الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿88﴾" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين استكبروا من قومه أيْ اسْتَعْلُوا علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَسْتَرِدُّوا حقوقهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذها، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا رَدَّاً علي نصائحه ووصاياه لهم بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ وعِنادٍ وإعلانٍ لتكذيبهم وإصرارٍ علي سُوئهم وبكل غِلْظةٍ وغضبٍ وتهديدٍ وتأكيدٍ سنُخرجك ونَطردك بالتأكيد يا شعيب والمؤمنين معك من بلدنا أو تَرْجعوا إلي ديننا الذي نحن عليه فتكفروا بربكم وتتركوا دينكم الإسلام وحينها لا نفعل ذلك ونترككم بيننا، فاختاروا بين هذين الأمرين.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم شعيب ﷺ ، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!.. ".. قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿88﴾" أيْ قال لهم شعيب مُتَعَجِّبَاً رافضاً هل تجبروننا على الكفر مثلكم واتّباع دينكم حتى ولو كنا كارهين له لاعتقادنا الكامل بفساده التامّ حيث هو مُتْعِسٌ مُضِرٌّ لأنه مُخَالِفٌ لكلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! لا لن نعود إليه أبداً بأىِّ حالٍ من الأحوال.. إنكم كيف تَعْرِضون علينا هذا العَرْض ونحن أمر الإسلام مَحْسُوم تماما عندنا لا ذرّة تَرَاجُع عنه؟! وإنما مِثْل هذا يكون لمَن يُظْهِر لكم أيَّ شيءٍ من رغبةٍ فيه!! ولكننا أعْلَنّا أننا كارهين له تماما!! إنَّ أمركم عجيب حيث لم تعقلوا أنَّ أمر الدخول في اعتقادٍ مَا لا بُدَّ أن يكون اختياريَّاً لا إجباريَّاً بالإكراه لأنه لن يكون اعتقاداً حقيقياً راسِخَاً في حالة الإكراه بل ظاهرياً ثم إكراهكم يدلّ علي أنَّ دينكم هذا ليس بحقٍّ لأنه لو كان حقّاً يقبله العقل فلن يحتاج لأيِّ إكراهٍ بل سيَسْعَيَ إليه كل عاقل
ومعني "قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴿89﴾" أيْ ثم قال لهم ما يُفيد قَطْع أيِّ أملٍ لديهم في عودة المسلمين عن الإيمان إلي الكفر: بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد اخْتَلَقْنا علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا إنْ رجعنا إلي دينكم الذي أنتم عليه فنكفر بربنا ونترك ديننا الإسلام بعد أنْ أنقذنا الله من اتّباع مثل هذا الدين الفاسد المُضِرّ المُتْعِس برحمته وكرمه وإنعامه وإحسانه علينا بأنْ أرسل الإسلام إلينا والمُسْعِد لنا في الداريْن فأحْسَنَّا استخدام عقولنا التي أعطانا إيَّاها والتي عندكم مثلها ولكنكم لم تُحسنوا استخدامها فاخترنا الإسلام فيَسَّر لنا أسباب اتّباعه والتمسّك والعمل به والثبات عليه لَمَّا اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا.. ".. وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا.." أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً لنا ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل وسيكون حتما سَفَهَاً وخطأ وتَخَبُّطَاً وتعاسة في الداريْن أن يرجع أحد أبداً إلي ملتكم الفاسدة المضرة المتعسة هذه بعدما ذاق سعادة الإسلام، وفي هذا مزيدٌ من قَطْع أيِّ أملٍ لديهم في عودة المسلمين عن الإيمان إلي الكفر.. ".. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا.." أيْ إلا أن يريد الله ربنا وخالِقنا لنا الضلالة بعد الهداية ويكون ذلك حتماً بلا أيِّ شكّ بعملٍ مِنّا حيث نختار نحن بكامل حرية إرادة عقولنا البُعْد عن ربنا وديننا الإسلام ونفعل الشرور والمَفاسد والأضرار من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ونستمرّ ونُصِرّ علي ذلك مُغْلِقِين لعقولنا بلا أيِّ استيقاظٍ بتوبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لهما وبالتالي يتركنا لَمَّا يَرَانا مُصِرِّين دون أيِّ خطوة نحو الخير حتي يساعدنا علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لذلك بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. إنَّ أحداً لن يؤمن بأيِّ حالٍ من الأحوال إلاّ في حالة أن يشاء هو أولا بكامل حرية إرادة عقله الهداية لله وللإسلام ويَتّخِذ أسباب ذلك بأنْ يُحْسِن استخدامه ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فحينها يَشاء الله له ذلك بأنْ يُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الهداية لله وللإسلام وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.." أيْ قد أحاط عِلْم ربنا بالأشياء كلها فلا تَخْفَيَ عليه خافِيَة في كل كَوْنه وخَلْقه ولا عِلْم لآلهتكم بأيِّ شيءٍ منها، فلا يُسْتَبْعَد أن يكون في عِلْمه أن يَحْدُث لبعضنا ضلالة بعد هداية، فإنَّ ذلك إنْ حَدَث فإنه يَقع بقُدْرَة ربنا وإرادته لحكمةٍ مَا لا بقدرة أصنامكم أو إرادتها، فإنْ يكن سَبَقَ في علمه أنّ بعضنا يعود في مِلّتكم فلا بُدّ أن يكون وإلاّ فهُمْ غير عائدين حتماً فيها.. ".. عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.." أيْ علي الله وحده اعتمدنا في كل شئون حياتنا لنسعد في دنيانا وأخرانا (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، اعتمدنا عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفينا كفاية تامّة ولن نحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقنا القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لنا الرحيم بنا هو وكيلنا، أيْ الحافظ لنا المُدافِع عنا، فهل نحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! إننا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولذا فنحن مُطمئنّون اطمئنانا كاملا ومُسْتَبْشِرون ومُنتظرون دائما لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنيانا ثم أخرانا.. ".. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ.." أيْ ندعوك ونسألك ونَتَوَسَّل إليك يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – احكم بيننا وبين قومنا بالعدل، وجازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يَسْتَحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴿89﴾" أيْ فأنت خير الحاكمين، أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه تعالي يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك
ومعني "وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴿90﴾" أيْ وقال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا للمؤمنين ولغيرهم من عموم الناس وهم مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه مُحَذّرين مُهَدِّدِين إذا سِرْتُم خَلْفَ شعيب ستكونون بالتالي إذَن بالتأكيد خاسرين!!.. ستَخسرون يا غير المؤمنين مكاسبكم من تطفيف الكَيْل والميزان وأكل حقوق الآخرين وتَخسرون شَرَفكم ومَجْدَكم باتّباع غير دين آبائكم وأجدادكم وستَخسرون أنتم أيضا أيها المؤمنون إغراءاتنا المُتَعَدِّدَة لكم لكي لا تؤمنوا إضافة ما سيُصيبكم منّا مِن أذَيً كطردٍ من بلادنا ونَفْيٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو تهديدٍ أو تعذيبٍ أو سجنٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح السعيد في نفسه المُسْعِد لغيره خاسراً!!.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿91﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني "الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴿92﴾" أيْ الذين لم يُصَدِّقوا شعيباً وما أبْلَغهم به من إسلامٍ أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وهَدَّدوه وأنذروه هو والمؤمنين معه بالإيذاء والإخراج من بلدهم إنْ لم يكفروا مثلهم، عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا فلم يَبْق لهم أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها.. ".. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴿92﴾" أيْ لم يكن حتماً المؤمنون الخاسرين كما ادُّعِيَ عليهم سَفَهَاً وخَبَلاً وكذباً وزُورَاً بل هؤلاء الذين كذّبوا شعيباُ كانوا قطعا هم الخاسرين خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سبحانه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، وتكرار جملة "الذين كذّبوا شعيبا" هو أسلوب يستخدم في اللغة العربية لبيان مزيدٍ من الذمِّ واللّوْم الشديد والتأكيد والتَّعَدُّد والتفظيع لِمَا عُوقِبُوا به مع مزيدٍ من الوعظ والتأثير والتنبيه للمُستمع لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتّعاظ فلا يَفعل مِثْلهم حتي لا يتعس تعاستهم في الداريْن
ومعني "فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿93﴾" أيْ فابْتَعَدَ عنهم وقال مُخَاطِبَاً لهم ذامَّاً إيّاهم بعدما أهلكهم اللّه تعالي بعذابه ليكون خطابه عِبْرَة لغيرهم ليَتَّعِظوا فلا يَفعلوا فِعْلهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا مِثْلهم فيهما، أو قال ذلك الخطاب قبل هلاكهم تاركِاً إيّاهم للمصير الذي أوقعوا فيه أنفسهم باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب مُخالفتهم شرع الله الإسلام ومُحاولتهم مُحارَبته مُتَحَسِّرَاً على ما فاتهم من الإيمان والسعادة يا قوم لقد أبلغتكم أيْ أوْصَلت لكم رسالات ربي أيْ وصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام كاملة غير مَنْقُوصَة، ونصحت لكم أيْ وأرْشدتكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي تسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فلم أقْتَصِر علي تبليغها بل أضفتُ إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها بالترغيب وبالترهيب حسبما يُناسبكم، ولكنْ مِن شِدَّة إصراركم علي سُوئِكم واستعلائكم وعِنادكم وفسادكم وإغلاقكم لعقولكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة وَصَلْتُم إلي مرحلة أنكم لم تقبلوا النصح ولم تستمعوا للخير وللسعادة الذي فيه وأصبح شأنكم الاستمرار على كُرْهِكم وعداوتكم لمَن يَنصحكم وعدم اتّباع نصائحهم المُسْعِدَة والسَّيْر خَلْف أهوائكم المُتْعِسَة في دنياكم وأخراكم، حتي هَلَكْتُم، فكيف آسَيَ أيْ أحزن علي قومٍ كافرين أيْ مُكَذّبين مِثْلكم بذلتُ أقْصَيَ جهدٍ مُمْكِن معهم لهدايتهم ونجاتهم ولكنهم كرهوا النصح ورفضوه تماما واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما فيه هلاكهم؟! لا، لن آسَىَ بالتالي عليهم حيث هم ليسوا أهْلَاً للحزن عليهم لأنهم مُسْتَحِقّون لِمَا نَزَلَ بهم، بل قد ارتاح أهل الخير منهم وسعدوا بغيابهم
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴿94﴾ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿95﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴿94﴾" أيْ وما بَعَثْنا في أيِّ بلدةٍ من البلدان أيَّ نبيٍّ من الأنبياء يدعو مَن فيها إلى الله والإسلام ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم فكَذّبوه إلا عاقبنا أهلها بالبأساء أيْ بالبؤس كفقرٍ وغيره وبالضَّرَّاء أيْ بالضرَر كمرضٍ ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَضَرَّعُونَ" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَضَرَّعوا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان حتماً يُرَاجِع ذاته كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتضرّعوا، أيْ لكي يلجأوا إلينا ويَدْعُونا ويَرجونا ويَطلبوا عَوْننا وتوفيقنا وتَيْسيرنا ورزقنا وقوَّتنا وأمننا وحُبّنا ورضانا وإسعادنا لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدونا أي يطيعونا وحدنا ويَخضعوا ويَستسلموا لنا ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَضَرِّعين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿95﴾" أيْ ثم لَمَّا لم يَنفع معهم هذا النوع من الاختبار بالبأساء والضراء حيث لم يَتَضَرَّعوا ولم يعودوا لربهم ولإسلامهم اختبرناهم بنوعٍ آخرٍ من الاختبار رحمة منّا وإمهالاً لهم لا إهمالا لعلهم به يستشعرون نِعَم ربهم عليهم التي لا تُحْصَيَ فيشكرونه بأن يعودوا له ولإسلامه ليسعدوا في الداريْن حيث غَيَّرنا وحَوَّلنا مكان الحالة السيئة الحالة الحسنة أيْ أعطيناهم بَدَلَ ما كانوا فيه من البؤس والضرر في الأنفس والممتلكات السلامات والتيسيرات والعافيات والخيرات والأرزاق حتي عفوا أيْ إلي أن كثروا ونَمُوا في أنفسهم وذرِّيَّاتهم وأموالهم وممتلكاتهم.. ".. وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ.." أيْ وبَدَلَ اتّعاظهم بالأحداث التي تَحْدُث حولهم من اختبارات الله تعالي لهم بالضَّرَّاء أحيانا أيْ بما يَضُرّ – كما في الآية السابقة – وبالسَّرَّاء أيْ بما يَسُرّ أحيانا أخري والتي تدعو كل عاقلٍ للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو خطأ وتَرْكه والشكر لِمَا هو صواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادته في دنياه وأخراه إذا بهم لم يستفيدوا لا بهذا ولا بذاك أيْ لم يَتَضَرَّعوا بالضَّرَّاء ولم يشكروا بالسَّرَّاء بل قالوا بكل جهلٍ وغَفْلةٍ وإنكارٍ لنِعَم الله ونسيانٍ له ولها وإغلاقٍ لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لمَن يَعِظهم ويُذَكّرهم بالعودة لربهم ولإسلامهم قد مَسَّ أيْ أصاب آباءنا سابقا الشرّ والخير مثل ما أصابنا الآن وتَنَاوَب عليهم هذا وذاك فنحن أيضا يَتَنَاوَب علينا هذا أوقاتاً وذاك أوقاتاً أخري فهكذا كانت دائما عادة الزمن قديما وحديثا لنا ولآبائنا فهذا أمرٌ طبيعيٌّ عاديٌّ قد جَرَت به العادة وتفرضه الطبيعة وتَقَلّبات الزمن ولا علاقة له بعقابٍ من الله علي كفرٍ به وإنكارٍ لنِعَمه أو ثوابٍ منه علي إيمانٍ وشكرٍ له كما يقول الرسل والدعاة من بعدهم!! فلنستَمِرّ إذَن علي ما نحن عليه من عبادة آلهتنا كما كان آباؤنا فإنهم لم يتركوا دينهم بسبب ما أصابهم من أيِّ ضَرَّاء بل أصَرُّوا علي ما هم فيه!!.. وفي هذا بيانٌ لحالهم السَّيِّء حيث عدم المبالاة والاستهتار والاستمرار بكل إصرارٍ علي التكذيب وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. ".. فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿95﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ عاقبناهم بالعذاب الدنيويّ – قَبْل الأخرويّ – فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه.. إنه عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿96﴾ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ﴿97﴾ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿98﴾ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴿99﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿96﴾" أيْ ولو أن الناس في البلاد صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، واتّقَوْا أيْ وخافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، لو أنهم فعلوا ذلك لأعطيناهم ووَسَّعنا عليهم ويَسَّرنا لهم خيرات ورحمات كثيرات مُستمرّات مُتَزَايِدات مُسْعِدات مُيَسَّرَات بلا مَشَقّات من كل الجهات في كل شيء فيهم وحولهم، في عقولهم وأفكارهم وأجسادهم وقوّاتهم وطموحاتهم وصحبتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم وحياتهم حولهم من مطر ونبات وثمار وأنعام وأرزاق وأمان وسلامة من آفات ومصيبات وأحزان وأمراض ونحو ذلك، ولَعَاشوا آمنين مطمئنين سعيدين مُنتفعين تمام الانتفاع بكل خيراتِ ربهم النافعة المُسْعِدَة في كل شئون حياتهم بكل لحظاتها، وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه.. إنَّ هذا بيانٌ لجَنّاتِ وسعاداتِ الحياة الدنيا التي يَعِدُهم بها الله تعالي الذي لا يُخْلِف الوَعْد أبداً والتي سيَعيشون فيها لو عملوا بكل أخلاق الإسلام حيث كل خيرٍ ورزقٍ وأمنٍ وسعادة، إضافة بالقطع إلي وَعْدهم بجنات وسعادات الآخرة.. وخلاصة القول أنهم سيَعيشون حتماً دائماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿96﴾" أيْ ولكنهم لم يؤمنوا ولم يَتّقوا فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ عاقبناهم بعذابٍ دنيويّ – قَبْل الأخرويّ – بسبب وبمقدار ما كانوا يعملون من سوء.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم
ومعني "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ﴿97﴾"، "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿98﴾"، "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴿99﴾" أيْ هل اطمأنَّ الناس في البلاد، العُصَاة منهم، الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، الذين عرفوا الإسلام ووَصَل إليهم ولم يُسلموا أو أسلموا ولم يَعملوا بأخلاقه، أن لا يَصِلَ إليهم عذابنا الدنيويّ في مُقابل وبمِقْدار سُوئِهم بياتاً وهم نائمون أيْ بائِتين أيْ وهم أثناء نومهم بالليل أو بالنهار، والمقصود أنه يأتيهم وقت استرخائهم واطمئنانهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿98﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ والإيقاظ لهم.. أيْ وكذلك هل هم آمِنون مِن أنْ يَصِلَ إليهم عذابنا نهاراً وهم في حال انشغالهم بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين؟! هل أَمِنُوا وهم قد فَعَلوا ما يَسْتَحِقّون عليه هذا العذاب؟!.. والمقصود أيضا أنه يأتيهم وقت انشغالهم بأعمالهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم، مِثْل أثناء بَيَاتِهم كما في الآية السابقة، وهذا يُفيد أنَّ العذاب واقعٌ بهم حتماً بكل تأكيدٍ لأنهم إنْ أَمِنُوا وقتاً فلن يَأمنوا الآخر.. "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴿99﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الذمِّ والإيقاظ لهم.. أيْ هل أَمِنُوا النجاة من مكر الله أيْ مِن تدبيره العقاب والعذاب لهم بما يُناسبهم من حيث لا يشعرون والذي يَخْفَىَ عليهم وعلى الناس جميعاً ما هو وكيفيته وتوقيته؟! أيْ يكون فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه.. إنه عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. ".. فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴿99﴾" أيْ فإنه بالتأكيد لا أحد يأمن أيْ يَسْتَشْعِر الأمان والطمأنينة فلا يَحذر تدبير الله له بعقابه فجأة من حيث لا يَشْعُر بما يُناسبه من عذابٍ دنيويّ وأخرويّ في مُقابِل شروره ومَفاسده وأضراره ويستمرّ ويُصِرّ عليها بلا أيِّ توبةٍ مُتَجَاهِلاٍ حُدُوثَ عذابه أو غافِلاً مُنْشَغِلاً عنه أو مُعتمداً علي رحمة الله له أو كان كافراً أيْ مُكَذّباً به أصلاً أو ما شابه ذلك إلا كان حتماً من القوم الخاسرين فإنه لا يفعل ذلك إلا هم لأنه سيُعَذّب قطعاً ببعض العذاب في دنياه ثم سيَستكمله بما هو أشدّ منه في أخراه إنْ لم يَتُب.. إنه سيَخسر بسبب استمراره علي سُوئه وبعدم اتّعاظه بما حَدَثَ ويَحْدُث من عذابٍ لأمثاله.. إنَّ أمثال هؤلاء هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿100﴾ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴿101﴾ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴿102﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿100﴾" أي وهل لم يَتَبَيَّن ويَتَّضِح لهؤلاء الذين يعيشون على الأرض التي ورثوها مِن بعد أهلها السابقين المُهْلَكِين الذين عُوقِبُوا وعُذّبُوا بسبب معاصيهم، ففَعَلوا مِثْلهم، أننا لو نريد – أيْ حتماً في قُدْرتنا – أنزلنا بهم العقاب وعَذّبناهم بسبب ذنوبهم هم أيضا كما أنزلناه بأولئك المُهْلَكِين؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. فلْيَتَّعِظ إذَن هؤلاء الأحياء الذين يَرِثون مَن قَبْلهم ولا يَفعل أحدٌ منهم مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم ولْيُحسن التعامل مع هذا الميراث واستخدامه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد به في الداريْن.. ".. وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.." أيْ وكذلك لو نشاء نطبع علي عقولهم بسبب هذا، أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿100﴾" أيْ فهم بالتالي لذلك، بسبب إصرارهم علي سُوئِهم هذا، لا يستمعون لنصائح ووصايا الإسلام سماع تَعَقّل وتَعَمُّق وتَدَبُّر فينتفعون بما يسمعونه ويعملون به لكي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أي كأنهم لم يسمعوا شيئا! وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. وفي هذا مزيدٌ من الذمّ واللّوْم الشديد لهم ولأمثالهم والتحذير مِن التَّشَبُّه بهم لتَجَنُّب تعاساتهم في الداريْن
ومعني "تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴿101﴾" أيْ تلك البلاد التي سَبَقَ ذِكْرها، كقُرَىَ قوم نوحٍ وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرها، والتي أهلكناها بسبب تكذيبها وعنادها واستكبارها واستهزائها وفِعْلها الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارها عليها بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوع عنها لربها ولدينها الإسلام، نَقَصُّ أيْ نَذْكُر ونَرْوِي لك يا رسولنا الكريم ولكل مسلمٍ ولكل عاقلٍ بعض أخبارها، لْيَتَّعِظ بها مَن يريد الاتّعاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم بل يفعل كلّ خيرٍ ويترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد بذلك في دنياه وأخراه، ولتكون قصصها طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.." أيْ وليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.." أيْ فلم يكن من حالهم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم بما كانوا قد كَذّبوا به قبل رؤيتها منهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴿101﴾" أيْ هكذا دائما، وبمِثْل ذلك الطّبْع الشديد المُحْكَم الذي طَبَعَ الله به على عقول أهل تلك القرى المُهْلَكَة التي سَبَقَ ذِكْرها، يَطبع الله علي عقول الكافرين حالياً ومُستقبَلاً في أيِّ زمانٍ ومكان، وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشكلة ليست في البَيِّنَات وفي كثرتها أو قِلّتها وإنما في عقولهم هم!!
ومعني "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴿102﴾" أيْ وما كان لأكثر هذه الأمم التي نُعاقبها ونُهلكها بسبب تكذيبها وفِعْلها للسوء وإصرارها عليه أيّ وفاءٍ بعهدٍ ولذا استحقوا ما يُناسبهم من العقاب والعذاب والإهلاك، أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴿102﴾" أيْ وكان أكثرهم خارجين عن طاعة الله والإسلام فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار فاسْتَحَقّوا ما يَحِلّ بهم من عذابٍ دنيويّ ثم أخرويّ.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿103﴾ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿104﴾ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿105﴾ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿106﴾ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴿107﴾ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴿108﴾ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿109﴾ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿110﴾ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿111﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿112﴾ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿113﴾ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿114﴾ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴿115﴾ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴿116﴾ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿117﴾ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿118﴾ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴿119﴾ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿120﴾ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿121﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿122﴾ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿123﴾ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿124﴾ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿125﴾ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴿127﴾ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿128﴾ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿129﴾ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿130﴾ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿131﴾ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿133﴾ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿134﴾ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴿135﴾ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿136﴾ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴿137﴾ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴿138﴾ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿139﴾ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿140﴾ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿141﴾ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴿142﴾ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿143﴾ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴿145﴾ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿146﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿147﴾ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴿148﴾ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿149﴾ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿150﴾ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿151﴾ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴿152﴾ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿153﴾ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴿154﴾ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴿155﴾ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴿156﴾ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿159﴾ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿160﴾ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿161﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿162﴾ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿163﴾ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿164﴾ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿165﴾ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿166﴾ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿167﴾ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿168﴾ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿169﴾ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴿170﴾ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿171﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والمائدة وطه والشعراء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا، ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿103﴾" أيْ ثم أرسلنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين سَبَقَ ذِكْرهم رسولنا الكريم موسي بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. بعثناه إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها ومَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَظَلَمُوا بِهَا.." أيْ فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر أيْ التكذيب بها والعِناد لها والاستكبار عليها والاستهزاء منها حيث أتعسوا ذواتهم وأتعسوهم بعدم الاستجابة لها وببُعْدهم عن ربهم ودينهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستحقّوا بذلك عقابه تعالي بتعذيبهم وإتعاسهم بل وإهلاكهم لَمَّا أصَرُّوا علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوع له ولإسلامهم.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿103﴾" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُفْسِدين – أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المفسدين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿104﴾" أيْ وقال موسى لفرعون مُحَاوِرَاً مُبَلّغَاً إيّاه ومَن حوله إني مَبْعُوث من الله رب العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، وذلك لكي أدعوكم إلى الله والإسلام لتسعدوا به في دنياكم وأخراكم.. وهذا يعني ضِمْنَاً أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه
ومعني "حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿105﴾" أيْ حقٌّ وواجبٌ عليَّ ألاّ أقول على الله إلاّ الصدق في كل ما أبلّغكم به لأنه إذا كان هذا مقامه أنه رب العالمين وأنا قد اختارني رسولاً له إليكم فواجب عليَّ أن لا أكذب عليه لأني لو قلت غير الحقّ عاقبني وأهلكني فوراً لأنه حتماً لن يسمح لرسوله أن ينشر كذباً وسوءاً أو لأحدٍ أن يَدَّعِيَ كذباً أنه رسوله من غير أن يمنعه! وهذا الذي قاله موسي ﷺ من المُفْتَرَض أن يجعلهم يثقون فيه ويستجيبون له ويُسْلِموا.. ".. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ وقد أحضرتُ لكم آية من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسولٌ منه وصِدْق ما أبلّغكم به، والمقصود المُعجزات التي أيَّدَه الله تعالي بها وأهمها تَحَوُّل عصاه عند إلقائها إلي ثعبان حقيقيّ وليس وَهْمَاً كما يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم.. ".. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿105﴾" أيْ فأطْلِق يا فرعون معي بني إسرائيل وحَرِّرهم من أن يكونوا عبيداً لك واتركهم ليخرجوا أحراراً من تحت حُكْمك ليذهبوا معي إلي بلدٍ آخرٍ غير بلدكم يمكنهم فيها عبادة ربنا وربك، فاتركهم ليأتوا معي إلي عبادة الله تعالي وحده ولا تمنعهم من ذلك، أطلقهم وغيرهم مِمّن تستعبدهم من أهل مصر ليخرجوا من حياة العبيد والذلّة والتعاسة معكم إلي حياة الأحرار والعِزّة والسعادة التامّة في الداريْن مع الله والإسلام.. وهكذا هو حال الدعاة دائما بعد الرسل الكرام مع مَن حولهم، إعزازهم وتحريرهم من الشرّ وتوصيلهم إلي الخير وإسعادهم فيهما
ومعني "قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿106﴾" أيْ قال فرعون لموسي إنْ كنتَ قد حضرتَ بمُعجزةٍ تشهد بصِدْقك مِن عند مَن أرسلك كما تَدَّعِى فأحْضِرها لتُثْبِتَ بها صِدْقك إنْ كنتَ من الصَّادِقِينَ فيما تَدَّعِيه أنك رسولٌ من ربِّ العالمين وأنك لا تقول إلا الحقّ
ومعني "فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴿107﴾"، "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴿108﴾" أيْ فرَمَيَ موسي عصاه التي يَرْتَكِز عليها فإذا هي تَتَحَوَّل إلي ثعبانٍ واضحٍ يَتَبَيَّن لمَن يراه أنه حقيقيٌّ ضخمٌ يتحرّك وليس وَهْمَاً كما يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم.. "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴿108﴾" أيْ وأخرج يده من جيبه بعد أن أدخلها فيه فإذا هي شديدة البياض علي غير العادة كأنَّ لها ضياءً للناظرين إليها مِمَّن حوله، فإذا أدخلها فيه مرة أخري عادت لطبيعتها
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿109﴾"، "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿110﴾" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حول فرعون – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا إنَّ هذا أيْ موسي بالتأكيد ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر، قاصدين بذلك إبعاد الناس عن تصديق أنه رسول من عند الله تعالي مُؤَيَّدٌ بمعجزاتٍ منه وعن التفكير في الحقّ الذي جاء به إضافة لتحريض فرعون والجميع عليه للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحهم ومناصبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا، رغم أنهم في زمنٍ كَثُر فيه السَّحَرَة ويعلمون تمام العلم هم وفرعون أنَّ تَحَوُّل العصا ليس بسحرٍ مُطلقا.. "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿110﴾" أيْ ولم يَكْتَفُوا بهذا القول الكاذب الذي قالوه أنَّ موسي ساحرٌ عليمٌ بل بدأوا يُثيرون الناس ضِدَّه ويُخَوِّفونهم منه ليَقِفوا فى وجهه ويمنعوه من نشر الإسلام فقالوا يريد هذا الساحر أن يخرجكم من بلدكم وطنكم وينهب منكم مُلْككم وسلطانكم علي أرضكم وممتلكاتكم ويكون هو السلطان عليكم يتحكّم فيكم وفي خيراتكم ويَستعبدكم، فماذا تأمرون لتَجَنُّب هذا الخطر الشديد؟ أيْ فما رأيكم وبماذا تُشيرون في أمر التخلّص منه؟ وهذا التساؤل قد يكون منهم استكمالا لكلامهم وتحذيرهم أو من كلام فرعون أو منهما الاثنين معا أثناء تحاورهم لتحضير خططهم ضدّه.. إنَّ هذا هو دائما أسلوب المُسْتَبِدِّين وأعوانهم، الخِداع والقَهْر والقمع، ليظلّوا حاكِمين ناهِبين لثروات وجهود الشعوب، لكنَّ الشعوب بلجوئها لربها وتمسّكها وعملها بأخلاق إسلامها وتَوَحّدها وصبرها ومقاومتها تَغْلِب الظالمين دَوْمَاً كما يُثْبِت التاريخ ذلك
ومعني "قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿111﴾"، "يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿112﴾" أيْ قال الملأ من قوم فرعون مُشِيرين عليه: أخِّر وأجِّل أمره وأمر أخيه الذي يعاونه في دعوته ولا تتعجَّل بالقضاء والبَتِّ في شأنهما وماذا تفعل فيهما، أيْ أشاروا عليه بتأخير المُواجَهَة معهما بعض الوقت وخلال هذه الفترة يبعث أعوانه إلي كل المدن من أجل أن يحشر أيْ يجمع منها الناس وكل ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر حتي يكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحرٍ مِثْله وأشدّ فينكشف أمره أنه ساحر لا رسول ويتّضِح كذبه للجميع فلا يَتّبِع أحدٌ الإسلام الذي يدعوهم إليه.. هذا، وطَلَب المَشُورَة وأمْهَر السَّحَرَة يَهْدِم عند كل عاقلٍ فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي لأنه لو كان كذلك لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا استشارةٍ ولا مساعدةٍ من أحد!!
ومعني "وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿113﴾"، "قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿114﴾" أيْ وحَضَرَ السحرة لفرعون قالوا له هل لنا أجر إنْ كنّا نحن المُنتصرين؟! قال بلا تَرَدُّد لشدَّة احتياجه إليهم نعم، لكم أجر ماديّ عظيم لو انتصرتم عليه وآخر معنويّ فإنكم ستكونون بالتأكيد من المُقَرَّبين مِنّا تنتفعون بهذه المَنْزِلَة القريبة لنا من مناصبنا وخيراتنا وإحساناتنا عليكم، وهذا لمزيدٍ من تشجيعهم ليبذلوا أقصي طاقاتهم ومهاراتهم لمواجهة موسي ﷺ .. إنها صفقة تبادل منافع وتعاون ضدّ الإسلام لمنع انتشاره!! وهي صفقات تَحْدُث في كل عصرٍ حيث يتعاون أهل الباطل ضد أهل الحقّ والذين هم حتماً المنتصرون بتأييد الله تعالي لهم كما يثبت الواقع ذلك دائما.. إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين كالآيتين السابقتين تَدُلّان علي مزيدٍ من هَدْم فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي عند كل عاقلٍ لأنه ظَهَرَ ضعيفاً مُحتاجاً للسحرة فلو كان ربّاً لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا مساعدةٍ!! كما تُظْهِران أنّ السحرة يعلمون تماماً أنه ليس بربهم ولكنهم يُسَايِرونه خوفاً من بَطْشه بهم وانتفاعاً منه وأنهم كاذبون دَجَّالون إذ لو كان سِحْرهم حقيقياً يُغَيِّر الأشياء حقيقة لحَوَّلوا مثلاً التراب ذهباً ولَمَا احتاجوا أجراً منه بل ولَنَقَلوا مُلْكه إليهم وأصبحوا هم الملوك وهو عَبْدهم!!
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴿115﴾" أيْ فلمَّا حَضَروا مع موسى ﷺ بحضور الناس بعد الوعود التي وُعِدُوا بها قالوا له إظهاراً لثقتهم التامّة بأنهم غالبون وإرضاءً لفرعون وتَحَدِّيَاً له وتَعَالِيَاً عليه واستهانة به وغروراً بقُدْراتهم لك أن تختار إمّا أنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما معك من سِحْرٍ وإمّا أن نكون نحن البادئين بالإلقاء ففي كلتا الحالتين نحن على ثقةٍ كاملةٍ من هزيمتك
ومعني "قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴿116﴾" أيْ بفِطْنَة النّبُوَّة وبوَحْيٍ من الله تعالي وتوفيقٍ منه طَلَبَ موسي ﷺ منهم البدء ليستكشف ما عندهم وليكون تأثيره أقوي علي الناس حينما يُلقي هو عصاه في النهاية فتقضي علي كل أسحارهم، فقال لهم مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم ألقوا أنتم سِحْركم أولا، فلمّا ألقوه خَيَّلُوا إلى أبصار الناس ومَوَّهُوا عليهم أنَّ ما فعلوه حقيقة وما هو إلا خيال، وهكذا هو السِّحْر ما هو إلا أوْهام وتَخَيّلات ليست حقيقية يقوم بها الساحر تُؤَثّر علي عقل مَن يراه فيَتَوَهَّم بوجودها، واسْتَرْهَبُوهم أيْ وخَوَّفوهم خوفاً شديداً بسبب قوة تأثير سِحْرهم، وقاموا بسحرٍ قويٍّ كثيرٍ مظهره كبير وتأثيره في أعينهم وعقولهم ومشاعرهم شديد ولم يوجد له مَثِيل في هذا المجال
ومعني "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿117﴾" أيْ وحينئذ أبْلَغنا إلي موسي أن ارْمِ عصاك فإذا هي تبتلع بسرعةٍ ما يفعلون من إفكٍ أيْ كذب، لأنَّ السحر ما هو إلا بعض حركات خفيفة سريعة يقوم بها الساحر بعد أن يتدرَّب عليها يمكنه بها أن يُحْدِث بعض تَهَيُّئات عقلية كاذبة ليست حقيقية فيمَن يشاهده ويخدعه بها وليس أكثر من ذلك.. وفي هذا بيانٌ أنَّ أيَّ إفكٍ يُخيف الناس يَسقط دائما سريعا أمام الحقّ بقُدْرة الله تعالي القادر علي كل شيء، وأنه سبحانه هكذا دوْمَاً يُثَبِّت الصالحين الدعاة لله وللإسلام في كل مواقف حياتهم ما داموا دائمي التواصُل معه والتوكّل عليه
ومعني "فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿118﴾"، "فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴿119﴾" أيْ فحَدَثَ وظَهَرَ الحقّ للجميع أنَّ موسي ليس ساحراً بل رسول من ربّ العالمين بصدقٍ كما يقول وأنَّ ما يدعوهم إليه من إسلامٍ هو بالفِعْل الصدْق الذي يُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، وكان الدليل علي ذلك أمامهم جميعاً قاطِعَاً حاسِمَاً، وانتهي وزالَ ما كانوا يعملون من كذبٍ وخِداعٍ بواسطة سِحْرهم.. "فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴿119﴾" أيْ فهُزموا عند ذلك الوقت والمكان، أيْ فرعون ومَلَؤُه وقومه وسَحَرَتُه ومُؤَيِّدُوه، ورَجعوا ذليلين مُنْكَسِرين مُنْهَزِمين أمام ظهور الحقّ.. وهكذا الحقّ دائماً ينتصر وأهله ينتصرون، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه تعالي مناسباً مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم وللكوْن كله، حينما يُحسنون اتّخاذ أسباب النصر بكل ما استطاعوا
ومعني "وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿120﴾"، "قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿121﴾"، "رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿122﴾" أيْ وأُسْقِطَ السَّحَرَة ساجدين سريعاً لله تعالي علي جباههم بلا أيِّ تَرَدُّدٍ لأنهم علموا أنَّ مَا حَدَثَ ليس سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك، ولفظ "أُلْقِيَ" يُفيد كأنَّ أحداً قد ألقاهم وهو الحقّ المُبْهِر الذي حَدَثَ أمامهم والذي أيقظ إيمانهم الفِطْريّ بعقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) بأنْ أزالَ الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهكذا سيكون حال كل مَن ابتعد عن الله والإسلام إذا أزاحَ هذه الأغشية بأنْ أحسنَ استخدام عقله وعادَ لنداء الفطرة بداخله فإنه لابُدَّ أن يهتدي لربه ولدينه وأن يسعد بذلك تمام السعادة في الداريْن.. لقد سَجَدوا قائلين آمَنّا أيْ صَدَّقنا بربّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، وقولهم هذا يعني أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه هو أيضا أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه.. ثم قالوا بعدها واصِفِين مُحَدِّدِين إيَّاه بأنه هو ربّ موسي وهارون كمزيدٍ من التوضيح والتأكيد علي إيمانهم بالله تعالي حتي لا يَتَوَهَّم فرعون أو غيره أنهم يؤمنون به أو هم قد سجدوا له حيث هو يعتبر نفسه ربّ العالمين!!
