الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿1﴾ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .. " أي هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحصي بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خير دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولا وقوة وصحة وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .. " أي اطْمَئِنّوا فلا أحد آخر يمتلكهما إذ لو ُفرِضَ وامتلكهما غيره لَكَانَ مِن المُمكن أن يَحرمكم من خيراتهما !! كما أنَّ هذا مِن المُفْتَرَض أنْ يزيدكم حمدا لله لأنها كلها ملكه وليست ملككم ومع ذلك يُمَلّك لكم بعضها فترة حياتكم ويجعلكم تنتفعون وتسعدون بما معكم تمام الانتفاع والسعادة .. " .. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ .. " أي وبالقطع ليس الحمد في الدنيا فقط بل أيضا سيكون له تمام الحمد وأعظمه في الآخرة والذي لن يُقارَن بحمد الدنيا وذلك علي نِعَمه التي أعدَّها لأهل الخير والتي لا عين رأت مثلها ولا أذن سمعت بها ولا خَطَرَ علي قلب بَشَرٍ منها أيّ شيء .. وسيكون له الحمد وحده لا غيره ، لأنَّ في الدنيا قد يَحمد البَشَر بعضهم بعضا علي ما يُقَدِّمونه مِن خيرٍ فيما بينهم – والمسلم يعلم مُؤَكَّدا أنَّ مَن يشكره فهو في النهاية يشكر الله لأنَّ ما قَدَّمه له هو في الأصل منه تعالي وهو الذي يَسَّره له وأعانه عليه – أما في الآخرة فالحمد كله خالص له سبحانه .. " .. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿1﴾ " أي الذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث أو خطأ ، وهو العليم بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول .. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كلّ نِعَمه ومع كلّ خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ " أي يعلم سبحانه بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ، ما يَلِج أيْ يَدخل في الأرض مِن أيّ شيء ، مِن عددِ قطراتِ مياهٍ وطاقاتِ حرارةٍ وبذورٍ ونفايات وخلايا أجسام موتي وغير ذلك ممّا لا يَخطر ببال ، ويعلم ما يَخرج منها سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً كالنباتات والمعادن والبراكين والغازات والدوابّ الساكنة بداخلها وما شابه ذلك .. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته ، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا أقوالكم وأفعالكم في السِّرِّ والعَلَن .. إنه يعلم كذلك ما يَنزل من السماء من أمطارٍ وثلوج وصواعق وغيرها ، وما يعرج فيها أي يَصعد مِن أبخرة ورياح ونحوها ، ويشمل هذا بالقطع أقوال وأعمال البَشَر الصاعِدَة له لتُسجَّل عنده سبحانه وكذلك أرواحهم عند قبضها لتعود إليه .. وبالجملة هو تعالي يَعلم كلّ شيءٍ عن أيّ شيء .. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كلّ نِعَمه ومع كلّ خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ " أي هو سبحانه قطعا الرحيم الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسْبِق غضبه ، وهو الغفور الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقِّ حقوقهم إن كان الذنب مُتعلقا بهم ، (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. إنه لولا صفة الرحمة والمغفرة وفتح باب التوبة علي الدوام لَتَمَادَىَ المُذنِب في الذنوب ، ويَئِسَ أنْ يعود إلى الطريق المستقيم حيث لا عودة مُحْتَمَلَة ، إلي طريق الله والإسلام ، طريق تمام الخير والسعادة في الداريْن ، وبمثل هؤلاء سيَتعس المجتمع كله في دنياه وأخراه ، لكنْ إنْ عرف أنَّ له رباً رحيما غفورا حليما ودودا كريما يغفر الذنب ويَقْبَل التوبة ، فإنه يُقْبِل عليه ويتوب ، ولِمَ لا ؟! وقد تكفَّل له ووعده بمغفرة ذنوبه وإسعاد حياته الدنيوية والأخروية إنْ تاب وعاد
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿3﴾ لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وستَسعد أيضا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ .. " أي دائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبقرآنه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء ، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن تَحدث الساعة ، أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة ، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا !! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿3﴾ " أي قُل لهم يا محمد ﷺ ، ويا كلّ المسلمين مِن بعده ، قولوا لهم رَدَّاً عليهم : بَلَيَ ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم ، وأقْسِموا بربكم الذي يعلم الغيب أي كلّ ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم ، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل – وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ – والذي لا يَعْزُب أي لا يَغيب ولا يَخْفَيَ عنه أيّ شيءٍ حتي ولو كان وزن ومقدار ذرّة أو أصغر منها أو أكبر أو كان كبيرا هائلا بحيث لا يُتَصَوَّر أنه مُمكن إداركه مِن ضَخَامَة حجمه سواء أكان في السماوات أم في الأرض ، أنَّ الساعة آتية بكلّ تأكيد وبلا أيّ شكّ – أي ساعة إقامة يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها – لأنّ كلّ شيءٍ موجود في علمه سبحانه العالِم بكلّ شيءٍ بل وأيضا مَكتوب مُسَجَّل في كتابٍ مُبِين أي واضح مُبَيِّن لكلّ شيءٍ ويُبِين لمَن يَنظر فيه أنَّ كلّ شيءٍ مُدَوَّن ومُثْبَت بكلّ دِقَّةٍ وصدقٍ وعدلٍ فلا يُمكن مخالفة نظامه ولا يُمكن تغيير أيّ شيءٍ فيه ولا يُمكن لأيّ أحدٍ أن يَتَهَرَّبَ من قولٍ قاله أو فِعْلٍ فَعَلَه .. فأحْسِنوا إذن الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ، أيْ بالتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني " لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4﴾ " ، " وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿5﴾ " أي ستقوم الساعة حتما لكي يَجزيَ أي يُكافِيءَ ويُعطي ويُحاسب تعالي كلا ًّبما يَستحقّ ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له ، ويُعاقِبَ كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه ، فذلك هو تمام العدل ، فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر !! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. فالذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ، لهم قطعا مغفرة أيْ مَحْو لذنوبهم التي قد وقعوا فيها وعفو عنها من ربهم الغفور الرحيم الودود ، ولهم مع هذا ما هو أعظم وأسعد – إضافة إلي السعادة التامّة التي كانوا فيها في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا – وهو الرزق الكريم أي النفيس الفخم الهائل وهو الجنة بدرجاتها حسب أعمالهم حيث تمام السعادة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر .. بينما غيرهم فحالهم علي العكس تماما " وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿5﴾ " أي الذين أسرعوا واجتهدوا مُعَاجِزين أي مُحَاوِلين سباق المؤمنين والفوز عليهم وإظهار عَجْزهم بأن يكونوا مُمَانِعين لهم عن اتِّباع الإسلام والتمسّك به والدعوة له ونشره ليَسعد به الجميع في الداريْن ومُحَاوِلين إظهار عدم إعجاز آياتنا في كوْننا وقرآننا من خلال الجدال والتشويه والكيْد بكلّ أنواعه أو يُحاولون حتي إثبات عجزنا وضعفنا نحن الخالِقين لهم !!! – ولن يستطيعوا قطعا وهم واهِمون في كلّ ذلك – فلهم بالتأكيد كلّ شرٍّ وتعاسة ، لهم عذاب مِن رِجْزٍ أليم أي من أشدّ أنواع العذاب المؤلم المُوجِع المُهين المُتْعِس ، بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه وتعاساتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿6﴾ " أي إذا كان هناك مَن يَسعيَ مُعَاجِزا لآيات الله ويُكذب بها وبقيام الساعة كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ فإنّ هناك أيضا الكثير يَرَيَ أيْ يَعلم ويَعرف بصورةٍ مُؤَكَّدة ليس فيها أيّ شكّ وكأنه يراه بعينيه ، وهم الذين أوتوا العلم أي العالِمين أي العاقِلين المُتَدَبِّرين أصحاب العقول الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون في الأمور ، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنَّهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ! وهم أيضا الذين قد أتتهم كُتب الله وآخرها القرآن الكريم والتي فيها علومه وتشريعاته وأخلاقيّاته عن طريق رسله فآمنوا أي صَدَّقوا بها وتمسّكوا وعملوا بما فيها فسعدوا تمام السعادة في دنياهم ثم أخراهم ، كلّ هؤلاء يَرَوْنَ أنَّ الذي ُأنْزِلَ إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحقّ التامّ الكامل أي الصدق المُسْعِد تماما في الدنيا والآخرة والذي لا يُخالطه أيّ كذبٍ أو سوءٍ أو ضلال ، وكلّ ما يُوَافِقه ويَرْجع إليه مِن نُظُمٍ وقوانين يضعها البَشَر فهو صدق مثله بينما كلّ ما يُخالِفه فهو الكذب التامّ المُتْعِس فيهما .. وفي هذا مدح للمسلمين وطَمْأَنَة وتشجيع لهم علي الاستمرار في التمسّك بإسلامهم الذي هو الحقّ ، حيث هناك كثيرون مثلهم ، وكثيرون سيَستجيبون لهم لو أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الداريْن﴾ .. " .. وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿6﴾ " أيْ ويَرَوْنَ الذي ُأنْزِلَ إليهم وهو القرآن الكريم هو وحده الهادي المُرْشِد المُوَجِّه إلي طريق الله طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم ، إنه طريق العزيز أي الغالِب الذي لا يُغْلَب والذي يُعِزّ المؤمنين به المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم أهل الحقّ والخير ويُكرمهم ويَرفعهم وينصرهم ، الحميد أي المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته حتي ولو لم يحمده أحدٌ وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون ، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا ، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات ، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿7﴾ أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴿8﴾ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وستَسعد أيضا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿7﴾ " أي يقول دائما الذين كفروا أي الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبقرآنه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاسْتِهزاء والاسْتِعْلاء ، يقولون فيما بينهم أو يقول كبراؤهم وزعماؤهم لمَن هم أدني منهم أو لعموم الناس لكي يُبعدوهم عن اتّباع الإسلام ، يقولون هل تريدون أن نرشدكم لرجل يُخبركم خبرا مُهِمَّاً ساخرا مُضْحِكَاً عجيبا – وإطلاق لفظ رجل بصيغة النكرة علي الرسول الكريم ﷺ يُفيد التَّعَالِي والاحتقار والاستهزاء والسخرية – وهو أنكم بعد موتكم ودفنكم في الأرض وتقطيع أجسادكم وتفتيتها تقطيعا وتفتيتا وتمزيقا شديدا بحيث تصيرون ذرّات ترابٍ مُبَعْثَرَة أنكم ستُخْرَجُون بأجسادكم وأرواحكم في خَلْقٍ جديدٍ قد تمَّ تجديدكم وإعادة تشكيلكم ثم تُحَاسَبون علي كلّ أقوالكم وأعمالكم !! هل بعد هذا جنون أكثر من ذلك ؟!
ومعني " أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴿8﴾ " أي هل اخْتَلَقَ هذا الرجل علي الله كذبا شديدا ليس له أصل أم هو مجنون أي لا عقل له يقول كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل ؟! فهذان هما الاحتمالان لِمَا يقول .. فيَرُدّ عليهم سبحانه بأنه ليس قطعا كذلك ولكنكم أنتم الجهلاء السفهاء أيها الذين يُكذبون بالآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وبسبب تكذيبكم وعِنادكم واستكباركم واستهزائكم هذا فأنتم في شقاءٍ شديدٍ وضَيَاع بعيدٍ جدا عن أيّ صوابٍ وخيرٍ في هذه الدنيا وستكونون في صورةٍ ما مِن صور العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون لكم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيكون لكم حتما ما هو أتمّ تعاسة وأعظم وأشدّ وأخلد .. وما هذا التكذيب والعِناد والاستكبار إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فهم يعلمون تماما صِدْق الرسول ﷺ وهم دائما يُسَمُّونه الصادق الأمين
أما معني " أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿9﴾ " أي هل لم يُفكّر هؤلاء الذين ُذكروا في الآيات السابقة مرّة فيما بين أيديهم أي أمامهم وما خلفهم أي ورائهم وفي كلّ مكانٍ حيث سيجدون حتما السماء والأرض وما فيها من مُعْجِزاتٍ يَعْجَز أيّ أحدٍ أو يَجْرؤ علي ادِّعاء خَلْقها ؟! هل بَلَغَت بهم السَّطْحِيَّة التي هم فيها وبَلَغَ بهم تعطيل العقول إلي هذا الحَدّ حتي لا يتفكّروا في أقرب مخلوقاتٍ لهم مُعْجِزات ؟! وفي هذا لَوْم شديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، إنهم لو أحسنوا التّفَكُّر سيُحسنون تَدَبُّر كلّ مخلوقات الله المُعْجِزات المُبْهِرات من سماوات وأرض وما فيهما وما بينهما وسيُدركون حتما حينها عند التَّدَبُّر ولو في أصغر مخلوقٍ أنه تعالي قادر علي بعثهم عند قيام الساعة وأنه لو شاء لَخَسَفَ بهم الأرض فابتلعتهم بداخلها أو لَأَسْقَطَ عليهم قِطَعَاً من عذابٍ من السماء كصواعق أو سيول أو نحوها تُهلكهم كما فَعَلَ بمَن أهلكهم مِن المُكذبين السابقين لمّا أصرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وهو القادر علي كلّ شيءٍ كما يَرَوْنَ ولكنه لم يفعل ذلك وأخَّرَه وأجَّلَه لحِلْمه عليهم ورحمته بهم لعلهم يستفيقون ويرجعون ، فلينتبهوا لذلك وليحذروه (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ مِن الحياة﴾ .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿9﴾ " أي الذي يَنتفع ويَسعد بهذه الآيات ، بهذه الدروس والعِبَر والدلالات ، تمام السعادة في دنياه وأخراه ، هو كلّ عبدٍ لله تعالي (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، منيبٍ أي دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتخاذه تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴿10﴾ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿11﴾ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مَنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿12﴾ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿13﴾ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض ، كما كان سيدنا داود وابنه سليمان عليها السلام (برجاء مراجعة الآية ﴿14﴾ من سورة يونس " ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ وتأكّدتَ أنَّ التفضيل والمَكَانَة في الحياة إنما تكون بالاجتهاد – كما كانا عليهما السلام – أي بإحسان اتِّخاذ الأسباب (برجاء مراجعة الآية ﴿165﴾ من سورة الأنعام ، للشرح والتفصيل عن معني " .. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ .. "﴾ .. وإذا كنتَ مِن المُتَآلِفين المُتَحَابِّين مع كل المخلوقات حولك – كما كانا عليهما السلام – ومع كلّ الإنسانية (برجاء مراجعة الآية ﴿189﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِن المتمسّكين بخُلُقٍ هام من أخلاق الإسلام وهو العمل بقانون الأسباب والنتائج ، مثلهما عليهما السلام (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من سورة الأنفال ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُتَعَلِّمَاً لا جاهلا ، كما كانا عليهما السلام ، مُتَخَصِّصَاً ، في أيّ مجالٍ من مجالات علوم الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الحُكَماء ، مثلهما عليهما السلام ، أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم فَيَزِنُون كلّ أمرٍ بميزانه الصحيح ويضعونه في موضعه دون أيّ عَبَث (برجاء مراجعة الآية ﴿269﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الذين يَحكمون ويَديرون أيّ شأن – مثلهما عليهما السلام – بتمام العدل والأمانة والإتقان والخبرة وحُسن التصرّف والرفق والرحمة مع الانضباط والنظام والتخطيط والتطوير بما يحقق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿58﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الأمانة والعدل .. ثم الآيات ﴿19﴾ حتي ﴿22﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل عن حُسن ترتيب الأولويات .. ثم الآية ﴿39﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن التّثَبُّت في الأمور كلها أي التحرّك في الحياة بناء علي معلومات وأدِلّة موثوقة﴾ ، فالحكم العادل الرحيم المُتْقَن الخبير الذي يُدار بالخبراء الأقوياء المُتخصّصين الأمناء يَنشر الخير والسعادة في الكوْن كله ولكل المخلوقات ويَسْتَجْلِب عوْن الله تعالي مالك الملك القوي المتين وتوفيقه وسداده وحبه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره ويَستجلب جنوده تعالي والتي لا يعلمها إلا هو حيث يُسَخِّرها ويُيَسِّرها لهم فيسعد الجميع تمام السعادة في الداريْن .. وستَسعد كذلك كثيرا إذا كنتَ – مثلهما عليهما السلام – عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ – مثلهما عليهما السلام – مُخلصا مُحسنا لله تعالي في كل أقوالك وأفعالك (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ – مثلهما عليهما السلام – دائم الشكر لربك ليزيدك من خيراته وكل أرزاقه (برجاء مراجعة الآية ﴿2﴾ من سورة الفاتحة ، للشرح والتفصيل عن الشكر﴾ .. وإذا كنتَ – مثلهما عليهما السلام – متمسّكا بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا .. " أي أعطيناه من فضلنا وكرمنا كلّ أنواع الفضل أي العطاء والإحسان ، كما أعطينا كلّ الرسل ، فلماذا تَستكثرون أيها المُكذبون برسولنا الكريم محمد ﷺ عليه أن أعطيناه القرآن العظيم والمَكَانَة والسيادة والمُلك والخلافة في الأرض والعلم والرزق والقوة والنصر والعوْن ؟! بل نحن كذلك نُعطي مِثل هذا لكلّ مَن تَشَبَّه بهم من المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم .. " .. يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴿10﴾ " أي ومن أمثلة هذا الفضل الكبير الذي نُعطيه للصالحين ، تسخير كل ما في الكوْن وتَنَاسُقه وتَجَاوُبه معهم لنفعهم ولسعادتهم ، فالجبال علي سبيل المثال لا الحصر تُأَوِّبُ أي تُرَدِّدُ وتُرَجِّعُ صَدَيَ صوت مَن يتكلم ، وهو دليلٌ منها علي تَجَاوُبها مع مَن يريد الانتفاع بما فيها مِن خيراتٍ كالمعادن النفيسة وخامات الصناعة وغيرها ، والطيور كذلك مُسَخَّرَة لكي تُغَرِّد وتُسْعِد وتَنفع مَن أراد الانتفاع بها ، وحتي الحديد الشديد الصلابة نجعله لَيِّنَاً سهلا لهم في أيديهم بقوّتهم وبعقولهم لينتفعوا بمنافعه ، وهكذا الكوْن كله مُتَجَانِس مُتَوَافِق مُتَنَاغِم مُتَجَاوِب مُيَسَّر مع الإنسان المسلم إذا كان دوْما مع خالقه سبحانه ومع دينه الإسلام فيحيا بذلك في تمام الأمن والسَّلاسَة والخير والسعادة في دنياه قبل أخراه
ومعني " أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿11﴾ " أي أَلَنَّا له الحديد لكي يَعمل سَابِغات أي دروع تامَّات كاملات واسعات بحيث تحمي معظم الجسم عند قتال المعتدين ، جمع دِرْع وهو اللباس المعدنيّ الواقِي الذي يُوضَع علي الصدر والظهر للحماية أثناء القتال ، وهذا توجيهٌ للمسلمين لصناعة كلّ ما يُمكن صناعته من معدّاتٍ لحماية المقاتلين المدافعين عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وعوْنهم علي النصر ، " .. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ .. " أي أثناء السَّرْد للدروع ، أي عند نَسْجِها وتركيبها وصناعتها وتنسيقها وتجهيزها ، أَحْسِن تقدير الأمر بحيث يكون الدِّرْع مُتَنَاسِقاً ليس بالثقيل الذي يُثْقِل المُقاتِل ويُقَلّل حركته وليس بالخفيف الضعيف الذي لا يَحْمِيه وبحيث تكون حلقاته ومساميره مُتَنَاسِبَة مُحْكَمَة ليَخرج علي أحسن وأكْمَل وأقويَ وأتْقَن صورةٍ مُمْكِنَة .. " .. وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿11﴾ " أي اجعلوا دائما أيها المسلمون أعمالكم صالحة نافعة مُسْعِدَة بعيدة عن أيّ فسادٍ ضارٍّ مُتْعِسٍ بأن تستخدموا كلّ نِعَم الله عليكم وأفضاله التي لا تُحْصَيَ في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، وتذكّروا دوْما أنه سبحانه بصيرٌ علي الدوام بكلّ أقوالكم وأعمالكم أي يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم ، فأحْسِنوها دائما لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .. " أي وكما أنعمنا بأفضال كثيرة علي داود فكذلك تفضّلنا علي ابنه سليمان بأنْ سَخَّرنا له الرياح تَتَوَجَّه بأمره حيثما يريد لسَقْي الأراضي من أمطارها ولتحريك السفن وما شابه هذا من خيرات ومنافع وسعادات لعموم الناس ، وهي تُحقّق ما يريده بسرعة كبيرة ، حيث غُدُوُّها أي ذهابها لمهامّها في أول النهار ورواحها أي عودتها في آخره بعد إتمامها تَستغرق يوما واحدا وهو يعادل ما يقطعه الناس في شهريْن ، شهر للذهاب وآخر للعودة .. " .. وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ .. " أيْ ومِن نِعَمِنا عليه أيضا أن أذَبْنا له عيون النحاس فكأنها مثل عيون الماء ليُمكنه والآخرين تصنيعه وتشكيله والانتفاع به في الصناعات المدنية والعسكرية وغيرها .. " .. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ .. " أي بأمر الله وتيسيره وتسخيره ، جُمع لسليمان جنودٌ كثيرون مُتَنَوِّعون يَعملون تحت أوامره لا يُخالفونها أبدا بحيث يُحَقّقون مصالح الناس ومنافعهم وسعاداتهم ومنهم جند من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ويُسَمّون الجنّ ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين .. " .. وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مَنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿12﴾ .. " أيْ لا يستطيع أيّ أحدٍ من جنوده الانحراف والزَّوَغَان بأيِّ درجةٍ عن طاعة أمره وعصيانه ، لأنه هو أمرنا ، لأنه يُدْرك تماما مَدَيَ العقوبة المُؤْلِمَة المُلْتَهِبَة المُحْرِقَة المُعَدَّة التي سيذوقها في دنياه ثم أخراه مِنَّا نحن الذين خَلَقْناه وسَخَّرْناه لهذه المَهَامّ وكلّفناه بها
ومعني " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿13﴾ " أي الجنود التي جَنَّدَها سبحانه لسليمان عليه السلام تعمل له كل ما يشاء ممَّا يَنفع الناس ويُسعدهم ، ومن أمثلة ما يعملونه له المَحاريب وهي القصور والمباني الفخمة والمساجد وسُمِّيَت كذلك لأنها يُحَارَب عنها ويُدَافَع ، والتماثيل التي تُزَيَّن بها المساكن والحدائق وغيرها ، والجفان جمع جَفْنَة وهي الإناء الذي يُوضَع فيه الطعام وغيره وهي كالجواب جمع جَابِيَة أي كالأحواض الكبيرة التي يُجْبَيَ أي يُحْضَر إليها ويُجْمَع ويُخَزَّن فيها الأشياء كالمياه والتجارات والحبوب وما شابه هذا ، والقدور جمع قِدْر وهو الوعاء الذي يُطْبَخ فيه وهي راسيات أي ثابتات لضخامتها ممّا يدل علي كرم الضيافة ، وغير ذلك الكثير النافع المُسْعِد ممّا يعملونه له لمنفعته وغيره وإسعادهم .. " .. اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا .. " أي في مُقابِل كلّ هذه النِعَم ، اعملوا دائما أيها المسلمون بالصالحات ، بكلّ أخلاق الإسلام ، فهذا هو شكركم لله تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ، واجعلوا دوْما شكركم عمليا لا قوليا فقط أي كونوا شاكرين بأن تستخدموا هذه النِعَم في كلّ خيرٍ دون أيّ شرٍّ إضافة إلي شكركم بألسنتكم بحمده وبعقولكم باستشعار قيمتها ، وذلك حتي تجدوها دائما باقية بل وفي تَنَوُّعٍ وازديادٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق الذي لا يُخلف مُطلقا : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ.. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. " .. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿13﴾ " أي لكنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب ، بأعمالهم وعقولهم وألسنتهم ، والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال .. وفي هذا تنبيه للمسلمين المتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه ، بما استطاعوا ، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز ، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه .. ثم الآية تَحمل أيضا ضِمْنِيَّاً معني التخفيف والرحمة ، أي هو من رحمته تعالي وكرمه يعلم عن خَلْقه أنهم مهما شكروه فلن يعطوه حقّه ولو علي نعمة واحدة من نِعَمه العظيمة !! فعليهم إذن الاجتهاد ما أمكن ثم هو سبحانه يعفو عن تقصيرهم ويَقبل منهم قليلهم من كرمه وعفوه ووُدّه ويُعطيهم عليه الكثير بما يُناسب فضله وعظمته
أما معني " فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿14﴾ " أي لمَّا حَكَمْنا علي سليمان عليه السلام بالموت وجاء أجله لم تَسْتَدِلّ الجنّ التي كانت تخدمه علي موته إلا بعد فترةٍ حينما سَلَّطَ الله دوابَّ الأَرَضَة – أي الحشرات التي تُشبه النمل والتي تَقْرِض وتَقْضِم الأخشاب والتي تعيش في الأرض وغيرها ويُسَمَّيَ بعضها " العِتَّة " – فأكلت مِنْسَأته أي عصاه التي كان يرتكز عليها فحينها سقط علي الأرض .. " .. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿14﴾ " أي فلمَّا وَقَعَ تَبَيَّنَت أي اتَّضَحَت وانكَشَفَت وظهَرَت علي حقيقتها أمور الجنّ ، أي ظهر للناس أنَّ الجنَّ – وهي كلّ مخلوق لا يُرَيَ بالعين لأنها غير مُؤَهَّلَة لرؤيته – ليست كما يَدَّعِي البعض كذبا وزورا أو جهلا أنها قادرة علي كل شيء وتعلمه وتعلم الغيب أي ما غاب عن إدراكات البَشَر وحَوَاسّهم سواء أكان من الحاضر أم المستقبل !! فلو كانت كذلك لَكَانت عَلِمَت بما هو ظاهر واضح أمامها وهو موت سليمان عليه السلام ! ولكانت أنقذت ذاتها من العمل الشاقّ المُذِلّ الذي كانت تعمله ولم تَلْبَث أي تَمْكُث فيه ولو للحظة بمجرّد معرفتها بموته ! ولفظ " المُهِين " يُناسِب إهانة الجنّ حيث هي ليست عظيمة الشأن كما يَتَوَهَّم أو يَدَّعِي البعض !
