الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
أما معني " وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴿28﴾ " ، " إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴿29﴾ " أي ما احتاج أمرُ إهلاكهم – مِن بعد أن ُأبلغوا بكل شيء عن الإسلام وتكذيبهم وعِنادهم له واستكبارهم عليه ومِن بعد اعتدائهم علي الرسل وعلي هذا المؤمن واستشهاده – لكثيرٍ مِن الجهْد فهُم أَحَطّ وأقلّ وأهْوَن من ذلك بإنزال جنودٍ مثلا من السماء لفِعْل هذا فلم نكن لننزلهم لمِثْل هذا العمل الخفيف السهل !! وإنما كان كافِيَاً جدا أنْ كانت العقوبة صيحة واحدة – من الصياح – مُزَلْزِلَة مُدَمِّرَة فأهلكتهم فأصبحوا خامدين أي هامِدين مَيِّتين كما تخمد النار أيْ تنطفيء وتنتهي
أما معني " يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿30﴾ " أي ما أعظم حسرةِ – أي ندم وألم شديد – مِثْل هؤلاء الخَلْق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين في دنياهم وأخراهم ، بسبب أنهم لا يأتيهم أيُّ رسولٍ أو داعي إلي الله والإسلام يدعوهم لهما لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في الداريْن إلا قابلوهم بالاستهزاء والاستكبار والعِناد والتكذيب .. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بهم وإلا تعستم مثلهم تمام التعاسة في الداريْن
ومعني " أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿31﴾ " أي ألم يُشاهِد هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا أنَّ الله قد أهلك قرونا أيْ أجيالا كثيرة قبلهم ، وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم ، ورأوا أنهم لم ولن يعودوا إليهم أبدا في حياتهم الدنيا بحيث يُمكنهم تصحيح حالهم وفِعْل الخير بدلا ممّا كانوا عليه من شرور ومَفاسد وأضرار ، ألا يَتَّعِظون ؟! هل عَمُوا عن هذه الحقائق ؟! ولكنَّ السبب أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا لوْمٌ شديد لهم لعلم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿32﴾ " أيْ وما كلّ الأمم السابقة واللاّحِقة إلا جميعها عندنا سيُحْضَرون يوم القيامة في وقتٍ واحد ومكانٍ واحد للحساب الخِتامِيّ حيث يُعْطَيَ أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادةٍ ويُجَازَيَ أهل الشرّ بما يستحِقّونه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فالعاقل إذن هو مَن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ مِن خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ليَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه
وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿33﴾ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ﴿34﴾ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿35﴾ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿37﴾ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿38﴾ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿40﴾ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿41﴾ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴿42﴾ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ﴿43﴾ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستفَاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنتَ استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿33﴾ " أي ومن بعض مُعجزاته ودلالاته العظيمة التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَدُلّهم هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، وأنه هو القادر تمام القدْرة علي بَعْث البَشَر يوم القيامة أي إحيائهم مرة أخري بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا ، أنه حين أنزل المطر أحيا به الأرض بعد أن كانت مَيِّتة هامِدة مَلْساء لا نبات فيها فأخرج منها كل النباتات والحبوب التي تَنفعهم وتُسعدهم بكل المنافع والتي منها الأكل والدواء وغيره ، فإنَّ القادر علي هذا الإحياء للأرض الميّتة سبحانه قادِر بلا أيّ شكٍّ علي بَعْثهم حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلوا حتي يُجازوا علي الخير كل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر ما قدَّموا بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فهو تعالي قادر علي كلّ شيء .. " وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ﴿34﴾ " أي وآية أخري عظيمة أي دليل آخر كبير أمام الجميع علي قدْرتنا ونعمة أخري تستحِقَ التدَبُّر والشكر هي أننا جعلنا في الأرض بساتين كثيرة من كل أنواع الزروع كالنخيل وأشجار العنب وشَقَقنا فيها عيونا مائية كثيرة يشربون منها ويَسقون نباتاتهم ودوابّهم وينتفعون بها