ومعني "قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿123﴾" أيْ حينها اشْتَدّ غضب وغَيْظ الطاغية المُسْتَبِدّ فرعون حيث ظهرت هزيمته التامّة أمام الناس الذين يَتَوَهَّمون أنه ربهم وكان يَخدعهم دائما بذلك فانكشف أمره وضعفه بل وذِلّته، فأراد أن يُعَوِّض هذا النقص الذي أصابه بإلقاء التشكيكات والتهديدات!! لقد أصابه الخوف علي مُلْكِه، إذ كيف يؤمنون بربٍّ غيره ثم بعدها لا يعتبرونه مَلِكَاً عليهم ويُزيحونه ويأتون بغيره؟! لقد صُدِمَ بهذا صَدْمَة شديدة لأنه اعتاد أنَّ الجميع عبيدٌ له لا يتحرّكون ولا حتي يفكّرون إلا فيما يأمرهم ويأذن ويسمح لهم أن يتحرّكوا أو يفكّروا فيه!! إنَّ هذا هو دائما حال المُسْتَبِدِّين المُستكبرين، إنهم ما يزدادون بالآيات الواضحات إلا عناداً ومحاربة لله وللإسلام وللدعاة إليهما، من أجل الحفاظ علي مُلْكهم حتي لا يضيع لأنه لو أسلم الناس وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لن يستطيع خداعهم ونهب خيراتهم وثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام يُعَلّمهم حفظ حقوقهم والآخرين والدفاع عنها وحُسن اختيار رؤسائهم وأن يكون أمرهم شوري بينهم دائما في كل شئون حياتهم لا بأمر واحدٍ فقط هو حاكم عليهم بالقوة يَظلمهم ويذلّهم ويَسرقهم.. لقد قال لهم رافضاً فِعْلهم ذامَّاً مُهَدِّدَاً هل آمنتم أيْ صَدَّقتم به أيْ بالله وبموسي وبما جاء به من إسلامٍ قبل أن أعطيكم الإذن بذلك؟!.. ".. إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا.." أيْ إنَّ هذا الفِعْل الذي فعلتموه هو بالتأكيد تدبير دَبَّرْتُمُوه مع موسي وأنتم لا زلتم في المدينة قبل أن تأتوا للساحة التي أقيم فيها هذا المشهد وليس لقوة دليله حيث اتفقتم مُسبقاً علي أن تنهزموا أمامه وينتصر هو فتَتّبعوه ثم يتّبعكم الناس وهدفكم الأخير السَّيِّء هو أن تخرجوا أهل البلد منها لتنفردوا بخيراتها أنتم وموسي وأهله بني إسرائيل، وهو يعلم تماما أنهم لم يَروا موسي من قبل إلا في هذا الموقف وأنهم بذلوا أقصي جهدهم حتي انهزموا وتَبَيَّن لهم الحقّ فاتّبعوه بما يدلّ علي شدّة كذبه ولكنّه يهدف من هذا القول تشكيك الناس في أنَّ إيمان السحرة ليس عن قوة دليل موسي وإنما عن مُؤَامَرَة معه حتي لا يؤمنوا هم أيضا إضافة إلي تخويفهم أنه والمؤمنين معه يهدفون إلى إخراجهم من أوطانهم وبالتالي فعليهم أن يتمسّكوا بشدّة بدينهم والذي هو عبادة فرعون وأن يُعادوهم ويَمنعوهم من نشر إسلامهم الذي سيكون ضَرَرَاً عليهم بإخراجهم وتَرْك ممتلكاتهم، وهذه دائما هي وسيلة المُسْتَبِدِّين حينما يرون وَعْي الناس يزداد وقد يتمسّكون ويعملون بأخلاق إسلامهم ويطالبون بحقوقهم يبدأون في خداعهم وتصوير أنَّ ما يحدث من ظهور الحقّ وانتشاره ما هو إلا مؤامرة عليهم، وليس علي المُستبدين، فهُم من أنْزَه الناس الزاهدين في المُلْك ولا يريدون إلا مصلحتهم وخدمتهم وحفظ استقرارهم واستقلالهم وممتلكاتهم!! وأيّ استقرارٍ واستقلال وأملاك يقصدونها مع كل هذا الاستعباد والذلّ والفقر الذي أوجدوهم فيه بسبب سوء حُكْمهم واستبدادهم وظلمهم؟! إنه أسلوب خبيث لمَنْعهم من اتّباع الإسلام وعليهم أن ينتبهوا له.. لكنَّ البعض مِن شدّة خوفهم ومن طول اعتيادهم وتربيتهم علي الذلّة يُصَدِّقون ذلك! بل والبعض من أصحاب المصالح الفاسدة المُقَرَّبين للمُستبدين الخائفين أيضا علي مصالحهم يُهَلّلون لهم ويساعدونهم ويشكرونهم!!.. ".. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿123﴾" أيْ فسوف تَرَوْن ما سأفعل بكم نتيجة لِمَا فَعَلْتم من سوء.. فهو كعادة الجَبَابِرَة يُهَدِّدهم بعذابٍ شديدٍ مُتَنَوِّعٍ سيُوقعه عليهم لمُخالَفتهم إيّاه
ومعني "لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿124﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما هَدَّدَهم بأنْ يُريهم إيّاه.. أيْ بالتأكيد سأُقَطّع أيديكم وأرجلكم أيها السحرة من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن أيْ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو اليد اليسرى والرجل اليمنى ثم لأعلّقنَّكم جميعاً أي كل واحدٍ منكم فلا أترك أيَّ أحدٍ على أخشابٍ علي شكل صليبٍ وأنتم علي هذه الحالة الفظيعة سواء كنتم أحياءً حتي تموتوا أو بعد موتكم لتكونوا عِبْرَة لمَن تُحَدِّثه نفسه بالكَيْد لنا أو بالخروج على حُكْمِنا وعبادتنا والإيمان بربّ موسي وهارون، بما يدلّ علي شدّة ظلمه وتَكَبُّره وقسوته مع أبرياء مثلهم لم يرتكبوا أيّ جريمة إلا إيمانهم بربهم خالقهم.. هذا، وعند بعض العلماء أنّ الله تعالي قد نَجّاهم منه بزرع الرَّهْبة في داخله وانشغاله عنهم وذلك لقوله تعالي في آية أخري ".. فَلَاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" ﴿القصص:35﴾
ومعني " قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿125﴾" أيْ فنَطَقَت فطرة العقل، فطرة الإيمان بداخل هذا العقل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لمَّا رأيَ السحرة الحقّ واستفاقوا، فأحسنوا استخدام عقولهم، قالوا كأفضل مؤمنٍ ثابتٍ يقف في وجه الباطل والظلم ما استطاع ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كَتَبَ الله له، وأنّ الأمر في سبيل الله، وله أجره العظيم علي إحدي الحُسْنَيَيْن، إمّا النصر وإمّا الشهادة، قالوا لفرعون ومَن حوله إنا إلي ربنا راجعون، إلي نعيمه وجنته ورحمته التامّة أفضل من إذلالك وظلمك.. إنهم بذلك يُعْلِنون أنهم مُستعدّون لكل شيءٍ ولا يخافون الموت لأنه استشهاد في سبيل الله ولا يخافون فرعون وما يصدر عنه بل يستهينون به، وذلك لأنهم يطمعون في تحصيل ما عند ربهم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾" أيْ وأنت لا تكره مِنّا وتعِيب علينا شيئاً سَيِّئاً تعتبره أنت نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومصيبة لك؟! إنك لا تعيب علينا وترفض مِنَّا إلا خيراً عظيماً بل وتنتقم مِنّا بسببه! إلاّ أنْ آمَنّا أيْ صَدَّقنا بآيات ربنا – أيْ مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لمَّا وَصَلَت إلينا مع رسوله الكريم موسي، وهي المُعجزات التي رأوها حَدَثَت أمام الجميع علي يده وأكّدَت صِدْقه والتي من المُفْتَرَضِ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُؤمن بها ويَعمل بأخلاق الإسلام التي يُدْعَيَ إليها ليسعد في الداريْن.. إنَّ ما تعتبره ذَمَّاً لنا وعَيْبَاً فينا ومُسْتَحِقّاً لكراهيتك لنا هو علي العكس تماما فخر لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. وفي هذا تذكيرٌ له بخطئه لعلّه يستفيق ويُصَحِّحه.. ".. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.." أيْ بعد حديثهم له تَوَجَّهُوا لله تعالي بالدعاء ليُؤَيِّدهم قائلين يا ربنا أَفِضْ واصْبُبْ علينا صبراً كثيراً غزيراً تامَّاً يَعُمّنا ويُحيطنا ويَملأنا تماماً ثقة بنصرك وصُمُودَاً وتَحَمُّلاً للشدائد.. ".. وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن نكون مسلمين علي دين الإسلام لا علي أيِّ دينٍ آخرٍ عندما تتوفّانا وتَقْبِض أرواحنا وتنهي آجالنا في دنيانا، أيْ مُسْتَسْلِمين لوَصَايَاك وتشريعاتك أيْ مُتمسّكين عامِلين بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتنا ثابتين دائما عليها مُخْلِصين مُحْسِنين أثناء ذلك، والمقصود ضِمْنَاً طَلَبَ الاستمرار عليها دون أيّ تراجعٍ حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴿127﴾" أيْ وبعدما حَدَثَ من نصرٍ ساحِقٍ للحقّ، للصدق والخير، لموسي وهارون وللإسلام بإسلام السَّحَرَة وكثيرٍ مِمَّن كانوا حاضرين، وهزيمة ساحِقَة مُذِلّة للباطل، للكذب وللشّرّ، لفرعون ومُؤَيِّديه، قال الملأ من قوم فرعون أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حول فرعون – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا قاصِدِين تحريض فرعون والجميع علي موسي للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحهم ومناصبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا، أتَذَر أيْ هل تترك موسي وقومه من بني إسرائيل الذين آمنوا معه بالله واتّبعوا الإسلام ليُفسدوا في الأرض التي تحكمها من خلال تغيير دين أهلها ليعبدوا الله وحده ويعملوا بأخلاق دينه الإسلام ويَذَرَك وآلهتك أيْ ويترك عبادتك وعبادة آلهتك فيَظْهَر لهم ضعفك وضعفهم فيضعف بالتالي مُلْكك وتفقده وينتقل إليهم؟ حيث كان قد صَنَعَ للناس أصناماً صغاراً وجعلها آلهة منه لهم وأمرهم بعبادتها تَقَرُّبَاً إليه وسَمَّيَ نفسه هو الربّ الأعلى لها ولهم!!.. وكان أحيانا يَتّخِذ بعض الكواكب آلهة له يعبدها هو وبعضهم.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح فاسداً مُفْسِدَاً!!.. ".. قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ.." أيْ قال فرعون الطاغِيَة المُسْتَبِدّ الظالِم مُطَمْئِنَاً لهم أنه سيَتّخِذ من الإجراءات ما يَحمي به مُلْكه ومصالحهم والتي هي إجراءات قَمْعِيَّة لاإنسانِيَّة يَفعلها غالباً كلّ طاغية لحماية سلطانه وما يَنْهَبه بغير حقّ خاصة عند شعوره بضعف حُكْمه واهتزازه، سنقتل أبناءهم كلّما أنْجَبوا لإضعاف قوّتهم فلا يُطالِبون بحقوقهم ويَثورون علينا ونَسْتَحِيي نساءهم أيْ نُبْقيهنَّ أحياءً للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندنا.. هذا، ولم يَقُل سنَقْتُل موسى لعِلْمه أنه لا يَقْدِر عليه بل كان يخافه خوفاً شديداً بعدما رأيَ معجزة انقلاب العَصَيَ لثعبانٍ قد يهلكه إذا سَلّطه عليه.. ".. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴿127﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي قُدْرته على ذلك وإذلاله لهم ومزيدٌ من الطمْأَنَة للملأ حوله الذين خافوا علي مصالحهم بعدما حَدَث.. أيْ ونحن أعلي منهم غالِبون مُذِلّون لهم مُسيطرون عليهم بحُكْم المُلْك والسلطان نستطيع استئصال من نريد وإبقاء من نريد مَذْلُولِين مَقْهُورِين كما كنّا ما تغير شيءٌ من حالنا فهم الضعفاء الأذِلّاء ونحن الأقوياء الأعزاء فلا خروج لهم عن حُكْمِنا ولا قُدْرَة لهم علي ذلك
ومعني "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿128﴾" أيْ حينها يُوصِي الرسول الكريم موسي ﷺ قومه بني إسرائيل الذين آمنوا معه بأفضل علاجٍ في مِثْل هذه المواقف وغيرها والذي ليس له بديل والذي علي كل مسلم أن يعمل به دائما مع مزيدٍ منه إذا حَدَثَ له ما يُسِيء ويُخيف، يُوصِيهم بالاستعانة بالله وبالصبر.. أي قال موسي لقومه مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً اطلبوا عوْن الله وتأييده بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبه والتوكّل أي الاعتماد عليه في كل شئونكم فهو سيُعينكم حتماً إمّا مباشرة بتقويتكم وإمّا بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه القادر علي كلّ شيءٍ العالِم به.. ".. وَاصْبِرُوا.." أيْ وكونوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد يصيبكم أحيانا من أذي مِمَّن تدعوهم، وكونوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وإنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ﴿ برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.." أيْ فإنَّ هذه الأرض كلها مِلْكٌ لله وحده خالِقها لا لفرعون ومَلَئِهِ أو غيرهم وهو تعالي يُعطيها ويُمَلّكها لمَن يشاء مِن خَلْقِه كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، علي حسب حِكْمته وعِلْمه وإرادته بما يُصْلِح الناس ويُسعدهم، وسيُوَرِّثها لكم حتماً وسيُنْهِي سُلطان الظالمين إنْ استعنتم به وصَبَرْتم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسباً مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم.. ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿128﴾" أيْ وبكل تأكيد فالعاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً للمتّقين أي للذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿129﴾" أيْ قال بنو إسرائيل لموسي ﷺ مُسْتَشْعِرِين الحُزْن والضعف وبعض التّمَلْمُل البَشَرِيّ والاسْتِبْطَاء لتَحَقّق الوعد لهم بالنصر والتمكين مُشْتَكِين له ليدعو الله لهم ليُقَوِّيهم وليُنَجِّيهم وليَنْصرهم، لأنهم كانوا حديثي عهدٍ بالتّعامُل مع الله وعوْنه ونصره وتَوَهَمُّوا أنَّ وعود موسي ستتحقّق علي الفور وليس في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُحَقّقاً أفضل وأسعد نتائج لهم ولمَن حولهم، قالوا لقد آذانا فرعون سابقا باسْتِعْبادنا وتَسْخِيرنا في خدمته وبقتل أبنائنا واستحياء نسائنا من قبل أن تحضر إلينا كرسولٍ من الله بالإسلام حيث نجَّاك من محاولة قتله لك وأنت مولود بمعجزةٍ منه وأصبحتَ رسوله وكذلك الآن من بعد ما جئتنا يُحاول إعادة الأمر مرة أخري بإذلالنا وقتلنا كما فَعَلَ بنا ذلك الوقت، فقال ﷺ مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً مُذَكّرَاً بطَلَب عوْن الله وتأييده بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبّه والتوكّل أي الاعتماد عليه في كل شئونهم فهو سيُعينهم حتماً لعل ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أنْ يُبيد عدوكم الذي يُعاديكم ويُؤذيكم ويَمنعكم من عبادته وحده واتّباع أخلاق دينه الإسلام ويَستخلفكم في الأرض بعد إبادته أيْ ويجعلكم خُلَفَاء له عليها لتَتَصَرَّفوا فيها وتُديروها بإحسانٍ فتنتفعوا وتسعدوا أنتم وغيركم بكل خيراتها، كما فَعَل مع السابقين الصالحين، ويجعل الإسلام الذي اختار هو نظامه للبَشَر ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم مُتَمَكّنَاً في الأرض أيْ ثابِتَاً قوياً مُنْتَشِرَاً ذا مَكَانَة وعِزَّة ورِفْعَة وتتمكّنوا أنتم وجميع الناس من فهمه وتَدَبُّره والعمل بكل أخلاقه لتسعدوا بذلك في الداريْن ويمنع عنكم أيّ خوفٍ بل ويُبْدَله لكم أمناً واستقراراً تامّيْن دائمَيْن دون أيّ ذرّة قَلَقٍ أو تَوَتّر أو اضطراب بحيث يمكنكم عبادة الله وحده بكل يُسْرٍ وأمان.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿129﴾" أيْ فيَرَىَ ما تعملون من خيرٍ أو شرٍّ في كل أقوالكم وأفعالكم، هل ستُحْسِنون فيها فيُحْسِن إليكم بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم أم تُسِيئون فيُجازيكم بما يناسب إساءاتكم بكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟ وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ لهم علي استشعار مراقبة الله تعالي علي الدوام فيَدفعهم هذا لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كما أنه تحذيرٌ وتنبيهٌ شديدٌ ألاّ يفعلوا مثل فرعون ومَلَئِه وأشباههم من كفرٍ وظلمٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار حتي لا يكون مصيرهم مثلهم فيتعسوا تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿130﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض أنواع العذاب الذي عَذّب الله به آل فرعون بسبب ظلمهم وفِعْلهم للسوء ليكون عِبْرَة لكل مَن أراد الاعتبار فلا يَفعل مِثْلهم مطلقاً حتي لا يكون مصيره مثل مصيرهم فيتعس تعاساتهم في الداريْن.. أيْ ولقد عاقبنا قوم فرعون وهو معهم بجَدْبِ وقَحْطِ وشدّة السنين أيْ بجفافٍ من الماء لفتراتٍ وبيُبْسٍ للأرض فلا تُخْرِج زرعاً وبنقصٍ من الثمار والحبوب لنباتاتها حيث أصابتها الآفات وبضيقٍ وآلمٍ ومرضٍ وفقرٍ وجوعٍ وتعاسةٍ في المَعيشة عموماً في كل شئون حياتهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿130﴾" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَذكّروا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان العاقل حتماً يُرَاجِع ذاته ويُصَحِّحها كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتذكّروا، لكي يتذكّروا ولا ينسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه دائماً ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك دوْمَاً مُتَذَكّرين لربهم بلا أيِّ نسيانٍ عابدين له وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿131﴾" أيْ فإذا وصلت إليهم من فضل الله وكرمه الحالة الحسنة التي يستحسنونها ممثلة في السلامة والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذريات والماليات والممتلكات وما شابه هذا، وكثيرا ما تكون هذه الحالة الحسنة، فبَدَلَ اتّعاظهم بالأحداث التي تَحْدُث حولهم من اختبارات الله تعالي لهم بالضَّرَّاء أحيانا أيْ بما يَضُرّ – كما في الآية السابقة – وبالسَّرَّاء أيْ بما يَسُرّ أحيانا أخري والتي تدعو كل عاقلٍ للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو خطأ وتَرْكه والشكر لله لِمَا هو صواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادته في دنياه وأخراه إذا بهم لم يستفيدوا لا بهذا ولا بذاك أيْ لم يَتذكروا ويتعظوا بالضَّرَّاء فيعودوا لربهم ولإسلامهم ولم يشكروا بالسَّرَّاء بل قالوا بكل جهلٍ وغَفْلةٍ وإنكارٍ لنِعَم الله ونسيانٍ له ولها وإغلاقٍ لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لنا هذه أيْ هذه الحالة الحسنة حق لنا ونستحقها بالتأكيد ونحن مستحقون تماما لها لما لنا من امتيازٍ على الناس بسبب علمنا وفكرنا وتخطيطنا وجهدنا وعملنا ناسين فضل الله عليهم وتيسيره لأسباب ذلك حولهم وكان من المُمكن منعها عنهم غافلين عن شكره على نِعَمه التي لا تُحْصَيَ فيُؤمنون به ويعملون بإسلامه ليزيدهم نِعَمَاً علي نِعَم.. ".. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.." أيْ وهذا مزيدٌ من البيان – كما في الآية السابقة ﴿130﴾ – لعدم تَذَكّرهم واتّعاظهم بالضَّرَّاء فيعودوا لربهم ولإسلامهم حيث الشدائد جعلتهم ينسبون أسبابها إلى غيرهم بَدَلَ أن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم رغم أنه من المُفْتَرَض أنَّ الشدّة تَجعل الإنسان العاقل حتماً يُرَاجِع ذاته ويُصَحِّحها كما يُثْبِت الواقع ذلك.. أيْ وإنْ حَدَث كاستثناءٍ للحالة الحسنة والتي هي أغلب أحوالهم، وأصابتهم سيئة مَا، أيْ حَدَث لهم شَرٌّ مَا، يتشاءموا بموسي وبمَن معه من المؤمنين وبوجودهم بينهم وبما يدعونهم إليه من عبادة الله تعالي وحده واتّباع أخلاق الإسلام ويعتبروا أنهم هم سبب ومصدر كل شُؤْم أيْ شرٍّ وتعاسة لهم وكلما رأوهم تَوَقّعوا نزول شرٍّ مَا بهم ولو لم يكونوا معهم لَمَا كان أصابهم مَا أصابهم!! فهم يُغْلِقون عقولهم عن أنَّ ظلمهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار هو الذي أدَّىَ بهم إلى ما نالهم لأنّ مَن يزرع سوءا لابُدَّ أن يحصد سوءاً في دنياه وأخراه كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾.. إنهم أيضا يَتَوَهَّمون أنهم بذلك يُشَكّكون الناس في الإسلام ورسوله الكريم موسي ﷺ فلا يَتّبعه أحدٌ أو يَتّبعونه بتَشَكّكٍ وتَذَبْذبٍ!.. ".. أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ ليس الأمر كما تَصَرَّفوا من تَشَاؤمٍ من موسي والمسلمين لكنَّ تشاؤمهم مكتوب عند الله في علمه أنهم سيفعلون الشرّ وسيجدون في مقابله حتماً شرَّا، فحسبما يزرعون يحصدون، فليس موسي ﷺ والمسلمون السبب.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿131﴾" أيْ ولكنَّ كثيراً مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون هذا ولذلك فَعَلُوا ما فَعَلُوا، أيْ لا يعقلون، أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله ﷺ والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾" أيْ وقالوا لموسي ﷺ مهما تُحْضِر لنا من أيِّ دلالَة ومُعجزة تدلّ علي صِدْقك أنك رسولٌ من ربك مُؤَيَّد منه وعلي صِدْق ما تُبِلّغنا به، سواء تَحَوُّل عصاك عند إلقائها إلي ثعبانٍ أو إخراج يدك من جيبك بيضاء كأنَّ لها ضياء أو أيِّ آيةٍ غير ذلك من أجل أن تسحرنا بها أىْ تَلْفِتَنا وتُبْعِدنا بها عمَّا نحن فيه فمَا نحن لك بمُصَدِّقين ولا للإسلام بمُتّبِعِين.. إنهم يعتبرون مُسبقاً أنَّ أيَّ آيةٍ مهما عَظُمَت فهي بالنسبة لهم سِحْر ووَهْم كما يُوهِم السَحَرَة بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم وبالتالي فلن تُؤَثّر فيهم بأيِّ هداية لأيِّ خير!! فهم لن يؤمنوا بأيِّ آيةٍ ولا به ولا بربّه ولا بدينه!! رغم علمهم أنَّ مَا يأتي به من آياتٍ ليست سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك ورغم أنهم قد رأوا أمامهم أمهر السحرة يسجدون له مؤمنين!!.. إنَّ هذا يدلّ تماما علي وصولهم لأقْصَيَ درجات غَلْق العقول والإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والاستمرار في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿133﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة مع كل هذا الإصرار علي الشرِّ بلا أيِّ بادِرَةِ خيرٍ منهم ليُعينهم الله عليها ويزيدها لهم أن أصابهم تعالي بمزيدٍ من العقاب لعلهم يستفيقون حيث الغَفْلَة العميقة تحتاج لإيقاظٍ أشدّ، ولم يستطع حينها فرعون مُدَّعِي أنه ربهم الأعلي أيّ إنقاذٍ لهم!!.. أيْ فبعثنا عليهم الطوفان وهو ما يَطوف بالشيء بصورةٍ شديدة والمقصود الماء الغزير المُهْلِك الذي خرج من الأرض ونزل من السماء وغمَرهم من كل مكانٍ فأضَرَّهم وآذاهم في نفوسهم ومساكنهم وزروعهم ودَوَابِّهم وتجاراتهم وممتلكاتهم، كما يُقْصَد بالطوفان أيضا الأمراض والأوْبِئَة العامة ونحوها.. وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأعشابهم وتَرَكَ أرضهم لا شيء فيها.. والقمل وهو النوع المعروف من الحشرات المؤذية التي تؤذي شعر الرأس والجسد وهو أيضا السُّوس الذي يأكل حبوبهم.. والضفادع التي آذتهم إيذاءً شديداً حيث مَلَأَت أنهارهم وصَعَدَت لكلّ مكانٍ في أرضهم وانتشرت داخل بيوتهم وأزعجتهم في معاشهم وكل أعمالهم وضايقتهم بأصواتها وحركاتها أثناء نومهم.. والدم أيْ أصبناهم ببعض أمراض الدم كالنزيف ونحوه أو أصبح ماء أنهارهم دَمَاً بموت كائناتٍ فيه فأصبحوا يشربون الدم ويستخدمونه لأغراضهم بَدَلَ الماء.. ".. آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ.." أيْ لقد كانت هذه دلالات ومُعْجِزات واضحات أصبناهم بها تدلّ علي صِدْق رسولنا الكريم موسي أنه رسولٌ من عندنا مُؤَيَّد مِنّا وعلي صِدْق ما يُبَلّغهم به من عبادتنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ ومن العمل بكل أخلاق إسلامنا ولا تلتبس على أيِّ عاقلٍ أنها بعض آياتنا حيث لا يَقْدِر عليها غيرنا وليست سِحْرَاً كما يَدّعون وهي بسبب غضبنا عليهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يزيلها عنهم إلا نحن بقُدْرتنا حينما يعودون لعبادتنا ولدينهم الإسلام.. هذا، ومن معاني مُفَصَّلات أيْ مُنْفَصِلات قد فُصِلَ بينها في أوقات حدوثها ولم تَحْدُث كلها في وقتٍ واحدٍ ليكون بين كلّ آيةٍ والأخري زمن لتَرْك فرصة لهم لعلهم يعودون للخير.. ".. فَاسْتَكْبَرُوا.." أيْ رغم كل هذه الآيات المُفَصَّلات تَرَفّعوا فاسْتَعْلُوا عن التصديق بها وتعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا ويؤمنوا ويعملوا بالإسلام بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿133﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي استكبارهم.. أيْ وأجْرَمُوا لأنهم استكبروا ولم يؤمنوا بهذه الآيات المُفَصَّلات.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن تأتيهم هذه الآيات قوما مجرمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يستكبروا ولا يؤمنوا بها ويَتَعَالوا ويَتَطاوَلوا علي الله ورسله وآياته وتشريعاته، فهم مُصِرُّون تماماً علي إجرامهم، والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿134﴾" أيْ وكلما حقَّ ووَجَبَ ونَزَلَ عليهم من عند الله الرِّجْز أي المُسْتَقْذَر أيْ الشّرّ والعذاب الدنيويّ السابق ذِكْره قالوا بتَذَلُّلٍ واستعطافٍ لشدّة تأثيره فيهم وتألّمهم به يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحقِّ ما أوْحَىَ به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة وبسبب ما وعدك به من استجابة الدعاء وبما علّمك وأودع عندك من الأسرار وبسبب عهده عندك وهو النبوة والكرامة أيْ أنك رسوله يستجيب لدعائك ويؤيدك ويُكرمك، أن يَرْفَع عنّا هذا العذاب الشديد.. وهذا اعترافٌ ضِمْنِيٌّ منهم بصِدْق موسي ﷺ وبأنَّ فرعون ليس ربهم الأعلي كما يَدَّعِي لأنهم لو كانوا متأكّدين من ذلك للَجَأوا إليه ليُنقذهم لا إلي موسي الذي لا يُصَدِّقونه ويُعادونه!.. ".. لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿134﴾" أيْ نَعِدُك ونُؤَكّد لك أنه إذا أزَلْتَ عنّا العذاب سنُؤمن بالتأكيد لك أيْ نُصَدِّق بك ونُسْلِم وسنَبْعَث معك بني إسرائيل استجابة لطَلَبك ليكونوا أحراراً من تسخيرنا لهم ليَخرجوا معك من بلدنا إلي حيث تريدون بلا أيِّ اعتراضٍ أو مَنْع
ومعني "فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴿135﴾"، "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿136﴾" أيْ لكنهم كاذبون، لا قَصْدَ لهم إلاّ زوال ما حَلَّ بهم من العذاب ولا يقصدون أن يؤمنوا، فلمّا أزَلْنَا عنهم العذاب إلي وقتٍ مُحَدَّدٍ هم واصِلون إليه بالتأكيد وهو الوقت الذي أُجِّلَ لهم أي الوقت الذي حَدَّدناه للعذاب التالي والذي هو الآية التالية من الآيات المُفَصَّلات التي سَبَقَ ذِكْرها كالطوفان ثم الجراد ثم القُمَّل وما بعدها من آياتٍ وذلك إذا لم يستجيبوا ويُسلموا بعد العذاب الأول لكي نترك لهم فُرْصَة من رحمتنا ليعودوا للخير بتنفيذ وعدهم وهو أيضا الوقت الذي حَدَّدُوه هم لموسي بعد أول عذابٍ لكي يؤمنوا إذا رُفِعَ عنهم ويُطلقوا بني إسرائيل أحرارا لا يسخرونهم لخدمتهم ويرسلوهم معه حيث شاءوا فإنهم لا يستمرّون حتي لنهاية هذا الوقت المُحَدَّد أيْ لا يستمرّون علي وعدهم يُفَكّرون ويَتَمَهَّلُون ويحاولون تنفيذه بل بمجرّد إزالة العذاب ينكثون أيْ يَنقضون عهدهم فلا يُوفون لموسي بشيءٍ فلا يُسلمون ولا يطلقون بني إسرائيل أحرارا!! فنُصيبهم بالعذاب التالي ليستفيقوا فيطلبون دعاء موسي فنكشفه عنهم وبمجرّد كشفه لا يوفون بعهدهم له بالإسلام وإطلاق بني إسرائيل، وهكذا، ولفتراتٍ طويلة، بما يدلّ علي شدّة كذبهم في وعدهم وإصرارهم التامّ علي إخلافه والاستمرار علي ما هم فيه من كفرٍ ومُرَاوَغَة، وبالتالي اسْتَحَقّوا هذا العذاب الحاسم المُهْلِك بعد طولِ دعوةٍ لهم وصبرٍ عليهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ وهو "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿136﴾" أيْ فكذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أن انتقمنا منهم حين بَلَغُوا الأجل المُحَدَّد لإهلاكهم أيْ فعاقبناهم وعذّبناهم وأهلكناهم في الدنيا – قبل عذاب الآخرة – بأنْ أغرقناهم في البحر بسبب أنهم استمرّوا وأصَرُّوا علي أن كذّبوا بآياتنا أيْ لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسولنا الكريم موسي وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا والتي منها التوراة التي أوحيناها إليه – وآخرها القرآن الكريم – تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿136﴾" أيْ وبسبب أنهم كانوا عنها مُنْشَغِلِين تائهين غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِين أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴿137﴾" أيْ ومِن فضلنا وكَرَمنا ورحمتنا ووفائنا بوعودنا التي لا نُخْلفها مُطلقاً أعطينا ومَلّكْنَا وحَوَّلْنَا ما كان فيه فرعون وقومه مِن نِعَمٍ بعد إهلاكهم إلي غيرهم مِمَّن يستحِقّونها مِن العابدين لنا وحدنا بلا أيّ شريكٍ المتمسّكين بأخلاق إسلامهم ليتصرّفوا فيها بالخير كما يشاؤون كالميراث الخالص لهم كما يمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، أورثنا القوم الذي كانوا يُسْتَضْعَفون وهم بنو إسرائيل وهم المؤمنون المُستضعفون المَظلومون الذين أذَلّهم فرعون وأعوانه بمصر التي يحكمها وأذاقهم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والمَهَانَة ونحوها والعذاب الجسديّ باستخدامهم عبيدا مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل وَصَلَ به التّعَاِلِي والتّعَدِّي والفجور أنه كان يذبح أبناءهم لإضعاف قوّتهم فلا يطالبون بحقوقهم ويستحيي نساءهم أي يُبقيهنّ أحياء للخدمة وليكنّ جواريِ عنده، أورثناهم مشارق الأرض ومغاربها – حيث بدوران الأرض وبحركة الشمس فإنها تُشرق في مكانٍ ثم آخر فلها إذَن مَشارق كثيرة يوميا وتَغْرُب في المقابِل في مَغارِب كثيرة – والمقصود أورثناهم المساحات الواسعة منها شرقاً وغرباً كمصر والشام وغيرهما والتي باركنا فيها أي أنزلنا عليها البركة وهي النموّ والزيادة في كل أنواع الخير النافع المُسْعِد بكل مجالات الحياة المختلفة في الأوقات والأرزاق والقُوَّات والسعادات.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ ولا يَتَشَبَّه بالكافرين الظالمين الفاسدين حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه بل يتشبه بالمؤمنين الصالحين ليسعد مثل سعاداتهم فيهما.. ".. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.." أيْ ولقد وَفّتْ ونَفَذَت كلمة ربك أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – ومَضَتْ وحَدَثَتْ واكْتَمَلَتْ علي بني إسرائيل تامّة كاملة وهذه الكلمة هي وَعْده لهم بالنصر والتمكين التامّ الكامل في الأرض حيث جعلهم أئمة أيْ قادة أعِزَّة سادة مُلوكاً يقودون مَن حولهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وجعلهم يرثون أملاك الظالمين وينتفعون ويسعدون هم ومَن حولهم بها، ومَكَّنَ لهم أيْ جعل لهم مَكانا ومُلكا ومَكَانَة ونفوذا وسلطانا يديرون به أرضا يعيشون عليها، يديرونها بشرع الله، أي بنظام الإسلام وبأخلاقياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿60﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها﴾، فينشرون كلّ خيرٍ وحقّ وعدل وسعادة لكل الأرض.. وكل ذلك ما داموا مُستمرّين علي الإيمان بربهم والتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم، فإن ابتعدوا عنهما فلا شيء لهم من ذلك قطعا بل سيتعسون وسيهلكون في الداريْن تماما كأيّ ظالمٍ مُفْسِد!.. وكذلك هو حال كل الصالحين الصابرين حتما إذ يُمَكّن لهم وينعمون في أرض الله ويسعدون بخيراتها ما داموا مستمرّين علي ارتباطهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، ومعني ".. الْحُسْنَى.." أيْ وصِفَة كلمة ربك أنها الحُسْنَىَ أيْ علي أحسن الأحوال وأسعدها لأنَّ فيها كل النصر والعِزّة والكرامة والرِفْعَة والسعادة لهم حيث هي قد أوْصَلتهم إلي أحسن أحوالهم وأبْرَكها وأعظمها سعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. بِمَا صَبَرُوا.." أيْ بسبب صَبْرهم، حيث كانوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد أصابهم من أذَيَ وظلم فرعون وقومه، وكانوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وكانوا إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ﴿ برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴿137﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأبَدْنَا وأهْلَكنا ما كان يعمل فرعون وقومه من مصانع ومتاجر وغيرها وما كانوا يعرشون أيْ يُنْشِئون من بساتين ذات نباتات بعضها مَرْفوعات علي ما يَحملها ويَرْفعها عن الأرض كالعَرْش، وكذلك يعرشون بمعني ما كانوا يَبْنُون من قصور ومَبَانٍ وقِلاعٍ وهياكل ونحوها
ومعني "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴿138﴾" أيْ واجْتَزْنَا وتَخَطّيْنا وعَبَرْنَا بفضلنا وكرمنا ورحمتنا وقُدْرتنا ببني إسرائيل البحر بعد أن حَرَّرْناهم ونَجَّيْناهم من ظلم فرعون وأغرقناه بمُعجزتنا هو وجنوده فيه فمَرُّوا علي قومٍ يُقيمون مُلازِمِين مُداوِمِين مُواظِبين عند تماثيل ينحتونها بأيديهم من أحجارٍ أو غيرها ويتّخذونها آلهة يعبدونها أيْ يطيعونها غير الله تعالي!!.. ".. قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ.." أيْ فلما شاهدوهم قالوا بكل جَهْلٍ وسَفَهٍ وعدم تَفَكُّرٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَمُّقٍ في الأمور يا موسي اجعل لنا مَعْبُودَاً نعبده أيْ نُطيعه يكون تمثالاً صَنَمَاً كما لهم معبودات أيْ تماثيل أصنام!!.. ".. قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴿138﴾" أيْ قال لهم موسي مُوَجِّهَاً مُوَضِّحَاً مُحَذّرَاً مُتَعَجِّبَاً رافِضَاً لائِمَاً لَوْمَاً شديداً إنكم قوم تجهلون أيْ لا تَعرفون ما يضرّكم وما ينفعكم، ولا تُدركون ما هو واضح وصدق وعدل وخير، لا تُحسنون استخدام عقولكم، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهماً جيداً فلا يَتدبّرون في الأمور، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ!.. إنكم قوم تجهلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله والعاقل لا يفعل ذلك.. تجهلون الإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بكل أخلاقه.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم.. إنكم كالجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ.. إنكم تطلبون عبادة غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه بَعْد كلّ الذي شاهدتموه بأعينكم من الآيات أي الدلالات المُعجزات الدالاّت على أنَّ الله تعالي واحد لا شريك له وعلي صِدْق ما جئتكم به من إسلامٍ وتريدون اتّباع غيره فتفقدون سعادتكم في دنياكم وأخراكم.. إنكم تجهلون كل ذلك وبكلّ ما يستحِقّه سبحانه من حبٍّ وطاعةٍ وتعظيمٍ وشكرٍ وتوكّلٍ واعتمادٍ عليه.. هذا، وَوَصْفهم بالجهل مناسب تماما لحالهم البائس في سَفَهِ وتَخْرِيفِ طَلَبِهم عبادة غير الله تعالي والذي لم يكن إلاّ بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يستخدموها في حُسْن العلم والبحث والتدبّر والاستجابة لِمَا في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم لو كانوا علي أقلّ قدْرٍ من العقل المُنْصِف العادِل ومن العلم ما طَلَبوا مثل هذا الطلَب السَّفِيه التافِه!!
ومعني "إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿139﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير لهم منهم والتنفير من التّشَبُّه بهم.. أيْ إنَّ هؤلاء الذين تَرَوْنَهم يعبدون الأصنام وغيرها وكلّ مَن لهم دين أيْ نظام غير الإسلام مُتَبَّر أيْ مُهْلَك مُدَمَّر ما هم فيه من هذا الدين الفاسد المُضِرّ المُتْعِس في الداريْن وباطل أيْ زائل تماما ما كانوا يعملون من عبادة الأصنام وغيرها، أيْ أنَّ الله تعالي سيُهْلِك كل دينٍ فاسدٍ وكل صَنَمٍ وسيُدَمِّره وسيَكشف سَفَهَه وسيُضْعِف تأثيره وسيَمحوه بنشر الإسلام علي يد المسلمين.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿140﴾" أيْ قال لهم موسي ﷺ هل أطلب لكم غير الله تعالي معبوداً والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره ربّ كل شيءٍ أيْ خالِقه ومَالِكه والمُتَصَرِّف فيه وراعِيه وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وكل شيءٍ هو مَخْلُوق ولذا فهو لا يَصلح مُطلقاً ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يكون إلاهَاً يُعْبَد فكيف نعبده أيْ نُطيعه ونَستعين به ونَتوكّل عليه ليُيَسِّر لنا كل شئون حياتنا وهو مخلوق ضعيف مثلنا ونترك عبادة الله الخالِق القادِر علي كل شيء؟!.. إنَّ المَعْبُود إذا كان مَخْلوقاً فإنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! هل يَملك أنْ يُعطي لمَن يَعبده هواءً وماءً وشمساً، أو حركة لأرضٍ ومَجَرَّات وجاذبية، أو تفاعلات كيميائية وفيزيائية لإنماء ما يُنْتَفَع به من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبَحْرِيَّاتٍ وغيرها، أو عقلاً وفكراً وجسداً وروحاً، ونحو ذلك مِمَّا لا يُمكن حصره من أساسات الحياة وأرزاقها المختلفة؟!.. كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! إنَّ الذين يفعلون ذلك قد عَطَلّوا عقولهم بالأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا إيقاظ للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُرَاوِغِين الذين لا يُسْلِمون ويعبدون مع الله تعالي آلهة أخري ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. والاستفهام والسؤال لأمثال هؤلاء هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿140﴾" أي وكيف أبْغِيكم إلاَهَاً غير الله والحال والواقع أنه فَضَّلكم ومَيَّزَكم على كلّ الناس في زمنكم.. وذلك التفضيل بكثرة الأنبياء قَبْل موسي ﷺ منهم ولهم والكتب المنزَّلة عليهم معه ومعهم كالتوراة وما قبلها والتي تُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ثم يقومون هم بقيادة الآخرين ودعوتهم لهذا الخير فينالون مَكَانَتَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة، وكذلك تفضيله لهم بإهلاك عدوهم وإعزازهم بعد ذِلّتهم منه واختصاصهم بمعجزاتٍ مُتَمَيِّزاتٍ أيَّدَه بها تُعينهم علي الإيمان بربهم واتّباع شرعه الإسلام.. فمِن المُفْتَرَض بالتالي إذَن عند كل عقلٍ مُنْصِفٍ أن تُقابِلوا ذلك التفضيل بشكره تعالي بأنْ تتمسّكوا بعبادته وحده وتعملوا بأخلاق الإسلام ليزيدكم خيراً وسعادة، لا أن تعبدوا غيره كأصنامٍ وغيرها!