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿15﴾ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴿16﴾ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿17﴾ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴿18﴾ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿19﴾ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿20﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما مِن الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان ، وإذا اتَّخذته دائما عدوا ، وإذا لم تَتَّبِع خطواته ، أي قاوَمتها ، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ .. " أي كان لقبيلة سبأ بأرض اليمن في مساكنهم التي يعيشون فيها آيَةٌ أي علامة ظاهرة واضحة تدلّ على قدرة الله تعالى وجمال صُنْعه وفضله على خَلْقه وعلى وجوب شكره على كلّ نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وعبادته هو وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهذه الآية هي " .. جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ .. " أي كانت لهم مجموعتان من البساتين ، مجموعة من ناحية يمين بلدهم وأخرى عن شماله ، وهي محيطة بهم ومليئة بكلّ لذيذٍ وطيِّب ونافع ومُسْعِدٍ من النباتات والثمرات وكلّ الاحتياجات من الطعام والشراب .. " .. كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ .. " أيْ وذَكَّرْناهم ووَصَّيْناهم مِن خلال رسلنا إليهم والمسلمين معهم مِن بعدهم أنْ كلوا من الأرزاق الكريمة والثمار الطيّبة التي أنعم بها ربكم عليكم واشكروا له سبحانه هذا العطاء العظيم ، فإنكم إذا شكرتموه زادكم من فضله وإحسانه .. " .. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿15﴾ " أي مِمَّا يُوجِب الشكر عليكم ، أنَّ هذه البلدة التي تسكنونها بلدة طيِّبة حَسَنَة لأن بها كل ما تحتاجونه من خيرات ، وأنَّ ربكم الذي أعطاكم هذه النِعَم هو ربّ واسع المغفرة والرحمة لمَن تاب إليه ورَجَع إذ يَعفو عن ذنوب المذنبين بفضله وإحسانه ، وكلّ هذا وغيره يَستحقّ الشكر الكثير حيث تمام السعادة في الدنيا والآخرة من خالقكم الكريم ، فما الذي يَمنعكم إذن مِن شكره وعبادته وحده وكلّ الأمور حولكم لابُدَّ أنْ تُؤدِّي بأيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ إلي ذلك ؟!! .. إن السبب هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أما معني " فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴿16﴾ " أي فبَدَلاً أن يشكروا ربهم ويتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ابتعدوا عنهما بصورة فيها عِناد واستكبار وتكذيب مع إصرارٍ مُستمِرٍّ علي ذلك ، فكان العقاب في المُقابِل أنْ بَعَثَ الله تعالي عليهم السيْلَ العَرِم أي ذا الماء الغزير المُهْلِك الذي دَمَّرَ بساتينهم فاستُبْدِلَت بسبب ذلك ببساتين ذوات إنتاج ضعيفٍ سَيِّءٍ حيث لم تَعُد أرضها تُنتج إلا نباتات ذوات أكُلٍ خَمْطٍ أي ثمرٍ مُرٍّ لا يُمكن أكله ، وأَثْلٍ أيْ ذوات شوك كثير وثمار هزيل ، وبعضٍ قليلٍ من شجر السِّدْر أي النّبْق وحتي إنتاجه كان قليلا ، فذاقوا مرارة وألم وتعاسة الجوع والعطش بعدما كانوا فيه من خيرات وفيرة مُسْعِدَة ، واضطُرُّوا بعدها لترك أوطانهم وتشتّتوا في البلاد لاجئين بحثا عن أساسيات الحياة من طعام وشراب ومأوي ومَلْبَس وغيره .. وهذه هي دائما النتيجة الحَتْمِيَّة لعدم شكر النِعَم والبُعْد عن الله والإسلام .. فاحذروا من ذلك تمام الحَذَر أيها المسلمون حتي لا تُزال نعمكم وتتَحَوَّل السعادات إلي تعاسات
ومعني " ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿17﴾ " أي ذلك الذي فعلناه بهم هو جزاءٌ أيْ عقابٌ عادلٌ بسبب كفرهم أي تكذيبهم بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه ، وتَعَالِيهم علي إسلامه واستهزائهم وعدم تمسّكهم به وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار .. " .. وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿17﴾ " أي وهل يُعَاقَب أحدٌ بمثل هذا العقاب الشديد إلا إذا كان شديدَ الكفر مُصِرَّاً عليه مُتَمَادِيَاً فيه هكذا ؟! أي هو سبحانه لا يُعاقِب بشِدَّة هكذا إلا لمَن كان هكذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾
أما معني " وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴿18﴾ " أي ومِن النِعَم التي كانوا فيها أيضاً َوُأزيلَت عنهم بسبب كفرهم ، نعمة الأمان ، حيث جعل الله بين القرية التي كانوا يسكنونها وبين القري الأخري المُبَارَكَة التي يريدون السفر إليها للانتفاع والتجارة كمَكَّة وبلاد بيت المقدس وغيرها ، جعل قريً واضحة متواصلة مُتَقَارِبَة يَرَيَ بعضها بعضا ، والسَّيْر بينها يكون بمسافات مُقَدَّرَة مُحَدَّدَة بحيث يمكنهم حساب المسافة والزمن والجهد ووقت الراحة والتَّزَوُّد بالاحتياجات ونحو هذا ممّا يحتاجه المسافر ، وبحيث لو ساروا ليلا أو نهارا ولمسافات طويلة وأيام كثيرة فإنهم لا يستشعرون أيّ خوف في أيّ وقت ولا علي أيّ حال ولا يحتاجون لحمل زادٍ كثير لأنّ كلّ ما يحتاجونه مُتَاح في هذه القري وفي الطُرُق فيها وبينها
ومعني " فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿19﴾ " أي بسبب تعطيلهم لعقولهم وسوء استخدامها والذي أدَّيَ بهم إلي أنْ كفروا وأساءوا تقدير الأمور ولم يَحفظوا النِعَم التي كانت عندهم ولم يُحسنوا التعامُل معها – وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعوها علي هذه العقول وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره – وَصَلَ بهم الأمر إلي أنْ مَلّوُا مِن هذه النِعَم وتَمَنّوا لو ابتعدت القري التي يريدون السفر إليها وأصبحت المسافات بينها ليست عامِرَة بقُرَيً أخري بل صحاري يصيبهم فيها الجوع والعطش والتعَب وفقدان الأمان !! إنهم يَتَشَبَّهون في هذا بالذين طَلَبوا مِن بني إسرائيل مِن سيدنا موسي استبدال الخير الذي كان عندهم مِن المَنِّ وهو نوع من العسل والسلوي وهو نوع من الطيور بما هو دنيء كالبصل والثوم ونحوه ليكون هو طعامهم الذي يستمرّون عليه !! لقد تَمَنّوا ذلك وقالوه استبعادً لحدوثه واستهزاءً بكونه مِن المُمكن أن يَحدث وكأنهم مِن شِدَّة تكذيبهم لوجود الله يقولون أنَّ هذا الإله الذي يُدْعَيَ الله لن يستطيع فِعْل ذلك وهو عاجز عنه وها نحن نفعل الشرور ولا يَحدث لنا شيء !! وهذا يُشْبه قول الذين قالوا " وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " ﴿الأنفال : 32﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ .. " .. وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ .. " أي وبسبب تصرّفهم السَّيِّء هذا وغيره مِن كلّ سوء ، كانوا ظالمين لأنفسهم ، حيث أتعسوها ومَن حولها ، بصورةٍ ما مِن صور الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. " .. فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ .. " أي فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لظلمهم هذا أنْ جعلهم الله تعالي أحاديث أي أهلكهم بحيث أصبحوا مُجَرَّد ذكري يتحدث الناس عن حوادثها وعِظاتها ، وقد قطّعهم سبحانه أشدّ تقطيع حيث تفرّقوا وتَشَتَّتوا لاجئين في بلادٍ شَتَّيَ باحثين عن مأوي يَسترهم ولقمة تسدّ جوعهم وشربة تمنع عطشهم وسترة يلبسونها ، بعد أن كانوا أمة واحدة قوية غنية آمِنَة هانِئَة .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿19﴾ " أي إنَّ في ذلك الذي فعلناه بهم لأدِلّة واضحة ودروس وعِظات لمَن أراد الاتّعاظ ، فلا يَفعل مثلهم فيَتعس كتعاساتهم تمام التعاسة في الداريْن .. لكن لا ينتفع بهذه الآيات فلا يَتَشَبَّهَ بهم أبدا في أيّ تصرّفٍ بل يحرص تماما علي التمسّك بكل أخلاق إسلامه ليَسعد بها تمام السعادة فيهما إلا الصَّبَّار أي الكثير الصبر أيْ كلّ مَن كان من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كلّ شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإلا الشكور أي الكثير الشكر أيْ كلّ مَن كان مِن الشاكرين دائما لربهم علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
أما معني " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿20﴾ " أيْ ولقد حَقّقَ إبليس ما كان يريده منهم وهو كفرهم بربهم وبُعْدهم عن إسلامهم وانغماسهم في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وما كان يريده كان مجرّد ظنّ مِن الظنون وليس مؤكَّدا لأنه لا أحد يعلم الغيب ، ولكنه تَحَقّقَ بالفِعْل وأصبح واقعيا علي أرض الواقع .. لكنَّ فريقا من المؤمنين ، أي كلهم كفريقٍ من بين بقية الناس الآخرين الذين كفروا ، لم يكفروا بربهم وتمسّكوا بإسلامهم ، وإن كان قد وَقَعَ بعضهم في بعض الشرور ولكنهم يجتهدون في التوبة منها والعودة سريعا لربهم ولإسلامهم .. والمقصود من هذه الآية الكريمة أن خَيِّبُوا آمال إبليس فيكم أيها المسلمون – ويا أيها الناس جميعا – فلا تَتَّبِعوه أبدا في أيّ شرّ ، فإنكم إن اتبعتموه فقد صَدَّقَ عليكم ظنه أي حَقَّقَ ما كان يريده منكم ويظنه أنه لا يُمكن أن يَحْدُث بأن تَتَّبعوه ، فهل تريدون أن تجعلوه صادقا فيما كان يَتَوَقّعه منكم وليس متأكِّدا منه أنكم ستَخِيِبُون وتَقَعُون فيما يَدفعكم إليه من شرور ؟! هل تريدون مساعدته علي تأكيد ظنونه وأن يجد ظنه فيكم في مَحَلّه وينتصر عليكم وعلي عقولكم الواعية المُتَّزِنَة التي أعطاكم الله إياها بما فيها من تفكيرٍ خيْرِيٍّ يؤدّي بكم حتما إلي كلّ الخير والسعادة في الداريْن إذا أحسنتم استخدامها ؟! هل هذا هو الذي يُتَوَقّع ويُنْتَظَر منكم أيها البَشَر المُكَرَّمون بالعقل الواعِي علي بقية المخلوقات ؟! إنكم إن فعلتم هذا فقد خِبتم إذن وأصبحتم حُقَرَاء أذِلّة مُنهزمين أمام الشرّ وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم ! .. ولكن عليكم أن تَتَّخِذوه دائما عدوا لكم ، بأن تحذروه تمام الحَذَر حَذَرَاً شديداً ، وبألاّ تَتّبعوا خطواته بأن تقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتْعِسٍ يَخطر بتفكير عقولكم بل تتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة .. والشيطان – ويُسمي أيضا إبليس وهو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا – هو في لغة العرب كلّ مُتَمَرِّد علي كلّ خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا ؟ وعن لماذا سَمَحَ الله بوجود الشرّ في الحياة أصلا ؟! .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف أيضا ، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام﴾
ومعني " وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿21﴾ " أي لم يكن لإبْليس عليهم هؤلاء الذين اتَّبَعُوا الشرور والمَفاسد والأضرار أيّ سلطان ، أيْ نفوذ أو قوة أو إجبار أو حجَّة علي ما يدعوهم إليه مِن شرّ ، ولكنهم اتَّبَعوه بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم ، من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان ، والحِكمة في سبب الخِلْقَة ، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين ! والحِكمة في خَلْق الشيطان والسماح بوجود الشرّ في الحياة ، وذلك في الآيات ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ " ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ .. " أي لم نَسْمَح بوجود الشرّ والتفكير الشرِّيّ في الحياة إلا لكي نجعله اختبارا لكم ، لكي يُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – المؤمنين أي المُصَدِّقين بوجود الله وبرسله وبكتبه وآخرها القرآن الكريم وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره الصادقين أي أهل الحقّ والخير ، مِن غيرهم الذين يَتَشَكّكون في كل هذا أو لا يُصَدِّقون به الكاذبين أي أهل الباطل والشرّ ، فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم .. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته ، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته ، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله وإلا تَعِس في الداريْن .. ثم في الآخرة بعد ذلك ، بعد هذه الاختبارات الكاشِفَة في الدنيا ، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال المؤمنون الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع ! .. " .. وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿21﴾ " أي هو سبحانه كثير الحِفْظ ، أي لا يَخرج أيّ شيءٍ عن حِفْظه وسلطته وعلمه وقدرته ، فهو مُرَاقب لكلّ شيءٍ عالم به قادر عليه ، فهو تعالي يحفظ كلّ خَلْقه وكل كوْنه وكل خيراته فيه ، ويحفظ للبَشَر كل أرزاقهم ، وكل أقوالهم وأفعالهم بكلّ تمامٍ دون أيّ نقصانٍ أو ضياع ويحفظ لهم جزاءها كاملا بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ .. " أي قل يا محمد ﷺ ، ويا كل المسلمين مِن بعده ، قولوا لهؤلاء الذين يُشركون في العبادة مع الله آلهة أخري كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها ، أن يَطلبوا علي سبيل الدعاء من هذه الآلهة التي يَدَّعون كذبا وزورا أنها شريكة لله في ملكه وتَستحقّ عبادتها أن تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنعهم من أيّ ضَرَر ، وهم لن يدْعوها بكل تأكيد لأنهم يعلمون تماما أنها لن تفعل لهم شيئا ! فهي مخلوقة مثلهم بل أضعف منهم ! وكيف يكون العابد أقوي من المعبود هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا القول لهم لوْم شديد وتأنيب وتحقير وتعجيز لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " .. لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ .. " أي بكل تأكيد لن تنفعهم أو تضرّهم بأيّ شيءٍ لأنها بكل بساطة ووضوح وعُمق لا تملك أيّ شيء مهما كان حقيرا صغيرا ولا حتي وزن ذرّة في السماوات أو في الأرض !! لأنّ المالك وحده هو الله تعالي خالق الخَلْق كله .. " .. وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ .. " أي وليس لهذه الآلهة بالقطع في السماوات والأرض أيّ شيءٍ ولو حتي علي سبيل المشاركة !! .. " .. وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ " أي وليس له سبحانه بالقطع من هذه الآلهة المَزْعُومة أيّ مُعِين قد اتَّخَذه لكي يُعِينه علي إدارة شئون الكوْن كوزيرٍ أو مستشارٍ أو نائبٍ أو غيره بحيث تُفَكّر هذه الآلهة في اللجوء إليه حتي يَتَوَسَّط لها عنده تعالي فيُعينها بشيءٍ ما !! إنه وحده سبحانه قطعا هو المُدَبِّر لكلّ شئون كوْنه وخَلْقه بلا أيّ شريك
أما معني " وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾ " أي عند الله تعالي يوم القيامة لا يَنتفع أيّ أحدٍ بشفاعةِ – أيْ وَسَاطَةِ – أيّ أحدٍ لكي يَعفو الله عنه إلاّ إذا سَمَحَ الله لأحدٍ أنْ يَتَوَسَّط لآخر ، كأنْ يَسْمَحَ للأنبياء والشهداء والصالحين أن يشفعوا لغيرهم تكريما لهم ولأنَّه يعلم أنَّ الذي سيَشفعون له يَستحقّ الشفاعة حيث كان مسلما لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا ، أمّا الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة من المُكذبين فلن تَنفعهم بالقطع أيُّ شفاعةٍ عنده تعالي ولن يكون لهم أيّ أملٍ في أيّ شيءٍ منها لأنهم كانوا لا يُصَدِّقُون بوجود الله والآخرة أصلا ! .. " .. حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ .. " أي حينما يَزول عنهم الفَزَع – وهذا في اللغة العربية مثلما تقول مُرِّضَ المريض أي قاموا بتمريضه وعلاجه ليَزولَ عنه مَرَضُه – أيْ حينما يَزول الخوف عن المَشْفُوع لهم ويَستبشرون حين يعلمون بأنَّ الله سيَأذن ببَدْء الشفاعة ، لأنهم يكونون وقتها في حالة خوفٍ وقلقٍ ولهفةٍ فترة انتظار الإذن من الله تعالي بالشفاعة ، حينها يبدأ الإطمئنان يَدخل إلي عقولهم ومشاعرهم بداخلها ويتساءلون فيما بينهم ماذا قال ربنا في شأننا ومصيرنا وهل أذِنَ ببَدْء الشفاعة بالفِعَل ووَافَقَ علي أنْ يَشفع لنا الشافعون ، فيُطَمْئِنُ بعضهم بعضا أو تُطَمْئِنُهم الملائكة أنه تعالي الغفور الرحيم يقول دائما وحتما القول الحقّ ويقف بجانبه أي يقول القول العدل الصدق الحكيم الرحيم التامّ فكل قوله حقّ دوْما بالقطع ، وقد قاله بالفِعْل وأَذِنَ بالشفاعة لهم ، لأنه سبحانه " .. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾ " أي هو الأعلي والأعظم والأكبر من أيّ شيءٍ وهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلك والسلطان والنفوذ كله والشفاعة والإذن بها أو منعها وله صفات الكمال كلها .. فاعبدوه واشكروه وتوكلّوا عليه وحده إذن بلا أيّ شريكٍ لتَسعدوا في الداريْن ... هذا ، وبالنسبة للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين فإنَّ معني ُفزِّع عن قلوبهم أيْ زالَ عن عقولهم الأغشية التي كانوا يَضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة وبدأوا يَتَكَشَّفُون الحقائق ويتأكّدون أنَّ ما كان يقوله الله تعالي لهم في كتبه من خلال رسله الذين أرسلهم إليهم وكذبوهم واستهزؤا بهم واستكبروا عليهم كان كله حقا أي صدقا وعدلا فيندمون حينها أشدّ الندم في وقتٍ لا يَنفع فيه أيّ ندمٍ إذ الوقت الآن وقت الحساب لا العمل ، وهو سبحانه العليّ الكبير عليهم – وعلي الجميع قطعا – أي عليم بهم وقدير علي مُجَازاتهم علي كلّ شيءٍ قالوه وفعلوه بما يَستحِقّون من عذابٍ بكلّ علمٍ وقدْرةٍ وعدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿25﴾ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴿26﴾ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ ۖ كَلَّا ۚ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. " أي قل يا محمد ﷺ ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، لهؤلاء الذين يُكذبون بوجود الله أو يُشركون معه في العبادة شريكا كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها ومَن يُشبههم ، واسألوهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم مَن الذي يُسَبِّب لهم أسباب كل أنواع الأرزاق سواء أكانت هذه الأسباب من السماوات كالمطر والهواء والشمس والطاقة ونحو هذا ممّا يُعْلَم أو لا يُعْلَم أم كانت من الأرض مثل الأنهار والبحار والنباتات والثمار والحيوانات والطيور والأسماك والمعادن والخامات وغيرها ومثل العقل والصحة والقوة ونحوها ممّا يَنفعهم ويُسعدهم ؟!! .. " .. قُلِ اللَّهُ .. " أي رُدّ أنت يا محمد ﷺ ، ورُدُّوا أنتم يا كلّ المسلمين مِن بعده ، أنه قطعا هو الله سبحانه وحده وليس آلهتهم المزعومة ، لأنهم لن يَرُدُّوا ! لأنهم لن يجدوا رَدَّاً ! لأنهم يعلمون تماما أنه لن يَجرؤ أيّ أحدٍ أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي يملك أسباب الرزق هذه وأصوله في السماوات أو الأرض ، ولو أجابوا بأنه هو الله تعالي فقد أدانوا أنفسهم فلماذا لا يؤمنون به إذن ويعبدونه وحده بلا أيّ شريك ؟! .. " .. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ " أي ونحن وأنتم لسنا أبدا مُتَّفِقين على أمرٍ واحد ، بل على أمريْن مُتضادَّيْن ، فأحدنا علي الهدي أي علي طريق الخير والحقّ والسعادة في الدنيا والآخرة ، وهو نحن مِن وِجْهَةِ نَظَرِنَا ، والآخر في ضلالٍ مُبين أي واضح أي علي طريق الشرّ والكذب والضياع والتعاسة فيهما وهو أنتم ، فهذا تنبيهٌ لهم علي كذبهم ولكن بصورةٍ راقية أفضل من التصريح بأنهم كاذبون ، كمَن يقول للكاذب : أحدنا كاذب ، وهو يعلم تماما أنه هو الصادق فلابُدَّ إذن أنَّ الكاذب هو الذي أمامه ، وهذا نوعٌ رائع راقي حكيم لطيف مُؤَدَّب من أنواع الحوار والدعوة لله وللإسلام يُعَلّمه الإسلام للمسلمين حيث لا داعِيَ لأن يقول الداعي لمَن يحاوره ويدعوه أنك كاذب أو مُخطيء مباشرة لأنَّ هذا غالبا سيَقفل باب الحوار معه وقد يَدفعه لمزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار حتي لا يَظهر أنه قد انهزم ومن أجل الدفاع عن ذاته ، بينما ذِكْر أنَّ الطرفين كلٌّ منهما يُحْتَمَل أن يكون علي صوابٍ أو علي خطأ فهذا يَجعل احتمالية مراجعة المُخطيء لذاته عالية كما أنه سيكون من تمام العدل والإنصاف حيث سيُعطيه الفرصة كاملة للتفكّر والتدبُّر والمراجعة لعله يعود للصواب وللخير فيَسعد في الداريْن إنْ كان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني " قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿25﴾ " أي وهذا أيضا من الحديث الراقي المُهَذّب الحكيم – إضافة إلي ما كان في الآية السابقة – الذي علي الداعي إلي الله والإسلام أن يتعلّمه عند حواره مع مَن يدعوهم ، فقل أيها المسلم لهؤلاء المُكذبين أنكم لا تُسألون يوم القيامة عن إجرامنا في حقّ أنفسنا ، إنْ كنا قد أجرمنا وأخطأنا في حقها ، ونحن أيضا لا يَسألنا الله تعالى عن سبب بقائكم في تكذيبكم وفي شروركم ومَفاسدكم وأضراركم لأننا قد بَلّغناكم ونصحناكم ودعوناكم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة لترْك كلّ شرٍّ وفِعْل كل خير لتسعدوا مثلنا في الداريْن ، فلكلٍّ مِنّا ومنكم إذن عمله وحسابه وجزاؤه في الدنيا والآخرة ، ولن يتحمَّل أحدٌ عملَ أحدٍ آخر ، فليكن إذن المقصود منّا ومنكم البحث عن الحقائق واتّباع طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في دنيانا وأخرانا والاستعداد والتجهيز لهذا السؤال والحساب في الآخرة ، ودعوكم ممّا كنّا نعمل ولا يَكن مانعا لكم من التفكّر والتدبُّر في الحقّ واتّباعه لمصلحتكم ولسعادتكم وإلا فأنتم الخاسرون .. وهذا أيضا كما في الآية السابقة سيكون من تمام العدل والإنصاف والحرص الشديد علي استجابة المدعو حيث سيُعطيه الفرصة كاملة للتفكّر والتدبُّر والمراجعة لعله يعود للصواب وللخير فيَسعد في الداريْن إنْ كان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. هذا ، ويُلاحَظ أنه في الآية السابقة كان الحديث من الداعي فيه إظهار لنوع من المساواة بينه وبين مَن يدعوه أمّا في هذه الآية فيَزيد الأمر ويعتبر أنه قد ارتكب جُرْمَاً وأنَّ المَدْعُو لم يعمله فليكن هو الأفضل إذن ولْيَبْحَث عمّا هو أفضل وليَستمرّ عليه ، لمزيدٍ من محاولة جذبه ، ولأنَّ الداعي يَثق بنفسه وبإسلامه تماما أنه علي الحقّ وأنَّ الحديث والبحث في النهاية سينتهي لصالحه .. كذلك يُلاحَظ أنَّ مِن معاني الآية الكريمة معني الترْك ، أي أنْ يَترك الداعي المدعو أحيانا في بعض الأحوال لفترة ، فلكلٍّ منهما طريقه وحاله ولا علاقة له بالآخر ، لعلّ هذا البُعْد عنه وترْكه لفترات يُقَدِّرها الداعي بما يُحَقّق المصلحة يكون حافزا لإيقاظه وإفاقته من غفلته ونسيانه لربه ولإسلامه وإعادته إليهما (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
أما معني " قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴿26﴾ " أي قل يا محمد ﷺ ويا أيها المسلم لهؤلاء المُكذبين أن انتَبِهوا واحذَروا واستَعِدّوا أنَّ الله تعالي خالِقنا سيَجمعنا جميعا يوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لمَا عملنا ، ثم يحكم بيننا بالعدل ، حيث يُجازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكلّ شرٍّ وتعاسة ، وحينها ستعلمون واقعيا صدقنا وكذبكم .. " .. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴿26﴾ " أي فهو سبحانه الكثير الفَتْح أي الكثير الحُكْم ، الكثير العلم ، أي حُكْمه تعالي دائما عن تمام خبرةٍ وعلم ودِقّة وعدل فلا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ ولا يظلم ولو بمقدار أقلّ مِن ذرّة ، فهو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأعلم العالِمين
أما معني " قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ ۖ كَلَّا ۚ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿27﴾ " أي قل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم لهؤلاء المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخري كأصنامٍ أو أحجار أو غيرها ، أطْلِعُوني وعَرِّفُوني بهذه الآلهة التي أضفتموها لله كذبا وزورا كشريكٍ له في العبادة ، أروني إيّاها علي أرض الواقع حتي نَرَيَ سَوِيَّاً هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقدرة عليه والعلم به أم لا ؟! وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكل حجَجهم الواهية حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي – ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته حينما يُلام عمليا هكذا – لأنهم بالقطع لن يُطلعوه علي شيءٍ لأنهم يعلمون أنه يَرَيَ هذه الآلهة ويعلمها بالفِعْل وأنهم يُصابون بالخِزْي والعار حينما يُواجههم أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويسألهم هل هي آلهة حقيقة أم لا ، وذلك لأنهم يعلمون تماما أنها لا تقدر علي أيّ شيءٍ ولم تخلق شيئا بل هي مخلوقة مثلهم بل هي أضعف منهم ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فليُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. كَلَّا ۚ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿27﴾ " أي أبدا ليس الأمر كما يَدَّعُون كذباً وزُوراً ولكنّ المُسْتَحِقّ وحده وقطعا للعبادة هو الله سبحانه ، لأنَّ له كل صفات الكمال والتي منها أنه العزيز أي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، وهو في كلّ أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث .. وقد اختار تعالي هاتيْن الصِّفَتَيْن من صفاته لأنهما تُناسِبَان الرَّدّ عليهم .. هذا ، وفي كلّ الآيات السابقة – وغيرها من آيات القرآن الكريم – تعليم للمسلمين لكيفية دعوة مثل هؤلاء والرَّدّ علي أكاذيبهم وادِّعاءاتهم