ومعني " لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿35﴾ " أي كل هذا وغيره لكي يَنتفعوا ويَسعدوا بهذه المنافع فيأكلوا من هذه الثمار وممّا تصنعه أيديهم منها من مختلف المصنوعات الغذائية النافعة المُسْعِدَة .. أليس هذا وغيره من النعم التي لا تُحْصَيَ يستحِقّ الشكر من البَشَر ؟! أَيَرَوْنَ هذه النِعَم وأَيَنْتَفِعون بها ولا يشكرونها ؟! وفي هذا لوْمٌ شديدٌ لمِن لا يشكر وتنبيهٌ وإيقاظ له لكي يشكر .. إنَّ عليهم أنْ يشكروه سبحانه علي نِعَمِه بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، فسيجدوها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾
ومعني " سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾ " أيْ سَبِّحوه تعالي ، أي نَزّهوه ، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به ، فله كل صفات الكمال ، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فهو تعالي الذي خَلَقَ الأزواج كلها أي الأصناف والأنواع كلها مِن كلّ المخلوقات والتي بعضها ممَّا تُنبت الأرض أي ممّا تخرجه من نباتات وزروع وأشجار وغيرها ، وبعضها من أنفس البَشَر وغيرهم من الأحياء حيث الذكور من الإناث والإناث من الذكور وهكذا ، وبعضها لا يعلمه أحدٌ ولا يَعلم ممّا خُلِق وإنما يَعلمه فقط خالقه سبحانه .. " وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿37﴾ " أي وعلامة ٌودلالة ٌأخري علي قدْرتنا علي كل مانشاء ، ونعمة أخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع ، هي أننا نَسْلَخ من الليل أيْ نُزيل عنه ضوء النهار فإذا الناس يدخلون في الظلام ، ليَستريحوا ويَهدأوا ويَناموا ويَسعدوا بذلك ويَستَعِدّوا للسعادة بيومهم القادم .. " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿38﴾ " أي وعلامة ودلالة أخري علي قدْرتنا علي كل ما نشاء ، ونعمة أخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع ، هي الشمس التي تتحرّك بسرعة إلي حيث تستقرّ لفترةٍ في مكانٍ وزمنٍ مُحَدَّدٍ يُحَدِّده لها سبحانه لنَفْع خَلْقٍ مَن خَلْقه بدفئها وبمعرفة الأوقات والساعات والدقائق ونحو هذا ثم تَغْرب عنهم إلي مكانٍ ووقتٍ وخَلْقٍ آخر وهكذا حتي تستقرّ الاستقرار النهائي يوم القيامة في المكان الذي لا يعلمه إلا هو تعالي .. " .. ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿38﴾ " أي ذلك الجَرَيَان للشمس وتَعَاقُب الليل والنهار هو نظامٌ مُقَدَّرٌ بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل ، إنه نظامُ الله تعالي ، العزيز الذي لا يُغَالَب ولا يُمَانَع فلا يَغلبه أو يَمتنع عن أوامره أيّ مخلوق ، وهو العليم ، أي بكلّ شيءٍ ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر ، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه .. " وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ " أيْ وعلامة ٌودلالة ٌأخري علي قدْرتنا علي كلّ ما نشاء ، ونعمة ٌأخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع ، هي أننا نُنَظّم للقمر بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل المنازِل أيْ الأماكن التي يَنْزِل فيها ويَتحَرَّك ، أيْ نُغَيِّر مَوَاضعه وانعكاساته فيكون هلالا ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي تحديد الأيام والأسابيع والشهور والأعوام والأعمار .. " .. حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ " أي في نهاية دورته الشهرية يعود كما بدأ هلالا صغيرا ضعيفا يُشبه العُرْجُون القديم ، أي العُود الذي يَخرج من النخلة ويَحمل في آخره التمر ، فإنه بعد جمع الثمار منه يُصبح قديما أي جافا رفيعا ذابِلا نَحِيفا مُنْحَنِيَاً مُتَقَوِّسَا ، وهو شكل الهلال في نهاية الشهر .. " لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿40﴾ " أيْ بكلّ تأكيدٍ ومِن عظيم قدْرتنا ودَقّة نظامنا أنه لا يُمكن أبدا ولا يَحدث أنَّ الشمس تُزَاحِم الليلَ في غير وقت طلوعها وفي زمن وجوده ، ولا كذلك الليل سابِق النهار أيْ غالِبه بمعني أن يأتي في وقته قبله كأنه يَتَسَابق معه فسَبَقه ، ولكن كلاّ منهما له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويسير ويدور فيه بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق .. " وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿41﴾ " أي وعلامة ٌودلالة ٌأخري علي قدْرتنا علي كل ما نشاء ، ونعمة ٌأخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع ، أننا نحملهم هم وذرِّيَّتهم من أبنائهم وأحفادهم صغارا وكبارا بقوانينا الفيزيائيَّة في السفن التي تجري في الماء والتي صنعوها بعقولهم التي وهبناها لهم بتوفيقنا وتيسيرنا والتي تُشْحَن أي تُمْلأ بالناس والبضائع وغيرها لتنقلهم حيث يريدون للتجارة والسياحة ونحو ذلك ممّا يَنفعهم ويُسعدهم .. " وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴿42﴾ " أي مِن بَعْد سفينة نوح والتي كانت أول سفينة عَرَفها البَشَر ، أخذها الناس نموذجاً ، وصنعوا مثله ، وطوَّروا في صناعته ، فأنشأوا الزوارق وغيرها ممَّا يُركَب في البحر ، ويَسَّرنا لهم ذلك وساعدناهم عليه .. أو خلقنا لهم مِن مثله ، أي مِن مِثْل هذا الذي يُرْكَب في البحر وهو السفن ، خلقنا لهم أيضا مِن نِعَمِنا عليهم ما يُرْكَب علي الأرض كالجمل مثلا الذي اشْتُهِرَ باسم " سفينة الصحراء " ، وكغيره من الدوابّ التي تُرْكَب ويُحْمَل عليها الأشياء لنقلها والانتفاع بكلّ ذلك .. " وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُون ﴿43﴾ " ، " إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ﴿44﴾ " أي وبكلّ تأكيدٍ من المُمكن لنا وسَهْلٌ علينا جدا أن نُغرقهم في الماء وهم في الفلك بأمواج أو عواصف أو غيرها حينما نريد ذلك ، وحينها لن يكون لهم أيّ صَريخ ، أيْ صارِخ ، أي لن يكون لهم أيُّ أحدٍ يَصرخ لهم لاستدعاء مَن ينقذهم ، أيْ لن يكون لهم أيُّ مُغِيث ومُعين ومُنْجِد عندما يَصرخون ويَستغيثون ويَستنجدون ، فلن يُنْقَذوا ممّا هم فيه من عذابٍ وغرقٍ ، إلا برحمةٍ من الرحمن الرحيم ورعايةٍ منه لهم وفضلٍ عليهم وإرادة لتمتيعهم وإسعادهم بحياتهم إلي حين ، أي إلي أوقاتٍ معلومةٍ عند الله ، وإلي أن تأتي آجالهم بالموت
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿45﴾ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿46﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿47﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من المُتَّقِين أي الذين يَتَجَنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ متمسكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُنْفِقَاً لا مُمْسِكَاً ، بتَوَسُّطٍ واعتدال ، علي ذاتك ومَن حولك وعموم الناس بل وعموم الخَلْق ، مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقك به عليك من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيع استصحابه من نوايا خيرٍ في عقلك بما يُسعد كل لحظات حياتك أنت ومَن حولك وبما يجعل لك أعظم الأجر في آخرتك
هذا ، ومعني " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿45﴾ " أيْ وإذا دعاهم أيُّ داع للخير من المسلمين حولهم أن يَتّقوا ما بين أيديهم أي يتجنَّبوا ما هو أمامهم ينتظرهم من عقابٍ دنيويٍّ وأخرويٍّ بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فلا يَفعلوا إذن الشرور التي يفعلونها حاليا في دنياهم .. وأن يتّقوا ما خلفهم أي يتجنّبوا ما حَدَثَ لمَن سَبَقَهم مِن المُكذبين أمثالهم والذين يَتَناقَلون أخبار عقابهم الدنيويّ الذي نَزَلَ بهم بسبب أفعالهم فلا يَفعلوها .. " .. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿45﴾ " أي ليكون ذلك سببا أكيدا لكم لنَيْل رحمة الله تعالي ، ومَن نالها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك دائما فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