ومعني "وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿141﴾" أيْ هذا مزيدُ تذكيرٍ من الله تعالي بالنِّعَم علي بني إسرائيل وتفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أنقذناكم مِمَّا كنتم فيه من البلاء العظيم حيث استعبادكم من فرعون ملك مصر الظالم وأهله وأعوانه من أصحاب النفوذ والسلطان الذين كانوا يَسُومونكم أيْ يُذِيقُونكم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامكم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل كانوا يُذَبّحون أبناءكم لإضعاف قوّتكم فلا تُطالِبون بحقوقكم ويَسْتَحْيُون نساءكم أيْ يُبْقُونهنّ أحياء للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندهم..".. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿141﴾" أيْ وفي هذا العذاب اختبار لكم من ربكم وفي إنقاذكم منه عطاء وخير عظيم، يَتَطَلّب شكره تعالى بأنْ تتمسّكوا بعبادته وحده وتعملوا بأخلاق الإسلام ليزيدكم خيراً وسعادة، لا أن تعبدوا غيره كأصنامٍ وغيرها!.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا.. لقد ذَكّرهم بأنَّ شكر النعمة يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما كفرها، أيْ إنكارها، بل والكفر بالمُنْعِم سبحانه أيْ التكذيب بوجوده وعدم اتّباع شرعه الإسلام، لا بُدَّ حتما نتيجته عذاب شديد ، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليشكر ربه علي نِعَمِه وأفضاله التي لا تُحْصَيَ والتي منها النجاة من ظلم الظالمين والانتصار عليهم وإسعاد الخَلْق بإهلاكهم والخلاص منهم والأمان والاستقرار للنفس والأهل والأعراض والأموال وللمجتمع عامة
ومعني "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴿142﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ وأعطينا موسي رسولنا إليكم الوَعْد أن يأتي لمدة أربعين يوما عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمكم إيّاها لتكون إرشاداً لكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. لقد كانت مدّة هذه الدورة التدريبية التي واعَدَ فيها الله تعالي موسي ﷺ ثلاثين يوماً لكنْ لَمَّا ذاق حلاوة وسعادة هذه الأيام سأله سبحانه وهو الكريم الودود المُنْعِم زيادتها عشرة أيام أخري فاستجابَ لطَلَبه برحمته وفضله ووُدِّه فتمَّ ما وَقّتَه الله له لتكليمه ولتعليمه أربعين يوما، وذِكْر ذلك التفصيل هو لبيان الرحمات والمَحَبَّات والاستجابات بين الخالق والصالحين من خَلْقه.. ".. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴿142﴾" أيْ وقال موسي لأخيه هارون عند تَوَجُّهه للموعد مع الله تعالي مُوصِيَاً إيّاه حِرْصَاً وشَفَقة علي مصلحتهم وسعادتهم كُنْ نِعْمَ الخليفة لي في أهلي وأحبائي حتي أرجع وكن مُصْلِحَاً بينهم بأن تدعوهم لطاعة الله وعدم معصيته ولكل صلاحٍ أيْ لكل خيرٍ وعدلٍ وصدقٍ وسعادةٍ وبأنْ تُصْلِح كل ما يحتاج إلي إصلاحٍ من كل شئون حياتهم واحذر تماما أن تسير أو يسير أحدٌ في طريق المُفسدين ويُطيعهم ويَفعل مِثْلهم ولكن اجتهد في إصلاحهم بكل قدوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حسنة، والمُفسدون هم الذين يفعلون كل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿143﴾" أيْ ولمَّا حَضَرَ ووَصَلَ موسي للتوقيت الذي وَقّتْنَاه وحَدَّدْناه له عند جبل الطور بسيناء بمصر وكلّمه ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام – أيْ خاطبه مباشرة بلا واسِطَةِ مَلَك حيث أوْصاه بوصاياه في التوراة لتكون إرشاداً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، اشتاق أكثر لرؤية حبيبه خالقه تعالي بعد سماع كلامه، فقال ربّ أرِني ذاتك العَلِيَّة لكي أنظر إليك فأزداد شَرَفَاً وسعادة بعدما شرَّفتني وأكْرمتني وأسعدتني بسماع كلامك.. قال تعالي لموسي ﷺ مُسَلّيَاً مُكْرِمَاً له مُتَلَطّفَاً معه مُعَظّمَاً لأمر الرؤية لن تستطيع وتَتَحَمّل وتطيق رؤيتي فأنتم البَشَر لستم مُؤَهَّلِين بخِلْقتكم هذه التي خَلَقْتكم عليها لأنْ تروني أبداً في الدنيا – أمّا في الآخرة فرؤيته سبحانه ستكون من نِعَمه عليهم – ولتقتنع أكثر يا موسي ورحمة مِنّي بك ولأبَيَّنَ لك أنك لن تطيقها انظر إلى الجبل، جبل الطور بسيناء الذي أمامك، والذي هو أقوى منك، فإنْ ثَبَتَ مكانه حين أظهر له ولم يَتَفَتَّت من هذا الظهور فسوف تراني أنت أىْ فسَتَثْبت لرؤيتى إذا ظَهَرْتُ لك وإنْ لم يستقرّ فإنك لن تراني.. فلمّا ظَهَرَ ربه للجبل على الوجه اللائق به تعالى جعله مَدْكُوكَاً مُهَدَّمَاً مُفَتَّتَاً مُستوياً بالأرض فنَبَّهَ سبحانه بذلك على أنَّ الجبل مع شِدَّته مادام لم يستقرّ عند هذا التّجَلّي فالإنسان مع ضعف بنيانه أوْلَىَ بألاّ يستقرّ.. وسَقَطَ موسى مَصْعُوقاً أيْ كمَن صُعِقَ بصاعقةٍ أيْ مُغْمَي عليه لفترةٍ من هَوْل وشدّة وصَدْمَة ما رَأَىَ.. فلمّا عادَ له وَعْيُه واستيقظ من إغمائه وغَيْبُوبته تَبَيَّنَ له عملياً أنه لن يَتَحَمَّل هذه الرؤية فسبَّح ربه أيْ نَزّهَه عن كل ما لا يَليق به استشعاراً لعظيم قُدْرَته واستغفر عن طلبه الذي لم يكن مُناسبا، رغم أنه ليس بذنب! بل حبّ وشوق! ولكنْ هكذا دائما هو حال الرسل الكرام، والصالحين من بعدهم المُتَشَبِّهين بهم، يحرصون علي ألاّ يَصْدُر منهم أيّ ذرّةٍ مِن شُبْهَةِ خطأ! ليَحيوا دوْمَاً أنقياء سعداء ويَلقوا ربهم في أخراهم علي أشدِّ نَقَاوَةٍ وأعظم سعادة، وأكّدَ كمال إيمانه بما استكمله له ربه مِمّا كان لا يعلمه قبل ذلك قائلا ".. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿143﴾" أيْ هذا بيانٌ لمُسَارَعَته ﷺ للعمل بكل أخلاق الإسلام ودَفْعٌ لكلّ مؤمنٍ ليَقتدي به فيُسارِع هو أيضا للعمل بها والثبات عليها وليكون قُدْوَة ومُشَجِّعَاً لغيره من الناس ليُسارِعوا هم أيضا للعمل بها في كل شئون حياتهم ويستمرّوا عليها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووعي وإقبال وبكل اختيارٍ دون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَرَوْا أثر الإسلام علي إسعاد حياة مَن يدعوهم وحياتهم وبالتالي يَنال الجميع ثواب دعوة بعضهم بعضاً للإسلام ويسعدون جميعا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾" أيْ قال تعالي لموسي ﷺ مُسَلّيَاً مُكْرِمَاً له مُتَلَطّفَاً معه مُعَوِّضَاً إيّاه عمَّا أصابه من عدم الرؤية فكأنه سبحانه يقول له إنْ كنت منعتك رؤيتي وكان ذلك لمصلحتك لعدم تَحَمّلك إيّاها فقد أعطيتك من النِّعَم العظيمة التي لا تُحْصَيَ والتي فيها كل المصلحة والسعادة لك ولغيرك فاشكرها وأوْصِهم بشكرها بإحسان استخدامها لأحفظها لك ولهم وأزيدك وأزيدهم منها.. ثم بَيَّنَ له أعظم هذه النّعَم قائلا له يا موسي إنى اخترتك وفَضَّلتك على الناس الموجودين في زمانك – لأنَّ الرسل كانوا قبل موسى وبعده وكلهم مُخْتَارُون مُفَضَّلون بسبب حُسْن وكمال خُلُقِهم ليكونوا مَبْعُوثين من الله للناس ليُعَلّموهم الإسلام – برسالاتي أيْ بوصَايَاي ومَوَاعِظي وتشريعاتي وأنظمتي وأخلاقيَّاتي في التوراة لتبليغها لهم والتي فيها الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، واخترتك كذلك بكلامي أيْ بتَكْلِيمي إيّاك مباشرة بغير واسطةِ مَلَك ولم أفعل ذلك مع أيِّ رسولٍ غيرك.. ".. فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن خُذ ما أعطيتك إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابك التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، خُذوها كلكم بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، ولا تَنْسوها وتَدَبَّروها واقرأوها وتَعَلّموها وتَدَارَسُوها واعملوا بها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾" أيْ وكن من الشاكرين لي علي نِعَمي والتي لا يمكن حصرها والتي أعظمها نعمة الإسلام، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمدي وبعملك بأن تعمل بها في كل شئون حياتك وتدعو غيرك لها لتسعدوا جميعا في الداريْن، وبأن تستخدموا كل النعم الأخري في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدْتُ ووَعْدِي الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾
ومعني "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴿145﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل والناس ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ وكتبنا وشَرَعْنا وفَرَضْنا له وللناس لكي يُبَلّغهم ويُعَلّمهم إيّاه في ألواح كتاب التوراة أيْ أوراقها من كل شيءٍ يحتاجون إلي معرفته من الحُسْن والسُّوء ليكون ذلك موعظة أيْ تَذْكِرَة وتَوْصِيَة لهم تُؤَثّر في عقولهم ومشاعرهم بالترغيب أو الترهيب لتَدْفعهم للعمل بها، كما كتبنا له فيها تفصيل كل شيءٍ من أخلاق وأحكام وقوانين الإسلام التي تُناسِب زَمَنهم لتكون التوراة تِبْيَانَاً وتَوْضِيحاً ومُحْتَوِيَة علي تفصيلاتٍ لكل القواعد والأصول التي تُنَظّم للناس كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث تُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيها من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها، لأنها من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ.." أيْ وقلنا له خُذ التوراة التي فيها أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيْ خُذوها كلكم بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، ولا تَنْسوها وتَدَبَّروها واقرأوها وتَعَلّموها وتَدَارَسُوها واعملوا بها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا.." أيْ وأَوْجِب وأكِّد علي أهلك وأحبائك والناس عموماً وأوْصِهم بشدَّة فلا يُخَالِفوا حتي لا يُعَاقَبوا ويَتْعَسُوا في الداريْن بل يسعدوا فيهما أنْ يأخذوا بأحسنها أيْ بأنْسَبِها أيْ بأنْسَبِ تَصَرُّفٍ في كل موقفٍ بما يُحَقّق المصلحة والكمال والسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم وبما يُحَقّق الثواب الأحْسَن والأعظم، لأنَّ الإسلام كله حَسَن مُسْعِد فليس فيه شيء أحْسَن من آخر فليأخذوا بأحسنها أيْ بها كلها إذَن!! فلفظ الأحْسَن هنا يفيد المُبَالَغَة في الحُسْن.. إنَّ مِمَّا يُرْشِد إليه هذا الجزء من الآية الكريمة ضِمْنَاً أن اجتهدوا دوْما قدْر استطاعتكم في ترْك ما هو أقلّ حُسْنَاً وابتعدوا تماما عن كلّ ما هو سَيِّءٍ مُخَالِفٍ للإسلام من أقوال الناس حولكم.. وفي هذا تشجيعٌ لكلّ مسلمٍ ليَجتهد ويحاول أن يَصِلَ دائما لمرحلة الكمال ما استطاع في كلّ شئون حياته ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ولينال تمام الثواب في أخراه.. ".. سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴿145﴾" أيْ سأريكم يا قوم موسى ويا أيها الناس ويا أيها العقلاء، في دنياكم أمامكم وأثناء أسفاركم، دار الخارجين على طاعتنا وديننا الإسلام، وما صارَت إليه من الخراب والدمار بعذابنا إيّاهم لتَعْتَبِروا فلا تُخَالِفوا حتى لا يُصيبكم ما أصابهم، كذلك كل مَن فَسَقَ منكم فإني سَأُرِيه في الآخرة دار الفاسقين وهي النار التي أعْدَدْناها ليُعَذّب فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم بل يَفعل كل خيرٍ ويَترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿146﴾" أيْ سأُبْعِد وسأَمْنَع عن فهْم وتَدَبُّر آياتي – أيْ دلالاتي الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلي وأنهم من عندي وأني وحدي المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديني الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه – وعن الاستفادة منها والتّقَبُّل لها والاعتبار والعمل بها لتحقيق سعادتيّ الداريْن، عقول الذين يتكبّرون في الأرض أيْ يَسْتَعْلون علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم ويستهزؤن فلا يستجيبون لها فكانوا بالتالي من العاصِين والمُكَذّبين والمُعاندين والمُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. هذا، ومن معاني صَرْفِهم عن الآيات أيضا أيْ مَنْعِهم عن مَنْع انتشارها وإن اجتهدوا وذلك بإعلائها من خلال عوْن المسلمين علي نشرها أو بإضعافهم وإهلاكهم بجنوده سبحانه التي لا يعلمها إلا هو.. ".. بِغَيْرِ الْحَقِّ.." أيْ بكل اعتداءٍ وظلم، لأنَّ العِزَّة تكون بحقّ حينما تُسْتَخْدَم في إقامة العدل بين الناس وحفظ حقوقهم ومنع أيّ أحد من الاعتداء عليهم وبالتالي إسعادهم في دنياهم وأخراهم، وأيضا قد تَكَبَّروا بغير استحقاقٍ لهذا التّعالِي لأنهم بَشَرٌ كبقية البَشَر ينتظرون جميعا رزق ربهم ولا زيادة لهم عليهم والجميع يَمرض ويَضعف ويَشيخ ويموت فلم يكن لهم إذن أيّ حقٍّ في أن يتكبَّروا!.. وكذلك تكبّروا بكلّ ما هو ليس بحقّ أيْ تكبروا بالباطل وبفِعْله أيْ بالتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. وهذا الصَّرْف للعقول ليس حتماً إكراهاً وإجباراً من الله تعالي أو ظلماً منه لهم!! حاشَا لله وهو الذي يريد الهداية لجميع خَلْقه والذي ما خَلَقَهم إلا لإسعادهم، ولكنهم هم بالقطع السبب فيه، فهو بسبب إصرارهم التامِّ علي غَلْق عقولهم، فهم لمّا مَالُوا وانحرَفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير أَمَالَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الزَّيْغ أي الانحراف والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الزائغين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذاباً مُناسباً لشرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه تعالي يتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن يُيَسِّر لهم أسبابه وبأن يُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ويتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية ﴿10﴾ من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا﴾.. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتوضيح لبعض أسباب صَرْفهم والبيان لبعض صفاتهم ولِمَا هم عليه من الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل السوء.. أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم أيّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّهم لا يؤمنون بها أيْ لا يُصَدِّقون بها مهما كانت من حيث العَظَمَة والوضوح والحَسْم، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في إغلاق عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فإنّ كثرة الآيات وتنوّعها تُفيد فقط مَن كان طالباً للحقّ بصِدْقٍ ولكنه جاهلٌ أو مُتَشَكّكٌ أو سَيّء الفهم فإذا خَفِيَت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيرها فيُؤمِن.. ".. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.." أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة كذلك أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم طريق الهُدَيَ والصلاح والصواب أيْ طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والصدق والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لا يتّخِذوه طريقاً يسيرون فيه.. ".. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.." أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة أيضا أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم طريق الغِوَايَة أيْ الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة في الداريْن وهو كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ للإسلام يتّخِذوه طريقاً يسيرون فيه باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿146﴾" أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره من التّرْك لسبيل الرُّشْد والاتّباع لسبيل الغَيّ يَحدث منهم بسبب أنهم لم يُصَدِّقوا بآياتنا الدَّالّة على بُطْلان وفساد ما هم فيه (برجاء مراجعة معني آياتي في أول الآية الكريمة﴾ وبسبب أنهم كانوا عنها غافلين أيْ مُنْشَغِلِين تائهين غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِين أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿147﴾" أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ.." أيْ والذين لا يُصَدِّقون بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم بأجسادهم وأرواحهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ففَعَلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنَّ الذي لا يُؤمن بذلك يفعلها حيث لا حساب من وجهة نظرهم، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. ".. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿147﴾" أيْ هل جُزُوا بغير ما كانوا يعملون؟! أي لم يُجازوا أي يُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملوه في دنياهم، ولكن بمِثْله، أي لم يُظلَموا ولو بمقدار ذرّة وإنما عُومِلُوا بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالهم السَّيِّئَة
ومعني "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴿148﴾" أيْ وجَعَلَ قوم موسي أيْ بَنُو إسرائيل مِن بعد ذهابه وأثناء غيابه عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمهم إيّاها لتكون إرشاداً لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ومِن بعد حالهم الذي شاهدوا فيه تلك المُعجزات التى تَبَيَّنَ بها صِدْقه فيما يُبَلّغهم عن الله، جعلوا مِن ذَهَبِهم الذي تستخدمه النساء في التّحْلِيَة والزينة جَسَدَاً علي شكلٍ كان عِجْلاً له صوت حينما يمرّ الهواء في التجاويف التي فيه، جعلوه وهو الذي صَنَعوه بأيديهم إلاهاً لهم يعبدوه أيْ يطيعوه غير الله تعالي!!.. ".. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ.." أيْ هل لم يُشاهِد هؤلاء السفهاء ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل أنه ليس له أيّ صفةٍ من صفات الإله الذي لا بُدّ أن يَتّصِف بكل صفات الكمال الحسني من الخَلْق والرزق وتمام العلم وكمال القُدْرَة علي كل شيء والسمع والبصر والكلام والحِكْمَة والمُلْك ونحو هذا، فهو صَنَم! عِجْل!! جماد! لا يتكلم ولا يُرْشِد لأيِّ طريق خيرٍ وأمنٍ وسعادة!! لا ينفع ولا يضرّ ولا يرزق ولا يَخْلق ولا يُحي ولا يُميت ولا يَملك الدفاع عن نفسه لو قام بكسره وإيذائه طفل!! إنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! كيف يعبد مَخْلوقٌ مَخْلوقاً مثله بل هو الذي صَنَعَه؟! إنه حتي لا يستطيع ما يستطيعه أيّ بَشَرٍ من الكلام والتوجيه لفِعْلٍ مَا فكيف سَاوُوه بخالق الأجسام والقوَىَ والإمكانات؟!.. هل عَمُوا عن هذه الحقائق؟! هل أصابهم الجنون؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الله تعالي وحده هو النافع الضارّ﴾.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴿148﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ذَمِّهم.. أيْ حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هم بهذا الاتّخاذ للعجل إلاهاً غير الله تعالي كانوا ظالمين لأنفسهم بفِعْلهم الدنِيء هذا حيث عبدوا عِجْلا!! لقد تَركوا عبادة خالقهم الذي أنجاهم وأنعم عليهم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقهم ورَعاهم وأَمَّنَهم وأرْشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بدلاً أن يعبدوه ويشكروه!!.. لقد كانوا من الظالمين قطعاً أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن يعبدوا العِجْل ظالمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يفعلوا ذلك، فهم مُصِرُّون تماماً علي ظلمهم، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿149﴾" أيْ ولمَّا سَقَطَ تفكيرهم من عقولهم إلي أيديهم وصارَ فيها، وذلك لأنَّ مَن يَقع في خطأٍ يُنْدَم عليه يَضرب كَفّاً على كَفٍّ وأحيانا يَعَضّ يديه، وهو تعبيرٌ عند العرب يدلّ علي الخطأ، علي الندم والحَسْرَة والهَمّ علي فِعْل شيءٍ مَا، أيْ ولمَّا نَدِمُوا واستشعروا بعقولهم وأدْرَكوا وعَلِموا وتَبَيَّنَ وظَهَرَ لهم أنهم قد ضَلّوا أيْ بَعُدوا وانحرفوا عن الصواب، قالوا نادِمين مُتَحَسِّرين إذا لم يرحمنا ربنا بقَبول توبتنا ويَسْتُر بها لنا ذنوبنا فيُسامحنا فلا يُعاقبنا عليها ويَمْحُها كأن لم تكن ويَمْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، سنكون حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ من الخاسِرين خسارة ليس بعدها خسارة حيث سنُمْنَع بالقطع من كلّ خيراته وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أننا سنُصاب في حياتنا بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتنا سَنَنَال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة
ومعني "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿150﴾" أيْ ولمَّا عادَ موسي ﷺ إلي بني إسرائيل بعد مدة الأربعين يوما التي قضاها عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمهم إيّاها لتكون إرشاداً لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم حيث كان قد تَرَكهم مع هارون وذهبَ هو لتَلَقّي الوَحْي من الله تعالي، وكان غضباناً وحزيناً حيث أوْحَيَ سبحانه إليه قبل رجوعه بما فعلوه من عبادة العِجْل، قال ذامَّاً لهم ليُوقِظهم من غَفْلتهم ما أسوأ خِلافتكم لي مِن بَعْد غيابي عنكم ومِن بعد ما رأيتم مِنّي من عبادة الله تعالي وحده حيث تَرَكْتُم عبادته وعَبَدْتم عِجْلا، هل استعجلتم أمر ربكم بانتظاري أربعين يوما حافِظين لعهدكم معي بعبادته حتي آتيكم بالتوراة فلم تنتظروا وتستكملوا هذه المدّة وأخْلَفتم وَعْدكم وخَالَفْتم أمره وعبدتم العجل؟! هل اسْتَبْطَأْتم مَجيئي رغم أني لم أتأخّر عن موعدي؟! هل تركتم أمر ربكم؟! وهل استعجلتم طَلَبَ عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره وأنتم تعلمون أنكم لو فعلتم ذلك سيُعَجِّل وسيُسَرِّع عقابكم حتما؟!.. ".. وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ.." أيْ وتَرَكَ ووَضَعَ من يده ألواح كتاب التوراة أيْ أوراقها المكتوب فيها تعاليم الإسلام ليَتَفَرَّغ لمناقشة الذين غَيَّرُوا وبَدَّلُوا من بَعْده وعَبَدوا غير الله تعالي.. ".. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ.." أيْ وأمْسَكَ برأس أخيه هارون ليَجُرُّه ويَشُدُّه منه إلي ناحيته إظهاراً للغضب مِمَّا حَدَثَ لتَوَهُّمه أنه قد قَصَّر في مَنْعهم عَمَّا فَعَلوا وهو الذي قد أوْصَاه بأن يكون نِعْم الخليفة بَعْده فيهم ويُصْلِح ولا يَتّبع سبيل المُفسدين.. ".. قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿150﴾" أيْ قال هارون لموسي يا ابنَ أمِّي أيْ يا أخي، مُذَكّرَاً إيّاه بالأمّ رمز الحنان وبعاطفة الأُخُوَّة ليُرَقّق مشاعره نحوه ولِيُخَفّف من غضبه وحُزْنه ولِيُوَضِّح عدم تقصيره وبذله لجهده أقْصَيَ استطاعته المُمْكِنَة، إنَّ القوم حين فَعَلوا ما فَعَلوا من عبادة العِجْل قد اعتبروني ضعيفاً بينهم لقِلّة أنصاري فيهم فلم يهتمّوا بنصائحي ولم يستجيبوا لها ولم يكن معي من الأنصار ما أمنعهم بهم عن هذا العمل الدنيء بل وقارَبُوا قتلى وأوشكوا عليه وهَمُّوا به لَمَّا نهيتهم عن ذلك ونصحتهم بعبادة الله تعالي، بسبب شِدَّة غفلتهم عن الحقّ وتَجَمّعهم علي الباطل، فلا تظنّ مطلقاً أني قد قَصَّرْت أبداً في دعوتهم للخير ومَنْعهم عن الشرِّ ما استطعت، فلا تُفْرِح بيَ الأعداء بمَا تَفعل معي فإنهم حريصون علي تَأَلّمِي مُتَمَنُّون لذلك وللخِلاف بيننا ومِن شأن أُخُوَّتنا أن تكون ناصِرَة مُعِينَة حين يكون هناك أعداء، وهذا مزيدٌ من اسْتِحْضار عاطِفَة الأخُوَّة لطَلَب عدم العقاب، وحتي لا يَتَوَهَمَّوا بعقابه أنه هو المُخْطِيء وأنهم هُم الذين علي الصواب، ولا تَجعلني مع جُمْلَة القوم الظالمين وهم عَبَدَة العِجْل وتظنني واحداً منهم مع تَبَرُّؤي من أفعالهم فأنا لست معهم بالقطع فتُعامِلني كما ستُعامِلهم
ومعني "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿151﴾" أيْ قال موسى ﷺ لَمَّا تَبَيَّن له عُذْر أخيه هارون وأنه لم يُقَصِّر ربِّ اغفر لي ما صَنَعْتُ بأخى إنْ كنتُ قد أسأتُ إليه واغفر لأخى إنْ كان قد قَصَّر في حُسن خِلافتي فيهم مِمَّا أنت أعلم به مِنّى، اغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، وأدخلنا في رحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء والتي وعدت بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت أرحم الراحمين أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴿152﴾" أيْ إنَّ الذين جعلوا العجل – أو غيره – إلاهَاً ليَعبدوه أيْ يُطيعوه غير الله تعالي سيَصِل لهم وسيَشملهم وسيُحيط بهم وسيأخذون حتماً غضبٌ من ربهم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كُرْه منه لهم كراهية شديدة لفِعْلِهم وانتقام منهم بعقابهم بما يُناسِبهم في الداريْن، وسيَنالهم كذلك ويُلازِمهم وسيَحصلون علي ذِلّة في حياتهم الدنيا أيْ حَقَارَة ومَهَانَة وضعف أين مَا وُجِدُوا في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أفراداً أو مجموعات، بسبب كفرهم به وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبة.. إنهم سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيراته وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصَابُون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴿152﴾" أيْ وهكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا للمُفْتَرِين بما يُناسب افترائهم.. والمُفترون هم الذين يَختلقون كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير كتبه وآخرها القرآن الكريم! أو يُحَرِّم ما لم يُحَرِّمه سبحانه ويُشَرِّع ما لم يُشَرِّعه ويَدَّعِي أنه هو الذي شَرَعَه أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم، حيث قد وُصِفُوا بالمفترين للتأكيد علي شدّة سُوئهم وشدّة الغضب عليهم وعذابهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿153﴾" أيْ والذين فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ثم قاموا بالتوبة من بعد فِعْلها وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وآمَنوا إنْ كانوا غير مؤمنين – أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بأخلاق الإسلام – وجَدَّدوا التمسّك بإسلامهم إنْ كانوا قبل عَمَلها مؤمنين واستمرّوا وداوَموا وثَبتُوا علي كل أخلاقه واسْتَكْمَلُوا ما قد يرونه فيهم ناقصاً منها وصَحَّحُوا سريعاً ما قد يَحدث منهم من أخطاء أو تقصيرات أو هفوات تائبين منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل، فإنَّ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من بعد توبتهم بالتأكيد حتماً غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴿154﴾" أيْ وعندما سَكَنَ وذَهَبَ عن موسى الغضب الذي أصابه وعادَ إليه الهدوء لَمَّا اطمَئَنَّ لعدم تقصير أخيه هارون ولتوبة قومه أخذ الألواح أيْ أوراق التوراة المَكْتُوب فيها تعاليم الإسلام بعد أن كان قد وَضَعها وتَرَكها عند غضبه، وفي نُسْخَتِها أيْ وفيما نُسِخَ أيْ كُتِبَ فيها هديً ورحمة أيْ إرْشاد لتمام الخير والسعادة في الداريْن وبالتالي فهي رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ بها وعمل بكل أخلاقها.. ".. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴿154﴾" أيْ لكنَّ الذين سيَنتفعون بأخلاقها ويعملون بها فيسعدون في دنياهم وأخراهم هم فقط الذين يَرْهَبون أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وكالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولها ولإسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿150﴾ من سورة البقرة ".. فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴿155﴾" أيْ وانْتَقَيَ وتَخَيَّر موسي ﷺ من قومه بني إسرائيل سبعين رجلا للتوقيت الذي وَقّتْنَاه وحَدَّدْناه له عند جبل الطور بسيناء بمصر لتكليمه ولإيحاء التوراة إليه لتكون بما فيها من إسلامٍ إرشاداً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وذلك ليشهدوا معه هذا الحَدَث العظيم ويكونوا شهوداً لبَقِيَّتهم علي صِدْقه بعد عودتهم، وعند بعض العلماء أنهم لم يذهبوا مع موسي عند تكليم الله تعالي له وإنما اختارهم بعد عودته وبعد عبادة بني إسرائيل للعجل وهم كانوا من صَفْوَتهم ولم يَعبدوه مِثْلهم فأخذهم كمَندوبين عن بقية بني إسرائيل لكي يستغفروا الله تعالي عند الجبل وهو المكان المُقَدَّس للتوبة عنده مِمَّا فَعَلَه قومهم من عبادة العجل، فأخذتهم الرَّجْفة حينها وهي ارْتِجَافَة شديدة في أجسامهم ومشاعرهم مِمَّا رأوه من أنَّ موسي قد أغمي عليه لما تَجَلّي الله للجبل فجعله دَكّاً بعد كلامه له وطلبه لرؤيته علي الرأي أنهم كانوا معه عند وَحْي التوراة إليه، أو لأنَّ بعضهم قد طَلَبَ رؤية الله مثل موسي فحَدَث لهم مِثْلما حَدَث له، أو أثناء استغفارهم علي الرأي أنه أخذهم للجبل مرة أخري للاستغفار بسبب شعورهم بتقصيرهم في مَنْع قومهم من عبادة العجل، وهنا دَعَا موسي الله تعالي مُتَوَسِّلَاً قائلاً له ربّ لو شئت أهلكتهم وأنا معهم من قبل مَجيئنا الآن في أيِّ وقتٍ تشاء حسبما تَتَطَلّبه حِكْمتك وهو قولٌ لبيان الاستسلام التامّ لتقديرات الله تعالي فهي دائما الخير لعباده ولاسْتِجْلاب عَفْوَه لأنه يعني لا تهلكنا فأنت تَقْدِر علي كلّ شيءٍ ولو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلتَ في مُقابِل ما فعلوه من سوءٍ سابق لكنّك عافَيْتَنا وأنقذتنا وأغرقتَ عدونا فافعل بنا الآن كما عَوَّدْتنا فذلك حتماً ليس ببعيدٍ عن عظيم كرمك وإحسانك، ثم هم الصفوة وبقاؤهم هو نُصْرة معي للإسلام والمسلمين، ثم حتي لا يَشُكّ بي بَقِيَّة بنو إسرائيل أني قد أحضرت هؤلاء السبعين منهم من أجل إيذائهم وإهلاكهم فلا يقبلوا نصائحي لهم بعد ذلك بعد عودتنا لهم أمَّا لو أَمَتَّنَا قبل ذلك أمامهم فسيرون أنها حكمتك وتقديرك وأموت وقد أدَّيت مهمّتي معهم فيستمرّون علي ما نصحتهم به من إسلامٍ من غير شكّ بي فإهلاكك لهم قبل هذا الموقف أخَفّ عليَّ من إهلاكك لهم الآن وبالتالي فأسألك يا رب وأنت قد رحمتهم من ذنوبٍ كثيرة ارتكبوها فيما سَبَق أن ترحمهم الآن كما رحمتهم من قبل كما مُعْتَادٌ مُتَوَقّعٌ من كرمك الذي لا يُحْصَيَ ليَبْقوا سَنَدَاً لي مع أخي بعد مُساندتك لنا، وأنت العدل الذي لا يُؤاخِذ أبداً أحداً بذنبِ آخر فأنت لن تهلكنا بما فَعَل السفهاء ضِعاف العقول مِنَّا الذين عبدوا العجل.. هذا، واستفهامه ﷺ بقوله أتهلكنا هو للنفي أيْ لن تفعل حتماً لأنك أعدل العادلين.. ".. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ.." أيْ هذه مَعْذِرَة من موسي ﷺ لله تعالي عن فِعْل السفهاء من قومه.. أيْ ما هذه الأمور الشنيعة كلها التي صَدَرَت من بني إسرائيل كعبادة العِجْل واشتراط رؤيتك قبل الإيمان بك وما شابه هذه السيئات الفظيعات إلا هي فتنتك أيْ اختبارك لهم حيث قد أوْجَدْتَ بينهم مَن يصنع لهم العجل وعَلِمُوا كلامك لي فطلبوا ما لا ينبغي وهو رؤيتك بل اشترط بعضهم حدوثها قبل إيمانهم بك، فهم لم ينجحوا في الاختبار وأدركوا أنَّ عليهم مراجعة ذواتهم وإحسان استخدام عقولهم وتصويب أحوالهم، بينما نجح آخرون واستفادوا من هذه الاختبارات زيادة في إيمانهم وتمسّكهم بأخلاق إسلامهم.. وأنت سبحانك هكذا دائما لا تُوَفّق للهداية لك وللإسلام ولا تُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لك وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عنك والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم تَشَأ له الهداية وتَرَكته فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي تُعِينه علي بقية الخطوات وأنت الذي قد نَبَّهتَ لهذا بقولك "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.."﴿الرعد:11﴾، فكأنك تعالي أنت الذي أضللته لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكته سبحانك ولم تُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّك تشاء له ذلك وتأذن، بأنْ تُوَفّقه وتُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فتشاءه وتُسَهِّله سبحانك له وتُمَكّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿2﴾، ﴿3﴾ من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"﴾.. ".. أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴿155﴾" أيْ وليس لنا غيرك أبداً فأنت وَلِيّنا أيْ وَلِيّ أمرنا تَتَوَلّاه لنا بما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا وبالتالي فأعِنّا علي عدم الوقوع في الفتن والنجاح فيها والخروج منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في الدارينْ فأنت وحدك المُتَوَلّي لأمورنا في كل شئون حياتنا ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لنا، أيْ مُحِبّنا وراعينا وناصرنا ومُعِيننا وحَلِيفنا وحافظنا ومانِعنا من الضرَر ومُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينك الإسلام، ومَن كنتَ يا الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث ستُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وما دمتَ أنتَ وَلِيّنا فكذلك بالتالي فاغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، وأدخلنا في رحمتك الواسعة التي وَسِعَت كل شيء والتي وَعَدْتَ بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت خير الغافرين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! لأنَّ كلّ غافِرٍ غيرك يغفر لغرضٍ مَا أمّا أنت يا وَلِيّنا فمغفرتك لا لطَلَب عِوَضٍ أو غرضٍ وإنما هي لفضلك وكرمك الخالص بلا مُقابِل، ولا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
ومعني "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴿156﴾" أيْ وندعوك كذلك يا وَلِيّنا أن اقْسِم واجْعَل وحَقّق وأثْبِت لنا واعْطِنا دوْمَاً بفضلك وكرمك ورحمتك في هذه الدنيا حالة حَسَنَة حيث كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في كل شئون حياتنا في كل لحظاتها واقْسِم وأوْجِب لنا في الآخرة أيضا حالة حسنة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر من النعيم الخالد في أعلي درجات الجنات، وذلك بأنْ تُيَسِّرَ لنا فِعْل كلّ خيرٍ وتُقَوِّنا عليه عند فِعْله وتُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب سعادتيّ الدنيا والآخرة معا﴾.. ".. إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ.." أيْ نسألك هذا لأننا قد تُبْنا ورَجَعْنا إليك وإلي أخلاق إسلامنا في كل شئوننا وعند تقصيرنا بطَلَب التوبة من كل تقصيرٍ وذنبٍ والعَوْن علي العودة لكل خير.. ".. قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ.." أيْ هذا بيانٌ وتوضيحٌ لِمتي يكون العذاب ومتي يكون الثواب.. أيْ قال الله تعالي عقابي بالعذاب أوَجِّهه نحو مَن أريد وهو الذي يفعل الشرور والمفاسد والأضرار، أعذبه إنْ لم يَتُب منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.." أيْ وفي ذات الوقت لقد أحاطَت رحمتي بالأشياء كلها فلا تَتْرُك منها شيئاً في كل كَوْننا وخَلْقنا فهي ليست للبَشَر فقط بل كل ما في الكوْن يسير برحمتنا وتدبيرنا، وكله في النفع والخير والمصلحة والسعادة، فمَا مِن مخلوقٍ في دنياكم إلاّ وقد غَمَرته وأفَاضَت عليه رحمتنا مُمَثّلَة في أفضالنا وأرزاقنا وإحساننا عليه، والتي نُعطيها أيضا حتي للعصاة والكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، لأنهم خَلْقنا وعلينا رعايتهم، ثم رحمتنا دائما تَسْبِق غضبنا وتَصِل لكلّ تائبٍ يعود للخير، مهما عَظُم ذنبه وشَرّه، فنُعِينه ونُوَفّقه لأسباب الخير ونُسْعِده، لكنَّ الرحمة الخاصَّة العظيمة التامَّة التي تُؤَدِّي في الدنيا لكل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في الآخرة لأعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، هذه الرحمة لا تكون لأيِّ أحد ".. فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴿156﴾" أي فسأجْعَلها وسأقْسِمها وسأُحَقّقها وسأثْبِتها وسأعْطيها دوْمَاً حتماً بالتأكيد بفضلنا وكَرَمنا ورحمتنا للذين يتّقون أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وكذلك سأكتبها للذين يُؤْتُون الزكاة أيْ يُعْطُون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال – مع العمل بكل أخلاق الإسلام الأخري – وكانوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. وكذلك بالقطع سأكتبها للذين هم بآياتنا يؤمنون أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل
ومعني "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾" أيْ إنهم هم الذين يسيرون خلف الرسول الكريم محمد ﷺ وخَلْف القرآن العظيم والإسلام الذي جاء به ويعملون بكل أخلاقه في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنهم مُتأكّدون تماما بلا أيِّ شكّ من صِدْقه وصدق ما جاءهم به وذلك للأسباب الآتية: أولا لأنه نبيٌّ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب ثم يأتي بهذه المُعجزة، القرآن، الذي يَصلح لكل الناس في كل الأماكن وكل العصور إلي يوم القيامة رغم كل التّغَيُّرات الهائلة للبَشَرِيَّة، فهذا يدلّ قطعيا أنه ليس من عنده ﷺ ولا من عند أيِّ بشر آخر – والرسول هو الذي يُرْسَل إلي الناس بكتابٍ أُوُحِيَ إليه من خالقهم فيه وصاياه وأخلاقيّاته وأنظمته ليعملوا بها ليسعدوا بذلك في الداريْن، أمّا النبي فهو ليس معه كتاب وإنما يُنَبّئهم بما يُوحَيَ إليه من الله فيُذَكّرهم بتعاليم في كتبٍ سابقة ولأنبياء ورسل سابقين – وثانيا لأنه هو الذي يَجده اليهود والنصاري مَذْكُورَاً عندهم في التوراة كتاب اليهود والإنجيل كتاب النصاري بما يُؤَكّد للمسلمين صِدْقه حتي عند غير المسلمين وبما لا يترك أيّ حُجَّة لأحدٍ من هؤلاء أن يُكَذّبه فلا يَتّبعه ويُسْلِم، فإنْ كانوا يؤمنون بموسي ﷺ وعيسي ﷺ فعليهم بالتالي إذَن الإيمان بمحمد ﷺ كما أوْصَتهم كتبهم ورسلهم، ثم لو لم يكن مكتوباً فيها لَكَانَ ذِكْر هذا الكلام في القرآن من أعظم المُنَفّرات لليهود والنصارى وغيرهم عن قبول قوله ﷺ والعاقلُ لا يسعى لِمَا يُؤَدِّي إلي تقليل شأنه وتنفير الناس عن قبول قوله بالكذب وبما أنَّ بعضهم مِمَّن أسلموا اعترفوا بأنه مكتوبٌ عندهم فهذا يدلّ قطعا علي صِدْقه ﷺ .. وثالثا لأنه ﷺ يأمر الناس بالمعروف ويكون هو أوَّلَ وأدْوَمَ مَن يعمل به وينهاهم عن المنكر ويكون أول وأدوم من يتركه وكذلك يحلّ لهم الطيِّبات أيْ يسمح بها ويُحَرِّم عليهم الخبائث أيْ يمنعها فلو كان كاذبا لخَالَفَ فِعْله قوله أو لقالَ وفَعَلَ مَا يُخالِف العقل والفطرة! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والمعروف هو كل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام، والمنكر هو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن، والطيبات هي النافعات لا الضارَّات من كل شيءٍ التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقهم الله تعالي إيّاها وخلقها في الأرض والتي أحلها لنفعها ولإسعادها والتي لم يحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، والخبائث هي عكسها وهي التي حرمها سبحانه لضَرَرها ولتعاستها علي الناس من المأكولات والمشروبات والمَلْبُوسات وغيرها ومن الأقوال والأفعال والأموال والمُمتلكات ونحوها.. وكذلك هو يَضَع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم أيْ يُزيل ويُذْهِب ويَرْفَع عن الناس خاصَّة مَن يؤمن به مِن خلال دينه الإسلام السَّهْل السَّمْح المُيَسَّر أيَّ إصْرٍ أيْ ثقلٍ – والإصْر هو الشيء والعِبْء الثقيل الذي يثقل على الإنسان ويُتْعبه ويجعله في شقاءٍ وتعاسة – وأيَّ أغلالٍ أيْ قيود كانت عليهم من أنظمةٍ مُخَالِفةٍ للإسلام لأنَّ كلّ الإسلام أخلاقيّات وقواعد وضوابط لنَشْر كلّ خيرٍ ومَنْع أيّ شرٍّ وكله يُسْر وسعادة في الدنيا قبل الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، والآية ﴿286﴾ منها أيضا "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم سابقا أيها الناس فبالتالي إذَن حتماً الذين صَدَّقوا به وبما جاءهم به من إسلامٍ واتّبعوه وعَمِلوا بكل أخلاقه، وعزّروه أيْ وعظّموه وأدّوا له ما يَسْتَحِقّه من احترامٍ وطاعةٍ وحَمُوُه مِن كل مَن يُعادِيه، ونَصَرَوه أيْ قَوَّه وعاوَنوه ودافَعوا عنه ونَصَروا الإسلام والحقّ والعدل والخير دائما بكل الوسائل المُمْكِنَة، واتّبعوا أيْ ساروا خَلْف وعملوا بكل أخلاق القرآن العظيم في كل شئون حياتهم والذي هو النور الذي يُضيء الدنيا والآخرة لأنه السبب لهداية البَشَر أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في حياتهم وآخرتهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، هؤلاء لا بُدَّ قطعاً هم المفلحون أيْ الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. والعكس بالقطع صحيح
ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني مَبْعُوث الله إليكم جميعا لا إلي بعضكم فقط وهو الذي يَتّصِف بأنَّ له تعالي وحده مُلْك السماوات والأرض وكل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وهو الذي يُحيي ويُميت أيْ سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، وإنْ كانت مُتَحَرِّكَة، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها وإنْ كانت مُقِيمَة ساكِنَة، فلا يَمنع عن الموت قعود، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مما يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وانطلقوا بكل هِمَّةٍ واستبشارٍ للدفاع عن إسلامكم بكل صور الدفاع ضدّ المعتدين وللسعى فى طَلَب رزق ربكم الحلال بإحسانِ اتّخاذ أسبابِ ذلك لِتَتِمّ سعادتكم فيهما حيث الإقدام بحَذَرٍ وبحُسْنِ أسبابٍ لن يُقَصِّر عُمْرَاً والجُبْن والتخاذل لن يُطيله!.. ".. فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم أيها الناس فبالتالي إذَن صَدِّقوا بوجود الله تصديقاً حقّاً بأن تعبدوه أيْ تُطيعوه وحده بلا أيِّ شريكٍ وصَدِّقوا بحسابه وعقابه وجنته وناره، وصَدِّقوا كذلك برسوله النبيّ الأُمِّي أيْ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وإعادة ذِكْر هذا الوَصْف له ﷺ للتأكيد التامّ علي أنه قد أتَيَ بهذه المُعجزة، القرآن، الذي يَصلح لكل الناس في كل الأماكن وكل العصور إلي يوم القيامة رغم كل التّغَيُّرات الهائلة للبَشَرِيَّة، بما يدلّ قطعيا أنه ليس من عنده ﷺ ولا من عند أيِّ بَشَر آخر، وهو ﷺ الذي يَتّصِف بأنه يُصَدِّق بالله وكلماته أيْ قرآنه الكريم وبكل كلامه في كل كُتُبه المُنَزّلَة السابقة لأنها كلها أصولها واحدة حيث فيها الإسلام لكنْ بما يُناسب كل عصر، وكذلك يُصَدِّق بكل كلماته الكَوْنِيَّة التي يُكوَّن الله بها ما شاء من المخلوقات إذ بها يقول للشيء كُنْ فيكون، ولذا فمَن كانت هذه صفاته فهو جديرٌ حتماً بأنْ يُتّبَع موثوقٌ فيه تماما ورسالته كاملة شاملة ولذلك اتّبِعوه أيْ سيروا خَلْفه وخَلْف القرآن العظيم والإسلام الذي جاء به واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُهتدين أيْ لكي تهتدوا، أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿159﴾" أيْ ومِن بني إسرائيل، من اليهود في زمن موسي ﷺ ، مجموعة مؤمنة ثابتة علي إيمانها يرْشدون أنفسهم والناس حولهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، يَهدونهم بالحقّ أيْ بالإسلام الذي في التوراة، بأنْ يعملوا هم به ويدعوهم إليه ويُعَلّموهم إيّاه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وبه أيضا يسيرون في كل أحكامهم فلا يظلمون أحداً وإنما يَعْدِلون في كل شئون حياتهم حتي ولو علي أنفسهم، فهم يَتَحاكَمون إليه وهو مَرْجِعهم دائماً في كل قولٍ وفِعْل.. إنَّ بني إسرائيل في وقت موسي ﷺ وبعده لم يكونوا كلهم أشراراً بل كان منهم أخيارٌ علي خيرٍ عظيم.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ منهم مَن قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهذا كذلك يُفيد ويُنَبِّه ضِمْنَاً أنَّ كل الناس بالقطع فيهم الخير في فطرتهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أحسنَ المسلمون دعوتهم لله وللإسلام لاستجابوا ولسعدوا ولنَالَ الجميع الأجر العظيم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿160﴾"، "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿161﴾"، "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿162﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي بني إسرائيل والتي من المُفْتَرَض أن تُقابَل بشُكْرها بمزيدٍ من تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم الذي في التوراة، فمَن شَكَرَها استمرَّت وزادَت من الكريم الرَّزّاق.. ولكنَّ البعض منهم لم يُحسنوا شُكْرَها فتَرَكوا العمل بالإسلام بعضه أو كله، فعلي كل مسلمٍ ألاّ يَتَشَبَّه بهم حتي لا يَتعس مِثْلهم في الداريْن.. لقد عَلّمهم الله تعالي النظام، فكلّما كَثر العَدَد، تُقَسَّم الأرض ويُقَسَّم الناس إلي مجموعات، ولهم قياداتهم ومسئولون عنهم، لكي يُحسنوا إدارة شئونهم علي أكمل وجه، ويكون بينهم التوافق والتفاهُم والتعاون والتكامل والتَّحَابّ لا التصارع والتشاحن والتقاتُل والتباغُض، في المَأكل والمَشْرَب والمَسْكَن والتعليم والعمل والإنتاج والكسب ونحو ذلك.. أيْ وقَسَّمْنَا بني إسرائيل اثنتي عشرة أسباطا أيْ قبائل جمع قبيلة، والأسباط هم الأحفاد لإسرائيل وهو الإسم الآخر للرسول الكريم يعقوب ﷺ – جَمْع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – وجعلناهم أمماً أيْ مجموعات من هذه القبائل فكل سِبْط أمة مُسْتَقِلّة عن الأخري.. ".. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.." أيْ وأعلمنا موسي عن طريق الوَحْي حين استسقاه بنو إسرائيل أيْ طلبوا منه السَّقْي أيْ الحصول علي الماء الذي يَسْقِيهم أيْ يَشربونه والذي به يَحْيون بأن يدعو الله تعالي بذلك فاستجبنا برحمتنا وكرمنا لطَلَبه ودعائه وقلنا له اضرب الحجر بعصاك التي معك لتكون مُعْجِزَة أخري أمامهم ليُصَدِّقوه أنه رسولنا ويَتَّبِعوا ما جاءهم به من الإسلام حيث انْبَجَسَتْ أيْ انْفَجَرَت وتَدَفّقَت من هذا الحجر اثنتا عشرة عَيْنَاً من الماء بعَدَد قبائلهم ومجموعاتهم لأنهم كانوا بهذا العدد فعَرَف كل قوم منهم مَشْرَبهم أيْ مكان شُرْبِهم فاطمأنوا واستقرّوا وشربوا وانتفعوا وسَعِدوا ولم يَحدث التّزَاحُم والتّنازُع بينهم.. هذا، والانْبِجَاس هو خروج الماء من مكانٍ بقِلّةٍ والانفجار خروجه بكثرة، فهو درجة تَحْدُث قبل الانفجار، فالعيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.. ".. وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.." أيْ وجعلنا الغَمَام أيْ السحاب مُظَلِلاً عليهم كالمَظَلّة ليَقيهم من حَرِّ الشمس، وأنزلنا عليهم من السماء ماءً ليُنْبَت المَنَّ وهو يشمل جميع ما مَنَّ الله به على خَلْقه أيْ أعطاهم إيَّاه من أرزاق ولكي يَحْيَي به السلوي الذي تأكلونه وهو طائر يشبه السّمَّان لحمه طيّب لذيذ وصَيْده سَهْل.. ".. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.." أيْ وقلنا لهم رحمة بهم كلوا واشربوا من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناكم إيَّاها.. ".. وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿160﴾" أيْ وما ظلمونا بعدم شكرهم لكلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ وبعدم اتّباعهم لأخلاق الإسلام، لأنَّ الخَلْق جميعاً لن يُمكنهم حتما ضرِّى فيَضِرُّونى أو نَفْعى فيَنفعونى إذ لا يُقارَن الخالِق القادِر علي كل شيءٍ العالِم تماما به بمخلوقاته، ولكنهم في الحقيقة قطعا يَظلمون أنفسهم لا يَظلموننا لأنَّ ضَرَرَ الظلم وشقاءه واقعٌ عليهم لا علينا حيث كانوا من الظالمين أيْ العاصِين لنا المُعْتَدِين علي وَصَايَانا بمُخالَفتها الذين يُتْعِسون أنفسهم ومَن حولهم في دنياهم وأخراهم بِفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿161﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من النّعَم التي لم يشكروها والوَصَايَا المُسْعِدَة التي لم يعملوا بها.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قلنا لهم بعد إنقاذهم من ظلم فرعون اسكنوا في هذه البلدة من بلاد أرضنا حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء وتأكلون منها أكلاً هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاؤون من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدون.. ".. وَقُولُوا حِطَّةٌ.." أيْ وقيل لهم أيضا قولوا سائلين الله تعالي دائما في دعائكم أن يَحُطّ أيْ يَضَعَ ويُسْقِط ويَمْحُو عنكم ذنوبكم كأنْ لم تكن ويَعفو عنها ولا يُعاقِبكم عليها بعد توبتكم منها.. ".. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا.." أيْ وقيل لهم كذلك كونوا دوْمَاً عند دخولكم إليها من بابها ومدْخلها وأنتم مقيمون فيها وفي كل أحوالكم وشئون حياتكم سجدا أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين مُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو السجود له بتَوَاضُعٍ وخُشوع وسُكُون في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿161﴾" أيْ فإنْ فَعَلْتم ذلك الذي نُوصِيكم به فإننا حتما بعظيم رحمتنا وكرمنا بكم نغفر لكم ذنوبكم صغرت أم كبرت حتي ولو كانت عظيمة كثيرة- والخطيئات جَمْع خطيئة وهي الذنب العظيم- وأيضا سنَزيد المُحسنين منكم مِن كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وسنَزيدهم إحسانا على إحسانهم حيث سنُعِينهم وسنُيَسِّر لهم كل أسباب أن يفعلوا خيراً أكثر وأكثر بإحسانٍ أيْ إتقانٍ أكثر وأكثر فيَزدادون خيرا وسعادة وتَتَضَاعَف أجورهم في الداريْن، فكلّ خيرٍ يفعلونه سيُؤَدِّي بهم إلي فِعْل مزيدٍ من الخير، وبالتالي ستكون حياتهم الدنيوية والأخروية كلها خيراً في خيرٍ وسعادة علي سعادة، فهذا وَعْدٌ علينا لن يُخْلَف مُطْلَقَاً.. والمُحسنون هم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿162﴾" أيْ ولكنَّ الذين ظلموا من بني إسرائيل، أيْ عَصوا الله واعتدوا علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يَظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأنْ يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لم يلتزموا بما قِيلَ لهم في التوراة، فغَيَّروا في قول الله تعالي الذي قاله لهم فيها، غَيَّروا وبَدَّلُوا وحَرَّفوا وخَرَّفوا بلا أيِّ مُبَالَاةٍ أو خوفٍ في قواعد الإسلام وأخلاقِيَّاته ولم يلتزموا ويعملوا بها، وقالوا قولاً وأقوالاً كثيرة غيره من عند أنفسهم مُخَالِفَة له وفَسَّرُوه بغير ما يُرادُ منه لكي يُبَرِّرُوا لأنفسهم فِعْل الشرور مُدَّعِين كذباً وزُوراً أنها من قول الله وأوامره!! وذلك لأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿162﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لظلمهم هذا، وبسبب أنهم كانوا يظلمون هكذا أيْ يفعلون كل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، بَعَثْنا وأنزلنا عليهم رِجْزَاً من السماء أيْ عذاباً من عندنا بدرجةٍ ما بما يُناسب شرورهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم ، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل أبداً مِثْلهم ليسعد في الداريْن وإلا تعس كتعاستهم ونالَ مصيرهم فيهما
ومعني "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿163﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي يَخْتَبِر بعض البلدان التي يغلب عليها الفساد ببعض الاختبارات لإفاقتهم، لمصلحتهم، لتربيتهم علي تقوية إرادة عقولهم فيمكنهم تدريجيا مقاومة الشرّ فيعودوا مع الوقت للخير.. فالبعض يَستجيب، ويُصَحِّح حاله عند اختباره، فيفوز، ويسعد، في دنياه وأخراه.. والبعض الآخر يستجيب بدرجةٍ قليلة، فيفوز فوزا قليلاً، والبعض قد لا يستجيب مطلقاً ويظلّ علي فساده بل وقد يزداد فيه فيتعس فيهما تمام التعاسة.. أيْ واسأل مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل مُذَكّرَاً إيّاهم لكي تَتّعِظوا جميعاً عن البَلْدَة التي كانت حاضِرَة البحر أيْ قريبة منه مُشْرِفَة عليه والتي كان بها بعض بني إسرائيل حين كانوا يعتدون في يوم السبت على حُرُمات الله، حيث أمرهم تعالي أن يُعَظّموا يوم السبت ولا يصيدوا فيه سمكاً، فاختبرهم سبحانه، حيث كانت حيتانهم أي الأسماك الموجودة في تلك الناحية التي هم فيها تأتيهم يوم السبت شُرَّعَاً أيْ شارِعَة ظاهرة طافية على وجه الماء كثيرة قريبة منهم، وإذا ذهب يوم السبت تذهب الأسماك ولا تأتيهم إلا السبت الذي بعده، فكانوا يحتالون على صيدها بأن يحبسوها يوم السبت في حفائر ويصطادونها في يومٍ بعده.. لقد اعتدوا علي وَصَايَا وأوامر الله تعالي فخَالفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعِه للصيد في هذا اليوم تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي ينطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منهم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام بعضهم بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!!.. ".. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿163﴾" أيْ هكذا بمِثْل هذه الاختبارات نَختبرهم بسبب فِسْقهم المستمرّ أيْ بسبب أنهم كانوا باستمرار يخرجون عن طاعة الله والإسلام ويفعلون الشرور والمفاسد والأضرار، فنَخْتَبِرهم وأمثالهم لإفاقتهم، لمصلحتهم، لتربيتهم علي تقوية إرادة عقولهم فيمكنهم تدريجيا مقاومة الشرّ فيعودوا مع الوقت للخير فيسعدوا ولا يتعسوا، نَخْتَبرهم ليَظْهَر منهم المُحْسِن مِن المُسِيء.. إنَّ أسلوب الله تعالي مع الناس والذي يُثْبِته الواقع أنّه مَن أطاعه بأنْ عمل بأخلاق إسلامه سَهَّل له دوْمَاً أموره وأسعده في دنياه وأخراه، ومَن عصاه أدَّبه باختباراتٍ فإنْ لم يَرْجِع واستمرّ في سُوئه استحقّ أن يُعَذّبه فيهما علي قَدْر شرِّه
ومعني "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿164﴾" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قالت مجموعة من هذه البلدة السابق ذِكْرها لمْ تَعْص الله تعالي لكنها في ذات الوقت لم تَنْصَح العاصِين أو نَصَحَتهم ولم تستمرّ ويَئِسَت من إصلاحهم بل قالت لمجموعة أخري من الصالحين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم الذين يجتهدون في نُصْح العصاة ما استطاعوا بتَرْك مَعاصيهم والعودة للعمل بالإسلام ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما: لماذا تَنْصَحون أُنَاسَاً مَعْلُومٌ ومُؤَكَّدٌ أنَّ الله – كما هو أسلوبه غالِبَاً مع أمثالهم – مُهْلِكهم أيْ مُسْتَأصلهم تماما من الحياة ومُطَهِّر الأرض ومُرِيح الناس منهم لشدَّة سُوئهم أو مُعَذّبهم بلا إهلاكٍ في دنياهم عذاباً شديداً مناسباً لاستمرارهم علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وعدم استجابتهم للنصْح ثم بما هو أشدّ في أخراهم؟! فلا فائدة إذَن في وَعْظِكم إيّاهم!.. وسؤالهم إمّا للرفض أو للتّعَرُّف منهم علي الهدف.. ".. قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿164﴾" أيْ قال المُصِرُّون علي بَذْل ما أمْكَنَ مِن جهودٍ في نُصْح غيرهم بما يُناسبهم المُستمرّون علي ذلك دائما، قالوا لمَن يَطلبون منهم وَقْف نُصْحِهم: نَعِظهم لكي يكون هذا الوَعْظ اعتذاراً إلي ربكم أيْ ليكون عُذْرَاً لنا عند ربنا حين يسألنا عنهم يوم القيامة هل وَعَظْناهم بما نستطيع أم لا فنكون مِمَّن لم يُقَصِّر في تنفيذ ما فَرَضَه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قد قمنا بما علينا ما استطعنا من حُسْن دعوتهم بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وكذلك لعلهم بهذه الدعوة لله وللإسلام يتقوّن أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وذلك لأنَّ الأمل في عَوْدة كل إنسان لربه ولإسلامه موجود دائما بسبب وجود فطرة عقله المسلمة أصلا بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك مهما كثر فساده، لو أحسنَ استخدام هذا العقل، ولو تَمَّ إحسان دعوته، ولقد استجاب كثيرون كان الأمل فيهم مُنْعَدِمَاً تقريباً وحَسُن إسلامهم كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً في كل زمانٍ ومكانٍ والأمثلة أكثر من أن تُحْصَيَ، فكل داعي لله وللإسلام لا ييأس أبداً مِمَّن يدعوهم فلعلهم بإذن الله يستجيبون، وله أجره في الداريْن علي كل حالٍ سواء استجابوا أم لا
ومعني "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿165﴾" أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة الخَيْرِيَّة السعيدة للصالحين النّاهِين عن الشرّ والنتيجة الحتميّة الشّرِّيَّة التعيسة للفاسدين العاصين الظالمين المستمرّين علي سُوئهم.. إنه بيانٌ لحال السعداء في دنياهم وأخراهم وحال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ فلمَّا تَرَكَ العاصُون ما وُعِظُوا به مِن الصالحين منهم وأهملوه ولم يتذكّروه ويعملوا به، واستمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه من سوء، أنقذنا الصالحين الناصحين الذين يمنعون عن السوء بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ من أيِّ عذابٍ ينزل علي المُسِيئين حولهم، وعاقبنا الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، عاقبناهم بعذابٍ بَئيسٍ أيْ شديدٍ مُؤْلِمٍ – من البَأس وهو الشدّة – والذي يُؤَدِّي حتماً إلي كل بُؤْسٍ وضَرَرٍ وشقاءٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة، بما كانوا يفسقون أيْ بسبب وبمقدار ما كانوا يَخْرُجون عن طاعة الله والإسلام ويَفعلون السوء ويستمرّون علي فِعْله بلا توبةٍ منه.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. هذا، ويُلاحَظ أنَّ الله تعالي قد سَكَتَ عن ذِكْر ما حَدَثَ للمجموعة التي سَكَتَت فلم تَنْه عن المنكر ولامَت مَن كان يَنْهَيَ عنه لكنها كَرهته ولم تَفعله بما يدلّ علي أنَّ حال كلّ واحدٍ منهم مَتْروك له سبحانه هل له عَذْر مَقْبُول عنده فلا يُعاقِبه علي ما سَكَتَ عليه في الداريْن أم غير مَقبول فيُعاقِبه بما يُناسب فيهما
ومعني "فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿166﴾" أيْ فحينما تَكَبَّروا علي الذي مُنِعُوا منه وظلموا وخالَفوا أمر الله وهو اتِّباع الإسلام وعصوه وتركوه واستهانوا به وتَمَرَّدوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصرّوا تمام الإصرار عليها، جعلناهم بقولنا للشيء كُنْ فيَكون كما نُريد قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمتنا وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم.. إنهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان
ومعني "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿167﴾" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين تَأَذّنَ أيْ أعْلَمَ ربك أنه إذا لم يَتوبوا ويُسْلِموا ويَعملوا بأخلاق الإسلام هؤلاء اليهود وأشباههم سَيُرْسِل وسَيُسَلّط عليهم بالتأكيد طوال حياتهم حتي يوم القيامة ونهاية الحياة الدنيا مَن يُذِيقهم أشدّ أنواع العذاب السَّيِّء الشديد النفسيّ والجسديّ كالذلّة والإهانة ونحوها، فهو عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تَصْدُر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. ".. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ.." أيْ إنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك سريع العقاب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، حيث سيُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ.. وكذلك سيُجازِي ويُسَرِّع حتما بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة.. إنه تعالي يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مِثْلما يَفعل خَلْقه.. ".. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿167﴾" أيْ وإنه بالتأكيد بلا أيِّ شكّ في مُقابِل سرعة العقاب غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوْسَع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿168﴾" أيْ هذا بيانٌ لشكلٍ آخر من أشكال عقوبات الله تعالي المتنوّعة للذين سَبَقَ ذِكْرهم – ومَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمن – بسبب سُوئهم.. أيْ وقد مَزّقناهم وفَرَّقناهم في الأرض مجموعات، مُتَنَافِرَة مُتَضَارِبَة مُتَشَاحِنَة وقد تكون مُتَقَاتِلَة، بعد أن كانوا أمة واحدة قوية غنية آمِنَة هانِئَة.. لقد قطّعناهم أشدّ تقطيعٍ وتمزيقٍ وتفريقٍ حتي أصبحوا لاجئين مَذْلولين ضعيفين في بلادٍ شَتَّيَ.. ".. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ بني إسرائيل، اليهود، في وقت موسي ﷺ وبعده لم يكونوا كلهم أشراراً بل منهم الصالحون الذين صَلُحَت أقوالهم وأفعالهم في حياتهم فكانت في كل صلاحٍ وخيرٍ لا فسادٍ وشرّ الذين أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ومنهم أناس دون ذلك أيْ غير ذلك أيْ غير صالحين أيْ كافرين لم يُسْلِموا أو أسلموا لكنهم فاسدون يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها حيث التعميم بوَصْف الجميع بالسوء هو نوع من الظلم الذي يرفضه ويمنعه الإسلام لأضراره وتعاساته في الداريْن.. ".. وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿168﴾" أيْ واختبرناهم بما هو حسن وما هو سيء، بالحالات الحسنات التي يستحسنونها ممثلة في السلامة والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذريات والماليات والممتلكات وما شابه هذا، وكثيرا ما تكون هذه الحالات وهي الأصل، وأحيانا واستثناءً بالحالات السيئات التي تسوؤهم ممثلة في الخوف والتعسير والفقر والمرض والضرر ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿168﴾" أي لعلهم بتلك الاختبارات يرجعون إلينا وإلي الإسلام أيْ رحمة مِنّا بهم لكي يرجعوا ليسعدوا في دنياهم وأخراهم أيْ يَستفيقوا ويستقيظوا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويزيحوا الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره لأنَّ هذه الاختبارات تدعو العقلاء للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو شرّ وخطأ وتَرْكه والشكر لله لِمَا هو خير وصواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادتهم في حياتهم وآخرتهم وذلك حين يرون حُسْن وسرور حال الصالحين وسُوء وغَمّ حال مَن هم دون ذلك.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك عابدين لربهم متمسّكين بإسلامهم فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن مُنتفعين ممّا يُصيبهم في دنياهم مِن خيرٍ فيشكروه ليزيدهم ربهم منه ولا يمنعه عنهم بعدم شكره أو سوءِ استخدامه ومِن سوءٍ بسبب أفعالهم السَّيِّئة فيكونوا مُصَوِّبين دوْما لأخطائهم ليَنْجُوا من تعاساتها الدنيوية والأخروية
ومعني "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿169﴾" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة سُوءِ الذين يَبيعون دينهم الإسلام فلا يعملون به كله أو بعضه من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويَستهينون بذلك ولا يُقَدِّرون نتائج شرورهم بل يَتَوَهَّمون من شِدَّة إغلاقهم لعقولهم وسوء تفكيرهم أنَّ الله تعالي لرحمته الواسعة سيَغْفِر لهم بالتأكيد رغم استمرارهم وإصرارهم علي ما هم فيه بلا توبةٍ ولا عملِ خيرٍ!! وهذا البيان والتوضيح هو تحذيرٌ شديدٌ حتي لا يَتَشَبَّه بهم أيُّ أحدٍ فيتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه ولا يسعد أبداً فيهما.. أيْ فجاء مِن بعد هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرُهم والذين كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ويستفيدون من الابتلاءات فيَرجعون لله وللإسلام، جاء مِن بَعْدهم خُلَفاء سَيِّئُون شديدوا السُّوء، حيث قد أخذوا وانْتَقَلَ إليهم من آبائهم وأجدادهم الكتاب وهو التوراة الذي فيه الإسلام الذي كان يُناسب عصرهم، ولكنهم لم يعملوا به، فهُم يَأخذون حُطام هذا الشيء الأدني أيْ الأسفل الأقلّ وهو الدنيا أيْ يَتركون أخلاق إسلامهم ليَحصلوا علي ثمنٍ عارِضٍ أيْ زائلٍ يُعرَض لهم من أثمان الدنيا الرخيصة كأموال ومناصب ونحوها ويقولون مع ذلك، مع إصرارهم علي فِعْل هذا وانغماسهم فيه بلا أيِّ توبةٍ مُعترفين تماما بأنهم مُذنبون، يقولون سَفَهَاً وخِدَاعَاً لأنفسهم سيَغفر الله لنا مُؤَكّداً كل ذنوبنا، لأنهم من أكاذيبهم وافتراءاتهم وتخريفاتهم وأمْنِيَّاتهم وأوْهامهم التي قالوها ويقولونها اسْتِخْفافاً بعذاب الله أنه لن تَمَسَّنا النار في الآخرة مهما فعلنا من شرور ومَفاسد وأضرار إلا أياماً معدودات قليلات يُمكن عَدَّها ويُمكننا تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها، وأننا أبناء الله وأحباؤه، وما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وأمْنِيَّات وأوْهام!!.. وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ الشديد لهم ولأمثالهم.. ".. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ.." أيْ هذا بيانٌ أنهم مِن المُصِرِّين لا من التائبين.. أيْ والحال والواقع أنهم إنْ يأتهم عَرَضٌ حرامٌ آخرٌ مِثْل الذي أخذوه سابقا يأخذوه مرة أخري بلا أيِّ توبة، فهم مُصِرُّون على الذنب عائدون إلي مثله غير تائبين منه، وكلما أتاهم مَكْسَبٌ حرام أخذوه ومَنُّوا أنفسهم بالمغفرة كذباً على الله تعالى حيث هم لا يتوبون، لأنَّ التوبة الصادقة تَتَطلّب الاستغفار باللسان والندم بالعقل والعزم بداخله علي عدم العودة ورَدّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب متعلقا بهم، وهم لا يفعلون ذلك، فالذي مِن حقّه أن يقول سيُغْفَر لنا هو مَن امتنع وندم.. هذا، ومَن تاب توبة صادقة من ذنبٍ مَا ثم عاد إليه ثم تابَ منه يتوب الله عليه حتي ولو عاد له كثيراً ما دام في كل مرةٍ ينوي بصدقٍ عدم العودة، لكن عليه الاجتهاد في تَرْكه ليَتَجَنّب تعاساته.. ".. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ.." أيْ هل لم يُؤْخَذ عليهم العهد والوَعْد المُؤَكّد في الكتاب أي التوراة حين آمنوا أن يعملوا بما فيه وأن لا يقولوا علي الله إلا الصدق في كل قولٍ وأن لا يعملوا إلا بالخير في كل عملٍ وقد قرأوا وفهموا وعلموا تماما ما فيه من إسلامٍ يُرْشِدهم لقول الصدق لا الكذب وفِعْل الخير المُسْعِد في الداريْن لا الشرّ المُتْعِس فيهما؟! لقد أخذ الله تعالي عليهم الميثاق بالفِعْل وهم دارِسُون لِمَا هو مطلوبٌ منهم ولكنهم مع كل ذلك لم يعملوا بأخلاق كتابهم وخالَفوا عهدهم معه سبحانه فلم يُوفوا به مُتَعَمِّدِين واعِين لا جاهِلين أو ناسِين بما يدلّ علي شِدَّة سُوئهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿169﴾" أيْ والدار الآخرة حتماً بسبب أنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، هي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين، حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف، هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ الدنيا الزائل يوماً مَا، ولكنها ليست لأيِّ أحدٍ بل هي فقط للذين يتّقون أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿169﴾" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴿170﴾" أيْ والذين يَتَمَسَّكون دائما منكم أيها الناس بكل أخلاق الكتاب بأنْ يعملوا بما فيه كله في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم بكل قوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنه لسعادتهم، الكتاب الذي أنزلناه إليكم مع كل رسولٍ في كل زمنٍ وفيه الإسلام الذي يُناسب عصركم والذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وآخر كتاب هو القرآن العظيم، ووَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. هذا، وقد خُصَّت الصلاة بالذكْر مع أنها مِن كل ما يُتَمَسَّك ويُعْمَل به من الكتاب للتنبيه علي أهميتها وآثارها المُسْعِدَة.. ".. إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴿170﴾" أيْ وبسبب تَمَسُّكهم وصَلاحهم فنحن لا يمكن أبداً أن نُضِيع ونُذْهِب أجر المُصْلِحين وهم الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون أنفسهم وغيرهم بالصلاح وبالخير الذي بالإسلام ولكنْ نُعْطِيه لهم كاملا علي قَدْر أعمالهم بل ونُنمِّيه ونزيده أضعافاً مُضَاعَفَة بلا حسابٍ من فضلنا وكرمنا ورحمتنا وحُبِّنا لهم، في دنياهم أولا حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بنا وعملهم بأخلاق إسلامهم، ثم في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد
ومعني "وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿171﴾" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين رفعنا بقوة فوق بني إسرائيل جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي ﷺ وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا، وتَوَهَّمُوا حينها بل علموا وتأكّدوا أنه واقعٌ ساقِطٌ عليهم لأنَّ الجبل لن يبقي مُعَلّقَاً ففَزِعُوا لذلك، والتعبير بالظنّ لأنه لم يَقَعْ بَعْدُ بالفِعْل، فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منهم وتأييداً لصِدْق رسولنا ليتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه، فالأمر هو تَرْغيب وتَرْهيب لهم للعمل بأخلاق الإسلام التي في التوراة.. ".. خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ.." أيْ وقلنا لهم وأوْصَيْناهم أن خُذُوا ما أعطيناكم إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابكم التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، واذكروا ما فيه من أخلاقيَّات وتشريعات وأنظمة ولا تَنْسوه وتَدَبَّروه واقرأوه وتَعَلّموه وتَدَارَسُوه واعملوا به كله في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿171﴾" أيْ لعلكم بذلك تتقوّن، أيْ لكي تَتّقوا، أيْ تَخافوا ربكم وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴿172﴾ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿173﴾ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿174﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنُون التعامُل مع الفِطْرة.. إنها الميزان والمقياس الذي جعله الله تعالي في عقل كل إنسانٍ لِيَزِنَ به ولِيَقِيسَ عليه كل أقواله وأفعاله.. إنها مقياس الخير والشرّ.. فإنْ فَكّرَ العقل في خيرٍ مَا، سَمَحَت له به وأعطته الإذن في الاستمرار فيه، وفرحت به، وشعر العقل داخل مشاعره بارتياحٍ واطمئنانٍ وسعادة.. والعكس صحيح.. فإنْ فكّر العقل في شرٍّ مَا، لم تَسْمَح له به ولم تُعْطِه الإذن في الاستمرار فيه وحزنت به وقاوَمَته وتَصَارَعَت معه لمَنْعه وإيقافه وإعادته للتفكير الخَيْرِيِّ في أسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وشعر العقل بقَلَقٍ واضطرابٍ وعدم أمانٍ وكآبةٍ وتعاسة.. وهذا هو مِمَّا يُفْهَم من حديث الرسول ﷺ "اسْتَفْتِ قلبك.." ﴿جزء من حديث أخرجه أحمد﴾، وحديثه "البِرّ حُسْن الخُلُق، والإثم ما حَاكَ في صدرك وكرهتَ أن يَطّلِعَ عليه الناس" ﴿أخرجه مسلم﴾.. هذا، والقلب والصدر والعقل والروح والنفس والبصيرة كلها مرادفات لمعني واحد في الإسلام والقرآن وهو العقل، عند كثير من العلماء.. إنَّ الفطرة مَفْطُورَة ومُبَرْمَجَة من خالقها، أيْ بَدَأهَا وأنشأها، علي أخلاق الإسلام، علي كل خيرٍ مُسْعِدٍ، علي أنَّ الله تعالي واحدٌ لا شريك له، وأنه ربُّ كلِّ شيءٍ يُرَبِّيه ويَرْعَاه، وذلك حُبَّاً من الخالق لخَلْقه ورحمة بهم ليَسْهُل عليهم اتّباع الإسلام ليسعدوا به في حياتهم الدنيا حيث يُنَظّم لهم كل شئونها في كل لحظاتها علي أكمل وجهٍ فيُصلحهم ويُكلمهم ويُسعدهم فيها تمام السعادة ثم في آخرتهم حيث السعادة الأتَمّ والأعظم والأخْلَد.. وهذا هو ما يُؤَكّده حديث الرسول ﷺ "كلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علي الفِطْرة.." ﴿جزء من حديث أخرجه ابن حبان﴾.. إنَّ الفطرة من أهم النّعَم علي الإنسان، ليكون دائما علي خيرٍ وحقّ وعدلٍ وصوابٍ وسعادة.. إنها لا تَتَبَدَّل أبداً ولا تَتَغَيَّر مهما فَسَدَ عقله، وهذا هو وعده تعالي الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما يقول ".. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿الروم:30﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، وذلك من رحماته وأفضاله سبحانه علي بني آدم حتي يَظلّوا دائما لديهم الأمل في كل لحظة للعودة للخير وللسعادة مهما أساءوا، لكنْ إنْ اسْتَفَاقَت عقولهم واستجابَت لنداء الفطرة التي فيها والتي هي دَوْمَاً تنادي هذه العقول لكلّ خير.. إنَّ كل إنسان بينه وبين ذاته يشهد بالحقّ علي هذا، أنه مولود وبداخله هذا الميزان والمقياس، هذه الفطرة، كما يُؤَكّد ذلك تعالي بقوله "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا"، "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" ﴿الشمس:7،8﴾ أيْ بَيَّنَ لها أين الخير وأين الشرّ وعَرَّفها بهما، فلا حُجَّة إذَن لأحدٍ أن يقول أنه لا يعلم أين الخير وأين الشرّ، ثم يأتي الإسلام مع الرسل الكرام بعد هذه الفطرة لِيُؤَكّد هذا الخير ويُذَكّر به ويُوَضِّحه ويُفَصِّله وليُعطي من الوسائل ما يُعِين علي اتّباعه وعلي تَجَنّب كل شرّ.. فمَنْ وَصَلَه الإسلام وعَلِمَ به يُحَاسَب عليه يوم القيامة، ومَنْ لم يَصِله ولم يَعْلَم به فيُحاسَب علي الفطرة، أي يُجَازَيَ خيراً علي مَا قَدَّمَ مِن خيرٍ كان يَعرفه من خلال فطرته، ويُجازَيَ شَرَّاً – أو يُعْفَيَ عنه – علي ما قَدَّم مِن شَرٍّ كان يَعرفه بفطرته، وهذا من معاني قوله تعالي ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" ﴿الإسراء:15﴾.. إنَّ الفطرة – أو النفس – هي مع العقل إذَن، إذا كان في خير، وليست ضِدّه، إلا إذا كان في شرّ.. فمَن كان بعقله في خيرٍ دائما، فسيَجد حتماً السَّلاَسَة واليُسْر والسعادة دَوْمَاً.. والعكس صحيح قطعاً.. إنَّ أصل عقلك – نفسك – أيها الإنسان علي الخير، والشرّ استثناء دَخِيل عليه ضعيف أمامه ليس له مكانٌ فيه، فيَسْهُل عليك بالتالي مقاومة هذا الشرّ ومَنْعه، وليس العكس، أيْ ليس عقلك ﴿نفسك﴾ علي الشرّ، والخير استثناء، فيَصْعُب دخوله إلي هذه النفس الشرِّيرَة!!.. إنَّ دَوَام تَذَكّر هذا سيَجعلك دَوْمَاً أقوي في اتّجاه الخير، والشرّ هو الأضعف بالنسبة لك، ويَسْهل عليك أنْ تَغْلبه ولا تَتّبعه بل وتَمنعه وتَنْشُر خيرك، كما يقول تعالي مُؤَكّدَاً ذلك ".. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا" ﴿النساء:76﴾.. وبذلك يَسْهُل اتّباعك للإسلام، وتَسْهل حياتك.. وتَسْعَد في الداريْن.. فلا تَظلم إذَن النفس أبداً وتَتّهمها بأنها شَرِّيَّة لا خَيْرِيَّة!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة قصة الحياة وحِكْمَة سَمَاح الله تعالي بوجود الشرّ فيها في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴿172﴾"، "أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿173﴾" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخرج ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من ظهور بني آدم كلهم، ذرِّيَّاتهم كلها، حيث أخرج من ظَهْر آدم بعدما خَلَقه كلَّ ذرِّيَّته قبل أن يُولَدُوا والتي ستكون في الحياة الدنيا حتي نهايتها وقيام يوم القيامة، كما وَضَّحَ ذلك الرسول ﷺ في بعض أحاديثه، بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه وبكيفيةٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه القادر علي كل شيء – والظهور جَمْع ظَهْر وهو الصُّلْب أيْ العمود الفقريّ علي اعتبار أنَّ الخِصْيَتَيْن وهما مصدر المَنِيّ الذي يتكون منه الإنسان باتّحاده مع بويضة المرأة تكونان عند تكوينهما في الجنين في هذا المكان قبل أن تَنْزِلا إلي موضعهما المعروف بين الفخذين عند الولادة، كما وَضَّحَ هذا علماء الأَجِنَّة، إضافة إلي أنَّ أوعيتهما الدموية وأعصابهما التي تُغَذّيهما لكي تُفْرِز المَنِيّ عند سِنّ بلوغ ذلك أصلهما من هذا المكان أيضا فكأنه يخرج منه – وأشهدهم علي أنفسهم أيْ وجَعَلَهم يَشهدون علي أنفسهم بسؤاله إيّاهم ليُقِرُّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم هل أنا لست بربكم؟ فيُقِرُّون مُعْتَرِفِين مُسَارِعِين بالإجابة بسبب وضوح الأمر غاية الوضوح بحيث لا يُمكنهم غير الاعتراف وبسبب مَا وَضَعه فيهم من فطرةٍ مُسْلِمَةٍ مُعْتَرِفَةٍ بكل حقّ قائلين نَعَم نَشْهَد ونَعترف أنك وحدك ربنا ولا مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيرك.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي ما يكون بعد الاستفهام أيْ لنَفْي "ألست بربكم" والذي يعني تصديق أنه ربهم.. ".. أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴿172﴾" أيْ فَعَلْنا هذا مَنْعَاً من أن تقولوا يوم القيامة يا بني آدم يا مَن عَبَدَ منكم غيرنا وعَصَانا وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار مُتَحَجِّجِين مُحَاوِلِين الاعتذار عن سُوئكم إنّا كنّا عن هذا الأمر وهو عبادتك وحدك والعمل بأخلاق دينك الإسلام كلها غافِلين أيْ لم نَنْتَبه إليه ولم نَعْرِفه ولم نَدْرِ به، فليس لكم بالتالي إذَن أيّ عُذْر.. وذلك لأنهم ما داموا قد خَلَقهم الله تعالي على الفِطْرة التي تُذَكّرهم دائما به وبدينهم، وخَلَقَ لهم عقول تُفكّر، وجَعَلَ أمامهم في كلِّ شيءٍ من مَخْلوقاته المُعْجِزَة ما يدلّ على وجوده وكمال قُدْرَته وعِلْمه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ، وأرسل إليهم الرسل ومعهم كتبه التي فيها الإسلام فعَلّموهم إيّاه وبَشّرَوهم وأنْذَرَوهم، فقد انتهت بالتالي أيُّ حُجَّةٍ لأيِّ أحد، وسيُحَاسَب بكل عدلٍ وبما يُناسِب علي ما عمل في حياته الدنيا من خيرٍ أو شرّ.. هذا، ورحمة الله واسعة لمَن يَتوب ويَعود له ولدينه في حياته قبل موته.. "أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿173﴾" أيْ وفَعَلْنا ذلك أيضا مَنْعَاً لكم من أن تَتَحَجَّجُوا وتُحاولوا الاعتذار عن سُوئكم بحُجَّة أخري بأن تقولوا يوم الحساب إنَّ آباءنا هم الذين أشركوا مِن قَبْلِنا وكنا ذرِّيَّة لهم فاقْتَدَيْنا بهم ونَشَأنا علي طريقتهم بسبب أنهم آباؤنا وأجدادنا وحال الذرِّيَّة الاقتداء بالآباء وكنا جاهِلين ببطلان وسوء شِرْكهم وأنك وحدك الإله بلا شريك مُحْسِنين الظنّ بهم أنهم علي صواب فنحن بأنفسنا وحدنا من غيرهم لا نعرف أين الحقّ والصواب وطريق التوحيد وكيفية الاستدلال عليه، فهل تُعَذّبنا بما فَعَلَ آباؤنا هؤلاء المُبْطِلون أي المُتَعَمِّقون في الباطل أيْ في كلّ ما هو ضدّ الحقّ أي في كلّ كذبٍ وضلالٍ وشرٍّ وضياعٍ والذين هم كل أقوالهم وأفعالهم واضحة البُطْلان، أيْ أهل الباطل المُتمسّكون العاملون به، أيْ أهل الشرّ والفساد الذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، فأنت يا ربنا حكيم وعادل وقد وَعَدْتَ أنك لا تُؤَاخِذ أحداً بجريمة غيره فلا تُعاقبنا نحن الأبناء بفِعْل الآباء ونحن قد سِرْنا في طريقهم فالحُجَّة إذَن عليهم لا علينا بما شَرَعُوا لنا من الباطل فكيف تُؤَاخِذنا نحن؟!.. والمقصود من الآية الكريمة أنَّ حُجَّتكم الثانية هذه أيضا – والحُجَّة الأولي كما في الآية السابقة أنهم كانوا غافِلين – بالتالي إذَن غير مَقْبُولة مُطلقاً منكم ولا مِمَّن يَتَشَبَّه بكم ويَفعل مِثْلكم ولن تُعْفوا قطعاً من المسئولية ولن تُنْقَذوا من العذاب ما دُمْتُم قد خَلَقكم الله تعالي على الفِطْرة التي تُذَكّركم دائما به وبدينكم، وخَلَقَ لكم عقول تُفكّر، وجَعَلَ أمامكم في كلِّ شيءٍ من مَخْلوقاته المُعْجِزَة ما يدلّ على وجوده وكمال قُدْرَته وعِلْمه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ، وأرسل إليكم الرسل ومعهم كتبه التي فيها الإسلام فعَلّموكم إيّاه وبَشّرَوكم وأنْذَرَوكم، فقد انتهت بالتالي أيُّ حُجَّةٍ لأيِّ أحد، وسيُحَاسَب بكل عدلٍ وبما يُناسِب علي ما عمل في حياته الدنيا من خيرٍ أو شرّ.. إنكم كيف تَتّبعونهم حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنكم قد عَطّلتم عقولكم بسبب الأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ورحمة الله واسعة لمَن يَتوب ويَعود له ولدينه في حياته قبل موته
ومعني "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿174﴾" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، وكذلك لعلهم بهذا التفصيل يرجعون أيْ لكي يرجعوا أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم وأشباههم إلي ما وضعناه في فِطْرتهم والتي هي مسلمة أصلا وإلي إحسان استخدام عقولهم فيستفيقوا ويعودوا إلينا وإلي إسلامهم لتتمّ سعادتهم في الداريْن ولا يتعسوا فيهما لو استمرّوا علي ما هم فيه من سُوء.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك عابدين لربهم متمسّكين بإسلامهم فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن مُنتفعين ممّا يُصيبهم في دنياهم مِن خيرٍ فيشكروه ليزيدهم ربهم منه ولا يمنعه عنهم بعدم شكره أو سوءِ استخدامه ومِن سوءٍ بسبب أفعالهم السَّيِّئة فيكونوا مُصَوِّبين دوْما لأخطائهم ليَنْجُوا من تعاساتها الدنيوية والأخروية
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿176﴾ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿177﴾ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿178﴾ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿179﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾" أيْ هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ للإنسان ألاّ يَتَفَلّت من الإيمان بآيات الله تعالي والعمل بكل أخلاق الإسلام وألاّ يَقْبَلها وهي التي تُوافِق فِطْرته والتي هي مسلمة أصلا كما ذُكِرَ في الآية ﴿172﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ويَقبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهي تُحيط به من كل جانبٍ مُلاَزِمَة له كما يُحيط الجِلْد بالجسم لو تَدَبَّر أيّ مخلوقٍ مُعْجِزٍ حوله في كوْنه سبحانه وتَدَبَّر آيات قرآنه العظيم، وإلاّ لو تَفَلّت ولم يَقْبَل وكَفَرَ أو أسلمَ لكنْ لم يعمل بالإسلام كله أو بعضه لَتَعِسَ تعاسة في الداريْن بمِقدار بُعْده عن ربه وتَرْكه لدينه.. أيْ وأيضا اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ الذي آتيناه آياتنا فانْسَلَخَ منها لينتفعوا بما في هذا الخبر من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما، أيْ الذي أعطيناه وعلّمناه وفَهّمناه برحمتنا وفضلنا وكرمنا آياتنا – من خلال ما أعطيناه من عقلٍ وحواسّ وفطرةٍ ورسلٍ وكُتُبٍ ودعاةٍ لله وللإسلام وتيسيرٍ لأسباب المعرفة والعلم حوله – أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، لكنه لم يَنتفع ويَسْعَد بكل هذه الآيات بل انْسَلَخَ منها أيْ خَرَجَ وتَجَرَّدَ منها وخَلَعَها كما يَخرج من مَلابسه ويَخلعها ويَنْزعها والمقصود أنه تَرَكَها وأهملها ولم يَتَذَكّرها ويَتّعِظ ويعمل بها ونَسِيَ ما ذَكّره ربه به من خلال رُسُله وكُتُبه التي أرسلها معهم إليه من العمل بأخلاق الإسلام وأعْرَض عنه أيْ أعْطَيَ ظَهْرَه والتَفَت وانْصَرَف وابْتَعَد وفارَقه ولم يَبْقَ له به أيّ اتّصال، وقد يكفر، وما كل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله وذلك بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾" أيْ فلمّا انْسَلَخَ منها أتْبَعه الشيطان كنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ لانْسِلاخه – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟﴾ – أيْ لَحِقَه وأدْرَكه ولازَمَه وسَيْطر واسْتَوْلَيَ عليه وكان دائم التواصُل معه يُوقِعه دَوْمَاً في الشرّ فأصبح أيْ صارَ بالتالي من الغاوين أي الضالّين أيْ الفاعِلين لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن، وذلك لأنه قد افتقد الحَصَانَة التي تَحْميه وتُوَجِّهه لكل خيرٍ مُسْعِدٍ وهي آيات ربه ومَعُونته وأخلاق إسلامه.. هذا، ولفظ "فأتْبَعه" هو مُبَالَغة في ذمِّ هذا الإنسان وتحقيره حيث يُفيد أنه كالقائد للشيطان والشيطان هو الذي يَتْبَعه!!