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا .. " أي بعثناك بالإسلام لجميع الناس لتكون لهم مُبَشِّرَاً بكلّ خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة لمَن عمل بكلّ أخلاقه ، ومُحَذّرا بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما لمَن يَترك بعضه أو كله أو يُكذب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور ، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿28﴾ " أي ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدركون هذا ، ولا يَعقلونه ولا يتدبّرون فيه ، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم ، وذلك لأنّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا ، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه ، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ ، وبعضهم مسلم لكنه تاركٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويَتفهَّم ويَعلم ويَستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح ، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين ، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها ، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم ، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، ما لم يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿29﴾ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴿30﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗوَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴿31﴾ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ﴿32﴾ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وستَسعد أيضا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿29﴾ " أي دائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبقرآنه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء ، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة ! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة ، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا !! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿29﴾ " أي أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام ، بل أنتم كاذبون !! .. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم ، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذن كاذبون ! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك !! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴿30﴾ " أي قل لهم يا محمد ﷺ ، ويا كلّ مسلم ، أنَّ الله تعالي قد حَدَّدَ بحِكمته بكل دِقَّة دون أيّ عَبَثٍ موعدا مُحَدَّدا لكلّ حَدَثٍ ، مِن غير أنْ يَتَقَدَّمَ عنه أو يَتَأَخَّر ولو بلحظة ، بما يُحَقّق المصلحة لخَلْقه علي أكمل وأسعد وَجْهٍ ، ومنه تحديد موعد العذاب الدنيويّ لمَن يستحِقّه وعذابه في قبره بعد موته وموعد الحساب الختاميّ والعقاب في يوم القيامة ، وسيكون فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعداد ومقاومة له أو هروب منه .. هذا ، وعذاب الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم ، فقد يكون في صورة قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ، وبالجملة درجةٍ ما مِن الألم والكآبة والتعاسة ، وقد يَصِل الأمر أحيانا أن يكون العذاب بالإهلاك برياحٍ أو زلازل أو فيضانات أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. فلا تنخدعوا بتأخيره ! بل احذروه وتَجَنّبُوه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ .. ثم إنهم لم يَكْتَفُوا فقط بالاستهتار بعذاب الدنيا ، بل استهتروا وكذبوا أيضا بعذاب الآخرة واستبعدوا حدوثه ! فإنه بانتظارهم ومُجَهَّز لهم وسيُحيط بهم بشِدَّته وقسوته مِن كلّ جانبٍ فلا يَقْدرون علي الفرار منه ! وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد .. وفي الآية الكريمة تهديد شديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أما معني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴿31﴾ " أي والذين كفروا أي كذبوا بوجود الله وبالرسول ﷺ وبالبعث وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار ، يقولون بما يَدُلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه من تكذيبٍ وعِناد واستكبار واستهزاء أنهم لن – ولن في اللغة العربية تفيد النفي المُؤَبَّد أيْ لا أمل في أيّ تغيير – يؤمنوا بالقرآن الكريم ولا بالذي بين يديه أي بما فيه من أخلاقيّات ووصايا ومَوَاعِظ وتشريعات وبما سَبَقه مِن أيّ كتبٍ أخري وكانت قريبة منه في الوقت كالتوراة والإنجيل وغيرهما وحتي لو ُفرِضَ أن سيأتي كتابٌ بعد القرآن ويأتي أيُّ حقٍّ آخر فلن يَتَّبعوه !! وذلك كمحاولة منهم لقطع الطريق علي أيّ حوارٍ معهم حيث هم مُصِرُّون تمام الإصرار علي ضلالهم حتي موتهم !! .. " .. وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴿31﴾ " أي ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال الذي يكون فيه الظالمون مَحبوسين مَحجوزين علي غير إرادتهم عند ربهم تعالي والذي كانوا يُكذبون بوجوده مُنتظرين حسابه وعذابهم ، يُحاسَب كلٌّ علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره ، لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا ، ولم يذكر القرآن جواب الشرط لأداة الشرط " لو " ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْب وذِلّة ونَدمٍ ولوْم شديد فيما بينهم حيث يَرُدّ بعضهم علي بعض بالكلام الذي يحمل كل الندم والحسرة والكراهية والغيظ وكلّ فريقٍ يُلْقِي باللائمة والسبب لما هم فيه علي الآخر ، فيقول الذين كانوا مُسْتَضْعَفين في الدنيا ورضوا بالذلة حيث اختاروا بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم أن يَتَّبعوا أسيادهم فيما هو شرّ وفساد ولم يَتَّبعوا الإسلام بما فيه من خيرٍ وصلاح ، يقولون لأسيادهم وقادتهم ورؤسائهم وزعمائهم أنه لولاكم ولولا الإغراء لنا بأثمان الدنيا الرخيصة الدنيئة الزائلة كالمناصب والأموال وغيرها لَكُنَّا أحْسَنَّا استخدام عقولنا وكُنَّا اخترنا الإسلام لا الكفر وما كان هذا حالنا التعيس الآن في الآخرة بعد تعاستنا في الدنيا .. ومقصودهم من ذلك أن يكون العذاب عليهم لا علي الذين اسْتُضْعِفوا ، لكنَّ العذاب بالقطع سيكون علي الجميع ، علي كلٍّ بقَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي فعلها ، بكلِّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ﴿32﴾ " أيْ يَرُدّ الأسْيَادُ والقادة ، علي الضعفاء الذين اتّبعوهم ، بكلّ نَفْي ٍ وضيقٍ ولوْمٍ وتأنيبٍ واسْتِغْرابٍ وتَبَرُّؤٍ منهم ، أنهم ما منعوهم عن اتّباع الإسلام بعد مَجيئه إليهم ومعرفتهم به عن طريق الرسل والمسلمين معهم ومِن بعدهم ، ولكنهم هم الذين عَطّلوا عقولهم واختاروا بكامل حرية إرادة هذه العقول أن يَتّبعوا الشرّ والفساد ويفعلوا كل أنواع الجرائم من كفرٍ بالله أي تكذيبٍ بوجوده أو شِرْكٍ به أيْ عبادةٍ لغيره من صنمٍ ونجم ونحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو ظلمٍ واعتداءٍ علي الآخرين أو فِعْلٍ للشرّ وللفساد ونشرٍ له أو ما شابه هذا ، من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والمقصود أنَّ الجميع مجرمون ومستحِقّون للعذاب ، كلاّ علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره ، وليس الكبراء فقط
ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿33﴾ " أي رَدَّ الضعفاء مرة أخري علي أسيادهم الذين اتّبعوهم لعدم اقتناعهم بكلامهم السابق وقالوا لهم أنَّ سبب إجرامهم هو خِداعهم لهم طوال الوقت في أيّ ساعةٍ من الليل أو النهار حيث كانوا دائما يدعونهم بإلحاحٍ للكفر بالله تعالي أي عدم التصديق بوجوده ولأن يجعلوا له أندادا أي أمثالا وشركاء يُساوونهم به سبحانه ويَعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو غيرها ، إضافة إلي إفسادهم ونشر الشرِّ بينهم وتيسيره لهم وعوْنهم عليه .. " .. وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا .. " أي كَتَمُوا الحَسْرَة وظَهَرَت علامات ذلك نَدَمَاً وألما علي وجوههم جميعا ، سواء أكانوا سادة مَتْبُوعِين أم عبيدا تابعين ، لمَّا رأوا ما تمَّ إعداده لهم من عذابٍ أليم مُوجِع بما يُناسب شرور كلٍّ منهم ومَفاسده وأضراره وجرائمه ، ولمَّا بدأ الاستعداد لدخول العذاب بوضع الأغلال أي القيود في رقابهم وربط أيديهم فيها لمنعهم من أيِّ حركة ولإذلالهم وإهانتهم .. " .. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿33﴾ " أي هل جُزُوا بغير ما كانوا يعملون ؟! أي لم يُجازوا أي يُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملوه ، ولكن بمِثْله ، أي لم يُظلَموا ولو بمقدار ذرّة وإنما عُومِلُوا بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالهم السَّيِّئَة
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿34﴾ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿35﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴿37﴾ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿38﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿39﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن من المُتْرَفِين وهم الأغنياء الذين يستخدمون الغِنَيَ والنِعَم في التّعَالِي والظلم والفساد ، ولكن كن دائما من الأغنياء الشاكرين لربهم علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، فستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الحقّ : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُنْفِقَاً لا مُمْسِكَاً ، بتَوَسُّطٍ واعتدال ، علي ذاتك ومَن حولك وعموم الناس بل وعموم الخَلْق ، مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقك به عليك من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيع استصحابه من نوايا خيرٍ في عقلك بما يُسعد كل لحظات حياتك أنت ومَن حولك وبما يجعل لك أعظم الأجر في آخرتك
هذا ، ومعني " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿34﴾ " أي من عادة المُتْرَفِين دائما في كل زمان ومكان ، وهم الأغنياء الذين يستخدمون الغِنَيَ والنِعَم في الفساد والتّعَالِي علي الآخرين وظلمهم ، أن يُعارِضوا ويُعادوا ويُكذبوا أيَّ مُنْذِرٍ لهم يُنذرهم بسَلْب هذه النِعَم وبعذاب الله الدنيويّ والأخرويّ إذا كفروا بوجوده سبحانه ولم يتمسّكوا بأخلاق الإسلام ، وذلك التكذيب والعَداء لأنهم يَرَوْنَ في هذه الأخلاق مَنْعَاً وإنهاءً لمصالحهم ولسيطرتهم ونفوذهم واستعبادهم للضعفاء حولهم ونهب جهودهم وخيراتهم وثرواتهم .. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة للمسلمين الذين يَدْعون غيرهم لله وللإسلام أن يَتَشَبَّهوا بالرسل الكرام ويصبروا علي أذي المَدْعوين وأن يستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم والدعوة إليه ليسعد الجميع مثل سعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿35﴾ " أي وإضافة إلي كفرهم يقولون للمسلمين مُتَعَالِين مُفْتَخِرين مُتَبَجِّحِين أنهم أكثر منهم في الأموال والأولاد والأعْوَان ، وهذا أكبر دليلٍ علي أننا الأفضل عند الإله الذي تُسَمُّونه الله أيّها المسلمون !! فقد أعطانا ولم يُعطكم !! ويَتجاهَلون أنّ الأمر مُرتبط بالقانون الإلهيّ العادل لجميع البَشَر وهو قانون الأسباب والنتائج ، فمَن يُحْسِن اتّخاذ الأسباب يَصِل غالبا لمَا يريد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يُحسنها لا يَصِل حتي ولو كان مؤمنا ! ثم كثير من الكافرين فقراء وكثير من المسلمين أغنياء بفضل الله وتوكّلهم عليه وتيسيره الأسباب لهم أكثر من الكافرين كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا ! إنهم يَقصدون بهذا خَلْط الأمور عند المسلمين وتشكيكهم في ربهم ودينهم وإثبات أنهم مخطئون وأنَّ الكافرين هم المُصيبون !! (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة التوبة " فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿35﴾ " أي ويقولون أيضا ليس هناك بَعْث للبَشَر ولا آخرة ولا حساب وعقاب وعذاب وجنة ونار ، ولو كان هذا سيَحدث كما تَدَّعُون أيها المسلمون فلا يُمكن أن نُعَذّب لكرامتنا علي ربكم إذ لولا مكانتنا عنده وحبه لنا ما أعطانا ما هو عندنا حاليا فنحن مُسْتَحِقّون له بل وسيَبقي معنا وأكثر منه بعد موتنا في الآخرة التي تَدَّعُونها !! وهذا مِن شدّة جهلهم واستهزائهم وتعطيلهم لعقولهم ، وما عطّلوها إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وهذا هو معني " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ " أي قل لهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم أنَّ أمر الأرزاق ليس مُرتبطا بالإيمان أو الكفر وبالحب والكُرْه من الله لأحد ، فهو تعالي حتما لا يُحَابِي أحدا أي يَنْحاز إليه تاركا الحقّ ، وتَكَفّل ووَعَدَ برزق جميع خَلْقه ، وإنما الأمر مُتَعَلّق بحُسن اتّخاذ الأسباب في الدنيا ، فمَن شاء إحسان اتخاذها واتَّخَذَها بالفِعْل شاء الله له ذلك ويَسَّرَها له سواء أكان مسلما أم لا ، ويكون تيسيره وعوْنه للمسلمين المتمسّكين بأخلاق إسلامهم بالقطع أكثر وأقوي وأفضل ، أما في الآخرة فيكون أمر الحساب والعطاء متعلقا بالتمسّك بالإسلام من عدمه وليس بالغني أو الفقر وكثرة الأولاد أو قِلّتهم .. إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، يبسطه لمَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل) .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ " أي كثير من الناس لا يُدركون هذا ، ولا يَعقلونه ولا يَتدبّرون فيه ، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْمٍ أو فهم ، وذلك لأنَّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا ، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه ، وبعضهم ينافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ ، وبعضهم مسلم لكنه تارك لكثير من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويتفهَّم ويعلم ويستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيَظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح ، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين ، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها ، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم ، تعاسة تكون علي قدر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، ما لم يستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما
ومعني " وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴿37﴾ " أي هذا تأكيد وتوضيح لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ كثرة الأموال والأولاد والأعْوَان ليست هي التي تُقَرِّب الناس إلي الله تعالي زُلْفَيَ أيْ أيّ قُرْبَة ودرجة ورِفْعَة – لكن إنْ أحْسَنُوا استغلال هذا بنوايا خيرٍ في كلّ أبواب الخير المتنوّعة فسيكون لهم بالقطع من أعظم القربات له سبحانه – ولكن الذي يُقَرِّبهم له فيَنفعهم ذلك القُرْب سعادةً تامّة في الدنيا والآخرة هو الإيمان أي التصديق بوجود الله وبرسله وبقرآنه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، مع العمل الصالح أي التمسّك بكل أخلاق الإسلام .. ومَن يَفعل ذلك فبكلّ تأكيدٍ له في مُقابِل ما عمله الجزاء المُضَاعَف أضعافا كثيرة في أعلي درجات الجنات – إضافة إلي جزاء الدنيا المُتَمَثّل في السعادة التامّة – حيث الغُرُفات في القصور أي الحجرات المفروشات المُريحات المُزَيَّنات بالذهب والفضة وغيرها – جمع غُرْفة وهي المكان المُمَيَّز من البيت وليست كساحته كما أنها تكون مرتفعة وليس أرضية والمقصود أعلي درجات الجنة وأرْفعها وأمْيَزها وأعظمها – وهم فيها آمنون مُطمئنّون من أيّ شقاءٍ أو خروج منها أو خَدْش لخصوصِيَّاتهم أو نحو هذا بل سعداء تمام السعادة فيما لا عيْن رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر
ومعني " وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿38﴾ " أي الذين يُسارِعون ويَجتهدون مُعَاجِزين أي مُحَاوِلين سباق المؤمنين والفوز عليهم وإظهار عَجْزهم بأن يكونوا مُمَانِعين لهم عن اتِّباع الإسلام والتمسّك به والدعوة له ونشره ليَسعد به الجميع في الداريْن ومُحَاوِلين إظهار عدم إعجاز آياتنا في كوْننا وقرآننا من خلال الجدال والتشويه والكيْد بكلّ أنواعه أو يُحاولون حتي إثبات عجزنا وضعفنا نحن الخالِقين لهم !!! – ولن يستطيعوا قطعا وهم واهِمون في كلّ ذلك – فلهم بالتأكيد كلّ شرٍّ وتعاسة ، لهم أشدّ أنواع العذاب المُؤلِم المُوجِع المُهين المُتْعِس ، بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه وتعاساتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين .. إنهم فيه مُحْضَرون أي مَجموعون مُسَاقُون مَدْفوعون إليه نازلون مُقِيمون فيه خالدين .. كلٌّ علي حسب شروره ومَفَاسِده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿39﴾ " أي هذا تأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية ﴿36﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ لكن مع التركيز هنا في هذه الآية الكريمة علي الإنفاق وطَمْأَنَة المُنفقين بأنَّ أيّ شيءٍ يُنفقونه صغر أم كبر مِن أيّ نوع من أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم فكرا أم وقتا أم غيره ، ما دام كان في خيرٍ وبنوايا خيرٍ بالعقل ، سيُخْلَف بالتأكيد ولن يَحدث أبدا نقصان لأنه وَعْدٌ مِمَّن لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْدَه مُطلقا سبحانه ، أي سيتمّ تعويضه من الخالق الكريم أكرم الأكرمين ، بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي ، في الدنيا حيث الحياة في تمام الخير والسعادة ، ثم في الآخرة حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، لأنه هو خير الرازقين أي أخيرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة ، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق ؟! فرِزْقه سبحانه بلا حساب ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا وهو خالِق رزقه من عدمٍ ويَملكه كله ويملك أسبابه وأصوله وخاماته كالماء والهواء والطاقات والخلايا ونحوها وخزائنه لا تنتهي مُطلقا ، أما غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزق خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به من ربهم قد مَلّكَهم إياه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا .. فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق ، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون ، وسيُيَسِّره لكم حتما ، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿40﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿41﴾ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿40﴾ " أي يوم القيامة يَحشر الله تعالي جميع البَشَر ، ثم يُخاطِب الملائكة والجميع يَستمع ومنهم المشركون الذين كانوا يعبدون غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها ، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار ، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف ويبدأ تَبَرُّؤ الذين كانوا يُعْبَدون مِمَّن كانوا يَعبدونهم فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم ، فيَسأل تعالي الملائكة عن بعض الذين اتّخذوهم آلهة – حيث كان بعض البَشَر يعبدونها لأنَّ لها قوة خفِيَّة مُتَوَهِّمين من تعطيلهم لعقولهم بسبب حرصهم علي أثمان الدنيا الرخيصة أنَّ قوّتها من ذاتها وليس مِن خالقها سبحانه – هل بالفِعْل كانت آلهة وعَبَدَها هؤلاء ؟!! .. فيكون رَدّ الملائكة الفوريّ الحاسِم القاطِع " قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿41﴾ " أي نُنَزِّهك ونُبعدك يا ربنا عن كلّ صِفةٍ لا تَليق بك وعن أن يكون لك شريك في المُلك وفي العبادة وعمَّا قاله وفعله مثل هؤلاء السفهاء وتَعَاظَمْتَ وتَعَالَيْتَ عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً فلك كل صفات الكمال .. " .. أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم .. " أي أنت وحدك الذي نُوَاليك أي نعبدك ونحبك ونتقرَّب إليك ، وليس بيننا وبين هؤلاء المشركين أىّ موالاة أيْ طاعة أو محبّة أو قُرْب ، ولا دَخْلَ لنا في عبادتهم لغيرك .. " .. بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ .. " أي لم يكونوا يعبدوننا ونحن نَتَبَرَّأ تماما من سوء أفعالهم إن كانوا قد عبدونا ، ولكنهم كانوا يعبدون الجنّ أي الشياطين أيْ كلّ شرٍّ من عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم ، والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن ، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ ُمفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل .. وهذا هو السبب في هذه العبادة للملائكة أو لغيرها وهو تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿41﴾ " أي كلهم كانوا يفعلون ذلك السَّفَه والسوء حيث كانوا مؤمنين بغيرك سبحانك أي مُطيعين للشرور والمَفاسد والأضرار .. لكنَّ لفظ أكثرهم يُفيد تمام الإنصاف والعدل والدِّقّة لعلّ بعضهم كان له سبب آخر لا يعلمه إلا الله لأنْ يكون مُشركا .. وهذا العدل وهذه الدقة مِمَّا يجب علي المسلم أن يَتَّصِف ويَتَخَلّق به
أما معني " فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿42﴾ " أي في هذا اليوم ، يوم القيامة ، لا يَملك أيْ لا يَقْدِر أيُّ أحدٍ من المَعبودين المَزْعُومين أن يَنفع أحدا من العابدين الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، أو أن يَضُرَّه ، بل الذي يَقدر علي كل ذلك هو الله تعالى وحده مالك الملك القادر علي كل شيء ، ويقول حينها للذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن ، بأيّ نوع ٍمن أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم ٍأو حجر ٍأو نجم ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، يقول لهم عند دخول النار وبعد دخولها علي سبيل مزيدٍ من التأنيب والعذاب النفسيّ أنْ تَألّموا واستشعروا وتَذَوَّقوا عمليا ألم ومَرارة وشدّة وفظاعة عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا ولا تَصَدِّقون بوجودها أو وجود آخرة وحساب وعقاب وجنة ونار ، بل بعضكم كان يُكذب بوجود الله تعالي أصلا !!
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى ۚ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿43﴾ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ﴿44﴾ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كلّ مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ .. " أي حينما تُذْكَر أمامهم ، أيْ أمام المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ، آيات الله تعالي البَيِّنات أي الدلالات الواضِحات القاطِعات الدَّامِغات التي تُثبت صِدْق الرسول ﷺ وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها ، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدقه ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه .. " .. قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ .. " أي حينها يقولون عن الرسول الكريم ﷺ بما يَدلّ علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، وأيضا وَقَاحَتهم حيث يقولون عنه رجل بصيغة النَّكِرَة لإظهار الاحتقار ، أنه يريد أن يمنعهم عن دين آبائهم وهو عبادة الأصنام والكواكب وغيرها ، وهو فعلا يريد ذلك ﷺ ولكن لتمام مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم وليس لشيءٍ آخر ، وهم يريدون بذلك إيقاظ العَصَبِيَّة بداخلهم فهي التي ستُحرّكهم وقتها لأنهم متأكّدون تماما من صدقه ﷺ ومن صدق ما جاءهم به من القرآن والإسلام وأنّ أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لابُدَّ أنه سيَتّبعه وسيستجيب لنداء الفطرة بداخل عقله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ فيُريدون المُسَارَعَة بتحريك عَصَبِيَّتهم والتذكرة بها لغيرهم والتي ستَعميهم عن الحقّ قبل أن يَتَّبع بعضهم الإسلام فيَخسروا مصالحهم كالأموال والمناصب وغيرها من أثمان الدنيا الرخيصة والتي هي الأغشية التي تُغَطّي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها ، وهم يُثيرون هذه العَصَبِيَّة لأنهم يُدركون تماما أنهم ليس لديهم أيّ دليلٍ أو مَنْطِقٍ علي صِحَّة ما هم فيه من عبادة غير الله تعالي .. " .. وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى .. " أي وقالوا كذلك عن القرآن الكريم أنه كذب شديد افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعَاه الرسول ﷺ مِن عنده ونَسَبَه لله تعالي .. " .. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿43﴾ " أي وقالوا أيضا – بعد إساءتهم للرسول ﷺ وللقرآن – عن الإسلام وكلّ أخلاقه التي تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك بها كلها ، أنه سحرٌ مُبِين أي واضح !! أي ليس وَحْيَاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن ، وإنما هو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل ! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء ! .. إنه إذا كان القرآن والإسلام سحراً والرسول ﷺ ساحر ، كما يَدَّعون كذبا وزورا ، فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون ؟! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد !!