ومعني " وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿46﴾ " أي إذا دُعوا إلي الخير وترْك الشرّ كما في الآية السابقة ، وإذا جاءتهم أيُّ آيةٍ في الكوْن أيْ دلالة وعلامة يرونها واضحة أمامهم والتي هي حجّة ظاهرة كافية قاطعة حاسمة علي قدْرة الله تعالي التامّة ، وكذلك حين تُقْرَأ وتُعْرَض عليهم كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم والتي فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم ، إذا هم يُعْرِضون عنها أي يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! .. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿47﴾ " أي وإضافة إلي مواقفهم القبيحة التي ُذكِرَت في الآية السابقة فإنه لو طُلِبَ منهم الإنفاق ممّا أنعمَ الله به عليهم من الأرزاق والنِعَم التي لا تُحْصَيَ ، في أيّ وجهٍ من وجوه الخير ، سواء أكان هذا الإنفاق مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ، قال هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن بصورةٍ فيها استهزاء وسخرية هل نُطعم مَن إذا أراد الله ربكم أنْ يُطعمه سيُطعمه ؟! ألا تَدَّعون أيها المسلمون أنه هو الرزّاق الكريم الرحيم بالناس ؟! إنكم إذن مُدَّعون كاذبون !! هذا ، وقد تَحَدَّثوا هم عن الإطعام فقط وهو أيسر أنواع الإنفاق كأنهم يُلَمِّحُون لعدم استعدادهم للإنفاق فيما هو أكثر !! .. " .. إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿47﴾ " أي يَقْلِبون الحقائق ويَفترون علي المسلمين ويَدَّعون أنهم في ضياع واضح لأنهم يَتَّبعون الإسلام !! .. هذا ، وقد يكون هذا من قول المسلمين لهم لرفضهم الإيمان بالله واتّباع الإسلام فهم إذن في ضياع واضح أي في تعاسة تامّة في دنياهم وأخراهم ، ويقولون لهم ذلك لكي يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليَسعدوا فيهما
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴿49﴾ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴿50﴾ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴿51﴾ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴿52﴾ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿53﴾ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿54﴾ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴿56﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ﴿57﴾ سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴿58﴾ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿59﴾ ۞
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُتَجَنِّباً تماما لعذاب الله في الدنيا والآخرة بالتمسّك علي الدوام بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع التوبة مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ .. وإذا كنت مُوقِنا أي مُتأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لما فعلت ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكِّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا سيَدْفَع حتما كل عاقل لأن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خير وترك كل شرّ وبأن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾ " أي يَطلب هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة من المسلمين حولهم بصورةٍ فيها تكذيبٍ واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يَعِدُهم به إن كانوا صادقين فإن لم ينزل فهم إذن كاذبون ! إنهم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا فيما يَدْعونهم إليه من اتّباع الإسلام ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويَطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يَحدث مِن أيِّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتَرَاجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِهم بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك !! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، ومن معاني الوعد أيضا الذي يُكذبونه ويَسخرون منه ويَستهينون به أنه هو وعد الآخرة بما فيها من حسابٍ وعقاب وجنة ونار فهم لا يُصَدِّقون كل ذلك ! ولا يُعِدّون له أيَّ استعداد !
