الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿41﴾ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿42﴾ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿43﴾ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿44﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿45﴾ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿46﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿47﴾ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُلْتَزِمِين بكل دِقّةٍ بنظام توزيع الغنائم في الإسلام حيث هو أعدل نظام يمنع أيّ تَشَاحُنٍ أو تَبَاغُض أو تَقَاطُعٍ وبالتالي يأمن الجميع ويطمئنون بانتشار العدل ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿41﴾" أيْ واعرفوا وتذكّروا دائما أنما كسبتم وربحتم من أيِّ كَسْبٍ وربحٍ من أعدائكم بعد هزيمتهم بقتالهم حينما يعتدون عليكم بالقتال، قلَّ أم كثر، فأنَّ خُمس مِقْداره يكون لمصالح المسلمين عموما – شكراً لله علي نَصْره ولأنَّ المجتمع كله غالبا يكون مُشارِكَاً في التجهيز للقتال بما يستطيع ولو بالدعاء – ويقوم المسئولون بتوزيعه حسب الحاجة ليشمل كل المجالات الاجتماعية والخدمية والتعليمية والصحية والاقتصادية والعسكرية والدعوية وغيرها بما يحقّق الرفاهية والتطوّر والتّقَدُّم والسعادة لجميع المواطنين مسلمين وغيرهم، وهذا هو معني ".. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.." والمسكين هو الذي لا يكفيه ما معه، وابن السبيل هو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه.. أمَّا بَقِيَّة الأخماس الأربعة والتي لم يَرِد في الآية الكريمة تصريح لأين تذهب فإنَّ المعني الضِّمْنِيّ لها أنها تكون للمقاتلين الغانِمين للغنائم لأنها أضافت الغنيمة إليهم ولأنَّ ذلك هو فِعْل الرسول ﷺ ، كتعويضٍ لهم عن تَفَرُّغِهم وتدريبهم وانقطاعهم للاستعداد للقتال للدفاع عن أوطانهم وحمايته ومَن فيه مِن أعدائهم، وفي مُقابِل إنفاقهم أحيانا علي بعض عَتادهم، وفي مُقابِل استعدادهم للتضحية بجهودهم وأوقاتهم وأعمالهم وحتي دمائهم في سبيل ذلك، وهو جائزة مَبْدَئِيَّة دنيويّة من الله تعالي قبل الجائزة العظمي الأخرويّة بكل تأكيد، ومَن استشهد منهم فقد فاز فوزا عظيما.. إنَّ هذه الأخماس الأربعة تُقَسَّم علي المُقاتِلين الغانِمين ومَن عاوَنَهم علي حسب الجهود التي بُذلت من كلٍّ منهم بما يُحَدِّده قادتهم الصالحون العادلون.. ".. إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ.." أيْ لو كنتم آمنتم بالله بحقّ كما تقولون، أيْ صَدَّقتم بوجود الله وتمسّكتم وعملتم بأخلاق إسلامكم وأردتم حقّاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، اجعلوا الخُمس لله ولكم الأخماس الأربعة الأخري.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. ".. وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.." أيْ وأيضا افعلوا ذلك إن كنتم آمنتم بحقّ بما أنزلنا علي رسولنا الكريم من آياتٍ قرآنية ومن ملائكةٍ لتثبيتكم وعوْنكم ومن جنودنا التي لا يعلمها إلا نحن ومن نصرٍ لكم وهزيمةٍ لأعدائكم يوم الفرقان أيْ يوم غزوة بَدْرٍ الكبري يوم تَقَابَل للقتال جَمْع المؤمنين ضدّ تَجَمُّع الكافرين وسُمِّي ذلك اليوم كذلك لأنَّ الله تعالي جعله فُرْقاناً أيْ تفريقاً وتمييزاً بين الحقّ والباطل والصواب والخطأ والخير والشرّ والسعادة والتعاسة حيث نَصَرَ وأعَزَّ ورَفَعَ ونَشَرَ الحقّ وأهله وأسعدهم وهَزَم وأذَلَّ وأخْفَضَ وحَصَر الشّرَّ وحزبه وأتعسهم.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿41﴾" أيْ والله حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. فهو يقدر علي أن ينصر المؤمنين مع قِلّتهم ما داموا أهْلَاً للنصر ويهزم الكافرين رغم كثرتهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. فعليهم أن يُدَاوِمُوا على طاعته وشكره ليزيدهم خيراً ونصراً وإسعاداً فيهما
ومعني "إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿42﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدرٍ حيث أنتم بالعُدْوة الدنيا أيْ بالحافّة للوادي القريبة من مدينتكم وهم أيْ أعداؤكم بالحافة البعيدة له في مُقابِلكم والرَّكْبُ أيْ قافلة الرُّكّاب ومعهم تجاراتهم في مكانٍ أسفل من مكانكم الذي أنتم فيه، والمقصود تَذْكرتهم بمَوْضع الغزوة ومُعجزة نَصْرهم للتّدَبُّر والشكر حيث كان أعداؤهم في مكانٍ مُتَمَيِّزٍ عنهم ومعهم أموالهم التي تُقَوِّيهم علي دفاعهم عنها فهم مُستعدون للقتال بأقصي قوة حيث جاءوا من أجله في حين أنَّ المسلمين لم يكونوا مُستعِدِّين لقتالهم وبالتالي فبالمقاييس الدنيوية دون تَدَخُّل قُدْرَة الله تعالي فإنَّ النصر كان أقرب للأعداء لا لهم (برجاء لاكتمال المعاني عن غزوة بدر مراجعة الآيتين ﴿7﴾، ﴿8﴾ من هذه السورة "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ"، "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة للمسلمين ولمَن حولهم وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لهم في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسيجدون كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقوا في باطنه، كما يقول تعالي ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة:216﴾ (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ولو اتّفقتم علي موعدٍ للقتال وعَلِمْتم حالهم وحالكم لتَخَلّفتم عن الموعد خوفاً من قوَّتهم وعدم الانتصار عليهم لقِلّة عددكم وعَتادكم وعدم استعدادكم.. وفي هذا مزيدٌ مِن تَذْكِرَتهم بضعفهم وبمُعجزة نَصْرهم لعَوْنهم علي مزيدٍ من التّدَبُّر لقُدْرَة ربهم وشكره.. ".. وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.." أيْ ولكنْ جَمَعَكم الله علي غير موعدٍ فيما بينكم لكي يُنَفّذ أمراً – وهو القتال المُؤَدِّى إلى نَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم في الداريْن وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم فيهما – كان مفعولاً حتماً أي مَعْمُولاً به عَمَلِيَّاً في الواقع حيث أيّ أمرٍ يريد تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماماً بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف.. ".. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.." أيْ قد فَعَلَ ذلك سبحانه أيْ جَمَعَكم مع عدوكم على غير ميعادٍ ليَنصر الإسلام علي الكفر ليَصير الأمر ظاهراً والحُجَّة والأدِلّة قاطِعَة ولا يبقى لأحدٍ حُجَّة ولا عُذْر فحينئذ يهلك مَن هَلك أيْ يستمرّ في كفره مَن استمرّ فيه وهو على بصيرةٍ من أمره أي بإدراكٍ تامٍّ بعقله أنه علي الباطل لقيام الحُجَّة عليه ويَحيى مَن حَيَّ أيْ يُؤمن مَن آمَنَ عن بَيِّنَة أيْ حُجَّة وبَصِيرة.. أيْ فَعَلَ ذلك سبحانه لكي تنقطع تماما الأعذار والحُجَج، أيْ ليكفر مَن كفر بعد بَيِّنَة أيْ حجة قامَت عليه، لِمَا رَأَيَ من المُعجزة والعِبْرَة إذ اتّضَحَ له أنَّ ما عليه هو كفر وهلاك وضياع وشقاء في الداريْن ثم رضي به واستمرّ عليه، ويُؤمن مَن آمَنَ علي حُجَّة قاطعةٍ ودليلٍ حاسم، فالذي يكفر بعد أن ظهر له تماما الدليل علي وجود الله حيث نَصَرَ المؤمنين رغم قِلّتهم علي الكافرين رغم كثرتهم، فهو يهلك نفسه رغم عِلْمه وتأكّده التامّ أنه في طريق الهلاك!! فلا يَتحَجَّج ويَعْتَذِر إذَن بأنه لم يكن يعلم!!.. إنَّ المسلم ينتفع بمِثْل هذه البَيِّنَات أيْ الدلالات وما يُشبهها في حياته، فهو يَزداد بها يقيناً أيْ تأكّداً بلا أيّ شكّ بما هو موجود أصلا في فطرته وحينما يُفَكّر فيها بعقله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فيزداد نشاطاً وهِمَّة وجدِّيَّة في التمسّك بربه والعمل بدينه الإسلام، إنه بذلك بحقّ يحيا حياته عن بَيِّنَة.. بينما غير المسلم، أو المسلم التّارِك لإسلامه كله أو بعضه، ستكون هذه الأدِلّة سبباً لهلاكه، لأنها كانت أدِلّة ضِدّه، رآها وأيقنها ولكنه عَطّل عقله ولم ينتفع بها وتَنَكّرَ لها واسْتَعْلَيَ عليها واختار بكامل حرية إرادة عقله حاله الذي هو عليه، حال البُعد عن الله والإسلام، فلا عُذر بالتالي له، فلا يَلوم إلا نفسه إذ هو في حال القلق والتوتر والاضطراب والكآبة والتعاسة التامّة وأحيانا الهلاك بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات، في دنياه، ثم ما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في أخراه.. إنه بذلك بحقّ يهلك عن بَيِّنَة، عن علمٍ وتَيَقّن بأنه يهلك، ولا يحاول أن ينقذ نفسه بأنْ يُسْلِم!!.. إنَّ مَن يَحْيَ بالإسلام فهو الحَيّ، بينما من يحي بالكفر والشرك والنفاق والظلم والفساد وما شابه هذا فهو مَيِّت حتما!! (برجاء مراجعة الآية ﴿24﴾ من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، ثم الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿42﴾" أيْ وإنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوال وأفعال الفريقين من المؤمنين والكافرين وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿43﴾"، "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿44﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين أَرَيَ الله رسوله الكريم في أثناء نومه أعداءكم قليلا في العَدَد والعُدَّة والقوّة فأخبركم بذلك فقَوِيَت عزيمتكم وتَجَرَّأتم على حربهم وازددتم ثباتاً واطمئناناً واستشعاراً أنكم مُنْتَصِرون بإذن الله.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين بأهمّ وأوّل أسباب النصر التي عليهم أن يتّخِذوها بعد الاستعانة بالله والتوكّل عليه وهو قوة الإرادة، إرادة الانتصار وعدم الانهزام مُطلقاً، من خلال الشعور العقليّ بالقُدْرَة التامَّة علي ذلك.. ".. وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ.." أيْ ولو كان أراكَ يا رسولنا الكريم إيّاهم كثيراً في عَدَدهم وعَتادهم وأخبرتهم بذلك لَكُنتم ضَعُفتم وجَبُنْتم وتَرَاجَعْتم عن قتالهم ولَكُنتم اختلفتم في أمر القتال فمنكم مَن كان سَيَرَيَ إقداماً عليهم ومنكم مَن كان يري تَرَاجُعَاً فيَحْدُث الفَشَل والانهزام بسبب ذلك التّنازُع والاختلاف.. ".. وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ.." أيْ ولكنَّ الله برحماته ونِعَمه وإحساناته وقُدْراته سَلَّمَ من ذلك أيْ نَجَّىَ من نتائجه السَّيِّئة حيث ثَبَّتكم وقوَّاكم علي عدوكم بسبب رُؤْيَا رسولكم.. ".. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿43﴾" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه حتماً بالتأكيد أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه تعالي عليمٌ قطعاً بكل ما يَخْطر بعقول بني آدم من شجاعةٍ وجُبْنٍ وصبرٍ وخوفٍ ونحو هذا ولذلك دَبَّرَ مَا دَبَّر.. "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿44﴾" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يُريكم الله أعداءكم عندما تَقابَلْتُم للقتال – قبل التحامكم معهم في هذه الغزوة أيْ غزوة بدر – في أعينكم قليلاً في العَدَد والعُدَّة والقوّة لتَقْوَيَ بذلك عزيمتكم ولتَتَجَرَّأوا على حربهم ولتزدادوا ثباتاً واطمئناناً واستشعاراً أنكم مُنْتَصِرون بإذن الله، ويُقَلّلكم في أعينهم ليَتَوَهَّمُوا أنكم ضعفاء يَسهل القضاء عليكم فيُفَاجَأوا بكثرتكم وقوّتكم فيَرْتَبِكوا ويَنهزموا.. إنَّ رؤيتكم لهم ورؤيتهم لكم هي رؤية تَحَقّق وتأكُّد ومُشَاهَدَة ومُعَايَنَة بالأعْيُن وليست تقديراً أو تَخَيُّلاً، وكل ذلك بتدبيره وعلمه وقُدْرته ومن آياته المُعْجِزَة سبحانه بما يُحَقّق النصر لكم.. إنَّ هذا المِثَالَ مثالٌ عَمَلِيٌّ واقِعِيٌّ حَدَثَ بالفِعْل ويَحدث وسيَحدث علي مَرّ العصور يُثْبِت ويُؤَكّد أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم.. ".. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.." أيْ دَبَّرَ الله مَا دَبَّرَ وفَعَلَ مَا فَعَلَ لكي يُنَفّذ أمراً – وهو القتال المُؤَدِّى إلى نَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم في الداريْن وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم فيهما – كان مفعولاً حتماً أي مَعْمُولاً به عَمَلِيَّاً في الواقع حيث أيّ أمرٍ يريد تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماماً بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية قبل السابقة ﴿42﴾ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿44﴾" أيْ وكلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وهو وحده الذي له الحُكم، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿45﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا قابلتم وواجهتم مجموعة من أعدائكم مُعتدين عليكم بالقتال فاثبتوا لقتالهم أي اصمدوا واصبروا ولا تُعطوهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين، فإنَّ الله معكم وناصركم عليهم حتماً مَا دُمْتُم أحسنتم اتّخاذ أسباب النصر من قوَيَ معنويَّة ومادِّيَّة، فقابلوهم بقوّةٍ وشجاعةٍ وإقبالٍ لا إدبارٍ فإنَّ مِن شأن المؤمن أن يكون شجاعاً لا جباناً ومُقْبِلاً لا مُدْبِرَاً، وإنَّ في ذلك نصرة وإنتشاراً للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وإسعاداً للبشرية حين تعمل بكل أخلاقه وحين تتغلّب علي الظلم والشرّ والفساد والمُفسدين، ثم الأمر ما هو إلا إحدي الحُسْنَيَيْن لكم، فإمّا النصر وسعادتيّ الدنيا والآخرة وإمّا الشهادة وأعلي درجات جناتها.. ".. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا.." أيْ ودَاوِمُوا علي ذِكْر الله كثيرا في جميع أحوالكم أي استحضروا دائما بداخل عقولكم ومشاعركم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ واذكروه دوْمَاً فإنَّ هذا من أهمّ وأوّل وأُسُس أسباب النصر.. وهذه الوَصِيَّة بالإكثار من ذِكْره تعالي في هذه الأحوال خصوصاً مع أنَّ مُدَاوَمَة وكثرة ذِكْره مطلوبة في كل وقتٍ لأنَّ الإنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء يكون في أشدّ الحاجَة لعَوْن الله وتأييده ونصره والتّوَسُّل إليه بالدعاء في أحواله هذه يكون أقرب للاستجابة.. هذا، والذكر عموماً يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وقراءة للقرآن، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق بكل قوةٍ وعزيمةٍ وشجاعةٍ لتحقيق النصر بإذن الله.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿45﴾" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لهم ليكونوا كلهم كذلك من الثابتين الذاكرين الله كثيراً المُفْلِحِين المُنْتَصِرين في الداريْن
ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿46﴾" أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها المسلمون ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومن هذه الطاعة حتماً طاعة قادة المعارك عند قتال المعتدين فإنّ ذلك بالقطع من أسباب النصر.. ".. وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.." أيْ ولا تَختلفوا وتَختصموا وتَتَشاحَنوا وتَتَصَارَعوا أبداً في كل شئونكم وعند لقاء أعدائكم فيُؤَدِّي ذلك إلي أن تَفشلوا أيْ تَضعفوا وتَتراجعوا ولا تنجحوا وتنهزموا وتخسروا ولا تُحَقّقوا أهدافكم، وتذهب ريحكم أيْ قوّتكم وجَرَاءتكم واجتهادكم وإقدامكم ودولتكم ومُؤَسَّساتكم، بل يَكُن بينكم دائماً كل ما وَصَّاكم به الإسلام في أخلاقه من الحب والتسامح والتعاون والتشاور ونحو ذلك.. ".. وَاصْبِرُوا.." أيْ واثبتوا واصمدوا وكونوا دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿46﴾" أيْ هذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿47﴾" أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أيها المسلمون أن تكونوا أبداً مثل أعدائكم المُعتدين عليكم بالقتال من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين الذين خرجوا من بلدهم لقتالكم وهم في حالِ بَطَرٍ بكل أشكاله أيْ كبرٍ وتَعَالٍ علي الآخرين واستيلاءٍ علي ممتلكاتهم واستعبادٍ وإذلالٍ لهم واستخدامٍ لنِعَم الله في كل شرّ مُضِرّ مُتْعِس بدلا عن استخدامها في كل خير مُفيد مُسْعِد وعدم اعترافٍ بالمُنعِم وهو الله الخالق الكريم الرزّاق الوهّاب وعدم شكره بل ونِسْبَة النِّعَم لغيره بل وعبادة هذا الغير وما شابه هذا من بَطَر.. وهم كذلك في حالِ رئاءٍ للناس أيْ رياءٍ للناس أيْ ليُرُوهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بخروجهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بهما أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن.. وهم أيضا في حالِ صَدٍّ عن سبيل الله أيْ مَنْعٍ للناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿47﴾" أيْ والله بالقطع يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً مَنْع كيدهم عنكم ونصركم عليهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. ولا يَفعل أحدٌ أبداً مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مِثْل مصيرهم
ومعني "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿48﴾" أيْ هذا تذكيرٌ من الله تعالي للمسلمين بما خَدَعَ ويَخْدَع به الشيطان الكافرين والعاصِين من وعودٍ وأماني كاذبة وَهْمِيَّة، عموماً في كل شئون الحياة، وفي غزوة بدر، من أجل دَفْع المسلمين للمُدَاوَمَة علي عملهم بإسلامهم وتوكّلهم علي ربهم وشكرهم له ومقاومتهم لشياطينهم ليزيدهم خيراً ونصراً وسعادة في الداريْن، ومن أجل تحذيرهم الشديد من التّشَبُّه بالكفار والعصاة مُطلقاً حتي لا يكون مصيرهم مِثْلهم حيث الشرّ والهزيمة والتعاسة فيهما.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين حَسَّنَ الشيطان لهؤلاء المُسِيئين السابق ذِكْرهم أعمالهم السَّيِّئة في حياتهم والتي منها حينما جاءوكم مُعتدين عليكم بالقتال، أيْ زَيَّنَ لهم هذا تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم حيث الشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، حيث اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والاعتداء علي الإسلام والمسلمين (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه﴾، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد زَيَّنَ لهم قائلاً مُخَادِعَاً مُوهِمَاً إيّاهم لن يَغلبكم اليوم أحدٌ من الناس لكثرة عَدَدكم وعُدَّتكم فأنتم لا تُطاقون وإني مُجِيرٌ لكم أيْ مُؤَمِّنكم مِمَّا تخافون ومُعِينكم وناصِركم من خلال كثيرين سيُعينوكم ويُؤَيِّدوكم.. إنه دَوْمَاً هكذا يُعْطِي أتْبَاعه وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم ويَعِدهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معه في ضلالهم تائِهين دائما فيه.. ".. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿48﴾" أيْ لكنْ لَمَّا تَقَارَبَت المجموعتان، مجموعة المؤمنين ومجموعة الكافرين المُعتدِين عليهم، بحيث صارَت كل مجموعة تَرَيَ الأخرى رؤية واضحة، والْتَقَتَا، ورَأَىَ مَا أمَدَّ الله به المؤمنين مِن نصرٍ بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، رَجَعَ علي عَقِبَيْه – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ رَجَع علي قَدَمَيْهِ للخَلْف هارِباً مُبْتَعِداً والمقصود تشبيه وتصوير أنه قد انتهَيَ وانهزمَ كَيْده وتَرَاجَعَ عن وعوده وظَهَرَ كذبه وخِداعه وقال للكافرين المُعتدين – وهذا تصويرٌ من القرآن الكريم لِمَا خَطَر بعقولهم حينها – إني مُتَنَصِّلٌ من عهدكم وإجارتكم وعوْنكم ونَصْركم مُتَنَكّرٌ له مُبْتَعِدٌ عنه فأنا أرَيَ ما لا ترون أنتم من نصرِ الله للمسلمين وهزيمتكم، فهم وقتها قد استشعروا وتأكّدوا أنهم حقيقة قد خُدِعُوا بالأماني والأوهام وأنهم واقعياً قد رأوا هزيمتهم.. والخلاصة أنهم قد تَرَاجَعَت عنهم الوعود وتَبَرَّأت منهم، وتَرَاجَع عنهم وتَبَرَّأ منهم مَن كانوا يَتَوَهَّمون أنهم سينصرونهم، وتَبَرَّأوا هم بعضهم من بعض وأخذوا يُحَمِّل كل منهم للآخر مسئولية الهزيمة والنصر للمسلمين والتي رأوها أمامهم وبدأوا يستشعرون بفِكْرهم أنهم مُقْبِلُون علي ما كانوا يخافون منه أيْ علي نهايتهم وهلاكهم أيْ علي عقاب الله الدنيويّ الشديد الذي كانوا يُكَذّبون به قبل عذابه الأخرويّ الأشدّ والأعظم والأخْلَد.. هذا، وختام الآية الكريمة "والله شديد العقاب" قد يكون مِمَّا خَطَرَ بعقولهم أيضا أو من كلام الله تعالي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿22﴾ من سورة إبراهيم "وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، والآية ﴿16﴾ من سورة الحشر "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿16﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿49﴾ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿50﴾ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿51﴾ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿52﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿53﴾ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿54﴾ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿49﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يقول المنافقون –والمنافق هو الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة (برجاء مراجعة الآيات ﴿7﴾، ﴿8﴾، ﴿9﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) – والذين في قلوبهم أي عقولهم مرضٌ ما كالشكّ مثلا في وجود الله أو الترَدّد بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم التمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كالرياء أي ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحبون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، أو ما شابه هذا من التفكير المَرَضِيّ غير السَّوِيّ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.." أيْ يقولون خَدَعَ ويَخْدَع دينُ الإسلام هؤلاء المسلمين!! والمقصود منهم الإساءة للإسلام وللمسلمين، من أجل إبعادهم عنه كله أو بعضه هم وغيرهم مِمَّن يريدون أن يُسْلِموا، وسبب قولهم هذا أنهم حينما يَرَوْنَ إقدام المسلمين علي قتال عدوهم وثباتهم طَلَبَاً لإحدي الحُسْنَيَيْن إمَّا النصر وإمّا الشهادة يَدَّعُون أنَّ الإسلام يَسْتَدرجهم لكي يُجاهدوا ويُقاتلوا الآخرين عندما يعتدون عليهم بحُجَّة الدفاع عنه فإذا بهم يفقدون حياتهم أو يحيون مُصابين مُعَاقِين!! وهذا الإقدام علي قتال مُعتدين يَزيدون عليهم في العَدَد والعُدَّة هو نوعٌ من إلقاء النفس للهلاك من وجهة نظرهم لأنهم يَقيسون بالمقاييس الدنيوية ولم يَتَذَوَّقوا ويستشعروا مَعِيَّة الله القويّ العزيز ونَصْره وقوّته وعوْنه للمتوكّلين عليه!! إنَّ في إقدام المسلمين هذا تمام العِزَّة والكرامة والسعادة في الداريْن، ولكنهم يريدون للمسلمين أنْ يَحْيُوا أذِلّة مُسْتَعْبَدِين لهم ليَنهبوا جهودهم وثرواتهم ويخدعوهم بإلقاء الفتات لهم دون أيّ مقاومة منهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله والإسلام والمسلمين والحق والعدل والخير وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. وكذلك يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ مِثْل هذا الكلام في كل أخلاقيّات الإسلام الأخري غير الجهاد في سبيل الله إذ يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنَّ الإسلام قد خَدَعَ المسلمين حيث يجدون أخلاقه كلها مَشَقّات وتكليفات وتقييدات وتعاسات وقد كانوا يَظنّونها عكس ذلك!! رغم علمهم التامّ بأنها كلها توجيهات وتوصيات وتذكيرات وتيسيرات وسعادات.. كذلك من معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أنهم يَدَّعون أنَّ الإسلام جَعَلَ المسلمين يَغْتَرُّون! بمعني أنهم حينما يُمَكِّن الله لهم في الأرض بأنْ يُمَكّنهم من إدارتها بنظام الإسلام يَغترّون ويَتَعالون علي الآخرين!! رغم أنهم يُسْعِدون الناس جميعا بأخلاق الإسلام وأهمها التواضع والعدل والتعاون والتآخي!!.. فليحذر كل مسلم من ذلك أشدّ الحَذَر وليكن يَقِظا لهذا دائماً ولا يستجيب لسفاهاتهم هذه فيتأثّر بها، وكذلك لا يُصيبه الغرور، وإلا تَعِسَ في دنياه وأخراه.. ".. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿49﴾" أيْ هذا حثٌّ للمسلمين علي الثبات علي كل أخلاق إسلامهم.. أيْ ولا يَفهم ولا يُدْرِك أمثال هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ أنَّ مَن يعتمد علي الله وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، لأنه عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث.. إنَّ هذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه العزيز الحكيم القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. إنَّ كل تشريعات الله تعالي في الإسلام، وكل تقديراته في كوْنه، مُقَدَّرَة تقديرا بكل تأكيدٍ أيْ مَوزونة اتّزانا ومُحْكَمَة إحكاما ومَحْسوبة حسابا دون أيّ عَبَثٍ وبكل تمامٍ وكمال، ولابُدّ أن تتحقّق وتَقَع في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحة خَلْقه وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعها أو يُغَيِّرها (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿37﴾ من سورة الأحزاب ".. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا "، لتكتمل المعاني وتَثبت وتتأكّد﴾
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿50﴾" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد حين تَقْبِض وتَنْزِع الملائكة أرواح الذين كفروا عند موتهم لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا حيث تضرب وجوههم وظهورهم وكل مكانٍ فيهم ضرباً عنيفاً مُؤْلِمَاً مُهِيَناً وتقول لهم أثناء عذابهم – بما يُفيد تمام الغضب عليهم وكمزيدٍ من العذاب النفسيّ والتأنيب والتهديد والإهانة والتّيْئِيس من النجاة لهم – اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي ستدخلونه والذي كنتم تُكَذّبونه وتسخرون منه والذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. إنهم سيَلْقَون في قبورهم عذاباً مَبْدَئِيَّاً مُستمرّاً حتي يحين عذاب يوم القيامة وهو الأعظم والأتمّ والأخْلَد وحينها ستقول لهم الملائكة أيضا ذوقوا عذاب الحريق الخالد.. هذا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري والسامع أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديد.. وذلك قطعا بعد نار وحريق وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿51﴾" أيْ ذلك العذاب الشديد بسبب أقوالكم وأفعالكم السيئة الفاسدة الضارة المتعسة لكم ولغيركم بل وأحيانا للكوْن كله، ولم يكن الله أبداً، الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه علي قَدْر ما قَدّم في حياته.. وفي هذا تشجيعٌ وتذكيرٌ لكلِّ عاقلٍ أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
ومعني "كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿52﴾" أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي الكفر واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كفروا بآيات الله أيْ كذّبوا ولم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أن أخذهم الله أيْ عذّبهم وأهلكهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من كفرٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وكان عذابهم بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجاته في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، لأنَّ الله تعالي حتماً قويٌّ أي عظيمُ تامُّ القوةِ لن يَمنعه عمّا يريد فِعْله أيّ مانع وحين يُعاقِب مُكَذّباً مُعانِداً مُستكبراً مُسْتَهْزِئاً فإنَّ عقابه يكون شديداً مُؤلِماً مُوجِعاً مُهلِكاً فهو شديد العقاب في الداريْن لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿53﴾" أيْ هذا بيانٌ لتمام عدل الله تعالي بأنه لا يُغَيِّر نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، فهذا من قوانينه سبحانه العادلة في الحياة، أنه مَن أساء استخدام نِعْمَة مَا مِن نِعَمِه عليه والتي لا تُحْصَيَ، فاستخدمها في شَرٍّ مُتْعِس، وما أعطاه إيّاها إلا ليستخدمها في خيرٍ مُسْعِدٍ، له ولغيره، فإنه يَسْحبها منه، بعضها أو كلها، فجأة أو تدريجياً، حتي لا يزداد بها سوءاً وضَرَرَاً وتعاسة عليه ومَن حوله، ولعله يستيقظ بهذا فيعود للخير لتعود له نِعَمه فيَسعد بها، فهذا هو قانون الأسباب والنتائج وهو القانون الإلهيّ العادل للحياة والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾ فمَن زَرَعَ خيراً حَصَدَ خيراً ومَن زرَع شرَّاً فلن يَحصد بالقطع إلاّ كلّ شرّ، ومَن كان دوْماً مِن الشاكرين لربه علي نِعَمه، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأنْ يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. أيْ ذلك العذاب الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة والذي ينزل بأمثال هؤلاء الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب أنَّ الله بتمام عَدْله وحِكْمته لا يُغَيِّر ولا يُبَدِّل أبداً نعمة أنعمها علي أناسٍ كأمنٍ ورخاءٍ وقوةٍ وسعادةٍ وغير ذلك إلي خوفٍ وفقرٍ وضعفٍ وتعاسةٍ حتى يبدأوا هم بأنْ يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم بأنْ يكفروا ويظلموا ويفسدوا وبالجملة يتركوا إسلامهم كله أو بعضه فحينها يُغَيِّر تلك النِّعَم إلي مصائب تُناسب سُوءهم.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿53﴾" أيْ ذلك التعذيب هو بسبب سوء استخدامهم للنِّعَم وبسبب أنه سميعٌ لِمَا قالوه من سوءٍ وعليمٌ بما فعلوه منه، وقد عاقبهم على ذلك بما يَستحِقّون من عذاب، فهو لم يظلمهم حتماً بل كانوا هم الظالمين.. إنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوال وأفعال المؤمنين والكافرين وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿54﴾" أيْ هذا استخدامٌ لذات الألفاظ كما في بدء الآية قبل السابقة ﴿52﴾ لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي التكذيب واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كذّبوا بآيات ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أنْ أهلكناهم بذنوبهم أيْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم بزلازل وصواعق وفيضانات وأوْبِئَة وأمراض وحروب وغيرها بسبب كثرة ذنوبهم وأهمها تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارهم التامّ علي هذا بلا أيِّ خطوةِ عَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ.." أيْ هذا تخصيصٌ لقوم فرعون بذِكْر كيفية إهلاكهم رغم أنهم مِن ضِمْن مَن أهلكهم سبحانه بذنوبهم وذلك لشدَّة سُوئهم واستكبارهم وظلمهم وفسادهم وللتذكرة بالمُعجزة التي حدثت حين شَقّ الله تعالي البحر لبني إسرائيل عندما ضربه رسولهم الكريم موسي ﷺ بعصاه وفَصَل ماءه بعضه عن بعض حتي أصبح فيه طريق جافّ يسيرون فيه وحينما عَبَرْوا كلهم ونَجوا وأراد آل فرعون المرور فيه ليلحقوا بهم ويُؤذوهم أَعاد الله الماء كما كان فأغرقهم جميعا.. ".. وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿54﴾" أيْ وكلٌّ مِن المُهْلَكِين المُعَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم في السوء كانوا ظالمين لأنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهو تعالي لم يظلمهم حتماً بل عاقبهم بما يَستحِقّون من عذابٍ يُناسب ظلم كلّ ظالمٍ منهم وقد حَذّرهم من خلال رسله والدعاة للإسلام مِن بعدهم وصَبَر عليهم وتَرَكهم كثيراً ولكنهم كانوا مُصِرِّين علي ما هم فيه