أما معني " وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ﴿44﴾ " أي مِن أين جاءوا بهذا الكلام الذي قالوه في الآية السابقة وبهذه الاتهامات والافتراءات والتخريفات والتي ليس لها أيّ دليل ؟! هل دليلهم مثلا أننا قد أوحينا إليهم كُتباً قد تَدَارسوها وتعلّموا منها ذلك وأوصيناهم فيها بعبادة غير الله ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ؟! أم دليلهم أننا قد أرسلنا لهم مثلا قبلك نذيرا يُنذرهم أنهم لو تركوا عبادة الأصنام لَضَلُّوا ولَتَعِسوا تمام التعاسة فيهما ؟! بالقطع لم يَحدث أيّ شيءٍ مِن هذا !! فمِن أين جاءوا إذن بهذه الأكاذيب ؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادِلة إذن ؟! .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه كان مُتَوَقّعَاً أن يفرحوا بنزول القرآن الكريم لهم ويَعْتَزّوا ويتمسّكوا به تماما لأننا ما أعطيناهم كتبا قبله ليَتدارسوها ويعملوا بما فيها ليَسعدوا ، وكذلك يَعْتَزُّوا برسول الله ﷺ ويُعَظّموه ويُقَدِّسوه ، إذ هذا القرآن والرسول هما أكبر تكريم لأهل الجزيرة العربية ، حيث الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والتي ُأوحِيَت إلي اليهود والنصاري وكرَّمناهم بها وبالرسل قبلك كموسي وعيسي ﷺ كانوا في بلاد الشام ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك !! لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم لفي غاية الجَهْل والسَّفَه والعَجَب ! .. ألاَ يَستفيقون من غفلتهم ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ؟!
ومعني " وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿45﴾ " أي هؤلاء الذين يُكذبونكم أيّها المسلمون ويُعاندونكم ويَستكبرون ويَستهزؤن ومَن يشبههم ، لم يَبلغوا حتي عُشْر قوّة السابقين الذين كانوا مِن قبْلهم كعادٍ وثمود وغيرهم والذين كانت لهم كل أنواع القوة البدنية والعسكرية والمالية وغيرها والذين لمَّا كذبوا برسلهم ولم يعملوا بالإسلام الذي أرسلته لهم فانظروا وتَدَبَّروا أيها العقلاء كيف كان إنكاري الشديد العجيب عليهم أي رفضي وغضبي لهذا المُنكر الذي فعلوه بأن عاقبتهم وعذبتهم وأهلكتهم بسببه بصور العذاب المختلفة كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها ، ولم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم هذه (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ مِن الحياة﴾ ، فإذا كان هذا قد حَدَثَ لهؤلاء الأقوياء فما بالُكُم بمَن هم أضعف منهم !! إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما !! فليَحذروا ذلك إذن وليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا قبل فوات الأوان .. وفي هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴿46﴾ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿47﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿48﴾ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴿49﴾ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تأكّدتَ بلا أيّ شكٍّ أنَّ الحقَّ وأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا اخترتَ بكامل حرية إرادة عقلك الهداية للإسلام ولم تَخْتَر الضلالة أي البُعْد عنه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، أي اخترتَ أن تكون مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) ، واخترتَ أن تتمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ .. " أي اذكر يا محمد ﷺ لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ، واذكر لهم يا كل مسلم من بعده ﷺ ، أنك لا تُذكّرهم وتنصحهم إلا بتذكرة واحدة ، حتي يُمكنهم تَذكّرها بسهولة ولا ينسونها ، فالداعي إلي الله والإسلام عليه التركيز في دعوته حتي لا يُنْسِي الكلام بعضُه بعضاً ويَتَشَتَّت منه فِكْر المُستمع ، وهذه التذكرة الواحدة هي أنه لا إله إلا الله وكفيَ بها موعظة ، وهي طاعة الله ، وهي تَدَبُّر القرآن والذي يَجمع كل المَواعظ فكأنه كله هو موعظة واحدة مع العمل بما فيه كله ، وهي التمسّك بكل أخلاق الإسلام التي به ، و التذكرة تعني ضِمْنَاً التذكير لما هو موجود مَغْروز في الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل العقل (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، كما أنّ الموعظة كذلك تعني ضمنا إرادة الخير والسعادة مِن الواعِظ لِمَن يَعِظه والحبّ الشديد له والرِّفق به والحرص تماما عليه .. " .. أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا .. " أي ومن معاني الآية الكريمة أيضا أن أعِظكم وأنصحكم بنصيحةٍ واحدة – إضافة إلي موعظة أن لا إله إلا الله وتَدَبُّر القرآن السابق ذكرها – وهي أن تقوموا لله ، أي تأخذوا أمر الله الذي يُوصِيكم به بكلّ جدِّيَّة ، والمقصود أن يَنطلقوا نحو الله بكلّ هِمَّة وحَمَاسَة وعقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ واع مُتَّزِنٍ صافٍ خالٍ مِن أيّ أغراض خالصٍ مِن أيّ أغشيةٍ وضعوها عليه كالحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، خالصٍ مِن أيّ تَعَصُّبٍ أو غِلٍّ أو تقليدٍ للآخرين بغير تَعَمُّقٍ قد يُعْمِي عن العدل والخير والصدق ، وأنْ يتفكّروا أي يُحسنوا استخدام عقولهم بكلَّ تَدَبُّرٍ في الله خالقهم وفي القرآن والإسلام والرسول ﷺ الذي جاءهم بهذا الدين والذي فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن ، وأن يكون كلٌّ منهم بمفرده لأنَّ ذلك سيكون أكثر عوْناً علي الوصول للصدق لأنَّ الإنسان لن يَخدع نفسه كما أنه حينها لن يُكَابِر إذ ليس معه أحد يجادله ويريد ألاّ يَنهزم أمامه كما يفعل البعض ، أو يكونوا اثنين اثنين لأنه أيضا في هذه الحالة سيَختار كلٌّ منهم رفيقه الصادق الذي سيُحْسِن الحوار معه وسيُعينه وسيَصْدُقه ولا يَخدعه ، أو حتي يكونوا مُجتمعين لكن مع البُعد عمَّن يُثيرون الفتن والأحقاد والخلافات من أجل مصالح الدنيا الدنيئة الزائلة يوما ما .. " .. مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ .. " أي يَنفردوا أو يَجتمعوا لكي يُناقشوا فيما بين أنفسهم هل لاحَظوا يوما علي الرسول ﷺ – الذي هو صاحبٌ أيْ مُلازم لهم أيْ يَعلمون تماما حُسن خُلُقه منذ صغره وكان يُسَمَّيَ الصادق الأمين – علامات جنون ؟! هل كلامه أو تصرّفاته فيها تخريف كالمجنون ؟! وهل المجنون من المُمكن أن ينطق بمثل هذا القرآن العظيم ؟! إنه علي العكس تماما هو مثال تمام الخُلُق الحَسَن المُسْعِد في كل قوله وعمله ، والجميع يعلم ذلك !! .. " .. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴿46﴾ " أي ما هو ﷺ إلاّ مُنذر لكم يُحذركم من عذاب شديد بين اليَديْن أي أمامكم وقريب منكم ، وكلّ ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أيّ أحدٍ أنه بعيد ، إنه يُحذركم من كلّ شرٍّ وتعاسة في دنياكم وأخراكم إن بقيتم علي ما أنتم فيه من تكذيبٍ وعِناد واستكبار واستهزاء وشرٍّ وفساد ، وهو بعد هذا الإنذار لن يُجبركم علي شيءٍ ولن يتحمّل نتيجة سوئكم بل كلٌّ سيَتحمّل نتيجة عمله
ومعني " قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿47﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ لهؤلاء الذين وَعَظتهم كما في الآية السابقة ، واذكر لأمثالهم يا كلّ مسلم مِن بَعده ﷺ ولكلّ مَن تَدعوه ، أنك لم تسألهم أيّ أجرٍ علي دعوتك لهم لله وللإسلام بحيث يَغرمون شيئا إذا أسلموا !! أو أنَّ الداعي سيَخسر مَكْسَبَاً ما كان سيَأخذه منهم إذا لم يُسْلِموا !! ولو علي سبيل الفرض لا الحقيقة إذا كان قد طَلَبَ منهم أجرا ما فلا يُعطوه إياه ولو كانوا أعطوه شيئا فليَسترِدّوه إذن فهو لهم ! .. إنَّ أجره وثوابه فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيه ما يُسعده في دنياه وما هو أسعد في أخراه ، ما دام قد أحسنَ دعوتهم سواء أسلموا أم لا ، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يُسلم في الدنيا والآخرة .. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره ! " .. وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿47﴾ " أي هو سبحانه شاهدٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به مُطّلِعٌ عليه مُراقِبٌ له حاضرٌ لكل أقوال وأعمال البَشَر جميعا ، المسلمين وغيرهم ، الدعاة والمَدْعوين ، لا يَخْفَىَ عليه شيءٌ منها ، وهو مُجَازيهم عليها بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، في دنياهم وأخراهم
أما معني " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿48﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ لهؤلاء الذين وَعَظتهم في الآيات السابقة ، واذكر لأمثالهم يا كلّ مسلم مِن بَعده ﷺ ، أنَّ الله تعالي ربّي أي مُرَبِّيني وخالِقي ورازقي ومُعينِي ومُرْشِدي لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياي وأخراي وناصري فيهما ، يَقذف – أي يَرمي بقوة وبدِقّة كالقذيفة لإصابة الهدف – بقذائف الحقّ فيُصَوِّبها ويُوَجّهها دائما نحو الباطل لإضعافه وإسكاته وهزيمته بل ومَحْوه ، والحقّ هو القرآن والذي يشتمل علي كلّ حقٍّ أيْ صوابٍ وصدقٍ وصلاح وعدلٍ وخيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة ، والباطل هو عكس الحقّ وعكس الهُدي ، فهو كلّ خطأ وكذبٍ وفسادٍ وظلم وشرٍّ وتعاسة وبالجملة هو كل ضياع فيهما .. وقَذْف الله هذا للحقّ علي كلّ باطل والقضاء عليه سيَحدث لكلّ مَن يَبقيَ علي ما هو فيه من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء ، فليَحذروا ذلك تمام الحَذَر وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل فوات الأوان .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديد لهم ولأمثالهم ، وطَمْأَنَة لأهل الحقّ والخير أنهم لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿48﴾ " أي هو تعالي القادر علي فِعْل ذلك وعلي كلّ شيءٍ لأنه هو علاّم الغيوب أي العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول ، ويعلم تماما أين الباطل ليَسحقه ويَنصر الإسلام عليه وينشره .. فليَنتبهوا لكلّ هذا وليَحذروه أشدّ الحَذَر ولا يقولوا إلاّ حقا ولا يَدَّعوا علي الله ورسوله والإسلام والمسلمين ما هو كذب وزُور
ومعني " قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴿49﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بَعده لعموم الناس أنَّ الحقَّ – أي الصدق والخير والسعادة للجميع في الداريْن – قد جاء ، مُمَثّلَاً في القرآن الكريم وفي دين الإسلام العظيم ، وبما أنه قد جاء فقد انكشفَ تلقائيا الباطل وتَعَرَّيَ وتَرَاجَع وانهزمَ وتَحَطّمَ وتَفَتَّتَ وهو حتما إلي زوال ، ولن يستطيع أن يُبْدِيءَ أيْ يَبدأ ويُنْشِيء أيَّ شيءٍ مِن سوءٍ وفساد وضرر أو أن يُعيده بَعْدَ أنْ ينتهي ويَهلك ، ما دام أهل الخير والحقّ متمسّكين تمام التمسّك بقرآنهم وبإسلامهم فلا مكان إذن لأيّ باطل ، أيْ كذب وشرّ وضلال وتعاسة ، ولو حَدَثَ أحيانا أنْ غَلَبَ الباطل لفترة مؤقتة بسبب ضعف أهل الحقّ وبُعدهم عن ربهم وقرآنهم ودينهم فإنَّ غَلَبَته ليست نصرا علي الحقّ وإنما علي المُنتمين له لضعفهم حتي يعودوا إليه فيَقووا فيَنتصروا قطعا ، فالحقّ إذن لا يُمكن أن يُهْزَم أبدا فهو باقٍ مستمرّ لا يَتَغَيَّر ويُرْجَعَ إليه علي الدوام ومَن أراده وجده حتما
ومعني " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴿50﴾ " أيْ مِن اختار الضلال أي الضياع أي الشرَّ والفساد وعدم اتّباع الإسلام ، بكامل حرية إرادة عقله ، فهو الذي سيَتَحَمَّل نتيجة وضرر اختياره السَّيِّء هذا لا يتحمّله عنه أيُّ أحدٍ آخر ، فسيَجد حتما كلّ شرٍّ وتعاسة في دنياه وأخراه ، كما أنه بالقطع لن يُؤثر بأيّ ذرّةِ تأثيرٍ في الحقّ وهو القرآن والإسلام فهما باقيان ساطعان ناصعان كاملان هاديان مُسعدان لِمَن اتّبعهما مَهما ضَلَّ مَن ضَلّ ، وليس بالقطع هما اللذين أضلّاه بل الأمر باختياره ! فهما لا يحملان إلا تمام الخير والسعادة في الداريْن .. ومِن اختار الهداية ، أيضا بكامل حرية إرادة عقله ، ووَصَلَ بها إلي تمام السعادة في الدنيا ، ثم حتما في الآخرة ، فسيكون هذا قطعا بسبب تمسّكه التامّ بكلّ ما في القرآن من أخلاق الإسلام والذي أوحاه الله إلي رسوله ﷺ وأوصله تامَّاً للناس ، ولَمَّا يَرَيَ سبحانه من المسلم بداية تَمَسّكه بقرآنه وبإسلامه ، يُعينه ويُيَسِّر له تمسّكه به كله ويُوَفّقه لذلك ويُسَدِّد خُطاه نحوه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴾ الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وهذا بالقطع مِمَّا يستحقّ تمام الشكر من المسلم لربه ، يشكره بعقله باستشعار أعظم نعمة هذه ، نعمة القرآن والإسلام والتي تُحقّق له تمام السعادة في الدنيا والآخرة ، ثم كلّ النِعَم الأخري والتي لا تُحْصَيَ ، ويشكره بلسانه بحمده سبحانه ، ويشكره بعمله بفِعَل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ ، حتي يجدها دائما باقية عنده وفي ازديادٍ نحو كلّ خيرٍ كما وَعَدَ تعالي ووعْده صِدْق لا يُخْلَف مُطلقا " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ.. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه إذا كان بعض المُكذبين المُعاندين لله وللإسلام يَعتبرون أنّ المسلم المتمسّك بإسلامه علي ضلالٍ فليتركوه إذن وشأنه ! ولو هَلَك فسيَستريحون منه ! فإنما ضلاله إذن علي نفسه في هذه الحالة وهو المُتَحَمِّل لهذه المصيبة وليس هم وهو الذي سيُضَرّ وسيَهلك في الداريْن !! .. " .. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴿50﴾ " أي يَسمع كلّ شيءٍ فلا يَخْفَيَ عليه أيّ مَخْفِيّ ، أيْ يعلمه بتمام العلم ، ويعلم قطعا مَن المُهتَدِي ومَن الضال ، وهو سبحانه قريب مِمَّن دعاه وسأله وعَبَدَه لا يتأخّر عنه وعن عوْنه وتيسير أموره وتحقيق ما يُسعده في دنياه وأخراه .. وفي هذا تحذير للضالّين ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في حياتهم وآخرتهم حيث هو تعالي يُجَازِي الجميع فيهما بما أعلنوا وما أخفوا من أقوال وأفعال
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴿51﴾ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿52﴾ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۖ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿53﴾ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴿51﴾ " أي وإذا رأيتَ أيُّها الرَّائِي لحال المجرمين المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة ومَن يُشبههم حين يَنزل بهم عذاب الله تعالي لرأيتَ أمراً فظيعاً عظيما مُخيفا مُرْعِبا ، إنك ستَرَاهم وقد فَزِعُوا ، أي خافوا خوفا شديدا ، وهذا العذاب قد يكون في الدنيا حينما يُصيبهم سبحانه بما يَستحِقّونه في مُقابل شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم مُتَمَثّلا في زلازل أو براكين أو عواصف أو صواعق أو سيول أو فيضانات أو أمراض أو أوْبِئة أو حروب أو ما شابه هذا ، وقد يكون أثناء قبْض أرواحهم عند موتهم وبداية عذاب القبر لهم ، وقد يكون عند بدء حسابهم ودخولهم نار جهنم يوم القيامة .. " .. فَلَا فَوْتَ .. " أي حينها فلا فوات لهؤلاء من العذاب المُخَصَّص لكلٍّ منهم ، أي فليس هناك أيّ نجاة أو مَهْرَب أو خَلَاص .. " .. وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴿51﴾ " أي أخذهم العذاب وتَمَكَّنَ منهم وغَلَبَهم بسرعة في لحظاتٍ وقبل أن يَستشعروه ويتمكّنوا من الهرب منه ، فهو كأنه في مكانٍ قريبٍ جدا منهم وجاءهم مُتَسَلّلا لهم فجأة وهم في حالة ارتخاء لا يَتوقّعون حدوثه ، لأنه سبحانه لا يحتاج لوقتٍ لكي يُنزله بهم حين يَحلّ وقت نزوله ، فهو يقول للشيء كُن فيكون كما يريد ، وهو تعالي قريب ومع كلّ خَلْقه في كل الأحوال ، فهم أينما كانوا قريبون من الله لا يبعدون عنه قطعا
ومعني " وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿52﴾ " أي يقول المُكذبون والمُعاندون والمُستكبرون والمُستهزؤن ومَن شابههم حينما يَرَوْن بدايات العذاب يوم القيامة ، آمنا به أي بالله وبكتبه وبرسله وبإسلامه وبصِدْق كلّ ما أخبرونا به من آخرةٍ وحسابٍ وعقاب وجنة ونار .. " .. وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿52﴾ " أي وكيف لهم هذا التناوُل للإيمان وهم الآن في مكانٍ بعيد جدا – وهو الآخرة – عن المكان الذي كانوا من المُفْتَرَض أن يقولوا فيه هذا الكلام ويعملوا به وهو الحياة الدنيا ؟!! إنهم كمَن يحاول تناوُل شيءٍ ما بعيدٍ عنه تماما فكيف يمكنه الحصول عليه ؟!! إنه وَاهِمٌ قطعا في هذا ! إنهم يقولونه في وقتٍ لن يَنفعهم فيه أيّ إيمانٍ ولا أيّ ندمٍ ولا أيّ محاولةٍ للهروب من العذاب ، فقد انتهي وقت العمل والتحذير والندم والتوبة وجاء الآن وقت الحساب والجزاء
ومعني " وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۖ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿53﴾ " أي كيف يُقْبَل منهم الإيمان بالله الآن في الآخرة وقد انتهي وقته وهم كانوا قد كفروا به مِن قَبْل أي في حياتهم الدنيا ومِن قبْل أن يَروا العذاب ؟! ولم يَكْتَفوا بذلك بل أيضا " .. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿53﴾ " أي وكانوا يَرْمون بكلامٍ غائبٍ عنهم ليس لهم به أيّ علمٍ ولا أيّ دليل علي مَنْطِقِيَّته وعَقْلانِيَّته وصِحَّته ، كمَن يَقذف بسهمٍ من مكانٍ بعيدٍ جدا فلا يُمكنه بأيّ حالٍ أن يُصيب هدفه ، أيْ كان كلامهم باطلا سفيها لا يَصِلُ أبدا لأيّ حقٍّ وعدلٍ وخير وسعادة وبينه وبين الوصول إلي ذلك مسافات بعيدة شاسعة ، كقولهم مثلا عن القرآن العظيم سحر وأساطير الأوَّلِين وعن الرسول الكريم ﷺ ساحر أو مجنون وما شابه هذا من افتراءات وتخريفات .. وكذلك في الآخرة سيَقولون وسيَرْمُون بالغيب كلاما ليس له أيّ أصلٍ بعيدٍ تماما عن أيِّ حقٍّ وهو أنهم مؤمنون !! وفي هذا تَسْفِيهٌ لهم وقطعٌ لأيِّ أملٍ في أيّ نجاةٍ من العذاب
ومعني " وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ﴿54﴾ " أي يَحُولُ الله تعالي حينها يوم القيامة أي يَمنعهم مَنْعَاً تامّا ممّا كانوا يَرغبون فيه بشدّة – في وقتٍ لم يَعُد يَنفع فيه الرَّغَبَات والأمنيات – وهو النجاة من عذاب النار ودخول الجنة أو قبول إيمانهم الذي أعلنوه في الآخرة والعفو عنهم أو العودة لشهوات ومُتَع الدنيا كالأزواج والأبناء والأموال وغيرها والتي كانوا يُفسدون فيها علي أن يكونوا بعد عودتهم مؤمنين صالحين لا كافرين فاسدين !! .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنهم في الدنيا أيضا يَمنعهم الله تعالي من شهواتهم المُتَمَثّلَة في محاولاتهم منع انتشار الإسلام أو القضاء عليه أو نشر مَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم فتنتهي كلها بالفشل ويَنصر أهل الحقّ علي أهل الباطل – حينما يتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم ويُحسنون اتخاذ أسباب النصر المُسْتَطَاعَة والمُتَاحَة – في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَا لأهل الخير .. وأيضا يمنعهم من شهواتهم الدنيوية والتي استخدموها في كلّ شرٍّ من خلال الفزع الذي يُنْزِله بهم حين عذابهم عندما يَستحقّوه ويَأتِي مَوْعده كما في الآية ﴿51﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، ويَمنعهم كذلك من الإيمان حينما يَتمنّوه لكي يَنْجُوا من هذا العذاب المُفْزِع فلا يَتركهم ولو للحظة ليُؤمنوا وليَتوبوا قبل موتهم .. " .. كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ .. " أي هذا الذي يُفْعَلُ بهم من الله تعالي سواء في دنياهم أو أخراهم هو مِثْل الذي يفعله دائما سبحانه مع كلّ أشياعهم الذين قبلهم – أو بَعْدهم – أي أمثالهم السابقين مِن المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم ، جَمْع شِيَع وشِيَع جمع شِيِعَة ، وهي المجموعة التي يَتْبَع ويُسَانِد بعضها بعضا سواء علي الخير أم الشرّ .. " .. إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ﴿54﴾ " أي كلّ ما سَبَقَ ذِكْره مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ هو بسبب أنهم لم يكونوا مؤمنين بل كانوا في شكٍّ مُريب أي مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ ، أي شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ ، أيْ شكّ كثير أكيد ، شكّ في وجود الله وفي صدق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها ، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم ، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار ، وما كلّ ذلك الشكّ إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فليَعْتَبِر المسلمون إذن ولا يَتَشَبَّهوا بهم أبدا وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في الداريْن
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿2﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الْحَمْدُ لِلَّهِ .. " أي هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولا وقوة وصحة وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. " أي خالِقهما سبحانه ومُبْدِئهما – وكلّ الخَلْق فيهما – مِن عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ أيْ لم يُقَلّد أحدا وإنما مِن إبداعه واختراعه تعالي ، وهذا يعني ضِمْنِيَّاً أن اطْمَئِنّوا ياأيها البَشَر فلا أحد آخر يمتلكهما إذ لو فُرِضَ وامتلكهما غيره لَكَانَ مِن المُمكن أن يَحرمكم من خيراتهما !! كما أنَّ هذا مِن المُفْتَرَض أنْ يزيدكم حمدا لله لأنها كلها ملكه وليست ملككم ومع ذلك يُمَلّك لكم بعضها فترة حياتكم ويجعلكم تنتفعون وتسعدون بما معكم تمام الانتفاع والسعادة .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنّ القادر علي البدء من العدم قادر قطعا علي إعادة الخَلْق مرة ثانية يوم القيامة للحساب الختاميّ علي أعمالهم حيث الخِلْقَة الثانية دائما أسهل من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة ! .. " .. جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ .. " أي خَلَقَ سبحانه مِن ضِمْن ما خَلَق مخلوقات هي الملائكة من موادّ لا يعلمها البَشَر وليسوا مُؤَهَّلِين لرؤيتها والتعامُل معها وهي لها قدرات هائلة علي سرعة الحركة وتنفيذ أوامر الله تعالي ، ومِمَّا يدلّ علي هذا أنَّ لها طاقات وإمكانات كثيرة كالأجنحة وغيرها ، فبعضها مُزَوَّد بجناحيْن وبعضها ثلاثة وبعضها أربعة وبعضها أكثر من ذلك علي حسب مهامّها ، خَلَقَها لكي تكون رُسُلاً أي مَبْعوثين منه للبَشَر يقومون علي خدمتهم ، فهم مثلا يَنزلون بالوحي فيه الإسلام علي الرسل ليُعَلّموه للجميع ليَسعدوا به ، ويقومون بتحريك السُّحُب والرياح والشمس والقمر ونحو هذا من كلّ خدمات الكوْن التي تُحقق كلّ مصلحة ونفع وسعادة للإنسان ولكلّ المخلوقات .. " .. يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ " أي هو سبحانه القادر علي كلّ شيءٍ بتمام القُدْرة الذي لا يَعْجَز عن أيّ شيء بل يقول له كن فيكون كما يريد ، ومن علامات قدرته تعالي أنه يزيد في خَلْق مخلوقاته ما يريد زيادته من الأمور التي لا يُمكن حصرها ، كالأحجام والأوزان والأشكال والألوان والأفهام والقدرات والإمكانات والمنافع وغيرها مِمَّا يَستحيل حصره ، وكذلك ينقص منها ما يشاء ، بكل حكمة ودِقّة ودون أيّ عَبَث ، حسبما يراه سبحانه مُحَقّقا لنفع ولسعادة كلّ خَلْقه وعلي رأسهم الإنسان والذي هو أكرمهم .. فهو تعالي إذن وحده المُسْتَحِقّ للعبادة والشكر ولأنْ يُتَوَكَّل عليه تمام التّوَكّل ، لتَسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿2﴾ " أيْ إذا أعطَيَ الله تعالي للناس أيَّ رحمةٍ ما – أيْ خيرٍ ما – فلا يُمكن أبدا وحتما لأيِّ أحدٍ أنْ يُمسكها أيْ يَمنعها عنهم ، وإذا أمسكها سبحانه أيْ مَنَعَها لسببٍ ولحِكمةٍ ولنِفْعٍ ما ، فأيضا لا يُمكن أبدا وحتما لأيِّ أحدٍ أنْ يُرسلها أيْ أنْ يَبْعثها لهم ويُعطيهم إيّاها ، والخير قد يكون مادِّيَّاً ككلّ أنواع الأرزاق مِن مأكولات ومشروبات وأموال وأولاد وصحة وقوة ونحو هذا مِمَّا لا يُحْصَيَ ، وقد يكون معنويا كإرشادهم لدين الإسلام ولأخلاقيّاته والتي مَن يَتمسّكَ بها كلها سيكون له حتما من الله كلّ العوْن والتوفيق والسداد والتيسير والحب والرضا والرعاية والأمن والسعادة في دنياه ثم أخراه .. فالأمور إذن كلها بيده وتدبيره في مُلكه سبحانه بما يُحقّق مصلحة وسعادة خَلْقه ، فهو وحده الذي يَنفرد بامتلاك النّفْع التامّ والعطاء والمَنْع ، وإنْ نَفَعَ أحدٌ أحداً بشيءٍ ما فإنما هو نَفْعٌ جُزْئِيّ مِن خلال مُلْكه تعالي وبتيسيره له لأسباب ذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، ومَن يُصاب باختبارٍ أو ضَرَرٍ ما فيَصبر عليه فسَيَخرج منه مُستفيدا فوائد كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. فهو تعالي إذن وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر ولأنْ يُتَوَكَّل عليه تمام التّوَكّل ، ليَسعد الناس بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معاني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿2﴾ " أي هو الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، وهو في كلّ أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث .. وهو سبحانه له كل صفات الكمال ولكنه اختار هاتين الصفتين لختام الآية الكريمة لمناسبة ذلك للعطاء والمَنْع ، أيْ لن يستطيع أيُّ أحدٍ مهما بلغت قوته أن يَتَدَخّلَ ولو بأقلّ تَدَخّل