ومعني "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿176﴾" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالِمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! ولو شاء ألاّ يَنْسَلِخَ أحدٌ مِن آياته مَا أنْسَلَخَ أبداً! ولو شاء أن يرفع الناس جميعا إلي أعلي درجات السعادة في دنياهم وأخراهم لفَعَل بالقطع! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾"، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. وخلاصة القول أننا لو شئنا لرفعناه أيْ لرفعنا هذا الذي انسلخ من آياتنا الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة إلي أعلي درجات الصالحين السعداء في الدنيا والآخرة لَفَعَلْنا فلا يَصْعُب علي قُدْرتنا شيء ولكننا نفعل ذلك إذا أراد هو هذا الارتفاع أولا واتّخذ أسبابه بأنْ أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لفطرته وبدأ بالعمل بهذه الآيات أيْ بأخلاق الإسلام فنشاء له حينها الرِّفْعَة بها بأن نُوَفّقه لعمله بها ونُيَسِّر له أسباب ذلك ونزيده توفيقاً وتيسيراً حتي يَصِلَ إلي تمام العمل بكلها وكمال الصلاح في الداريْن.. ".. وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.." أيْ ولكنه هو الذي لم يَشَأ لنفسه ذلك واختار في المُقابِل بكامل حرية إرادة اختيار عقله أنْ أخلد إلي الأرض أيْ سَكَنَ وأقامَ فيها، والمقصود أنه نَزَلَ إلي ما هو أسفل ولم يُرِدْ ولم يَخْتَرْ ما هو أعلي وأرْقَيَ وأسْمَيَ، أيْ سَكَنَ وأقام ودَاوَمَ في أحَطّ وأخَسّ وأحْقَر وأتْعَس تَصَرُّفات ولم يَقْبَل بأرْقاها وأعلاها وأطهرها وأسعدها، أقام في كل شرٍّ وسُوءٍ وتعاسة، وبكل إصرارٍ واستمرار.. واتّبَعَ هَوَاه أيْ سارَ خَلْفَ أفكاره الشَّرِّيَّة في عقله باختياره ففَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار.. فيشاء له حينئذٍ ربه ذلك، أيْ يَتركه فيه ولا يُعينه، ما دام لم يُظْهِر هو أيَّ بادِرَةِ خيرٍ ولو بخطوةٍ نحو هذا الخير حتي يُساعده سبحانه عليه وعلي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. ".. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ.." أيْ فمَثَلُ هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وكان إيتاء الآيات وعدم إتيانها بالنسبة له سواء فلا تُؤَثّر فيه ولا يَنتفع ويَنصلح بها بل يَبْقَيَ علي حاله يَخْلد إلي الأرض ويَتّبِع هواه، كمَثَل الكلب إنْ تَشُدّ عليه وتُشير إليه بتهديدٍ وتُطارِده يَلْهَث، أيْ يَتَنَفّس بشِدَّة نَفَسَاً سريعاً مُتَقَطّعَاً مع إخراج لسانه من التّعَب، وإنْ تركته على حاله يَلْهَث أيضا، فهو دائم اللّهْث في الحالتين، لأنَّ اللّهْثَ تَصَرُّفٌ وفِعْلٌ من أفعاله، فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظلّ علي سُوئه سواء اجتهدْتَ أيها المسلم الصالح في دعوتك له لله وللإسلام أو أهملته.. إنه يَلْهَث ويجري دائما وراء شروره ومَفاسده وأضراره، وحيرته ومَشَقّته بسبب سُوئه لا تنقطع.. إنه في أسوأ حالٍ وعلي أسوأ صورة، إنه ستكون عليه بَلادَة كبلادة الدوابّ، كالكلب، في أقبح أحواله وأوضاعه ومَنَاظِره حين يكون لسانه خارج فمه ولُعَابه يَسيل من جانبيه كالمجنون، لأنه قد ألْغَيَ عقله وهو أهم ما يُمَيّزه كإنسان.. إنه لن يعود للخير وللسعادة إلا إذا استفاق وأحسنَ استخدام عقله وتابَ وبدأَ بالعودة لآيات ربه فحينها يَتوب عليه ويُعينه ويزيل عنه آثار سُوئه المُتْعِسَة ويُسعده في الداريْن.. ".. ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا.." أيْ ذلك الوَصْف هو وَصْف جميع الذين كذّبوا بآياتنا المُنَزّلَة في كتبنا وآخرها القرآن العظيم علي رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ ، في كل زمانٍ ومكان، حيث لم يُصَدِّقوا بها ولم يعملوا بما فيها بل خَالَفوها وفَعَلوا كلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ في الداريْن.. ".. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿176﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، فاقرأ بالتالي إذَن علي الناس واذكر وارْوِ لهم وأخْبِرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من بَعْده المَقْصُوص عليك من جِهَتنا في قصص – جمع قِصَّة – القرآن الكريم من مِثْل هذه الأحوال والأخبار والأحداث والأمثال والدروس والعِبَر، لعلهم يتفكّرون أيْ لعلهم بذلك يَتفَكّروا أيْ لكي يتفكّروا أيْ يُحسنوا استخدام عقولهم ويَتدبَّروا ويَتعمَّقوا في الأمور فيَصِلوا حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدوا بذلك تماما في دنياهم وأخراهم.. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا الدنيا والآخرة في تمام التعاسة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين لقرآنهم عامِلين به كله
ومعني "سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴿177﴾" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لشِدَّة سُوئهم والتأكيد عليه.. أيْ ما أسوأ مَثَل وحَال أولئك القوم الذين كذّبوا بآياتنا المُنَزّلَة في كتبنا وآخرها القرآن العظيم علي رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ ، في كل زمانٍ ومكان، إذ لم يُصَدِّقوا بها ولم يعملوا بما فيها بل خَالَفوها وفَعَلوا كلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ في دنياهم وأخراهم، ما أسوأهم حيث شُبِّهُوا بالكلاب كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، ويظلمون أنفسهم قبل أيّ أحدٍ آخرٍ بسبب تكذيبهم هذا وفِعْلهم للسوء المُهِين المُضِرّ المُتْعِس لأنَّ ضَرَرَ ذلك وشقاءه واقعٌ عليهم أولا حتماً حيث سيُعَاقَبون بكل تأكيدٍ بما يستحِقّون يوما مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. وفي هذا تحقيرٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿178﴾" أيْ مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله، فمِثْل هذا هو الذي وَصَلَ للهداية الحقيقية المُؤَكّدَة في الحياة، إنه هو المُهْتَدِي بحقّ وبجَدٍّ وبكل تأكيدٍ ولن يستطيع أيّ أحدٍ أن يُضِلّه، إنه بالقطع السعيد السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، لأنَّ الله خالِقه سيكون هو وَلِيّه أيْ وَلِيّ أمره يَتَوَلّيَ كلّ أموره وشئونه فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿178﴾" أيْ فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿179﴾" أيْ ولقد خَلَقْنا للنار يوم القيامة كثيراً من الجنّ، ولفظ الجنّ في لغة العرب يعني كلّ ما جَنَّ من المخلوقات أي خَفِيَ عن الأنظار والمقصود والله أعلم المخلوقات التي سيَجعلها الله تعالي وقوداً للنار ولا يَراها المُعَذّبون فيها.. وأيضا خَلَقْنا للعذاب فيها كثيراً من الإنس – أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس – وليس المفهوم أنه سبحانه خَلَقهم ليُعَذّبهم حاشَاه تعالي وإنما للانتفاع بالحياة والسعادة فيها ولكنهم أفسدوها حيث لم يُطيعوه حينما أوْصاهم بالعمل بكل أخلاق الإسلام في كتبه مع رسله والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم وبَشّرَهم بالجنة لمَن يَعمل بها حيث سيَسعد في دنياه ثم أخراه وحَذّرهم بالعقاب بعذاب جهنم لمَن يُخَالِفوا فكذّبوا بذلك ولم يُصَدِّقوه وعانَدُوا واستكبروا واستهانوا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لأنفسهم ولغيرهم فاستحقّوا دخولها وعذابها بقَدْر ما يُناسِب مَساوِيء كلٍّ منهم بكلِّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا.." أيْ هذا بيانٌ لصفات المُعَذّبين بها ولأسباب عذابهم لكي يَحذرها تماماً ولا يَفعلها مُطْلَقَاً أيُّ عاقلٍ حتي لا يكون مصيره تعيساً مِثْلهم في الداريْن بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ لهم عقولٌ لا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يُدْركون ولا يَفهمون ولا يَعلمون بها الحقّ والخير، ولهم أعْيُن لا ينظرون بها نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى معجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم فهُم لهم عيون تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. ".. أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم كالبهائم التي لا تَعْقِل شيئا حولها والتي لا يشغلها إلا الأكل والشرب والتناسُل! لعدم انتفاعهم بما وَهَبهم الله تعالي من عقولٍ للتّدَبُّر، بل هم أضَلّ منها! أيْ أسوأ حالاً، لأنه علي الأقلّ هذه الأنعام التي لا تعقل شيئاً لها بعض عقلٍ وإدراكٍ تستجيب به لراعِيها الذي يَرْعاها حين يهديها ويُوَجِّهها للخير حيث مكان طعامها وشرابها وأمنها وحمايتها من الخطر وهي تَتّجه دائما نحو ما ينفعها وتَتَجَنّب ما يَضرّها بفطرتها التي خَلَقها فيها خالقها الكريم إضافة إلي أنها تنفع الإنسان بألبانها ولحومها وجلودها وغيرها، أمَّا هم فليسوا كذلك مُطلقا!!.. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿179﴾" أيْ هؤلاء قطعاً مُؤَكّدَاً هم التّائهون النّاسُون الضائعون اللّاهُون الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسون في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿180﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التعامُل مع أسماء الله تعالي وصفاته، فكلها الحُسْنَيَ، بمعني الكمال وتمام الحُسن، فإنْ كان الله تعالي قادرا فهذا يعني تمام القُدْرَة علي كل شيء، وإنْ كان حكيما فمعناه تمام الحكمة بوَضْع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وهكذا.. ولذا، فعندما تدعوه تأتي بما أمكن بما يُناسِب دعاءك، فلعلّ هذا قد يكون أقرب للإجابة، وإنْ كان أيّ دعاءٍ مِن أيِّ محتاج له سبحانه الكريم الودود سيكون مُجَابَاً بإذنه تعالي (برجاء مراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء، وكيفية اتَّخاذ أسباب الإجابة، وسعاداته في الداريْن﴾، فمثلا إنْ كنتَ تريد رزقا تقول ارزقني يا رزَّاق وإن أذنبتَ ذَنْبا فاستغفر الغفور الرحيم، وهكذا.. كذلك تَتَعَبَّد له، أيْ تُطيعه، بهذه الأسماء والصفات الحسني، في كل أقوالك وأفعالك في كل مواقف حياتك، بمعني أنه إذا كان سبحانه سميعا بصيرا فلا تَقُلْ ولا تفعل إلا خيرا لأنه يَسمعك ويُبْصِرك، وإذا كان مُنتقما من كلّ ظالمٍ فكن عادلا لا تظلم أحدا بأيِّ ظلم حتي لا ينتقم منك له، وهكذا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه بأيِّ اسمٍ تَدعوه وتتعامَل معه به سبحانه فقد حَصَلَ المقصود من حُسْنِ تواصُلك معه وحبك له وحبه لك واعتمادك عليه وعوْنه وإسعاده لك، فكلها أسماؤه تعالي وصفاته، وكلها حَسَنَة، وليس له اسم أو وَصْف غير حَسَنٍ!.. وإيَّاك ثم إيّاك أن تكون مُلْحِدَاً، أيْ مُنْحَرِفاً عن الحقّ مُتَّجِهَاً للباطل، مُنْحرفا عن الله والإسلام متجها لغيرهما، وإلا تَعِسْتَ في دنياك، ثم في أخراك بما هو أعظم وأتمّ وأخلد
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿180﴾" أيْ ولله تعالى وحده جميع الأسماء التي تدلّ على أحسن المعاني وأكمل الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فسَمُّوه واذْكُرُوه ونادُوه واعبدوه بها (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، للشرح والتفصيل).. ".. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُكوا أيها المسلمون ولا تُقْبِلوا علي ولا تَتَأَثّروا وتَنْشَغِلوا كثيراً بالذين يَمِيلُون عن الحقّ والعدل والصواب في أسمائه تعالي، بأيّ صورةٍ من صور الإلحاد أي المَيْل في أثناء التعامُل معها، سواء أكان تكذيبا وعِنادا لها أم استكبارا عليها واستهزاءً بها أم عدم عملٍ بأخلاقها أم تحريفها وتحويلها عن معناها المُراد منها أم ما شابه هذا.. والمقصود أن اتركوهم فلا تُقْبِلوا عليهم لكي يستشعروا اعتراضكم ورَفضكم لأقوالهم وأفعالهم السيئة فإنَّ هذا قد يُوقِظهم فيَعودون لربهم ولإسلامهم لكنْ مع ذلك وفي ذات الوقت عِظْوهم أيْ ذَكّروهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْوهم فيما بينكم وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحوهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عِظْوهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما.. ".. سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿180﴾" أيْ ذَرُوهم فإنهم سيُعَاقَبون جَزاء وفي مُقابِل وبمِقْدار أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها في دنياهم من كفرٍ بالله وإلحادٍ في أسمائه وتكذيبٍ برسله وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلم، سيُجزون – إنْ لم يتوبوا وأصَرُّوا علي ما هم فيه – في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿181﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿182﴾ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿183﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿181﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومِن الذين خَلَقنا في كل زمانٍ ومكانٍ مجموعة مؤمنة ثابتة علي إيمانها يرْشدون أنفسهم والناس حولهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، يَهدونهم بالحقّ أيْ بالإسلام الذي في القرآن العظيم، بأنْ يعملوا هم به ويدعوهم إليه ويُعَلّموهم إيّاه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وبه أيضا يسيرون في كل أحكامهم فلا يظلمون أحداً وإنما يَعْدِلون في كل شئون حياتهم حتي ولو علي أنفسهم، فهم يَتَحاكَمون إليه وهو مَرْجِعهم دائماً في كل قولٍ وفِعْل.. إنَّ الناس ليسوا كلهم أشراراً بل منهم حتماً أخيار علي خيرٍ عظيم.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ منهم مَن قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهذا كذلك يُفيد ويُنَبِّه ضِمْنَاً أنَّ كل الناس بالقطع فيهم الخير في فطرتهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أحسنَ المسلمون دعوتهم لله وللإسلام لاستجابوا ولسعدوا ولنَالَ الجميع الأجر العظيم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿182﴾"، "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿183﴾ أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السُّعَداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التُّعَسَاء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿182﴾" أيْ سَنُقَرِّبهم من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجهة التي لا يعلمون أنَّ العذاب سيأتيهم منها، أي من حيث لا يشعرون أنه استدراج بل يَتَوَهَّمون أنّ ذلك تفضيل وتكريم لهم علي غيرهم مع أنه سبب هلاكهم، وذلك من خلال أننا نَمُدّهم بالنِّعَم وأسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمونها في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سببا لعذابهم ولهلاكهم، وكذلك نُسَهِّل لهم أنْ يَتَصَرَّفوا تَصَرُّفاتٍ ويقولوا أقوالا يتوهّمون أنَّ فيها خيرا لهم فإذا بها تضرّهم وتُعذّبهم وتهلكهم، وهذا لون من ألوان كَيْدِى القويّ لهم والذى لا يَتَنَبَّه له أمثال هؤلاء، وذلك حتي لا يمكنهم الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حسرتهم وألمهم والاستهزاء بهم وبكل ما يملكون من قُوَيَ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام منهم فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿183﴾" أيْ وأُمْهِل لهم، أيْ وأتركهم لفترةٍ كافية، دون إهمالٍ حتماً، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشفقة عليهم، فإذا لم يعودوا وأصَرّوا علي ما هم فيه، سيكون هذا الإمْهال هو لزيادة شَرِّهم وبالتالي زيادة عقابهم في دنياهم وأخراهم، فإنَّ ذلك هو كَيْدِي بهم أيْ تَدْبِيري ضِدَّهم واسْتِدَراجِي لهم فإنه حتما قويّ شديد لا يُطاق ولا يُمْنَع وهو مُمْلَيَ عليهم لا يستطيعون الفرار والإفلات منه مُطلقا، بسبب سُوئِهم وإصرارهم عليه
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿184﴾ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿185﴾ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿186﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتفكّرون فيما جاء به الرسول ﷺ ، في القرآن العظيم، في الإسلام، فيما فيه من وَصَايا وأنظمة وتشريعات وأخلاقِيَّات، تُسْعِد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها في جميع الأماكن والعصور حتي يوم القيامة رغم المُتَغَيِّرات الهائلة للبَشَرِيَّة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فهل هذه المُعجزة الربَّانِيَّة، وهذا الرسول الكريم الصادق الأمين ﷺ ، بهما جنون؟!! إنه يُنْذِر كلّ مَن يُعْرِض عنهما ويُكَذّب بهما بالتعاسة في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْده منهما، ويُبَشِّر مَن يتمسّك بهما بالسعادة التامّة فيهما.. وستَسعد كذلك إذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿184﴾" أيْ هل لم يَتَفَكّر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا ومَن يَتَشَبَّه بهم فيَتَدَبَّروا بعقولهم ويَعلموا أنه ليس بصاحبهم – أيْ الرسول الكريم محمد ﷺ الذي هو المُصَاحِب المُلاَزِم لهم ويعرفونه تماما ولا يَخْفَىَ عليهم من حاله الحَسَن شيء – أيّ جنونٍ وأنَّ الذي يدعوهم إليه هو ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. هل لم يتفكّروا فيما جاء به، في القرآن العظيم، في الإسلام، فيما فيه من وَصَايا وأنظمة وتشريعات وأخلاقِيَّات، تُسْعِد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها في جميع الأماكن والعصور حتي يوم القيامة رغم المُتَغَيِّرات الهائلة للبَشَرِيَّة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، في هذه المُعجزة الربَّانِيَّة، وفي هذا الرسول الكريم الصادق الأمين ﷺ أكمل الناس خلقا وعقلا، هل بهما جنون؟! هل بَلَغَت بهم السَّطْحِيَّة التي هم فيها وبَلَغَ بهم تعطيل العقول إلي هذا الحَدّ حتي لا يتفكّروا في ذلك؟!! إنه ليس قطعا أبداً بمجنونٍ كما يَدَّعون كذباً وزوراً، فهُم مِن شِدَّة كراهيتهم له وللإسلام وسوء أخلاقهم يَطْعَنُون فيه ﷺ محاولين يائسين تشويه صورته وصورة القرآن الكريم لتنفير الناس عنه فلا يَقبلون منه دين الإسلام بقولهم كذبا وزورا وسوء أدبٍ أنه مجنون أىْ مُخْتَلِط في عقله لا يُدْرِك ما يقول بسبب ذِكْره للقرآن وعمله بأخلاقه!! وهم يعلمون تمام العلم أنه ﷺ هو الصادق الأمين كما كان يُطْلِق عليه المُصاحِبُون له في زمنه ذلك هم بأنفسهم ويعلمون أنه هو أحسنهم وأكملهم خُلُقاً وعَقْلاً!! كما أنه بالقطع ليس مجنوناً لأنَّ للمجنون صفات يعرفها الجميع كالتخريف وعدم الإدراك وسوء التصرّف ونحو ذلك.. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿184﴾" أيْ هذه فقط هي مهمّته ومهمّة المسلمين من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿185﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل لم يَنظر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا ومَن يَتَشَبَّه بهم نَظَر تَأَمُّلٍ واعتبارٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ في مُلْك السموات والأرض وفيما خَلَقَ الله من أيِّ شيءٍ فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا هو وحده الخالق القادر علي كل شيء – والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك أي المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة – ليَستدلّوا بذلك علي تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه فيتأكّدوا تماما أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة؟!.. ".. وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ.." أيْ وهل لم يَنظروا ويَتفكّروا أيضا في أنه من المُحْتَمَل أن يكون قد اقترب موعد موتهم فيَدفعهم ذلك إلي المُسَارَعَة في التوبة واتّباع الإسلام قبل مفاجأة الموت لهم وهم في أسوأ حالٍ هكذا حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفِعْل للشرور والمَفاسد والأضرار فيَصِيروا بالتالي لو ماتوا علي ذلك بلا توبةٍ إلي عذاب الله الذي لا يُوصَف والذي يَسْتَحِقّوه بما يُناسبهم؟!.. ".. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿185﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فإذا لم يُؤمن المُكذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يشبههم بحديث الخالق العظيم ورسوله الصادق الأمين وبمِثْل هذه الآيات الكوْنية والقرآنية علي أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فبأيّ كلامٍ ودليلٍ يُصَدِّقون به بعد ذلك إذَن؟!! لا شيء قطعا لأنه لا بَيان وتوضيح حتما أكثر من هذا البيان!! لأنَّ المشكلة بكل وضوح فيهم وليست في الأدِلَّة حيث هم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿186﴾" أيْ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نبه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن هذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! إنه حتماً لا هادِي أيْ مُرْشِد له، أيْ لن يَقْدِر أيُّ أحدٍ أنْ يهديه!! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿186﴾" أيْ ويَتركهم أمثال هؤلاء الضالّين في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن يُيَسِّر لهم أسبابه وبأن يُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ويَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية ﴿10﴾ من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا﴾.. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿187﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿ 15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿187﴾" أيْ كلّ الناس يَستَفْسِرون ويَسْتَخْبِرون ويسألون المسلمين وغيرهم عن ما هي الساعة وأيّ وقتٍ يكون إرْساؤها أيْ استقرارها وثبوتها وحُدوثها، كما تُرْسِيِ السفينة علي المَرْسَيَ عند نهاية رحلتها، وهل هي صدق أم كذب ونحو هذا من أسئلة مختلفة، فالمسلمون يسألون عنها لكي يُحسنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وليَحْيُوا حياتهم مُتَعَلّقِين بها مُتَشَوِّقين لخيراتها ولسعاداتها، والمُكَذّبون والمُعاندون والمُستكبرون والمُستهزؤن ومَن يشبههم يسألون عنها اسْتِبْعادَاً لها وتكذيبا لحدوثها وسُخرية منها، والمُتَرَدِّدون بين الإسلام وغيره من الأنظمة والأديان يسألون عنها لعلهم يَتَثَبَّتُون ويهتدون للخير وللسعادة، وهكذا.. والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ علم موعد حُدُوثها وقيامها أيْ موعد يوم القيامة عند ربي وحده – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وليس عندي ولا عند أيّ أحدٍ مِن الخَلْق أيّ شيءٍ منه.. أي رُدُّوا علي السائلين أيها المسلمون وقولوا لهم إنّ وقتها في علم الله تعالي وحده، وحتي رسله الكرام لم يعلم أيّ أحدٍ منهم موعدها، وهذا مِن رحمته سبحانه وحبّه لخَلْقه، لكي يَتوَقّعوها في كلّ وقتٍ فيُحسنوا الاستعداد الدائم لها بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ فيسعدوا بذلك، ومَن يَدري ويعلم فلعلّ موعدها أو موعد ساعة السائل قريب، أي نهاية أجله في الحياة وموته قد اقترب، ومَن ماتَ فقد جاءت ساعته وقامت قيامته، حيث الموت يأتي فجأة وكل ما هو آت فهو قريب حتما حتي لو تُوُهِّمَ أنه بعيد.. ثم مِن رحمته كذلك بعدم إعلام أحدٍ بها أو بموعد موته أنه لو كان أحدٌ يعلم ما يَحدث في اللحظة المستقبلية لَفَقَدَ الإنسان هِمَّته ونشاطه ولَقَعَدَ يَنتظر ما يعلمه أنه سيَحدث له!! ولَفَقَدَ بالتالي مُتعة الحياة وتنافسها والانطلاق والسعي فيها واستكشافها والتمتُّع بخيراتها والسعادة بها هي والآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها باستصحاب نوايا خيرٍ بعقله عند كل أقواله وأفعاله الدنيوية.. إنه مِن الحِكمة عدم السؤال عن توقيتها بل السؤال عن كيفية الاستعداد لها، بالعمل بكلّ أخلاق الإسلام وبحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ.." أيْ لا يُظْهِرها في وقتها الذي حَدَّدَ أن تقوم فيه إلا هو سبحانه لا أيّ أحدٍ غيره، بما يُفيد التأكيد علي الاستمرار في إخفائها إلى حين قيامها والتيئيس التامّ من إظهار موعدها.. ".. ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.." أيْ اشْتَدَّتْ وعَظُم وَصْفها علي كل مخلوقٍ فيهما، لشدّتها وفظاعة أحداثها، علي البَشَر حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، وعلي السموات والأرض ذاتهما حيث الانشقاق والتناثر والاضطراب والتغيير والتبديل.. إنها شديدة مُخِيفَة علي المُيسيئين إذ ينتظرون كل شرٍّ وتعاسةٍ، يَسِيرة يُخَفّفها الله علي المُحسنين إذ ينتظرون كل خيرٍ وسعادة.. ".. لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً.." أي لا تحضركم ولا تَجِيء إليكم ولا تَحْدُث لكم إلا فجأة.. وبالتالي فالعاقل إذَن هو مَن يُحْسِن الاستعداد لها قبل مَجيئها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وذلك حتي لا يُفاجَيء بحضورها وهو غير مُسْتَعِدٍّ لها ولما فيها من حساب.. ".. يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا.." أيْ يسألونك كأنك عالِمٌ بها، كأنك بالَغْتَ في السؤال عنها حتى علمتها، ولكنك لستَ كذلك، ولفظ حَفِيّ في اللغة العربية مأخوذ من حَفى عن الشيء أيْ بَحَثَ وسألَ عنه بتَتَبُّعٍ واسْتِقْصاءٍ وحِرْصٍ حتي عَلِمَ به، كما أنه مأخوذ من الحَفاوَة أيْ المُبَالَغَة في السؤال عن الآخرين والاهتمام بهم والإكرام لهم فكأنَّ بينه وبين الساعة مَوَدَّة تجعله يعرف الكثير من التفاصيل عنها ومنها موعد حُدُوثها، والمَعْنَيَان مُتَقَارِبان ونتيجتهما واحدة أنه يعلم وقتها فلْيُخْبِر به إذَن، والأمر ليس هكذا.. ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ اذكر لهم مُؤَكِّدَاً حاسِمَاً الإجابة إنَّ علم موعد حُدُوثها وقيامها عند الله وحده وليس عندي ولا عند أيّ أحدٍ مِن الخَلْق أيّ شيءٍ منه، حتي يَنشغلوا بما هو أهمّ وهو حُسْن الاستعداد لها لا موعدها.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿187﴾" أيْ ولكن أكثر الناس لا يُدْرِكُون أنَّ الله لم يُعْلِم أحداً بموعدها ويَتَوَهَّمون أنَّ عِلْمها يوجد عند بعض خَلْقه، ولا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يستطيعون استخراج حِكَمَه وهو القادر الحكيم العليم فيما يُخْفِيه من الغيب الذي يَغيب عنهم (برجاء مراجعة هذه الحِكَم التي ذُكِرَت مع تفسير قوله تعالي ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي.."، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية ﴿179﴾ من سورة آل عمران ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.."، لتكتمل المعاني﴾.. كذلك كثير من الناس لا يعلمون أنها واقِعَة حتماً لأنهم يُكَذّبون بها.. هذا، ولفظ أكثر يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها – لأنَّ البعض يعلم قطعاً هذه الحِكَم
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني لا أَقْدِر ولا أمتلك وليس بيدي مُطلقاً جَلْب وإحضار لنفسي أيّ نفعٍ أيْ خيرٍ ولا مَنْع أيّ ضرٍّ أيْ شرٍّ إلا الذي شاء اللَّه من ذلك فيُمَلّكنى ويُعطيني هذا النفع أو يَمنع عني هذا الضرّ بتوفيقه وتيسيره، فلا يَأتيني خيرٌ إلا منه ولا يَدْفع عني شرّاً إلا هو، فكل الأمور مُفَوَّضَة مَوْكُولَة مَتْرُوكَة إليه، فما شاء أن يَحْدث لا بُدَّ حتماً أن يَحْدُث لأنه هو وحده الذي يملك كل أسباب النفع والضرّ والهداية والضلال ولو مَنَعَ كل القُوَيَ والطاقات والإدراكات عن خَلْقه لتَوَقّفَت الحياة تماما وما نَفَعَ أحدٌ أحداً أبداً بخيرٍ مَا وما اهتدي لصوابٍ وما أضَرّ أحدٌ أحداً وما مَنَعَ عنه ضَرَرَاً مَا وَقَعَ به، فهو سبحانه النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. إنه تعالي وحده الذي ينفع، إمّا مبَاشَرَة بأنْ يَصِلَ الإنسان بعقله الذي وَهَبَه له إلي ما يريد من سعادةٍ في دنياه وأخراه ويُحسن اتّخاذ أسباب ذلك ما استطاع فيُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويُيَسِّر له الأسباب، وإمّا بصورةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر له آخرين لعَوْنه.. وإنْ أصابه ضَرَرٌ مَا، فلْيُراجِع ذاته وأسبابه التي اتّخذها لتصحيح الأمور (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. إنَّ كُلّاً من النفع والضرر هو مِمَّا يشاء الله تعالي للإنسان حسبما يشاء ويختار هو بكامل حرية إرادة عقله من أسباب هذا أو ذاك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الإنسان لنفسه يجتهد قَدْر استطاعته أنْ يُحَقّق النفع والسعادة له وأن يمنع الضرر والتعاسة عنه باتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة لذلك، لكن لن تَتَيَسَّر هذه الأسباب ولن تتحقّق نتائجها إلا إذا شاء الله تعالي، أي إذا يَسَّرها ووَفّق فاعِلِيها ومُتّخِذيها ولم يمنعهم أو يمنعها بشيءٍ من الأشياء، فإذا كان هذا حاله مع نفسه أقرب شيءٍ إليه فكيف ينفع أو يضرّ غيره؟! أو كيف إذَن سيأتي مثلاً بعذابٍ أو هلاكٍ له؟! أو كيف سيأتي هو بقيام الساعة أو بمُعجزةٍ خارِقَةٍ مثلاً وهو ما قد يطلبه منه بعض الكافرين والمُكَذّبين والمُعانِدِين والمُسْتَكْبرين والمُسْتَهْزِئين تَعْجيزاً له وتشويشاً عليه لأنه مسلم يدعوهم لأنه يُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن مِثْله؟!!.. ".. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ.." أيْ ولو كنتُ أعلمُ ما غابَ عني من مستقبلٍ آتٍ لاسْتَزَدْتُ من كل الخير لعلمي بأسبابه وما أصابني أيُّ شرٍّ لأني كنتُ سأسْتَعِدّ بأنْ أتَجَنَّب أسباب حُدُوثه قبل أن يَحْدُث لي، ولكنَّ الأمر ليس كذلك مُطلقاً، فهو سبحانه وحده لا غيره عالم الغيب أيْ العالِم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم.. ".. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.." أيْ ما أنا إلا نذيرٌ أي مُحَذّرٌ من تمام الشرّ والتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض الإسلام أو كله أو يُكذب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وبشيرٌ أيْ مُبَشّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة فيهما لمَن عمل بكلّ أخلاقه.. أيْ هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – وليس من مهمّتى ومهمّتهم معرفة علم الغيب والإخبار به، وليَتَحَمَّل الذين لا يَستجيبون ولا يَتّبِعون أخلاق الإسلام إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188﴾" أيْ لكنَّ الذي ينتفع بهذا الإنذار والتبشير هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عن ربهم وقرآنهم وإسلامهم، إلا إذا استفاقوا وعادوا إليهم
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا تأكّدتَ أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات ﴿187﴾، ﴿221﴾، ﴿226﴾، ﴿227﴾ منها أيضا، ثم الآية ﴿195﴾ من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية﴾
هذا، ومعني "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" أيْ الله تعالي، المستحق وحده للعبادة بلا أيِّ شريك، العالِم بالغيب، العظيم الشأن، الذي ليس كمثله شيء، هو الذي خلقكم أيها الناس أيْ أوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وكلكم عنده متساوون فلا يتكَبَّرَ أحدٌ علي غيره ولا يَفْضُل أحدٌ أحداً إلا بعمل الخير، وخَلَقَ مِن هذه النفس زوجها حواء من جنسها ونوعها وصنفها أيْ إنسانا مثلها وليس نوعا آخر لا يمكنها التعايش معه، وأيضا خَلَقه منه أي مِن آدم لمزيدٍ مِن الاستشعار بأنَّ هذا المخلوق هو جزء منه مُكَمِّل له فيزداد حبا له وتمسّكا به، ليَسْكُن إليها، أي لكي يَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أي ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة – من خلال المودة أي المحبة والرحمة أي اللين والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما، ليحدث التآلُف والتحابّ والالتئام والسرور التامّ بينهما لأنهما من بعضهما، وهذه معجزة عظيمة لأنها هي المرأة الوحيدة التي خُلِقَت من رجلٍ بينما بقية الأنفس يخلقها سبحانه بعد ذلك من التزاوُج بين الرجال والنساء والذي به بَثّ منهما أيْ نَشَرَ في الأرض رجالاً كثيرين ونساءً كثيرات.. وكل هذا هو من بعض دلائل تمام قُدْرته وكمال علمه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ.." أيْ فلمّا جَامَعَ زوجٌ زوجته حيث كان فوقها كالغِشاء والغِطاء – ويُلاَحَظ استخدام القرآن الكريم لألفاظٍ طيِّبةٍ عَفِيفةٍ لمِثْل هذه الأمور تعليماً للبَشَر حُسْن الخُلُق في كل أقوالهم وأفعالهم – حَمَلَت منه جَنِينَاً خفيفاً فاستمرّت به مُتَحَرِّكَة حركتها العادِّيَّة بلا تَثَاقُلٍ لخِفّة الحمل في أشهره الأولي وكذلك استمرّت به إلى وقت ميلاده من غير إسقاط.. ".. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" أيْ فحين صارَت ثَقيلة بسبب نُمُوّ حملها وثقله واقتربت من ولادته، دعا الزوجان الله ربهما – أيْ مُرَبِّيهما وخالقهما ورازقهما وراعِيهما ومُرْشِدهما من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهما ويُكملهما ويُسعدهما تمام السعادة في دنياهما وأخراهما – مُشْفِقَيْن بفطرتهما بشعور الأُمُومَة والأُبُوَّة علي مولودهما مُحِبَّيْن له مُهْتَمَّيْن به قائِلَيْن إذا أعطيتنا مولوداً صالحاً أيْ سليماً في خِلْقته تامّاً لا نقص في عقله وجسده صالحاً للأعمال الإنسانية النافعة المُسْعِدَة صالحاً للعمل بأخلاق الإسلام فيكون صالحاً في دينه مسلماً نافعاً سعيداً، سنكون بالتأكيد من الشاكرين لك علي نِعَمك التي لا يمكن حصرها، بعقولنا باستشعار قيمتها وبألسنتنا بحمدك وبأعمالنا باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، حتي نجدها دائما باقية وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدْتَ ووَعْدك الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾
فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿190﴾ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿191﴾ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿192﴾ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴿193﴾ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿194﴾ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ﴿195﴾ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴿196﴾ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿197﴾ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿198﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُتَذَكّرَاً دائماً ميثاقك مع ربك، أيْ عهدك ووَعْدك معه، فلا تُخْلِفه (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿12﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿190﴾" أيْ هذا بيانٌ للحال القبيح للمشركين من بني آدم وحواء – أي الذين يعبدون مع الله آلهة غيره – حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ مُطلقاً وإلا تَعس تعاساتهم في الداريْن بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ فلمّا أعطي الله تعالي الزوج والزوجة من المشركين مولوداً صالحاً كما يريدان أيْ سليماً تامّاً في خِلْقته جَسَدَاً وعقلاً، جَعَلاَ لله سبحانه شركاء فيما أعطاهما من أبناء وغيرهم من النّعَم التي لا تُحْصَي حيث نَسَبُوا هذا العطاء الكريم إلى الأصنام وغيرها من الآلهة التي يعبدها أمثال هؤلاء المشركين السفهاء أو إلى الطبيعة كما يَدَّعِي البعض كذباً وزوُرَاً أو إلى غير ذلك مِمَّا يَتَنَاقَض مع إفراد الله تعالى بالعبادة والشكر، بل وأبْعَدَا هذا المولود إلي عبادة غير الله والعمل بالإسلام الذي هو في فطرته والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشركين في فترات الشدائد والمَخَاوِف يَلجأون بالدعاء والسؤال إلى الله تعالي وحده لا إلي أيِّ أحدٍ غيره، يدعونه بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ، يدعون خالقهم وحده وقتها بكل إخلاصٍ أيْ صِدْقٍ في دعائهم وفي طاعتهم له مُخْلِصين مُحْسِنين ويَتركون ويَلْفِظون ويَنسون آلهتهم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! إنهم حينها يَنسون بل يحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلِّ شيءٍ لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيِّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنهم يدعونه حينها قائلين وَاعِدِين وَعْدَاً لئن أنْقَذنا الله مِمَّا نحن فيه فسنكون بكل تأكيدٍ من الشاكرين له بأن نعبده أيْ نطيعه وحده بلا أيِّ شريكٍ له في العبادة وبأنْ نَتّبِع دينه ونظامه الإسلام كله بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له، لكنهم بعد أن ينقذهم وفي حال الرخاء يُشركون معه في العبادة أي الطاعة غيره مِمَّا لا يَمنع شَرَّاً ولا يُحَقّق خيراً، مُخْلِفين بذلك وَعْدَهم، فبَدَلاً أن يشكروه تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي منها نعمة نجاتهم مِمَّا هم فيه إذا هم يُشركون!! أيْ يعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب بعضهم النجاة لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض الناس من المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حُدُوث ضَرَر وخوف مَا يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتَرْكهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم! فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿190﴾" أيْ فتَعَاظَم الله وارتفع وابتعد عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿191﴾"، "وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿192﴾"، "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴿193﴾" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل يُشْرِكون في العبادة مع الله تعالي آلهة كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها لا تَخْلُق أيْ لا تُوجِد مِن عدمٍ أيّ شيءٍ وهي مَخْلوقة من مخلوقات الله أصلا؟!.. إنها لا تَضرّ أحدا ولا تنفعه بأيِّ شيءٍ حيث هي كما يري الجميع واقعا لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟!.. أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! كيف يَلِيق بسليم العقل أن يجعل المَخلوق العاجِز شريكاً للخالق القادر؟! إنه لا مُقَارَنَة حتماً عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! ولكنه التعطيل لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿192﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العَجْز والاحتياج المُنَاقِضَيْن لاستحقاق الألوهِيَّة.. أيْ ولا يمكنها هذه الآلهة بالقطع لعابِديها نصراً مَا مِن أيِّ نوعٍ في أيِّ مجالٍ ولا أنفسها تَنْصُر إنما العابدون لها هم الذين ينصرونها! فهي في غاية العَجْز والذلّة فكيف تكون آلهة؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيء (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴿193﴾" أيْ هذا بيانٌ لتمام عَجْز هذه الآلهة حتي عَمَّا هو أقلّ وأسهل مِن نصر نفسها وغيرها وهو مُجَرَّد الدلالة على مطلوبٍ مَا مِن غير تحقيقه للطالِب!.. أيْ وإنْ تدعوا هذه الآلهة أيها العابدون لها لتُرْشِدكم إلي ما تريدون لا تَتّبِعكم إلي هذا الذي تريدونه فتُجيبكم إيّاه، فهي لا تَنفع بشيء، وأيضا لا تَنتفع بشيء، فلو فُرِضَ ودعاها أحدٌ لهُدَيً أيْ رشادٍ وخيرٍ مَا لا تَتّبعه! فهي لا تَهْدِي ولا تُهْدَي ولا تُرْشِد ولا تُرْشَد ولا تُفِيد ولا تَستفيد! لأنها لا تعقل!.. كذلك من المعاني أنكم إنْ تدعوهم – أيْ تَدعو المشركين – أيها المسلمون، إلي الهُدَي أي الإسلام، لا يَتّبعوكم، لشِدَّة إغلاقهم لعقولهم.. ".. سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴿193﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ يستوي دعاؤكم لها ولهم وسُكُوتكم عنها وعنهم، فلا يتغيَّر الحال في الحالتين، لأنه لا عقل لها ولهم!