ومعني "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿55﴾" أيْ هذا تنفيرٌ من الكفر والبعد عن الله والإسلام حتي لا يَفعله أحدٌ عاقل.. أيْ إنَّ أسوأ الدوابّ – جَمْع دابةٍ وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه، والمقصود هنا الناس الكافرون والمشركون والمنافقون والفاسدون ومَن يَتَشَبَّه بهم وتشبيههم بالدوابِّ والتي هي ليست حتي دوابّ عادِّيَّة بل شرَّها هو تصغيرٌ وتحقيرٌ لهم واستهانة بهم – عند الله أيْ في أحكامه ووَصَاياه وتشريعاته وعلمه وحسابه في الداريْن، هم أولئك الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. وهم شرّ الدوابِّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يكونوا مِن شَرِّ الدوابِّ وأن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. فلا يَتَشَبَّه بهم أيُّ عاقلٍ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم.. ".. فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿55﴾" أيْ فهم بالتالي لذلك، بسبب إصرارهم على كفرهم، صار الإيمان بعيداً عنهم وأنهم سواء أنْذروا أو لم يُنْذَروا مستمرّون في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم مُصِرُّون علي ذلك.. إنهم لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل!.. وبالجملة إنَّ شرَّ الدوابِّ الذين كفروا المُصِرُّون علي أن لا يؤمنوا
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴿56﴾ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿57﴾ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴿58﴾ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴿56﴾" أيْ هذا بيانٌ لصِفَةٍ من صفاتهم وحالٍ من أحوالهم.. أيْ إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله الذين كفروا المُصِرُّون علي كفرهم الذين أخذتَ منهم عهدهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرةٍ دون أن يُوفوا بعهودهم ولو مرة واحدة.. ".. وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴿56﴾" أيْ وحالهم أثناء ذلك أنهم لا يَخافون الله ولا يُراقبونه ولا يَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بإسلامهم وعدم نقضهم لعهودهم ولا يخافون نَصْرَه للمؤمنين وتسليطه إيّاهم عليهم فيُعاقبوهم علي غَدْرهم وبالجملة لا يخافون سوء وتعاسة نتائج فِعْلهم في الداريْن
ومعني "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿57﴾" أيْ فإنْ وجدتَ وواجهتَ هؤلاء الناقضين للعهود والمواثيق في المعركة فشَتِّت بهم مَن بعدهم أيْ فاضربهم بشدّة حتى تُشَرِّد أيْ تُفَرِّق بهم مَن خَلْفهم أيْ فأوقع بهم من العقوبة ما يَصيرون به عِبْرَة لمَن بَعْدهم أيْ لكل مَن سيأتي بعدهم غيرهم مُسْتَقْبَلاً من الخائنين الغادِرين المُعتدين أمثالهم حين يرونهم قد تَشَرَّدوا فيَعتبروا هم أيضا بالهلاك والعذاب الذي قد حَدَثَ لسابقيهم فيَتشرَّدون ويَتفرَّقون ولا يَجتمعون ضدَّكم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿57﴾" أيْ لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين، أيْ لعلهم يتذكّرون ذلك، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما حَدَثَ لهم مِن قتلٍ وتشريدٍ فلا يعودوا هم أو غيرهم لنقضهم لعهودهم ولاعتدائهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا لهم ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لمَا حَدَث
ومعني "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴿58﴾" أيْ وإنْ تَخاف وتَتَوَقّع وتَعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من قومٍ مُعاهِدين لك خيانة ظَهَرَت بُوادِرها بظهور بعض قَرَائنها منهم والتي لو اجتمعت مع بعضها البعض لغَلَبَ علي الظنّ خوف وقوع خيانتهم أيْ غَدْرهم ونقضهم للعهد وعدم وفائهم به فألْقِ إليهم واتْرُك حينها عهدهم لكنْ علي سواء أيْ بحيث يَستوي عِلْم الجميع بهذا ويَشْتَهِر الأمر أيْ يُخْبَرون والجميع بأنَّ العهد والوعد معهم قد انتهي بسبب نقضهم هم له حتي لا تكون هناك أيّ شُبْهَة غَدْرٍ أو خيانةٍ من المسلمين كما يَطلب الله والإسلام ذلك لأنه لا يحب الخائنين مطلقاً حتي مع الكافرين وأشباههم والتي من علاماتهم مُحَارَبَة مَن له عهد دون أن يُعلموه بانتهاء عهده بل يحبّ الأوفياء المُتّقين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب خيانته
ومعني "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴿59﴾" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين كفروا، أي الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولا تَظنّوا أنتم أيضا أيها المسلمون، لا يَحسبون مُخْطِئين أنهم سَبَقوا أيْ سبقوا الله تعالي أيْ كأنهم يهربون منه وهو يطاردهم فيسبقوه في الجري أيْ يَفلتوا من عقابه؟!! كلا بالقطع!! ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه، ما أسوأ هذا الظنّ والتّوهُّم، ما أسوأ هذا القرار والتفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس! أنهم يُمكنهم الهروب من عقاب الله أو أنه عاجز غير قادر عليه أو هو غير موجود أصلا كما يفتري البعض أو نحو هذا من الحكم السيء علي ما يدور حولهم من أمور!!.. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. ".. إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴿59﴾" أيْ ليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُشارِكين في إعداد كل أنواع القوة التي تُرهب الأعداء وتُخيفهم وتَمنعهم من اعتدائهم، وتكون عِبْرَة للآخرين غيرهم غير المعلومين للمسلمين سواء يُخفون العدوان ولا يُظهرونه حاليا أم سيَعتدون مستقبلا، وذلك سواء أكانت قوَيَ معنوِيَّة كالتمسّك بالإيمان بالله والاعتصام به والتمسّك والعمل بأخلاق الإسلام وبالأُخُوَّة والوحدة والترابُط ونحو ذلك، أم كانت قوَيَ مادِّيَّة، مالية أو اقتصادية أو عسكرية بأحدث أنواعها بما يُناسب العصر أو علمية بأرقي العلوم أو فكرية أو ثقافية أو اجتماعية أو غيرها، علي قَدْر الاستطاعة لكنْ بما يُرْهِب ويُخيف، وسيُبارِك الله تعالي فيه، وسيزيده، وسيُلقي الرعب به في قلوب المعتدين، وسيجبر أيّ تقصير، وسيجزيك حتما أجرك العظيم حيث كل خير وسعادة في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾" أيْ وجَهِّزوا أيها المسلمون لأعدائكم ما أمكنكم مِمَّا يُخيف ويُحَقّق النصر مِن أيِّ وكلِّ قوَّةٍ معنوِيَّةٍ ومادِّيَّةٍ بكلِّ أنواعها بما يُناسب، وأعِدُّوا لهم كذلك ما استطعتم مِن رباط الخيل والمقصود كل مَا يُرْبَط ويُحْبَس ويُعَدّ ويُجَهَّز ويَرْتَبِط بمكان المُرَابَطَة أيْ المُلازَمَة والإقامة من أجل الدفاع ضِدَّ المُعتدين كالخيل والمُعِدَّات الحديثة والحُصُون المُرَابِطَة علي الحدود وفي مواقعها المُتَعَدِّدة الدفاعية والهجومية وما شابه ذلك مِمَّا يختلف من عصرٍ لآخر.. هذا، وقد خُصَّت رباط الخيل بالذكر رغم أنها من عموم القوّة للتنبيه علي الاهتمام بمثل هذه الأمور.. ".. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.." أيْ لكي تُخِيفوا بهذا الإعداد أعداءكم الذين تَعلمونهم المُنْتَظِرِين لأيِّ فُرْصَةٍ للاعتداء عليكم فيَخافوكم فلا يَعتدوا.. ".. وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ.." أيْ ولكي تُرْهِبُوا كذلك أعداء آخرين من غيرهم لا تعلمونهم أنتم لأنهم يُخْفون عداوتهم لكم لكنَّ الله تعالي يعلمهم بكمال علمه الذي يُحيط بكل شيءٍ وسيُفْشِل عداواتهم ومَكائدهم ويُؤَيِّدكم فتَهزموهم.. ".. وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾" أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت.. أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ شيءٍ من أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم سواء في هذا الإعداد القَيِّم العظيم للقوَّة والذي هو مِمَّا يَحفظ الحياة الصالحة السعيدة لعموم الخَلْق (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾ أو في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾" أيْ فإنّه حتماً يُوَفّ إليكم أيْ ستَأخذون أجوركم عليه وافِيَة غير مَنْقوصَة ودون أيّ ظلمٍ من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ﴿سبأ:39﴾ أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته بنعيمها الذي لا يُوصَف فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿61﴾ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴿62﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿64﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿65﴾ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿66﴾ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿67﴾ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿68﴾ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿69﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿70﴾ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُسَالِمِين، مِن مَوْقِف القوّة لا من موقف الضعف، من موقف النصر وقوة الإعداد بكل أنواعه وبما يحقّق العِزّة والكرامة والحرية والأمن والاستقرار وليس من موقف الهزيمة وإلا كانت الذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والممتلكات والثروات.. إنَّ الإسلام هو دين السلام، دين الأمان، دين الحياة، دين السعادة، فهذا هو الأصل، وما القتال والجهاد فيه إلا استثناء، من أجل المحافظة علي أن تظلّ الحياة بلا ظلمٍ أو اعتداءٍ أو فسادٍ أو غيره، فبمجرد أن يتحقّق هذا يقف القتال فوراً (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿61﴾"، "وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴿62﴾"، "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿63﴾" أيْ وإنْ مَالَ الأعداء المُعتدون بالقتال للسلام والصلح وتَرْك الحَرْب فمِلْ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهذه الحالة والفِعْلَة إذا كانت فيها المصلحة، وذلك بعد أن تكون قد أذقتهم العذاب والهزيمة في الحرب وأعْدَدْتَ لهم ما استطعت من قوة لإرهابهم وغيرهم من أمثالهم المُعتدين الناقِضين لعهودهم فلا يُفَكّرون في اعتداءٍ أو نَقْضٍ لعهدٍ مستقبلاً فيكون بالتالي حينها مَيْلك للسلام وعَقْد اتفاقِ مُصَالَحَةٍ معهم هو من موقف القوة والنصر لا من موقف الضعف والهزيمة وإلا كانت مُسالَمتهم ومُصالَحتهم مُؤَدِّيَة حتماً للذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والمُمتلكات والثروات.. وكل التعاسات.. ".. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ واعتمد علي الله وحده وثِقْ به ولا تَخَفْ مَكْرَهم وكَيْدَهم وغَدْرَهم فهو حتماً سيَكفيكم يا مسلمين كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فلتكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿61﴾" أيْ لأنه هو السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يقولونه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرونه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿36﴾ من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، واستخدام لفظ "وإنْ" والذي يُفيد في اللغة العربية الشكّ في حُدُوث ما بعده، أيْ حُدُوث أن يجنحوا للسلم، يُنَبِّه ضِمْنَاً المسلمين أنَّ أعداءهم ليسوا دائما أهلا للسلام وإنما هم جنحوا إليه لاحتياجهم لذلك وأنهم غالبا سيُعاوِدون الاعتداء لو سَمَحَت ظروفهم فعليهم بالتالي ألا يأمنوا مَكْرهم وأن يكونوا دائما حَذِرين منهم مُستعِدِّين لهم بما يستطيعون من قوِّةٍ تُرْهِبهم.. "وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴿62﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي الاستمرار في السلام بلا تَرَدُّدٍ ما دام فيه المصلحة ومزيدٌ من الطمأنة للمسلمين مع دوام التوكّل علي الله والحَذَر والاستعداد التامّ الدائم.. أيْ وإنْ يُرِدْ هؤلاء الأعداء الذين جَنَحوا للسَّلْم في الظاهر أن يَغدروا ويَمكروا في الخَفاء بك يا رسولنا الكريم ويا مسلمين ويَخدعوكم لتَكَفّوا عنهم حتى يستعدّوا لقتالكم فلا تهتمّوا بخداعهم بل صالحوهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ولا تخافوا منهم فإنَّ الله كافِيكم بنصره وعوْنه، فهو الذي أيَّدَكم بنصره قبل هذا في مواقف كثيرة دعوية وقتالية وغيرها بجنوده التي لا يعلمها إلا هو ولا زال يُؤَيِّدكم وسيُؤَيِّدكم دوْمَاً بها ما دُمْتُم متوكّلين عليه عاملين بإسلامكم، وأيَّدكم كذلك بالمؤمنين، بكم أنتم المؤمنين المُخلصين الصادقين المُجاهدين المُضّحِّين المُحْسِنين لاتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا.. وهذه هي أهم أسباب النصر: التوكّل علي الله والعوْن بجنوده ثم بالمؤمنين الصالحين المُتآلِفين المُتآخِين المُتَّحِدِين المُتعاونين.. "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿63﴾" أيْ وجَعَلَ الأُلْفَة والمَحَبَّة بين عقولهم ومشاعرهم وجَمَعَهم عليها ولو فُرِضَ وأنفقتَ يا رسولنا الكريم ويا أيّ أحدٍ ما في الأرض جميعا من أموالٍ وممتلكاتٍ وخيراتٍ ومنافع وغيرها ما استطعت أن تُؤَلّف بينهم لأنه تعالي وحده الذي يَملك العقول ومَشاعِرها ويَسْمَح لها بالتّحَرُّك نحو الحبّ والتّآخِي أو لا يَسمح لأنه خالقها المُتَصَرِّف فيها، ولكنَّ الله هو وحده الذي ألّفَ وجَمَعَ بينهم وسَمَحَ لهم بذلك وعاوَنَهم عليه بسبب نِعْمة الإسلام الذي أنزلناه إليهم من خلالك حينما اجتهدوا في العمل بأخلاقه فيَسَّرَ الله لهم ووَفّقَهم لذلك بفضله ورحمته وكرمه وقُدْرته فصاروا إخواناً يُؤَاخِي ويحبّ ويُعين ويَرْعَيَ ويُسْعِد بعضهم بعضا.. ".. إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿63﴾" أيْ وذلك لأنَّه غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿64﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه مزيدٌ من التحذير الشديد للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ يا أيها النبي كافِيكَ الله وكافِى مُتَّبِعِيك من المؤمنين – وعند بعض العلماء كافيك الله وكذلك كافيك مُتَّبِعِيك من المؤمنين فهم معك بعد مَعِيَّته تعالي فهو يُعينهم لِيُعِينوك ويَكْفوك ويَنْصُروك وفي هذا تكريم عظيم لهم – فهو ناصِركم ومُؤَيِّدكم على أعدائكم، وما دام الأمر كذلك، فاعتمدوا عليه وحده، وأطيعوه دائما في سِرَّكم وعلانيتكم لكي يُدِيم عليكم عَوْنه وتأييده ونصره، فهو وحده الذي بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيكم في كلّ لحظات حياتكم ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم وكافِيكم، أي الحافِظ لكم المُدافع عنكم المُتَكَفّل بكم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لكم ذلك مِن خَلْقه، فهل تحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فلتكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة.. ثم أيضا مراجعة الآية ﴿36﴾ من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، للشرح والتفصيل عن التوكل﴾، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم أخراكم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿65﴾" أيْ يا أيها النبي حُثّ وشَجِّع المؤمنين علي القتال بكل ما يُقَوِّي عزيمتهم ويُنَشّط هِمَّتهم ويُصَبِّرهم من خلال بيان أهميته العظيمة والضرر الشديد بتَرْكه حيث هو للدفاع عن الحقّ والعدل والخير وللقضاء علي الباطل والظلم والشرِّ ولوْلَا هذا الدفاع لقُضِيَ علي الإسلام والمسلمين الذين يَدْعون الناس إليه ولَتَعِسَت البَشَرِيَّة بدونه في الداريْن لأنه مصدر سعادتها فيهما إذ يُنَظّم للبَشَر كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه.. ومن خلال بيان كذلك أنه ليس له نتيجة إلاّ إحْدَيَ الحُسْنَيَيْن، فإمّا النصر في دنياهم ومعه العِزّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة والربح ثم الأجر العظيم في الآخرة أجر الشهداء لأنهم كان مُسْتَعِدِّين للشهادة وذلك مُقابِل قتالهم وجهادهم وتضحيتهم بذاتهم وبكلّ ما يَملكون – إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وجهادهم في سبيله – وإمّا الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق في أعلي درجات الجنات عند رحمات وخيرات ربه الكريم الرَّزَّاق الذي يُعْطِي المُحسنين بغير حساب.. ومن خلال بيان أيضا أنَّ تَرْك الجهاد في سبيل الله يُؤَدِّي حتماً للذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والمُمتلكات والثروات وبالجملة إلي كل التعاسات والعذابات في الدنيا والآخرة.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة بياناً أنه مع حِرْص الإسلام الشديد علي السلام فإنه في ذات الوقت يَحْرِص كذلك أشدّ الحِرْص علي اتّخاذ كل أسباب النصر المُمْكِنَة بالاستمرار في إعداد كل أنواع القوة بلا أيِّ ارْتِخاءٍ من أجل القتال والاستعداد له والتدريب الدائم عليه بكل الوسائل المُسْتَحْدَثَة.. ".. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿65﴾" أيْ هذا طمأنة وتبشيرٌ وإسعادٌ وتثبيتٌ وتقوية للمسلمين ووَعْدٌ بعوْن ربهم ونَصْره حيث يُؤَكّد سبحانه لهم أنهم بصبرهم وحُسن توكّلهم عليه واتّخاذهم لأسباب النصر بكل أنواع القوَيَ المعنوية والمادية يكون الواحد منهم بقوة عشرة من أعدائهم الذين يقاتلونهم فيهزموهم بإذن الله.. أيْ قاتِلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من الذين كفروا وأشباههم بكل قوةٍ وإقدامٍ فإنكم إنْ يوجد منكم عشرون رجلا صابرون على القتال فلا يَضعفون ولا يَنهزمون بل يَثبتون ويُقاتلون يَغلبوا بسبب إيمانهم وصبرهم وحُسن استعدادهم وعوْن ربهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه مائتين من الكافرين، وإنْ يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم، وذلك بسبب أنَّ هؤلاء الكافرين وأمثالهم قومٌ لا يفقهون أيْ لا يعلمون مَعِيَّة الله وعوْنه ونَصْره وتأييده للمؤمنين الصابرين حيث هم لا يؤمنون به أصلا ولا يُدركون أنَّ المؤمن يُقاتل من أجل الدفاع عن الأبرياء وإحقاق الحقّ والعدل والخير والدفاع عن الإسلام والمسلمين وإسعاد الخَلْق والحياة كلها ثم هو ينتظره إحدي الحُسْنَيَيْن، إحدي السعادَتَيْن، إمّا النصر والعِزّة والكرامة والسعادة في الدنيا، وإما الشهادة وأعلي الدرجات في الآخرة والتي لا يؤمن بها الكافرون، وكلها أمور تَدْفع دَفْعاً قوياً لهذه المعنوِيَّة العالية الهائلة التي هو فيها والتي لا يقف أمامها عدو، بينما الذين كفروا لا يفقهون كل ذلك ولا يعقلونه ولا يتدَبَّرونه بل هم يقاتلون لأجل حياتهم فقط ومُتَعهم وظلمهم وفسادهم ونَهْبهم لخيرات ومُمتلكات غيرهم فإذا خافوا علي هذه الحياة تركوا القتال وفرّوا حرصاً عليها لأنهم ليس لهم حياة بعدها حيث لا يُصَدِّقون بالآخرة كما هو حال المؤمنين.. والسبب الأساسي في عدم فقههم هذا هو أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والآية الكريمة تُفيد ضِمْنَاً أنَّ علي المسلمين أنْ يكونوا أكثر الناس فِقْهَاً بالعلوم الحديثة والعسكرية حتي يستحِقّوا أنْ يُعادِل الواحد منهم عشرة من أعدائهم
ومعني "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿66﴾" أيْ في حالة قوَّتكم أيها المسلمون فإنَّ الواحد منكم يُساوِي عشرة منهم، لكن الآن، وبعد أن استقرّت هَيْبَة الإسلام في نفوس الكفار وأعوانهم، لو فُرِضَ في وقتٍ مَا كَثُر عليكم أعداؤكم وكنتم في حالة ضعفٍ يعلم الله أنكم أحيانا تمرّون بها، ففي مثل هذه الحالات يُخَفّف عنكم برحمته وفضله حيث حينها يُساوِي المسلم اثنين فقط من أعدائه، بمعني أنه لا يمكن له أن يَفِرّ منهما، وإلاّ يكون قد ارتكب شَرَّاً كبيراً يَتَرَتّب عليه ضَرَر كبير في الدنيا حيث الذلّة واستباحة الأعراض والأملاك وغيرها وبالتالي التعاسة التامّة، ثم ما هو أتعس وأشدّ عذاباً في الآخرة.. ونُبَشّركم بأنه إنْ يُوجَد منكم مائة صابرة على القتال فلا يَضعفون ولا يَنهزمون بل يَثبتون ويُقاتلون يَغلبوا بسبب إيمانهم وصبرهم وحُسن استعدادهم وعوْن ربهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه مائتين من الكافرين، وإنْ يُوجَد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم، بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره وإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. هذا، ولو فُرِضَ وحَدَثَ انكشافٌ للمسلمين بسببٍ من الأسباب، فيجوز حينئذ الترَاجُع المُنَظّم المَدْرُوس حفاظاً علي الأفراد والمُعِدَّات حسبما يراه القادة الأكفاء المُخْلِصون، ومن أجل إعادة التأهيل والبناء واستكمال أسباب القوة للتحضير لمعركةٍ قريبةٍ ينتصر فيها الإسلام والمسلمون بإذن الله، فهو حتماً مع الصابرين الصامدين الثابتين المُستمرّين، يعِزّهم وينصرهم ويسعدهم، في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿66﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التشجيع علي الصبر لسعاداته في الدنيا والآخرة.. أيْ وهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة والنصر في دنياه وأخراه
ومعني "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿67﴾" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق لنبيٍّ من الأنبياء أن يكون له أسري من أعدائه المُعتدين علي الإسلام والمسلمين الذين يريدون بهم سُوءً وقضاءً عليهم قبل أن يُثْخِنَ في الأرض أيْ يُضْعِف ويُنْهِك أعداءه بكثرة الضرب والقتل فيهم لضمان عدم اعتدائهم ولإدخال الرعب في نفوسهم وغيرهم فلا يُفكّرون في الاعتداء مستقبلا ولإذلال الكفر والكافرين وأعوانهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ولإعلاء الإسلام والمسلمين وللتمكين له ولهم في الأرض ليسعد به الناس جميعا.. فإذا حَدَثَ هذا الإثخان فمِن المُمكن حينها أسْر الأسري والإبقاء عليهم أحياء لمزيدٍ من إضعاف العدو والتفاوض معه عليهم.. والمقصود من الآية الكريمة تنبيه وتحذير المسلمين ألاّ يجعلوا أبداً أولويتهم وانشغالهم أثناء القتال جَمْع الأسري والغنائم وإنما الأولوية لتحقيق النصر وإضعاف أعدائهم ولذا يبدأون بالإثخان أيْ الإثقال علي العدو – من ثَخِين أيْ ثقيل – بالضرب والقتل والإضعاف والإنهاك، خاصة في قادتهم وزعمائهم، حتي إذا حَدَثَ الإثخان في الأرض بمعني النصر وهزيمتهم وانكشافهم بحيث لا يَقْوُون علي المواجهة ويبدأون في التراجُع والخذلان حينها يمكن جمع الأسري والغنائم، أما قبل ذلك فمِن المُمكن مُعاوَدَتهم للقتال إذا أُسِرُوا وتَمَّت مُبَادَلَتهم بمالٍ أو غيره، ولذلك يُعاتِبَ سبحانه المسلمين علي اختلال الأولويات عندهم وانشغالهم بأسر أفراد أعدائهم قبل الانتصار عليهم.. ".. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.." أيْ تريدون أيها المسلمون بذلك ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، والمقصود بعرض الدنيا هنا الفِدْيَة المالية التي تُؤْخَذ من الأسري في مقابل إطلاق سراحهم.. ".. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ.." أيْ ولكنَّ الله يريد لكم ما هو أعظم، يريد لكم العِزَّة والكرامَة والمَهَابَة وأن ينتشر الإسلام ويسمع به الناس بسببكم فيسعد الجميع في دنياهم ثم تُثابون أعظم الثواب علي ذلك في أخراكم، ولذا فهو يُوصِيكم بما يُوصِلكم لذلك، وبالجملة الله يريد إظهار دينه الإسلام الذي به يَحْصُل البَشَر علي ثواب الآخرة الذي لا يُوصَف.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿67﴾" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿68﴾" أيْ لولا حُكُمٌ سابقٌ من الله مَكْتُوبٌ في اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – بالعفو عن المُجْتَهِد المُخْطِيء بل وإعطائه الأجر علي اجتهاده رغم خَطَئه لتشجيعه علي مزيدٍ من التفكير والابتكار والاجتهاد والتطور لكن نحو الصواب ولأنَّ غيره سيَعْتَبِر به ولا يفعل مثله فيُؤْجَر لذلك وإنْ أصاب فله أجران، ولولا حُكُمٌ سابقٌ بعدم مُحَاسَبَة أحدٍ إلا بعد نزول التشريع الذي فيه الحلال والحرام والصواب والخطأ، لَكَانَ أصابكم ونالكم في مُقابِل ما فعلتم مِن أخْذِ أسري قبل أن تُثْخِنُوا في الأرض عذابٌ وضَرَرٌ عظيم، في الدنيا أولا حيث قد يَنتصر عليكم عدوكم وتَنكشفون وتُذَلّون وتُنْتَهَك أعراضكم وأموالكم بسبب هزيمتكم، ثم في الآخرة تُحَاسَبون بالعقاب المُناسِب
ومعني "فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿69﴾" أيْ لقد عفوتُ عنكم أيها المسلمون فيما فعلتم مِن أخْذِ أسري قبل أن تُثْخِنُوا في الأرض وأبَحْتُ لكم الغنائم فانتفعوا وتمتّعوا بالتالي إذَن مِن الذي غنمتم من غنائم عموماً بعد هزيمة عدوكم والتي منها الفِدْيَة المالية في مقابل إطلاق سراح الأسري، فهي حلالٌ أيْ مسموحٌ بها لكم غير مُحَرَّمَة أيْ غير ممنوعة وهي طيِّبَة أيْ نافِعَة لا ضارَّة، فإنَّ الممنوع بسبب ضَرَره هو الانشغال بأخذ الأسري والغنائم قبل الإثخان في الأرض، لكن إنْ هزمتموهم فخُذوا ما غنمتم فهذا حلالٌ طيِّبٌ لكم.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها أثناء الحروب وجَمْع الغنائم وتوزيعها والانتفاع بها، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿69﴾" أيْ إنَّ الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. ولذلك غَفَرَ لكم ورَحِمَكم
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿70﴾" أيْ هذا بيانٌ لطَلَب الإسلام من المسلمين حُسْن مُعامَلَة الأسري وإكرامهم وعدم إهانتهم وتشجيعهم علي أن يُسْلِموا، رغم ما فعلوه من قتالٍ للإسلام والمسلمين، لكنْ لعلهم يَتّعِظون بهذه المعاملة الحَسَنَة وتتغَيَّر نظرتهم للإسلام حينما يَتَعَايَشون لبعض الوقت مع بعض المسلمين المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم، فهو يَطلب حُسْن دعوتهم بصورة مباشرة إضافة إلي القُدْوَة الحسنة.. أيْ يا أيها النبي ويا كل مسلم مِن بعده قل للذين في أيديكم من الأَسْرَىَ وتحت تصرّفكم مِمَّن أسرتموهم أثناء قتالكم للمُعتدين عليكم والذين أخذتم منهم الفدية المالية المُتَّفق عليها لتُطْلِقوا سراحهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ يكن في عقولكم خير، أيْ بَدْء تفكيرٍ في أنْ تَتوبوا وتُسْلِموا وتَعْزِموا علي تَرْك كفركم بصورةٍ جِدَّيَّةٍ حقيقيةٍ وليست ظاهرية، يَعْلَمه اللَّه حتماً، فإنه يعلم السِّرَّ وما هو أخفي منه فهو خالقكم، فإنْ أحسنتم استخدام هذه العقول واستجبتم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وأسلمتم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنه حينها بالقطع سيُعِينكم ويَشْرَح صدوركم للإسلام ويُيَسِّر لكم أسباب ذلك، وبهذا يكون قد آتاكم أيْ أعطاكم الخير كله، الإسلام، والذي ستسعدون به تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وهذا بلا أيِّ شكّ أعظم خيراً مِمَّا أُخِذَ منكم من أموالٍ افتديتم بها أنفسكم لتَتَحَرَّرُوا من الأسْر ومن غنائم أُخِذَت منكم بعد هزيمتكم، وسيُعطيكم شيئاً عظيماً آخر شديد الخير لا يُقارَن وهو أن يغفر لكم أيْ يمحو ذنوبكم السابقة كلها مِن كفرٍ وقتلٍ واعتداءٍ وظلمٍ وفسادٍ وغيره ويُسامحكم فيها ولا يُعاقبكم عليها لا في الدنيا ولا في الآخرة حيث الإسلام يَهْدِم ويَمْحُو ما قبله من سوءٍ والتوبة تهدم وتمحو ما قبلها منه فتعيشون حياتكم بذلك في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ والمُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿70﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي واسع مغفرته ورحمته وخيره بما لا يُوصَف.. أيْ والله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. ولذلك يغفر لكم ويرحمكم