ومعني " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿3﴾ " أي هذا تذكيرٌ وتعليمٌ وتوصية وتوجيهٌ وأمرٌ من الله تعالي للناس لكي يكونوا دائما من الذاكرين لنِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ والشاكرين دوْما لها ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولا وقوة وصحة وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .. " أي بالقطع ليس هناك أيّ خالق لكم أيها الناس ولكل المخلوقات إلا الله تعالي ، وليس هناك أيّ رازق يرزقكم جميعا بكل أنواع الخيرات النافعة المُسْعِدَة إلا هو سبحانه ، فهل هناك من يستطيع أن يَتَجَرَّأ علي أن يَدَّعِيَ أنه قد خَلَقَ أيَّ مخلوق ؟! أو يدّعي أنه يَخْلق أصول الأرزاق في السموات والأرض كالهواء والطاقة والمطر والأرواح والخلايا بمكوناتها والبذور وخامات المعادن وما شابه هذا ممّا يصعب حصره ؟! إنّ كل ما يَتداوله الناس فيما بينهم من أرزاق ما هو إلاّ مِن هذه الأصول والتي هي ليست أبداً مِن صُنْعِهم أو خَلْقِهم !! فلا يَتَوَهَّم أحدٌ إذن أنه يرزق غيره من البَشَر !! .. " .. لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ .. " أي بالتالي وكنتيجة حتمية لكل ذلك فهو تعالي المَسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿3﴾ " أي بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة كيف تَنصرفون وتَنحرفون كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآية الكريمة هي تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
هذا ، ومعني " وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ .. " أي لا تَحزن يا محمد ﷺ ولا تَسْتَثْقِل ذلك ، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده ، حين يُكذبك المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، فهذا ليس بالأمر الجديد ، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك ، فالأمر ليس تقصيراً منكم ، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به ، فتَشَبَّهوا بهم .. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿4﴾ " أي كلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها ، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم ، وأموركم وأمورهم ، فاطمئنّوا واستبشروا دوْما .. ففي الدنيا سيكون لهؤلاء المُكذبين درجةٌ ما من درجات العذاب علي قدْر ما عملوا من شرور ومَفاسد وأضرار يَتمَثّل في قلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين أو حتي إهلاكٍ بريح أو سَيْلِ أو زلزال أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، وبالجملة سيكون لهم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيُنَبَّأون بالنتائج السيئة لسوء أعمالهم وسيَذوقون حتما في مُقابلها ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد .. أمّا أنتم أيها المسلمون فلكم حتما النصر وكل خيرٍ وسعادة في دنياكم واخراكم (برجاء مراجعة أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم ، وذلك في الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران .. ومراجعة أيضا أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وفي الآية الكريمة تهديد وتحذير شديد لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿5﴾ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُحسنين لطَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من المُتّقين لله في كل أقوالك وأعمالك لأنه يعلم كل ما يُخفيه الإنسان وما يُعلنه ، أي كنتَ دائما من المُتَجَنِّبين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنتَ دائما حَذِرا تمام الحَذر من الشيطان واتّخذته دوْما عدوا لك (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا .. " أي يا جميع البَشَر ، مسلمين وغير مسلمين ، انتبهوا وتَذَكَّروا دائما ، ربكم الذي خَلَقكم ويُرَبِّيكم ويَرزقكم ويرعاكم ويُرشدكم لكل خيرٍ وسعادة في دنياكم وأخراكم ، يريد بكم تمام الخير والسعادة ، فهو يريد منكم أن تتذكّروا دائما أنكم ستُلاقوه حتما يوما ما في الآخرة حيث يُحاسبكم علي كل أقوالكم وأفعالكم بالخير خيرا ويزيد وبالشرّ شرَّاً أو يعفو ، في يوم صدقٍ ثابت قادم بكل تأكيد ، لأنه وعْد الله الصدق الذي لا يُمكن أن يخْلف وعده ، كما أنَّ وعْده صدق في أنّه مَن تَمَسَّكَ بكلّ أخلاق الإسلام فسيُحْيِيه حياة دنيوية كلها تمام الخير والسعادة .. ثم تَدَبَّروا في أنه لماذا يُخْلِف وعْده وهو القادر علي كل شيء ؟! فهو ليس كالبَشَر مِن المُمْكِن أن يخلْفوا وعودهم لعدم استطاعتهم أو لمُرَاوَغَتهم أو لما شابه هذا من أسباب .. وبما أنه وعْدٌ أكيد فاستعدوا له جيدا بأن لا تَغترُّوا أي لا تنخدعوا بالحياة الدنيا بل أحسنوا طَلَبَها والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿5﴾ " أي ولا تَنْخَدِعوا أبدا بأيّ غَرُور وهو كل ما يَغُرّ الإنسان أي يَخدعه ويَستغفله سواء أكان تفكيره الشرِّيّ أم مَن حوله مِمَّن يأخذونه للشرّ فيستجيب لهم بكامل حرية اختيار إرادة عقله أم نحو هذا ، ومعني " .. بِاللَّهِ .. " أي بأنَّ الله غفور رحيم كريم لا يُعذّب أحدا مثلا ! أو بأنه يُخوّفكم فقط ولن يُنَفّذ ! أو ماشابه ذلك من خداعات .. أي لا يَخدعكم أيّ خداع بأنَّ الله كذلك بل كونوا حَذِرين أشدّ الحَذر وأحسنوا الاستعداد للقائه تمام الاستعداد بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، فوعده صدق أنَّ مَن فَعَلَ ذلك فله حتما تمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه
ومعني " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿6﴾ " أي هو ضِدّكم أيّها الناس يريد إضلالكم أي إبعادكم عن كل خيرٍ وسعادة ، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرا منه أشدّ الحَذر واتّخذه دوْما عدوا أي لم يتّبع خطواته وقاوَمها ولم يَستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّك بكل أخلاق إسلامه التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرّدٍ علي كل خيرٍ ُمفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشر وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويَلْفِظونه ، وبه أيضا تَتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كلّ الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوّا له﴾ .. " .. إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿6﴾ " أي هذا هو السبب في أنَّ عليكم أنْ تَتَّخِذوه عدوا ، أنّه ما يَدعو أبداً مجموعته التي تَختار اتّباعه وأن يكون قائداً مُوَجِّهاً لها بكامِل حرية إرادة عقولهم ، إلاّ لكلّ شرٍّ يُؤَدِّي بهم حتما إلي أن يكونوا من أهل السعير أي النار الشديدة الاشتعال ، يُعذّبون ويَتعسون فيها تمام العذاب والتعاسة ، بعد عذاب وتعاسة دنياهم التي كانوا فيها بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم والتي تَمَثّلَت في درجةٍ ما مِن درجات القلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ .. " أي الذين يكفرون بوجود الله تعالي وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، لهم حتما عذاب شديد مُؤلم أشدّ الإيلام في نار جهنم خالدين فيه إلي ما شاء الله ، إضافة إلي درجةٍ ما مِن درجات عذاب الدنيا المُتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين .. وبالجملة لهم كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة في دنياهم ثم ما هو أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد في أخراهم .. " .. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾ " أي وفي المُقابِل وعلي العكس منهم تماما ، الذين صدّقوا بوجود الله تعالي وبكتبه وختامها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم رسولنا الكريم محمد ﷺ وبالآخرة وبالحساب والعقاب وبالجنة والنار ، وعملوا الصالحات أي اجتهدوا في التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، لهم حتما كلّ خيرٍ وسعادة ، في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، إضافة بالقطع للأجر الكبير الذي نالوه في حياتهم الدنيا حيث تمام الخير والسعادة حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِن الذين يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، فيَشاء الله لهم ذلك ويَأذن ، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان ، والحِكمة في سبب الخِلْقَة ، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين ! وذلك في الآيات ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ " ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِن الذين يَحرصون أشدّ الحرص علي دعوة الآخرين لله وللإسلام بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة ويَصبرون علي أذاهم كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا .. " أي هل مَن فَقَدَ التمييز فأصبح لا يُمَيِّز بين الخير والشرّ بل يَريَ الشرّ شيئا حَسَنا مُسْعِدَا سعادة حقيقية مُتَعَمِّقَة مُسْتَمِرَّة ويري الخير شيئا سَيِّئا مُتْعِسَاً ، هل مثل هذا السفيه يَتسَاوَيَ مع مَن يُمَيِّز بينهما ويتمسّك بكل خيرٍ مُسْعِدٍ ويترك كل شرّ مُتْعِس ؟!! لا بكل تأكيد ! إنّ فقدان التمييز هذا إنما هو بسبب تزيين – أي تحسين وتجميل – تفكيره الشَّرِّيّ بعقله له هذا ، إنه بسبب أنه قد وَصَلَ عقله لمرحلة مُزْمِنَةٍ مِن فِعْل الشرّ والتفكير فيه والتخطيط له بحيث نَسِيَ شيئا اسمه الخير !! لقد نَسِيَ أيّ خيرٍ مهما كان صغيرا أو نادرا !! بل وَصَلَ لمرحلةِ ألا يعلم ما هو الخير وما هو الشرّ !! لا يُفرِّق بينهما !! بل أحيانا مِن شدّة سَكْرته ونسيانه وتِيِهِهِ وخَبَلِه يفعل الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّم أنه الخير والحُسْن !! إنّ سعيه في حياته ، كل حركته ، كل أقواله وأفعاله وأفكاره ، هي ضلال في ضلال ! إنه لم يفعل الشرّ واكتفَيَ بذلك ، ولم يُراجِع ذاته أو راجعها وكَتَمَها واستمرّ في شرّه ، وإنما أضاف لهذا أنْ يعتبره خيرا ويَحرص علي المُداوَمَة عليه والمزيد منه !! فهل هناك ضلال أكثر من هذا ؟! وما كل ذلك إلا لتحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ... فلا تَتَشَبَّه أبداً أيّها المسلم بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسْتَ مثلهم تمام التعاسة في دنياك وأخراك .. " .. فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ .. " أي مِثْل هذا السفيه لم يَشأ الهداية لله وللإسلام ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فلم يَشَأها الله له وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فكأنه تعالي هو الذي أضله لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه .. بينما الذين يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم ، فإنَّ الله يشاء لهم ذلك ويأذن ، بأنْ يَوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابها ، فهم قد اختاروا هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَنوا استخدام عقولهم ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ .. " أي لا تَتَحَسَّر أي لا تَحزن وتتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام ، فهم لا يَستحِقّون مثل هذه الحَسَرات ، جمع حَسْرَة ، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين ، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما ... فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام ، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس ، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا ، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا ، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم ، وانطلقوا في دعوتكم لهما ، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن ، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما .. " .. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿8﴾ " أي هو سبحانه عالِم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر بكلّ شيءٍ عن خَلْقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يَخترها أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله ، وهو لا يَخْفَىَ عليه شيء ممّا يفعله هؤلاء الجاهلون مِن أفعالٍ وأقوال سيِّئة ، وسيُجازيهم بما يستحقّونه من عقاب مناسب علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في دنياهم وأخراهم .. فاطمئنوا أيها المسلمون ولا تحزنوا واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم ودعوتكم له
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !
هذا ، ومعني " وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. " أي والله تعالي خالق الخَلْق كله القادر علي كل شيءٍ ، أيضا إضافة إلي أنه فاطر السموات والأرض كما في الآية الأولي من هذه السورة الكريمة ، فإنه كذلك يَبعث الرياح فتُنْشِيء وتُحَرِّك السُّحُب فيَقودها ويَنشرها في السماء في أيّ مكانٍ واتّجاهٍ يَشاءه يمينا ويسارا إلي حيث البلد التي أرضها ميتة أي لا نبات فيها ولا زرع ، فيُنزل عليها ماء المطر فيُحييها ويُخرِج خيرها من كل الزروع والنباتات المُفيدة المُسْعِدَة بعد أن كانت لا حياة فيها ، فسبحان القادر علي كلّ ذلك وغيره .. " .. كَذَٰلِكَ النُّشُورُ ﴿9﴾ " أي كما أنه تعالي قادر علي إحياء الأرض بعد موتها كما تَرَوْنَ ولا يُنْكِر ذلك كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، فهو أيضا بالمثل تماما قادر قطعا علي النشور أي علي بَعثكم مرة أخري وإحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا ، وعلي نَشركم – من الانتشار – يوم القيامة حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، فأحسِنوا إذن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عزيزاً لا ذليلا ، أي كريما صاحب مكانَة ورِفْعَة وقوة غيرَ مَغلوبٍ ولا مَقْهُورٍ ولا ذليلٍ لأيِّ أحدٍ ، وذلك بأن تتّخذ دوْما الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، مَرْجعك دائما في كلّ مواقف ولحظات حياتك ، فهذا هو الذي سيُعطيك تمام العِزَّة ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد العِزَّة والسعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. بينما ترْك أخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفِعْل عكسها يؤدّي حتما إلي ذِلّة في الدنيا تساوي مقدار ما تمّ ترْكه ثم ما يُساويها من عذابٍ في الآخرة ، فمَن كان مثلا كاذبا أو سارقا أو خائنا أو منافقا يُظهر خيرا ويخفي شرَّاً تراه حتما في ذلة وانكسار وانحطاط علي قدْر سُوئه كما يثبت الواقع ذلك عمليا .. وكذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا .. " أي كلّ مَن كان يريد العِزَّة ، أي يريد تمام الكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة وألاّ يكون مَغلوبا ومَقهورا لأيّ أحدٍ ويَحيا بلا أيّ ذِلّة ، في دنياه وأخراه ، فليَطلبها مِمَّن يملكها جميعها كلها وسيُعطيها له عِزّة حقيقية مستمرّة لا وَهْمِيَّة مُتَقَطّعة ، يَطلبها من الله خالقه الكريم سبحانه وخالقها ، وطَلَبها يكون بالاجتهاد في التمسّك بكل أخلاق الإسلام والتوكّل عليه وحده ليُيَسِّرها له ويُسَدِّد خُطاه نحوها ، بينما لو طَلَبَها من عند غيره من مخلوقاتٍ مثله والاعتماد عليهم ، كطَلَبها مثلا من آلهة أخري تُعْبَد غيره تعالي ولا تَملك شيئا كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها ، أو من بَشَرٍ ضعيف مُعَرَّضٍ للمرض والضعف والفقر والموت ونحوه ، فهذا وَهْم وانخداع وخسران كبير ، لأنها ستكون عِزَّة مُرتبطة حتما بمُقابِلٍ ما ، فهي إذن مُتقطّعَة لا دائمة سَطْحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ، حيث ستكون مَكانَة ما تُعْطَيَ – كمنصبٍ أو جاه أو مال أو نحوه – في مقابل فِعْل سوءٍ ما وإلا فلا مَكانَة ! فالأمر إذن تمام الذلّة ! فترْك أخلاق الإسلام إذن كلها أو بعضها وفِعْل عكسها بالتالي سيؤدّي حتما إلي ذلة في الدنيا تُساوِي مقدار ما تمّ ترْكه ثم إلي ما يُساويها من عذابٍ في الآخرة ، فمَن كان مثلا كاذبا أو سارقا أو خائنا أو منافقا يُظْهِر خيرا ويخفِي شرَّاً أو ما شابه هذا ممّا يُخالِف الإسلام ستَرَاه حتما في ذلةٍ وانكسارٍ وانحطاطٍ علي قدْر سوئه كما يُثبت الواقع ذلك عمليا ، ثم له في آخرته ما يَستحقّه علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره .. " .. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .. " أي هذا تشجيع للناس من الله تعالي خالقهم الكريم لقول وفِعْل كل قولٍ وفعلٍ حسنٍ جميل مُسْعِدٍ للذات وللآخرين في دنياهم وأخراهم ، حيث يُذكّرهم بأنّ كل الأقوال والأفعال تصعد إليه سبحانه وحده لا إلي غيره ، أي يَعلمها ويَرفعها إليه ويَحفظها ويُسَجّلها عنده ويَقبلها ويَرفع من شأن فاعلها ليُجازيه عليها بكل خيرٍ وسعادة ، في دنياه حيث كل عزة ورِفْعَة ومكانة وعوْن وتوفيق وسداد وحب ورضا ورعاية وأمن ورزق وقوة ونصر ، ثم في أخراه حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. " .. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ .. " أي بينما في المُقابِل الذين يفعلون السيئات ، أي الشرور والمَفاسد والأضرار ، بكل أنواعها ودرجاتها ، ومنها تدبير المَكائد ضد الإسلام والمسلمين ، ولفظ المَكْر يُفيد التدبير والترتيب والتخطيط سواء في الخفاء أو العَلَن ، هؤلاء بالقطع لهم عذاب شديد في دنياهم وأخراهم بما يناسب أقوالهم وأفعالهم ، فلهم في الدنيا درجة ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم كل ألم وكآبة وتعاسة ، ثم لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ .. " .. وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴿10﴾ " أيْ وأيضا عليهم أنْ يَنتبهوا تماما ويتأكّدوا أنَّ فسادهم وشرّهم وضررهم ، وكذلك ما يدبّرونه من مكائد ضد الإسلام والمسلمين ، هو بالتأكيد ودائما في بَوَار ، أي كساد وركود وعدم انتشار وخُسران وزوال وبُطلان وانتهاء وانعدام وانقطاع ، وذلك ما دام أهل الخير متمسّكين دوْما بكل أخلاق إسلامهم حيث سيُعينهم حتما ربهم وسيَنصرهم وسيكون لا مجال ولا مكان لمثل هؤلاء بل سيَنْزَوُن ويَنْقَرِضون ويَختفون ويَسعد الناس والخلْق كلهم باختفائهم
وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿11﴾ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴿13﴾ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا .. " أي ومِمَّا يَدُلُّ كذلك – إضافة إلي إحياء الأرض بعد موتها كما في الآية قبل السابقة ﴿9﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ – علي أنه سبحانه قادرٌ علي كلّ شيءٍ وعالِمٌ به تمام العلم وقادرٌ علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، أنه تعالي خَلَقكم أيّها الناس من تراب ، فأبوكم آدم من طين ، وأنتم جميعا من سلالته ، ثم أصبحتم بَشَرَاً ، أي كلاًّ منكم أصبح إنسانا ، وأصبحتم أزواجا أي أصنافا ذكرا وأنثي وتَتَزاوَجُون فيما بينكم ، ثم تَتَكَوَّنون كأجِنَّة علي مراحل دقيقة في بطون أمهاتكم من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الرجل لتَتَّحِدَ مع بويضة من المرأة ، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون وتَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها .. " .. وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ .. " أي هو تعالي يعلم كلّ شيءٍ في هذا الكوْن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة ، فلا يُمكن أن تحمل أيّ أنثي بحملها ولا يُمكن أن تَلِدَ ، سواء أكانت من بني آدم أم من غيره من المخلوقات ، إلاّ بعلمه وبأسبابه وبإذنه وإرادته وتيسيره وتوفيقه ، وهو يعلم جنينها ومولودها وما أجَله وما الذي سيَفعله في كل لحظات حياته وما شابه هذا ، لأنه سبحانه هو خالِقه ومُوجِده ! .. " .. وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ .. " أي كلّ أعمار خَلْقه سبحانه ، سواء عَمَّرَ بعضهم في حياتهم طويلا أم كانت أعمارهم قصيرة ناقِصة عن غيرهم وماتوا قبلهم ، كلها في عِلمه يعلمها تمام العلم بكلّ دِقّةٍ وتفصيل ، ويعلم كل أقوالهم وأفعالهم وتصرّفاتهم وتحرّكاتهم واختياراتهم ونحو هذا ، فكلها مُسَجَّلَة عليهم في هذا العلم التفصيليّ الدقيق في كتابٍ بحيث لا يُزاد فيه ولا يُنْقَص ولا يُمكن لأيّ مخلوقٍ أن يَتَهَرَّبَ مِمَّا فيه يوم القيامة عند الحساب الختاميّ له عَمَّا قاله أو فَعَلَه .. هذا وطول الأعمار ونقصانها هي من حِكَم الله التي يَعْتَبِر بها مَن أراد الاعتبار ليَنتفع بما يَحدث حوله لمَن طال عمره أو بقِصَرِ عُمْر آخرين وموتهم مُبكّرا وما شابه هذا مِن عِبَرٍ مُفيدةٍ مُسْعِدَةٍ في الدنيا والآخرة .. " .. إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿11﴾ " أي كل ذلك الذي ُذكِرَ لكم سابقا وغيره ، مِن خَلْقِكم مِن ترابٍ ثم مِن نُطفة ثم اختلاف أعماركم والعلم بكل أقوالكم وأفعالكم ثم موتكم ثم بعثكم بأجسادكم وأرواحكم لحسابكم علي ما فعلتم ، كلّ ذلك وكلّ شيءٍ هو سَهْل وهَيِّن على الله تعالى لأنه لا يُصعب عليه أيّ شيءٍ على الإطلاق وإنما يقول للشيء كن فيكون فورا كما يريد ... إنَّ ما ُذكِرَ مِن بعض معجزاته ودلالاته سبحانه تَدُلّ وتُرْشِد حتما كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ " أي ومِن بعض مُعجزاته سبحانه أيضا ، إضافة إلي ما ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، وأنه قادر علي كلّ شيءٍ وعلي فِعْل الشيء وضِدّه ، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه ، أنه يَخلق نوعيْن من المياه ، مياه الأنهار العَذْبة أي الحلوة ، الفرات أي الشديدة الحلاوة ، من فَرَتَ العَطَش أي قَطَعه وكَسَره وأزاله ، وهو مُستساغ الطعم مقبول مرغوب مُستطاع الشُّرْب ، ويَخلق أيضا مياه البحار المالحة الأجاج أي الشديدة المُلوحَة ، من الأجيج وهو تَلَهُّب النار لأنّ شربه لا يُستطاع ويَزيد العطشان عطشا وتَعَبا .. " .. وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا .. " أي ومن الآيات والنِعَم أيضا والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها ، أنه مِن كلٍّ مِن مياه الأنهار والبحار تَستخرجون الأسماك واللحوم الطريّة البحريّة والمائيّة وما شابهها للانتفاع بها وللاستمتاع بأكلها ، وكذلك تستخرجون منها أحجارا كريمة كاللؤلؤ ونحوه ممّا تُصَنِّعونه وتَلبسونه فتَتَزَيَّنون وتَتَحَلّون به وتَسعدون .. " .. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ .. " أي وكذلك من الآيات والنِعَم ما جعله الله مِن خَوَاصِّ الماء والهواء أنه يَحمل السفن ولا يُغرقها بل تطفو علي سطحه وتراها – أيها المُشاهِد المُتَعَقّل المُتَدَبِّر – فيه مَوَاخِر أي تسير فيه تَشُقّه بمُقَدِّماتها وتُحْدِث أصواتا أثناء شَقِّها للماء ، مِن مَخَرَ أيْ شَقَّ ، وكل ذلك لكي تستطيعوا الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو ذلك من أفضال وأرزاق ونِعَم الله عليكم المُفيدة المُسْعِدَة لكم .. " .. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ " أي ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها ، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن شاكرين لربهم علي كل نِعَمه ليَجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه .. لكي تشكروا .. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني " يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴿13﴾ " أي ومِن بعض مُعجزاته سبحانه أيضا ، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها ، إضافة إلي ما ُذكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ ، أنه يُولِج الليل في النهار أي يُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا ويزيد أحيانا في أحدهما ما ينقصه من الآخر والعكس ، بما يدلّ بلا أيّ شكّ دلالة أخري عقلية علي أنه قادر علي بعثكم يوم القيامة كما يُميت النهار ويُحي الليل ثم يُميته ويُحي النهار بعده وهكذا .. واعلموا أيضا أنه سبحانه قد سَخَّرَ أي ذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ الشمس والقمر لنفع خَلْقه وجَعَلَهما يسيران بانتظامٍ في فَلَكِهما بكل دِقَّةٍ دون أيّ خَلَلٍ حتي ينتهي أجلهما المُسَمَّيَ أي المُحدَّد لهما حين تنتهي الحياة الدنيا وتقوم الساعة لبدء الحياة الآخرة ، فهو كذلك إذن قادر علي كلّ شيء .. " .. ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ .. " أي ذلك الذي خَلَقَ كلّ هذا وغيره لمنفعتكم ولسعادتكم هو ربكم سبحانه أي مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم ، وهو وحده الذي له الملك كله لا لغيره ولا يُشاركه فيه أيّ مُشارِكٍ ولا يُنازعه أيّ مُنازِع ، وما يَمْلكه الناس فهو مِن تَمْلِيكه لهم وهو يَسْتَرْدّه في أيّ وقتٍ شاء .. " .. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴿13﴾ " أي هو إذن وحده تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، أما الذين يعبدون آلهة غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها فهي مخلوقات مثلهم وهي لا تملك أيَّ شيءٍ في هذا الكوْن حتي تنفعهم به أو تضرّهم بمنعه عنهم حتي ولو كان شيئا تافها أشدّ التفاهة كالقِطْمِير وهو القشرة الخفيفة التي تحيط بنواة التمرة ، فكيف يعبدون هذه الآلهة إذن وهي في غاية الضعف هكذا ؟! إنهم أقوي منها !! وهل يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنَّ هذه الآلهة التي تزعمون أنكم تعبدونها لا تستحقّ العبادة لأنها لا تَتَّصِف بأيّ صفة من صفات الُألوهية ، فهي مثلا لا تسمع شيئا " إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿14﴾ " أي لا تسمع أيّ شيءٍ فكيف تَدْعونها أي تَعبدونها أي تُطيعونها وتَتواصلون معها وتعتمدون عليها وتطلبون منها ؟! ولو ُفرِضَ وسَمِعَت منكم شيئا فلن تستطيع تلبيته لكم لأنها لا تملك حتي القِطْمير !! وحتي لو عَبَدَ بعضكم أحيانا بَشَرَاً ما ، فهو مثلكم ضعيف مُعَرَّض للفقر وللمرض وللموت مهما تَوَهَّمْتم وانخدعتم بقوّته الحالية المؤقتة !! وحتي لو أعطاكم شيئا ما فهو ممّا مَلّكه الله له وليس ملْكه وهو سبحانه الذي يَسَّرَ أسباب عطائه لكم ولو أراد منع هذا العطاء لمنعه كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا ! .. " .. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ .. " أي وليس في الدنيا فقط يكون هذا التّبَرُّؤ منهم لكم ، بل ويوم القيامة أيضا سيُضادّ بعضكم بعضا وسيَتَبَرَّأ كل منكم من الآخر ، الإله المعبود الذي ُأشْرِكَ في العبادة مع الله من العابد المُشْرِك ، والمُشْرِك من إلاهه الذي عَبَدَه لمَّا يراه أنه مثله ليس له أيّ حِيلة ! حيث يومها ستَتكشَّف كلّ الحقائق وستَسقط كلّ الادِّعاءات والافتراءات وسيكون الجميع أمثالكم في أشدّ التعاسة وأعظمها وأتمّها وأخلدها .. " .. وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿14﴾ " أيْ لا أحد يُخبرك بأيّ شيءٍ أصدق وأكمل وأفضل من مثل الخبير به المُتخصِّص فيه ، وليس هناك حتما في الوجود أكثر خبْرة ولا أدَقّ وأعمق علما بكل شيءٍ ما ظهر منه وما خَفِيَ من الله تعالي العليم الخبير ، فتأكّد بلا أيّ شكّ أيها المسلم من هذا الأمر الذي نَبَّأ أيْ أخبَرَ به سبحانه ، ومِن كلّ ما يُخبرك به في القرآن العظيم ، ففيه كل ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك والناس والخلْق جميعا في دنياهم وأخراهم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿15﴾ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿16﴾ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد ، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم ، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره في أيّ وقتٍ أو حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾ .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ .. " أي يا أيّها الناس أنتم المُحتاجون إلي الله تعالي وليس هو قطعا المُحتاج إليكم ، في كلّ شيء ، في كل شئونكم وكل أوقاتكم ، منذ ولادتكم وحتي موتكم وفي آخرتكم ، في صحتكم وقوّتكم ونشأتكم وتربيتكم ورزقكم ورعايتكم وأمنكم ورحمتكم وإرشادكم وعقلكم وعِلمكم وعوْنكم وتوفيقكم وسدادكم ونصركم وسعادتكم ونحو هذا من كلّ ما تحتاجونه في دنياكم ثم أخراكم .. وفي هذا تذكيرٌ لهم بحقيقة أمرهم واحتياجهم له سبحانه تمام الاحتياج لكي لا يعبدوا غيره ولا يتوكّلوا إلاّ عليه ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن وإلاّ لو فعلوا غير هذا لتَعِسوا تمام التعاسة فيهما .. " .. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿15﴾ " أي هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه ، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا ! وهو الحَمِيد أي المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون ، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا ، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات ، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