ومعني " مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴿49﴾ " أيْ أنّهم لا يَنتَظِرون – هؤلاء المُكذبون الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة – حتي يَتَحَقّقَ ما يَستعجلونه من نزولِ العذاب بهم بدرجاته وصوره المختلفة وقتا طويلا ، وإنما هي أوقات قليلة ثم تأتي لحظات عذابهم الدنيويّ أو موتهم وعذاب هذا الموت وعذاب قبورهم أو لحظة قيام الساعة حيث نهاية الحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة ، وكلّ ذلك يأتي فجأةً وبسرعةٍ خاطِفَةٍ ليَأخذهم أي يُعَذبهم ويهلكهم ولا يحتاج لكثيرِ وقتٍ أو جهدٍ فالله تعالي قادرٌ علي كل شيء ، فالأمر لا يَتَطَلّب إلا فقط صيْحة واحدة أيْ صوت أو نحوه يُعْلِن بَدْء ذلك ، وكلّ ما هو آتٍ فهو قريبٌ فلا يَتَوَهَّم أيُّ أحدٍ أنه بَعيد .. " .. وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴿49﴾ " أيْ وهم يَختصمون ، أي يَحدث لهم هذا وهم علي أحوالهم التي اعتادوا عليها وانشَغلوا وتَلّهوا بها دوْما في حياتهم الدنيا من الخِصام والتشاجُر والتنازُع والجدال في عدم البعْث وغيره من التكذيب والحوار مع الآخرين في أعمالهم وأسواقهم وغيرها .. والتشديد في حرف الصاد يُفيد في اللغة العربية المُبَالَغَة في الخصومة .. وفي هذا إنذارٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم ونُصْحٌ أيضا ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصلحوا من ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان ، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها ؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته !! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴿50﴾ " أيْ مِن شِدَّة وسرعة المفاجأة وذهولهم بما يَحدث حينها لا يُمكنهم تَوْصِيَة أيَّ أحدٍ بأيِّ شيءٍ سواء بمالٍ أو عمل أو توبة وعودة لله وللإسلام أو نحو هذا ولا يُمكنهم كذلك العودة لأهاليهم من الأماكن التي هم فيها حيث لا يكون لديهم أيّ وقتٍ أو فكرٍ أو جهدٍ للتصرُّف في أيِّ شيءٍ إذ قد حانَ الوقت لنزول العذاب أو للموت ودخول القبر وعذابه أو جاء موعد الآخرة بعذابها الخالد لأمثالهم
ومعني " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴿51﴾ " أي وعندما يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء البعث أي إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم وبدء يوم القيامة والحساب – ولا يَعلم كيفية حدوث النفخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره – حينها يَنْسِلون أي يَخرجون يَمشون مُسرعين من الأجداث أي القبور مُتَّجِهين إلي ربهم حيث يُحاسِبهم علي ما قدَّموا من أقوالٍ وأفعالٍ في حياتهم الدنيا
ومعني " قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴿52﴾ " أي قال هؤلاء المُكذبون الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة حينما بدأوا يَرَوْن أهوال يوم القيامة الذي كانوا يُكذبونه ، قالوا بكل ندمٍ وحَسْرةٍ يا ويلنا ، أي يا هَلَاكَنا ، أي لقد هلكنا حقا بكل تأكيد ، وقالوا مَن الذي بعثنا أي أخرجنا وأحيانا بأجسادنا وأرواحنا مِن مَرْقدنا أي من المكان الذي كنا نَرْقد فيه أي ننام والمقصود القبور التي كانوا فيها مَيِّتين .. " .. هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴿52﴾ " أي تَرُدّ عليهم الملائكة ويَردّ المؤمنون أنَّ هذا الذي ترونه الآن هو البعث والحساب والعقاب والجنة والنار وهو ما وَعَدَ به الرحمن سبحانه ووعْده الصدق وهو ما كان يُخْبِركم به الرسل ومِن بعدهم المسلمون حيث كان صِدْقاً وكانوا صادقين ولكنّكم كنتم تُكذبون وتُعاندون وتَستكبرون وتَستهزؤن فهل تأكَّدتم الآن وصَدَّقتم ؟! .. وفي هذا مزيدٌ من إضافة الحسرة لهم كنوع من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ في جهنم .. هذا ، واختيار صفة الرحمن وهو تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هو لمزيدٍ من حسرتهم حتي يذوقوا مَرَارَة أنهم قد حُرِموا رحماته سبحانه وجناته الخالدة بسبب سوء أفعالهم