ومعني "وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وإن يُريدوا هؤلاء الأسري الذين تُطْلِق سراحهم خيانتك يا رسولنا الكريم ويا مسلمين بأن يُظْهِر بعضهم المَيْل إلى الإسلام أو يُعْلِن إسلامه مع إخفاء قَصْد مُخَادَعتكم والغَدْر بكم وينقضون عهدهم عند عودتهم لبلادهم فيعودون لكفرهم ولمُعاداتكم ولقتالكم مرة أخري، فلا تتأثّروا بخيانتهم وخُذوا حِذْرَكم وتذكّروا ولا تنسوا أنهم قد خانوا الله مِن قَبْل أسْرِهم بصورٍ مُتَعَدِّدة، وكثيراً، بأنْ كفروا به وبِنَعَمِه فأنكروها وعبدوا غيره وهذا أشدّ أنواع الخيانة للعقل وللفطرة والتي هي مسلمة لله أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وبأنْ هَمُّوا بقتل رسوله ﷺ أو حَبْسه أو إخراجه من بلده وبأنْ خانوا المسلمين وغدروا بهم كثيراً ولم يكونوا أمناء معهم وظلموهم واعتدوا عليهم وغيرهم وبأنْ نشروا الشرَّ والفساد وما شابه ذلك من خيانات، فأمْكَنَكُم الله منهم بقُدْرته بجنوده التي لا يعلمها إلا هو أيْ جعلكم تَتَمَكّنون منهم وتَقْدِرون وتَنتصرون وتُسيطرون عليهم وتَحكمونهم بنظام الإسلام وبالتالي إذَن فإنْ عادوا للخيانة فسيُمَكّنكم منهم مستقبلاً كلّما عادوا كما مَكّنَكم منهم سابقاً وسيُؤَيِّدكم دوْمَاً ما دُمْتُم متوكّلين عليه عاملين بإسلامكم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده.. وهو عليمٌ بما يُسِرُّونه أمثال هؤلاء الخائنين وما يُعْلِنونه وبما يَستحِقّونه من عقابٍ دنيويّ وأخرويّ مُناسبٍ لسُوئهم وبما يَكفيكم من شرورهم ويُمَكّنكم منهم.. وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿72﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴿73﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿75﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجِرين المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة منه وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير
ولذا، فمِن الجهاد، مع النوايا الحَسَنة بالعقل، بذل الجهد في العمل والتخصّص والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والعلم والفكر والتخطيط والتطوير والابتكار وما شابه هذا، في كل المجالات الأسَرِيَّة والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والصناعية والزراعية والرياضية والإعلامية والفنية وغيرها، وبكل الأشكال المالية والصحية والوقتية والذهنية وغيرها، ومع عموم الناس مسلميهم وغير مسلميهم علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأعرافهم ودياناتهم وأماكنهم بدءاً بالأقْرَب والأسْهَل والأنْسَب ثم الأبْعَد والأصْعَب
كذلك من الجهاد، نشر دعوة الإسلام بالقدوة والقول والعمل بالحكمة والموعظة الحسنة وبذل الوقت والصحة والفكر والمال وغيره في ذلك.. تنشره في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسب، وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبة، وأثناء العمل والعلم والإنتاج والكسب وغيره، ومع كل فردٍ مُمكن مناسب من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء والجميع بما يناسب ظروفهم وأحوالهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم.. كذلك من الجهاد تَحَمُّل أيّ أذَيَ قد يحدث أثناء ذلك، سواء أكان معنويا أم جسديا، بالسَّبِّ أو الضرب أو السجن أو التشريد أو حتي القتل، مع الصبر والثبات والصمود والاستعانة بقوة الله أولا ثم بقوة تَجَمُّع الصالحين حولك خاصة عند مقاومة الشرّ وأثناء حَمْل الحقّ وقوله والدفاع عنه ضدّ الظالمين أيَّاً كان مواقعهم ومسئولياتهم
ثم تأتي أعلي صور الجهاد وأعظمها، الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد بالقتال وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾.. يقول ﷺ في توسيع معني الجهاد "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" ﴿رواه أبو داود﴾
كذلك ستسعد في حياتك كثيرا، إذا كنتَ من المهاجرين، والهجرة عموما هي المُفَارَقَة، وفي سبيل الله أيضا تعني في كل خير، والهجرة أيضا صور ودرجات علي حسب النوايا الحَسَنَة بالعقل، فمُفَارَقة أيّ شرٍّ تُعْتَبر هجرة، ومفارقة أصحاب السوء وأهل الشرّ هجرة، ومفارقة حتي الفكر الشَّرِّيّ بالعقل هجرة، وما شابه هذا، ثم أعلي صور الهجرة وأعظمها، الهجرة بمفارقة الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها، من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها، في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها
فإنْ كنتَ مِن هؤلاء، فأَبْشِر، فأنت مِمَّن يرجون رحمة الله، ويتّخِذون أسبابها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ والاستغفار عن أيِّ خطأ، ويتمنّونها وكلهم أمل واستبشار وتفاؤل ويقين في تحصيلها لأنّ ربهم خالقهم هو الكريم الرؤوف الغفور الرحيم.. أمّا مَن لم يفعل ذلك، فلا حَصَادَ لزرعٍ دون بَذرٍ لبذوره! فسيَعيش سابحاً في الأوهام والأماني!.. لكنَّ رحمة الله تَسَع كلّ شيءٍ وكلّ مُقَصِّرٍ بمجرّد أن ينوي بعقله خيراً ويَهِمّ ويبدأ به
هذا، ومَن كان له عذر مقبول يمنعه عن الجهاد أو الهجرة أو القتال عند الاحتياج لكل ذلك، يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية ﴿95﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار﴾
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿72﴾" أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهَاجَرُوا.." أيْ وفَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.." أيْ وبَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا في بدء تفسير هذه الآيات تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة"، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا.." أيْ والذين أَنْزَلُوا المُهاجرين إليهم في بلادهم وبيوتهم وجعلوها مَأوَيً ومَلْجَأ ومَسْكَنَاً آمِنَاً وقَدَّمُوا لهم في غُرْبَتِهم كلّ الحماية والرعاية والأُخُوَّة والمَحَبَّة والمَعُونَة المادِّيَّة والمَعْنَوِيَّة ونصروهم علي مَن ضِدَّهم في كل شئون حياتهم بكل صُوَرِ النصر المُمْكِنَة ونصروا عموما بما يستطيعون الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيبة الكريمة بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضهم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحهم وحقوقهم وأهدافهم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا.." أيْ وأمّا المؤمنون المُقِيمون في دولٍ غير إسلامية يعيشون بين غير مسلمين وتحت حُكْمهم بقوانينهم ولم يُهاجروا لسببٍ من الأسباب إلي الدولة المسلمة التي تحكم بنظام الإسلام فأمثال هؤلاء ليس لكم أيها المسلمون عليهم أيّ شيءٍ مِن ولايةٍ أيْ سلطانٍ وإلزامٍ بقوانين الإسلام وحمايةٍ لهم ونحو هذا لأنكم لا تستطيعون واقِعِيَّاً ذلك – لكن يَلتزمون هم قطعاً فيما بينهم ومع غيرهم بأخلاق الإسلام لا يُخالِفونها – لأنهم تحت حُكْم غيركم وبقوانين غير قوانينكم الإسلامية، ويستمرّ هذا حتي أيْ إلي أنْ يُهاجِروا ويَعيشوا بينكم فحينها يَتَعامَلون بقوانين دولتكم المسلمة ويكونون تحت ولايتها أيْ سُلطانها وحمايتها وامتيازاتها.. ".. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ.." أيْ ولكنْ يَظلّ حتماً بينكم قَدْر استطاعتكم المُوَالَاة التي يُوجِبها الإسلام علي كل المسلمين في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أيْ المَحَبَّة والنُّصْرَة والمَعُونَة المُمْكِنَة بحيث إنْ طَلَبوا نُصْرَتَكم في الدين أيْ مِن أجله فعليكم نَصْرهم قطعاً بما يطلبونه ويحتاجونه وما تستطيعونه، مع مراعاة ألاّ تَنْقضوا ميثاقاً أيْ عَهْدَاً مع أيِّ قوم، بما يدلّ علي المراعاة التامّة من الإسلام للوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها مع جميع الناس مسلمين وغيرهم.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿72﴾" أيْ والله علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم بصيرٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴿73﴾" أيْ والذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، من أجل الكفر والظلم والشرّ والفساد وعَدَاء الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، رغم كل ما بينهم من اختلافاتٍ هائلةٍ في الأفكار والأديان والثقافات والعلوم والمعارف والبيئات والعادات والتقاليد وغيرها، ورغم كل ما بينهم من صراعاتٍ وتنافساتٍ شديدةٍ علي السَّلْب والنَّهْب والسَّطْو والاحتلال ونحوه، فهم رغم كل هذا إلا أنهم يَتّفِقون على العَدَاء والإيذاء للإسلام وللمسلمين.. ".. إِلَّا تَفْعَلُوهُ.." أيْ إنْ لم تفعلوا التَّوَلّي أيْ التّناصُر والتعاون والإخاء بعضكم لبعضٍ أيها المؤمنون وعدم التّوَلّي للذين كفروا وأشباههم، كما طَلَب منكم ربكم وإسلامكم، وأنتم عندكم كل مُقَوِّمات هذا التّوَلّي حيث أنتم مُتّحِدُون علي الله والرسول ﷺ والقرآن والإسلام والحَرَم الشريف والهدف السَّامِيّ المُوَحَّد وهو إسعاد الحياة والبَشَرِيَّة كلها في دنياها وأخراها.. ".. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴿73﴾" أيْ ستَحْدُث الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والمَظالِم والجرائم والتعاسات ونحوها لأنكم حتماً ستَضعفون وسيَنتصر ويُسيطر عليكم أعداؤكم وغير المسلمين وبالتالي لن يكون الدين كله لله أيْ لن تكون كلمة الله هي العُلْيَا خالصة كلها وحدها ليس معها كلمة أخري عُلْيَا أيْ لن يكون الخالق العظيم ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه المجيد وإسلامه الحنيف أي الذي لا يَميل عن الحقّ والعدل والخير هم دائما المَرْجِع لكل الناس في كل مواقف ولحظات حياتهم ليسعدوا بذلك السعادة التامّة فيها ثم يكون لهم في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، بل ستكون أيّ أنظمة أو ديانات أخري مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة للبَشَر في الداريْن هي العليا فيتعسون تمام التعاسة فيهما
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿74﴾" أيْ هذا مَدْحٌ لهم وبيانٌ لأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم لتشجيع كل الناس ليكونوا كذلك مِثلهم (برجاء مراجعة الآية ﴿72﴾ للشرح والتفصيل، مع مراعاة أنَّ استخدام ذات الألفاظ مثلها تقريباً في جزئها الأول هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها، ومراعاة أنَّ الآية ﴿72﴾ تُوَضِّح المطلوب منهم وهو أنْ يكونوا أولياء بعضهم لبعضٍ وأنْ ينصروا كل مسلمٍ في كل مكانٍ أمَّا هذه الآية فتَشهد لهم بإيمانهم الحقّ وتُوَضِّح عظيم فضلهم وأجرهم﴾.. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة هم بالقطع المؤمنون حقّ الإيمان أيْ الكامِلُون في الإيمان الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذه شهادة من الله تعالى بكمال إيمانهم، وكَفَىَ به شهيدًا، فهو أعظم شاهد ويَكفِيِ كلّ مسلم بهذه الأوصاف كفاية تامّة أنه سبحانه هو الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم فشهادته حتما هي الحقّ أيْ الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِيهم بالقطع كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، فأيّ شهادة وأجر أعظم مِن هذا؟ ولذا يقول ".. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿74﴾" أيْ لهم مغفرة لذنوبهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب كمال إيمانهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿75﴾" أيْ هذا بيانٌ وتشجيعٌ أنَّ الباب مفتوحٌ لجميع الناس ليكونوا كلهم مِثْل المؤمنين الأوائل الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَدْحهم وفضلهم وأجرهم ووَصْفهم بأنهم مؤمنون حقاً وأنَّ لهم مغفرة ورزق كريم في الداريْن.. أيْ وكل الذين آمنوا لاحِقَاً ومستقبلاً حتي يوم القيامة مِن بَعْد المؤمنين الأوّلِين السابقين وهاجروا وجاهدوا معكم يا مسلمين أيْ يفعلون فِعْل مَن سَبَقوهم ويَقتدون تماماً بهم (برجاء مراجعة معني "وهاجروا وجاهدوا" في الآية ﴿72﴾، للشرح والتفصيل) فهؤلاء منكم أيْ معكم حتماً أيْ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم جميعا بعضكم أولياء بعض أيْ أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضكم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحكم وحقوقكم وأهدافكم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. فأمثال كل هؤلاء لا يَقِلّون عن المسلمين الأوائل في الفضل وإنْ كانوا قد جاءوا في زمنٍ بعدهم وهو أمرٌ لا تأثير له عند الله تعالي ما دام قد حقّقوا الإيمان الحقّ والجهاد والهجرة.. ".. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ.." أيْ وأصحاب القَرَابَة بعضهم أوْلَىَ ببعضٍ في قرآن الله وإسلامه وحُكْمه من عامة المسلمين وعموم الناس، أيْ الأقارب من المؤمنين لهم إضافة لولاية الإيمان ولاية القرابة حيث بعضهم أولى ببعضٍ من غيرهم أيْ لهم الأوْلَوِيَّة في المُوالَاة أيْ المَحَبَّة والنُّصْرَة والمَعُونَة، وفي الميراث كما حَدَّده سبحانه في آيات المواريث، ثم يأتي بعد ذلك في الموالاة مَن هو أقرب ثم أبعد فأبعد، وهذا هو ما يُوافِق العقل والفطرة.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿75﴾" أيْ إنَّ الله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم ﷺ وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
التفسير السعيد لسورة التوبة
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿1﴾ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿2﴾ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿3﴾ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿4﴾ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿5﴾ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿7﴾ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿8﴾ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿9﴾ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴿10﴾ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿11﴾ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴿12﴾ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿13﴾ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴿14﴾ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿1﴾" أيْ هذه الآيات هي براءةٌ وَاصِلَة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فنَقَضوا عهودهم معكم أيها المسلمون.. والمشركون هم الذين يشركون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه.. والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف.. والمقصود أنَّ مَن نَقَضَ عهده معكم أيْ لم يُوفِ ولم يلتزم به فلا تلتزموا أنتم أيضا بما اتفقتم عليه معه (برجاء مراجعة الآيات ﴿56﴾ حتي ﴿59﴾ من سورة الأنفال "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿2﴾" أيْ هذا بيانٌ لرُقِيِّ وسُمُوّ وكمال الإسلام حيث لا يَخُون ولا يَغْدُر بأيِّ أحدٍ أبداً ولكنه في ذات الوقت يُؤَدِّب مَن خانَ وغَدَرَ ويُرْجِعَه للصواب، فهو رغم نَقْض بعض غير المسلمين هم لعهدهم إلاّ أنَّ الإسلام يُعْلِمهم والجميع بنَقْضِهم ويَمنحهم فترةَ سماحٍ لمدة أربعة أشهرٍ للتفكير والتشاور في الأمر ولتدبير شئونهم فإمّا أن يعودوا لعهدهم وإمّا أن يُعاقَبوا بما يُناسب غَدْرِهم وخِيانتهم، وخلال هذه الفترة يَسيرون ويتحرَّكون في أيِّ مكانٍ آمنين دون أن يتعرَّض لهم أحدٌ من المسلمين.. هذا، ومَن كان له عهدٌ بمدةٍ أكثر من أربعة أشهر فإنَّ الإسلام يَلتزم بها، ومَن كان له مدة أقل منها تُرْفَع لها ومَن كان عهده بغير مدةٍ فإنه يُحَدَّد بها.. أيْ قولوا أيها المسلمون لهؤلاء الناقِضين لعهودهم سِيروا وتَحَرَّكوا في الأرض بأيِّ مكانٍ بكل حرية آمنين لمدة أربعة أشهر – وهي المدة التي في الغالب تكون كافية للناس عموما للقيام بالمشاورات والوصول لأفضل الآراء المُمْكِنَة في الأمور المَصِيرِيَّة – وبعدها سَيَتِمّ التعامُل معكم بما يُناسبكم، واعلموا أيْ واعْرَفُوا وتأكّدوا وتَذَكّروا دائما ولا تَنْسوا مُطلقاً أنكم بسِياحتكم فى الأرض خلال تلك المُهْلَة لن تُعْجِزوا الله أيْ لن تَهْرَبوا من عقابه وعذابه حتماً حتي ولو أمهلكم فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذّباً مُعَانداً مُستكبِراً، أم حتي مؤمناً، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزاً أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. واعلموا كذلك أنَّ الله مُخْزِي أيْ مُذِلّ ومُهِين الكافرين إن استمرّوا علي كفرهم ولم يُسْلِموا حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذابٍ يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذّباً مُهِينَاً لهم، ثم قطعاً سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿3﴾" أيْ وهذه الآيات هي أذانٌ أيْ إعلامٌ وإبلاغ من الله ورسوله إلي جميع الناس سواء نَقضوا عهدهم أم لا وسواء لهم عهود مع المسلمين أم لا أم سيَعْقِدونها مُستقبلاً ليعلموا جميعاً يوم اجتماعهم في الحجّ الأكبر حيث اجتماع العمرة يُسَمَّيَ الحج الأصغر أو في غيره من التّجَمُّعات الكبيرة أنَّ الله ورسوله كذلك – والمسلمون أيضا – بَريءٌ من عهود المشركين وأشباههم الخائنين الناقِضين لعهودهم، أيْ بعيدٌ كل البُعْد منها رافضٌ لها غيرُ مُعْتَرِفٍ بها ولا راضٍ عنها ولا صِلَة بينه وبينها وهو ضِدَّها ومُعاديها.. هذا، ويُخْتار يوم الحجّ الأكبر – أو أيّ تَجَمُّعٍ ضَخْم – لهذا الإعلام والإبلاغ لأنه اليوم الذى يَجْمَع أكبر عددٍ من الناس ويَسْمَع به أكثر العالَم ويُمكن أن يُذاعَ الخَبَر عن طريقهم فى جميع الأنحاء.. هذا، والآية ﴿1﴾ تُخْبِر بحُدُوث البراءة بينما هذه الآية ﴿3﴾ تُخْبِر بوجوب الإعلام والإنذار بها للجميع.. ".. فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ فإنْ قُمْتُم بالتوبة أيها المشركون وكلّ غير المؤمنين من كُفْرِكم بأنْ آمَنْتُم أيْ صَدَّقتم بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكتم وعملتم بأخلاق الإسلام، فهذا الإيمان والمَتَاب والرجوع لله وللإسلام هو خيرٌ لكم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ.." أيْ وإنْ أعطيتم ظهوركم لله ولرسولكم الكريم ﷺ والْتَفَتم وانْصَرَفتم وابْتَعَدُتم عن الإسلام وتَرَكتم أخلاقه وأهملتموها وفعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلموا أيْ فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تَنْسوا مطلقاً أنكم لن تُعْجِزوا الله أيْ لن تَهْرَبوا من عقابه وعذابه ولن تجعلوه عاجِزَاً عنه حتماً حتي ولو أمهلكم لأنكم أينما كنتم فأنتم تحت قُدْرته وسُلْطانه.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ " اعلموا أنكم غيرُ مُعْجِزِي الله" كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿3﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تحذيرهم من التَّوَلّي ونتائجه السَّيِّئة.. أيْ وأَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الذين كفروا بما في القرآن الكريم ليكون إنذاراً وتخويفاً لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما، أخْبِرهم وذَكّرهم بعذابٍ أليمٍ أيْ مُوجِعٍ مُهينٍ يَنتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، وفي لفظ "بَشّر" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿4﴾" أيْ لكنْ الذين عاهَدتم من المشركين وغيرهم فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلُّوا شيئاً من شروطها قَلَّ أم كَثُر بل أدُّوهَا كاملة غير منقوصةٍ أيّ شيء، ولم يُعاونوا عليكم أحداً من الأعداء ضِدَّكم، فأَكْمِلُوا بالتالي لهم عهدهم إلى نهايته المُحَدَّدَة قَلّتْ أو كَثُرَت واحترموه بالقطع ولا تُعاملوهم مُطلقاً مُعامَلَة الناقِضين للعهد لأنَّ الإسلام لا يُوصِي أبداً بالخيانة بل بالوفاء.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿4﴾" أيْ إنَّ الله حتماً يحبّ المُتّقين أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
ومعني "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿5﴾" أيْ فإذا انْقَضَيَ زَمَن الأمان وهو الأشهر الأربعة المَذْكورة في الآية ﴿2﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ – وسُمِّيَت حُرُمَاً لأنَّ الله تعالي جَعَلَها فترةَ أمانٍ للمشركين وحَرَّم فيها علي المسلمين التَّعَرُّض لهم – فاقتلوا المشركين الناقِضين للعهد بأنْ اعتدوا عليكم بالقتال وقَتَلوا منكم حيث وَجَدْتموهم في أيِّ وقتٍ ومكانٍ أثناء صَدِّ اعتدائهم.. ".. وَخُذُوهُمْ.." أيْ وأسْرِوُهم، أيْ وخُذُوهُمْ أسْرَيَ.. ".. وَاحْصُرُوهُمْ.." أيْ وحاصِروهم حتي يَسْتَسْلِموا، واحْبِسُوهم.. ".. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.." أيْ واقعدوا لهم في كل مكانٍ من المُمْكِن أن تَرْصدوهم وتُرَاقبوهم فيه هم وتحرّكاتهم العداونية وذلك حتي تتمكّنوا من إفشال مكائدهم أوَّلاً بأوَّل.. هذا، والقتل أو الأسْر أو السجن أو الحصار أو الرصد أو التحرير للأسري بمقابلٍ يكون حسبما تَتَطَلّبه المصلحة للإسلام وللمسلمين بما يَراه ويَتشاوَر فيه المسئولون الصالحون الأكفاء.. هذا لهم في دنياهم، ثم في أخراهم عذاب النار الأشدّ والأعظم والأخْلَد، إذا لم يتوبوا.. ".. فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.." أيْ فإنْ قاموا بالتوبة من كُفْرِهم وشِرْكهم بأنْ آمَنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام، وظَهَرَ صِدْق ذلك بأنْ أقاموا الصلاة أي وَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، فحينها بالتالي خَلّوا سبيلهم أيْ اتركوهم ولا تَتَعَرَّضوا لهم بشيءٍ من ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره لأنهم أصبحوا مسلمين مثلكم وإخوانكم في الإسلام لهم ما لكم وعليهم ما عليكم والإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿5﴾" أيْ لأنَّ الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾" أيْ هذا بيانٌ لرُقِيِّ وسُمُوّ وكمال الإسلام حيث يُوصِي المسلمين بتأمين وإغاثة وإعانة مَن يَطلب الأمان والاستغاثة والإعانة حتي ولو لم يكن مسلما.. أيْ وإنْ اسْتَجَارَك أيْ طَلَبَ جِوارك أحدٌ من المشركين وغيرهم من غير المسلمين حتي الذين أُمِرْتُم بقتالهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، أيْ أنْ تُجِيره، أيْ أنْ تَحْمِيَه وتُؤَمِّنه مِمَّا يَخاف وتُعينه علي ما يحتاجه، فأَجِرْه أيْ فاحْمِهِ وأَمِّنْه وأَعِنْه، حتي يسمع أيْ لكي يسمع أو إلي أنْ يسمع، بمعني حتي يكون هذا الأمان الذي يتَحَقّق له بين المسلمين فُرْصَة وسَبَبَاً في أن يسمع القرآن العظيم منك أو غيرك ويَتَفَهَّم أنَّ الإسلام يُصْلِحه ويُكْمِله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه فلعله بهذا السَّمَاع يَتَدَبَّر ويَصِل لذلك ويُسْلِم فيَسْعَد.. وهذا يدلّ علي حرص الإسلام الشديد علي كل فردٍ أن يهتدي مهما كانت شروره ومَفاسده وأضراره وعداواته ليَسعد لأنَّ في إسلامه أماناً وسعادة له وللجميع فهو يُوجِب علي المسلمين اغتنام أيّ فُرْصَةٍ لدعوته إليه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. هذا، وكل من جاء أجنبيا ودخل بلاد المسلمين بتأشيرةِ مُوَافَقَةٍ من أجل تجارةٍ أو علمٍ أو سياحةٍ أو نحو ذلك فإنه يُعْطَيَ بالقطع كلّ أمانٍ وحمايةٍ حتي يعود لبلده.. ".. ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.." أيْ ثم بعد أن يسمع كلام الله ولم يُسْلِم فلا تُسِيء إليه ولا تُؤذيه أبداً لعدم استجابته وإسلامه فلا يَدخل أحدٌ الإسلام مُكْرَهَاً وإلا اسْتَثْقله ولم يستشعر قيمته ولم ينتفع ويسعد به ولكن أوْصِلْه مكانَ أمنه واستقراره الذي يأمَن فيه علي نفسه وماله وهو بلده التي جاء منها ويظل آمِنَاً مستمرّ الأمان حتى يتحقّق له ذلك، فبهذه المُعاملة الحسنة ستُرَاجِعه فطرته بداخله حتماً مستقبلاً والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) والواقع يثبت أنَّ كثيرين يُسْلِمون بسبب حُسن معاملتهم مع الوقت، وإنْ أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة فأَسْلَمَ فهو منكم يا مسلمين وأخٌ لكم في الإسلام له ما لكم وعليه ما عليكم وسيَسعد في الداريْن لأنَّ الإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾" أيْ ذلك الذى نُوصِيك به من إجارة المُسْتَجِير من غير المسلمين وإسْماعه كلام الله وإبْلاغه مَأْمَنه إذا لم يُسْلِم بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإسلام وأنه يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ولذا فهم يحتاجون لفتراتٍ من الوقت ليَسمعوه فيها ويَتَدَبَّروه وهم آمنون، فلعلهم بهذا السماع منك ومن المسلمين يُسْلِمون فيسعدون ويزداد الإسلام انتشاراً والناس سعادة ثم إذا لم يُسْلِموا فلم يَعُدْ لهم عُذْرٌ في عدم إسلامهم فقد عَلِموه وزالَ جهلهم عنه وليتحمّلوا بالتالي إذَن سوء نتيجة ذلك حيث تعاستيّ الدنيا والآخرة
ومعني "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿7﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للنفي.. أيْ لا يكون للمشركين الناقِضين لعهودهم – ولا لمَن يَتَشَبَّه بهم في نَقْضهم للعهود – عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به ما داموا هم يَغْدِرون ويَنقضون العهد ولا يُوفون بشروطه.. كذلك من المعاني أنهم يَستحيل أن يَبْقَيَ لهم عهدٌ وهم مُعادُون هكذا للمسلمين مُخْفون دائما للغَدْر بهم، فانتبهوا لذلك يا مسلمين واحذروا تماما منه عند عَقْد عقودٍ واتفاقاتٍ معهم.. ".. إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية ﴿4﴾ "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ..".. أيْ لكن الذين عاهدتم أيها المسلمون من المشركين وغيرهم عند المسجد الحرام – أو غيره من الأماكن – فما داموا أقاموا لكم علي العهد أيْ استمرّوا مُقيمين ثابتين عليه مُنَفّذين له غير مُنْحَرِفين مائلين مُعْوَجِّين عنه مُناقِضين مُخالِفين له فأقيموا لهم أنتم كذلك في المُقابِل علي عهدكم معهم وأَوْفوا به ولا تَنْقضوا أيَّاً من شروطه مُدَّة استقامتهم لكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿7﴾" أيْ هذا استخدام لذات الألفاظ كما في ختام الآية ﴿4﴾ لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ لأنَّ الله حتماً يحبّ المُتّقين أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
ومعني "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿8﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من الأسباب التي تُوَضِّح أنَّ أمثال هؤلاء الناقِضين لعهودهم لا يمكن أن يكون لهم عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به، وأنهم يَستحيل أنْ يَثْبُتوا علي عهودهم وهم مُعادُون هكذا للمسلمين مُخْفون دائما للغَدْر بهم، لمزيدٍ من تنبيه وتحذير المسلمين عند عَقْد عقودٍ واتفاقاتٍ معهم.. وإعادة لفظ "كيف" هو لمزيدٍ من التأكيد علي النفي.. أيْ لا يكون مطلقاً للمشركين الناقِضين لعهودهم – ولا لمَن يَتَشَبَّه بهم في نَقْضهم للعهود – عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به وحالهم المَعْهُود منهم المعروف من أخلاقهم وأعمالهم السَّيِّئَة أنهم إنْ يَظهروا عليكم أيْ يَغلبوكم ويكونوا أعلي منكم فَوْقكم لهم سلطان عليكم مُتَمَكّنِين منكم أقوي من قوَّتكم لا يَرْقُبُوا فيكم أيْ لا يُرَاعُوا ولا يَحفظوا ولا يَحْتَرِموا في أمركم وشأنكم إلَّاً أيْ قَرَابَة أو إلاَهَاً أيْ الله تعالي ولا ذِمَّة أيْ عَهْداً.. ".. يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.." أيْ وهم كذلك مُخَادِعون وبالتالي فلا عهد لهم فهم إذا كانت الغَلَبَة لكم فإنهم في هذه الحالة يُعطونكم من ألسنتهم كلاماً جميلاً إرضاءً لكم وفى ذات الوقت تَرْفض عقولهم المملوءة كُرْهَاً لكم تصديق ألسنتهم، فهم يُظْهِرون خيراً ويُخفون شَرَّاً وما يقولونه مِن خيرٍ هو ظاهريّ ومجرّد كلام بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه ويعملون به، بل هم ينتظرون أيَّ فرصةٍ للغَدْر بكم.. ".. وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿8﴾" أيْ وأكثرهم خارجون عن الحقّ والخير مُخادِعُون ناقِضون للعهود خائنون غادِرون.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم يُوفون بعهودهم
ومعني "اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿9﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير منهم وبيانٌ للسبب الأساس لسُوئهم أنهم تركوا تماما العمل بآيات الله في القرآن العظيم وباعوا كل خُلُقٍ من أخلاق الإسلام ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فبفعلهم هذا هُم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك، فلقد باعوا الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ واشتروا بدلاً منه الضلالة أي الضياع! دَفَعوا الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!! تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة فيهما!!.. ".. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ.." أيْ فتَرَتَّبَ علي ذلك بالتالي وأدَّيَ إلي أن صَدَّوا عن سبيل الله أي امتنعوا ومَنْعوا غيرهم عن طريق الله أيْ منعوهم عن الدخول في دين الله الإسلام وآذوهم وحاولوا رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعوهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿9﴾" أيْ إنَّ هؤلاء بِئْسَ ما كانوا يعملون، أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، فلقد ساء عملهم وبالتالي فلهم حتماً فيهما من الله تعالي عذابٌ يُهينهم ويذلّهم بسبب سوء ما كانوا يعملون فهُمْ يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ويَصدّون عن سبيل الله ويُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَنقضون العهود ويَغْدرون ويَخونون ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار، ولذا سيُعَذّبون في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴿10﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ عداء أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ليس خاصَّاً بالمؤمنين فقط الذين يُقيمون معهم أو يُحيطون بهم أو يُحاربونهم وإنما هو عداءٌ شاملٌ لكل مؤمنٍ مهما كان بعيداً عنهم، فهذه الآية الكريمة أشْمَل من الآية قبل السابقة ﴿8﴾ والتي وَضَّحَت أنَّ عدوانهم على المؤمنين مُرْتَبِط بظهورهم وعُلُوِّهم عليهم مِمَّن هم حولهم أمَّا هذه الآية فتُوَضِّح أنَّ عداءهم ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ شيءٍ فهُم متى وجدوا أيَّ فُرْصَةٍ اغتنموها فى الاعتداء على أيِّ مؤمنٍ في أيِّ مكانٍ وزمان.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية ﴿8﴾ "إلّاً ولا ذِمَّة" هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ لا يَرْقبون في أيِّ مؤمنٍ أي لا يُرَاعُون ولا يَحفظون ولا يَحْتَرِمون في أمره وشأنه إلَّاً أيْ قَرَابَة أو إلاَهَاً أيْ الله تعالي ولا ذِمَّة أيْ عَهْداً.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴿10﴾" أيْ وهؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئَة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع المُعْتَدُون أيْ المُجَاوِزون لِمَا حَرَّمه الله تعالي أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ويَنقضون العهود ويَغْدرون ويَخونون ويُؤْذون ونحو هذا، وهو أعلم بهم وسيُجازيهم حتماً بما يَسْتَحِقّون وبما يُناسب من عذابٍ في دنياهم وأخراهم ﴿كما ذُكِرَ في تفسير آخر الآية السابقة، برجاء مراجعته﴾