ومعني " إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿16﴾ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴿17﴾ أي ممّا يَدلّ علي أنكم أنتم أيها الناس الفقراء المُحتاجون إليه وأنه هو الغَنِيّ عن كلّ شيء ، أنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابكم وإنهائكم من الحياة الدنيا في أيّ وقت ، بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره ، والإتيان بعدكم بخَلْقٍ جديد من ذرِّيَّاتكم وذرِّيَّات غيركم كما خلقكم أنتم ، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم ، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق .. فانتبهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم .. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم ، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم .. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير ، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين ، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك ، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح ، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان .. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا ، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان ، والحِكمة في سبب الخِلْقَة ، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين ! وذلك في الآيات ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ " ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ .. " أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيرا فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما .. والوِزْر معناه الحِمْل الثقيل ، لأنّ أيّ ذنبٍ ، أيْ شرٍّ وضررٍ ، هو حِمْل ثقيل يُؤدّي للهَمِّ والنكَد علي قدْره في الدنيا قبل الآخرة ، والوَازِرَة هي الحَامِلَة لهذا الحِمْل الثقيل أي الشخصية التي تَفعل الذنب ، أي لا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها .. " .. وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .. " أي وإذا استَدْعَت وطَلَبَت واسْتَغاثت نَفْسٌ ما مُثْقَلَة بالذنوب أي مُحَمَّلَة بحِمْلها الثقيل منها ، أحداً آخر ليَحْمِلَ عنها ذنوبها التي تَحملها معها يوم القيامة ، لا يُمكن بأيِّ حالٍ أن يَحملها عنها ويَتَحَمَّلها هو ولو بأيِّ شيءٍ من الذنوب ، حتي ولو كان أقرب الأقربين إليها كأبيها أو ابنها أو نحو هؤلاء ، فكل فرد سيَتَحَمَّل وحده نتيجة أقواله وأعماله ، لأنَّ هذا هو تمام العدل ، فالأمر ليس كما كان في الدنيا يُساعد البعض غيره .. " .. إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ .. " أي فقط الذين سيَستمعون لِمَا في القرآن العظيم سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون ما تُسْمِعُونهم إيّاه وتَدعونهم إليه وتُحذرونهم منه أيها المسلمون الدعاة لله وللإسلام ، هم العقلاء الذين يُحْسِنون استخدام عقولهم الذين يَخْشون ربهم أي يخافونه مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله ، فهم يحيون متوازنين بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وهم يخشونه بالغيب أي وهم غائبون عن الناس لا يَراهم أحد (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) كما أنهم مُصَدِّقون تماما بكلّ ما غاب عنهم من ماضٍ ومستقبلٍ ممّا أخبرهم به تعالي كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والحساب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. " .. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ .. " أي ومِن صِفاتهم أيضا أنهم مُقيمون للصلاة أي يقومون بها علي أكمل وجهٍ أي يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يَطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه مِن كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. " .. وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ .. " أي مَن يتَرَقّيَ ويَنمو ويَسْمُو في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات ، من خلال الاجتهاد في التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، فنتائج كلّ ذلك بالقطع ستكون كلها له – لا يَنتفع الله منها بشيءٍ حتما ولا يَضرّه عدم التّزَكِّي بأيّ ضررٍ بل الإنسان هو الذي سيَتضرّر ويَتْعَس في الداريْن – حيث تمام السعادة في الدنيا بحُسن التعامُل مع الآخرين وحبهم له مع تيسير ربه لكل أقواله وأعماله وتوفيقه وسداده فيها وعوْنه عليها وتمام رعايته ورضاه وأمنه وقوّته ونصره ورزقه ، ثم له قطعا في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. " .. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾ " أي ثمّ مصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إلي الله تعالي وحده لا إلي غيره ، وهو أعلم بهم تمام العلم ، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه ، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة ، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ﴿19﴾ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ﴿20﴾ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ﴿21﴾ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿22﴾ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴿23﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ﴿19﴾ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ﴿20﴾ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ﴿21﴾ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿22﴾ " أي كما أنه لا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح ، وبين الظلام الذي لا يُظْهِرُ شيئا وبين النور الذي تَتَّضِح فيه كلُّ الأشياء ، وبين الظلّ ذي النسيم الطيّب المُفيد وبين الحَرُور أي الرياح الحارّة التي تَلْفَح الوجوه وتُؤذيها بحَرِّها الشديد ، وبين مَن هو حَيّ يَتحرَّك ويَنتفع ويَسعد بحياته وبين الميّت عديم الحركة والانتفاع والسعادة ، فكذلك هو الفرق الشاسِع بين المؤمن والكافر ، أي بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله ، وبين المُكَذّب بكل ذلك ، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله ، فالأول قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ به ونَشَرَه لغيره ، بينما الثاني فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم ، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه ، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ .. " أي لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يُمكنه أبدا أن يُحقق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحبّ الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوَفّقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يَشأ منهم لم يَشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرُّشْد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما ، فهو سبحانه عالِم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيءٍ عن خَلْقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يَشأها ولم يَخْترها ، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿22﴾ " أي وهل الميّت في قبْره يَسمع أو يَعقل شيئا ؟!! إنك لن تُسْمِعه قطعا بأيّ شيءٍ أيها الداعي إلي الله والإسلام ، فلا تَحزن علي مثل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يشبههم والذين هم كالأموات في القبور ما دُمْتَ قد أحسنتَ دعوتهم بكلّ قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وهذا هو معني " إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴿23﴾ " أي هذه فقط هي مهمّتك أيها الرسول ﷺ ، ومهمّة كل الرسل قبلك ، ومهمّة المسلمين مِن بَعدك – وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة ، أي مُحَذِرا الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم ، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بَعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ، فليطمئنّوا إذن ولا يَشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم .. ولقد اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم .. هذا ، وكما أنّ المسلمين مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، وهذا هو معني " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴿24﴾ " أي بَعثناك لجميع الناس – ومِن بَعدك كلّ المسلمين – ومعك الحقّ كله ، أي الصدْق التامّ ، وهو القرآن العظيم الذي فيه الإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، لكي تكون مُبَشِّرا لهم أيْ مُخْبِرَاً بالأخبار السارَّة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك بكل ما فيه من أخلاق ، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه .. " .. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴿24﴾ " أي وما مِن أمّة – أي مجموعة من البَشَر – من الأمم السابقة ، إلا وقد جاءها نذيرٌ ثم خَلَا أيْ مَضَيَ وذهَب ، لكي يُنذرها أي يُحَذّرها من تعاسة البُعْد عن الله والإسلام ويدعوها إليهما ، فمَن استجابَ سَعِدَ في الداريْن ومَن لم يَستجب تَعِسَ فيهما .. وذلك من رحمته سبحانه بخَلْقه وحبّه لهم حيث لم يَتركهم أبدا منذ خَلَقهم إلا وأرسل لهم في كل زمانٍ ومكان مَن يدعوهم لشرعه الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿25﴾ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين هما تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
هذا ، ومعني " وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿25﴾ " أي لا تَحزن يا محمد ﷺ ولا تَسْتَثْقِل ذلك ، ولا أنتَ يا كلّ مسلم مِن بعده ، حين يُكذبك المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، فهذا ليس بالأمر الجديد ، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك ، فالأمر ليس تقصيراً منكم ، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به ، فتَشَبَّهوا بهم .. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿25﴾ " أيْ ليس لهم أيّ حجَّة ! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم زُبُرَاً أي صحفا مكتوبة فيها كل الأخلاقيّات والمَوَاعِظ والتشريعات أم كُتُبَاً أكبر من الصحف وختامها القرآن العظيم ، أي أحضروا لهم كلّ أنواع الأدِلّة المختلفة ، وكلها مُنيرة لهم ، أي كالمصباح المُضِيء الذي يُضيء حياتهم حيث يُبَيِّن لهم أين النور من الظلام وأين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة في كلّ شئونهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تماما في دنياهم ثم ليكون لهم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. ولكنهم مع كلّ هذا لم يَستجيبوا وظَلّوا مُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم
ومعني " ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿26﴾ " أي ثمّ لمّا أصَرَّ الذين كفروا علي كفرهم أي تكذيبهم بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، واستمرّوا علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ولم يستجيبوا لربهم ولإسلامهم ، أخذتهم ومَن يشبههم ممَّا هم فيه ، أي عذّبتهم وأهلكتهم ، فانظروا وتَدَبَّرُوا أيّها العقلاء كيف كان إنكاري الشديد العجيب علي أمثالهم أيْ رفضي وغضبي لهذا المُنكر الذي أصَرُّوا واستمرّوا علي فِعْله بأنْ عَاقبتهم بسببه بصور العذاب المختلفة كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها ، ولم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ مِن الحياة﴾ ، إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما !! فليَحذروا ذلك إذن وليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا قبل فوات الأوان .. وفي هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿27﴾ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنتَ استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومُعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكٍّ بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وعوْنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ من الذين يعيشون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء في رحمته (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن التوَازُن بين الخوف والرجاء﴾
هذا ، ومعني " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا .. " أي ألم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، وألم تشاهدوا وتتدبّروا وتعلموا أيها الناس ، والاستفهام للتقرير أي لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك ، أي لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله تعالي مِن تمام قدْرته وعلمه يُنزل الماء من السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة ، وبعضها له مَرَارة ليُنْتَفَعَ به في الدواء ونحوه ، رغم أنَّ الماء واحد ، فسبحان الخَلاّق العليم ، فاشكروه علي كل هذه النِعَم التي لا يُمكن حصرها واعبدوه هو وحده لتسعدوا في الداريْن .. " .. وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿27﴾ " أي وأيضا من تمام قدْرته وعلمه سبحانه أنه يَخْلق الجبال ويجعل منها جُدَدَاً أي قِطعا وعلامات وخطوط مختلفة الألوان – جَمْع جُدَّة – فمنها الأبيض والأحمر والشديد السَّواد ومنها ما ليس كذلك .. وغَرابيب جمع غِرْبيب أي شديد السَّوَاد ، وغرابيب سُود أي سوداء جدا شديدة السَّوَاد كما يُقال مثلا أبيض شديد البَيَاض وليس بَيَاضَاً عادِيَّا
ومعني " وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28﴾ " أي ومِن معجزاته وقدْراته التامّة أيضا تغيّر ألوان بشرات الناس بين البياض والحُمرة والصُّفرة والسواد بسبب التزاوج فيما بينهم ، وأيضا تغيّر ألوانهم بمعني أشكالهم وأصنافهم وملامِحهم فلا يمكن أبداً أن تجد إنسانا شكل الآخر تماما ! ولو كان يحدث هذا لَوَقَعَ الخلاف وضاعَت الحقوق بينهم كثيرا ! وكذلك ألوان وأشكال وأصناف وملامِح الدوابّ وهي كلّ ما يَدبّ علي الأرض غير الإنسان ، ومنها الأنعام وهي حيوانات البقر والإبل والغنم والماعز وما شابهها ، فسبحان الخالق العظيم .. " .. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .. " أي العقلاء هم فقط الذين يَخْشَوْن ربهم ، وهم الذين يُحسنون استخدام عقولهم في تَأَمُّل آيات الله سبحانه ومُعجزاته في كوْنه وفي تَدَبُّر قرآنه وإسلامه والعمل بكلّ ما فيه ممّا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في كل شئون ولحظات حياتهم ثم في آخرتهم ، وكلمّا ازدادوا تأمُّلاً وتَدَبُّرا وتَعَلّما وعَمَلاً به كله كلما ازدادت خشيتهم بكل تأكيد كما يثبت الواقع ذلك ، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله ، ولذا فمثل هؤلاء يحيون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء في رحمته (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ ، وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. وفي هذا مَدْحٌ لهم وتشجيعٌ للاستمرار علي ذلك .. " .. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28﴾ " أي هو تعالي غالِب لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالك الملك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو في ذات الوقت غفور أي كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، ورحيم رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوْسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴿30﴾ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿31﴾ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿32﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿33﴾ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿34﴾ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴿35﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴿36﴾ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿37﴾ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿38﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا أقمتَ الصلاة ، أيْ قُمْتَ بها علي أَقْوَم وجْهٍ ، أيْ أحسنتها وأتقنتها ، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. وإذا كنتَ مُنْفِقَاً لا مُمْسِكَاً ، بتَوَسُّطٍ واعتدال ، علي ذاتك ومَن حولك وعموم الناس بل وعموم الخَلْق ، مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقك به عليك من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيع استصحابه من نوايا خيرٍ في عقلك بما يُسعد كل لحظات حياتك أنت ومَن حولك وبما يجعل لك أعظم الأجر في آخرتك
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ " أي الذين يتّبِعون في كل شئون حياتهم في كل أقوالهم وأعمالهم هذا القرآن العظيم ، مِن يَتلو الشيء أي يَجيء بعده ويَتْبَعه ، ويتلونه أيضا أي يقرأونه بكل تدبُّر وتعَمُّق ويعملون بما فيه كله ، لكي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ .. " أي ومِمَّا يتمسَّكون به من إسلامهم أنهم يقومون بالصلاة علي أكمل وجهٍ أي يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يَطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. " .. وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ .. " أي وأيضا يُنفقون ولا يَبخلون ، بتَوَسُّطٍ واعتدال ، علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق ، مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. سِرًّا وَعَلَانِيَةً .. " أي يُحسنون تقدير المواقف عند إنفاقهم ، فهُم إمّا يُخفون هذا الإنفاق لعدم إيذاء أحدٍ مثلا أو للبُعد عن طَلَب الشهرة والسُّمْعَة والمنصب والجاه والمدح الكاذب وغيره من صور الرياء وما شابه هذا من خير ومصلحة ، وإمّا يُظهرونه لتشجيع الآخرين علي مثله أو ليكونوا قدْوة حَسَنة لغيرهم ونحو ذلك من مصالح وخيرات ، وهو سبحانه خبير بحُسن النوايا بالعقل أو سوئها فهو يعلم السرّ وأخفيَ منه وهو الذي سيُجازي علي الخير خيرا أعظم وعلي الشرّ شرا بما يُناسبه أو يعفو .. " .. يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ " أي مثل هؤلاء يَطلبون تجارة لن تَخسر أو تَكْسَد أو تهلك أبدا ويَتمنّونها ويُحسنون العمل لها ، لأنها أفضل تجارة ، لأنها مع الله الخالق الكريم مالك الملك كله صاحب الأفضال والرحمات الذي لا يُخلف وعده مُطلقا والذي يُعطي من كل عطاءٍ بغير حساب ، إنهم حتما وبكل تأكيد قد فازوا بأعظم وأضمن تجارة رابحة ، إنّ ربحها هو تمام الخير والسعادة في دنياهم ثم أخراهم .. وهذا هو معني " .. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ .. " أي فَعَلوا كلّ هذا لكي يُعطيهم خالقهم سبحانه أجورهم عليها والتي وعدهم بها وافية أي كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ ، وذلك في الدنيا قبل الآخرة ، ولقد حَدَثَ لهم بالفِعْل ما رجوه وتَمَنّوه وطَلَبوه وأحسنوا العمل له حيث تمَّ لهم كل الخير والسعادة فيهما ، وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ ، وهذا هو تمام العدل ، ولكنه سبحانه هو الكريم العظيم مالك الملك كله ، فلا يَكتفِي بهذا ، بل يَزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات .. " .. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴿30﴾ " أي هو تعالي يفعل كل ذلك لأنّه هو الذي له كل صفات الكمال والتي منها أنه غفور أي كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، ورحيم رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوْسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ ، وذلك لأنه أثناء تجارتهم مع الله تعالي بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام قد يَقعون في بعض الذنوب فهو يغفرها لهم ، وهو أيضا شكور أي كثير الشكر أي يَقبل القليل من عمل الخير ويُعطي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خير حتي ولو كان قليلا ليكون تشجيعا له علي الاستمرار فيه والزيادة منه فتزداد بذلك سعادة فاعله في الداريْن