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿194﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْزها مع الدعوة لأمثال هؤلاء للتّفَكُّر والتّعَقّل لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولأخلاق إسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسُوا فيهما.. أيْ إنَّ الذين تعبدون غير الله أيها المشركون وتُسَمُّونها كذباً وزُورَاً آلهة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾ هم عباد أمثالكم أيْ مَمْلُوكون لله ربهم مَخْلُوقون مثلكم حيث أنتم أيضا مملوكون له مخلوقون من مخلوقاته، فلا فرق بينكم وبينهم فكلكم عبيد للّه مملوكون، فكيف يَعبد عبدٌ عبدَاً مِثْله عاجِزَاً عن النفع والضُّرّ مِثْله؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. ".. فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿194﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْزها كما أنه ذمّ ولوْم شديد ورفض تامّ وتَعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فاعبدوهم واسألوهم جَلْب نَفْعٍ مَا أو مَنْع ضُرٍّ مَا ولتَسْتَجِب لكم إذَن إنْ كنتم صادقين في ادِّعائكم أنها آلهة قادرة علي ذلك! فإنْ لم تَسْتَجِب، ولن تستجيب حتماً، فأنتم إذَن بالتالي كاذبون وهي ليست آلهة ولا تستحقّ العبادة.. والأمر في هذا الجزء من الآية الكريمة هو للتّعْجِيز، لإظهار عَجْز هذه الآلهة ولإظهار كذب وسَفَه مَن يعبدونها.. وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان، لأنهم لا دليل عندهم مِن عقلٍ أو مَنْطِقٍ أو علمٍ على صِحَّة ما يَدَّعُون
ومعني "أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ﴿195﴾"، "إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴿196﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنه مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي.. أيْ بالعقل والمَنْطِق والانْصاف فإنَّ هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تملك أصلاً أقل أسباب القوة والقُدْرَة علي النفع والضرّ كالأرجل للمشي والأيدي للعمل بقوةٍ والأعين للنظر والآذان للسمع ونحو هذا، فكيف تَرْقَيَ لأنْ تكون آلهة تُحَرِّك الكوْن وتَدَبُّر شئون كلّ الخَلْق؟!! أيُّ سَفَهٍ وانْحِطاطٍ هذا الذي هم فيه؟!!.. كيف تعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة كتمام القُدْرَة وكمال العلم والسمع والبصر والرزق والنفع والضرَر وغير ذلك بل هو مخلوق مثلكم بل هو أضعف منكم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. ".. قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ﴿195﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي كما أنه ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن إضافة إلي مزيدٍ من التَّحَدِّي لهم وإظهار ضعفهم وعَجْزهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لأمثال هؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم اسْتَدْعُوا وأحْضِروا ونادُوا وهاتُوا واطلبوا واسْتَجْمِعوا آلهتكم التي تدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة واستعينوا بها عليَّ وابذلوا كل جهودكم ثم كيدونِ جميعاً متعاونين أنتم وشركاؤكم أيْ افعلوا بي المَكَائِدَ بكل أشكالها أيْ دَبِّرُوا ضِدِّي ما يُوقِع بي الشرّ والهلاك باستخدام كل إمكاناتكم مُحاوِلِين إيذائي بالقول والفِعْل ولا تُنْظِرونِ أيْ ولا تُمْهِلونِ أيْ ولا تَتْرُكُونِ وتُؤَخّرونِ لأيِّ فترةٍ بل عَجِّلوا بذلك فإني لا أهتمّ بكل هذا لأني مُتَوَكّلٌ علي الله مُعتَمِدٌ عليه مُعْتَصِمٌ به ومَن كان كذلك فلن يخاف شيئاً من المخلوقين جميعاً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة آل عمران ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" ، والآية ﴿67﴾ من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، والآية ﴿81﴾ من سورة الأنعام "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ..".. ثم مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ النافع والضارّ هو الله تعالي وحده﴾.. "إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴿196﴾" أيْ وذلك لأنَّ وَلِيَّ أمري الذي يُديره لي علي أكمل وجهٍ فيُحِبّني ويَرْعاني وينصرني ويُعينني ويُؤَيِّدني ويُوَفقني ويُؤَمِّنني ويُسعدني هو الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ مالِك المُلك القويّ المتين الذي له كل صفات الكمال الحسني الذي نَزَّل القرآن العظيم الذي فيه التأكيد التامّ بأنه وَلِيِّي وناصري لأني رسوله وبأنه وَلِيّ وناصر كل مسلمٍ يعمل بإسلامه ويتوكل عليه وبأنَّ شركاءكم لا يستطيعون نصركم أو حتي نصر أنفسهم.. ".. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴿196﴾" أيْ وكذلك عدم الخوف من شركائكم لأنه هو مِن عادته وشأنه وأسلوبه تعالي دائما أنه يتولّي الصالحين وينصرهم ولا يتولّي الفاسدين ويهزمهم.. فهنيئاً للمسلمين الصالحين هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة وتَبْشِيراً لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿197﴾"، "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿198﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من البيان لأسباب عدم المُبالاة بآلهتهم والخوف منها ومزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي كما أنه ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن إضافة إلي مزيدٍ من التَّحَدِّي لهم وإظهار ضعفهم وعَجْزهم.. أيْ والذين تعبدون غيره تعالي أيها المشركون لا يستطيعون نصركم بأيِّ نوعٍ من أنواع النصر في أيِّ مجالٍ ولا أنفسهم ينصرون إنما العابدون لهم هم الذين ينصرونهم! فهم في غاية العَجْز والذلّة فكيف يكونون آلهة؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيء (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول لا يستطيعون بَدَلَاً عن لا تستطيع والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك وليُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿198﴾" أيْ وإنْ تدعوا هذه الآلهة أيها العابدون لها لتُرْشِدكم إلي ما تريدون لا تَسمع إلي هذا الذي تريدونه سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ فتُجيبكم إيّاه، فهي لا تَنفع بشيء، وأيضا لا تَنتفع بشيء، فلو فُرِضَ ودعاها أحدٌ لهُدَيً أيْ رشادٍ وخيرٍ مَا لا تسمعه ولا تَتّبعه! فهي لا تَهْدِي ولا تُهْدَي ولا تُرْشِد ولا تُرْشَد ولا تُفِيد ولا تَستفيد! لأنها لا تعقل!.. كذلك من المعاني أنكم إنْ تدعوهم – أيْ تَدعو المشركين – أيها المسلمون، إلي الهُدَي أي الإسلام، لا يسمعوا آيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، وذلك لشِدَّة إغلاقهم لعقولهم.. ".. وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿198﴾" أيْ وكذلك تُشاهِد هذه الآلهة من الأصنام والأحجار وما يُشبهها أيها الناظر إليها المُتابِع لحالها كأنها تنظر إليك بما تَمَّ تشكيله فيها من شكل العيون ولكنها في الواقع لا تري شيئاً لأنها ليست عاقلة تعقل صُوَر ما أمامها.. وأيضا هذا هو حال المشركين تراهم ينظرون إليك ولكنهم لا يُبصرون بمعني أنَّ لهم أعْيُن لا ينظرون بها نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى معجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم فهُم لهم عيون تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴿199﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم ﷺ حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله ﷺ "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" ﴿جزء من حديث رواه البخاري ومسلم﴾، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. كذلك ستَسعد كثيراً إذا كنتَ من الذين يُحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الذين لا يُقابِلون الجَهْل وسوء القول والفِعْل بمِثْله
هذا، ومعني "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴿199﴾" أيْ اقْبَلْ وتَنَاوَل العفو وهو التيسير أيْ عامِلْ به غيرك واعْمَلْ وتَخَلَّقْ به أنت في كل شئون حياتك، في كل أقوالك وأفعالك، مع ذاتك ومع الآخرين، حتي مع الحيوانات والنباتات والجمادات وكل الأشياء! خُذْ بما يَسْهُل علي الذات فِعْله وتَفْعَله بحبٍّ ورغبةٍ وتَشَوُّقٍ ويمكنها المُدَاوَمَة عليه بلا انقطاعٍ وبلا أيِّ مَشَقّةٍ أو ببعض مشقةٍ لكنها مُتَحَمَّلَة مُحَبَّبَة للفطرة بداخلها مُوَافِقَة مُسْعِدَة لها.. هذا، ومن العفو عدم تكليف أحدٍ بأكثر مِمَّا يُعْلَم من قدرته وطاقته، والتّجَاوُز عن بعض النقص والتقصير المَقبول المُحْتَمَل، ومراعاة قُدْرات الصغير والضعيف والفقير ونحوهم، ومعاملة الجميع بِرِقّةٍ ولُطْفٍ ويُسْرٍ بما يَشرح صدورهم ويسعدهم.. كذلك من معاني العفو مُقابَلَة المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان الأمر الذي يُؤدّي إلي كثيرٍ من المصالح والسعادات ومَنْع كثيرٍ من المفاسد والتعاسات للمُسَامِح ولمَن يُسَامِحه وللجميع، وإنَّ الذي يَعفو ويُسامِح هو الأقوَيَ والأعَزّ والأعلي والأحسن والأصْفَيَ بَالَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿134﴾ من سورة آل عمران ".. وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.."، والآية ﴿34﴾ من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وأيضا من معاني العفو، العفو في الإنفاق، أيْ أنْفِقوا العَفْوَ وهو ما تَيَسَّر وخارِج زائِد مَتْرُوك عن احتياجات المُنْفِق وضروراته ولا يَصْعب عليه إنفاقه، والأمر يختلف من فردٍ لآخر حسب تقديره، وإلا كان الإنفاق مُضِرَّاً له شَاقّاً مُتْعِسَا! فليس من المعقول أو المقبول أن يُسْعِد الآخرين ويُتْعِس ذاته! فذلك مِن تَوَازُن الإسلام ليَسعد الجميع.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُوصِي بأنْ يكون المسلم من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين لأنّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ.." أيْ وأَوْصِي نفسك وغيرك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. هذا، والأمر بالمعروف يشمل ضِمْنَاً النهي عن المُنْكَر – لأنَّ الأمر بالشيء هو في الحقيقة نَهْيٌ عن ضِدّه – أيْ المَنْع منه للذات وللغير بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴿199﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك الجاهلين واتركوهم أيها المسلمون وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. والجاهلون هم الذين لا يعرفون ما يضرّهم وما ينفعهم، ولا يُدْرِكون ما هو واضح وصدق وعدل وخير، فهم لا يُحسنون استخدام عقولهم، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهماً جيداً فلا يَتدبّرون في الأمور، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ!.. إنهم يَجهلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله والعاقل لا يفعل ذلك.. إنهم يجهلون الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. إنهم كالجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ.. إنَّ بعضهم مثلا يعبدون غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه بَعْد كلّ الذي شاهدوه بأعينهم من الآيات أي الدلالات المُعجزات الدالاّت على أنَّ الله تعالي واحد لا شريك له وعلي صِدْق ما جاءهم به الرسول الكريم محمد ﷺ من إسلامٍ ويريدون اتّباع غيره فيفقدون سعادتهم في دنياهم وأخراهم.. إنهم يجهلون كل ذلك وبكلّ ما يستحِقّه سبحانه من حبٍّ وطاعةٍ وتعظيمٍ وشكرٍ وتوكّلٍ واعتمادٍ عليه.. إنَّ هذا الجهل لم يكن إلاّ بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يستخدموها في حُسْن العلم والبحث والتدبّر والاستجابة لِمَا في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم لو كانوا علي أقلّ قدْرٍ من العقل المُنْصِف العادِل ما فعلوا ما يفعلون وما قالوا ما يقولون!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُوَجِّه ويُوصِي المسلم ألاّ يُقابِل جَهْل جاهلٍ مَا بجهلٍ مِثْله، أيْ إنْ آذاه بقولٍ أو فِعْلٍ فلا يُؤذيه، وإنْ ظَلَمه فلا يَظلمه بل يَعْدِل معه، وإنْ حَرَمه شيئا فلا يَحْرِمه، وإنْ قاطَعه فلا يُقاطِعه بل يَتَوَاصَل معه ما أمكن، وعليه ألاّ ينشغل بإساءاته فيشغله هذا الجاهل عَمَّا يُفيده ويُسعده في الداريْن ويَستهلك جهوده وأوقاته ولكنْ عليه أنْ يهتمَّ وينشغل بحُسْن دعوته لله وللإسلام
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿200﴾ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴿201﴾ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴿202﴾ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿203﴾ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿204﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿200﴾" أيْ وإنْ أَلْقَيَ الشيطان في فِكْرك أيها المسلم نَزْغَة من نَزَغَاته أيْ وَسْوَسَة من وَسْوَسَاته، والنزْغ هو أيّ كلامٍ يُراد به الشرّ والإفساد سواء أكان سِرِّيَّاً أم عَلَنِيَّاً، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْماً لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيرا فله كل الخير ومن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. ".. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.." أيْ فحينها وفوراً الْجَأ إلي الله وتَحَصَّن به واعتَمِد عليه وادْعُوه أن يساعدك علي مقاومة خواطر الشرّ بعقلك حينما تفكر فيها ولا تُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة.. ".. إِنَّهُ سَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿200﴾" أيْ لأنه وحده سبحانه الذي يسمع تماما كلّ طلباتك وأقوالك وطلبات كل خَلْقه ويعلم بتمام العلم احتياجاتكم جميعا، وهو وحده القادر حتما علي إبعاد هذه الوساوس عنكم وحفظكم ورعايتكم وتلبية كلّ ما تحتاجونه، فاطمَئِنّوا إذن واسْتَبْشِروا وأَحْسِنوا واسْعَدوا
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴿201﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ إنَّ الذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء حتما إذا لَمَسَهم وأصابهم طائفٌ من الشيطان أيْ مَا يَطوف ويَدُور بالعقل من الفِكْر الشَّرِّيّ، فبمجرَّد مروره بعقلهم لا يستمرّون فيه بل تَذكّروا عداوة الشيطان لهم المُتَمَثّلَة في التفكير بالشرّ وتَذكّروا الاستعاذة بالله منه وتَذكّروا هيبته سبحانه خالقهم وعظمته ونِعَمه ومراقبته لهم وأوامره ونَوَاهِيه وحسابه وعقابه وجنته وناره ورحمته وغضبه وفقدانهم لرضاه عنهم وعوْنه وخَيْره وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم مع عقابه وعذابه وإتعاسه لهم فيهما بما يُناسب فِعْلهم السَّيِّء لو فعلوه، فحين تَذكّروا كل ذلك وغيره فمُبَاشَرَة وسريعاً إذا هم بسبب ذلك التذكُّر مُبْصِرون أيْ علي بَصِيرَةٍ أيْ مُدْرِكُون مُتَدَبِّرون بعقولهم الشرّ وتعاساته في الداريْن فلا يفعلونه والخير وسعاداته فيهما فيفعلونه
ومعني "وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴿202﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وبعد ذِكْر حال الذين اتّقوا أنهم إذا مَسَّهم طائفٌ من الشيطان تَذَكّروا فإذا هم مُبْصِرُون، يَذْكُر تعالي حال غير المتّقين بكل صورهم وأشكالهم من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ونحوهم ويُسَمِّيهم إخوان الشيطان لأنهم مِثْله في السوء والشرّ ويَقتدون به فيقول: وإخوانهم أيْ وأمَّا إخوان الشيطان هؤلاء، يَمُدُّونهم الشياطين في الغَيِّ أيْ يُزيدونهم في الغِوَايَة أيْ في الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة في الداريْن وبالجملة في كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ للإسلام، ولا يُقْصِرُون أيْ ولا يَمْتَنِعون ولا يَتراجعون بل يستمرّون، أيْ فلا أهل السوء يَمتنعون عن سُوئهم ويكونون من المُبْصِرِين كالمُتقّين وذلك مهما وَعَظَهم الواعِظون لأنهم ليسوا من الذين اتّقوا، ولا وَساوِس الشياطين أيْ الأفكار الشَّرِّيَّة بداخل عقولهم تمتنع عنهم لأنهم يُنَمّوُنها ولا يَمنعونها، فهُم كلما وَسْوَسَ لهم الشياطين بالشرِّ أيْ وسوس لهم تفكيرهم الشَّرِّيِّ بالشَّرِّ أو وسوس لهم مَن حولهم مِن إخوانهم أي أمثالهم مِن أهل الشرِّ مِن الناس استجابوا له ولهم فيَمُدُّونهم أي يزيدونهم وَسْوَسَة ودَفْعَاً لشرٍّ أكثر وعوْنَاً عليه خطوة وراء خطوة لأنهم يَسْهُل وقوعهم في الشرِّ لأنهم لا يتّقون ولا يُقاوِمون فيزدادون استجابة ويزدادون بالتالي تدريجيا شرَّاً علي شَرٍّ حتي يهلكوا بتمام التعاسة بكل صورها في دنياهم وأخراهم بسبب اتّباعهم لخطوات الشيطان وعدم مقاومتهم وَسَاوِسَه وامتناعهم عن سُوئهم
ومعني "وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿203﴾"، " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿204﴾" أيْ هذا بيانٌ لشكلٍ من أشكال الغَيِّ السابق ذِكْره وكَشْفٌ لاستهزاء المُكَذّبين برسول الله ﷺ وبالقرآن العظيم ليُحاولوا يائِسين إثبات كذبهما.. أي وإذا لم تُحْضِر لهم يا رسولنا الكريم آية من القرآن تَرُدّ علي بعض أسئلتهم في وقتٍ يُحَدِّدونه قالوا لو اخترتها أنت هذه الآية من عندك وذَكَرْتها لنا ككلّ ما تقرؤه من قرآن!! يريدون أنَّ القرآن من كلام الرسول ﷺ لا من كلام الله تعالي وأنَّ ما يقوله أنه رسولٌ من عنده هو كذب!! كذلك من المعاني أنهم يَطلبون منه ﷺ آية بمعني مُعجزة حِسِّيَّة أمامهم كعَصَيَ موسي مثلا فإذا لم يأتهم بها يقولون له لو اجْتَبَيْتَ بمعني لو طَلَبْتَ أنت هذه الآية التي نطلبها منك غير القرآن الذي لا نعتبره نحن معجزة وسألتَ ربك أنْ يُعطيك إيّاها بما إنك رسوله كما تَدَّعِي فلو أتَيْتَ بها لآمَنَّا بك فإنْ لم تَأْتِ بها فأنتَ إذَن كاذِب ولستَ برسول!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿109﴾ من سورة الأنعام "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿109﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي ربي الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، وبالتالي فالإتيان بالآيات أمرٌ ليس لي ولا يُمكنني فِعْله مُطلقاً ولا أتَدَخّل فيه أصلا، لأنَّ ربي إنما أمرني باتّباع ما يُوحى إليّ من عنده فإنما أتّبِع ما يوحى إليّ منه لأني عبده وإيّاه أطيع، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟!.. وما مهمّتي أنا إلا فقط نذيرٌ مُبَيِّن مُوَضِّح لكم الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة لتسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ومُحَذّرٌ لكم من تمام التعاسة فيهما إذا خالَفتم ولم تُصَدِّقوا بربكم ولم تَتَّبعوا إسلامكم، ثم أنتم إمّا تَقبلوا فتسعدوا أو تَرفضوا فتتعسوا، بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم دون أيّ إكراه، ثم لِيَتَحَمَّل كلّ فردٍ نتيجة اختياره.. ".. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ هذا تنبيهٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ لأمثالهم وللجميع أنهم إذا كانوا يريدون آية أيْ مُعجزة فإنَّ أعظم آيةٍ هي هذا القرآن العظيم لأنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. أيْ هذا القرآن العظيم هو بصائر للناس، جَمْع بَصيرة أي إدراك العقل، أي لكي يتبَصَّروا به أي يَروا ويُدركوا ويَتدبَّروا بعقولهم ويُنير لهم طريقهم في حياتهم ويكون لهم هديً أيْ إرشاداً فيعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لهم الرحمة أي السعادة التامّة في الدنيا والآخرة.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿203﴾" أيْ هو بصائر للمؤمنين فقط، أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عن ربهم وقرآنهم وإسلامهم، إلا إذا استفاقوا وعادوا إليهم.. "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿204﴾" أيْ وبالتالي إذا قُرِيَء القرآن فاستمعوا له أيها الناس وأيها المسلمون، استمعوا لِمَا فيه من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وأنْصِتوا أيْ واسْكُتُوا بلا كلامٍ أو انشغالٍ عنها حتي يُمكنكم إحسان الاستماع باستفادة، لأنَّ فيها كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لأنّه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تماما في الداريْن.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿204﴾" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك قارِئين للقرآن مُسْتَمِعِين له عامِلين بكل ما فيه طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴿205﴾ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴿206﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذاكرين الله تعالي كثيرا في كل أحوالك طوال يومك، تذكره بلسانك تسبيحاً وتحميدا وتكبيرا وقراءة للقرآن وشكرا واستغفارا ودعاءً وغيره، وتذكره بعقلك بتَدَبُّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّكَ مَشاعِرَ الخير بداخلك فتنطلق لفِعْله علي أرض الواقع، وتذكره بعملك باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كلّ قولٍ تقوله وكل عملٍ تعمله من علمٍ وإنتاج وإنجاز وكسب وربح وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وإدارة وعلاقات اجتماعية جيدة وإنفاقٍ مِن مال وجهد وصحةٍ وغيره علي أبناءٍ وأزواجٍ وأقارب وجيران وعموم الناس، فليس عمل الخير مقصورا فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كلّ عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعةٍ، أيّ خيرٍ مُسْعِدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون حياتك كلها ذِكْرا لربك ومعه، فتسعد أعظم السعادة فيها، ثم أتمّ وأخلد في آخرتك.. وأثناء ذلك، وفي مُقابِلِه وبفضلٍ وكرمٍ من ربك، سيُيَسِّر لك كلّ أمرٍ مُعَقّد، ويَفتح أمامك كل بابٍ مُغْلَقٍ، وتُحَقّق معظم أو كل ما تريد، وتكون مِمَّن لو أقسم علي الله لَبَرَّ قَسَمَه!