ومعني "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿11﴾" أيْ فإنْ قاموا بالتوبة من كُفْرِهم وشِرْكهم بأنْ آمَنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام، وظَهَرَ صِدْق ذلك بأنْ أقاموا الصلاة أي وَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، فحينها بالتالي في هذه الحالة هم إخوانكم في الإسلام لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فالإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء، لأنَّ الله تعالي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية ﴿5﴾ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿11﴾" أيْ ونُبَيِّنُ ونُوَضِّحُ ونُفَصِّل بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْننا والتي تدلّ علي وجودنا وكمال قُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا، وكذلك الآيات في قرآننا العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فكونوا جميعا من القوم الذين يعلمون ويعملون بكل ما يعلمونه
ومعني "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴿12﴾" أيْ وأمَّا إنْ نَقَضُوا وحَلّوا عهودهم – وسُمِّيَت أيْمانهم لأنَّ العهود والعقود عادة تُؤَكّد وتُوَثّق باليمين والقَسَم وغيره من التوثيقات – مِن بعد عقدهم الذي عقدوه معكم ووَثّقوه وأكّدوه بأنواع التوثيق والأيْمان المختلفة، فلم يُوفوا بما عاهَدوا عليه وخالَفوا وغَدَروا واعتدوا بالقتال، ولم يكتفوا بذلك بل طعنوا في دينكم الإسلام أيها المسلمون أيْ عابُوه وسَخِرُوا منه واستهزؤا به وانْتَقَصُوا من شأنه وقَبَّحُوه وكذّبُوه وأساءوا إليه بأيِّ شكلٍ من أشكال الإساءة، وفي هذا مزيدٌ من التَّحْفِيز علي عقابهم، فحينها بالتالي إذَن في هذه الحالة قاتلوا قادة الكفر وأعْوانهم الذين يَغْدرون بكم ويقاتلونكم لأنهم لا عهود لهم فهم خائنون غادِرون مُعْتَدون يَستحِقّون العقاب.. ".. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴿12﴾" أيْ لعلهم بذلك العقاب والقتال يَمتنعون ويَتَوَقّفون عن كفرهم وسُوئهم وغَدرهم واعتدائهم وقتالهم، ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما، أيْ لكي يمتنعوا عما هم فيه.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق لأنه ليس كل مَن يُعَاقَب يَمتنع عن سُوئه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أن تكون نواياهم عند قتال المُعْتَدِين عليهم بالقتال رجاء عَوْنهم علي انتهائهم عن سُوئهم وإسلامهم لا الاعتداء عليهم كما يفعلون هم ليسعد بذلك الجميع في دنياهم وأخراهم، فإنْ لم يُسْلِموا فلإيقاف اعتدائهم علي الإسلام والمسلمين ونَصْرهم والتمْكِين لهم
ومعني "أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿13﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز علي قتال المُعتدين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. أيْ قاتِلُوا – ولفظ "ألَاَ" في اللغة هو أداة حثّ وتَحْريض – أُنَاسَاً نَقَضُوا وحَلّوا عهودهم كثيراً فلم يُوفوا بما عاهَدوكم عليه وخالَفوا وغَدَروا واعتدوا بالقتال، ولم يَكتفوا بذلك بل أيضا عملوا علي إخراج الرسول ﷺ سابقاً من مكة وقارَبُوا علي إخراجه حينما كان بالمدينة مُحاوِلِين إيذاءه ومَنْعه من الدعوة للإسلام وكذلك يحاولون دوْمَاً معكم بسبب أنكم تؤمنون بالله ربكم وبدينكم الإسلام، وفي هذا مزيدٌ من إلهاب مشاعرهم لعوْنهم ولِدَفْعِهم لسرعة الاستجابة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة الأنفال "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"﴾، وثالثاً أنتم لم تبدأوهم باعتداءٍ بل هم الذين كانوا بادئين بقتالكم فى أول لقاءٍ بينكم وبينهم وهو يوم غزوة بدر كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم فى كل قتالٍ بعد ذلك.. ".. أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من إلهاب مشاعرهم لقتالهم.. أيْ هل تخافونهم أو تخافون قتالهم خوفاً من قوّتهم وعذابهم؟! فالله وحده لا غيره أحقّ أن تخافوه، لأنه أشدّ قوة وعذاباً منهم لكم حتماً في الداريْن لو خَالَفتم ولم تُقاتلوهم، فخافوه باتّباع الإسلام وعدم مُخَالَفَة أخلاقه، واستعينوا به وتَوكّلوا عليه، فهو حتماً ربكم الكفيل تماماً أن يَرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فهو علي كل شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس.. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله ونَصْره ورزقه وكَرَمه وإسعاده في الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿13﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لِمَا تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴿14﴾"، "وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز علي قتال المُعتدين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. أيْ قاتلوهم أيها المؤمنون بلا خشيةٍ بكل شجاعةٍ وإخلاصٍ وتَوَكّلٍ وحُسْنِ إعدادٍ فإنْ فَعَلْتم ذلك يُذقهم الله العذاب بأنفسكم وبأيديكم وبجهودكم بإصابتهم وجرحهم وأسْرِهم وقتلهم وأخذ غنائمهم ويُذِلّهم بهزيمتهم وكَسْر قوّتهم واستكبارهم وفرارهم وينصركم عليهم ويَشْفِ بهذه الهزيمة وبانتهاء سلطانهم ونظامهم وبإعلاء كلمة الإسلام والتمكين له وللمسلمين في الأرض يُديرونها به ليَسعد بنظامه الناس جميعا ما كان مِن ألمٍ كامِنٍ وظاهرٍ بعقول ومشاعر ودواخل قومٍ مؤمنين لحقهم كثيراً أذاهم وظلمهم وغَدْرهم المادِّيّ والمَعْنَوِيّ بأشكاله المختلفة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. "وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي شفاء صدور المؤمنين وعلي المُبَالَغَة في إسعادهم، من رحمة الله بهم وفضله ورزقه وكَرَمه عليهم وحبّه لهم في الداريْن.. أيْ ويُزيل أيضا غَيْظ عقولهم ومشاعِرهم وأحاسيسهم، والغيظ هو شدّة الغضب والألم المُخْتَلِط بإرادة الانتقام، ويملأها بَدَلَاً من ذلك فرحاً وأمناً واستقراراً وارتياحاً نفسياً وسعادة غامرة بالنصر وبهزيمة الأعداء وبعودة الحقوق لأصحابها بعد الهَمِّ والحزن والخوف والظلم الذي كانوا فيه.. ".. وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ويغفر الله لمَن يُريد من العصاة ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. والذي يشاء الله أن يتوب عليه هو الذي يشاء مِن المُسِيئين من الناس ومن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم هو أولاً هذه التوبة بأن يتوب إليه ويرجع إلي طاعته بصدقٍ باتّباع أخلاق الإسلام أيْ يقوم بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين فحينئذٍ يشاء الله له التوبة بأنْ يُوَفّقه لأسبابها ويُيَسِّرها له ويُعِينه عليها ويَتَقَبّلها منه (برجاء مراجعة الآية ﴿29﴾ من سورة التكوير "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿29﴾"، للشرح والتفصيل عن أنه لا يَحْدُث حَدَثٌ مَا في كوْن الله إلا بمشيئته﴾.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾.. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كذلك إذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿16﴾" أيْ هل تظنون أنكم بمُجرَّد أن تقولوا أنكم مسلمون تُتْرَكون دون فتنةٍ أي اختبار لهذا القول هل هو صِدْق أم كذب؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حسبانكم فهو حسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يحدث لكم بين الحين والحين اختبار ما وبما يُناسب كلاًّ منكم لكي يَظهَر لكم مَن هو الصادق ومَن هو الكاذب، تماما كالذي يُعلن أنه قد تعلّم علما ما أو مهنة ما فإنه لا يُؤْخَذ بكلامه حتي يتمّ اختباره ومعرفة صِدْقه مِن كذبه ودرجته ومستواه وتطبيقه العمليّ الواقعيّ ونحو هذا، ويتمّ هذا كل فترة وبما يُناسبه للإطمئنان علي أنه مُستمرّ علي ذلك، وهذه هي طريقة الله تعالي مع كل الناس السابقين منذ آدم عليه السلام، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، وهو يُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم، وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم.. إنَّها اختبارات مُتَنَوِّعَة لكي يعلم كلٌّ مِنكم ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا وعَمَلاً به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ومعني ".. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ.." أيْ دون أن يعلم الله المجاهدين منكم والصابرين أيْ بدون أن تُجاهدوا وتَصبروا؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حُسْبانكم فهو حُسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يَعلم الله هذا منكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿214﴾ من سورة البقرة "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم.."﴾، والمقصود أن تَعلموا أنتم ويُعْلِمكم سبحانه ويُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – المجاهدين والصابرين والذين لا يُجاهدون ولا يَصبرون لأنَّ الله تعالي حتماً يعلم أحوال الجميع حتي قبل أن يقوموا بجهادهم وصبرهم أو كَسَلهم وتخاذلهم ولكنَّ الأمر هو لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه المُجاهِد الصابِر أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به وجهاداً وصبراً لتتمّ سعادته، ويعلم المُتَخَاذِل المُتَكاسِل المُتَرَاجِع غير الصَّبُور ومَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلاّ تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الأحداث الكاشِفَة في الدنيا، لا يكون للمُسِيئين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال المجاهدون الصابرون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ولفظ "لمَّا" يُفيد أنه لم يَحدث الأمر حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا.. هذا، ومعني الجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾.. والصابرون هم الثابِتُون الصَّامِدُون المُستمِرّون بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.." أيْ ولم يَتّخِذوا غير الله ورسوله والمؤمنين بِطَانَة وأولياء – مِن وَلجَ أيْ تَدَاخَل معه حتي صار كأنه بطانة للثوب في التصاقها بالجسد – والبطانة والأولياء هم الأنصار والأحِبَّاء والأصدقاء والأعْوان، فهم لا يَتّخِذون مُطلقاً مِن أعدائهم والكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ يُقربونهم ويُسِرُّون إليهم بأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، لأنهم غير ثقات غير أمناء قد يفْشُون الأسرار ويكيدون المَكَائِد للإسلام وللمسلمين، وهم لا يُقَصِّرون في إيقاع بينهم الاضطراب والفَوْضَيَ والفساد، ويَتمنّون لهم الضرَرَ والشدَّة والتعاسة، وغالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونهم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم إذا كانوا هم الذين يَتَوَلّون أمورهم ويَقودنهم ويُوَجِّهونهم، كما يُثْبِت الواقِع هذا كثيرا.. فالمسلمون يُعاملونهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع الحَذَر، وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿16﴾" أيْ واعلموا وتذكّروا دوْماً طوال حياتكم أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿17﴾ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، فإيَّاك إيّاك أن تكون من أشدّ الظالمين الذين يُخَرِّبونها ويَمنعون خيرها وإلا خَزِيتَ وتَعِسْتَ وحُرِمْتَ فوائدها فيهما
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿17﴾" أيْ هذا تعظيمٌ لشأن المساجد وعدم إهانتها والاهتمام بها وبدورها في إسعاد الحياة.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للمشركين – وهم الذين يُشْرِكون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه – أنْ يَدخلوا مساجد الله ومِن باب أوْلَيَ المسجد الحرام، وذلك لأنَّ المساجد تعمر لطاعة الله فيها بكل صور الطاعة لا للشرك وللكفر به بداخلها! فمَن كان كافراً بالله تعالي فليس له أن يعمُرَ مساجده حتماً فهذا أمرٌ مَنْطِقِيّ عقليّ لِمَا فيه مِن تَنَاقُضٍ واضحٍ إذ لا شيءَ له بها! فهو لا يُؤمِن أصلا بربه خالقه وبربِّ هذا المسجد وبدينه الذي يَحُثّ علي عمارته لفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة بل ويَتَعَالَي علي كل ذلك ويُعانِده ويُقاومه ويُحاربه فكيف يعمره؟!.. هذا، وعِمَارة المساجد تكون بالمشاركة في بنائها وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن.. والمُشركون لا يَسْتَحِقّون كل هذا التكريم والتشريف بهذه الأعمال بسبب شِرْكهم وكفرهم ويُحْرَمون من كل هذه السعادات حتي يُسْلِموا.. ".. شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.." أيْ لا يُعْقَل أن يَعْمُروها وذلك لأنهم قد شَهِدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نَطَقَت بها أقوالهم وأكّدتها أفعالهم.. ".. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿17﴾" أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿18﴾" أيْ هذا بيانٌ أنه ليس المشركون أهْلَاً لعمارة مساجد الله وإنما الذين هم أهلٌ لنَيْل هذا التكريم والخير العظيم هم المؤمنون فقط، كما أنه بيانٌ لبعض صفات مَن يَعمرها ليَتَشَبَّه بها كل مسلم ليكون بذلك مِمَّن ينتفع بسعادات وخيرات هذه العمارة في دنياه وأخراه، وبيانٌ أيضاً أنَّ عمارتها هي من علامات الإيمان.. أيْ لا يَزور ولا يَدخل ولا يُشارك في بناء مساجد الله وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن ولا ينتفع بسعاداتها حيث هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، إلا فقط من آمن بالله أيْ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعمل الصالحات أي عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمن أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسن بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، ووَاظَب علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليه وأدّاها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاع أيْ أحسنها وأتقنها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وآتي الزكاة أيْ وأعْطُي الزكاة المفروضة عليه لمُسْتَحِقِّيها إنْ كان مِن أصحاب الأموال.. ".. وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ.." أيْ وهو دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فهو لا يفعل شرّاً ما لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو يترك خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، ولكنه يتمسك دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كان مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنه يتمسك بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِياً بقوّة خالقه القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّع المسلمين، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنَّ مَن يَخاف الله يخيف منه كلّ شيءٍ لأنه معه بقُدْرته وعلمه إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنه أخافه من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْنه.. إنَّه يَحْيَ حياته كلها مُتَوَازِناً بين الخوف مِنه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿18﴾" أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ فلعلّ هؤلاء المذكورين أنْ يكونوا من الراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من المسلمين من أجل تنبيههم وتشجيعهم علي الإخلاص في كل أعمالهم لأنَّ المسلم عندما يأتي بهذه الأعمال السابق ذِكْرها وغيرها لا يمكنه الجَزْم بفوزه بالثواب لأنه لعله يكون أثناءها قد طَلَب شُهْرَة أو سُمْعَة لا ثوابا، أو لا يَثْبُت علي الطاعة حتي يموت عليها، فالاهتداء إذن يحتاج إلي المحافظة علي الاستمرار فيه بدوام العمل بأخلاق الإسلام ودوام الاستعانة بالله ودعائه للثبات عليها طوال الحياة والحَذَر التامّ من الغرور بذلك والتّعَالِي به علي الآخرين وإلا سَحَبَ الله منه عَوْنه عقاباً له فيَنْحَرِف عن إسلامه، فعلي المسلمين بالتالي أن يَحْيوا مُتَوَازِنين بين الخوف والرجاء
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿20﴾ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴿21﴾ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿22﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك
هذا، ومعني "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾" أيْ هل تجعلون أيها الناس وأيها المسلمون إسْقاء الحاجّ أيْ إعطاء الماء له ليشرب وإعمار المسجد الحرام وأيّ مسجدٍ عموماً بإدراة شئونه بكل ما يحتاجه هو ومَن يزوره ويُصَلّي فيه – وهو أمرٌ حتماً له فضله وثوابه – مِثْل مَن آمَنَ بالله أيْ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعمل الصالحات أي عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمن أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسن بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، وكذلك جاهد أيْ بَذَل كل أنواع الجهود واجتهد في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة؟!.. والاستفهام للرفض وللنفي ويُفيد النهي والمَنْع أيْ لا تَجعلوا ذلك، ويُؤَكّد هذا قوله تعالي ".. لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ لا يَتَساوَيَ حتماً في حُكْم الله تعالي العادِل، الذين يَكْتفون بالسِّقَايَة والعِمَارَة، وهو أمرٌ مطلوبٌ وله أثره وأجره، بسبب تكاسُلٍ أو انشغالٍ أو خوفٍ أو غيره، مع المؤمنين بالله العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحْسِنين الاستعداد لآخرتهم المُجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بكل صور الجهاد المختلفة، في درجتهم وأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم حيث لهم كلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. وفي هذا تشجيعٌ لأنْ يكون الجميع مِثْلهم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الظالمين ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ للظالمين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿20﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التفصيل لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومن التأكيد عليه.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهَاجَرُوا.." أيْ وفَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.." أيْ وبَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة هم حتماً أعلي وأكبر وأفخم وأشرف وأكرم مَنْزِلَة ورُتْبَة في حُكْم الله وحسابه في دنياهم وأخراهم مِمَّن آمنوا ولم يَتّصِفوا بهذه الصفات.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿20﴾" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الذين يفلحون وينجحون ويربحون وينتصرون ويسعدون في الدنيا والآخرة فلاحا ونجاحا وربحا ونصرا وسرورا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم الفائزون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
ومعني "يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴿21﴾"، "خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿22﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لفوزهم العظيم.. أيْ يُخْبِرهم ربهم بخَبَرٍ يَسُرُّهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – في دنياهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعاً لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي ما هم فيه وهو رحمة منه يعيشون دائما في إطارها تَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، ويُبَشّرهم كذلك برضوانٍ أيْ بجزاءٍ معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له وهو رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة، ويُبَشّرهم أيضا في آخرتهم بجناتٍ من بساتين وقصور فخمة في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون مُقِيمين دائمين بلا زَوَالٍ ولا انقطاعٍ في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، إضافة قطعاً إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. "خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿22﴾" أيْ هم في هذه الجنات بلا أيِّ نهايةٍ ولا أيِّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. إنَّ الله عنده عطاء عظيم في الداريْن من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة وذلك لمَن أطاعه واتَّبَعَ إسلامه ولم يُخَالِفه في كل شئون حياته، فكونوا إذَن كذلك لتنالوا هذا الثواب العظيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا آباءكم وإخوانكم وغيرهم من أقاربكم مهما كانت درجة قرابتهم لكم أولياء ما داموا يُحِبُّون الكفر ويُفَضّلونه ويَختارونه علي الإيمان ويُصِرُّون عليه ويُعادون الإسلام، أي لا تتّخِذوهم أنصار وأعْوان وأحِبَّاء أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾" أيْ ومَن يَتّخِذهم منكم أولياء فهؤلاء حتماً هم الظالمون لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم – سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – وعَرَّضُوا ذواتهم وغيرهم بسبب ظلمهم لعقاب الله تعالي الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسبهم
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون التّوَازُن بين حبّ الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ والإسلام والجهاد في سبيلهم بالنفس والمال وبكل ما تملك، وبين حب الدنيا ومُتَعها الحلال التي جعلها الله مُتْعَة ونعيماً ونفعاً وسعادة لخَلْقه، حبّاً فيهم ورحمة بهم، لأنهم خَلْقه وصَنْعَته، وبالجملة كنتَ مِمَّن يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنك إنْ جَعَلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك ﷺ وقرآنك وإسلامك هي علاقة حب، فقد جعلت وضَمنتَ لذاتك أعظم وأفضل وأضْمَن حَصَانَة تُحَصِّنك من الوقوع في أيِّ فِتَنٍ أيْ شَرٍّ من الشرور بأيِّ صورةٍ من الصور وسواء أكان صغيراً أم كبيراً ظاهراً واضحاً أم خَفِيَّاً (برجاء مراجعة الآية ﴿31﴾، ﴿32﴾ من سورة آل عمران للشرح والتفصيل عن علاقة الحب الوثيقة بين المسلم وربه ورسوله وقرآنه وإسلامه﴾.. إنَّ الإسلام لا يَنْهَيَ قطعاً عن حبّ نِعَم الحياة ومُتَعها وسعاداتها التي تَفَضَّلَ بها الخالق الكريم علي خَلْقه، وإلاّ لماذا خَلَقَها إذَن؟! ليمنعهم عنها وليُعَذّبهم بتركها! فهل يَمنع الإسلام حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر والأموال والتجارات والأملاك وهو الذي يعلم أنَّ الله قد وَضَع حُبَّها في فطرة خَلْقه لينتفعوا وليسعدوا بها؟! وهو الذي ما أنزل الإسلام عليهم إلاّ ليُعَلّمهم كيف يُحسنون التّعامُل معها، وفيما بينهم، علي أكمل وأسعد وجه، في كل لحظات حياتهم، بحيث لا يَضُرّهم أيُّ ضَرَرٍ يُتعسهم أيَّ تعاسةٍ ولو نادرة أو قليلة، وبحيث يَتَحَقّق لهم تمام الصلاح والكمال والسعادة في دنياهم ثم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. إنَّ حبّ ما ذُكِرَ في الآية الكريمة هو جزءٌ من حبِّ الله تعالي، بل كراهية شيءٍ منه بلا سببٍ هو مُخَالِفٌ لحُبِّه!!.. إنَّ المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه يحبّ ربه أولا أشدّ الحبّ الذي لا يُعادله أيّ حبٍّ آخر، لأنه هو الذي خَلَقه وأوْجَده في هذه الحياة لينتفع وليسعد بما فيها والذي ما خَلَق كل ذلك إلا ليكون مُسَخَّرَاً له ولنفعه ولسعادته، وهو الذي يُرَبِّيه ويَرْعاه ويرزقه، فكيف لا يحبه أعظم الحب؟! ثم يحب رسوله الكريم الأمين ﷺ ، أول المَحْبُوبين من البَشَر، لأنه هو الذي عَلّمه حب ربه، ثم يحب إسلامه لأنه من عند ربه حبيبه، ولأنه يُنَظّم له كل شئون حياته بما يُسعد كل لحظاتها تمام السعادة ويُجَهِّزه لِمَا هو أسعد في آخرته، ثم يَتَفَرَّع من هذه المَحْبُوبات الأولي كل ما يُمكن حبّه بعد ذلك، فيكون حب الوالدين لأنهما السبب المُباشِر في إيجاده وهما مَن شَملاه بحنانهما ورعايتهما وإنفاقهما، ثم حب الإخوة والأزواج والأبناء والأقارب والجيران وعموم المسلمين والناس وما يَتَيَسَّر مِن عملٍ وكسبٍ وربحٍ وعلمٍ وبناءٍ وإنتاجٍ ونحو ذلك من نِعَم الحياة.. إنَّ الإسلام فقط يُنَبِّه ويُحَذّر تحذيراً شديداً من أنْ يكون حبّ هذه النِّعَم أحبّ من الله ورسوله وإسلامه وجهادٍ في سبيلهم، بمعني أنْ يَتَعَارَض حبّها مع حبّ الله والرسول والإسلام، أيْ مع طاعتهم، أيْ يَرْتَكِب حراماً مُخَالِفَاً للإسلام من أجل تحصيل نِعَمٍ مَا والحفاظ عليها، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، أو يفقد الاستعداد التامّ لتَرْكها كلها أو بعضها والتضحية بكُلّها أو ببعضها بكل كرمٍ وعِزّةٍ وشُمُوخٍ حينما يحتاج الأمر للجهاد بصورةٍ مَا مِن الصُّوَر من أجل الدفاع عن النفس والعِرْض والخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء ونحو ذلك، وهو أمرٌ استثنائيٌّ وللضرورة وليس في كل الأوقات وإنما يكون من أجل الحفاظ علي الإسلام والذي يحفظ الحياة وسعاداتها وبدونه تَتَدَمَّر وتَتْعَس (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. هذا، ولفظ "إنْ" في أول الآية الكريمة يُفيد ضِمْنَاً الشكّ في وقوع مثل هذا السوء المذكور فيها من المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه والتي هي بَعْد الله حِصْنه من الوقوع فيه، وهذا يزيده قوة وعَزْمَاً وأمَلَاً وبُشْرَيَ في أنه هو الأقوي، بعوْن ربه وبتمسّكه بدينه وبعوْن الصالحين حوله، وأنه لن يقع بإذن الله تعالي في أيِّ فتنةٍ تُتْعِسه في دنياه وأخراه
هذا، ومعني "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿24﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ حبَّ الله ورسوله والمُتَمَثّل في طاعتهما باتّباع كل أخلاق الإسلام يجب أن يَعْلُو فوق كل حبٍّ لغيرهما، بمعني أنه عند أيِّ تَعَارُض، أيْ عند الاحتياج لقولِ قولٍ مَا أو فِعْلِ عَمَلٍ مَا يُعَارِض ويُخَالِف الإسلام، من أجل أيِّ أحدٍ أو شيءٍ مَا، فحينها حتماً يُقَدَّم هذا الحبّ المُتَمَثّل في طاعة الإسلام والعمل بأخلاقه علي أيِّ فِعْلٍ يُخَالِفه (برجاء مراجعة ما كتب سابقا تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة"، للشرح والتفصيل).. أي قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من المسلمين، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ كان آباؤكم الذين أنتم جزءٌ منهم وأبناؤكم الذين هم جزءٌ منكم وإخوانكم الذين ترتبطون بهم بالرحم وأزواجكم اللاتي جعل الله بينكم وبينهنّ مَوَدَّة ورحمة وعشيرتكم أيْ أقاربكم الذين بينكم وبينهم روابط عِشْرَة وكذلك كل مَن تَتَعاشَرون أيْ تَتَعَايَشون وتَتَعامَلون معهم من الأنساب والجيران والأصدقاء وأشباههم وأموال اكتسبتموها بكل أنواعها أنتم حريصون عليها وتجارة بكل أشكالها تخافون ركودها وتَوَقّفها وبَوَارها وخُسرانها وعدم ربحها إذا انشغلتم عنها ومنازل تَسْكُنونها تُحِبّون الإقامة فيها وتستريحون بها ولا تريدون مُفارقتها من حُسْنها، إنْ كان كلّ ذلك وما يُشْبهه تُحِبّونه أكثر من حُبّكم لطاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل الله، بمعني أنكم من المُمْكِن أنْ تُخَالِفوا أخلاق الإسلام وتَرْتَكِبوا حراماً وتَتركوا الجهاد من أجل الحرص علي أيٍّ مِن ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره، فحينها تَرَبَّصُوا أيْ تَرَقّبُوا وانتظروا حتي يأتي الله بعقابه المُناسب لفِعْلِكم في دنياكم ثم أخراكم، إنْ لم تَتُوبُوا.. وفي هذا تنبيهٌ شديدٌ لكل مسلمٍ ألاّ يفعل ذلك أبداً حتي يَسعد في دنياه وأخراه وإلاّ لو فَعَلَه لَتَعِسَ فيهما علي قَدْر مَا فَعَل.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿24﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الفاسقين أي الخارجين عن طاعة الله والرسول والإسلام ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من فِسْقٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة مزيدٌ من التحذير واللّوْم الشديدٌ للفاسقين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴿25﴾ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴿26﴾ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإيَّاك إيَّاك أنْ تَغْتَرّ بقوّتك، بعَدَدك أو عُدَّتِك أو غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فإنَّ هذا الغرور والانخداع والتّعَالِي غالباً مَا يؤدّي إلي الاستهانة بما ستُقْدِم عليه، كما أنَّ الاعتماد علي الأسباب وحدها دون الاعتماد علي من يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز، وهو الله تعالي خالقها، وهو أيضا الذي يجعل أسباب عدوك قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيَّة والتأثير، لا قيمة له، أيْ لن تغني عنك شيئا كل هذه الأسباب مهما كثرت وعَظُمَت!