أمّا معني " وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿31﴾ " أي هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم الذي أوحيناه إليك لتُبَلّغه للناس ليَعْمَلوا به ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم هو بالتأكيد الحقّ كله ، أي مُشْتَمِل مُحافِظ عليه مُختلِط تماما به مُلازِم مُوَجِّه دائما له ، أي هو الصدق والعدل والخير كله ، أيْ ليس فيه أيّ باطل أو كذب أو ظلم أو شرّ ، بل فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وهو مُصَدِّق أي مُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لِمَا بين يديه أي لمَا قبْله من الكتب السابقة التي أوحيناها للسابقين من خلال رسلهم قبلك – وليس مُخَالِفا لها بل يُصَدِّق الحقّ الذي فيها وهي صَدَّقته حيث بَشَّرَت به قبل مَجِيئه وكان فيها ما يَتَطَابَق معه وذلك حتي يَثق فيه مَن كانوا مُتَّبِعِين لها سابقا فيَتَّبِعُوه – والتي كانت تُناسِب عصورها ليكون القرآن خاتما لها وصالِحا مُناسِبا مُسْعِدَاً لكلّ البَشَريّة في كل الأزمنة والأمكنة بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة .. " .. إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿31﴾ " أي عليمٌ بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول وبما يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البَشَر في الدنيا والآخرة .. عليمٌ خبيرٌ بهم جميعا وبما عملوه ، وسيُخبرهم به يوم القيامة بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة ، ومَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ومَن عمل منهم شرّا فله فيهما ما يستحقّه من عقابٍ بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم .. وهو سبحانه بصير ، أي دوْما يُبصر أي يَرَيَ كلّ أعمال خلْقه ويَعْلمها تمام العلم .. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كل خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿32﴾ " أي بَعدما نُرْسِل الرسل ، نُعْطِي كُتبنا ، وخاتمها القرآن العظيم ، أي نُعطي الإيمان بالله والتمسّك بالإسلام ، لمَن يَصطفيه ، أي لمَن يَختاره ، أي لمَن يَختار ذلك بكامل حرية اختيار إرادة عقله علي بقية الأنظمة المخالِفة له ، فمِثْل هذا نَصطفيه ، أي نَختاره ، أي لَمَّا اختارَ هو أولا الله والإسلام ، اختاره الله بعد ذلك لهما ، ليكون معهما ، أي يَسَّرَ له أسباب هذا ووَفّقه وسَدَّدَ خُطاه نحوهما (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وهذا الاصْطِفاء أي الاختيار وهذا التوريث للقرآن لهم من أفضل الخلق وهم الرسل هو تكريمٌ عظيمٌ من الله تعالي للمسلمين ، فليشكروه تمام الشكر علي إسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم بهذا الاختيار ، وليجتهدوا تمام الاجتهاد في أن يكونوا علي مستوي هذا الاختيار ، وذلك بالتمسّك التامّ الجادّ بكلّ أخلاق قرآنهم وإسلامهم ، وإلا لو تركوها بعضها أو كلها فسيَفقدون بالقطع امتيازات هذا الاختيار وسيَتعسون في الداريْن بتعاسةٍ تُساوِي مِقْدار تَرْكهم لها .. " .. فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ .. " أي مِن هؤلاء الذين أسلموا ، مَن يظلم نفسه فيُتعسها بأن يَفعل الشرور ويُكثر منها حتي تزيد عن خيراته أي تَغْلِب سيّئاته حسناته .. " .. وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ .. " أي وبعضهم يكون مُقْتَصِدا أي مُعتدلا بين الخير والشرّ – من الاقتصاد أي التوَسُّط في الأمر – أي يُساوِي بين حسناته وسيئاته .. " .. وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله .. " أي والبعض مُسَارِع لكل خير مُجتهد فيه مُبتَعِد عن كل شرّ تائب منه سريعا لو ُفرِضَ وَوَقَعَ فيه ، وهذا ولا شكّ يكون بإذن الله ، أي بتيسيره أسبابه له وتوفيقه إيّاه فيها ، لَمَّا يراه هو أولا يَسعي ويَجتهد في التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، فيُعينه حينها علي المزيد منها ، كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق لا يُخْلَف مُطْلَقا : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " ﴿العنكبوت : 69﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيد من الشرح والتفصيل) .. " .. ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿32﴾ " أي ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره من الاصطفاء والتوريث والمُسَارَعَة في كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ وتيسير أسباب التمسّك بكل أخلاق الإسلام والتي هي السبب الأساس في تمام السعادة في الدنيا والآخرة ، لا شكّ وحتما هو الفضل الكبير من الخالق الكريم الرحيم الودود ، أي هو العطاء الواسع الزائد المُتَزَايِد الذي لا يُقَارَن علي الإطلاق ، أي هو أكبر عطاء يُمكن أن يَناله الإنسان ، فاجتهدوا وسارِعوا جميعا أيها الناس لتكونوا كلكم كذلك ، لتكونوا كلكم من السابقين بالخيرات ولا تكونوا من الظالمين أو المُقْتَصِدين ، لتتمّ سعادتكم في الداريْن .. وفي هذه الآية الكريمة تبشير وتشجيع لكل مسلم
ومعني " جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿33﴾ " أي هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم من المسلمين الوارثين للكتاب السابقين بالخيرات والمُقْتَصِدين يُدخلهم الخالق الكريم الودود الغفور الرحيم يوم القيامة جنات عَدْن أي بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم – وأيضا الظالمين لأنفسهم من المسلمين الذين غَلَبَت سيئاتهم علي حسناتهم كذلك سيَدخلونها بعفو الله أو بَعد نَيْل عقوبةٍ مساويةٍ لشرورهم – ويَتَزَيَّنون فيها بكل ما يُسعدهم كأساور الذهب واللؤلؤ والملابس الحريرية وما شابه هذا ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر
ومعني " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿34﴾ " أي وعندما يدخلون الجنة يحمدون الله تعالي حمدا كثيرا علي أنْ أبْعَدَ ومَنَعَ عنهم أيّ نوع من أنواع الحُزْن والغَمّ والهَمّ والألم والنَّكَد وكلّ ما هو عكس السرور ، فهم لا يُصيبهم يوم القيامة مثلما يُصيب الآخرين الذين ارتكبوا الشرور والمَفاسد والأضرار بكل صورها من آلام انتظار الحساب وابتدائه واستمراره والعقاب والعذاب بعده ونحو هذا ، كما أنهم لا يَحزنون لأيّ خيرٍ يفقدونه في الجنة لأنهم في الخير التامّ المُتَزَايد والسعادة اللانهائيَّة .. " .. إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿34﴾ " أي هو تعالي يفعل كل ذلك لأنّه هو الذي له كل صفات الكمال والتي منها أنه غفور أي كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، ورحيم رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوْسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ ، وذلك لأنهم أثناء تجارتهم مع الله تعالي بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام قد يَقعون في بعض الذنوب فهو يغفرها لهم .. وهو أيضا شكور أي كثير الشكر أي يَقبل القليل مِن عمل الخير ويُعْطِي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الآخرة أضعافا كثيرة – إضافة إلي ما أعطاه في الدنيا – بما يُناسب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خير حتي ولو كان قليلا
ومعني " الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴿35﴾ " أي وممّا يقولونه أيضا الحمد لله الذي أذهب عنّا الأحزان والذي أنزلنا وأدخلنا كذلك دار الإقامة الدائمة بلا نهاية أي أعطانا هذه المَنْزِلَة وهي الجنة ببساتينها وقصورها ونعيمها التامّ الذي لا يُقارَن ، والتي لن يُصيبنا أو حتي يَلمسنا فيها أيّ نَصَب أيْ تعب ولا أيّ لغوب أيْ درجة أعلي مِن هذا التعب وهي الضعف الشديد والهزال بسببه ، وبالجملة ليس فيها أيّ تَعَبٍ جسديٍّ أو نفسيٍّ أو غيره ، وهذا كله من فضله أي عطائه الزائد اللانهائيّ حيث أعمالنا لم تكن تُساوِي كلّ ذلك العطاء والنعيم المُقيم الدائم الخالد
أمَّا معني " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴿36﴾ " أي وفي مُقابِل السعداء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ، هناك التعساء وهم الذين كفروا بالله أي لم يَصَدِّقوا بوجوده ولا برسوله ﷺ ولا بقرآنه ولا بآخرته ولا بحسابه وعقابه وجنته وناره ، فمِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لهم أشدّ العذاب بكل أنواعه وكلّ درجاته علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، وهو عذاب دائم مستمرّ مُتَنَوِّع في كل لحظة إلي ما شاء الله ، فلا هم يُقْضَيَ عليهم بضربةٍ قاضيةٍ فيَموتوا حتي يرتاحوا ممّا هم فيه ولا هم يُخَفّف عنهم منه أيّ شيءٍ بل هم مستمرّون فيه بلا أيّ أملٍ في أيّ خيرٍ فهم في يأسٍ تامّ .. " .. كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴿36﴾ " أي بمِثْل هذا العذاب المستمرّ الدائم المُتَنَوّع يكون جزاء أيْ عقاب كل مَن كان مثلهم
ومعني " وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿37﴾ " أي وأثناء عذابهم الشديد في النار يَستغيثون ويَطلبون النّجْدَة وهم يَرفعون أصواتهم بالصراخ الشديد المصحوب بالتعب والخوف والندم والحَسْرَة ويَعترفون بأنّ الله تعالي الذي كانوا يكفرون به هو ربهم ويُقِرُّون بأنهم كانوا يعملون كل ما هو سَيِّء لا صالح ويقولون بِذِلّةٍ ربنا أخرجنا ممّا نحن فيه وأعِدْنا إلي الدنيا مرة أخري وستَرَيَ أننا سنُؤمن بك وسنَعمل الصالح الذي هو في الإسلام ولا نعمل الشرّ الذي كنا نعمله .. " .. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .. " أي يَرُدّ عليهم سبحانه بذلك القول قاطعاً لهم كلّ أملٍ ولائما لوما شديدا وحاسما لكي يَخْرَسُوا ولا يَنطقوا ويتأكّدوا أنّ نَدَمَهم ليس في مَحلّه فقد انتهي وقت العمل وجاء وقت الحساب وهم ليس لهم أيّ عُذر فلقد عَمَّرَهم في دنياهم بما يَكْفِي لأنْ يَتَذكّر مَن أراد التذكُّر ويعود لربه ولإسلامه مِن خلال إحسان استخدام عقله والعودة لنداء الفِطْرة بداخله (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ومِن خلال النذير الذي جاءهم كالرسل وخاتمهم رسولنا الكريم محمد ﷺ وكالكتب التي فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم وخاتمها القرآن العظيم وكالمسلمين الذين كانوا يدعونهم لربهم ولدينهم وكالأحداث والعِبَر والدروس حولهم في حياتهم الدنيا وما شابه هذا مِن نُذُر ، ومع كلّ ذلك فلم يستجيبوا بل كذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا ورَاوَغُوا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿37﴾ " أي وبناءً علي كلّ ذلك وبسببه فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنه ليس لكم إلا أنْ تذوقوا ألم العذاب الذي تستحِقّونه لأنكم كنتم مِن الظالمين أي المُرتَكِبين لكل أنواع الظلم أي الشرور والمَفاسد والأضرار والذين بالقطع لن يكون لهم أيّ ناصرٍ ينقذهم ممّا هم فيه ، فالظالم لا يُمكن أبدا أنْ يُنْصَرَ ويُعَان وإنما يُمْنَع ويُعاقَب
أمّا معني " إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿38﴾ " أي هو تعالي بكل تأكيدٍ عالمٌ بكلّ شيءٍ في الكوْن بما فيه الغَيْب ، أي عالمٌ بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم ، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل ، لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة ويعلم السرّ وما هو أخْفَيَ منه ، وهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفِكْرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة ، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، ولفظ " عليم " جاء بصيغة المُبَالَغَة – والذي يعني كثير العلم التامّ الشامل – عند الحديث عمّا بداخل العقول ليكون الناس شديدي الحَذَر بأنْ يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ وأنَّ حسابهم يوم القيامة سيكون بتمام العلم والدِّقّة والعدل حيث خالقهم يعلم عنهم كلّ شيءٍ بكلّ تفاصيله
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴿39﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ ۚ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض (برجاء مراجعة الآية ﴿14﴾ من سورة يونس " ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في هذه العبادة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴿39﴾ " أي هو وحده سبحانه الذي جعل الناس خلائف – جمع خليفة – له في الأرض ويَخْلف بعضهم بعضا جيلا بعد جيل لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه ، وكرَّمهم بأن وَثَقَ فيهم وجعلهم خُلَفاء نُوَّاباً عنه تعالي يُسَيِّرُون شئونها بما أوصاهم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ ليُسْعِدوا ذواتهم وغيرهم والكوْن كله (برجاء مراجعة الآية ﴿14﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. فكونوا إذن نِعْمَ الخُلَفاء ، بعبادته تعالي وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وبشكره وحده علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خير ٍدون أيّ شرّ وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، وبالتمسّك بكل أخلاق إسلامه دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وبذلك تَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. ثم أيضا بما أنه سبحانه قد جعلكم خُلَفاء لمن سَبَقكم من الأمم السابقة ، فاعْتَبِروا إذن بما أصابهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا تفعلوا أبداً مثلهم حتي لا تتعسوا كتعاستهم في الداريْن .. " .. فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ .. " أي فمَن لم يُحْسِن الخلافة في الأرض ولم يشكر هذه النِعَم بعد هذا كله ولم يعمل بالإسلام بل كَفَرَ بالله أي لم يُصَدِّق بوجوده ولا برسوله ﷺ ولا بقرآنه ولا بآخرته ولا بحسابه وعقابه وجنته وناره ، وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار ، فإنَّ كفره حتما عليه هو لا علي غيره ، أي هو الذي سيُعَاقَب في دنياه وأخراه علي قَدْر فِعْله ولن يَحمل بالتأكيد عنه أيُّ أحدٍ أيَّ شيءٍ مْن هذه العقوبة فهذا هو العدل التامّ ، أيْ هو الذي في الدنيا سيكون له قطعا درجةٌ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة له كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم سينتظره بالقطع في الآخرة ما هو أتمّ تعاسة وأعظم وأشدّ وأخلد .. " .. وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا .. " أي كلما ازداد الكافرون استمرارا في كفرهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ولم يستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ، كلما ازداد مَقْت الله تعالي عليهم ، أي لم يَزدهم ذلك عنده سبحانه إلا زيادة في المَقْت أي في الكراهية الشديدة لهم والغضب عليهم والعقاب لهم بما يستحِقّونه ، .. " .. وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴿39﴾ " أي كلّما استمرّوا في كفرهم كلما ازدادوا حتما خُسْرانا أي تعاسة في دنياهم وأخراهم من أثر تَجَمُّع تعاسات شرورهم وتَرَاكُمها يوما بعد يوم ، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لمِثْل أفعالهم .. وهذا عَكْس حال المؤمن تماما الذي كلّما طالَ عمره وحَسُنَ عمله كلما ازداد خيرا علي خير وسعادة علي سعادة في دنياه وأخراه من كثرة تَرَاكُم أعماله الخيريّة
أمّا معني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴿40﴾ " أي قل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بَعده لهؤلاء المشركين أي الذين يعبدون آلهة غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها ، قل لهم أخبروني عن شركائكم ، عن آلهتكم هذه التي تَدْعونها أي تعبدونها غيره سبحانه وأرُونِي أي أطْلِعُوني وعَرِّفُوني بها وقد جعلتموها كذبا وزورا شريكا له في العبادة ، أروني إيّاها علي أرض الواقع حتي نَرَيَ سَوِيَّاً هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقدرة عليه والعلم به أم لا ؟! وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكل حجَجهم الوَاهِيَة حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي – ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته حينما يُلام عمليا هكذا – لأنهم بالقطع لن يُطْلِعوه علي شيءٍ لأنهم يعلمون أنه يَرَيَ هذه الآلهة ويَعلمها بالفِعْل وأنهم يُصابون بالخِزْي والعار حينما يُواجههم أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويسألهم هل هي آلهة حقيقة أم لا ، وذلك لأنهم يعلمون تماما أنها لا تقدر علي أيّ شيءٍ ولم تخلق شيئا بل هي مخلوقة مثلهم بل هي أضعف منهم ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فليُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ .. " أي وأيضا أخبروني إذا كانوا لم يَخلقوا أيَّ شيءٍ من الأرض فهل حتي قد اشتركوا في خَلْق أيِّ شيءٍ فيها أو في السماوات حتي يَسْتَحِقّوا المُشَارَكَة معه تعالي في العبادة ؟! إنَّ الإجابة منهم بالقطع ستكون لا !! وهذا الاستفهام هو لَوْمٌ شديدٌ وتَأْنِيب آخر لهم ورفض لأفعالهم وأقوالهم .. " .. أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ .. " أي وهذا أيضا تأنيب ولوْم ورفض ثالث لهم لعلهم يَستفيقون ، أيْ أخبروني هل أعطاهم خالقهم الكريم كتاباً ما كالقرآن مثلا فيه إقرار منه لهم بمُشَارَكَة هذه الآلهة المزعومة إيّاه في الخَلْق والعبادة فيكونوا بذلك علي بَيِّنَةٍ مِن الذي هم عليه مِن الشرك أيْ مُسْتَنِدين إذن بالتالي علي حجَّة واضحة ودليل ظاهر علي صواب ما هم فيه ؟! .. إنهم إذن ليس لهم مُطلقاً أيّ حجَج علي شركهم !! .. هذا ، ويُفْهَم مِن هذا المَقْطَع من الآية الكريمة أنَّ علي المسلم دَوْمَاً أن يَتَثَبَّت تماما من كلامه ويكون له دليل عليه بشيءٍ مُشَاهَد مِن أرض الواقع أو بخَبَرٍ مَنْقول مُوَثّق .. " .. بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴿40﴾ " أي لكنَّ أمر شركهم ليس بالقطع بسبب أيٍّ من هذه الأسباب علي الإطلاق ! وإنما هو بسبب أنَّ الظالمين دائما لا يَعِدُ بعضهم بعضا إلا بالوعود الكاذبة التي تَغُرّ أيْ تَخدع وتَضرّ وتُتعِس والتي ليس فيها أيّ نفع وخير وسعادة ، وما هذا إلا بسبب تعطيل العقول من أجل الحصول علي أثمان الدنيا الرخيصة .. هذا ، والظلم له صور كثيرة سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر أو صنم أو حجر أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿41﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الشاكرين دائما لِنِعَم الله تعالي والتي لا تُحْصَيَ ، يشكرونها بعقولهم بأن يستشعروا قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي يجدوها دوْما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿41﴾ " أي هو وحده سبحانه – وليس معه أيّ شريكٍ آخر مِن آلهةٍ مَزْعومة كأصنامٍ أو أحجار أو غيرها ممَّا يَعبدها بعض السفهاء المُخْتَلّين – القادر بتمام القُدْرة والعلم علي أن يُمْسِك أي يَمنع السماوات والأرض مِن أن تزولا أيْ تَختفيا وتَنتهيا وتَتلاشَيَا ، ولو ُفرِضَ وبدأتا في الزوال والاضطراب والفناء واستمرّت فيه لا يُمسكهما أيْ يَمنعهما مِن هذا الزوال أبداً أيُّ أحدٍ غيره تعالي .. " .. إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿41﴾ " أي كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال ، كان تعالي حليما أي كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم ، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة .. وكان أيضا غفورا أيْ كثير المغفرة الذي يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم ، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. ولكلّ هذا فهو سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴿42﴾ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيراً ﴿44﴾ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا ، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما .. وإذا كنتَ متأكّداً بلا أيّ شكٍّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا عشتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ ، وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
هذا ، ومعني " وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴿42﴾ " أي بعض الناس يَحْلِفون بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكلّ ما يستطيعونه مِن أيْمانٍ أنه لو حَضَرَ لهم نذيرٌ وعَلِمُوا به ، أي مَن يُحَذّرهم ويَدعوهم من المسلمين لاتّباع الخير والسعادة من خلال اتّباع القرآن العظيم والرسول الكريم ﷺ ، سيكونون أكثر هداية وأسرع وأشدّ استجابة مِن غيرهم ، مِن أيِّ أمّة مِن الأمم التي لم تَسْتَجِب أو استجابت ولكن ليس بصورة تامّة ولكنهم هم سيكونون أفضل منهم حيث سيَستجيبون تماما ! .. لكنْ لَمَّا يَجيء إليهم ما كانوا يَطلبونه لم يَستجبوا كما وَعَدوا وأقسَمُوا ولا يَزيدهم هذا المَجِيء إلا نفوراً أي بُعْداً عن الحقّ والعدل والخير والسعادة وكراهية له واشْمِئْزَازاً منه !! بل يزدادون قُرْبَاً وتَمَسُّكَاً بالباطل والضلال والضياع والظلم والشرّ والتعاسة !! بما يَدلّ بكل تأكيدٍ وبلا أّيِّ شكٍّ أنهم كانوا كاذبين مُرَاوِغِين في قَسَمِهم ووَعْدهم !! .. إنَّ مثل هؤلاء إمّا أن يكونوا كافرين أي يُكَذّبون بوجود الله أصلا أم مُشركين أي يعبدون غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أي يُظهرون الخير ويخفون الشرّ أم ظالمين أي يَعتدون علي الآخرين ولا يَعدلون بينهم أم فاسدين يَنشرون الفساد والشرّ أم ما شابه هذا .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فإيّاكم ثم إيّاكم أيّها المسلمون الذين تَجتهدون في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء حتي لا تَتعسوا كتعاساتهم في دنياكم وأخراكم
أمّا معني " اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾ " أي بعد مَجِيء النذير الذي ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ لم يزدادوا إلا نفورا واستكبارا في الأرض أي تَعَالِيا علي الله والإسلام والناس ومَكْرَاً سيِّئَاً أيْ عَمَلاً لكلّ ما هو قبيح سَيِّء مُضِرّ مُتْعِس ، وبالجملة فقد استمرّوا في كفرهم وشِرْكهم ونفاقهم وكذبهم وعِنادهم واستهزائهم واستكبارهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بل وازدادوا فيها وأصَرُّوا إصرارا شديدا عليها ونَشْرَاً لها وخِداعا لغيرهم بحُسْنِها ليَتَّبِعوها ، وكلّ ذلك مِن أجل تحصيل مكاسبهم الدنيوية الرخيصة .. " .. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ .. " أي لا يُمكن أبدا أن يُحيط ويَحلّ ويَنزل الفِعْل والتدبير السَّيِّء الشرِّيّ بأحدٍ إلا بمَن يَفعله فيَعود أثَرُه المُضِرّ المُتْعِس عليه وذلك علي المَدَيَ البعيد ، بسبب أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحْسَنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) ، وهو سبحانه خير المَاكِرين (برجاء مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة الأنفال " .. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " ، ثم الآية ﴿50﴾ من سورة النمل " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " ، ثم الآية ﴿34﴾ من سورة النحل " فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وحتي ما قد يُصيب أهل الحقّ والخير مِن بعض مَكْرِ أهل الباطل والشرّ فهو لن يكون بفضل الله إلا بقليلٍ من الأذي المُحْتَمَل كما يقول تعالي : " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى .. " ﴿آل عمران : 111﴾ ، ويقول : " .. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا .. " ﴿آل عمران : 120﴾ ، ويقول : " وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ " ﴿آل عمران : 141﴾ (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات الكريمة حتي تكتمل المعاني﴾ .. فكل ما يُصيبهم إذن مِن ضَرَرٍ أو اختبارٍ ما فسيَخرجون منه حتما مع الوقت مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. فدائما وقطعا " .. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " ﴿القصص : 83﴾ أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما ودوْما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. فالخلاصة إذن أنه في كلّ الأحوال مَن يُمْكَر به فهو الفائز في الداريْن علي المَدَيَ البعيد والماكِر هو الخاسر فيهما وعقابه علي قدْر مَكْره حتي ولو ظهر أحيانا علي المَدَيَ القريب عكس ذلك .. وحتي علي المدي القريب أيضا فإنَّ الذي يُدَبِّر المكر السَّيِّء يكون منذ وقت ابتدائه لمَكْره في كلّ قلقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وصراع وأحيانا اقتتال مع مَن مَكَرَ به وغيره وبالجملة فهو يكون في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا .. " .. فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ .. " أي ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه ؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما ؟! بالقطع لا !! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا سُنَّة الأوَّلِين أي طريقة الله في عقاب السابقين أمثالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم .. " .. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾ " أي هذه هي طريقتنا دائما في التعامُل مع مثل هؤلاء ، يُمْهلهم الله ولا يُهْملهم ، ولا يُمكن أبداً لأيِّ أحدٍ أن يُغِيِّرها ، فلن تَرَيَ أيها المُشاهِد للأحداث لها مُطلقا أيّ تبديلٍ أيْ أن يَضَعَ مثلا أحدٌ طريقة غيرها مكانها أو أن يُبدِّل العذاب بغيره ، ولن يكون لها مُطلقا أيّ تحويلٍ عمّا تسير عليه وتتحرّك به ونحوه فهي لن تَتَحَوَّل عن مُسْتَحِقّي عذابهم إلى غيرهم ولن تنكشف أو تمتنع عنهم .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ليَستفيقوا ليَسعدوا كما أنه طَمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم لابُدَّ حتما ناصرهم ومُعِزّهم ومُسْعِدهم في الداريْن
ومعني " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيراً ﴿44﴾ " أي هل لم يَتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا ويَنظروا ويُشاهدوا بأبصارهم ويَتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يَرَوْنَ بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها ؟! .. وفي هذا السؤال في الآية الكريمة توسيع لدائرة التدبُّر ، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته ، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه .. " .. وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً .. " أي لم يكونوا ضِعافا بل كانوا شديدي القُوَيَ من كل أنواعها الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها ، وكانوا كثيري الإثارة للأرض أي التقليب لها وحرثها وحفرها وتهييجها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها ، وكانوا كثيري التعمير لها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا .. لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم !! .. فمَن كان أضعف منهم فليكن إذن أكثر حذرا فيؤمن بربه ويتمسّك بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب ! .. " .. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ .. " أي ليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا ، أم حتي مؤمنا ، أم أيّ مخلوق ، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه ! فهو مُلكه ! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه ! فليس الله تعالي الذي يُمْكِن أو حتي يُتَخَيَّل أن يَحدث معه هذا !! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا ، كل الخلق في الأرض ، وكل الخلق في السماء ، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا ! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك ! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه ! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء ! .. " .. إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيراً ﴿44﴾ " أي كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال ، كان تعالي عليما أي هو سبحانه عليم دائما بكلّ شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو يعلم كلّ ما يُصلح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويعلم كل ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرا .. وهو تعالي كان قديرا أي قطعا قادِراً علي كلّ شيءٍ ولا يمنعه أيّ شيءٍ عن فِعْل أيّ شيءٍ في أيّ لحظة وأي مكان حينما يشاء ، فكل ذلك عليه يسير ، ولا يحتاج إلا فقط لقول كُن ، فيكون الأمر كما يريد ! .. وقد اختار سبحانه هاتين الصفتين وهو الذي له كل صفات الكمال لمناسبتهما لسياق ومعاني الآية الكريمة