هذا، ومعني "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴿205﴾" أيْ ودَاوِم يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم على ذِكْر ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وكن من الذاكرين له كثيراً في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾، في نفسك أيْ سِرَّاً بداخلك، كما تَذْكُره عَلَنَاً، مُسْتَشْعِرَاً مُسْتَحْضِرَاً مُتَدَبِّرَاً دَوْمَاً بعقلك عظمته ورقابته وحبه وخيره، لأنَّ الذكر في السِّرِّ يكون أقرب إلي الحب والتواصُل والتَّدَبُّر والشكوي والإخلاص أيْ البُعد عن أيِّ رياءٍ أيْ طَلَب سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو مدحٍ أو غيره بل حباً في الله ويقيناً أنه وحده الذي يُجيب طَلَب مَن يَطلب إمّا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة بتيسير بعض عباده ليُجيبوا دعاء مَن يدعوه، كما أنَّ دوام تَذَكُّره ومُراقبته تُعين علي فِعْل كل خيرٍ رغبة في عطائه بالداريْن وتَرْك كلّ شرٍّ رهبة من عقابه فيهما.. ".. تَضَرُّعًا.." أيْ بتَضَرُّعٍ أيْ بسكونٍ واستسلامٍ واحتياجٍ وطَلَبٍ واجتهادٍ وإخلاصٍ وتَقَرُّبٍ ورغبةٍ وأملٍ وفرحةٍ ولجوءٍ وتَوَسُّلٍ وسؤالٍ واضطرار.. فالتّذَلّل لله تعالي وحده هو قِمَّة العِزَّة إذ معناه عدم اللجوء إلا له القادر علي كل شيءٍ وليس لأيّ مخلوقٍ ضعيفٍ مثل مَن يلجأ إليه فيحيا بذلك المسلم عزيزاً كريماً عفيفاً سعيداً.. ".. وَخِيفَةً.." أيْ وبخوف، أيْ بخوفٍ من فقدان حبه سبحانه ورضاه ورعايته وأمنه وعونه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ في الآخرة، بسبب تقصيرٍ في شيءٍ مَا أو مِن خيرٍ مَا قد تُرِك وكان من الممكن فِعْله أو من شرٍّ ما قد فُعِل أو نحو هذا، فيَدفعهم ذلك لاستغفار الله تعالي وذِكْره ودعائه باجتهادٍ لطَلَب عَوْنه علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. فهو خوفٌ إيجابيّ دافعٌ لكل مُسْعِد.. وبالجملة فإنَّ تَضَرُّعاً وخِيفَة تعني رغبة ورهبة أيْ رغبة في سعادتيّ الدنيا والآخرة وخوفاً من عذابهما.. فحال المسلم دائما حين يَذكر ربه ويَدْعُوه ويَطلب خيره ويَسِير في كل شئون حياته يكون مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ.." ايْ واذكره مع ذِكْرك في نفسك ذِكْرَاً بلسانك يكون مُتوسِّطاً مُعْتَدِلَاً أقل من الجهر بالقول أيْ إظهاره وأكثر من الإسرار به، فإنَّ ذلك أيضا يكون أكثر عَوْنَاً علي التَّضَرُّع والخوف والإخلاص كالذكر في النفس.. هذا، وقد يَحتاج ذِكْر الله تعالي أحيانا أو كثيرا ليس إلي السِّرِّ ولا إلي الجهر المتوسط بل إلي الجهر الكثير وذلك حسبما تَتَطَلّبه الظروف والأحوال بما يُناسب وبما يُحَقّق النفع والتذكرة بالخير والسعادة للمسلم الذاكِر ولمَن حوله.. وفي هذا أيضا مزيدٌ من التوجيه للمسلم ضِمْنِيَّاً لأنْ يَحْيَا كل حياته مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء.. ".. بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.." أيْ بأوائل النهار وأواخره.. أيْ اذكره وصَلّي له واعبده وافْعَل كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتك، حين الصباح والمساء وفي كل وقت، لتَسعد تمام السعادة بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحاً بالاستعانة به سبحانه ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيداً رابِحَاً في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة.. ".. وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴿205﴾" أيْ وإياك ثم إياك أيها المسلم أن تكون من التّائهين النّاسِين الضائعين اللّاهِين عن ذِكْر ربهم في حياتهم الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسين في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لذِكْره ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴿206﴾" أيْ إنَّ جميع المخلوقات في الكوْن مِن ملائكةٍ وغيرها والتي هي كلها عنده في مُلكه وسلطانه وتحت تصرّفه وعلمه يرعاها ويُدير شئونها علي أكمل وأسعد وجْهٍ هي كلها لا تتعالي أبداً علي عبادته أيْ طاعته طوال الوقت وهي لا تَملّ ولا تكسل ولا تضعف لحظة بل تستلذّ وتستمتع وتسعد بها لأنها تؤدّي مهمتها التي خلقها ربها من أجلها وهي نفع وإسعاد بني آدم، وهي تُسَبِّحه أي تُنَزّهه وتُبعده عن كلّ صفةٍ لا تليق به كما قال تعالي "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿44﴾" ﴿الإسراء:44﴾، وهي تَسْجُد له وحده بلا أيِّ شريكٍ أيْ تخضع وتستجيب وتستسلم لتوجيهاته وإرشاداته وتقوم بطاعتها وتطبيقها كلها بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، فهي مستديمة علي طاعته وذِكْره والسجود له.. فاجتهدوا أيها المسلمون في التشبُّه بملائكته وكلّ خَلْقه في تمام الطاعة والذكْر له وحُسن العمل لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. فالآية الكريمة هي لتَحْفِيز كلّ بني آدم علي ذلك ولتذكيرهم أنَّ مَن يستكبر عن عبادة الله تعالي فإنه بالقطع لن يضرّه شيئا فهو مالِك المُلك الغنيّ عن كلّ شيء، ولا قيمة له ولا لتكذيبه، بل هو قطعا مَن يُضَرّ، مَن سيَتعس في الداريْن ببُعده عن ربه ودينه الإسلام
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿1﴾" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده ﷺ عن الأنفال أي الغنائم ما حُكْمها ولمَن تكون وكيفية تقسيمها ونحو هذا، والأنفال جمع نفل، وسُمِّيَت كذلك لأنَّ الله تعالي يُعطيها نَفْلاً أيْ زيادة للمسلمين لأنهم لمَّا دافعوا عن الحقّ كانوا مُخْلِصين لم يطلبوا إلا حب ربهم ونُصْرَة دينهم أو الشهادة وجنته، ولم يطلبوا كآخرين مِمَّن يَسْعَوْن في الأرض بالشرّ والفساد والسيطرة والاحتلال، أرضاً أو مالاً أو جاهاً أو غيره، فبالتالي هي ليست في مُقَابِل، أيْ ليست أجرة للمجاهد كالمرتزقة من الجنود، وإنما عظيم أجره عند ربه، فهي زيادة على ثواب جهاده وهي بعض الأجر له في الدنيا قبل ما لا يُوصَف في الآخرة.. ".. قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.." أيْ قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم: الغنائم كلها لله والرسول من حيث المبدأ والأصل يَحْكُم فيها سبحانه بحُكْمه والرسول ﷺ – والحاكِم مِن بَعْده – هو الذى يُقَسِّمها على حسب حُكْم الله وأمره فيها إذ الإسلام يعتبر أنَّ كل مَكْسَبٍ يكسبه المسلمون بعد هزيمة مَن اعتدي عليهم هو لله وللرسول والمقصود للمصلحة العامة أيْ ينتفع به الجميع مسلمون وغير مسلمين يعيشون في الدولة المسلمة، سواء أكانت أراضي أم معادن بها أم أموالا أم سلاحا أم غيره، مع مراعاة مَن شاركوا فِعْلِيَّاً في الدفاع والقتال ومَن عاونوهم بإكرامهم وإعطائهم ما يُناسب جهودهم من مَزَايا (برجاء النظر للآية ﴿41﴾ من السورة ذاتها للشرح والتفصيل عن كيفية توزيع الغنائم﴾.. وفى هذه الإجابة عن سؤالهم تريبة حكيمة لهم وهم فى أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم دائما خالصا لله تعالي أيْ من أجل فقط الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أمّا الغنائم التي تأتي فعليهم ألاّ يجعلوها ضمن أهدافهم الراقية من جهادهم، وأن يُفَوِّضوا الأمر فيها لله ورسوله.. هذا، وقد سَمَحَ الإسلام بأخذ غنائم المُنْهَزِمين من المُعْتَدِين كنوعٍ من منعهم مِمَّا يَتَقَوُّون به علي الاعتداء بأخذه منهم ولتخويفهم حتي لا يعودوا لمِثْل ذلك مستقبلا.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ فخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها التّعامُل مع الأنفال فلا تُسِيئوا فيها وتَختلفوا عليها، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ.." أيْ وقوموا بإصلاح الحال بينكم، أيْ أصلحوا مَا بينكم مِمَّا قد يُوجَد مِن تَشَاحُنٍ وتَقَاطعٍ وغيره بالتّآخِي والتّحابّ والتّواصُل والتّرابُط ونحوه من أخلاق الإسلام وروابطها بينكم التي تَرْبِط بعضكم ببعض، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما.. هذا، ومن معاني إصلاح ذات البَيْن أنْ يُصْلِح المسلم ذاته التي بين جسده، أيْ يُصْلِح عقله، فيُصلح ما بينه وبين فطرته فيَعود لها أيْ لكل خيرٍ أيْ لكلّ أخلاق الإسلام، وأنْ يُصلح ما بينه وبين ربه، فيُطيعه ويَتَوَاصَل معه، ويصلح ما بينه وبين عموم الناس فيُحْسِن مُعاملتهم ويُعينهم علي الإصلاح بين بعضهم البعض، ويُصلح ما بينه وبين مخلوقات الله كلها والكوْن كله.. وذلك كله يتحقّق بتقوي الله وبطاعته وطاعة رسوله ﷺ ولذا يقول تعالي ".. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها المسلمون – وأيها الناس – ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿1﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾" أيْ إنَّ المؤمنين بحقّ أيْ بصِدْقٍ، أيْ المُصَدِّقين بوجود الله المُتَمَسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم الذين يُريدون حقاً أن تكون عبادتهم أيْ طاعتهم مَقْبُولة ويَسعدون بها في الداريْن، من صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة، والتي علي كل مؤمنٍ أن يَقْتَدِيَ بها ويَجتهد في الوصول إليها والعمل بها، أنهم هم الذين إذا ذُكِرَ الله تعالي أمامهم أو تَذَكّرُوه هم اهْتَزَّتْ وتَحَرَّكَت وارْتَعَشَت وأشْفَقَت مَشاعِر عقولهم وأجسادهم لأيِّ شيءٍ يُذَكّرهم به سواء أكان آية من آياته أيْ معجزاته في أيِّ مخلوقٍ في كل كوْنه أم كان آية من آيات القرآن العظيم أم صفة من صفاته الكاملة الحُسْنَيَ ككمال علمه وتمام قُدْرته وعظيم مُلْكه ومُرَاقبته ونِعَمه ورحماته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وذلك الوَجَل سببه الحبّ له، والهَيْبَة منه، والشعور بعظمته وقُدْرَته وكماله، والتّحَرُّج من قِلّة أعمالهم الخَيْرِيَّة – رغم كل ما يُقَدِّمونه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمَقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير، والخوف من بعض تقصيرهم أو عدم إكمالِ وإحسانِ كلّ قولٍ وعملٍ مَا أمْكَن، والحَذَر من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليّ، وبالجملة فعقولهم دائما مُتَوَاصِلَة مع ربهم ودينهم الإسلام حَسَّاسَة مُرْهَفَة تَتَحَرَّك وتَتَفاعَل بما يُناسِب الصورة التي ذَكَرُوا الله عليها فيَستجيبون إمّا بمشاعر حبٍّ أو هَيْبَةٍ أو حَرَجٍ أو خوفٍ أو حَذَرٍ أو مُرَاجَعَةٍ للذات أو تَدَبُّرٍ أو توبةٍ أو أملٍ أو استبشارٍ أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكل ذلك، وبهذا يَحْيَوْن حياتهم في سعادةٍ تامَّةٍ ويستبشرون بما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم.. ".. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم إذا قُرِئت عليهم آيات الله تعالي في قرآنه الكريم زادتهم قوَّة في التصديق بوجوده – لتَدَبُّرهم العميق لكلّ مَعانيه – وفي أنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنَّ شرعه الإسلام هو وحده الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنه هو الذي يُوافِق العقل والفطرة، فازدادوا بهذا قوَّة وهِمَّة في حبِّ ربهم وفي العلم بدينه الإسلام والعمل بكل أخلاقه وفي الاستعداد التامّ الحَسَن بذلك للآخرة وفي الاستبشار بانتظار دوْمَاً كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، والخلاصة أنها زادتهم إسلاماً باستكمال كل أخلاقه، فعاشوا سعداء تماماً فيهما، فإسلام المسلم بالقطع يَزيد بمزيدٍ من عمله بأخلاقه ويَقِلّ بمِقْدار تَرْكه ومُخَالَفته ومَعصيته لها بعضها أو كلها (برجاء لاستكمال المعاني مراجعة الآية ﴿4﴾ من سورة الفتح "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.."، والآية ﴿17﴾ من سورة محمد "وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في قوله تعالي "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا.." ﴿الحجرات:14﴾ فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة.. ".. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم دائما في كل شئون حياتهم يتوكّلون علي ربهم وحده – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – أيْ يَعتمدون عليه تمام الاعتماد مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام وهو حتماً سيُيَسِّرَها لهم تمام التيسير ويُسعدهم بها تمام السعادة، في التوقيت الذي يراه في مصلحتهم وغيرهم ومُسْعِدَاً لهم ولغيرهم في الداريْن، وبالأساليب التي يراها، وستَتَحقّق لهم النتائج التي يريدونها تماما أو بصورةٍ مختلفة لكن أفضل، وذلك بتوفيقهم مباشرة لأسباب هذا، أو بطريقةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر لهم مَن يُعاوِنوهم، وسيَكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولذا فهم دائما مُطْمَئِنّون اطمئناناً كاملاً مُسْتَبْشِرون مُنْتَظِرون دَوْمَاً كل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم هم الذين يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿3﴾" أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، ويشمل الإنفاق قطعا إعطاء الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال
ومعني "أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة سابقاً هم بالقطع المؤمنون حقّ الإيمان أيْ الكامِلُون في الإيمان الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذه شهادة من الله تعالى بكمال إيمانهم، وكَفَىَ به شهيدًا، فهو أعظم شاهد ويَكفِيِ كلّ مسلم بهذه الأوصاف كفاية تامّة أنه سبحانه هو الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم فشهادته حتما هي الحقّ أيْ الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِيهم بالقطع كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، فأيّ شهادة وأجر أعظم مِن هذا؟ ولذا يقول ".. لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾" أيْ لهم مَرَاتِب ومنازِل مُتَعَدِّدَة عالية راقية عظيمة النعيم عند ربهم أيْ في عِلْمه وفي حسابه يوم القيامة، ولهم كذلك مغفرة لذنوبهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب كمال إيمانهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴿6﴾ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فستجد كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه، وإذا تأكّدتَ أنه علي كل شيءٍ قديرٌ وهو يفعل ما يشاء، حيث هذا التأكّد سيُعطيك دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في الدنيا مع حُسْن الاستعداد للآخرة من أجل أعظم وأتمّ وأخلد سعادة
هذا، ومعني "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة للمسلمين ولمَن حولهم وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لهم في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسيجدون كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقوا في باطنه، كما يقول تعالي ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة:216﴾ (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ كما أنه كان الخير والمصلحة والسعادة لَمَّا تَنَازَعْتُم في تقسيم الغنائم أنْ جَعَلَ الأمر له سبحانه يُقَسِّمها بالعدل في المصالح العامة للدولة المسلمة، كذلك قد كان الخير حين اختار لكم القتال يوم غزوة بدر ولم يَخْتَر لكم أن تأخذوا التجارة ﴿لمزيدٍ من التوضيح برجاء النظر للآية ﴿7﴾ من ذات السورة﴾، لأعظم مصلحة، لعِزِّكم ولِرِفْعَة شأنكم، لسعادتكم الدائمة في الدنيا والآخرة، لرَفْع شأن الإسلام والمسلمين وانتشاره بسببكم، لإحقاق الحقّ والخير وإظهاره وتثبيته علي أيديكم، وإبطال الباطل والشرّ وزلزلته وإضعافه والقضاء عليه، لإذلال الكافرين والمُجرمين وأمثالهم وهزيمتهم، فتنالون بفضل ربكم هذه المَكَانَة وهذا الفضل العظيم، في الداريْن.. هذا، ومعني ".. مِنْ بَيْتِكَ.." أيْ من مكان سَكَنِك وبلدك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم.. ومعني ".. بِالْحَقِّ.." أيْ أخرجك ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بسبب نُصْرَة الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وهزيمة الشرّ وأهله، وأخرجك إخراجاً مُمْتَزِجَاً بالحقّ الذي ليس فيه أيّ باطل.. ".. وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾" أيْ والحال والواقع حينها أنَّ بعضاً من المؤمنين كانوا كارهين للخروج للقتال في أول الأمر غير مُحِبِّين له غير مُقْبِلِين عليه لأنه كان مُفَاجِئَاً لهم فاحتاجوا بعض الوقت للاستعداد واستجابوا بعد استعدادهم
ومعني "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴿6﴾" أيْ يُحاوِرونك هذا الفريق في الأمر الحقّ وهو قتال الكفار بعدما ظَهَرَ أنه واقِعٌ لا بُدَّ منه – وذلك قبل استجابتهم واستعدادهم بعدما علموا بعد التّحَاوُر أنه أمر الله وبالتالي فهو حتماً ناصرهم – وحالهم حينها كأنهم من شِدَّة كراهيتهم لقتالٍ مفاجيءٍ لم يستعدّوا له بَعْدُ وهو أول قتالٍ بينهم وبين عدوهم كأنما يُؤْخَذون ويُجَرُّون إلي الموت وهم ينظرون إلي أسبابه وكيفية حدوثه لهم وهذا أمرٌ بلا شكّ يَكرهه الناس أشدّ الكراهية
ومعني "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾" أيْ هذا بيانٌ لجَمِيلِ صُنْعِ الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم مِن ضعف.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المؤمنون حين يُعطيكم الله بفضله وكرمه وطَمْأَنته لكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً علي لسان رسوله ﷺ لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ أنَّ إحدي الطائفتين أيْ المجموعتين هي لكم، أيْ ستَنالونها وستَحصلون عليها، إمَّا تَحصلون علي مجموعةٍ من الكفار كانت مع أبي سفيان عبارة عن قافِلَة بها تجارة، وإمَّا تَهزمون مجموعة ثانية منهم مُقاتِلَة معها سلاحها يقودها أبو جهل، وهذه الأحداث قد حَدَثَت عندما عَلِمَ المسلمون وهم في المدينة أنَّ أموالهم التي تركوها بمكة المكرمة بعد هجرتهم منها قد استولي عليها بعض أهلها وهم خارجون بها يتاجرون فيها وسَتَمُرّ عليهم قريبا منهم في مكانٍ يُسَمَّي بَدْر، فاستشارهم الرسول ﷺ للخروج لها وأخْذِها من حُرَّاسِها لأنها حَقّهم، ووَعَدَهم بوَحْيٍ من الله بالظفر بها أو بخيرٍ آخر غيرها وهو عِزّتهم بإخافة عدوهم، فرَحَّبُوا بذلك لاسترداد أموالهم، لكنهم وهم في طريقهم، بَلَغَ الكفار ذلك، فابتعدوا بالقافلة، وطلبوا عوْناً، فجاءهم جيش بقيادة أبي جهل من حوالي ألف رجل ومعهم السلاح والعتاد، وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، بأسلحة شخصية خفيفة، فلمَّا عَلِمَ الرسول ﷺ بذلك تَشَاوَر معهم، فكَرِه فريقٌ ملاقاتهم، لعدم استعدادهم لذلك، كرهوه كراهة شديدة كما يَكْره الإنسان أن يُؤْخَذ للموت وهو ينظر لهذا الحَدَث الذي سيُنْهِي حياته، وناقشوا الرسول ﷺ ، بعدما بَيَّنَ لهم الأمر وأعلمهم به وأنَّ هذا هو اختيار الله تعالي وهو لا بُدَّ حتماً سيكون الخير وسيَتحقّق النصر بإذنه سبحانه حيث قد وَعَدَهم بأحد الأمريْن إمّا أنْ يَسْتَرِدُّوا أموالهم دون قتال وإمّا أن يَحْدُث قتال وينتصروا عليهم ويصبحوا أعِزّة كِرَامَاً، وكِلاَ الأمريْن خير لهم، لكنهم كانوا يريدون غير ذات الشوكة، أيْ الأمر الأسهل، من غير شَوْك، من غير سلاحٍ وقتال، لكن بما أنَّ التجارة قد هَرَبَت – وهي الطائفة الأولي – ولم يستطيعوا أخذها، فهذه بُشْرَيَ لهم ودلالة علي أنَّ الله تعالي يريد الأمر الآخر وأنَّ وَعْدَه بأنْ يأخذوا الطائفة الأخري – طائفة الكفار الذين جاءوا لقتالهم – سيَتَحَقّق، أيْ النصر عليهم، وقد تَحَقّق حقّاً وصِدْقَاً، وانتصر الحقّ علي الباطل والمسلمون علي الكافرين والمجرمين، وتَحقّق وَعْد الله الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطلقاً، وظَهَرَت آياته تعالي أنه ".. كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" ﴿البقرة:249﴾، فهُم لمَّا صَبَروا واستعانوا بربهم وأحسنوا اتّخاذ ما استطاعوا وما هو مُتاح لهم من أسبابٍ انتصروا، بكلماته، بكُن فيكون، بقُدْراته، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، مهما كَرِهَ الكارهون، فماذا يفعلون أمام قُدْرة خالقهم العزيز القهَّار المُنْتَقِم الجَبَّار؟!!.. ".. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ.." أيْ ولكنَّ الله تعالى يريد أعلي وأرْقَيَ مِمَّا تريدون أنتم، يريد المصلحة والسعادة للبشريَّة كلها، فهو يعلم وأنتم لا يعلمون، يريد أن يُثَبِّت الحقّ أيْ الإسلام ويُعْلِيه وهو الذي يُصْلِح البَشَر ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه.. وفي هذا تنبيهٌ وتذكيرٌ لِمَا يُحِبّه الله للمسلم وهو أن يطلب دائما مَعَالي الأمور لا أسافِلها باذِلَاً ما استطاع من جهودٍ ليُعينه ويُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها ويَنصره ويُحَقّق له أعلي درجات سعادتيّ الدنيا والآخرة فهو القادر علي كل شيء.. ".. بِكَلِمَاتِهِ.." أيْ بأوامره إيَّاكم بقتال الكافرين وأوامره للملائكة بالقتال معكم وبقُدْراته وإراداته والتي أصلها كُنْ فيكون، وبالجملة بكلماته أيْ بكلامه في آياته بالقرآن العظيم والتي لا مُغَيِّر أبداً لها والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحِجْر:9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها﴾ (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" ﴿غافر:51﴾، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ﴿فاطر:43﴾، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" ﴿الصافات:171،172،173﴾، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ﴿المجادلة:21﴾﴾.. ".. وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾" أيْ ويُريد كذلك أن يُبيد الكافرين عن آخرهم – إذ معني دابر أيْ آخر والدُّبُر هو المُؤَخّرة – ولا يُبْقِي منهم أحداً ويَنتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، وذلك من خلال عَوْنكم علي قتالهم وهزيمتهم.. والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿8﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تأييد الحقّ ونَصْره وأهله.. أيْ فَعَلَ تعالي ذلك، ويَفعل ما يُشْبهه دائما، لِحِكَمٍ عظيمة، ليُثَبِّت الحقّ وهو الإسلام ويُنْهِي ويُزِيل ويُضْعِف الباطل وهو كل ما يُخالِفه من كفرٍ وشِرْكٍ ونحوه.. ".. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿8﴾" أيْ إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين حتما بلا أيِّ شكٍّ يُحِقّ الحَقّ ويُبْطِل الباطل بتمام قُدْرته وعلمه بأنْ يَنشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد ﷺ لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحاربة المُجْرمين – وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. هذا، وفي الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴿9﴾ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿10﴾ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴿11﴾ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴿12﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿13﴾ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَستغيثون بربهم، أيْ يَطلبون إغاثته، أيْ نَجْدَته لهم، عند الشدائد، بالاجتهاد الشديد في الدعاء (برجاء مراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّداً بلا أيِّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتماً سينَهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِداً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴿9﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، وتبشيرٌ وطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين أنتم تطلبون الإغاثَة في مواقف حياتكم أي النّجْدَة والمَعُونَة والنّصْرَة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وقد حَدَثَ ذلك أثناء غزوة بَدْر في زمن الرسول ﷺ ، فَاستجاب لكم دعاءكم، بلا تأخيرٍ، بأنى مُزَوِّدكم ومُعِينكم وناصِركم بألفٍ من الملائكة مُتَتَابِعَة يجيء بعضها وراء بعض لتُعينكم وتَنصركم
ومعني "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿10﴾" أيْ هذا بيانٌ لِحُبِّه تعالي للمسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم ورضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم بما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد.. أيْ وما جَعَل الله هذا الوعد بالنصر وهذا الإمداد بالملائكة – وغيره من كل أنواع الجنود والقوَيَ التي لا يعلمها إلا هو سبحانه – إلا ليكون بُشْرَىَ لكم أيها المسلمون يُبَشّركم بها أيْ خَبَرَاً سَارَّاً مُفْرِحَاً يُخبركم به بأنكم ستنتصرون حتما علي أعدائكم ما دُمْتُم أهْلَاً للنصر حيث أحسنتم اتّخاذ أسبابه ما استطعتم ولكي تَسْكُن به عقولكم ومشاعركم بداخلها فيذهب الخوف والقلق عنها وتطيب وتَسعد وتطمئنّ بتحقّق وعد الله بنصركم فيكون ذلك تشجيعا لكم للإقدام بقوةٍ علي الصعاب مُستعينين بربكم لاجئين إليه طالِبين منه عوْنه ونصره.. ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ ليس الفوز في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة إلا من عند الله تعالي وحده، لا مِن عند أيِّ أحدٍ أو مَخلوقٍ غيره، ولا مِن عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ ولا بأيِّ سببٍ غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فهو بإذنه فقط، فبسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة يحدث الانتصار بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فلا تَنْخَدِعوا بأسبابكم التي تَتّخِذونها، فصحيحٌ أنَّ الإسلام قد أمر بإحسان اتّخاذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ لكنَّ الاعتماد عليها وحدها مهما كَثُرَت وعَظُمَت دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز وهو الله تعالي خالقها، والذي هو أيضا يجعل أسباب العَدُوّ الكارِه قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيّة والتأثير، لا قيمة له حتما، ومَن يَنْخَدِع بأسبابه ووسائله التي يَتّخذها ويَنْسَيَ قُدْرَة خالقه وخالقها ومُحَرِّكها لن يفوز بالتأكيد.. إنه مَن يَعتمد علي الله وحده فهو كافِيه قطعا فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانعٍ يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، ولذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿10﴾" أيْ وذلك لأنَّ الله غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴿11﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدر قبل مُلاقاة عدوكم يُغَشّيكم اللهُ النعاسَ أيْ يجعله عليكم كالغشاء والغطاء الشامل أماناً منه لكم من خوف أعدائكم أن يغلبوكم وراحة لأجسامكم وبشارة خيرٍ إليكم أنَّ الله معكم بعلمه وقُدْرته وعوْنه ونصره وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. والنعاس هو أول النوم قبل أن يثقل، فهم قد أعطاهم الله تعالي به فترة من الراحة تُهَدِّئهم وتُؤَمِّنهم وتُقَوِّيهم وتُنَشّطهم ولا تُثقلهم عن قتال عدوهم، والمعروف أنَّ مَن كان قَلِقَاً لا يمكنه غالبا أن ينام فكان هذا النعاس الذي غَشَّاهم كلهم في وقتٍ واحد كمُعجزةٍ ونعمةٍ ورحمةٍ مُطَمْئِنَةٍ مُهَدِّئةٍ مُقَوِيَةٍ منه سبحانه لهم تستحقّ التّدَبُّر والشكر.. ".. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴿11﴾" أيْ واذكروا أيضا نِعَمه ورَحَماته حيث يُنَزّل عليكم من السماء ماءً لتَتَنَظّفوا وتَتَوَضَّؤا وتَغتسلوا وتَنْشَطوا وتَقْوُوا به وتَشْرَبوا منه، ولكي يُبْعِد بذلك عنكم الأفكار الشَّرِّيَّة السَّيِّئة بعقولكم كنقص الماء وغيره مِمَّا يحتاجه القتال الأمر الذي قد يُسَبِّب ضعفكم وهزيمتكم وهلاككم – والرجز هو كل أمرٍ مُسْتَقْذَرٍ أيْ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وما يَتْبَعه مِن تعاساتٍ – ولكي يَرْبِط بذلك علي قلوبكم أيْ يُثَبِّت عقولكم ويُصَبِّركم ويُطَمْئِنَكم بعلامةِ نزول الماء علي عوْنه ومَعِيَّته ونَصْره المُؤَكَّد لكم فإنَّ ثبات العقل وصَبْره وتَأكّده من نصر الله هو أساس ثبات الجسد وصبره، وهذا الربط علي العقول هو بسبب ما أفْرَغَ عليها من الصبر واليقين بالنصر.. ولكي يُثَبِّت بهذا الماء وبهذا الربط علي القلوب الأقدام فلا تَنْزِلق إلي هروبٍ وهزيمةٍ بل تَثْبُت وتَنْتَصِر، كما أنَّ الماء للأرض إذا كانت رَمْلِيَّة يُثَبِّتها فلا تَغوص فيها أقدام المُقاتلين ويَسْهُل سَيْرهم عليها
ومعني "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴿12﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدر يُوحِي ويُلْهِم ويُعْطِي الأوامر ربُّك يارسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – إلي الملائكة التي أمَدَّكم بها بأني معكم بعَوْنى وتأييدى فقَوُّوا عَزائِم الذين آمَنوا وجاهَدُوا في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وذلك بتبشيرهم بالنصر وبتشجيعهم علي الثبات والصبر والإقدام والقوّة والعِزّة والتضحية لنَيْل إحدي الحُسْنَيَيْن إمَّا النصر وإمّا الشهادة وبإشعارهم بكثرة أعدادهم ليَطْمَئِنّوا أنهم ليسوا أقلّ من أعدائهم وبالقتال معهم.. وقد نَفّذَت الملائكة ذلك بأساليب وطرق لا يعلمها إلا خالقها سبحانه.. ".. سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.." أيْ هذا تأكيدٌ لطمْأَنَة المسلمين ولتَبْشيرهم وإسعادهم بأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم، وهو دليل من الأدِلّة علي أنه هو خير الناصرين، وبأَهْوَن الأسباب!.. أيْ وقولوا لهم يا ملائكتي ليزدادوا إقداماً وثباتاً أني سأقْذِف في عقول ومشاعر الذي كفروا الخوف الشديد فيكون ذلك سبباً في هروبهم وتَرْكهم لكل أسبابهم قوّتهم مهما عظمت وهزيمتهم.. فإلقاء الرعب فيهم وبينهم هو من ضِمْن جنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، وهو من الأسلحة البسيطة ذات التأثير الفَعَّال استهزاءً من القويّ العزيز بهم إذ لا داعي معهم لاستخدام قوة أكبر من ذلك!!.. ".. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴿12﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فاضربوا بالتالي إذَن بقوّةٍ وإقدامٍ أيها المسلمون رؤوس أعدائكم المُعتدين عليكم التي فوق رقابهم واقطعوها والتي هي مصدر التفكير في الشرور والاعتداءات واضربوا منهم واقطعوا كل يَدٍ وأصابع تُؤذيكم وغيركم، لتُطَهِّروا الأرض من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿13﴾" أيْ ذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره من تأييدِ الله تعالي للمسلمين بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ونَصْرهم وإعزازهم وإسعادهم وأمره إيّاهم بقتل المُعتدين من الكافرين وأشباههم وإلقاء الرعب فيهم وإذلالهم وهزيمتهم في الدنيا – ثم عذابهم بما لا يُوصَف في الآخرة – هو بسبب أنهم شاقّوا الله ورسوله أيْ كانوا في شِقّ أيْ جانبٍ وهما في شِقٍّ مُقَابِل، أيْ خالَفوهما وعانَدوهما وتكبَّروا عليهما وآذوهما وعادوهما وحاربوهما والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ومَن يَفعل ذلك وغيره من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنَّ الله تعالي حتماً يُعاقِبه ويُعَذّبه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بما يُناسب في الداريْن لأنه شديد العقاب لأمثال هؤلاء وهذه هي دائما طريقته معهم.. فلْيَحْذَر المُخالِفون إذَن وليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما
ومعني "ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴿14﴾" أيْ ذلك كله من الإذلال والإضعاف والهزيمة وغير هذا من عقابٍ ينزل بكم أيها الذين شاقّوا الله ورسوله هو العذاب الذي عَجَّلْتُه لكم في دنياكم فذوقوه في الحياة الدنيا أيْ فاستشعروا ألمه وتَذَوَّقوا عمليا مَرارته وشدّته وفظاعته، ولكم في الآخرة عذاب النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تعملون وتقولون في دنياكم من شرور ومَفاسد وأضرار واسْتَمَرّيتم وأصْرَرْتُم عليها حتي موتكم.. هذا، وعذابهم الدنيويّ يَشمل صُوَرَاً مُتَعَدِّدَة ودرجات مختلفة علي قَدْر سُوئهم ويَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة يشمل كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. فلْيَحْذَر المُخالِفون إذَن وليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿15﴾ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ﴾.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً (برجاء مراجعة الآية ﴿243﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن ذِلّة الجُبْن وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿15﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا قابلتم الذين كفروا وغيرهم من أعدائكم حيث كانوا زاحِفِين أيْ سائِرين مُقْتَرِبين بالتدريج نحوكم مُعتدين عليكم بالقتال كأنهم يَزحفون علي الأرض من بُطْءِ سَيْرِهم بسبب كثرة عَدَدَهم وعتادهم، فإيّاكم ثم إيّاكم أن تُعطوهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين ولكن اثبتوا واصبروا، فإنَّ الله معكم وناصركم عليهم حتماً مَا دُمْتُم أحسنتم اتّخاذ أسباب النصر من قوَيَ معنويَّة ومادِّيَّة، فقابلوهم بقوّةٍ وشجاعةٍ وإقبالٍ لا إدبارٍ فإنَّ مِن شأن المؤمن أن يكون شجاعاً لا جباناً ومُقْبِلاً لا مُدْبِرَاً، وإنَّ في ذلك نصرة وإنتشاراً للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وإسعاداً للبشرية حين تعمل بكل أخلاقه وحين تتغلّب علي الظلم والشرّ والفساد والمُفسدين، ثم الأمر ما هو إلا إحدي الحُسْنَيَيْن لكم، فإمّا النصر وسعادتيّ الدنيا والآخرة وإمّا الشهادة وأعلي درجات جناتها
ومعني "وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿16﴾" أيْ ومَن يُعْطِهم حينها ظَهْرَه فارَّاً خائفاً مُنْهَزِمَاً، إلاّ إذا كان وهو يَتَرَاجَع مُتَحَرِّفَاً لقتالٍ أيْ مُنْحَرِفَاً من أمام العدو لخِدَاعه وقتاله من جِهَةٍ أخري، أو مُنْحَازَاً مُنْضَمَّاً إلي فِرْقةٍ أخري لزيادةِ القوة والعَتَاد ضِدَّه، أو ما شابه هذا من فنون القتال مِمَّا يراه خبراء العسكرية من أجل تحقيق النصر عليه، كذلك يُسْمَح بالترَاجُع المُنَظّم المَدْرُوس، بقوّةٍ وعِزّةٍ، وليس الفِرَار وإعطاء الأدْبار للأعداء، وذلك فقط عند غَلَبَة الظنّ عند المُتَخَصِّصِين أنه سيَحْدُث الهلاك، لكثرة عدد المُعْتَدِين وعَتَادهم مثلا عن المسلمين، وذلك للمحافظة عليهم وللاستعداد للعودة مرة أخري بمزيدٍ من الاستعدادات حتي يحين الوقت المُناسب للانتصار.. ".. فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.." أيْ ومن يَفِرّ، إلا في الحالتين اللّتَيْن سَبَقَ ذِكْرهما وما يُشبههما حيث لا إثم، فقد باء أيْ انْصَرَفَ ورَجَعَ بسبب فِراره هذا مُحَمَّلاً بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً له فلا يُحِبّه ولا يُوفّقه ولا يُيَسِّر له أموره فكان في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياه أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿16﴾" أيْ ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار فيَثْبت ولا يَفِرّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. وسبب ذلك العذاب الدنيويّ والأخرويّ أنَّ الفِرار عند زَحْف المعتدين علي أراضي المسلمين دون عُذْرٍ شديدٍ مَقْبُول، كمرضٍ مُقْعِدٍ أو كِبَرِ سِنٍّ أو ما شابه هذا، هو من الكبائر، أيْ من الشرور والذنوب الكبيرة العظيمة، لأنه يؤدي إلي كل ذِلّةٍ وعار، إلي انتهاك العِرْض والأرض والكرامة والممتلكات، إلي التعاسة التامّة والمَهَانَة الهائلة في الدنيا، وهذا هو غضب الله الذي سيعيش فيه حياته مَن يَفِرّ، ولو مات علي هذه الحالة قبل أن يتوب توبة صادقة بالندم الشديد والعزم علي عدم العودة والاستغفار وتعويض هروبه بنوايا صادقة في كل خيرٍ وبعملٍ دائمٍ لنصرة الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لو مات قبل توبته فمصيره جهنم، فالإسلام لا يَسمح أبداً بمِثْل هذا، أن يُقْتَل المسلم في دُبُره لا في صدره! لِمَا في ذلك من خِسَّة وحَقَارَة، وهو الذي ما جاء إلا لرفع الشأن والعِزّة والكرامة.. والسعادة
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿17﴾ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴿18﴾ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿17﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ إذا كنتم أيها المسلمون قد انتصرتم علي المُعتدين عليكم وقتلتم منهم مَن قتلتم فإنكم لم تقتلوهم بقوَّتكم ولكنَّ الله تعالى في الحقيقة هو الذي قتلهم ونصركم بقوّته من خلال تأييده وعوْنه لكم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو وإلقاء الرعب في قلوبهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿10﴾ من هذه السورة ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.."﴾.. ".. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتفصيل له مِن أنَّ النصر مِن عنده تعالي وحده.. أيْ وما رَمَيْتَ حين رميت أيْ قَذَفْتَ قذيفتك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ولكنَّ الله في الواقع وحقيقة هو الذي رَمَىَ بقوّته حيث أوْصَل الرَّمْيَة التي رَمَيْتها إلى المُعتدين، فهو الذي يَحملها ويُحْسِن توجيهها ويجعلها صائبة فَعَّالَة قوِيَّة قاتِلَة لهم، بخواصِّ الطبيعة التي هو خالقها وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو، وقد كان من المُمْكِن ألاّ تُؤَثّر، بفِعْل رياحٍ أو غُيُومٍ أو سُحُبٍ أو أمطارٍ أو غيرها، فهو سبحانه – وله المَثَل الأعلي فليس كمِثْله شيء – الرَّامِي والقاتِل والمُهْلِك الحقيقيّ للمُعتدين.. فلا تَنْسوا مُطلقاً تَدَبُّر ذلك وشُكْره، ولا تَغْتَرُّوا بقوّتكم فتعتمدون عليها وحدها دون الاعتماد عليه تعالي أولاً وأخيراً، أو تعتمدون علي غيره، أو نحو هذا، وإلا لن تَنتصروا، أو ستُهْزَمُون حتما.. ".. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا.." أيْ وفَعَلَ ما فَعَلَ لكي يُنْعِمَ منه علي المؤمنين نِعَمَاً حَسَنَة طيِّبة عظيمة كثيرة مُسْعِدَة في دنياهم مُتَمَثّلَة في نصرهم وإعزازهم وإعطائهم الغنائم وإسعادهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وإتعاسهم، ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات، بسبب جهادهم، ومَن اسْتُشْهِدَ منهم فقد فاز فوزاً عظيماً، ليزدادوا بذلك شكراً وتَوَكّلاً وثَبَاتَاً علي كل أخلاق إسلامهم فيزيدهم خيراً علي خيرٍ وسعادة علي سعادة، في الداريْن.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا، والله تعالي يَبتلي أيْ يَخْتَبِر المسلمين بالنِّعَم التي لا تُحْصَيَ، دائما، لإظهار مَن يشكر ومَن لا يشكر، وببعض المصائب، أحياناً، لإظهار مَن يَصبر مِمَّن لا يصبر.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تذكيرٌ بأنه بشُكْر النعمة فإنه تعالي يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما بكُفْرها، أيْ إنكارها، فإنه ينقصها ويفنيها، وبأنَّ الصبر علي الشدائد يَخرج منه المسلمون دَوْمَاً باستفاداتٍ كثيرة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿17﴾" أيْ قد فَعَلَ كل ما سَبَقَ ذِكْره لأنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. لقد سَمِعَ وعَلِمَ سبحانه دعاء واستغاثة المسلمين فاستجاب دعاءهم وأغاثهم ونَصَرهم