هذا، ومعني "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴿25﴾" أيْ اذكروا أيها المسلمون نِعَم الله عليكم التي لا تُحْصَيَ وحافظوا عليها بالشكر وحُسْن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليزيدكم منها ولا تُحْرَمُوا إيّاها والتي منها أنه قد جعلكم تفوزون علي أعدائكم في مَوَاقِع ومَعَارِك ومَوَاقِف كثيرة كغزوةِ بدرٍ وغيرها بحُسْن اتّخاذكم للأسباب وتوَكّلكم عليه واستعانتكم به سواء قَلَّ أو كَثُر عددكم لأنَّ النصر مِن عنده وحده بتأييده وعوْنه لا بعَدَدِكم ولا بعُدَدِكم، واذكروا يوم غزوة حنين من جُمْلَة هذه المَوَاطِن حين غَرَّتكم أيْ خَدَعَتْكم كثرتكم حيث أَدْخَلَت في نفوسكم العُجْب والغرور وكأنه لا أحد مثلكم وقال بعضكم لن نُغْلَبَ اليوم بسبب قِلَّة وتَوَهَّمتم أنَّ النصر بالكثرة العَدَدِيَّة واعتمدتم عليها وانشغلتم بها عن توفيق الله وتأييده وتيسيره بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. ".. فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا.." أيْ فلم تَنْفعكم كثرتكم أيَّ شيءٍ حيث انهزمتم في أوّل المعركة لأنَّ الاعتماد علي الأسباب وحدها دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز، وهو الله تعالي خالقها – وهو أيضا الذي يجعل أسباب عدوكم قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيَّة والتأثير – لا قيمة له، كما أنَّ الاغترار والانْخِداع والتّعَالِي بقوَّتكم أيْ بعَدَدكم أو عُدَّتِكم أو غير ذلك من صور الإعداد والقوة يؤدي غالباً إلي الاستهانة بما ستُقْدِمون عليه.. ".. وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.." أيْ وأصبحت الأرض ضَيِّقَة عليكم مع اتّساعها من شِدَّة خوفكم حيث لم تجدوا فيها مَلْجَأً ولم تعرفوا أين تذهبون وكيف تتصرّفون كأنكم مُحَاصَرُون في مكانٍ ضَيِّق.. ".. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴿25﴾" أيْ ثم أعطيتموهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين
ومعني "ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴿26﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله بالمسلمين وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته لهم وتخفيفه عنهم ما أصابهم وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ ثم أنزل وأفاض الله علي رسوله وعلي المؤمنين رحمته التي تَتَحَقّق بها السكينة أيْ الشعور بالسكون والاطمئنان والأمن والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خيرٍ ونصر، وبهذه السكينة ثَبَتُوا.. لقد كان الرسول ﷺ رغم ثباته وإقدامه في حاجةٍ لهذه السكينة لإزالة حزنه بسبب فرار البعض وكان المؤمنون الذين ثبتوا معه ﷺ ولم يَفِرُّوا في حاجةٍ لها ليزدادوا ثباتاً وكان الذين انهزموا وفرُّوا في بداية المعركة في حاجةٍ إليها أيضا ليعودوا وقد عادوا بالفِعْل.. ".. وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ وإضافة لنعمة السكينة نعمة أخري حيث بَعَثَ جنوداً مِن الملائكة وغيرها ممّا لا ترونها ولا تعلمونها ولكنكم تجدون آثارها علي أرض الواقع إذ ألقوا في أعدائكم الرعب وبينهم الخلاف والنزاع والفُرْقة فضعفوا ففرّوا هاربين.. ".. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ وهذه نعمة ثالثة حيث عذّبهم بأنْ سلّطكم عليهم فقتلتم منهم وأَسَرْتُم وأخذتم غنائمهم وكَسَرتم تَكَبّرهم وأضعفتم سلطانهم فهزمتموهم وانتصرتم عليهم.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴿26﴾" أيْ وهذا هو دائماً مَصِير وأجر وعطاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم حيث يُعَذّبون في الدنيا أولا بدرجةٍ مَا من درجات العذاب يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿27﴾" أيْ ثم مِن بعد ذلك السوء كله الذي يَحْدُث من الكافرين ومِن غيرهم من المُسِيئين ومِن بعد ذلك العذاب الذي يُعَذّبوه في دنياهم بسبب سُوئهم، يَغفر الله لمَن يُريد من العصاة ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. والذي يشاء الله أن يتوب عليه هو الذي يشاء مِن المُسِيئين من الناس ومن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم هو أولاً هذه التوبة قبل موته بأن يتوب إليه ويرجع إلي طاعته بصدقٍ باتّباع أخلاق الإسلام أيْ يقوم بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين فحينئذٍ يشاء الله له التوبة بأنْ يُوَفّقه لأسبابها ويُيَسِّرها له ويُعِينه عليها ويَتَقَبّلها منه (برجاء مراجعة الآية ﴿29﴾ من سورة التكوير "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿29﴾"، للشرح والتفصيل عن أنه لا يَحْدُث حَدَثٌ مَا في كوْن الله إلا بمشيئته﴾.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿27﴾" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، فإيَّاك إيّاك أن تكون من أشدّ الظالمين الذين يُخَرِّبونها ويَمنعون خيرها وإلا خَزِيتَ وتَعِسْتَ وحُرِمْتَ فوائدها فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿28﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنما المشركون وهم الذين يُشْرِكون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه نَجَسٌ أيْ أصحابُ نجاسةٍ أيْ قَذَارَةٍ أيْ هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يُشرك مع الله إلاهاً آخر يَعبده لا ينفعه ولا يَضُرّه بشيء؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويُسْلِمون فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. ".. فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.." أيْ فبالتالي إذَن فلا تُمَكّنوهم من الاقتراب من الحَرَم بعد هذا العام الذي نزلت فيه هذه الآية من سورة براءة "التوبة" وهو العام التاسع من الهجرة وحتي يوم القيامة.. فهم لا يَستحِقّون كل الخيرات والسعادات بدخوله حتي يُسْلِموا.. ".. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ وإنْ خِفْتم فقراً لانقطاع تجاراتهم وتعاملاتهم عنكم بسبب منعهم فإنَّ الله الغنيّ القادر الكريم حتماً سوف يُعَوِّضكم ويَكْفيكم عن هذا ويَجعلكم أغنياء عنهم لا تحتاجونهم تدريجياً مع الوقت بوسائل وأبواب رزقٍ أخري كثيرة لا تُحْصَيَ يُيَسِّرها لكم وذلك من عطائه وإحسانه الزائد إليكم وتوفيقه وتيسيره الذي هو بلا حسابٍ وتلمسونه واقعياً كل لحظات حياتكم.. ".. إِنْ شَاءَ.." أيْ إنْ أراد، أيْ إنْ شاء أعطي وإنْ شاء مَنَع، وهذا ليس قطعاً للتشكيك في رزقه وإغنائه وإنما للتنبيه علي أنَّ مشيئته وإرادته في الرزق والإغناء لا تَتَحَقّق إلا حينما تُحسنون اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة من علمٍ وبحثٍ وتخطيطٍ وإدارةٍ وعملٍ وإنتاجٍ ونحو ذلك وتُحسنون التوكّل عليه والاستعانة به وحده لا أيّ أحدٍ غيره وتُحسنون شكره بحُسْن استخدام أرزاقه في الخير المُسْعِد لا الشرّ المُتْعِس، وحينما تستمرّون علي ذلك بلا مُخَالَفَة، وحينما يري بحِكْمته وعِلْمه الإغناء مُحَقّقَاً مصلحتكم وسعادتكم في الداريْن أنتم وغيركم لا ضَرَركم وتعاستكم فيهما، وبالجملة فإنَّ لفظ "إنْ شاء" يَدْفَع المسلمين للحرص التامّ الدائم بلا أيِّ غَفْلَةٍ علي المحافظة علي كل ما سَبَقَ ذِكْره.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿28﴾" أيْ إنَّ الله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
ومعني "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿29﴾" أيْ قاتلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من الذين أعطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أعطوا التوراة والنصاري الذين أعطوا الإنجيل وهم الذين لا يؤمنون بالله أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولا يؤمنون أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، ولا يُحَرِّمون المُحَرَّمات التي حَرَّمها الله ورسوله في القرآن والسنة، وكذلك لا يَدِينون بالدين الحقّ أي الصدق الذي هو الإسلام أيْ لا يَعتقدونه ولا يُطيعونه فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه.. وفي هذا إلهابٌ لمشاعر المسلمين لعوْنهم ولدَفْعهم لسرعة الاستجابة.. هذا، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنَّ ملك الروم وهم نصاري أيْ من أهل الكتاب قد اعتدي علي مَن أسلم في بلاد الشام وقتلهم ولعله كان يظنّ مُتَوَهِّماً أنَّ المسلمين يُقاتلون المُعتدين بالقتال من الكفار والمشركين فقط وليس أيّ مُعْتَدٍ حتي ولو كان من أهل الكتاب أو حتي ولو كان مسلما، وذلك من أجل إحقاق الحقّ والعدل، فكانت الآية إيذاناً بذلك وتوجيهاً له، فجَهَّزَ الرسول ﷺ لهم لتأديبهم لكي لا يُفَكّر أحدٌ في الاعتداء منهم مستقبلا، فكانت غزوة تَبُوك.. ".. حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.." أيْ اسْتَمِرّوا في قتال المُعتدين منهم إلي أنْ يُسْلِمُوا فهم حينها مسلمون مثلكم إخوانكم لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، أو أنْ يَقْبَلُوا أنْ يُعطوا ويُقَدِّمُوا للدولة المسلمة الجزية وهي مبلغ من المال يدفعه غير المسلم يُقَدَّر علي حسب حاله واستطاعته جزاء وفي مُقابِل الدفاع عنه من الدولة المسلمة، كما يَدْفع المسلمون من أموالهم لتجهيز الجيوش والجنود لحماية دولتهم ولخدماتها العامة، وإن اشترك غير المسلم في الدفاع عن ذاته وأهله وأرضه مع جيش دولة الإسلام فلا تُؤْخَذ منه الجزية، بل إذا افتقر يُعْطَيَ من أموال المسلمين من بيت مالهم أيْ خزانة الدولة كما يُعْطَيَ المسلمون فهذا هو عدل الإسلام ورحمته ومساواته بين جميع المواطنين وإسعادهم.. ".. عَنْ يَدٍ.." أيْ عن غِنَي واستطاعة فلا تُؤْخَذ من فقيرٍ غير مُستطيع، وأيضا عن يدٍ بمعني بأيديهم بما يُفيد مَوَافقتهم علي عدم القتال والاعتداء.. ".. وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿29﴾" أيْ وهم طائعون غير مُتَمَرِّدِين قد دخلوا في طاعة دولة الإسلام مُنْقَادِين مُتَوَافِقِين غير مُجَاهِرين مُعْلِنِين بالعَدَاوَة.. هذا، ولفظ "صاغرون" بما يُفيده من معني التصغير لهم يُقْصَد به إيقاظهم لعلهم يُسْلِمون فيكونون أعِزَّاء سُعَداء في دنياهم وأخراهم لا صِغَار أذِلّاء تُعَساء فيهما
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿30﴾ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿30﴾" أيْ هذا تأكيدٌ وبيانٌ لكفرهم وتفصيلٌ لبعض سُوئهم الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ وقالت مجموعة من اليهود المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ.." أيْ هذا تعبيرٌ يُفيد أنَّ ذلك القول الفاحِش الشَّنِيع الذي يقولونه هو قولٌ ليس له أيّ دليل عقليّ مَنْطِقِيّ فهو قولٌ مُهْمَلٌ تافِهٌ سَفِيهٌ لامعقول لا وجود له إلا في الأفواه ولا يوجد له أيّ شيءٍ يُصَدَّقه في الواقع ولا يدلّ علي أيِّ معني ولا قيمة له ولا وَزْن عند العقول المُنْصِفَة العادِلَة، فهو من افتراءاتهم واختلاقاتهم وتخريفاتهم وكذبهم وزُورهم.. ".. يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ لهم على تقليدهم لمَن سَبقوهم في سُوئهم وسَفههم بدون تَعَقّل وتَدَبُّر، وبيانٌ أنَّ الكفر قديمٌ مُتَجَذّر فيهم ولم يُغَيِّروه بما يدلّ علي شِدَّة إصرارهم علي السوء الذي هم فيه.. أيْ وهم في قولهم هذا يُشابِهُون قول الكافرين السابقين لهم من قبلهم من آبائهم وأجدادهم وغيرهم الذين كان بعضهم يقول مثل هذا القول السفيه، بسبب تَشَابُه عقول هؤلاء وأولئك في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة، فهم مُتَّبِعون لمثل خطواتهم تماما مُسْارِعُون في كل كفرٍ وشرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ دون أيّ تفكير! أليس لهم عقول فيُمَيِّزون بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة؟! ولكنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قَاتَلَهُمُ اللَّهُ.." أيْ حتما سيُقاتِلهم الله القوي المُنتقم الجبَّار أيْ سيَلعنهم أيْ سيُخرجهم من رحمته، في دنياهم حيث سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم إضافة إلي الهزائم والإذلال والهَوان بقوته وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبأيديهم وبتنازعهم فيما بينهم صراعا علي النهب والسَّلْب ونحوه وبأيدي المسلمين حينما يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فيُعِزّهم ويُعْلِيهم ويُنصرهم، ثم في أخراهم لهم قطعا من العذاب ما هو أتمّ وأعظم وأخلد.. ".. أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿30﴾" كيف يكون منهم هذا الإفْك؟! كيف يكون منهم هذا الكذب الواضح الشنيع السخيف؟! هذا الانصراف عن الحقّ إلي الباطِل بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل! بَعْدَ كلّ الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة التي تُؤَيِّد الحقّ وتدلّ علي كذبهم وسَفههم وتَخريفهم!.. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ما هو إلا من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿31﴾" أيْ هذا تأكيدٌ وبيانٌ لكفرهم وتفصيلٌ لبعض سُوئهم الذي سَبَقَ ذِكْره.. أيْ جعل هؤلاء السابق ذِكْرهم من اليهود والنصاري علماءهم ورهبانهم أيْ المُنْقَطِعين منهم عن الدنيا، جعلوهم أرباباً من دون الله – جَمْع ربّ – أيْ كالأرباب يعبدونهم غير الله تعالي أيْ يُطيعونهم حتي فيما يُخالِف وَصَايَاه في الإسلام الذي في التوراة والإنجيل بأن يَتّبِعونهم في تحليل شيءٍ أو تحريمه لم يُحِلّه أو يُحَرِّمه سبحانه، لأنه مَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.." أيْ واتّخَذَ النصاري كذلك المسيح عيسى ابن مريم رَبَّاً من دون الله فعَبَدوه.. ".. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ هذا بيانٌ للحال السَّيِّء الذي وَصَلَ إليه عقول أمثال هؤلاء الذين كفروا بدين الإسلام ولم يَتَّبِعوه رغم أنهم ما أُمِرُوا فيه إلا بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حيث لم يُؤْمَرُوا ويُرْشَدُوا إلا لعبادة إلاهَاً واحداً وهو الله تعالي وحده لأنه لا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿31﴾" أيْ فسَبِّحوه تعالي أيها المسلمون، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه، فتَعَاظَم الله وارتفع وابتعد عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون ومنهم عيسي ﷺ وأيّ رسول! آلهة يَتَوَهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضَرَر!! أين العقول التي تعبد معبودا كالأصنام هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من مثل هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿32﴾ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿32﴾"، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿33﴾" أيْ يَتَمَنَّيَ أعداء الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، الظالمون بكل أنواع الظلم سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، يَتمنّون ويَتَوَهَّمون مِن سَفَهِهِم وخَلَل عقولهم وضعفها وتعطيلها أنهم يمكنهم إطفاء نور الله أيْ منع انتشار الإسلام! وسَمَّيَ تعالي القرآن بما فيه من إسلامٍ نوراً ونَسَبَه إلي ذاته العَلِيَّة سبحانه لأنه السبب لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنهم يريدون أن يُطفئوه بأفواههم أيْ بأقاويلهم التافهة الفاسدة التي لا قيمة ولا وزن لها لأنها بلا دليلٍ بل هي تزيد كلّ عاقلٍ تأكّداً بما هم عليه من شرٍّ وسَفَاهَةٍ وما هو عليه من خيرٍ وصواب، وذلك من خلال استخدامهم لكل الوسائل المُمْكِنَة من تزييفٍ للحقائق وتشويهٍ وإساءةٍ وإيذاءٍ ونحو هذا وقد يَصِل الأمر لحَدّ الاقتتال مع المسلمين كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. إنَّ حالهم يُشْبِه حال مَن يحاول إطفاء نور الشمس بفَمِه!! فما أعظم سَفَههم وخَبَلهم أن يحاولوا فِعْل هذا المستحيل تحقيقه حتي ولو اجتمعوا جميعا عليه واستمرّوا فيه إلي يوم القيامة!! إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين في المُقابِل حتماً بلا أيِّ شكٍّ يأبَيَ أيْ يَرْفض رَفْضَاً قاطِعَاً تامَّاً وبكل عِزَّةٍ وتصميمٍ وشِدَّةٍ – ولله المَثَل الأعلي – إلاّ أنْ يُتِمّ نوره بتمام قُدْرته وعلمه، أيْ يُتِمّ ويُكْمِل نشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد ﷺ ، ومعهم أدِلَّتهم القاطِعَة ومُعجزاتهم المُبْهِرَة الدّالّة علي صِدْقهم، لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحارَبَة الكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره – فإنَّ كراهيتهم وما يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. هذا، وفي الآيتين الكريمتين تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم، كما أنهما تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يمتنعون تماما عن أكل أموال الناس بغير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا، فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اعلموا أنَّ كثيراً من علماء اليهود ورُهْبان النصاري أيْ المُنْقَطِعِين عن الدنيا في كنائسهم يأخذون أموال الناس بسببٍ باطلٍ غير حقّ من خلال رشوةٍ أو تَحَايُلٍ أو مُغَالَطَةٍ أو فتاوى باطلة أو ما شابه ذلك، فاحذروهم إذَن عند التعامُل معهم ولا يَتَشَبَّه بهم أيّ أحدٍ حتي لا يَتعس مِثْلهم في دنياه وأخراه.. هذا، ولفظ "كثيراً" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ قِلّة منهم لا يفعلون ذلك.. ".. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ وهم لا يَكْتَفون بأكل أموال الناس بالباطل بل يُضيفون إلى ذلك جريمة أخري وهى أنهم يَصُدُّون عن سبيل الله أيْ يَمنعون الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ والذين يمسكون الأموال بكل أنواعها ولا يُؤَدُّون زكاتها ولا يُخْرجون منها الحقوق الواجبة كالإنفاق علي مَنْ هم في مسئوليتهم أنْ يُنْفِقوا عليهم.. ".. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾" أيْ فإذا كان حالهم هكذا كما ذُكِرَ سابقا فأخبرهم إذَن في مُقابِل ذلك بصورةٍ مناسبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنَّ لهم عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وفي لفظ "فبَشّرْهم" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾" أيْ تفصيلٌ لبعض هذا العذاب الأليم حتي يمتنع المُكْنِزون عن كنْزِهم.. أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم يُوقَد على هذه الأموال في نار جهنم فتُحْرَق بها وهي شديدة السخونة جِبَاه أصحابها – جَمْع جَبْهَة وهي المساحة ما بين الحاجِبَيْن إلي الشعر من الوجه – وجنوبهم وظهورهم بما يعني الجسد كله.. ".. هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.." أيْ تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل الذمِّ واللّوْم والإهانة والتعذيب النفسيّ إضافة للجسديّ الذي تُعَذّبهم به حين تَكْويهم بها هذا العذاب الأليم النازل بكم هو جزاء ما كنتم تكنزونه وتمسكونه وتَدَّخرونه فى الدنيا من أموالٍ لمَنْفَعة أنفسكم دون أن تُؤَدّوا الحقوق الواجِبَة المَطلوبة فيها.. ".. فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾" أيْ فذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.. أيْ فاستشعروا إذَن ألَمَ وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تكنزونه
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿36﴾ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حريصاً علي وقتك أشدَّ الحِرْص، لأنَّ الوقت هو الحياة، فلا تُضَيِّع لحظة إلا في خيرٍ وسعادةٍ لك ولغيرك في الدنيا والآخرة، وإذا كنتَ من الذين لا يظلمون أنفسهم طوال أشهر السنة كلها، بفِعْل أيّ شرّ، بأيِّ صورةٍ من الصور، لك أو لمَن حولك – أو حتي لأيِّ مخلوقٍ غير البَشَر – لأنه مُضِرٌّ مُتْعِسٌ لك ولهم في الداريْن، كفسادٍ أو جرائم أو ظلمٍ أو كفرٍ أو شِرْكٍ أو نفاقٍ أو ما شابه هذا، وذلك من خلال التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿36﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الزمن ليعلم الخَلْق مواقيتهم وحساباتهم فينتفعون بحياتهم ويسعدون فيها تمام السعادة، وأنَّ التوقيت مُنْضَبِط بتمام الإحكام، فكلُّ ليلٍ ونهارٍ يكون يوماً وكل ثلاثين يوماً تكون شهراً وكل اثنا عشر شهراً تكون سَنَة، وهكذا، فبحركة الشمس يُعْرَف بَدْء اليوم ونهايته وبحركة القمر وتَغَيُّر شكله يُعْرَف بَدْء الشهر ونهايته، ولا يمكن لأيِّ أحدٍ أن يُغَيِّر أيَّ شيءٍ من هذا النظام المُحْكَم، حيث الآية الكريمة تُبَيِّن أنَّ بعض المُكَذّبين المُعانِدِين من الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن شِدَّة سُوئهم يحاولون تغيير شرع الله والتّعَدِّي عليه وعدم العمل به من خلال تغيير الأشهر، فمثلا يُحَرِّم سبحانه القتال في بعض الأشهر فيقومون بتغيير أسمائها حتي يقاتلوا فيها لأنهم كانوا قُطّاع طرقٍ يَتَكَسَّبون من الاعتداء علي غيرهم!!.. أيْ إنَّ عَدَد الأشهر عند الله أيْ في نظامه وتقديره وحُكْمِه اثنا عَشَرَ شهراً لا تزيد ولا تنقص مكتوبة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – منذ خَلَقَ السماوات والأرض قبل خَلْقِكم أيها البَشَر ومن هذه الأشهر أربعة أشهر حُرُم، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، كما بَيَّنَ ذلك الرسول ﷺ ، وسُمِّيّت بذلك لأنَّ الله تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة، كما أنَّ الأشهر الثلاثة هي أشهر الحجّ والتي يحتاج مَن نَوَيَ الحجّ فيها للأمان لا الاقتتال، وشهر رجب هو أيضا يحتاج للأمن لكثرة أداء العُمْرة فيه.. ".. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.." أيْ ذلك الدين، ذلك الإسلام، هو النظام المستقيم أي المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، وهو ذو القيمة العالية، وذو القِيَم الأخلاقية السامية، التي تُصْلِح الناس وتُكْمِلهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.." أيْ فلا تكونوا في هذه الأشهر الاثنا عشر – ومِن بابِ أوْلَيَ في الأشهر الأربعة الحُرُم والتي قد خَصَّها سبحانه بمزيدٍ من الاحترام تشريفاً لها حيث الظلم فيها أشدّ إثماً منه في غيرها كما أنَّ ثواب العمل الصالح فيها يُضَاعَف – من الظالمين لأنفسكم أيْ العاصِين لله تعالي المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يُتْعِسون أنفسهم ومَن حولهم في دنياهم وأخراهم بِفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. أيْ كونوا في كل أعوامكم ولحظات يومكم وحياتكم كلها عامِلين بكل أخلاق إسلامكم لتكتمل سعادتكم في الدرايْن.. ".. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.." أيْ وقاتِلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من المشركين وغيرهم وأنتم كافّة أيْ جميعاً كما يقاتلونكم هم جميعاً بأن تكونوا فى قتالكم لهم مُجْتَمِعِين مُتَعاوِنين مُتناصِرين لا مُتَفَرِّقِين مُخْتَلِفِين مُتَخَاذِلين.. كذلك من معاني كافّة أيْ قاتِلُوا جميع المُعتدين بالقتال من كل أنواع المشركين والكافرين وغيرهم مِمَّن يَتَشَبَّه بهم ولا تَخُصُّوا أحداً منهم بالقتال دون أحدٍ بل اجعلوهم كلهم لكم أعداءً ما داموا هم معكم كذلك قد اتّخذوكم أعداءً لهم، بل وقاتلوهم في كافّة الشهور أيْ كلها حتي الأشهر الحرم ما داموا قد اعتدوا عليكم فيها.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿36﴾" أيْ واعْرَفُوا وتَأكَّدوا واطمَئِنّوا أنَّ الله ربكم الكريم القويّ العزيز دائما مع المتقين بعلمه وبقُدْرته يَنصرهم حتما ويُكرمهم ويعزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، فكونوا كذلك لتنالوا ذلك الوعد.. والمتقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند قتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿37﴾" أيْ ما التأخير لهذه الأشهر الحُرُم كلها أو بعضها عمَّا رتَّبها الله عليه، والذي يَفعله بعض المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم، إلا زيادة في الكفر يزداد به أيْ بهذا النّسِيء أيْ التأخير الذين كفروا ضلالاً فوق ضلالهم، أيْ يُضيفون به شرَّاً وسُوءاً إلي شرِّهم وسُوئهم بسبب ما هم فيه من كفر ويَضِلّون به أنفسهم وغيرهم من الكفار ضلالاً زائداً، حيث كانوا يجعلون الشهر الحرام حلالاً في عامٍ مَا إذا احتاجوا القتال فيه لأنهم كانوا قُطّاع طرقٍ يَتَكَسَّبون من الاعتداء علي غيرهم ويجعلون شهراً آخر بَدَلاً منه حراماً ويقولون شهراً بشهرٍ ليُواطِئوا بذلك أيْ ليُوافِقوا عدد الأشهر التي حَرَّمها الله من حيث عددها أربعة لكنها مختلفة عمَّا حَرَّمه سبحانه فيُحِلّوا بذلك ما حَرَّمَ الله!! بينما يجعلونه هذا الشهر ذاته حراماً في عامٍ آخر إذا لم يحتاجوا للقتال فيه!!.. ".. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ.." أيْ زَيَّنَ لهم التفكير الشَّرِّيّ بعقولهم ورؤساؤهم وزعماؤهم الأعمال السَّيِّئة أيْ حَسَّنوها لهم فاتَّبَعَوا الهَوَيَ بسبب هذا التزيين أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿37﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المكذبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38﴾ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – ما الذي جَعَلَكم إذا قيل لكم اخرجوا للجهاد (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ.." أيْ تَثَاقَلْتم أيْ تَكَاسَلَ وتَبَاطَأ بعضكم كأنهم يحملون أثقالا والتصقوا بالأرض ولَزموا مساكنهم راضين ببقائهم في ديارهم وأراضيهم وبلادهم مائلين إلى الراحة والتّنَعُّم؟!.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق منكم ذلك يا مؤمنين لأنه يَتَعارَض مع إيمانكم وطاعتكم واتّباعكم للإسلام وحِرْصكم علي نشره والدفاع عنه لتَسْعَدوا وتُسْعِدوا الناس جميعا به.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ من التّكَاسُل عن الجهاد في سبيل الله وتوجيهٌ للحرص الشديد علي القيام به لتحصيل فوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ولتَجَنّب مَضَارّ وتعاسات تَرْكه فيهما.. ".. أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ.." أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ عَجَبَاً لكم هل قَبِلْتُم بالحياة الدنيا وقدَّمتموها وفضَّلتموها واخترتم مُتَعَها الزائلة فقط بَدَلَ الآخرة ودون ارتباطٍ بها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ؟!.. ".. فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه لا مُقَارَنَة قطعاً بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.. أيْ إنْ حَدَثَ ذلك منكم فقد أخطأتم خطأ شديداً لا يَفعله صاحبُ عقلٍ راجِحٍ لأنَّ متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل تافه زائل بالنسبة لمتاع الآخرة ونعيمها الدائم العظيم الخالد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، فكيف إذَن تُفَضِّلون القليل على الكثير والفانِي على الباقي؟!.. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ بحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾" أيْ إنْ لم تَخرجوا أيها المسلمون للجهاد في سبيل الله بكل أشكاله ودرجاته ولقتال المعتدين عليكم بالقتال (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ فإنَّ النتيجة السَّيِّئة الحَتْمِيَّة لذلك أنه يُعَذّبكم الله عذاباً مُؤلِمَاً مُوجِعَاً شديداً، في الدنيا أولا بأنْ يَترك أعداءكم يَتَسَلّطون عليكم بالذلّة والإهانة والاعتداء علي الأعراض والأنفس والأموال والمُمتلكات وبإبعادكم عن أخلاق إسلامكم فتكون حياتكم ذليلة تَعيسة والموت أفضل منها، ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل ذلك حتي لا يَنال هذا المصير في الداريْن.. ".. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.." أيْ وكذلك سيُضَاف لعذاب الدنيا أن يَستبدل الله بكم أُنَاسَاً غيركم كما خَلَقَكم أنتم فهو قادرٌ علي كلّ شيء، أيْ يُذهبكم ويأتِ بآخرين، إمَّا بإهلاكٍ سريعٍ واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شروركم ومَفاسدكم وأضراركم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامكم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدكم مِن ذُرِّيَّاتكم وذُرِّيَّات غيركم بأناسٍ لا يكونوا أمثالكم في سوئكم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق.. وفي هذا حثّ للمسلمين علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا.." أيْ وبتَخَلّفكم عن الجهاد حتماً وبكل تأكيدٍ لن تضرّوا الله تعالي ولا دينه الإسلام في أيّ شيءٍ! بل أنتم قطعاً الذين ستَتَضَرَّرون حيث ستُعَذّبون وتتعسون في دنياكم وأخراكم، لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو ابتعد الناس جميعا عن الإسلام! بل الذين يبتعدون هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، وسيَهْزِم أعداءه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعاً وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني ولا تضرّوا الرسول ﷺ شيئاً مَا مِن الضرر بسبب تَثَاقلكم عن الجهاد لأنَّ الله قد وَعَده بالنصر ووَعْده صِدْقٌ وواقعٌ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، وإنْ لم يكن بكم فسيكون بغيركم، وأيضا لن يُضَرَّ بالقطع وسيُنْصَر بقوة الله وتأييده كل قائدٍ مِن بعده ﷺ يَتّبع سُنّته ويُحْسِن اتّخاذ أسباب النصر حتي لو تَخَلّي عنه مَن يَتَخَلّي مِن المسلمين.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله الذي له كل صفات الكمال الحسني كثيرٌ كاملُ القُدْرَة علي كلّ شيءٍ بلا أيِّ شكّ ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادرٌ بتمام القُدْرة وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، فهو قديرٌ علي نَصْر الإسلام والمسلمين بغيركم، وعلي عذابكم واستبدالكم إنْ شاء.. فاستجيبوا بالتالي إذَن لِمَا يُوصِيكم به لتسعدوا في الداريْن وإلاّ تعستم فيهما