ومعني " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴿45﴾ " أي هو سبحانه يُخْبِر عن حِلْمه وأنَّ رحمته دائما تَسبق غضبه فهو لا يُعذب الناس أو يُهلكهم فورا بمجرّد ما يَكسبونه أي يَفعلونه مِن شرّ ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا ، وإلاّ لو فَعَلَ هذا لم يُتْرَك أحدٌ علي وجه الأرض هو وما يملكه من دوابّ وأرزاق ! لأنه حتي المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم مُعَرَّضِين كأيّ بَشَرٍ لفِعْل أيّ خطأ ! لكنه من رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه يُمْهِلهم أي يَتركهم ليُصَحِّحوا ذواتهم ليَسعدوا بحياتهم ، وإلاّ فلماذا خَلَقهم أصلا إذا كان سيَقضِي عليهم بمجرّد خطئهم ؟! إنَّ الحياة ستَنتهي بهذا حتما ! وهل هناك مِن صانع ٍما يُدَمِّر صنعته بل هو قطعا يُحبّها ويُحافظ عليها تماما ويَصونها ويَرعاها لأنه هو الذي صَنَعَها فما بالنا بأحسن الصانعين الله تعالي ؟! إنه بذلك لن يَعْتَبِر أحدٌ من خطئه ! وحتي الكافر وأمثاله كثيرا ما يأتي من ذرِّيَّاتهم مَن يُؤمن ويُصْلِح ويُحْسِن ويَسعد بالحياة ويُسعدها ! ولذلك كله ولغيره من الحِكَم فهو تعالي يُمْهِل لكن في ذات الوقت لا يُهْمِل ، أي يَترك أهل الشرّ لفترات طويلة مع دوام حُسن نُصحهم ودعوتهم من المسلمين الدعاة حولهم ، ويَحلم عليهم أي يصبر كثيرا ويعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا لربهم ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن ، لكنْ إنْ أصَرُّوا وعانَدوا واستمرّوا علي شرِّهم ولم يَتقَدَّموا بأيّ خطوة نحو الخير حتي يعينهم تعالي علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ.. " ﴿الرعد : 11﴾ ، حينها يَتَدَخَّل سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم ليُريح أهل الخير والكوْن كله من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم ، ولتعود للجميع سعاداتهم التامّة دون تعكيرٍ بشرور ، وهذا هو معني " .. وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى .. " أي للتوقيت والموعد المُحَدَّد لعقابهم والذي يكون بكلّ عدلٍ علي قدْر شرورهم سواء أكان بقَلَقٍ وتوَتّر وضيق واضطراب وصراع ونحوه أم باقتتال مع الآخرين أم بعقابٍ تامٍّ يُهلكهم ويَستأصلهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، ومن معاني الأجل المُسَمَّيَ كذلك أنه هو موعد موتهم وأيضا موعد يوم القيامة .. فليُسارِع إذن كلّ عاقلٍ بحُسن الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ – والتوبة منه – من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، وليَحذر تأجيل ذلك ، فإنَّ أحداً لا يعلم موعد موته أو موعد الآخرة .. " .. فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴿45﴾ " أي حينما يأتي هذا الموعد ، موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ ، كان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال ، كان تعالي بكلّ البَشَر – وبكلّ كوْنه – بصيرا بهم ، أي دوْما يُبصر أي يَرَيَ كلّ أعمالهم ويَعلمها تمام العلم ويُعطيهم عليها بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
يس ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿3﴾ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿4﴾ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿5﴾ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿6﴾ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿7﴾ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿9﴾ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿10﴾ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11﴾ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿3﴾ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿4﴾ " أي يُقْسِم الله تعالي بهذا القرآن الذي بين أيديكم – بهذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة التي فيه والتي تُقرأ وتُتَّبَع ويُعْمَل بها – والذي صِفته أنه الحكيم ، أي الذي كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث ، والذي هو مُحْكَم أي كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل ، والذي هو الحاكِم أي المَرْجِع الشامل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها ، يُقسم تعالي بهذا القرآن الحكيم العظيم علي أنَّ الرسول ﷺ من المُرْسَلِين أيْ من رسله الذين أرسلهم لخَلْقه بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وهو سبحانه لا يحتاج ولا قرآنه المجيد حتما إلي قَسَم ! فكلامه قطعا مُقَدَّس مُعَظَّم مُصَدَّق ! ولكنه لإضفاء مزيدٍ من الهيبة والتعظيم والتصديق للرسول الكريم ﷺ ولدينه الإسلام ، فهو يُقْسِم علي صِدْقه وصِدْق ما جاء به للبَشَر ، وعلي أنه علي صراط مستقيم أي علي طريقٍ ليس فيه أيّ انحرافٍ نحو أيّ شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ بل هو موجَّه بكل دِقّة وسرعة ووضوح نحو كل خير مفيد مُسعد في الدنيا والآخرة لكل مَن يَتبعه بكلّ أخلاقه .. والسبب في هذا بكلّ بَسَاطَة وعُمْق أنّ هذا القرآن الحكيم هو " تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿5﴾ " أي لأنه هو التنزيل الذي أنزله خالِق الخَلْق تعالي الذي يعلم تمام العلم كل ما يُصلح حالهم ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. إنه تنزيل مِن عند العزيز أي الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالك الملك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو الرحيم أي الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أي ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. فهو إذن العزيز الذي يُعِزّ ويَنصر قرآنه وإسلامه والمسلمين ويذلّ ويُعذب كل مَن يَبتعد عنهم ويُفسد ويَضر ويُتعس ذاته وغيره وهو الرحيم الذي يَرحم كل مَن يعود له ولدينه الإسلام
أمّا معني " لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿6﴾ " أي أرسلناك بهذا القرآن الحكيم لكي يكون رحمة أي إرشادا لتمام الخير والسعادة في الداريْن مِن الخالق لخلْقه لمَن يُؤمن به أي يُصَدِّق ويعمل بما فيه كله وليكون أيضا إنذاراً أي تحذيراً لمَن لا يؤمن به بكل شرٍّ وتعاسة فيهما ، فأنذِر الناس جميعا وابدأ بهؤلاء حولك الذين لم يَأتهم ولا آبائهم نذيرٌ منذ زمن موسي وعيسي وقد ابتعدوا عمَّا وَصَلَهم من تعاليمها ولذلك فهم غافلون أي تائهون ناسُون ضائعون تَعيسون في دنياهم وسيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إن لم يَستفيقوا ويَتَّبعوا ما أتيتهم به من إسلام .. هذا ، ومن معاني " ما " أيضا في الآية الكريمة أي " الذي " ، أي لكي تُنذرهم بمِثْل الذي ُأنْذِر به آباؤهم وأجدادهم قبْلهم وهو الإسلام الذي جاء به كل الرسل قبلك
ومعني " لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿7﴾ " أي لقد ثَبَتَ ووَجَبَ العذاب علي الكثيرين منهم بسبب أنهم لا يُؤمنون بعد أن عُرِضَ عليهم الإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ، أي بسبب إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار .. ولفظ " أكثرهم " يُفيد أنَّ هناك مَن يستجيب ويؤمن بربه ويعمل بإسلامه فيَسعد في الداريْن .. هذا ، والعذاب يكون في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ثم يكون في الآخرة بما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأخلد
ومعني " إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴿8﴾ " أيْ هذا تشبيهٌ يُشَبِّهه الله تعالي للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُصِرِّين تمام الإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار دون أيّ تحرُّكٍ ولو بخطوةٍ نحو أيّ خير ، فهو سبحانه يُشَبِّههم كأنهم مِثْل الذين تَمَّ جَعْل ورَبْط أغلال أي قيود في رقابهم حتي الذقن وهي أسفل الفم بطريقة شديدة تجعلهم مُقْمَحِين أيْ رؤوسهم مُرتفعة إلي أعلي لا يستطيعون أيَّ خفضٍ لها أو تحريكها أيْ مَشلولين عن أيِّ حركة ، والمقصود أنهم في حياتهم لا يتحرّكون نحو أيّ خيرٍ حيث كلّ أقوالهم وأفعالهم شرٌّ في شرّ ! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذا سيَحدث لهم حقيقة يوم القيامة كدرجةٍ مِن درجات عذابهم .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن .. هذا ، ولفظ " جعلنا " يحتاج إلي بعض توضيحٍ حيث هؤلاء السفهاء لم يَشاءوا الهداية لله وللإسلام ، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم ، فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فكأنه تعالي هو الذي جعلهم ضالّين هكذا لكنّهم هم الذين بَدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم ، وهم قد فعلوا ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. بينما الذين يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم ، فإنَّ الله يشاء لهم ذلك ويأذن ، بأنْ يَوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابها ، فهم قد اختاروا هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَنوا استخدام عقولهم ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿9﴾ " أي وهذا أيضا تشبيهٌ آخر لهم إضافة إلي الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فهم كأنهم قد جُعِلَ أمامهم حاجزٌ هائلٌ كالسَّدّ ، وكذلك مِن خَلْفهم ، ومِن كلّ اتِّجاه ، بحيث يَحجزهم ويكون لهم كالغشاء والغطاء علي أعينهم فلا يُمكنهم رؤية أيّ خيرٍ وتَدَبّره والتحرّك نحوه وفِعْله
ومعني " وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿10﴾ " أي هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ من شِدَّة إصرارهم علي كل شرٍّ قد وصلوا إلي مرحلة مُزْمِنَة بحيث لا يفعلون إلا شرَّاً ولا يُفكّرون إلا فيه ويَنسون تماما أيّ خير ، وهذه هي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقل ، أي لم يَعُد بعقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير ! فمثل هؤلاء لو جاءتهم أعظم آيةٍ أيْ معجزة لن يستشعروا قيمتها ولن يؤمنوا أي يُصَدِّقوا بها وسيَظلون علي حالهم حتي يَروا عذاب الدنيا ثم هَوْل عذاب الآخرة ، فهم يستوي عندهم الإنذار أو عدم الإنذار أو التبشير بالنتائج السعيدة لفِعْل الخير أو نحو هذا لأنهم قد أصبحوا عديمي العقل !! .. فليطمئنّ إذن كل مسلم ولا يَحزن علي عدم استجابة مثل هؤلاء لله وللإسلام ما دام قد أحسنَ دعوتهم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، لأنَّ المشكلة ليست في التقصير في دعوتهم وإنما فيهم هم
ومعني " إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11﴾ " أي الذين سيَستمعون وسيَعقلون وسيَتدبَّرون وسيَنتفعون وسيَسعدون بهذا الإنذار وبهذا التبشير هم فقط المؤمنون أي المُصَدِّقون بوجود ربهم الذين يَتَّبِعون الذكْر أي هذا القرآن العظيم ويعملون بكل أخلاقه حيث فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، الذين قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، الذين يخشون ربهم الرحمن أي يخافونه مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله فهم يحيون دوْما مُتَوازنين بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وهم يخشونه بالغيب أي وهم غائبون عن الناس لا يَراهم أحد (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) كما أنهم مُصَدِّقون تماما بكلّ ما غاب عنهم من ماضٍ ومستقبلٍ ممّا أخبرهم به تعالي كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والحساب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. " .. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11﴾ " أيْ بَشِّر مَن يفعل ذلك بالبُشْرَيات السارّة دائما في حياته أنه مغفور له كل ذنوبه يوم القيامة أي هي مَستورة يُعْفَيَ عنها غير مُعَاقَب عليها ، وبهذا يحيا دنياه علي الدوام في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ وعطاءٍ كريمٍ دنيويٍّ أيْ نفيسٍ عظيم فخم هائل ثم كل عطاءٍ أخرويّ أكرم منه حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر .. فليكن إذن حريصا دوْما علي هذا الحال الطيّب السعيد بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ يخرج عنه أبدا بفِعْل أيّ شرّ ، وإنْ فعله فليعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
أمّا معني " إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴿12﴾ " أي يُحْيِي سبحانه الموتي في الدنيا ثم في الآخرة ، في الدنيا يُحيِي البَشَرَ المَيِّتِين أي البَعيدين عن ربهم ودينهم ، يُحييهم بالقرآن والإسلام الذي فيه كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم وبدونه فهم كأنهم موتي حيث لن يكونوا في حياةٍ حقيقيّةٍ بل في تعاسةٍ وعذابٍ بدرجاتٍ وصورٍ مختلفة (برجاء مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام " أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. ثم في الآخرة يُحييهم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم .. إنَّ التصديق بهذا سيَدْفع كل عاقلٍ حتما لأنْ يُحْسِن التعامُل معه في الدنيا والاستعداد للآخرة ليَسعد فيهما تمام السعادة وذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴿12﴾ " أيْ نُسَجِّل عليهم كلّ ما قَدَّموه في حياتهم الدنيا وآثارهم التي يَتركونها خَلْفهم من أقوالٍ وأعمال وآثارها أي نتائجها سواء أكانت حَسَنة أم سَيِّئَة ونُحْصِي كلَّ ذلك أي نَحْسِبه بكلّ تفاصيله بتمام الدِّقّة والعدل ، فكله مُحْصَيَ ومُدَوَّن في إمامٍ مُبِين أي في ما يُؤْتَمَّ به أي يُقْتَدَيَ به ويُرْجَع إليه ويُسْتَدَلّ به وهو عِلْم الله التامّ المُبِين أي المُبَيِّن لكلّ شيءٍ وهو كذلك اللوح المحفوظ أي الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما ، لكي يَنالَ كلُّ صاحب حقٍّ حقّه بالثواب أو العقاب في دنياه وأخراه بما يُناسِب قوله وفعله بكلّ دِقّةٍ دون أن يَتَوَهَّمَ أيُّ أحدٍ بوجود أيِّ خَلَلٍ في ذلك
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿13﴾ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ﴿14﴾ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ﴿15﴾ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴿16﴾ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿17﴾ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿18﴾ قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿19﴾ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴿20﴾ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴿21﴾ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿22﴾ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ﴿23﴾ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴿25﴾ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴿27﴾ ۞ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴿28﴾ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴿29﴾ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿30﴾ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿31﴾ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلِّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرٍّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿13﴾ " أي اذكر لهم يا محمد ﷺ ، ويا كلّ مسلم مِن بَعده ، ومَثّل لهم هذا المَثَل ، في قصة سكان ومالِكي قرية من القري ، حين أرسل الله إليها رسلا أو دعاة ، أرسلهم بالإسلام ، حيث كان حالها يشبه حال المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين حولكم الآن أيها المسلمون ، ونَبِّهوهم وحَذروهم أن يستفيقوا ويستجيبوا لربهم ولإسلامهم حتي لا يكون مصيرهم مثل مصير أهل هذه القرية .. فليَتَّعِظ إذن مَن أراد الاتّعاظ وليَستفد من الدروس والعِبَر التي في هذا المَثَل قبل فوات الأوان
ومعني " إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ﴿14﴾ " أي اذكروا لهم حين أرسلنا إليهم رسوليْن فكذبوهما فقوّيناهما ودَعَّمناهما وأمددناهما برسول ثالث يُعينهما علي دعوتهم ، وقد أخبروهم بأنهم رسلٌ دعاة من عند الله تعالي وأنْ يعبدوه وحده ولا يشركوا معه آلهة آخري كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها وأنَّهم يَحملون لهم دينه الإسلام الذي سيُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم
ومعني " قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ﴿15﴾ " أي قالوا لهم مُكذبين مُعاندين مُستكبرين مُستهزئين مُرَاوِغِين : أنتم لستم إلا بَشَر مثلنا ولستم مثلا ملائكة أو لكم فضل علينا بل نحن أفضل منكم من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك ! ولم يُنزل الله أيَّ تشريع لتوصلوه لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لكان أرسلها مع ملائكته أو مع مَن هو أكرم وأرفع شأنا منكم مثلنا أو مَن يشبهنا ! فأنتم إذن كاذبون
ومعني " قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴿16﴾ " ، " وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿17﴾ " أيْ رَدَّ الرسل الكرام عليهم بكل حكمة وأدب وتَمَهُّل وتَعَقّل وصبر لثقتهم التامّة مِن صِدْقهم أنْ يكفينا أنَّ ربنا تعالي يعلم صدقنا أننا رسله دعاته إليكم ولو كنا كاذبين لانتقم منا أشدّ انتقامٍ ولَفَضَحَنا وعاقَبَنا أمامكم وأمام الجميع ! وما علينا بعد ذلك بالنسبة لكم إلا أن نبلّغكم ما كلّفنا بتبليغه إليكم وهو الإسلام تبليغا واضحا لا غموض فيه بكلّ قدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وليس علينا أكثر من ذلك ، فليس علينا هدايتكم لله وللإسلام وإنما الأمر يعود لاختياركم بكامل حرية إرادة عقولكم ، فإن اخترتم الهداية سَعِدتم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وإن لم تختاروها تعستم فيهما
ومعني " قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿18﴾ " أي رَدُّوا عليهم بقولٍ قبيحٍ سَيِّءٍ مُتَطَاوِلٍ حيث قالوا لهم أنهم قد تشاءموا بهم وبوجودهم بينهم وبما يدعونهم إليه من عبادة الله وحده واتّباع أخلاق الإسلام ، أي هم مصدر شرٍّ وتعاسة لهم وكلما رأوهم تَوَقّعوا نزول شرٍّ ما بهم !! ولم يكتفوا بذلك بل هَدَّدوهم إن لم يتوقفوا عن دعوتهم فسوف يرجموهم بالحجارة ليُؤذوهم أو ليَقتلوهم وسيُصيبهم منهم درجة ٌما مِن عذابٍ مؤلم نفسيّ أو جسديّ أو ماليّ أو غيره
ومعني " قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿19﴾ " أي أنَّ الرسل الكرام لم يقابلوا رَدَّهم القبيح بمثله وإنما بمنتهي الصبر والحكمة والعقل لعلهم يستفيقون ، حيث قالوا لهم تشاؤمكم معكم أي مُلازمٌ لكم في عقولكم التي اختارت بكامل حرية إرادتها البُعْد عن الله والإسلام والذي هو السبب فيما أنتم فيه مِن شؤمٍ أي شقاءٍ وشرٍّ وتعاسة وضَرَرٍ ولسنا نحن السبب إذن .. إنه ليس هناك تشاؤم حيث الشَّرّ مِن عقل الإنسان والخير منه ، مِن أقواله وأفعاله ، فمَن زَرَعَ شَرَّاً حَصَدَ حتما شَرَّاً ومَن زَرَعَ خيرا حَصَدَ خيرا كما نَبَّهَ لذلك تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. " .. أَئِن ذُكِّرْتُم .. " أي أإذا ُذكِّرْتم بالله والإسلام تشاءمتم ؟! إنَّ أمركم لعجيب غريب !! وفي هذا لوْمٌ شديدٌ لهم .. فبدلا أن يَتفاءلوا ويَسعدوا بذلك لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إذا بهم يَتشاءمون به !! .. " .. بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿19﴾ " أي ليس الأمر كما تَدَّعُون أنَّ الإسلام سبب الشؤم أي الشرّ والتعاسة التي أنتم فيها !! ولكنَّ السبب الحقيقي أنكم أنتم أصلا مُسرفون أي مُتجاوزون الحَدَّ في الشرور والمَفاسد والأضرار مُعتادون عليها مُتمسّكون بها ولا تريدون الهداية للخير ... إنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أمّا معني " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴿20﴾ أي وفي هذه الأثناء جاء من أبْعَد أماكن هذه البلدة رجلٌ قد آمَنَ بالله واتَّبَعَ الإسلام ، يمشي مُسرعا وبِهِمَّة محاولا الدفاع عن الرسل الدعاة ومساعدتهم في دعوتهم ، حيث قد انتشر أمرهم وآمن البعض بهم وعلموا بما يُهدِّدهم به أهل البلد من عذابٍ أو قتلٍ أو غيره ، وهذا هو حال المسلم دائما يَهمّ ويُسرِع نحو كل خيرٍ ويدافع عن كل حقٍّ وعدلٍ بما يستطيع ، فقال لقومه ناصحا لهم أن يتّبعوا هؤلاء الرسل الدعاة لمصلحتهم ولسعادتهم لا أن يُؤذوهم أو يَقتلوهم
ومعني " اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴿21﴾ " أي اتَّبعوهم لأنهم صادقين ومن علامات صِدْقهم أنهم لا يسألونكم أيّ أجرٍ علي دعوتهم لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا أسلمتم !! أو أنَّهم سيَخسرون مَكْسَبَاً ما كانوا سيَأخذونه منكم إذا لم تُسْلِموا !! وكذلك هو حال كل مسلمٍ داعٍ إلي الله والإسلام .. إنَّ أجرهم وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم سواء أسلموا أم لا ، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يُسلم في الدنيا والآخرة .. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره ! .. " .. وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴿21﴾ " أي اتَّبِعوهم لأنهم أيضا إضافة إلي صِدْقهم مُهتدون ، أي سائرون علي طريق الهدي والرشاد والصواب التامّ ، لأنه طريق الله والإسلام ، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة ، ولو اتَّبَعتموهم فسيأخذونكم أنتم أيضا معهم في هذا الطريق الطيّب السعيد .. وفي هذا تشجيع لهم علي اتَّباع الإسلام بأسلوبٍ دعويٍّ رقيق مناسب جذاب
ومعني " وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿22﴾ " أي ولماذا لا أعبد الذي خلقني ؟! وأيُّ شيءٍ يمنعني من هذا ؟! إنه أمرٌ مَنْطِقِيٌّ عقلانِيٌّ !! وكأنهم قد تَعَجَّبوا من إيمانه فهو يَتَعَجَّب من تَعَجُّبهم والذي ليس في مَحلّه ويتعجّب من عدم إيمانهم هم !! وفي هذا دعوة رقيقة غير مباشرة لهم أنهم لماذا لا يعبدون هم أيضا الذي فطرهم حيث كان يتكلم عن نفسه لا عنهم .. ثم يُذَكِّرهم بأنَّ الجميع سيعودون إليه سبحانه خالقهم بعد موتهم حيث يُعطي أهل الخير كل خيرٍ وسعادة ويُجازي أهل الشرّ بما يناسبهم من شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. لعل ذلك يُوقظهم فيُحسنون استخدام عقولهم ويَستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف﴾
ومعني " أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ﴿23﴾ " أي هل يُعْقَل أو يَصِحّ أن أعبدَ غيره سبحانه آلهة كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها لا تنفع وساطتهم لي بأيّ شيءٍ ولن يُخَلّصوني ممّا قد يُصيبني لأنها لا تملك أي شيء ولا تقدر علي أي شيء وهي أضعف مِنِّي فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! وذلك لو ُفرِضَ وأراد لي الرحمن أن ُأصابَ بضَرَرٍ ما ، وهو الرحمن الذي سيُريد بي قطعا بهذا الشيء الذي أصابني رحمة ونفعا ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ ، فالذي يَنفع ويَمنع الضَرَر هو الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾ .. والسؤال والاستفهام في الآية الكريمة هو لِلّوْم الشديد لهم والرفض لمَا يفعلونه
ومعني " إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ " أي لو ُفرض وفعلتُ ذلك – والعياذ بالله – فقد اخترتُ بكامل حرية إرادة عقلي أن أكون في ضياع واضح حيث سأتعس حتما تمام التعاسة في الدنيا والآخرة .. وفي هذا نصيحة ضِمْنِيَّة رقيقة لهم ليَستفيقوا ليسعدوا فيهما
ومعني " إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴿25﴾ " أي وَازَنَ الأمرَ ورَأَيَ أنه لابُدَّ من إعلان الإيمان بالله صراحة في هذا التوقيت ما دام قد أحسَّ منهم بالإيذاء أو الاستشهاد فلعل بهذا الإعلان قد يتأثر البعض ويَستقيظون ويُؤمنون فينالَ الأجر العظيم قبل استشهاده .. فأعلنَ إيمانه وطلب منهم أن يسمعوا إعلانه وأن يستمعوا لنصيحته بالإيمان ليسعدوا في الداريْن كنصيحة أخيرة لهم قبل مفارقته للحياة
ومعني " قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴿27﴾ " أي لمَّا أعلنَ إيمانه قتله قومه فنالَ الشهادة في سبيل الله فلَقِيَه تعالي بكل ترحيب وتكريم وقال له وملائكته تَفَضَّل ادخل الجنة فقد وَجَبَت لك وأنت من المُستحِقّين لها .. حينها تَمَنَّي أن يعلم قومه والناس جميعا بما يُعِدّه الله للمؤمنين به المجتهدين في التمسّك بكل أخلاق إسلامه من مغفرةٍ أيْ مَحْوٍ لكل الذنوب ومن تكريمٍ عظيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر .. وهكذا هو حال المسلم دائما حيث هو علي الدوام يحمل الخير للجميع ولا يَنْسَيَ طَلَبَ السعادة لهم ومحاولة إسعادهم وعوْنهم علي اتّخاذ أسباب ذلك بالتمسك بكل أخلاق إسلامهم ، حتي وهو في أسعد لحظات حياته لا يَنسيَ هذا أبدا ! .. هذا ، وقد يكون قد تَمَنَّي ذلك وهو لا يزال في حياته حينما صَرَّحَ بإيمانه فبَشَّرَه الرسل الثلاثة بأنه سيُغْفَر له وسيُكْرَم بدخوله أعلي درجات الجنة.