ومعني "ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴿18﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ ذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره مِن عوْنكم بجنودٍ لا يعلمها إلا الله ونَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم، هو نِعَمٌ منه عليكم، ويُضاف إلي كل ذلك، واعلموا أيضا، نعمة عظيمة أخري لكم، أنَّ الله مُوهِنُ كَيْد الكافرين أيْ مُضْعِف ومُفْسِد ومُبْطِل مكائدهم بكم.. وفي هذا تحقيرٌ لكلّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين في كلّ زمانٍ ومكان مهما بلغت قوّاتهم وعداءاتهم وتشجيعٌ للمسلمين على أن يتمسّكوا ويعملوا دائما بكل أخلاق إسلامهم من غير أن يخيفهم أيُّ تهديدٍ مِن أيِّ أحد، فكيد كل هؤلاء وأشباههم، أيْ مكرهم وخداعهم واعتداؤهم وإيذاؤهم ونحو ذلك، مُضْعِفه بالقطع الله تعالي بجنوده التي لا يعلمها إلا هو إلي أن يصير إلي ضياعٍ وتَلاشٍ وهلاك، فهذا هو قطعاً مصيره المحتوم، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿19﴾" أيْ إنْ تطلبوا الفتح أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبرون المُستهزؤن، أى إذا كنتم تطلبون القضاء والفَصْل والحُكْم بينكم وبين المسلمين لتعرفوا مَن الذي علي الحق ومَن الذي علي الباطل فقد جاءكم الحُكْم بالفعل بينكم وبينهم، بين الإسلام والكفر، بأنْ أَعَزّه وأعَزّهم وأعْلاهم الله ونَصَرهم وأسعدهم لأنهم علي الحقّ وأذلّ الكفر وأذلّكم وهَزَمكم وأتعسكم لأنكم علي الباطل، فقد جاءكم بالتالي بالتأكيد ما ظَهَرَ به أين الحقّ من الباطل.. ".. وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ وإنْ تَمتنعوا امتناعاً كاملاً عن تكذيبكم وعِنادكم واستكباركم واستهزائكم وفِعْلِكم الشرور والمَفاسد والأضرار وعدائكم وكَيْدكم وقتالكم للإسلام والمسلمين فهذا الامتناع وأنْ تُسْلِموا وتعملوا بأخلاق الإسلام هو خيرٌ لكم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ.." أيْ وإنْ تَرْجِعوا بعد إسلامكم لكفركم وشَرِّكم وكَيْدِكم وعدائكم وقتالكم للإسلام والمسلمين نَرْجِع لعقابكم في الداريْن كلّما عُدْتُم بما يُناسب بهزيمتكم وإذلالكم وعذابكم وإتعاسكم، ولنصر الإسلام والمسلمين فيهما وإعزازهم وإعطائهم المَكَانَة والغنائم وإسعادهم.. ".. وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ.." أيْ وحين يريد الله تعالي أن ينزل بكم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعكم حتماً وتمنع عنكم فئتكم أيْ جماعتكم التي تُعِينكم وتَنصركم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ غيرها مُعين لكم من عذاب الله أيّ شيء، حتي ولو كانت كثيرة عظيمة هائلة، فكل هذه الإمكانات والأعداد الكثيرة وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿19﴾" أيْ وأنَّ الله مُوهِن كَيْد الكافرين ويُضاف إليه واعلموا أنَّ الله مع المؤمنين.. أيْ ولأنَّ الله مع المؤمنين كان ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره.. أىْ والأمر والواقع أنَّ الله مع المؤمنين بعونه وتأييده، ومَن كان الله معه فلن يغلبه أحدٌ بالقطع مهما بَلَغَت قوّته.. أيْ وهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه أنه هو حتماً دَوْماً موجود بِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – من أجل أن يُيَسِّر لهم كل أسباب تمام النصر والتمكين والخير والسعادة في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. هذا، وعند بعض العلماء الخطاب في هذه الآية الكريمة ليس للكافرين وإنما هو للمؤمنين ويكون المعني عندهم إنْ تَستفتحوا أىْ تَطلبوا أيها المؤمنون النصر على أعدائكم فقد جاءكم الفتح أي النصر من عند الله كما طَلَبتم بالفِعْل وإنْ تَنْتهوا عن الاختلاف في أمر الأنفال وعن التّكاسُل في طاعة الله ورسوله وتَتّبعوا كل أخلاق الإسلام وتعملوا بها فهو أيْ هذا الانتهاء والاتّباع والعمل خيرٌ لكم حيث السعادة في الداريْن وإنْ تعودوا للاختلاف وللتكاسل نَعُد عليكم بعقابكم بالفشل والهزيمة وبتسليط أعدائكم عليكم ولن تغني عنكم كثرتكم شيئاً حينها مهما كثرت إنْ لم يكن الله معكم بنصره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴿20﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿21﴾ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿22﴾ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴿20﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أطيعوا الله ورسوله أي استجيبوا ونَفِّذوا ما وَصَّاكم به الله والرسول ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم في كل شئون حياتكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال عمركم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ.." أيْ ولا تُعْطوا ظهوركم لهذا الأمر وهو طاعة الله ورسوله ﷺ وتَلْتَفِتوا وتَنْصَرفوا وتَبتعدوا عنه وعن الإسلام وتتركوا أخلاقه وتهملوها وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴿20﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عنه مُطلقاً.. أيْ والحال والواقع أنكم تَسمعون سماعَ تصديقٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ للقرآن العظيم الذي فيه كل المَوَاعِظ والوَصَايا والنصائح والأدِلّة التي تُوجِب طاعته وتَمْنَع مُخَالَفَته لتسعدوا في الداريْن وإلا تعستم فيهما، فتَوَلّيكم في هذا الحال سيكون أمراً في غاية القُبْح حيث ستَتَشَبَّهون بأهل الكفر والعصيان
ومعني "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿21﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عنه أبداً والتّشَبُّه بالبعيدين عن ربهم وإسلامهم.. أيْ واحذروا تماما وإيّاكم ثم إياكم أيها الذين آمنوا أن تَتَشَبَّهوا مُطلقاً بالذين يَدَّعُون السَّمَاعَ للقرآن العظيم من الكافرين والمنافقين والعاصِين وأشباههم فقالوا سمعنا والحال والواقع أنهم لم يسمعوا سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ، لأنهم لم يؤمنوا به أيْ لم يُصَدِّقوا بما سمعوه فيه ولم يتأثّروا ويعملوا بأخلاقه بل تَوَلّوْا عنه فكأنهم لا يسمعون بآذانهم أصلاً وكأنهم كمَن لم يسمعه حيث سماعهم له كعَدَمِه
ومعني "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿22﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عن الأمر بطاعة الله ورسوله ﷺ أبداً والتّشَبُّه بالبعيدين عن ربهم وإسلامهم.. أيْ إنَّ أسوأ الدوابّ – جَمْع دابةٍ وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه، والمقصود هنا الناس الكافرون والمشركون والمنافقون والفاسدون ومَن يَتَشَبَّه بهم وتشبيههم بالدوابِّ والتي هي حتي ليست سليمة بل مُعَاقَة هو تصغيرٌ وتحقيرٌ لهم واستهانة بهم – عند الله أي في أحكامه ووَصَاياه وتشريعاته وعلمه وحسابه في الداريْن، هم أولئك الصُّمّ أيْ مَن كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سماع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. البُكْم أيْ مَن كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير.. الذين لا يعقلون أيْ مَن لهم عقولٌ لكنهم لا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يُدْرِكون ولا يَفهمون ولا يَعلمون بها الحقّ والخير.. ووَصْفهم بعدم العقل هو بيانٌ لكمال سوء حالهم وتعاستهم في الداريْن لأنَّ الأصَمَّ الأبْكَمَ إذا كان له عقل ربما فَهِمَ بعض الأمور واستجاب للإسلام بفطرته وسَعِدَ كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً أمّا إذا كان بجانب صَمَمه وبكمه هو فاقدٌ للعقل فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ أقصي درجات الحال السَّيِّء التعيس.. والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. فلا يَتَشَبَّه بهم أيُّ عاقلٍ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم
ومعني "وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿23﴾" أيْ هذا بيانٌ لاختيار هؤلاء الصُّمُّ البُكْم الذين لا يعقلون الشرَّ لا الخير أيْ الكفر لا الإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب إغلاقهم التامّ لها.. أيْ ولو علم الله وهو الذي يعلم المستقبل فيهم خيراً بأنهم سيختارون الخير وهو الإيمان لكَانَ أسمعهم الخير في القرآن الكريم أيْ عاوَنَهم وسَهَّل لهم أسباب أنْ يسمعوا الإسلام الذي فيه سماعَ تصديقٍ وقبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. فمَن يبدأ الخطوة الأولي بحُسْن استخدام عقله وباستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) يُعينه تعالي وهو الذي يحب لخَلْقه أن يُسلموا ليسعدوا في الداريْن علي بقيّة الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" ﴿محمد:17﴾، وقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾ (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني.. ثم مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ولكنه سبحانه لم يَعلم فيهم بداخلهم شيئاً من ذلك وهو الذي يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلم يُساعِدهم ويُسْمِعهم ويُفْهِمهم.. ".. وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿23﴾" أيْ ولو علي سبيل الفرض أسمعهم سماعَ تَفَهُّمٍ وتَدَبُّرٍ، وهم على هذه الحالة البعيدة تماما عن أيِّ خيرٍ حيث الصَّمَم والبكم واللّاعقل، لتَوَلّوْا عمَّا سمعوه وفهموه من الحقّ قَصْدَاً وعِنَادَاً بعد فهمهم له أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عن هذا الإيمان وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، وهم مُعْرِضون أيْ مُتَوَلّون بلا أيِّ رجوعٍ لأيِّ خيرٍ بأيِّ حالٍ مِن الأحوال وهذا مزيدٌ من التأكيد علي حالهم السيء في تمام الإصرار علي التّوَلّي عن الإسلام والاستمرار علي ما هم فيه مِن شرّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – سارعوا بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة بكل قوةٍ أيّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنكم ستسعدون، لله وللرسول إذا دعاكم إلي ما يحييكم وهو الإسلام الذي في القرآن العظيم لأنه كالروح بالنسبة للجسد، فهو الذي يُحي البَشَر، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستؤدي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.." أيْ هذا تشجيعٌ للاستمرار التامِّ حتي الموت علي الاستجابة للإسلام وتحذيرٌ من التراجُع عنه والمُخَالَفَة له.. أيْ واعْرَفوا وتأكّدوا تماماً وتَذَكّروا دائماً أنَّ الله يَحْجِز ويَمْنَع بالإسلام بين الإنسان وعقله إذا أراد أن يَسِير في الشرّ، فاستجيبوا للإسلام لتسعدوا في الداريْن وإلا لو لم تستجيبوا له فستسيرون إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما.. ومن المعاني كذلك أنَّ الله يَمنع بالموت ما بين الإنسان وعقله بمعني أنه يُميته فلا يُحَقّق ما كان يُفَكّر به يريد تحقيقه والمقصود اغتنام كل لحظة في حياته قبل موته والذي يأتي فجأة بجَعْلِها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ له في دنياه وأخراه من خلال استجابته للعمل بكل أخلاق إسلامه.. إنه يَمنعه أحياناً أو كثيراً من تحقيق بعض أمانيه وأهدافه لمصلحته حيث يعلم أنها مستقبلا ستكون ضرراً وتعاسة عليه.. كذلك من المعاني أنَّ الله تعالي يَمنع بين الإنسان المسلم وبين عقله إذا فَكّرَ في الكفر بتحصينه منه ما دام مُتَمَسِّكَاً عاملاً بالإسلام فيُعينه ويَعصمه بتهيئة الأسباب لذلك ويمنع بين الإنسان الكافر وبين عقله أن يؤمن إذا كان مُصِرَّاً علي إغلاق عقله وكفره فلا يُيَسِّر له أسباب إيمانه، وبالتالي فكونوا دائماً مُستعينين بربكم مُتوكّلين مُعتمدين عليه شاكرين له ليُعينكم علي كل خيرٍ ويُثَبِّتكم عليه ويزيدكم منه فهو القادر علي كل شيء والمُسيطر عليه مالِك المُلك كله وإذا شاء شيئا قال له كن فيكون فمَن يُريد الكفر بعقله شاءه له ومَن يريد الإيمان بعقله شاءه له ويَسَّرَ لكلٍّ الأسباب.. وأيضا من المعاني الضِّمْنِيَّة أنَّ الله تعالي مع الإنسان قريب منه دائماً بقُدْرَته وعلمه فهو بينه وبين عقله يحفظه له ويَرْعاه ويُنَمِّيه برحمته وحبه إيّاه وإرادة إسعاده ولو أراد مَنْعه من الفكر والفهم وشَلّ حركته لَفَعَل ذلك، فليدعوه إذَن وليتوكّل عليه وليَتّقِيه في كل شئون حياته ليسعد.. وبالجملة فإنه سبحانه يُغَيِّر الأمور من حالٍ إلى حالٍ حسبما تتّخِذون من أسباب خيرٍ أو شرٍّ وبالتالي فلا يَأْمَن المُتَّقِي علي نفسه فقد يَتَغَيَّر إذا ابتعد عن ربه وإسلامه واتّخَذَ أسباب البُعْدِ بفِعْل ما يُخَالِفهما وكذلك لا ييأس الفاسد أبداً من صلاحه فمِن المُمكن قطعاً أن يستفيق لسببٍ من الأسباب حوله فيُحسن استخدام عقله فيَتَغَيَّر للخير ويُعينه ربه حتماً فليحيا المسلم إذَن مُتّزِنَاً بين الخوف من البُعْد عن الإسلام ومن عقاب الله فيَدفعه ذلك لمزيدٍ من الطاعات وبين الرجاء في رحمة الله إذا كان عاصيا فيدفعه هذا للتوبة واتّباع كل أخلاق الإسلام.. إنه من المعاني الضِّمْنِيَّة أيضا أنَّ الله تعالي من المُمْكِن أنْ يُجْبِرك أيها الإنسان علي الإسلام لأنه هو الذي خَلَقَ عقلك ومشاعِرك ويَتَحَكَّم فيهما ولكنه يريدك أن تستجيب أنت باختيارك لأنَّ المُكْرَه لا يُدْرِك قيمة الإسلام ويُخَالِفه في أيِّ فُرْصَةٍ يُمْكِنه مُخَالَفته فيها وقد يكون منافقاً ويعمل به مُرْغَمَاً وبالتالي لا يَسعد به.. إنَّ تَذَكّر ما سَبَق ذِكْره دائماً يُعطي الإنسان دفعة هائلة للاستجابة للإسلام وللانطلاق نحو كل خيرٍ وترك كل شرّ، إذ معه دائما خالِق الخَلْق يُعينه ويُوَفّقه ويُيَسِّر أموره ويُسَدِّد خُطاه، ومعه عقله وفطرته التي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويدفعه كذلك لأنْ يحيا حياته مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء وأن يسأل الله تعالي دائما التثبيت علي الإسلام لأنَّ المُتَغَيِّرات كثيرة وأنْ يَحْذَر حَذَرَاً شديداً من الغَفْلَة لأنه لو نَسِي التمسّك والعمل بالإسلام من المُمكن أن يَتَغَيَّر نحو السوء فلينتبه وليحذر وليظل مُعتصماً بالله يرجوه وبإسلامه ثم بالتواجد وسط صُحْبَة صالحة تُذَكّره دائما بكل خيرٍ وتَمنعه من أيِّ شرّ.. ".. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾" أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائماً أيضا مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه أنه إليه وحده لا لغيره تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين مِن تَرْك الدوام علي طاعة الله ورسوله والاستجابة لكل أخلاق الإسلام والتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم فينتشر الشرُّ بسبب ذلك فيَشمل المُحْسِن والمُسِيء والعادل والظالم فيَتعس الجميع في الداريْن.. أيْ وأطيعوا الله ورسوله واستجيبوا دائما له إذا دعاكم لِمَا يُحييكم وهو الإسلام وتَجَنَّبوا عذاباً لا يُصيب الذين عَصَوْا منكم فقط بالتخصيص وإنما يَعُمّ الجميع إذا سَكَتوا عن دعوتهم للخير ومَنْعهم من الشرّ وكانوا مُستطيعين لذلك.. أيْ واجعلوا بينكم وبين عذاب الفِتَن التي تَعُمّ آثارها المُضِرَّة المُتْعِسَة وعذاب ربكم في الداريْن وقاية بأنْ تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر.. إنَّ الواقع يُثْبِت أنه بانتشار الشرِّ وعدم مَنْعه ونَشْر الخير الذي بالإسلام يَتَعَذّب الناس ويَتعسون في دنياهم قبل أخراهم، وهذا هو عذاب الله تعالي لهم والذي هو بأيديهم وبسَبَبِهم، فهو لا يُصيب الذين ظلموا أيْ فَعَلوا الشرور ونشروها وحدهم خاصَّة، وإنما أيضا يَلْحَق بالصالحين الذين لم يفعلوها، حيث مثلا السرقة وقطع الطرق وعدم الأمان والأطعمة الفاسدة وتلويث البيئة بما ينشر الأمراض وغشّ السلع واحتكار بعضها لرفع سعرها وتطفيف الموازين ونشر الحروب والمُنازعات والمُشاحنات والانشقاقات والاضطرابات والضلالات والأفكار الضالّة الضَّارَّة المُتْعِسَة كالكفر والشرك والنفاق وغير ذلك من أنواع الفِتَن أيْ الشرور المختلفة والتي قد يصعب حصرها تُصيب وتَضُرّ الجميع ولا تنتقي الذين ظلموا فقط وتترك أهل الخير، فليس لها قُدْرة علي التمييز والانتقاء! فالجميع حتماً مُصابون، تعيسون في الداريْن، بعقاب الله الشديد، إذا لم يُحسن المُحْسِنون دعوة المُسِيئين بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ أحسنوا، فقد اتّقوا هذه الفِتَن وتعاساتها، أيْ جعلوا بينهم وبينها وقاية، وبينهم وبين عذاب ربهم الدنيويّ والأخرويّ كذلك وقاية، وما يُصيبهم حينها مِن بعض ضَرَرٍ فسيكون حتماً لمصلحتهم ليَخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة إذا صبروا عليه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير السابق.. أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم : 7﴾.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿26﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي تستحِقّ الشكر والتي لا تُحْصَيَ علي المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم، ومزيدٌ من التَبْشِيرٌ والطَمْأَنَة والتثبيت والتشجيع لهم أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتماً سيَنصرهم وسيُحَقِّق لهم أفضل المَكاسِب بأقلّ الجهود.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم سابقاً قليلاً في العدد مُسْتَضْعَفِين في الأرض فقراء لا قيمة ولا وَزْن ولا تأثير لكم مَقْهُورين مَذْلُولين تحت حُكْم غيركم خائفين تخافون أن يتخطّفكم الناس – والتَّخَطُّف كالخَطْف وهو الأخذ بسرعة – أيْ أن يأخذكم أعداؤكم والناس حولكم أخذاً سريعاً، والمقصود أنهم يَسْتَغِلّوكم ويَنهبون جهودكم وممتلكاتكم ويُفْقِروكم ويُشْقوكم ويُؤذوكم ويُعَذّبوكم لفظياً وجسدياً ويَسخرون منكم ويُهينوكم ويَتعالون عليكم ويُبعدوكم عن ربكم وإسلامكم بالترهيب والترغيب وبالجملة كنتم غير آمنين غير مُستقِرّين خائفين من اختطافكم وقتلكم بسبب قوة الناس عليكم وضعفكم الشديد أمامهم.. ".. فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.." أيْ فغَيَّر حالكم تماماً بأفضاله ورَحماته وقُدْرَاته بأنْ جَعَلَ لكم بَلَدَاً يكون مَأْوَي أيْ مُسْتَقَرّاً تَستقرّون وتُقيمون فيه آمِنين ودولة تحكمونها بنظام الإسلام لتسعدوا بخيراتها، وقَوَّاكم وعاوَنَكم بنصره علي أعدائكم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو وجَعَله علي أيديكم، وأعطاكم من كل أنواع أرزاقه الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقكم إيَّاها من المأكولات والمشروبات والمَلبوسات والمَرْكوبات والمُمْتَلكات وغيرها مِمَّا لا يُحْصَيَ ومِمَّا لم يكن مُتَوَفّراً لكم سابقا.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿26﴾" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. إنَّ في هذه الآية الكريمة تذكرةٌ للمسلمين أنهم إنْ كانوا الآن في حالة قوة فعليهم أن يتذكّروا ضعفهم السابق فلا يَستضعفوا إذَن ضعيفاً فيظلموه بل يعاونوه لِيَقْوَيَ ويَنصروه، وإن كانوا في غِنَيً فيتذكّروا فقرهم سابقاً فيُغْنوا الفقير ولا يَتعالوا عليه، وإن كانوا في عِزّةٍ وأمانٍ فلْيَتَذَكّروا الذلّة والرَّهْبَة ولْيُعينوا مَن هم فيها علي الخَلاص منها، وهكذا.. فهذا هو الشكر العمليّ لهذه النّعَم إلي جانب شكرها بالعقل واللسان.. كما أنها تذكرةٌ بأنَّ مَن لم يَشكر وأساء استخدام نِعَم الله عليه في الشرّ لا الخير فقد تُسْحَب منه ويَعود مُسْتَضْعَفَا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. وإذا كنتَ عادلا تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿27﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تكونوا أبداً غير أمناء مع الله والرسول ﷺ بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في أعظم أمانة منهما عندكم فلا تحفظوها وتصونوها تمام الحِفْظ والصيانة وهي دين الإسلام الذي في القرآن العظيم فتَتركوا العمل بأخلاقه بعضها أو كلها في كل شئون حياتكم وهي التي أصلا لمصلحتكم ولسعادتكم لو حافظتم عليها ولم تخونوها حيث هي تُكْمِلكم وتُصلحكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، أو بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في حُسْن دعوة جميع الناس له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، أو بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في الدفاع عنه ضِدَّ مَن يَعتدي عليه حتي ولو بالقتال إنْ بَدَأَ هو به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، أو بأنْ تُعاوِنوا وتُناصِروا أعداء الله والإسلام والمسلمين، أو بما شابه هذا من خِيانات.. ".. وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ.." أيْ وكذلك إيّاكم ثم إيّاكم أبداً أن لا تكونوا أمناء علي كل الأمانات الأخري المَحْفوظة عندكم للآخرين حيث حِفظها وصيانتها هو جزء من حفظكم وصيانتكم لأمانة دين الإسلام فعليكم أنْ تُؤَدِّوها وتُوَفّوها أيْ تُعطوها وافِيَة كامِلَة غير مَنْقوصَة وتَرُدّوها إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم وفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم أم الحفظ للأسرار وعدم إفشائها، أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات، لأنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿27﴾" أيْ والحال والواقع أنكم تعلمون أنَّ ما تفعلون خيانة وأنكم تَخونون، وتعلمون أوامر الله ونواهيه في الإسلام وأنَّ الأمانة فرضٌ عليكم، وتعلمون عِظَمَ جريمة الخيانة وآثارها المُضِرَّة المُتْعِسَة وعقاب الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤْتُمِنَ عليها في الداريْن، فعليكم بالتالي إذَن أن تكونوا دوْمَاً أمناء وتَتَجَنَّبوا الخيانة بكل أشكالها لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما.. إنه لا يُمكن أبداً أن يكون هذا منكم وأنتم تعلمون بفطرتكم والتي هي مسلمة أصلا بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وتعلمون بعقولكم إذا أحسنتم استخدامها وكنتم مُنْصِفِين عادِلين ومِن أهل العلم والتَّعَقّل والتّدَبُّر والتّعَمُّق قيمة الأمانة وسعاداتها فلا يليق بكم إذَن أن تخونوا.. إنه لا يُتَصَوَّر منكم أن تفعلوا ذلك مُتَعَمِّدِين ليس خطأ ولا نسياناً وأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فعلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالمٍ مثلكم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابكم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. وفي ذلك حثّ ودَفْع وتشجيع لهم على اتّباع كل أخلاق الإسلام بإثارة علمهم وعقلهم وفكرهم ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن وعوْن لهم علي البُعْد التامّ عن أيِّ سَفَهٍ بمُخَالَفته وإلا تَعِسُوا تماما فيهما
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿28﴾" أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائماً وتأكّدوا تماماً وانتبهوا واحذروا أنه ليس الأموال والأولاد وكل أحداث الحياة إلا اختبار لكم يحتاج إلي حُسن تعامُلٍ معه لِيَرَيَ ويُقَيِّم كلّ فردٍ ذاته هل اتَّبَعَ الإسلام في كل مواقف ولحظات حياته أم لا؟ فإن اتَّبَعَه كله في كل مواقفها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه ثم أخراه، وليَحمد ربه ليُثيبه ويزيده، وإنْ تَرَكَ بعضه أو كله تَعِسَ فيهما علي قَدْر ما يترك، فليجتهد أن يَتَدَارَك حاله ويتمسّك ويعمل به كله لتتمّ سعادته فيهما.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فلْيَصْبِر عليه ليَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿28﴾" أيْ وتَذكّروا دوْماً ولا تَنسوا أبداً أنَّ الله عنده عطاء عظيم في الداريْن من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة وذلك لمَن أطاعه واتَّبَعَ إسلامه ولم يُخَالِفه في كل شئون حياته، فكونوا إذَن كذلك لتنالوا هذا الثواب العظيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تَتّقوا الله أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، يُعْطِكم فُرْقَاناً أيْ عقلاً راجِحَاً وعلماً نافعاً وإدراكاً واعِيَاً يُعينكم علي أن تُفَرِّقوا بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك تحيون حياتكم في سعادة تامَّة وتنتظرون مُسْتَبْشِرين آخرتكم التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. ويُكَفّر عنكم سيئاتكم أيْ شروركم الصغيرة أيْ يَسترها ويَمْحُهَا ويُزِلْها ولا يُحاسبكم ولا يُعاقبكم عليها لكثرة توبتكم منها وعودتكم إلي ربكم، ويغفر لكم شروركم الكبيرة التي فعلتموها أيْ يُسامِحكم أيضا فلا يُعاقبكم عليها ويُمْحها كأنْ لم تَكُن ويَمْح عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ويَسترها ويُخفيها فلا يُعَذّبكم بفَضْحِكم بها فيهما.. هذا، والتكفير والغُفْران كلاهما فيه معنى السّتْر والتغطية إلاّ أنَّ الغفران يُفيد أكثر معنى عدم العقاب والتكفير يُفيد أكثر ذهاب آثار السيئة، والمقصود مزيد من التأكيد علي العفو من كل الذنوب والسيئات والتي هي أيضا مُتَقَارِبَة في معانيها.. ".. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾" أيْ وهذا الذي يَتَفَضَّل به عليكم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم أي العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك.. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ عليكم وعلي كل خَلْقه من أرزاقه التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل الدائم فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللتقوي وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وفي الآية الكريمة طمْأَنَة للمُتّقين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿30﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، وتبشيرٌ وطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يَمكر بك الذين كفروا يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم من بعده، أيْ يُدَبِّرُون لك المَكَائِد السَّيِّئة في الخَفَاء ويُخادِعون لكي يُثْبِتوك أيْ يَحْبِسُوك ويَسجنوك ويُقَيِّدُوك أو يَقتلوك أو يُخرجوك خارج بلدك وكل ذلك وغيره محاولات يائسة منهم ليتخلّصوا منك فلا تستطيع دعوة الناس لله وللإسلام.. ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿30﴾" أيْ والحال والواقع أنهم يُدَبِّرون المَكَائِد في الخَفَاء ويُخادِعُون من أجل إيقاع الشرّ بك وبالإسلام وبالمسلمين، ويُدَبِّر الله تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."﴾.. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿31﴾ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿32﴾ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿33﴾ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿34﴾ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿31﴾" أيْ وحينما تُقْرَأ علي هؤلاء الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم وتُذْكَر لهم آياتنا في القرآن العظيم قالوا مُتَمَرِّدين مُعانِدين مُستكبرين مُسِيئين الأدب مع القرآن ومع مَن يدعوهم له كالرسول الكريم ﷺ في زَمَنِه وكالمسلمين مِن بَعْده في كلّ زمنٍ بسبب تكذيبهم وعِنادهم وإغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا وهم يعلمون أنهم كاذبون تماما في قولهم قد سمعنا ما تقوله ولو نشاء لقلنا مِثْل هذا القرآن لأنَّ ما هذا القرآن الذي تَتْلُوه علينا إلاّ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها والتي من السهل لنا أن نأتي بمِثْلها فهي مِثْل كلام البَشَر فأنت تأخذ من قصصهم وتتلو لنا!!.. وهذا يدلّ علي أقصي درجات الاستكبار والعِناد والجهل والإصرار التامّ علي سُوئهم دون أيِّ تفكيرٍ في الخير الذي فيه والعمل به ليسعدوا في الداريْن.. وهذا منهم قولٌ لا فِعْل قطعاً لأنهم لم يستطيعوا مُجتمعين أن يأتوا بمِثْله رغم أنَّه قد تَحَدَّاهم كثيراً ولا زال أن يأتوا بمِثْل حتي آية واحدة منه؟!! وبما أنهم لم ولن يَتَمَكّنوا من ذلك فقد ثَبَتَ بلا أيِّ شكّ أنه ليس أبداً من كلام بَشَرٍ بل هو من كلام خالقهم، لأنه لو كان مِن كلامهم أو من كلام الرسول ﷺ لأَتوا بمِثْله وأفضل لأنه ﷺ أمِّيّ لا يَقرأ ولا يَكتب وهناك الكثيرون مِمَّن هم أعلم وأفصح منه! ولكنه الإغلاق التامّ لعقولهم والمحاولات اليائسة للتشويش علي القرآن وتشويهه وتصويره بأنه من كلام البَشَر حتي يُبَرِّروا – بلا أيِّ مَنْطِق – عدم اتّباعه وحتي يَمنعوا غيرهم من أن يَتّبعوه ويُسْلِموا ولكنهم لن يستطيعوا مُطلقاً تحقيق ذلك فإنَّ الإسلام الحقّ الذي بالقرآن ينتشر يوميا بقوة الله وحفظه ثم بجهود المسلمين لأنه يُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ والفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿32﴾" أيْ هذا بيانٌ لشدة سَفَه الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم، فهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم يَطلبون منه ﷺ ومِن المسلمين مِن بَعده بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذن كاذب والمسلمون كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِه بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين وَصَل العِناد بأمثال هؤلاء فقالوا يا ربّ – ولفظ اللهمّ قد يكونوا قالوه كنوعٍ من الاستهزاء بالمسلمين أيْ يقولون مثلهم كما يَدَّعون أنَّ لهم ربّاً لأنهم لا يؤمنون بوجود ربّ، أو بعضهم يؤمن أيْ يُصَدِّق بوجوده بالفِعْل لكن لا يَسمع له ويُطيع باتّباع الإسلام بل يَتّبع أنظمة مُخَالِفَة له – إنْ كان هذا الذي جاءنا به محمد مِن قرآنٍ وغيره هو الحقّ المُنَزّل من عندك كما يَدَّعِي فعاقبنا على تكذيبه وعدم الإيمان به بأنْ تُنَزّل علينا حجارة من السماء تُهلكنا أو تنزل علينا عذابا أليما آخر يقضى علينا، فإنْ لم تأتنا بهذا العذاب فهذا القرآن ليس بالتالي إذَن من عندك ورسولك هذا ليس بصادق!!.. إنهم يَقصدون السخرية مِمَّن يُصَدِّقون أنه حقّ وأنهم متأكّدون أنه ليس حقاً وبما أنه ليس بحقّ فبالتالي لن ينزل بمَن لم يؤمن به أيّ عذاب!.. إنَّ هذه الآية الكريمة كسابقتها تفيد مُحاولاتهم اليائسة لإثبات عدم صِدْق القرآن الكريم لتَبرير عدم اتّباعه ولمَنْع غيرهم من الإيمان به
ومعني "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿33﴾" أيْ وليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته أن يُعَذّب أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم تعذيب إهلاكٍ واستئصالٍ تامٍّ من الحياة وأنت مُقيم فيهم يا رسولنا الكريم فقد جَرَت سُنَّته سبحانه ألاّ يهلك قوماً مُكَذّبين وفيهم رسولهم والمسلمون معه وبعده الدعاة لهم لله وللإسلام حتى يُخرجهم منها بسببٍ من الأسباب حماية له ثم بعد ذلك يُعَذّب ويُهلك المُستحِقّين للعذاب بما يُناسب شرورهم.. ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿33﴾" أيْ وما كان من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويَستحيل أن يُعَذّب العصاة وهم يستغفرونه ويَمتنعون عَمَّا هم فيه من سوء، فإن لم يستغفروا واستمرّوا مُصِرِّين علي سُوئهم عَذّبهم بما يُناسبهم في الداريْن.. وفي الآية الكريمة تنبيهٌ للتمسّك والعمل بالإسلام – والذي منه الاستغفار – فهو الذي يُمَثّل وجود الرسول ﷺ بين الناس بعد غيابه وهو العاصم من عذاب الله تعالي والجَالِب حتماً لكل إسعادٍ منه في الدنيا والآخرة
ومعني "وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿34﴾" أيْ ولماذا لا يُعَذّبهم الله بما يُناسب في دنياهم وأخراهم وأيّ شيءٍ يَمنعهم من عذابه وكيف لا يُعَذّبهم وقد فَعَلوا ما يَستحِقّون به ذلك فالحال والواقع أنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم يَمنعون الناس عن دخول المسجد الحرام وعبادته تعالي أيْ طاعته، يمنعونهم عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ.." أيْ هذا رَدٌّ على ما يَدَّعِيه كذباً وزُورَاً بعضهم أنهم أولياء أمر البيت الحرام يَتَوَلّون ويُديرون شئونه فلهم بالتالي أن يَصُدُّوا مَن يشاءون عن دخوله ويَسمحوا لمَن يشاءون!.. أيْ وما كان أمثالهم مُطلقاً يوماً مَا أهْلَاً لولاية البيت الحرام بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. كذلك من المعاني أنهم أبداً ما كانوا أولياء الله أيْ المؤمنين به العامِلِين بكل أخلاق دينه الإسلام الذين في المُقابِل يُحبّهم سبحانه ويَنصرهم ويَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُسَدِّد خُطاهم ويُيَسِّر لهم كل أمورهم ويَتَوَلّي كل شئونهم ويَرْضَيَ عنهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ.." أيْ ما أولياؤه الحقيقيّون، أولياء ونُصَرَاء المسجد الحرام وأولياء الله، المُستحِقّون لهذه الولاية وللتكريم بها وللنّيْل للأجر العظيم في الدنيا والآخرة بسببها، إلا المُتّقون فقط أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿34﴾" أيْ ولكنَّ أكثر هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله ﷺ والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿35﴾" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتأكيد أنهم لا يعلمون وأنهم لا يَستحِقّون ولاية المسجد الحرام ويَستحِقّون العذاب.. أي ولم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا بالتهريج والتخريف وعدم الاحترام لقُدْسِيَّة المكان وعظمته وهيبته فلا تُفيد فاعلها شيئاً إلا سَفَهَاً وخَبَلَاً مُتَوَهِّمِين أنها صلاة مُخَالِفِين بذلك تماما صلاة إبراهيم ﷺ الذين يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنهم يتّبعونه!! إنها لم تكن إلا مُكَاءً أيْ تَصْفِيراً وتَصْدِيَة أيْ تَصْفِيقَاً، وكانوا يستخدمونها في التشويش علي الرسول ﷺ والمسلمين حين يريدون الصلاة والطواف ليفقدوهم تركيزهم فيهما وليَسخروا منهم.. ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿35﴾" أيْ إذا كان الأمر كذلك، فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴿36﴾" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ينفقون أموالهم وجهودهم بكل أشكالها وصورها لكي يَمنعوا الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. فسينفقون هذه الأموال والجهود في ذلك وغيره من الشرور ثم تكون عليهم مع الوقت حَسْرَة أيْ نَدَمَاً وحُزْنَاً وألَمَاً وهَمَّاً وتَعَبَاً شديداً مُتَكَرِّرَاً لأنها ضاعَت بلا فائدة حيث لم يُحَقّقوا ما يريدون ويأملون –واهِمِين – مِن الصَّدِّ عن سبيل الله، ثم بعدها يُهْزَمُون ويُذَلّون ويَخِيبون ويَتراجعون ويَضعفون ويَنقرضون لأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما بلا أيِّ شكّ سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإضافة لهزيمتهم وذِلّتهم وتعاستهم في دنياهم سيُحْشَرون أيْ يُجْمَعون إلي جهنم لا لغيرها في أخراهم إن استمرّوا علي سُوئهم بلا توبة وماتوا علي كفرهم بلا إسلام حيث شدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾.. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿37﴾" أيْ مِن شأن الله وأسلوبه أن يَختبر المسلمين ببعض الاختبارات كل فترةٍ لمصلحتهم ولسعادتهم – والتي منها اختبارهم بمحاولات صِدّ الذين كفروا وأشباههم لهم عن سبيل الله بأموالهم وجهودهم كما في الآية السابقة – حتى يُمَيِّزَ لهم الخبيث وهو المنافق الكاذب الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي الشرّ والكافر والمُشْرِك والظالِم والفاسِد ومَن يَتَشَبَّه بهم وبالجملة هو كل سَيِّءٍ رَدِيءٍ دَنِيءٍ خَسِيسٍ مُنْحَطّ كَرِيهٍ فاسدٍ فيَسهل تَجَنّبه وضَرَره والتعامُل معه بما يُناسب، من الطّيِّب وهو المؤمن الصادق العامِل بأخلاق إسلامه، وكذلك يَختبرهم حتي لا يُؤَدِّي الرخاء الدائم إلي الاعتياد علي شدّة الاسترخاء وعدم القُدْرة علي الإنطلاق في الحياة لاستكشافها (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة﴾.. ".. وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ.." أيْ وإذا كانوا قد تَمَيَّزُوا في الدنيا فإنَّ الله بالقطع يُمَيِّزهم كذلك في الآخرة ويَجعل الفريق الخبيث مُنْضَمَّاً بعضه علي بعض فيَجعله مُتَرَاكِمَاً جميعاً كأكوام النفايات المَهِينَة التي لا قيمة لها إذ سيَتِمّ حَرْقها فيَجعله ويَقْذِفه – أيْ هذا الفريق المُتَرَاكِم – في جهنم حيث شدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. أمّا الفريق الطّيِّب فهو حتماً في جناتٍ ونعيمٍ لا يُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿37﴾" أيْ هؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴿38﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴿38﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك مِن الذين كفروا وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ يَتَوَقّفوا ويَمتنعوا امتناعاً كاملاً عن تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلِهم الشرور والمَفاسد والأضرار وعدائهم وكَيْدهم وقتالهم للإسلام والمسلمين بأنْ يُسْلِموا ويَتّبعوا أخلاق الإسلام يَغْفِر الله لهم ما قد سَبَقَ من شرورٍ فالإسلام يَمْحُو ما قبله والتوبة تَمحو ما قبلها أيْ يُسامِحهم فلا يُعاقبهم عليها ويَسترهم فلا يُفْضَحُوا بها ويُمْحوها ويُزيلها كأنْ لم تَكُن ويَمْحو عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن بسبب توبتهم منها.. إنَّ رحمة الله الواسعة تَسَعُ كل شيءٍ وللجميع حتي مع أمثال هؤلاء ما داموا عادوا لربهم وإسلامهم، فكيف تكون رحمته مع المسلمين التائبين؟!.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴿38﴾" أيْ وإنْ يَرجعوا بعد إسلامهم لكفرهم وعدائهم وسُوئهم انتقمنا منهم ونصرنا المؤمنين عليهم فقد سَبَقَت صِفَة وطريقة وخَبَر هلاك السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن يعرفونهم ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم، فلقد سَبَقَت طريقة الله في عقاب سابقيهم أمثالهم بعدما أمْهَلَهم وصَبَرَ عليهم كثيراً وفي هزيمتهم ونَصْر المسلمين المُسْتَحِقّين للنصر، ولقد عرفوا أنه قد مَضَيَ أيْ نَفَذَ عقاب الله فيهم، فهذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما في كلّ أمثالهم الذين مضوا وذهبوا وانتهوا قبل ذلك، ولن تَتَغَيَّر مطلقا في أيّ زمانٍ ومكان إلي يوم القيامة، فأمثال هؤلاء هم عِبْرة لغيرهم، فاعتبروا إذن أيها المُكذبون وخذوا الدروس مِمَّا حَدَثَ لهم واستجيبوا لربكم ولإسلامكم لتسعدوا في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿39﴾ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿39﴾" أيْ واسْتَمِرّوا أيها المسلمون في قتال أمثال هؤلاء المُعتدين القاتِلِين حتي لا تكون فتنة أيْ حتي تمنعوا الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والمَظالِم والجرائم والتعاسات ونحوها، لأنَّ الهدف الأسمي للقتال وللجهاد في سبيل الله ليس كما يفعل المعتدون من أجل النهب والسَّطْو والاعتداء والتدمير ونحو ذلك وإنما لكي لا تكون فتنة ولكي يكون الدين كله لله أيْ تكون كلمة الله هي العُلْيَا خالصة كلها وحدها ليس معها كلمة أخري عُلْيَا أيْ يكون الخالق العظيم ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه المجيد وإسلامه الحنيف أي الذي لا يَميل عن الحقّ والعدل والخير هم دائما المَرْجِع لكل الناس في كل مواقف ولحظات حياتهم ليسعدوا بذلك السعادة التامّة فيها ثم يكون لهم في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، لا أنْ تكون أيّ أنظمة أو ديانات أخري مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة للبَشَر في الداريْن هي العليا.. هذا، ولفظ "كله" هو لمزيدٍ من التأكيد والتنبيه علي الأهمية القُصْوَيَ لأنْ يكون الدين لله تعالي وحده ليس معه أحد غيره شريك فيه.. ".. فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿39﴾" أيْ فإنْ تَوَقّفوا وامْتَنَعُوا عن كفرهم وقتالكم وتَرَكوه وأسْلَمُوا، فإنَّ الله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون من خيرٍ وسعادةٍ علي إنتهائهم عن كفرهم وإسلامهم، في الدنيا قبل الآخرة.. وفي هذا تشجيعٌ لهم علي التوبة والإسلام، كما أنَّ فيه تحذيراً وتهديداً شديداً إنْ كان انتهاؤهم خديعة فالله بصيرٌ بهم وسيَكشفهم ويَهزمهم حتماً وينصر المسلمين عليهم
ومعني "وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿40﴾" أيْ وأمّا إنْ أعْرَضوا أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عن الإسلام وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه وقاتلوهم، فاعرفوا وتذكروا ودائما ولا تنسوا أبداً أنَّ الله مولاكم أيْ هو وحده مُتَوَلّي أموركم في كل شئون حياتكم ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لكم، أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم وحافظكم ومانِعكم من الضرَر ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام، ومَن كان الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿40﴾" أيْ ما أعظم وأفضل المولي، وما أعظم وأفضل النصير أيْ الذي يَنصركم ويعزّكم ويَرفعكم ويُعينكم ويَمنع الضرر ويُدافع عنكم في دنياكم وأخراكم، فهل تحتاجون شيئا بعد ذلك؟!! فاطمئنوا اطمئنانا كاملاً واستبشروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ فيهما.