ومعني "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ أنَّ الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ يَنصر حتماً رسله ودينه الإسلام بغير عوْنٍ من أيِّ أحدٍ في كل الظروف والأحوال حتي في أصعبها وأسوئها بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. أيْ إنْ لم تنصروا رسولكم وإسلامكم أيها المسلمون فإنَّ الله ناصره قطعاً كما أيَّده ونصره حين أخرجه الذين كفروا مُضطرّاً من بلده وهو أحد اثنين فقط ليس معه إلاّ صاحبه أبو بكرٍ الصِّدِّيق بلا أيِّ عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ وحين كانا في الغار الذي اخْتَفَيَا فيه أثناء هجرتهما حين قال له مُطَمْئِنَاً لا تَحزن فإنَّ الله معنا دائما بقُدْرَته وعِلْمه وعَوْنه وتأييده ونَصْره وحمايته.. ".. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله برسوله ﷺ وصاحبه – وهي حتماً تكون لكل مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه من المسلمين – وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته له وتخفيفه عنه ما أصابه وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ فعند ذلك أنزل وأفاض الله علي رسوله وعلي صاحبه رحمته التي تَتَحَقّق بها السكينة أيْ الشعور بالسكون والاطمئنان والأمن والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خيرٍ ونصر، وبهذه السكينة ثَبَتَا.. لقد كان الرسول ﷺ رغم ثباته وإقدامه في حاجةٍ لهذه السكينة لإزالة حزنه بسبب ما يُلاقيه من أذيَ قومه وكان أبو بكر رضي الله عنه في حاجة إليها ليزداد ثباتا بإزالة خوفه علي الرسول ﷺ .. ".. وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ وإضافة لنِعْمة السكينة نِعْمة أخري حيث قوَّاه ونَصَرَه وأمَدَّه وأعانه بجنودٍ مِن الملائكة وغيرها ممّا لا ترونها ولا تعلمونها ولكنكم تجدون آثارها علي أرض الواقع، فحَموه في الغار ومَنَعوا أيَّ أحدٍ أن يَصِل إليه ويُؤذيه، ونصروه فيما بعد ذلك من أحداثٍ كغزوة بدرٍ والأحزاب وغيرها.. ".. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.." أيْ وانتهي الأمر بأنْ جعل دعوة الكفر وما يُشبهها هي الأدْنَيَ الأقلّ الأذلّ المَغْلُوبة الهابِطَة المُنْحَطّة الشأن، والكفار ومَن يُشبههم كذلك، وجَعَل دعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ودعوة الإسلام هي الأعلي الأعَزّ الغالِبة الرفيعة الشأن والمَقام، والمسلمين كذلك، بأنْ جَعَله وجَعَلهم المَرْجِع الذي يَرْجِع إليه الناس إذا أرادوا أن يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾" أيْ اخرجوا أيها المسلمون للجهاد في سبيل الله، كلٌّ علي قَدْر استطاعته وحاله، سواء أكنتم خفافاً أيْ في حالٍ يَخِفّ عليكم الجهاد فيها وحالِ سهولة النّفْر، جَمْع خفيف، أيْ مَن كان خفيفاً أيْ شابّاً قوياً مُجَهَّزَاً مُسْتَعِدَّاً ليس له أعباء تُثْقِله وتُقْعِده عن الخروج وفي أجواءٍ مُريحةٍ مُناسبةٍ ونحو ذلك، أم كنتم ثِقالاً أيْ عكس مَا سَبَق أيْ في حالٍ يَثقل عليكم الجهاد فيها وحالِ ثِقل النّفْر وصعوبته ومَشَقّته، أيْ مَن كان ثقيلاً أيْ شَيْخَاً ضعيفاً غير مُجَهَّزٍ غير مُسْتَعِدٍّ له أعباء تُثقله وتُقعده عن الخروج وفي أجواءٍ مُتْعِبَةٍ غير مناسبةٍ ونحو ذلك، وبالجملة اخرجوا في جميع الأحوال في العُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمَكْرَه والحرّ والبَرْد والقوة والضعف والغِنَيَ والفقر والشغل والفراغ والشباب والشيخوخة والأفراد والمجموعات.. والمقصود أنَّ كلَّ فردٍ يُقَدِّم ما يستطيع، من جهده وماله وفكره وعلمه وخدماته وحتي دعائه وما شابه هذا، ثم يقوم المسئولون المُتَخَصِّصون بتحديد الأعداد والأكفاء لقتال المعتدين بالقتال عند حدوثه وتوزيع الأدوار علي حسب الطاقات والإمكانات وتحديد المُعِدَّات ونحو ذلك مِمَّا تقوم به الجيوش وأجهزتها المُعَاوِنَة في الدولة المسلمة.. هذا، ومَن كان له عُذْرٌ مَقْبُولٌ يَمنعه عن القتال، فإنه يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية ﴿95﴾ من سورة النساء للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار﴾، إلا في حالة النفير العام، أيْ الاعتداء الشديد علي بلاد المسلمين والذي يحتاج كلّ جهدٍ مُمكنٍ مِن أيِّ أحدٍ وبأيِّ شكلٍ، فإنه حتي أصحاب الأعذار يُقَدِّمُون ما استطاعوا ما داموا قادرين عليه.. ".. وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.." أيْ وابْذِلوا كل أنواع الجهود واجْتَهِدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ هذا كله الذي نوُصِيكم به من أخلاق الإسلام – والتي منها الجهاد – هو حتماً خير لكم في دنياكم وأخراكم لأنه يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة فيهما فسارعوا بالاستجابة له.. ".. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقاً تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا لم تكن جَبَانَاً، بل كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك وكنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً (برجاء مراجعة الآيات السابقة ﴿38﴾ حتي ﴿41﴾ لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿42﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مساويء المنافقين وجُبْنهم عن الجهاد في سبيل الله وأعذارهم الساقِطَة الضعيفة وأيْمانهم الكاذبة لتبرير ما هم فيه من سوء.. أيْ لو كان الذى تدعو المنافقين إليه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه عَرَضَاً أيْ ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قريباً أيْ قريبَ المَنَالِ أيْ سَهْل سريع الحصول عليه، أو لو كان كذلك سفراً قاصداً أيْ قَصْدَاً أيْ مُتَوَسِّطَاً بأقلّ تَعَبَ، لاتّبعوك وساروا خَلْفك فيما دعوتهم إليه لأنه يُحَقّق لهم ما يَطمعون فيه، ولكنْ بَعُدَت أيْ ابْتَعَدَت وطَالَت عليهم الشُّقّة وهي المسافة التى لا تُقْطَع إلا بعد حدوث المَشَقّة والتّعَب، ولذلك تَثَاقلوا أيْ تَكَاسَلوا وتَبَاطؤا وتَخَاذلوا وتَرَاجَعُوا، جُبْنَاً منهم وحُبَّاً للراحة والأمان.. ".. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ.." أيْ وسيَعَتذرون لتَخَلّفهم حَالِفِين بالله كذباً بأنهم لا يستطيعون ذلك لأعذارٍ لهم، ولو استطعنا الخروج بما يحتاجه من إمكاناتٍ لخرجنا معكم في جهادكم بلا أيِّ تَخَلّف!.. ".. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ.." أيْ بسبب نفاقهم وحَلِفهم بالله كذباً وتَخَلّفهم عن الجهاد بلا عُذْرٍ حقيقيّ يُدَمِّرُون ويُضَيِّعُون ذواتهم لأنهم سيَنالون حتماً العقاب في مُقابِل ذلك بعذاب الدنيا والآخرة، ففي دنياهم سيكون النفاق من أهم أسباب تعاستهم لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس، كذلك تَرْك الجهاد والجُبْن عنه يُؤدّي إلي تَسَلّط الأعداء عليهم بالذلّة والإهانة والاعتداء علي الأعراض والأنفس والأموال والمُمتلكات فتكون حياتهم ذليلة تَعيسة والموت أفضل منها.. ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿42﴾" أيْ في كل ما اعْتَذَرُوا به وأقْسَمُوا عليه لأنهم كانوا مُستطيعين الخروج بما لهم من إمكاناتٍ ولم يخرجوا، فهو بالقطع لا يَخْفَيَ عليه حالهم وسيُعاقبهم بما يُناسبهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة مزيدٌ من التأكيد علي كذبهم ونفاقهم ومزيدٌ من التهديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون عمَّا هم فيه
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿43﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يجتهدون في الوصول لأفضل الآراء في كل موقفٍ من مواقف الحياة، فهذا يجعلك دائما علي صوابٍ أو قريباً جداً منه، وبذلك تَقِلّ أخطاؤك أو تنعدم، فلا يَحدث أيّ تعاسات، بل تمام السعادت، في الداريْن.. إنَّ هذا مِن المُمكن أن يتحقّق بالاستعانة بالله بالقطع أولا، ثم بالمُتَخَصِّصين في كل مجالٍ من المجالات، مع الاسترشاد بآراء ذوي الخبرات، وتقييم الأمور بين الحين والحين للاستزادة من الإيجابِيَّات ولعلاج السَّلْبِيَّات أوّلاً بأوّل.. إنَّ الذي يجتهد في رأيٍ من الآراء في موقفٍ من المواقف فأصاب الصواب وحقّق العدل والخير والحقّ ما استطاع، فله أجران، ما دام اجتهاده هذا في إطار أخلاق وأنظمة الإسلام لا يخرج عنها، وإنْ لم يحقّق الصواب وحَدَث خطأ مَا، فله أجر أيضا، كما وَضَّح هذا الرسول ﷺ ، وذلك لتشجيعه علي الاجتهاد والابتكار والتصويب والتقويم حتي يَصِلَ دَوْمَاً في كل قراراته للكمال ما أمكن أو حوله، ثم الله تعالي يَعفو ويَغفر ويُثيب
هذا، ومعني "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿43﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين أن يجتهدوا ما استطاعوا في ألاّ يَصِلوا إلي المرحلة التي يُعَاتِبهم فيها الله تعالي إذا هم أذِنُوا لمَن يطلب منهم الاستئذان مِن عَمَلٍ مَا دون أن يَتَأنّوا ويَبحثوا عن بعض التفاصيل حتي يمكنهم التمييز بين صاحب العذر الحقيقيّ والمُدَّعِي له، وهذا التّأنّي بالقطع وعدم الانخداع بظواهر الأمور يطلبه الإسلام في كل أمور الحياة ليسعد بذلك المسلم حيث سيكون دائما أقرب للصواب.. أيْ لقد سامَحك الله وغفر لك يا رسول الله فاطمئنّ – وفي هذا توجيهٌ له ﷺ ولكل مسلم لِمَا سيُقال لكنه مُبْتَدَأ ومُحَاط بكل حبّ ورحمةٍ ولِينٍ وتكريمٍ وحُسْنِ إرشاد – ولكنْ لأيِّ سببٍ أَذِنْتَ لهؤلاء الحَالِفين المُتَخَلّفين في أنْ يَتَخَلّفوا عن الجهاد حين استأذنوا فيه مُعْتَذِرين بعدم الاستطاعة وكان عليك التّأَنّي والتّثَبُّت حتى يَظهر لك الذين صَدَقوا في أعذارهم وتَعلم الكاذبين فيها؟! وذلك من خلال مزيدٍ من البحث ومن خلال عامل الوقت حيث أنَّ الكاذبين إذا لم تأذن لهم فسيَقعدوا ويَتَخَلّفوا أيضا ويُخَالِفوك ولن يَخرجوا فيَتَبَيَّن لك وللمسلمين حينها كذبهم فيمكنكم التعامُل معهم بحَذَرٍ لأنهم منافقون لكن كان الإذن لهم ساتِراً لهم فلم يَنكشفوا فلم تعرفوهم
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿45﴾ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿46﴾ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿47﴾ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿48﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿49﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾" أيْ ليس من شأن وحال الذين يُصَدِّقون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، ويعملون الصالحات أي يعملون بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمنوا أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، ليس من شأن وحال أمثال هؤلاء أن يَطلبوا الإذْنَ في أن يبذلوا كل أنواع الجهود ويجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وإنما الذى من شأنهم وعادتهم أن يُسارِعوا بالجهاد – وبكل خير – ويَتَسابَقوا فيه دون أن يَنتظروا ويَطلبوا إذْنَاً أو دَفْعَاً وتشجيعاً من أحد، وكذلك ومِن باب أوْلَيَ ليس من شأنهم ولا حالهم أن يستأذنوا في التّخَلّف عنه بلا عُذْرٍ حقيقيّ قَهْرِيّ مَقْبول وإنما هذا من شأن المنافقين (برجاء مراجعة الآية ﴿95﴾ من سورة النساء للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار﴾، وكل ذلك لأنَّ إيمانهم يُحَبِّب إليهم الجهاد في سبيل الله وعدم التّخَلّف عنه مطلقاً فيفعلونه حبّاً في ربهم ورسولهم ودينهم الإسلام وحِرْصَاً علي تحصيل عظيم أجره في دنياهم وأخراهم حيث في الدنيا العِزَّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة وانتصار الإسلام وانتشاره فيسعد الجميع بذلك ثم في الآخرة حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد وإن اسْتُشْهِد فقد قُتِلَ كريماً عزيزاً شامِخَاً يدافع عن الإسلام والمسلمين والأبرياء والحقّ والعدل والخير ثم هو حيٌّ يُرْزَق عند ربه مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وهل هناك أفضل وأسعد رفقاء من هؤلاء؟!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾" أيْ والله عليمٌ بكل شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه فهو عليم بالمتقين ولن يضيع بالقطع أجورهم وسيُجازيهم بما يَسْتَحِقّون في الداريْن وسيُجازي المُسِيئين أيضا بما يستحقّون من عذابٍ فيهما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند جهادهم وقتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تشجيعٌ للمسلمين علي التقوي لينالوا أجرها الدنيويّ والأخرويّ
ومعني "إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿45﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض صفات المنافقين من النوع الأسوأ الذي يُظْهِر الإسلام ويُخْفِي الكفر، وقد يَتَشَبَّه بهم النوع الآخر منهم وهو الأقل سوءاً الذي يُظهر الخير وبعض أخلاق الإسلام وهو يُخفي الشرَّ والفساد لكنه ليس بكافر، وقد يَتَشَبَّه بهذين النوعين مسلمٌ مُسِيءٌ تارِكٌ لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها، حيث هؤلاء يَتَخَلّفون عن الجهاد في سبيل الله بغير عُذْرٍ مَقْبُولٍ جُبْنَاً وحِرْصَاً علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم.. أيْ لا يَطلب الإذن للتّخَلّف عن الجهاد إلا فقط الذين لا يؤمنون بالله أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولا يؤمنون أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وشَكّت عقولهم – أو حتي كَذّبت – في صِحَّة ما جاء به القرآن والإسلام، فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن مسلمٌ أبداً، إذ هم لعدم إيمانهم بالله لا يُطيعونه ولا يُجاهدون ولا يُؤمنون بما في الجهاد من عِزّة وكرامة، وعدم إيمانهم باليوم الآخر يجعلهم يعتقدون أنه لا تعويض لهم وأنَّ الدنيا وحدها هي الحياة ويقولون إنْ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمَبْعُوثين فلذلك لا يَبْذلون النفس والمال.. ".. فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿45﴾" أي وبالتالي وبسبب شَكّهم، وبسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبسبب نفاقهم بإظهارهم الخير وإخفائهم الشرّ أو الكفر، فهم يعيشون دائما في رَيْبِهم أيْ شَكّهم يَتَرَدّدون أيْ يَذهبون ويَرْجِعون أيْ مُتَحَيِّرون أيْ في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وشكّ وقَلَقٍ واضطراب، وهذه هي علي الدوام صفات المنافقين وحياتهم التعيسة في دنياهم ثم لهم في أخراهم التعاسة الأعظم والأتمّ، لأنهم لا هُمْ مع المسلمين ولا هم مع الكافرين، فأحيانا يَميلون إلي هؤلاء وأحيانا إلي أولئك، وكلّ فريقٍ حتي الكافرين يَحتقرهم ويَحذرهم لخِسَّتهم! إنهم دَوْمَاً في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وتَلَوُّنٍ من حالٍ لآخرٍ واضطرابٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ خوفاً من انكشاف أمرهم ومُعاقبتهم وفقدانهم منافعهم التي ينتفعونها من الفريقين.. إنَّهم يعيشون حياتهم خَسِيسِين مُنْحَطّين وَضِيعِين ذليلين تابعين مُتَشَكّكِين في كل ما حولهم خائفين منه.. إنهم بالتالي في تمام التعاسة قطعاً ويَنتظرهم حتماً في آخرتهم ما هو أعظم تعاسة
ومعني "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿46﴾" أيْ ولو كانوا هؤلاء المنافقون يريدون حقّاً وبصدقٍ الخروج للجهاد كما يَدَّعُون لكانوا قاموا بإعداد عُدَّة له وهي ما يُعَدّ من إعداداتٍ واحتياجاتٍ يُطْلَب إعدادها وتجهيزها للقيام به، فتَرْكهم الاستعداد دليل على إرادتهم التّخَلّف وأنهم كاذبون في أعذارهم.. ".. وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ.." أيْ ولكنهم لم يريدوا الخروج لأنَّ الله تعالى كَرِهَ ولم يُحِبّ ولم يَشَأ ويُرِدْ خروجهم للجهاد لعِلْمه بنفاقهم وسوء نواياهم حيث سيَنشرون الضرر والتّخاذل والخِلاف والتّفَرُّق بين المسلمين ويكونون عليهم لا معهم فلذلك عَوَّقهم وكَسَّلهم وأقعدهم ومَنَعهم عنه وساعدهم علي مزيدٍ من التّثاقل والكَسَل والقعود بأنْ قذف في عقولهم الخوف والجُبْن والحرص علي الحياة والتّرَاجُع من أجل التمسّك الشديد بها ولم يُساعدهم علي التّخَلّص من ذلك لعِلْمه بحِرْصهم التامّ علي حالهم هذا وإصرارهم عليه بلا أيِّ تغييرٍ ولو بخطوةٍ حتي يُعينهم علي بقية الخطوات.. ".. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿46﴾" أيْ وقيل لهم من الله تعالي – أو من المسلمين غَضَبَاً عليهم –اجلسوا في بيوتكم مع الجالسين المُتَخَلّفين عن الجهاد بغير عُذْرٍ مَقْبول، بمعني إذا كنتم منافقين هكذا فقد كَرِهَ الله انبعاثكم فأمركم بالقعود عن هذا الخروج ويَسَّره لكم، والمقصود ذَمّهم ذمَّاً شديداً وتحقيرهم لجُبْنهم وحَقَارتهم
ومعني "لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿47﴾" أيْ هذا بيانٌ لحكمة تَثْبيط الله للمنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم وبيانٌ لرحمته بالمسلمين ولعَوْنه لهم بتنقية صفوفهم لتحقيق النصر لهم.. أي لو خرجوا بينكم للجهاد ما زادوكم أيَّ شيءٍ مِن قوةٍ ومنفعةٍ وخيرٍ ولكن سيَزيدوكم خبالاً أيْ اضطراباً وفَوْضَيَ وفساداً وشرَّاً، ولأوضعوا أيْ ولأسْرَعوا حتماً فيما بينكم وحالهم وواقعهم أنهم يريدون لكم الفتنة أيْ الشرَّ والسوء والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام.. ".. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.." أيْ وكذلك ثَبَّطْناهم لأنَّ بينكم أيها المسلمون كثيري السَّمَاع لهم وقد يتأثّرون بهم لأنهم لا يعلمون سوء نواياهم وبعضهم أصحاب تأثيرٍ كبيرٍ لِمَا له من مَكَانَةٍ وكلامٍ ظاهره حَسَن.. ومِن المعاني أيضا أنَّ فيكم جواسيس لهم يسمعون أخباركم وينقلونها إليهم ليَضُرُّوكم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿47﴾" أيْ والله يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل الظالمين وهم كلّ مَن ظَلَمَ نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتما بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لعله يُوقِظ بعضهم فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿48﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بسَوَابِق كثيرة من محاولات إيقاع الفِتَن بينهم قام بها هؤلاء المنافقون وأشباههم حيث هذا هو دائما حالهم لكي يَحذروهم أشدّ الحَذَر عند التعامُل معهم وأمثالهم.. أيْ ليس جديداً عليهم ما يقومون به من سوءٍ فلقد طَلَبوا وأرادوا سابقاً في مواقف كثيرة الفتنة فيما بينكم أيْ الشرَّ والسوء والفساد والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام وما شابه هذا.. ".. وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ.." أيْ هذا بيانٌ لتَفَنّنهم وتنويعهم فى كل أشكال الإيذاء للرسول الكريم ﷺ والمسلمين ونَشْر الفِتَن ومحاولة مَنْع انتشار الإسلام، وتقليب الأمر يعني النظر إليه من كل جوانبه للوصول لأفضل النتائج المطلوبة، والمقصود أنهم يَبذلون أقصَيَ جهودهم وخُلاصَة مَكائدهم بكل أنواعها وصُوَرها في ابتغاء الفتنة.. أيْ وأدَارُوا وحَرَّكوا وأعْمَلوا الآراء في مَنْع دعوتك للإسلام ودَبَّرُوا لك المَكَائِد والحِيَل.. ".. حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ.." أيْ هؤلاء المنافقون وأشباههم اسْتَمَرُّوا – ويَسْتَمِرُّون في كل زمن – على حربهم للإسلام إلي أن جاء وحَدَثَ النصر الذي وَعَدَ الله به رسوله ﷺ والمسلمين – والذي يَجِيء دائماً لهم أيضا في كل عصرٍ إذا أحسنوا اتّخاذ أسبابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا – وظَهَرَ أمر الله أيْ وعَلاَ وارْتَفَعَ دين الله الإسلام علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة للناس في الداريْن أيْ كانت كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا فيهما.. ".. وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿48﴾" أيْ والمنافقون وأشباههم كارهون لذلك لأنهم يَكرهون انتصار دين الإسلام ويَحزنون بهذا ويَتمنّون هزيمته وعدم انتشاره لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، ولكنَّ الله تعالى خَيَّبَ أمانيهم وأحْبَطَ مَكائدهم رغم أنفهم وكراهيتهم ومحاولاتهم، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بَلَغَت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحَتْمِيَّة أنهم مَغْلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. هذا، وفي الجزء الأخير من الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿49﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض الأعذار الكاذبة لبعض المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم لتَبْرير جُبْنِهم وحِرْصهم علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم.. أيْ ومِن بعض هؤلاء المنافقين مَن يقول للقائد وللمسئول وللمسلمين اعْطِنِي الإذْنَ في التّخَلّف عن الخروج للجهاد ولا تُوقِعني في الفتنة أيْ في العِصْيان والمُخَالَفة والإثْم بأن لا تَأذن لي – بما يُفيد أنه مُتَخَلّفٌ بالتأكيد سواء أُذِنَ له أم لم يُؤْذَن – أو في الشرّ والفساد والضرر بسبب ضياع المال والأهل والأولاد حيث لا كافِل لهم بَعْدِي، وبالتالي فتَخَلّفي مَنْعٌ لفِتْنَتِي.. ".. أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا.." أيْ هذا بيانٌ لكذب من يَدَّعِي ذلك وذمٌّ شديدٌ له لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه.. أيْ قد وَقَعوا في الفتنة أيْ في الإثم والشرّ بالفِعْل وبالتأكيد بقولهم وموقفهم هذا حيث نافَقوا وخَالَفوا أمر الله ورسوله ﷺ في الإسلام، وهل هناك فتنة أعظم من ذلك؟! بل إنَّ ذلك هو الفتنة ذاتها!!.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿49﴾" أيْ وهذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لمزيدٍ من إيقاظهم.. أي وإنَّ عذاب جهنم في الآخرة والذي لا يُمكنهم تَخَيُّله ولا تَحَمُّل لحظة فيه والذي يُعَذّبون به بما يُناسب شرورهم فإنه بانتظار الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بأقوالهم وأفعالهم السيئة من المنافقين والمُخَالِفين للإسلام ومُجَهَّز لهم وسيُحيط بهم بشِدَّته وقسوته مِن كل جانبٍ فلا يَقْدرون علي الفرار منه! إضافة قطعا إلي ما لهم من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِهم عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ مِن سُوء هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وشِدَّة عَداوتهم وكراهيتهم وحَسَدهم للإسلام والمسلمين للتنبيه إلي المزيد من الحَذَر منهم عند التّعامُل معهم.. أيْ إنْ تَأْتِيك وتَجِيء لك يا رسولنا الكريم وللمسلمين أيُّ نعمةٍ وسعادةٍ مَا قَلّت أو كَثُرَت تحزنهم وإنْ تَحْدُث لك ولهم وتَنْزِل بك وبهم مُصِيبَة أيْ مَضَرَّة تَضُرّهم وتُؤذيهم في أجسادهم أو مشاعرهم أو ممتلكاتهم أو غيرها في أيِّ شأنٍ من شئون حياتهم يقولوا مُعْجَبِين بتَصَرُّفهم شامِتين في المسلمين قد احْتَطْنا للأمر وأخذنا حِذْرنا من قبل نزول المصيبة بهم فلم تُصِبْنا، يَقْصِدون أنهم تَخَلّفوا عن الأمور التي فيها شِدَّة للمسلمين كالجهاد ونحوه فلم تُصِبهم مَصاعِب ومَتاعِب ذلك.. ".. وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾" أيْ ويَنصرفوا وهم مَسْرورون بما صَنَعوا وبما أصاب المسلمين من مصيبة، فهم يذهبون ويرجعون إلى أهلهم وأصحابهم يتحدّثون بفَرَحٍ عنها لأنها حَقّقت بعض ما يريدون من سوءٍ للإسلام وللمسلمين
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿51﴾ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة.. إنك إن اتّخذته تعالي مولاك، أيْ وَلِيَّاً، أيْ وَلِيَّاً لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. إنك إنْ فعلت هذا، فقد وَكّلْتَ كل شئونك للقادر علي كلّ شيءٍ يُديرها لك علي أكمل وأسعد وَجْه، فسيَجعلك صاحب عِزّة ومَكَانَة وقوة وحِكْمة وتَوَازُن وسيُعطيك كل سببٍ يُعينك علي السعادة التامَّة في دنياك ثم أخراك، وسيَحميك من كلّ سُوء، وإنْ أصابك ضَرَرٌ أو اختبارٌ مَا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له ولدينه، فإنه حتما سيكون هو الخير، هو المصلحة لك ولغيرك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ منها لتكتمل المعاني﴾.. إنَّ هذا هو ما كتبه الله تعالي علي خَلْقه يوم خَلَقهم، وهذا هو كتابه، أيْ نظامه الذي وضعه للحياة، ليسعدوا فيها (برجاء مراجعة سبب الخِلْقَة وتفاصيل هذا النظام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. كذلك ستسعد في حياتك كثيرا، إذا كنتَ دائما من المُتفائلين المُسْتَبْشِرين، أيْ الذين ينتظرون دوْمَاً كل خيرٍ ويَسعدون به، من كل قولٍ أو عمل، من الذين ينظرون علي الدوام إلي الجانب الخيريّ المُسْعِد فيه، وما قد يكون فيه من جانب شَرِّيٍّ يجتهدون سريعا في علاجه بما استطاعوا من أسبابٍ وباستعانتهم بربهم لتحويله إلي خيريٍّ مُسْعِد.. إنَّ هذا هو دوْمَاً حال المُتَوَكّل علي ربه المُتّخِذ إيَّاه وَلِيَّاً علي الدوام، في كل شئون حياته، بدءاً من أدناها وحتي أعلاها وهو القتال والجهاد في سبيل الله حيث ينظر غير المسلمين إليه علي أنه تَرَبُّصٌ للهلاك أيْ انتظارٌ له بينما هو يَتَرَبَّص إحدي الحُسْنَيَيْن، إمَّا النصر في الدنيا وما يَتْبَعه من عِزَّةٍ وكرامةٍ وربحٍ وسعادة، وإمّا مَا هو الأحسن الذي لا يُقَارَن وهو الشهادة حيث هو حَيٌّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّين مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، ومَن أحسن منهم رفيقا؟!.. بينما عكس ما سَبَقَ ذِكْره يَحْدُث لكل مَن هو بَعيد عن ربه والإسلام، سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أو ظالما أم فاسدا أم غيره، إنه دائم التشاؤم، إنه ينتظر دائما كل شرّ، لأنه لا يعرف غيره! فهو فاعل له مفعول به بمِثْله! فهو في شرٍّ علي شَرّ! في تعاسةٍ تامَّةٍ بذلك، وحتي ما قد يجده أحيانا من بعض سعادةٍ فهي سَطْحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة وَهْمِيَّة لا حقيقية مُؤَقّتة لا دائمة.. فلينتظر الجميع، وسيَرَوْن، كل الخير والسعادة للمسلمين إذا تمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ومعظم الشرّ والشقاء أو حتي كله لأعدائهم
هذا، ومعني "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿51﴾"، "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بألاّ يَحزنوا علي ما أصابهم من ضَرَرٍ مَا وألاّ يَضعفوا أمامه بل يَصبروا عليه ويَرْضوا به ويُحسنوا التعامُل معه والتوكّل علي ربهم مولاهم من خلال ثقتهم التامّة في أنَّ أيّ مصيبةٍ لا بُدّ حتماً ورائها مع الوقت خيرٌ كثيرٌ لأنها من تقديره تعالي الذي لا يريد بهم إلا كل الخير والسعادة كما وَضَّحَ ذلك بقوله ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة:216﴾ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعتها.. ثم مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ منها.. ثم مراجعة الآية ﴿139﴾ من سورة آل عمران "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"﴾.. كما أنَّ الآية الكريمة إرشادٌ للمسلمين للرَّدِّ علي أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم بما يُنْهِي فَرْحَتهم وشَمَاتتهم من خلال إبلاغهم بأنَّ المسلمين ينتظرون من ربهم خيراً دائماً حتي من وراء المصائب.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك منهم ومن غيرهم، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لن يَنْزِلَ بنا ويَحْدُثَ لنا أبداً في حياتنا الدنيا من خيرٍ أو شرٍّ إلا ما كَتَبَ أيْ قَدَّرَ الله لنا وتقديره لنا لن يكون حتماً إلا خيراً وسعادة في العاجل أو الآجل لأنه هو مولانا والمَوْلَي لا يَرْضَيَ ولا يُحِبّ ولا يَفعل لمَن يَتَوَلّاه إلا الخير ولذا فنحن دائما راضون بما يأتينا منه (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن كتابة الله للأحداث قبل خَلْق الخَلْق حسبما يَفعله هو وحسبما يَفعله البَشَر مراجعة الآيتين ﴿22﴾، ﴿23﴾ من سورة الحديد "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ"، "لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"﴾.. ومعني مَوْلاَنا أيْ وَلِيّنا أيْ وَلِيّ أمرنا وناصِرنا ومُعِيننا في كل شئون حياتنا، أيْ سيُدِيرها لنا علي أكمل وأسعد وَجْهٍ لأنه القادر علي كل شيء، أيْ سيُوَفّر لنا الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، وسيَحمينا من كلّ سُوء، وإنْ أصابنا ضَرَرٌ أو اختبارٌ مَا، سواء بسبب خطأٍ منا أو من غيرنا أو بسببٍ عامٍّ منه تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له ولدينه، فإنه حتما سيكون هو الخير، هو المصلحة لنا ولغيرنا.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿51﴾" أيْ وبالتالي، ولذلك، على الله وحده لا على غيره، فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن.. "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التأكيد عليه.. أيْ قل لهم كذلك هل تنتظرون بنا إلا إحدي النتيجتيْن اللتَيْن كل منها حُسْنَيَ؟! والحُسْنَيَيْن مُثَنّيَ الحُسْنَيَ، والمقصود إمَّا النصر في الدنيا وما يَتْبَعه من عِزَّةٍ وكرامةٍ وربحٍ وسعادة، وإمّا مَا لا يُقَارَن وهو الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّين بجناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، ومَن أحسن منهم رفيقا؟!.. والسؤال للنفي، أيْ لا تنتظرون وتَتَوَقّعون بنا إلا ذلك لا غير وهو الذي فيه كل الخير والسعادة لنا في الداريْن علي أيِّ الحالَيْن، وليس أبدا كما تنتظرون وتتمنّون من أن يُصيبنا سوءٌ يُضْعِفنا ويُفْرِحكم.. ".. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا.." أيْ ونحن المسلمون أيضا ننتظر بكم إحدي النتيجَتَيْن، لكنْ السَّيِّئتَيْن! وهما لا مُقَارَنَة حتماً بينهما وبين ما ننتظره، إمّا أن يُنْزِل الله بكم عذاباً من عنده لا دور ولا سبب لنا فيه يُهلككم به كزلازل وبراكين وفيضانات وصواعق وأوبئة ونحوها كما فَعَلَ ويَفعل دائما بأمثالكم في التوقيت وبالأسلوب وبالمقدار الذي يراه مُناسباً لسُوئكم، أو يُعذّبكم بعذابٍ يكون بأيدينا نحن من خلال تقويتنا وعوْننا علي هزيمتكم في كل مجالات الحياة فتتعذّبون بكَسْر عِزّكم وتَراجعكم وتَخلفكم وتعاستكم.. ".. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي سُوئكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فنحن المؤمنون مُنتظرون معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿53﴾ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿53﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم من المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنفقوا من أموالكم وجهودكم، سواء أكنتم طائعين باختياركم لسَتْر نفاقكم بإظهار فِعْلكم للخير حتي لا ينكشف أمركم، أم كارهين مُجْبَرِين علي الإنفاق في مواقِف لا تريدون أن تنفقوا فيها كمَن ينفق مثلا ليَمنع عنه عقوبة مَا أو لتَجَنّب ذمّه بالبخل أو ما شابه هذا، لن يَقبل الله تعالي منكم عملكم في الحالتَيْن ويعطيكم عليه أجراً في الآخرة – ولكنْ بِعَدْلِه يعطيكم في الدنيا – فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ إنفاقكم طوْعاً قد يكون له أجر فلا أيّ أملٍ لكم في هذا، وذلك لأنكم كنتم دائما أناساً فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله والإسلام بسبب كفركم، فكيف يعطيكم في آخرتكم وأنتم لا تؤمنون بها أصلا ولم تنفقوا لأجل الاستعداد لها وتحصيل نعيمها؟!.. فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا ينالَ مصيرهم ويتعس كتعاستهم في الداريْن
ومعني "وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾" أيْ وما منعهم أن يَقْبَل الله تعالي منهم نفقاتهم سببٌ من الأسبابِ إلا كفرهم بالله وبرسوله، إذ كيف بالتالي يُعطيهم ثواباً في الآخرة وهم لا يؤمنون به أصلا وهو الذي سيعطيهم ولا بها ولم يُنفقوا لأجل الاستعداد لها وتحصيل نعيمها؟! إنَّ العمل لا يُقْبَل إلا بالإيمان والإخلاص.. ".. وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾" أيْ هذا بيانٌ لسببٍ ثانٍ وثالثٍ مانعٍ من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر، والكفر وإنْ كان وحده كافياً في عدم القبول إلاّ أنَّ ذِكْر هذين السببين يُفيد تَمَكّن الكفر والنفاق منهم حيث هم مُتَهَاوِنون بالصلاة والتي هي عِماد الدين وكارهون لأيِّ إنفاقٍ فكيف يكون بالتالي إنفاقهم عن إخلاصٍ ورغبة؟!.. أيْ ومن صفاتهم السيئة كذلك ومن علامات نفاقهم والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم لا يحضرون إلي الصلاة لتأديتها إلا كَسْلانِين أيْ مُتَثَاقِلين مُتَبَاطِئين لا نشاط عندهم لأدائها ولا رغبة لهم فى القيام بها، لأنهم يُخفون الكفر ولهذا فهم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْلها ولا عقاباً على تَرْكها، ولذلك فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم وهم في صلاتهم وفي كل أقوالهم وأفعالهم يُرَاءُون الناس حتي لا يُتَّهَمُوا بالكفر أو بترك أخلاق الإسلام أيْ يقولونها ويفعلونها لكي يَروهم فيَمدحوهم أو لا يَذِمُّوهم، فهم لم يقولوها ويفعلوها خالصة لله تعالي أيْ من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. إنهم إذا اطمأنّوا أنَّ أحداً لا يَراهم لم يُصَلّوا، فهم لم يُؤَدُّوها إلا لسَتْر حالهم أيْ خوفاً من أن ينكشف كفرهم ونفاقهم.. وكذلك من صفاتهم السيئة ومن علامات نفاقهم والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم لا يُنْفِقون أيَّ شيءٍ من مالٍ وغيره إلا وهم كارهون لذلك لأنهم يعتبرون الإنفاق خسارة وتَرْكه مَكْسَبَاً حيث قد أجبروا عليه من أجل الرياء أو الخداع أو الخوف من انكشاف أمرهم إذ هم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْله ولا عقاباً على تَرْكه فهم لا يؤمنون بإلاهٍ ولا آخرةٍ وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونار
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الذين يُسيئون طَلَبها فلا يُمَيِّزون بين خيرٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وشرٍّ ضارٍّ مُتْعِسٍ، كالكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، وإلا تَعَذّبتَ وتَعِسْتَ مثل عذاباتهم وتعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿55﴾" أيْ إذا كان هذا هو حال وواقع المنافقين والكافرين والفاسقين ومَن يَتَشَبَّه بهم كما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة فلا تَسْتَحْسِن بالتالي إذَن أيها المسلم ولا يُبْهِرك ويُثير عقلك ويَلْفِت نظرك أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم وإمكاناتهم مهما بَلَغَت في الكثرة والحُسْن، لأنها عذابٌ لهم.. وفي هذا توجيهٌ للمسلم في دنياه بأنَّ عليه ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أن يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه وإلاّ تَعَذّبَ وتَعِسَ كعذابهم وتعاستهم في الداريْن، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه، فهذه هي الحياة الحقيقية السعيدة بعَيْنِها المُسْتَبْشِرَة المُنْتَظِرَة للآخرة الأسْعَد والأخْلَد حتي ولو رَأَيَ أنَّ ما عنده قد يكون أقل أحياناً مِمَّا عندهم، بينما هم غالباً أو دائماً في قلقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ دنيويةٍ تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ لم يُرِدْ الله بعطائه الأموال والأولاد لهم إسعادهم، فهم لا يستحقون ذلك، لكفرهم ونفاقهم وسوئهم، وإنما لكي يعذبهم بها في الحياة الدنيا من خلال جهدهم الشديد الذي يبذلونه في تحصيلها وبصراعهم أو حتي اقتتالهم مع بعضهم وغيرهم عليها وبقلقهم لحمايتها مِمَّن يَطمعون في نَهْبِها منهم وما شابه هذا من عذاباتٍ وكآباتٍ وتعاسات.. هذا، ولفظ "يريد الله" يحتاج لبعض التفصيل، بمعني أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."﴾.. ".. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿55﴾" أيْ ويُريد كذلك أن تخرج أراوحهم من أجسادهم وتهلك وينتهوا ويموتوا وهم كافرون فيُعَذّبهم بسبب كفرهم وموتهم عليه دون توبةٍ عنه عذاباً أليماً في الآخرة بعد عذابهم في الدنيا، فيكون ذلك اسْتِدْرَاجَاً لهم، وذلك من شِدَّة غضبه عليهم، فهل هناك استدراج لأمثال هؤلاء وعذاب في الداريْن أشدّ من هذا؟! إنهم يَصِل بهم أمر انشغالهم بأموالهم وأولادهم وأحداث دنياهم إلي النسيان التامّ لربهم ولدينه الإسلام ولآخرتهم إلي أن يُفاجأوا بالموت وهم علي الكفر ولم يتوبوا! والاستدراج هو التقريب من العذاب خطوة بخطوة دون شعورٍ حتي الهلاك ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معني الاستدراج برجاء مراجعة الآية ﴿182﴾ من سورة الأعراف "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ"﴾.. وكل هذا قطعاً بسببهم لا غيرهم، بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿56﴾ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿57﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿58﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿56﴾" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مثلهم فيهما أنهم يُقْسِمون بالله لكم أيها المسلمون كذباً إنهم لمنكم مسلمون مثلكم وليسوا منكم في الواقع لأنهم يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر ولكنهم أناسٌ يَخافون بشدَّةٍ منكم فيَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة
ومعني "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿57﴾" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتأكيد علي شِدَّة جُبْنهم وخوفهم من المسلمين أن يكشفوا أمرهم وحالة الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة التي يعيشونها حيث يعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة، كما أنَّ في الآية الكريمة بياناً لشدَّة كراهيتهم للمسلمين حيث أنهم لو يجدون مَخْلَصَاً ومَهْرَبَاً منهم لفارقوهم حتي لا يَروا ما هم فيه من سرورٍ ونصرٍ يَسُوؤهم ويُحزنهم.. أيْ هؤلاء المنافقون من شدَّة خوفهم منكم ومن كَشْف سُوئهم ومن الكراهية لكم لو يَجدون حِصْنَاً يَلجأون إليه ليَحْتَمُوا به كقلعةٍ أو نحوها أو مغارات في الجبال يَختفون فيها أو نَفَقَاً في الأرض يدخلون إليه ليَخْتَبئوا، لانْصَرَفوا إليه وهم مُسْرِعون إسْرَاعَاً شديداً يَصْعُب إيقافه كالفَرَس المُسْرِع
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿58﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ وبعضٌ مِن المنافقين مَن يعيبك في توزيع الصدقات يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – مُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنك لست عادلا في قِسْمَتِك، وليس عَيْبهم لهدفٍ صحيحٍ هو إقامة العدل وإنما هدفهم الطمع بأن يُعطوا منها حتي ولو لم يكونوا مُسْتَحِقّين لها، فإنْ أعطوا منها لحقّ لهم فيها رضوا عنك وعَمَّا أخذوا وسكتوا، وإنْ لم يُعطوا منها لعدم استحقاقهم لها سارَعوا يَغضبون عليك ويَعيبونك ويَتّهِمونك بالظلم رغم أنَّ عدم إعطائهم هو الحقّ والعدل لأنهم يَطمعون في أخْذ مَا ليس حقّهم
ومعني "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴿59﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض صفات المسلم التي عليه أن يَتّصِفَ ويَتَخَلّقَ بها في مثل هذه المواقف ليسعد في الداريْن.. أي ولو أنَّ هؤلاء المنافقين الذين يَعيبون عليك توزيعك للصدقات مُدَّعِين كذباً عدم عَدْلك قَبِلُوا ما أعطاهم الله ورسوله ومَن يَنوب عنه من المسلمين من عطاءٍ وقَنَعُوا به وقالوا علي سبيل الشكر والقَنَاعَة والرضا والثقة والطمأنينة حسبنا الله أيْ كافِينا الله وما قَسَمَه لنا قَلَّ أو كَثر وسيُعطينا الله حتماً في المستقبل الكثير من فضله وإحسانه وكرمه ورحمته، وسيُعطينا رسوله والمسلمون من الصدقات وغيرها، وإنا إلى الله وحده لا إلي غيره راغبون أيْ طامِعُون راجُون داعُون مُتَوَسِّلُون مُريدُون مُحِبُّون في أنْ يُوَسِّع علينا من فضله فيُغنينا عن الصدقات وغيرها من أموال الناس، لأنه سبحانه وحده مالك الملك كله الذي له خزائن السموات والأرض كلها، كما أننا إلي طاعته والعمل بكل أخلاق إسلامه راغِبُون مُحِبُّون فيها من أجل تحصيل ما عنده مِمَّا وَعَدَنا به من سعادتيّ الدنيا والآخرة ولكي يُبْعِد عنّا عذابهما وتعاستهما وسنَجْتَهِد في تَرْجَمة ذلك عمليا بحُسْن طَلَبهما معا.. إنهم لو فَعَلوا ذلك لَكَانَ قطعاً خيراً لهم في دنياهم وأخراهم بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حيث سيَصْلُحون ويَكْمُلون ويَسعدون فيهما، لأنَّ الله تعالي هو أعظم وأفضل الوكيل النصير الذي تُوُكَل وتُفَوَّض إليه كل الأمور، فمَن يعتمد عليه وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه المُتَكَفّل بما يحتاجه، يُوَفّره له إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل له هذا مِن خَلْقه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾" أيْ لا تُعْطَيَ الزكاوات المفروضة المُحَدَّدَة التي يُثاب فاعلها ويَأثم تاركها ولا الصدقات عموماً غير المُحَدَّدَة التي يَتَطوَّع بها المسلم والمُسْتَحَبّ فِعْلها لثوابها ولا يأثم مَن لم يفعلها – يُرَاعَيَ أنَّ لفظ "الصدقات" في أول الآية الكريمة ثم لفظ "فريضة من الله" في آخرها يُفيد أنها تعني أسَاسَاً الزكاة المفروضة علي الأغنياء أصحاب الأموال، والزكاة من التزكية التي هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات، إضافة بالقطع إلي كل أنواع الصدقات التّطَوّعِيَّة غير المُحَدَّدة من كل أنواع الأموال التي يريد المسلم إخراجها لينال خيرها وأجرها في الداريْن – إلاّ إلي الفقراء وهم الذين لا يجدون شيئاً مُطْلَقَاً أو شيئاً قليلا، والمساكين وهم الذين يجدون شيئاً لكنه لا يكفي احتياجاتهم حتي ولو كان كثيرا، والعاملين عليها وهم الذين يديرون شئون جَمْعها وتوزيعها ونحو ذلك، والمُؤَلّفة قلوبهم وهم الذين يُرْجَيَ من إعطائهم منها إسلامهم أو تثبيتهم علي الإسلام أو تشجيع غيرهم عليه أو مَنْع شَرِّهم أو ما شابه هذا، وفي الرقاب أيْ إذا كان هناك عَبْدٌ يريد أن يَتَحَرَّر مِن سَيِّده – إذا كان الزمن فيه عبيد – أو أسير يُراد تحريره من أسْرِه وسجنه بمبلغٍ من المال فيُعْطَيَ من الزكاة، والغارمين وهم الذين عليهم ديون، وفي سبيل الله أيْ في كل وجوه الخير ومنها بالقطع الدعوة للإسلام ونشره والدفاع عنه بالجهاد في سبيله وبقتال المُعتدين ونحو هذا، وابن السبيل وهو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه.. ".. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ.." أيْ هذه القِسْمَة فريضة فَرَضَها الله عليكم مُلْزِمَة لكم قدَّرها بعِلْمه وحِكْمته لتَصْلُحوا جميعا وتَكْمُلوا وتَسعدوا في دنياكم وأخراكم فلا تُخَالِفوها وتُقَصِّروا فيها.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿62﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴿65﴾ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿66﴾ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴿68﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا لم تكن سَيِّء الخُلُق والأدب تُؤذي الرسول الكريم ﷺ والمسلمين والناس جميعا
هذا، ومعني "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ ومن المنافقين سَيِّئِيِ الخُلُق والأدب الذين يُؤذون النبي الكريم ﷺ بالكلام المُؤْذِي المُسِيء له وللإسلام بما هو منه بَريءٌ حتماً فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يُقال له بدون تمييزٍ بين الحقّ والباطل والصدق والكذب وأنه يُخْدَع بما يَسمع لأنه لا يَتَفَحَّص ويُدَقّق ويُعْمِل عقله فيما يَسمعه ويفْرِز صحيحه من غيره!!.. والمقصود أنهم يمكنهم خِداعه والمسلمين بأيِّ تَبْرِيرٍ لأيِّ موقفٍ بحيث يُحقّقون ما يريدون من إخفاء الشرّ بداخلهم وإظهار ما هو كأنه خير حتي يمكنهم التواجُد بين المسلمين والانتفاع منهم مع نشر الفِتَن بينهم وتفريقهم وإضعافهم، فهذا هو تَوَهّمهم وظنهم!! وهم لا يعلمون أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة، فما بالهم بالرسول الكريم ﷺ الكامل الصفات أكمل الخَلْق عقلا والذي هو إضافة لذلك يُوحَيَ إليه ما يكشفهم ويفضحهم!! ولكنه ﷺ من حُسْن وكمال خُلُقه يَستر عليهم لعلهم يُصْلِحون حالهم ويَتركون نفاقهم ليسعدوا، وليس لأنه أذُنٌ يُصَدِّقهم!!.. ".. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم، نَعَم بالفِعْل هو أذُن، لكنه أذنُ خيرٍ لكم، ولغيركم، للناس جميعا، لا كما تَدَّعون كذباً وقُبْحاً أنه أذُنٌ يسمع الخير والشرَّ بلا تمييزٍ ولكنه يسمع فقط الخير وما وافَق الإسلام فهو أذنٌ في الخير لا يسمع إلا الحقّ والصدق، ولا يُخْدَع بالباطل والكذب، يَسمع مِن كلِّ مَن يقول له لا يَتَكَبَّر عليه ويَتَوَاضَع له ولكن لا يُقِرّ إلا الحقّ ولا يَقْبَل إلا الخير فهو أُذن خيرٍ لكم وللجميع لا أُذن شرٍّ مثلكم أيها المنافقون تستمعون لكل شرِّ وتقبلونه، فهو خير لكم ولأمثالكم لأنه يَستر عليكم بقبول كلامكم ولا يفضحكم ويكشف نفاقكم، وما يُؤَكِّد أنه أذنُ خيرٍ فقط ويَدلّ عليه ومِن مظاهره أنه يُصَدِّق بالله وقرآنه الذي هو كل الخير وأصله، ويُصَدِّق المؤمنين لأنَّ إيمانهم يمنعهم عن الكذب ولا يُصَدِّق الكاذبين سواء أكانوا منافقين أم حتي مسلمين لكن فاسقين، وهو رحمة لكل مَن يؤمن منكم – وللبشر كلهم – لأنه عن طريق إرشاده لكم إلى الخير واتّباعكم لهذا الإرشاد تَصِلُون إلى ما يُسعدكم فى دنياكم وأخراكم.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين أن يقتدوا برسولهم الكريم ﷺ فيكونوا أذنٌ في الخير يَستمعون للخير لا للشرّ ويَقبلون أيَّ خيرٍ مُسْعِدٍ ويُحِبّونه ويَنشرونه ويَرْفضون أيَّ شَرٍّ مُتْعِسٍ ويكرهونه ويقاومونه ويمنعونه ليسعد بذلك الجميع في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾" أيْ والذين يؤذون رسول الله بأيِّ نوعٍ من أنواع الأذيَ القوليّ أو الفِعْلِيّ، قلّ أو كثر، لهم حتماً عذابٌ مُوجِعٌ مُهينٌ ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وذلك لأنهم بإيذائهم له ﷺ فقد استهانوا برسول الله الذي يُمَثّله ويَنُوب عنه عند الناس فكأنهم يستهينون به تعالي وهذا حتماً يُغضبه ويُعَاقِب عليه، لمكانته ﷺ وتكريماً وتعظيماً وانتصاراً له، ولكل رسله
ومعني "يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿62﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ هؤلاء المنافقون يَحلفون بالله لكم بالكذب أيها المسلمون ليُرْضُوكم أيْ لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا حيث يحلفون أنهم لا يَقصدون سوءاً حينما يَظهر سُوؤهم في بعض أقوالهم وأفعالهم بحقِّ الله تعالي ورسوله ﷺ والإسلام والمسلمين.. إنهم يَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ.." أيْ هذا ذمٌ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يُقَدِّم إرضاء الناس بإغضاب الله تعالي بمُخَالَفة وصاياه في الإسلام، وإيقاظٌ له ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، فلا يَتَشَبَّه بهم مسلم وإلاّ تَعِس مِثْلهم فيهما.. أيْ هُمْ يُرْضونكم وكان الواجب أنَّ الله وحده لا غيره أحقّ منكم أيها المسلمون أنْ يُرْضوه أيْ يجعلوه يَرْضَيَ عنهم أيْ يَقبلهم ويُحبّهم ويُعينهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وذلك بالتوبة من نفاقهم وسُوئهم والرجوع إليه بطاعته باتّباع أخلاق إسلامه وعدم مُخَالَفتها – والرسول ﷺ كذلك أحقّ بالإرضاء باتّباع سُنّته والإسلام الذي جاءهم به لأنه رسوله ويُمَثّله ومَنْدُوبه تعالي عند الناس – لأنه خالقهم ورازقهم ومالِك أمورهم وهو العليم بما ظَهَرَ وخَفي من أحوالهم وهو الذي سيُسْعِدهم بتيسير حياتهم أو يُتْعِسهم بتَعْقِيدها ولأنه أشدّ قوة وعقاباً منكم لهم حتماً في الدنيا ثم الآخرة لو خَالَفوا.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أن يكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون إرضاء وخشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي إرضاء وخشية الناس لينالوا حبه وقبوله لأعمالهم ورعايته وتأمينهم وتوفيقهم وتقويتهم ونصرهم وبالجملة إرضائهم وإسعادهم في الداريْن.. فالمسلمون يُحْسِنون التّعامُل مع كل الناس كما أوْصاهم الإسلام ليكونوا راضين بهذه المُعامَلَة الحَسَنَة المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة لكنْ إنْ تَعَارَض رضاهم مع رضاه تعالي بمعني ألاّ يَرْضُوا إلاّ بشيءٍ مُخَالِف لأخلاق الإسلام فهنا يكون تقديم رضا الله بالقطع بفِعْل الذي يُرضيه لا فِعْل المُخَالَفة التي تُرْضِيهم وإلاّ تَعِس الجميع.. ".. إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿62﴾" أيْ إنْ كانوا مؤمنين بحقّ وبصِدْقٍ كما يَدَّعون، فلْيَعْمَلوا بالتالي إذَن على إرضاء الله ورسوله بأنْ يعملوا بأخلاق الإسلام، كإثباتٍ علي ما يقولون، وإلا كانوا كاذبين فى ادِّعائهم الإيمان.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله بصِدْقٍ فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾" أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء المنافقون، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنه مَن يُحَادِد أيْ مَن كان في حَدٍّ أيْ جانبٍ، والله ورسوله ﷺ في حَدٍّ مُقَابِل، أيْ خالَف دين الله ورسوله وعانَده وتكبَّر عليه وآذاه وعاداه وحاربه هو والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ومَن يَتَشَبَّهَ بهم، فإنَّ له بالتأكيد حتماً عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف ماكِثَاً مُستمرَّاً فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَج منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعماله كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كان يعمله من أعمالٍ سيئة في دنياه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كان فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾" أيْ ذلك العذاب الذي ذُكِر أنه يَحْدُث لهم هو بكل تأكيدٍ وبحقّ الذلّ والهَوَان والانحطاط والعار والفضح الشديد الهائل الذي لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
ومعني "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾" أيْ يَخاف ويَحتاط ويَحْتَرِس بشِدَّة المنافقون أن تُنَزَّلَ عليهم وعلي المؤمنين ويكون في شأنهم آيات من القرآن العظيم تُخْبِرهم فتَفضحهم وتُخْبِر المؤمنين كذلك بما يُخفونه في دواخلهم وفيما بينهم من سوءٍ فيَنفضحوا ويَنكشفوا ويُعَاقَبوا ويَتِمّ الحَذَر منهم والتعامُل معهم بما يُناسبهم.. وفي هذا بيانٌ لشِدَّة جُبْنهم وخوفهم من المسلمين أن يكشفوا أمرهم وحالة الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة التي يعيشونها حيث يعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس.. ".. قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه مُهَدِّدَاً ومُحَذّرَاً اسْخَروا ما شِئْتُم من الإسلام والمسلمين واستمرّوا علي ذلك فإنَّ الله حتماً مُظْهِرٌ ما تخافون ظهوره.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴿65﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبة.. أيْ وإنْ سألتَ أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بعد افتضاح وانكشاف أمرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عمَّا قالوه من استهزاءٍ بالإسلام والمسلمين وسببه يقولون مُعْتَذِرين بما هو كذب كعادتهم مُدَّعِين بخِسَّةٍ وذِلّةٍ أننا ما قَصَدْنا أيَّ إساءةٍ وإنما كنّا فقط لا غير نَدْخُل ونَغُوص ونَنْغَمِس في أحاديث كعادتنا ونلهو علي سبيل المزاح والمُدَاعَبَة لا الجَدّ لا نريد سَبَّاً ولا سوءاً لأحد.. ".. قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴿65﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه مُؤَنّبَاً ومُهَدِّدَاً ومُحَذّرَاً إيَّاهم على استهزائهم بمَن لا يَصِحّ مُطلقاً الاستهزاء به ورافضاً لأيِّ عُذْرٍ منهم – إلا التوبة الصادقة – هل بالله وآياته في قرآنه العظيم وفي تشريعاتِ وأنظمةِ وأخلاقِ الإسلام التي فيه ورسوله الكريم ﷺ كنتم تَسخرون وتَسْتَخِفّون وتَحْتَقِرون؟! كيف طابَ وسَهُلَ لكم ذلك الفِعْل الشنيع؟! ألم تجدوا ما تَستهزئون به فى خَوْضكم ولعبكم غير هذا رغم أنَّ الله وآياته ورسوله هم الذين يُرْشدونكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن؟! فأيّ سوءٍ أسوأ من هذا؟!
ومعني "لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿66﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي سبيل الذمِّ واللّوْم الشديد لأمثال هؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب تعظيمه وتقديسه واحترامه وطاعته لا تعتذروا بمثل هذه الأعذار الكاذبة السفيهة الساقِطَة لكي تُسَامَحُوا ويُعْفَيَ عنكم ولا تُعَاقَبوا فإنها غير مَقْبُولة، لأنكم بسبب هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله قد ظَهَرَ كفركم وتأكّد بعد إدِّعائكم وإظهاركم الإيمان على سبيل الخِداع، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم مُعامَلَة المسلمين لأنكم تنطقون بالشهادتين ونحن نأخذ بظاهر الأمور مع الحَذَر ونترك الدواخِل لله العليم الخبير الذي يعلم السِّرَّ وأخْفَيَ فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم لأنَّ الاستهزاء بهم كفر.. ".. إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿66﴾" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمته وعدله سبحانه وفَتْحه باب التوبة علي أوْسَع صورةٍ للجميع لتشجيعهم عليها.. أيْ إنْ نُسَامِح ولا نُعَاقِب ونَمْحُ آثار الذنوب المُتْعِسَة في الداريْن عن مجموعةٍ منكم – أيها المنافقون – لأنها تابَت وعادَت لربها ولإسلامها ونُسعدها فيهما فإننا نُعَذّب مجموعة أخري منكم فيهما بسبب أنهم كانوا مجرمين مُصِرِّين مُسْتَمِرِّين علي إجرامهم بلا توبةٍ حتي موتهم أيْ يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، نُعَذّبهم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ والمنافقون وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ، وكذلك المنافقات، بعضهم من بعض أيْ مُتشابهون في النفاق كتشابه أبعاض وأجزاء الشيء الواحد وذلك لأنَّ أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعضٍ سواء أكانوا رجالا أم نساءً في الخِسَّة والدناءة والأفكار والأقوال والأفعال السَّيِّئة القَبيحة، فهُمْ جميعاً وإنْ بدرجاتٍ مختلفة يَطلبون من أنفسهم وغيرهم فِعْل المُنْكَر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم عن فِعْل المعروف وهو كل ما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.." أيْ ومن صفاتهم السَّيِّئة كذلك أنهم يُمْسِكون أيديهم عن إنفاق الأموال والجهود في أنواع الخير المختلفة فهُمْ بُخَلاء أشِحَّاء لا يُسْعِدون النفس والغير بالإنفاق.. ".. نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ.." أيْ إنهم قد تَرَكوا وأهملوا دين الله وهو الإسلام، كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً، وهم بسبب ذلك، بسبب أنهم اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا النسيان والترك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله نَسِيَهم، وهو تعالي لا يَنْسَيَ حتماً ولكنَّ المقصود تَرَكَهم فلا يُعينهم ولا يُوَفّقهم ولا يُسَدِّد خُطاهم ولا يُيَسِّر لهم أسباب الخير لأنهم مُصِرُّون أشدّ الإصرار علي الشرِّ دون أيِّ بادِرَة خيرٍ ولو بخطوةٍ حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، وهذا في دنياهم، أمَّا في أخراهم فيُنْسَوْن ويُتْرَكون في عذابات وتعاسات نار جهنم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. ".. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ المنافقين بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً هم الخارجون عن طاعة الله والإسلام
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴿68﴾" أيْ هذا بيان للمصير السيء الذي ينتظرهم إن لم يتوبوا.. أيْ أعْطَيَ الله بعدله وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للمنافقين وهم الذين يظهرون الخير ويخفون الشر والمنافقات والكفار – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – أنَّ لهم بالتأكيد حتماً عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف ماكِثين مُستمرِّين فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كان يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وفي لفظ "وَعَدَ" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُوعَدون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع الوعد ولكنه كل شرّ وتعاسة!!.. ".. هِيَ حَسْبُهُمْ.." أيْ هي بعذابها الذي لا يُوصَف تَكفيهم كعقابٍ لهم علي سُوئهم حيث يَحترقون وتُشْوَيَ أجسادهم بنارها، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصيرون إليه.. هذا، وبيان أنها عقوبة كافية يُفيد أنها وَصَلَت أعلي درجات الشدَّة والعذاب المُناسب لهم.. ".. وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ.." أيْ وكذلك طَرَدَهم وأبْعَدَهم الله من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة، من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في دنياهم ثم في أخراهم تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴿68﴾" أيْ ولهم عذابٌ دنيويٌّ وأخرويٌّ دائمٌ مستمرّ لا ينقطع ولا مَفَرّ منه
َالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿69﴾ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا لم تكن مُشْرِكَا (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿69﴾" أيْ هذا بيانٌ وتذكيرٌ بأحوال بعض مَن هلك مِن السابقين بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم ونِفاقهم وفِعْلهم الشرور والمفاسد والأضرار ليَتَجَنّبها كل مسلمٍ تماما ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس مِثْلهم فيهما، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ أنتم أيها المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بكم حالكم كحال الذين قبلكم السابقين لكم حيث كنتم مِثْلهم وفَعَلْتم فِعْلهم في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والنفاق والشرّ والفساد وأصْرَرتم علي ذلك واستَمَرَّيْتم عليه بلا توبةٍ حتى نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم وأخراهم فأنتم ستكونون مثلهم فسيَنزل بكم عذابه فيهما.. ".. كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا.." أيْ هؤلاء الذين مِن قبلكم لم يكونوا ضعافا بل كانوا شديدي القُوَيَ أشدّ منكم من كل أنواعها الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها، وكانوا أكثر أموالا وممتلكات بكل أشكالها وأكثر أولادا وأعدادا وعلاقات وتَحَالُفات منكم، وتَرَكوا آثارا كثيرة لأنهم كانوا كثيري الإثارة للأرض أي التقليب لها وحرثها وحفرها وتهييجها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها، وكانوا كثيري التعمير لها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا.. لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يَقيهم أي يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!!.. فمَن كان أضعف منهم مثلكم فليكن إذن أكثر حذرا فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب!.. ".. فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ.." أيْ فلقد تَشَبَّهتم بهم تماما حيث استمتعوا بنصيبهم من مُتَع الحياة الدنيا بلا تمييزٍ بين ما هو شرّ مُضِرّ مُتْعِس مُخَالِف للإسلام وما هو خير مُفيد مُسْعِد مُوَافِق له وبلا أيِّ استعدادٍ لآخرةٍ فيها حساب وعقاب وجنة ونار لأنهم لم يكونوا يؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا بوجودها فاستمعتم بنصيبكم من مُتَع الحياة الدنيا أنتم أيضا علي مثل حالتهم السيئة هذه كما استمتع بها الذين من قبلكم بنصيبهم وهم قد استمتعوا لفترةٍ ثم عُذّبوا وأهْلِكُوا وانْصَرَفوا إلي العذاب الدائم فسُتَعَذّبون وستُهْلَكون وستَنْصَرِفون لعذابٍ دائمٍ مثلهم فأنتم أخذتم المُقَدِّمات والأسباب السيئة مثل هؤلاء المُخَالِفين للإسلام فقَادَتْكم إلى ذات النتائج السيئة حيث العذاب والهلاك.. ".. وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا.." أيْ وغُصْتُم ودَخَلْتُم وانْغَمَسْتُم فى الأقوال والأفعال السيئة ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار كالخَوْض الذي خاضوا فيه هم تماما.. ".. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿69﴾" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. وهؤلاء بسبب ذلك حتماً هم الخاسرون خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء : 7﴾، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الله تعالي من تمام عدله لو فُرِضَ وفَعَلُوا خيراً مَا فإنه يُعطيهم خيراً مُقابِل له في دنياهم فقط كصحةٍ أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ أو غيره لأنه ليس لهم شيء في أخراهم
ومعني "أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿70﴾" أيْ هل لم يَصِل إليهم، والاستفهام للإقرار أيْ لكي يُقِرُّوا هم بذلك، وللتحذير ليَنتبهوا لعلهم يَتّعِظون فيَستفيقون ويؤمنون حتي لا يكون مَصيرهم مِثْلهم، أيْ لقد وَصَلَ إلي أمثال هؤلاء المنافقين والمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين والفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار بالفِعْل خَبَرَ الذين من قبلهم السابقين لهم وسَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتَنَاقَلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة مِمَّن كذّبوا وعانَدوا واسْتَكْبَروا واستهزؤا أمثال أمّة نوح ﷺ التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان، وأيضا قوم عاد الذين كذّبوا رسولهم هوداً ﷺ فأُهْلِكُوا بالرياح الشديدة، وثمود وهم قوم صالح ﷺ حيث بتكذيبهم إيَّاه أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة أيْ أهلكتهم وأعدمتهم والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، وقوم إبراهيم ﷺ الذين كذّبوه وحَرَّقوه في النار فجعلها الله بَرْدَاً وسلاماً عليه وهَجَّروه من بلده واستمرّوا علي عبادة الأصنام فسَحَب الله نِعَمه منهم وأصابهم بالمصائب وأذَلّهم ونَشَر إسلامه لغيرهم علي يد إبراهيم، وأصحاب مَدْيَن وهم قوم شعيب ﷺ الذين أخذتهم الصَّيْحَة، والمُؤتَفِكات وهي القُرَىَ المؤتفكات بأهلها أيْ المَقْلوبات بهم بحيث أصبح أعلاها أسفلها فهَلَكوا وهي قري قوم لوط ﷺ .. ".. أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.." أيْ وليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿70﴾" أيْ وما ظَلَمهم الله بذلك حَتْمَاً، فلم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿72﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ المؤمنين أولياء، أيْ أنصار وأحِبَّاء وأصدقاء وأعوان، يُحبّ ويُعين ويَنفع ويَنصر بعضكم بعضا، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم
هذا، ومعني "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والمؤمنون أيْ والمُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ويُذَكّرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة، وكذلك المؤمنات.. ".. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أيْ من صفاتهم الطيّبة الحَسَنة والتي علي كل مسلمٍ أن يَتّصِفَ بها أنهم بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضهم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحهم وحقوقهم وأهدافهم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أنهم يَطلبون من أنفسهم وغيرهم ويُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا أنهم يُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا، وبصورةٍ عامَّةٍ جامعة، أنهم في كل أمور دنياهم وبلا انقطاعٍ ولا تَكَاسُلٍ بل بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنه لسعادتهم، يُطيعون الله ورسوله ﷺ أيْ يَستجيبون ويُنَفّذون ما يُوصيهم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ويُداوِمون ويستمرّون علي ذلك طوال حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتماً بكل تأكيدٍ الذين سيَرحمهم الله برحمته الواسعة التي وَسِعَت كل شيء، في دنياهم أولا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فهو أرحم الراحمين أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منه فهو خالِقهم وهم خَلْقه وصَنْعَته ويُحِبّهم وما خَلَقَهم إلاّ ليُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمته سبحانه فهو أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنه أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾" أيْ وذلك لأنَّه غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتماً في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث.. إنه تعالي قويٌّ قادرٌ علي كل شيءٍ ولا يَمتنع عليه ما يريده
