحن أم أنتم؟! إننا نحن بالقطع الذين سيكون لنا كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة وسيكون لكم أنتم كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة فيهما.. إنكم إنْ عَلِمْتُم هذا في دنياكم فاستفيدوا به بأنْ تَستفيقوا وتَنْدَموا وتعودوا لربكم ولدينكم الإسلام لتَنْجُوا ولتسعدوا، فإنْ لم تفعلوا ذلك فستعلموه في الآخرة حيث لن ينفعكم أيُّ نَدَمٍ لأنه سيكون قد فات الأوَان وانتهَيَ وقت العمل وجاء وقت الحساب فتزدادون حَسْرَة ونَدَمَاً وخَيْبَة وتعاسة