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿72﴾" أيْ أعْطَيَ الله بفضله وكرمه ورحمته وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للمؤمنين والمؤمنات أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيراً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر وهذا كله في جنات عدنٍ أيْ جناتِ إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم.. ".. وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.." أيْ ولهم أعظم من كل ذلك، جزاء معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له، رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة إضافة لتكريمهم برؤية ذاته الكريمة سبحانه.. ".. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿72﴾" أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿73﴾ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿74﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله بمَالِك ونفسك (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿73﴾" أيْ يا أيها النبي، ويا أيها المسلم – ويا أيها المسلمون في كل زمان ومكان – ابذل كل أنواع الجهود واجتهد في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير مِن الكفار والمنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم ويُعاونهم، بما يُناسبهم من الجهاد، سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.." أيْ واشْدُدْ عليهم عند جهادهم بالقتال ولا تَتَهَاوَن وتَلِين معهم وتَرْفِق بهم، وفي غير القتال فأحيانا استخدم الغِلْظَة معهم، أيْ إظهار الكلام أو التّصَرُّف الغليظ الخَشِن الشديد الغاضِب، حينما يحتاج الأمر لذلك، كأنْ يُظْهِر بعضهم مثلا بادِرَة إساءةٍ للإسلام والمسلمين، ويُعاقَبون بالقانون علي ذلك بقَدْر جريمتهم، كما يُعاقَب أيّ مُواطِن مُخْطِيء بالعدل في الدولة المسلمة بمَن فيهم المسلم قطعا، وذلك لإخافتهم لمَنْع شرورهم، ولكي تَظَلَ دائما كلمة الذين كفروا هي السفلي أيْ دعوة الكفر وما يُشبهها هي الأدْنَيَ الأقلّ الأذلّ المَغْلُوبة الهابِطَة المُنْحَطّة الشأن، والكفار ومَن يُشبههم كذلك، وكلمة الله هي العليا أيْ دعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ودعوة الإسلام هي الأعلي الأعَزّ الغالِبة الرفيعة الشأن والمَقام، والمسلمين كذلك، بأنْ يكون ويكونوا المَرْجِع الذي يَرْجِع إليه الناس إذا أرادوا أن يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهذا هو حالهم الذليل التعيس في الدنيا ما داموا لم يتوبوا.. ".. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿73﴾" أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه، إضافة إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمن لا للعذاب والشقاء والخوف!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿74﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ هؤلاء المنافقون يَحلفون بالله لكم بالكذب أنهم ما قالوا سوءاً حينما يَظهر سُوؤهم في بعض أقوالهم وأفعالهم بحقِّ الله تعالي ورسوله ﷺ والإسلام والمسلمين، وهم كاذبون في حلفهم هذا، وإنهم قد قالوا كلمة الكفر وهي تشمل كل إساءاتهم بحقهم وظَهَرَ كفرهم وتأكّد بعد إدِّعائهم وإظهارهم الإسلام على سبيل الخِداع.. إنهم يَحلفون بالله لكم كذباً وزرواً أيها المسلمون لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا وإتّقاءً لكم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.." أيْ وهَمُّوا بشيء لم يَحصلوا عليه، أيْ ونَوُوا وأرادوا بعقولهم وحاولوا الإضرار بالرسول ﷺ ومَنْع نَشْر الإسلام لكن لم يستطيعوا لأنَّ الله تعالي لم يُمَكّنهم من ذلك برعايته وحفظه له.. ".. وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ وما كَرِهُوا هؤلاء المنافقون من الإسلام ورسوله الكريم ﷺ وعَابُوا عليه شيئاً سَيِّئاً يَعتبرونه هم نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومُصيبة لهم؟! إنهم لا يَعيبون عليه ويَرفضون مِنه إلا خيراً عظيماً بل وينتقمون مِنه بسببه! إلاّ أن أغناهم بسببه وأعطاهم وكَفَاهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من الأرزاق والخيرات التى كانوا لا يجدونها قبل حلول الإسلام والرسول ﷺ والمسلمون بينهم، إضافة حتماً إلي ما هو أعظم وأفضل عطاء وإغناء من ذلك وسبب كل خيرٍ وسعادةٍ لهم وهو إخراجهم من ظلمات وتعاسات الكفر إلي أنوار وسعادات الإيمان في دنياهم وأخراهم.. إنَّ ما يعتبرونه ذَمَّاً له وعَيْبَاً فيه ومُسْتَحِقّاً لكراهيتهم له هو علي العكس تماما فخر وإسعاد وإكرام ورحمة لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. لقد كان من المفترض أن يُقابَل هذا منهم بالشكر وحُسْن استخدام هذه النّعَم وحُسْن التّعامُل مع الإسلام والمسلمين لا عدم شكرها وإنكارها وسوء استخدامها وسوء المُعامَلَة!!.. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة هو الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. لكن ما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ.." أيْ فإنْ يقوموا بالتوبة بالعودة لله وللإسلام بالعمل بأخلاقه يكن ذلك خيراً لهم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.." أيْ وإنْ يُعطوا ظهورهم لله ولرسوله الكريم ﷺ ويَلْتَفِتوا ويَنصرفوا ويَبتعدوا عن الإسلام ويَتركوا أخلاقه ويهملوها ويفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، يُعَذّبهم الله عذاباً مُؤلِمَاً مُوجِعَاً شديداً مُهيناً، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿74﴾" أيْ وليس لهم ولن يَجِدُوا وقتها في أيِّ مكانٍ في الأرض أيّ وَلِيّ يَتَوَلّي أمرهم ويُدافع عنهم وليس لهم أيّ نصيرٍ أيْ كثيرِ النصر لهم ينصرهم من عذابه بأنْ ينقذهم أو حتي يُخَفّف عنهم شيئا منه، إلا أن يتوبوا في دنياهم قبل موتهم، لأنّ عقابه لن يَدفعه دافِع إلا هو سبحانه
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿76﴾ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿77﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿78﴾ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿79﴾ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿80﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾" أيْ ومِن المنافقين – ومِن بعض الناس عموماً – مَن وَعَد الله وأعطاه عَهْدَاً سيَلْتَزِم وسيُوَفّي به إنْ أعطانا مِن إحسانه وإنعامه الزائد من كل الأرزاق والخيرات التي لا تُحْصَيَ سنَتَصَدَّق حتماً بالتأكيد علي المحتاجين بما يحتاجونه من أموالٍ وجهودٍ وغيرها وسنُعْطِي كل صاحب حقّ حقه وسنكون مِن أصحاب الخُلُق الحَسَن الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون في الأرض ولا يُفسدون ويُتعسون فيها الذين يَصْلُحون لحَمْل الإسلام وتبليغه للناس، والصالح لا يكون كذلك إلا إذا كان مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله في كل شئون حياته، فيَسعد بذلك في الداريْن، وبالجملة فالصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة
ومعني "فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿76﴾" أيْ فحينما أعطاهم من فضله لم يوفوا بعهدهم بل حَرِصُوا حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل وقد يأمرون غيرهم بهذا من شدَّة بُخْلِهم!.. ".. وَتَوَلَّوْا.." أيْ وأعْطوا ظهورهم لله ولرسوله الكريم ﷺ والْتَفَتوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عن الإسلام وتَرَكوا أخلاقه وأهملوها وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿76﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي إعراضهم أيْ وهم مُسْتَمِرّون في إعراضهم مُصِرُّون تمام الإصرار عليه.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما كتعاساتهم
ومعني "فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿77﴾" أيْ هذا بيانٌ للنتائج البالِغَة السوء لهذا الإخلاف للوَعْد والإعراض عن طاعة الله والإسلام والإصرار والاستمرار علي ذلك بلا توبةٍ من خلال الاستغفار باللسان علي فعله وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة له وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان ما فُعِلَ مِن شَرٍّ مُتعَلّقا بالآخرين، وذلك لكي يَعْتَبِر كل مسلم ولا يفعل أبداً مِثْل هذا حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. أيْ فكانت عاقبة أيْ نتيجة سوء فِعْلهم هذا أنْ ازدادوا نفاقاً وسُوءاً وكذباً علي نفاقهم وسُوئهم وكذبهم في قلوبهم أي بداخل عقولهم وتَصَرُّفاتهم ومشاعرهم طوال حياتهم إلي يوم يموتوا ويلاقوا ربهم يوم القيامة لحسابهم وعقابهم بما يُناسبهم وذلك بسبب استمرارهم علي إخلافهم ما وَعدوا الله به وإعراضهم عن طاعته والإسلام وبسبب كذبهم في عهودهم معه ومع الناس وفي أقوالهم وأفعالهم وإصرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبة، لأنَّ المُصِرّ علي النفاق والإخلاف والإعراض والكذب وغيره من السوء بغير عَوْدَةٍ للخير يَزداد غالباً كما يُثْبِت الواقع ذلك نفاقاً وإخلافاً وإعراضاً وكذباً وسُوءَاً تدريجياً حتي يَصِلَ إلي حالةٍ مُزْمِنَةٍ يَصعب ولا يستطيع معها الرجوع ويستمرّ علي هذا إلي يوم يَلْقَيَ ربه يوم يموت فيموت علي ذلك فيُقابله مُنافقاً مُسِيئاً حيث يَظِلّ النفاق والسوء مُلازِمَاً مُلاَحِقَاً له مُستمرّاً معه
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿78﴾" أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء المنافقون، ومَن يَتَشَبَّه بهم، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنَّ الله يعلم بتمام العلم سِرَّهم أيْ ما يتحدثون به سِرَّاً مع أنفسهم داخل عقولهم من نفاقٍ وعَزْمٍ علي الإخلاف وكذبٍ وشرٍّ، ويعلم نجواهم أيْ وما يَتَناجَوْن أيْ يتكلمون به مع غيرهم بصوتٍ خافِتٍ في تَسَتّر حتي لا يسمعهم أحد عمَّا يُحْكِمُونه ويَعقدونه ويُقَرِّرُونه من مَكائد ضِدّ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وما يَفعلونه من شرور ومَفاسد وأضرار، وهل لم يَعلموا ويَتأكّدوا أنَّ الله علاّم الغيوب أيْ العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول، وبالتالي فلن يُحاسبهم عليها لخفائها عنه؟!! .. إنَّ مَن يعلم المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر!.. كلا بل قطعا يعلم كلّ هذا وما هو أخْفَيَ منه، وملائكته الكرام بأمره تُسَجِّل وتَكتب وتُحْصِي عليهم كلّ أقوالهم وأفعالهم والتي حتما سيُحاسَبون عليها فلا مَفَرَّ لهم إذَن.. فلْيُحْسِن العاقل بالتالي الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وفي هذا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لأمثالهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم ويَفعل مثلهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بما يُناسبهم فيهما
ومعني "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿79﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ هم الذين يَلْمِزُون أيْ يَعيبون دائماً المُطّوِّعِين أيْ المُتَطَوِّعِين أيْ المُتَبَرِّعِين من المؤمنين حيث يعيبونهم في أمر وفِعْل الصدقات حين يَتَطَوَّعون بأموال وأشياء عَيْنِيَّة وجهودٍ وأوقاتٍ وأفكارٍ وغيرها حيث يَتّهِمُون المُكْثِرين منهم في التّطَوَّع بالرياء والسُّمْعَة، ويَعيبون كذلك الذين لا يجدون إلا جهدهم أيْ إلا طاقتهم المَحْدُودة أيْ إلاّ القليل الذي هو أقْصَيَ ما يستطيعونه فيَتَصَدَّقون به فيَسخرون منهم أيْ فيُسارِعون يَستهزؤن بهم احتقاراً لهم قائلين أنَّ قليلهم هذا لا قيمة له ولا فائدة منه! فالمهم لهم أن يَعيبوا بأيِّ عَيْبٍ علي كل الأحوال! فهُم مِن شِدَّة سُوئهم لا يَتركون أمراً من أمور الإسلام والمسلمين يمكنهم أن يُحْدِثوا من خلاله فتنة وتشكيكاً وفُرْقَة وإضعافاً بين المسلمين ومَنْعَاً لهم مِن فِعْل الخير وتشويهاً لصُورتهم وللإسلام إلا اجتهدوا في استغلاله مُحاوِلين يائِسين إحداث ذلك.. ".. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿79﴾" أيْ هؤلاء الساخرون يُعاقِبهم الله تعالي علي سُخريتهم بما يُشْبِه ويُناسِب أقوالهم وأفعالهم الساخرة فيَسخر منهم بأنْ يَفضحهم بإيقاعهم في أقوالٍ وأفعالٍ تَجعلهم مَوْضِع استهزاءٍ وخِسَّةٍ وانحطاطٍ واحتقارٍ وكشفٍ لنفاقهم من الآخرين، ولهم إضافة لذلك عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شديدٌ مُهين، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿80﴾" أيْ اسْتَغْفِر لأمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه أو لا تستغفر لهم، حتي إنْ كَثُر استغفارك لهم وتَكَرَّر، فلن يَغفر الله لهم، ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يُوَفّق للهُدَىَ الخارجين عن طاعته والإسلام، وهذا تأكيدٌ لعدم المغفرة لأمثالهم.. هذا، وذِكْر سبعين مرّة هو أسلوب في اللغة العربية يُقْصَد به التكثير والمُبَالَغة فى كثرة الاستغفار لا التحديد أيْ لا يعني أنه لو زاد الاستغفار عن السبعين سيُغْفَر لهم بما يُفيد التيئيس من أيِّ أملٍ في الغفران لذنوبهم بسبب شِدَّة غضبه تعالي عليهم.. إنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يُصِرّون تماما علي كفرهم حتي مَمَاتهم سواء استغفر لهم أحدٌ أم لا فَهُم لن يتراجَعوا أبداً عَمَّا هم فيه وبالتالي فلن ينفعهم أيّ استغفارٍ لأنَّ الله لن يغفر لهم حتما لأنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله مِن أمثال هؤلاء الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من فِسْق – سواء أكان هذا الفسق كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، وذلك بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهذه هي دائما طريقته سبحانه في التعامُل مع أمثال هؤلاء (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنهم من شِدَّة إصرارهم علي كل شرٍّ قد وصلوا إلي مرحلةٍ مُزْمِنَةٍ بحيث لا يفعلون إلا شرَّاً ولا يُفكّرون إلا فيه ويَنسون تماما أيّ خير، وهذه هي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقل، أي لم يَعُد بعقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير! فمِثْل هؤلاء سيَظلون علي حالهم حتي يَروا عذاب وتعاسة الدنيا ثم هَوْل وشقاء عذاب الآخرة، فهم يستوي عندهم الاستغفار لهم ونصحهم أو عَدَمه أو التبشير بالنتائج السعيدة لفِعْل الخير أو تَرْكه أو ما شابه هذا لأنهم قد أصبحوا عديمي العقل!!.. فليطمئنّ إذن كل مسلم ولا يَحزن علي عدم استجابة مِثْل هؤلاء لله وللإسلام ما دام قد أحسنَ دعوتهم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ﴿ برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنَّ المشكلة ليست في التقصير في دعوتهم وإنما فيهم هم
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿81﴾ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴿83﴾ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴿84﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿81﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ فَرِحَ وسَعِدَ المُتَخَلّفون من المنافقين ومِمَّن تَشَبَّه بهم بقعودهم في المدينة مُخَالِفين لرسول الله ﷺ مُتَخَلّفين عنه خَلْفه بعد خروجه في إحدي غزواته مُخْتَارِين بلا عُذْرٍ مَقْبول، وقد كَرِهوا أيْ لم يُحِبّوا ولم يُريدوا ولم يَقبلوا ولم يَرضوا ورَفضوا أن يبذلوا شيئاً من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله ونَصْر دينه الإسلام، وفي هذا تأكيدٌ وتعليلٌ لفرحهم بقعودهم، والسبب الأساسي لهذا الفرح بالقعود والكراهية للجهاد هو شِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم وحِرْصهم علي حياتهم الدنيا ومُتعها الزائلة ونسيانهم الآخرة ونعيمها الخالد الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف.. ".. وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لجُبْنهم وضعفهم وخِسَّتهم.. أيْ وقال هؤلاء المنافقون والمُتَشَبِّهون بهم لبعضهم البعض ولغيرهم مِمَّن يريدون مَنْعهم وتَثْبيطهم من المسلمين لا تخرجوا للجهاد في الحرّ فهو شديد والجهد كبير والقعود مريح.. ".. قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم رَدَّاً علي أقوالهم الخَسِيسَة هذه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم بما يُناسبهم فيهما، نار جهنم والتي هي مصيركم بسبب ما فَعلتم أشدّ حَرَّاً حتماً بعذابها الذي لا يُوصَف من هذا الحَرّ الذي ترونه مانعاً من النفير للجهاد فلماذا لا تَتّقونها وتُعَرِّضون أنفسكم لها بتفضيل القعود والمُخَالَفة لله تعالى ورسوله ﷺ ؟! لقد قدَّمتم راحة قصيرة زائلة مُضَيِّعَة لثوابٍ عظيمٍ في الداريْن وهو ثواب الجهاد علي راحةٍ مُنَعَّمَةٍ خالدةٍ تامَّةٍ بجناتٍ لا تُوصَف في الآخرة وهذا حقاً هو قِمَّة السَّفَه منكم، فاستفيقوا!.. ".. لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿81﴾" أيْ هذا مزيدٌ من ذَمِّهم وتَحْقيرهم.. أيْ إنْ كانوا من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكانوا من أصحاب العلم والفهم لَتَعَمَّقوا ولَتَدَبَّروا فيما يَسمعون فيَنتفعون ويَسعدون به.. إنهم لو كانوا يفقهون ويفهمون ويعلمون لَعَلِموا ولَتَذَكَّروا أنَّ نار جهنم أشدّ حَرَّاً ولَمَا قَعَدُوا وتَخَلّفوا ولَمَا قالوا ما قالوا ولَتَابُوا ولَجَاهَدُوا، ولكنهم لا يفقهون ولا يعلمون.. والسبب في ذلك الخَلَل والسَّفَه الذي هم فيه هو أنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها – ومنها الجهاد – في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾" أيْ فلْيَضحك ولَيْفرح هؤلاء السابق ذِكْرهم قليلا في حياتهم الدنيا الفانية، بقعودهم وإساءاتهم للإسلام والمسلمين، ولْيَبْكوا كثيرًا في عذاب نار جهنم.. إنهم إنْ ضحكوا حتي ولو طوال أعمارهم فى الدنيا، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم الدائم فى الآخرة، لأنَّ الدنيا فانية والآخرة باقية، والمُنْقَطِع الفانى قليل بالنسبة إلى الدائم الباقى، فإنَّ ضحكهم زمنه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتهم في الدنيا، وسيأتي بعده بكاء كثير لا نهاية له في الآخرة، وحتي فرحهم الدنيويّ هو فَرَح وَهْمِيَّ لا حقيقيّ ظاهريّ لا داخليّ سطحيّ لا مُتَعَمّق مُتقطّع لا دائم وكثيراً ما يتبعه الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾" أيْ جزيناهم جزاءً شديداً كهذا بسبب وبمِقْدار ما كانوا يعملون من سوءٍ في حياتهم، إضافة بالقطع إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم، بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، بصورةٍ ما من صور العذاب، بما يُناسب أفعالهم، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴿83﴾" أيْ فإنْ أعَادَك اللَّه من الغزو إلى مجموعةٍ من هؤلاء المنافقين الذين تَخَلّفوا عن الغزو والمُصِرِّين المُسْتَمِرِّين علي نفاقهم بلا أيِّ توبةٍ وعَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم، يارسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده، فطَلَبوا الإذْنَ منك للخروج للجهاد مرة أخرى، فلا تأذن لهم وقل لهم علي سبيل الذمِّ والتحقير لن تخرجوا معى أبداً في أيِّ جهادٍ ولن تقاتلوا معي أيَّ عدوٍّ من الأعداء – وهذا تأكيدٌ للمَنْع ومُبَالَغَة فيه – والسبب في ذلك أنكم قبلتم بالقعود عن الخروج للجهاد في أول مَرَّة دُعِيتُم فيها إليه بلا عُذْرٍ مَقْبولٍ ولم تُتْبِعُوا ذلك بتوبةٍ تَمْحُوه، رغم دعوتكم إليه لفتراتٍ وبكل الوسائل، وفعلتم ذلك القعود والتّخَلّف مرَّة بعد مرَّة باستمرار، وكنتم مُصِرِّين علي نفاقكم، فأنتم إذَن لا يُوثَق بكم إلا إذا تُبْتُم توبة صادقة تَظْهَر تدريجياً في أقوالكم وأفعالكم وتَعامُلاتكم لفتراتٍ فحينئذٍ يُنْظَر في خروج أمثالكم حيث أنتم لا تُريدون للإسلام وللمسلمين إلاّ الفتنة أيْ الشرَّ والسوء والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام، فجزاؤكم وعِقابكم الحَتْمِيّ المَنْطِقِيّ بالتالي إذَن أن تُحْرَمُوا من هذا الثواب في الداريْن بأنْ تقعدوا مع الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عذرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما
ومعني "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴿84﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ والتحقير لهم.. أيْ ولا تُصِلِّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده أبداً على أحدٍ مات من أمثال هؤلاء المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفُون الكفر والذين ظَهَرَ وعُلِمَ وتَأَكَّد نفاقهم، ولا تَقِف عند قبره لتدعو وتستغفر له، لأنَّ هذا تكريمٌ لهم لا يستحِقّونه لأنهم كفروا بالله تعالى وبرسوله ﷺ واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك بلا توبةٍ وماتوا وهم خارجون عن طاعة الله ودينه الإسلام
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿85﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الذين يُسيئون طَلَبها فلا يُمَيِّزون بين خيرٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وشرٍّ ضارٍّ مُتْعِسٍ، كالكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، وإلا تَعَذّبتَ وتَعِسْتَ مثل عذاباتهم وتعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿85﴾" أيْ إذا كان هذا هو حال وواقع المنافقين والكافرين والفاسقين ومَن يَتَشَبَّه بهم كما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة فلا تَسْتَحْسِن بالتالي إذَن أيها المسلم ولا يُبْهِرك ويُثير عقلك ويَلْفِت نظرك أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم وإمكاناتهم مهما بَلَغَت في الكثرة والحُسْن، لأنها عذابٌ لهم.. وفي هذا توجيهٌ للمسلم في دنياه بأنَّ عليه ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أن يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه وإلاّ تَعَذّبَ وتَعِسَ كعذابهم وتعاستهم في الداريْن، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه، فهذه هي الحياة الحقيقية السعيدة بعَيْنِها المُسْتَبْشِرَة المُنْتَظِرَة للآخرة الأسْعَد والأخْلَد حتي ولو رَأَيَ أنَّ ما عنده قد يكون أقل أحياناً مِمَّا عندهم، بينما هم غالباً أو دائماً في قلقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ دنيويةٍ تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادةٍ فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا.." أيْ لم يُرِدْ الله بعطائه الأموال والأولاد لهم إسعادهم، فهم لا يستَحِقّون ذلك، لكفرهم ونفاقهم وسوئهم، وإنما لكي يعذبهم بها في الحياة الدنيا من خلال جهدهم الشديد الذي يبذلونه في تحصيلها وبصراعهم أو حتي اقتتالهم مع بعضهم وغيرهم عليها وبقلقهم لحمايتها مِمَّن يَطمعون في نَهْبِها منهم وما شابه هذا من عذاباتٍ وكآباتٍ وتعاسات.. هذا، ولفظ "يريد الله" يحتاج لبعض التفصيل، بمعني أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."﴾.. ".. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿85﴾" أيْ ويُريد كذلك أن تخرج أراوحهم من أجسادهم وتهلك وينتهوا ويموتوا وهم كافرون فيُعَذّبهم بسبب كفرهم وموتهم عليه دون توبةٍ عنه عذاباً أليماً في الآخرة بعد عذابهم في الدنيا، فيكون ذلك اسْتِدْرَاجَاً لهم، وذلك من شِدَّة غضبه عليهم، فهل هناك استدراج لأمثال هؤلاء وعذاب في الداريْن أشدّ من هذا؟! إنهم يَصِل بهم أمر انشغالهم بأموالهم وأولادهم وأحداث دنياهم إلي النسيان التامّ لربهم ولدينه الإسلام ولآخرتهم إلي أن يُفاجأوا بالموت وهم علي الكفر ولم يتوبوا! والاستدراج هو التقريب من العذاب خطوة بخطوة دون شعورٍ حتي الهلاك ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معني الاستدراج برجاء مراجعة الآية ﴿182﴾ من سورة الأعراف "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ"﴾.. وكل هذا قطعاً بسببهم لا غيرهم، بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ تقريباً كما في الآية ﴿55﴾ من هذه السورة الكريمة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿86﴾ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿87﴾ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿88﴾ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿89﴾ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿90﴾ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿91﴾ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴿92﴾ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿93﴾ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94﴾ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿95﴾ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿96﴾ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿99﴾ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿101﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿86﴾"، " رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿87﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ وإذا كانت سُورَةٌ من سُوَرِ القرآن الكريم فيها آيات تَدْعو وترْشد الناس إلي أن صَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم، وجاهِدُوا مع رسوله ﷺ أيْ وابْذِلوا كل أنواع الجهود واجْتَهِدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وذلك في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، فحينها، حين يُطْلَب الجهاد، يَطْلُب الإذْنَ في التَّخَلّف عنه أولوا الطول من هؤلاء المنافقين ومِمَّن يَتَشَبَّه بهم أيْ أصحاب الإطالة والزيادة أيْ الغِنَيَ والأموال والقوَيَ المختلفة القادرون عليه الذين لا عُذْر مَقْبُول لهم، ويقولون ذَرْنا أيْ اتْرُكنا لنكون مع القاعدين العاجزين عن الجهاد، يَقْصِدون أصحاب الأعذار من المرضي والشيوخ والأطفال والنساء وغيرهم، وكأنهم هم أيضا لهم عُذْر! مُتَحَجِّجِين كعادتهم بكل أنواع الحُجَج الضعيفة السفيهة الساقطة وحتي المَكْذُوبة أحيانا أو كثيراً لتَبْرِير خوفهم وتَرَاجعهم وهروبهم بما يدلّ بلا أيِّ شكّ علي شِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم ومُخالفتهم لأخلاق الإسلام وتَهَرُّبهم مِمَّا يدعوهم إليه ورضاهم بأن يكونوا مع الضعفاء الذين لا حِيلَة لهم.. وهكذا دائما أمثالهم يُسيطر عليهم حِرْصهم علي حياتهم وطَلَب سلامتهم حتي ولو كانت مصحوبة بجُبْنٍ وذِلّةٍ وهَوَان!.. "رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿87﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من ذَمِّهم وتَحقيرهم.. أيْ قَبِلُوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف أيْ الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عُذْرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما، ولا يَرْضى بهذا حتماً إلا مَن هانَت كرامته واعتاد الذلّة والإهانة!.. ".. وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿87﴾" أيْ وبسبب نفاقهم حيث يُظْهِرُون الإسلام ويُخْفُون الكفر وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ كانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا أن طُبِعَ علي قلوبهم فصاروا لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم.. إنهم قد اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما هم فيه وأصرّوا تماما عليه حتي وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُدْ حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! فهو لا يفقه ما فى الإسلام والجهاد من الخير والسعادة والعِزّة في الداريْن وما فى النفاق والجُبْن عن الجهاد من الشرّ والتعاسة والذلّة فيهما.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تنبيه لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
ومعني "لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿88﴾"، "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿89﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ذلك الحال الدنِيء الخَسِيس الذي سَبَقَ ذِكْره هو حال المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم لكن الرسول الكريم ﷺ والذين آمنوا معه وبعده بَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وكل ذلك في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿88﴾" أيْ وهؤلاء حتماً لهم كل خيرٍ ونصرٍ وعِزَّةٍ وسعادةٍ في الداريْن وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها.. " أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿89﴾" أيْ هذا بيانٌ لخيرات وفلاحات وسعادات الآخرة.. أيْ جَهَّزَ الله لهم في أخراهم عطاءً كبيراً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً يَتَمَثّل في جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿89﴾" أيْ ذلك كله الذي نُعطيهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿90﴾" أيْ وحَضَر المُعْتَذِرون الذين لهم عُذْر من الأعراب – وهم البدو الذين يعيشون بالصحراء حيث الجهاد يشمل الجميع علي قَدْر استطاعة كلّ أحد – يَطلبون الإذْن لكي يُؤْذَن أيْ يُسْمَح لهم في عدم الخروج للجهاد، وبعضهم عُذْره مَقْبُول فيَتِمّ الإذْن له وبعضهم لا يُقْبَل عذره.. ".. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ هذا بيانٌ لفريقٍ آخر من الأعراب وهم المنافقون الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخفون الكفر وهو الذى قَعَدَ وتَخَلّفَ عن الخروج للجهاد بغير عُذْرٍ مَقْبُوٍل ولم يَجيء للاعتذار أصلاً مُخَالِفين بذلك للإسلام أولئك الذين كَذَبوا الله ورسوله في إدِّعاء الإيمان بهما.. ".. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿90﴾" أيْ سيَأتِي ويَسْتَهْدِف الذين أصَرُّوا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب – إلاّ أن يتوبوا – عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شديدٌ مُهين، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسِب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿91﴾"، "وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴿92﴾" أيْ هذا بيانٌ للأعْذار المَقْبُولَة عند الله تعالي للقعود عن الجهاد بالقتال لدَفْع المُعتدين علي الإسلام والمسلمين.. أيْ ليس علي أصحاب الأعذار من الضعفاء وهم الذين لا قوة لهم على القيام بتكاليف القتال كالشيوخ والعَجَزَة والنساء والأطفال، والمرضي وهم الذين مَرِضوا بأمراضٍ أضعفت قُدْرَتهم علي القتال لكن هؤلاء عُذْرهم يَنتهي بشفائهم، والذين لا يجدون ما ينفقون وهم الفقراء القادرون على قتال الأعداء ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه للتّجَهُّز لمَطالِبه، ليس علي كل هؤلاء ومَن يشبههم مِمَّن له عُذْر حقيقيّ لا وَهْمِيّ مقبول عند الله تعالي يوم القيامة حَرَج أيْ مُؤَاخَذَة أو عِتاب أو عقاب أو ضيق أو إحراج أو شعور بارتكاب ذنبٍ أو نحوه في الدنيا ولا إثم في الآخرة في أنْ يَقعدوا عن الجهاد في سبيل الله.. ".. إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.." أيْ إذا أخْلَصُوا لله ورسوله، أيْ بشرط أن يتمسَّكوا ويعملوا بوصاياهما أيْ بكل أخلاق دينهما الإسلام، ويَدعوا الجميع ما استطاعوا لها، ويُحْسِنوا أي يتقنوا في كل ذلك، ويُخْلِصوا فيه أيْ يَطلبوا فقط حب ربهم ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه ورزقه وقوته وبالجملة سعادته التامّة في دنياهم ثم أعلي درجات جناته في أخراهم ولا يطلبوا أيِّ سمعةٍ أو جاهٍ أو رِياءٍ أيْ يُرُوا الناس ما يمدحونهم عليه، وأن يكون مِن نواياهم بداخل عقولهم أثناء قعودهم أنهم لو قَدَرُوا لجاهدوا، وأنْ يفعلوا ما يستطيعون من أجل التشجيع علي الجهاد والترغيب فيه والمَنْع من التّخَلّف عنه، وأنْ يمتنعوا تماماً قطعاً عن إثارة الفِتَن والشائعات التي تُفَرِّق وتُضْعِف، وأن يَسْعوا فى إيصال الخير إلى أهالي المجاهدين الذين خرجوا للجهاد ويقوموا بمصالحهم، وبالجملة فَهُم وإنْ كان لهم عُذْر في القعود عن الجهاد إلاّ أنَّ عليهم أنْ يقوموا بما يستطيعونه، وسيكون لهم حتماً أجورهم الدنيوية والأخروية علي كل ما يُقَدِّمونه، من فضل الله وكرمه ورحمته.. ".. مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.." أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا حَرَجَ علي المُحسنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم.. أىْ ليس لأيِّ أحدٍ أيّ طريقٍ لمُؤَاخَذة هؤلاء المُحسنين بسبب تَخَلّفهم عن الجهاد لأنهم بعُذْرٍ حقيقيٍّ مَقْبُولٍ ولأنهم نَصَحُوا لله ورسوله.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿91﴾" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه يغفر للمُسِيئين فكيف بالمُحسنين؟! إنه حتماً يزيدهم مغفرة ورحمة ورَفْعَاً لدرجاتهم وسَتْرَاً لتقصيرهم الذي قد يَحدث منهم بصِفتهم بَشَر لا ملائكة.. إنه من مَغفرته ورحمته عَفْوه عن العاجِزين وعدم طَلَبه منهم ما لا يستطيعون بل وإثابتهم علي نواياهم الحَسَنَة وعلي ما يُقَدِّمونه قَدْر استطاعتهم حتي ولو كان قليلا.. "وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴿92﴾" أيْ هذا بيانٌ وتخصيصٌ وتمييزٌ لصنفٍ من الذين لا يَجدون ما يُنفقون من المسلمين من المُفْتَرَض أنهم مع الذين ذُكِرُوا سابقاً لكنْ يَخُصّهم الله تعالي بالذكر لتشريفهم ولتكريمهم ولبيان عظيم مَكَانتهم وأجرهم في الدنيا والآخرة بسبب حُسْن نواياهم ليَقتدي بهم مَن أراد الاقتداء ليَنال ما نالوا وهم الذين يَحزنون ويَتألّمون أشدّ الحزن والألم ويَظهر ذلك في أنْ تَدْمع عيونهم علي فوات فرصة المشاركة في هذا الشرف العظيم شرف الجهاد في سبيل الله وفوات فرصة الشهادة حيث يكون الشهيد حيَّاً يُرْزَق عند ربه في أعلي درجات الجنات مع النّبِيِّيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين ويُعَوِّضُون ذلك بالقيام بما يستطيعون دفاعاً عن الإسلام والمسلمين.. إنه بمِثْل هذه المشاعر وهذه النوايا والأقوال والأفعال الصادقة والحرص الشديد علي الدفاع عن الإسلام والمسلمين يَنتصرون ويَسعدون في الداريْن.. أي وكذلك لا حَرَجَ وما مِن سبيلٍ علي الذين إذا حَضَروا إليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسئول مِن بَعْده لكي تَحملهم إلي ساحاتِ الجهاد أيْ تُعطيهم ما يُحْمَلون عليه أيْ يَرْكبونه ويَحملون عليه سلاحهم ومُعِدّاتهم من مركباتٍ ونحوها، فقلت لهم مُعْتَذِرَاً لا أجد ما أحملكم عليه، فانصرفوا عنك وعيونهم تَسِيل منها الدموع بكثرةٍ حزناً وألَمَاً أنْ فاتهم شرف الجهاد في سبيل اللَّه لأنهم لا يَجدون ما يُنفقون ولا ما يُحْمَلُون عليه