ومعني " إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿53﴾ " أي بمُجرّد أن نُفِخَ في الصور بالصيحة الواحدة وتمَّ بعثهم كما ُذكِرَ في الآيتين السابقتين استجابوا جميعا للبعث وللحضور للحساب مُجْبَرين ودون أن يَتَخَلَّف منهم قطعا أيُّ أحدٍ عن أمر الله وبكلّ سرعةٍ من غير استغراقٍ لأيِّ وقت
ومعني " فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿54﴾ " أي في هذا اليوم ، يوم القيامة ، لم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم ، بأن يَنْتَقِص مثلاً مِن حقّ أهل الخير في كلّ خيرٍ وسعادةٍ وزيادةٍ منهما ، أو بأنْ يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو ما شابه هذا ، وإنما الجميع يُعْطَيَ علي قَدْر عمله من خيرٍ أو شَرّ .. وفي هذا طَمْأَنَةٌ وتبشيرٌ للمسلمين وتحذيرٌ لغيرهم ليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا
ومعني " إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55﴾ " أي الذين دخلوا الجنة وامتلك كلٌّ منهم حقّه فيها الذي أعطاه الله إيّاه علي قَدْر عمله وأصبح صاحبه ، مشغولون بكلّ نعيمٍ ، فاكِهون أي فَرِحُون بما هم فيه من عظيم فضل الله عليهم ، حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بشر
ومعني " هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴿56﴾ " أي أصحاب الجنة ومعهم الزوجات اللاتي أُعِدّت لهم في الجنة ومنهن مَن كُنَّ أزواجاً لهم في الدنيا إنْ كُنَّ غير ممنوعاتٍ من دخول الجنة وإلا فلا يَصْلُحْن إذن لهم ، ويكونوا مُطَهَّرين ويَكُنَّ مُطَهَّراتٍ مِن أيِّ صفةٍ سيئةٍ ماديّةٍ أو معنويّةٍ كما كان الحال في الدنيا ، ويكونوا جميعا في صورةٍ من صور التّمَتّع والنعيم حيث النسيم الطيّب لظلال الأشجار ، وفي بعض أحوالهم يكونوا مُتَّكِئين أي جالسين جلسةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التمتع بالراحة والاسترخاء ، علي الأرائك جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يشبهه
ومعني " لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ﴿57﴾ " أي أصحاب الجنة لهم فيها فاكهة كثيرة مُتنوِّعَة من كلّ ما يَرْغبون ، وأيضا لهم كل ما يَدَّعُون أي ما يَطلبون من مَطَالِب وما يَتَمَنّون من أمنياتٍ حتي قبل أن يَطلبوها ، من تمام أفضال الله عليهم ورحماته ونِعَمِه
ومعني " سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴿58﴾ " أي وإضافة إلي ما ُذكِرَ من نعيمٍ في الآيات السابقة وإتماما له ، فهناك نعيمٌ آخر مُمَيَّز فيه كلّ تكريمٍ وتعظيمٍ لهم ، حيث يُقالُ لهم سلامٌ عليكم من ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُحِبّكم ، الرحيم بكم ، وهذا السلام هو قولٌ مباشرٌ من الله تعالي لهم ، وعندئذٍ وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم – أي الخالِص من أيِّ تكدير – التامّ الخالد المُسْعِد .. هذا ، ومِن معاني الآية الكريمة كذلك أنَّ هذا أيضا يكون في الدنيا حيث مَن يَجتهد في التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام سيكون له حتماً تمام السلام أي الطمأنينة والسعادة التامّة بسبب رحمة الله التامّة به .. فهذا هو قول الله الربّ الرحيم ، قوله للناس جميعا ، قوله الشامِل الجامِع المُخْتَصَر المُفيد الصادِر منه سبحانه لهم : سلام .. فهذا هو قوله لهم .. أي عيشوا جميعا في سلام بأن تكونوا كلكم مسلمين لله أي مستسلمين لشرعه ولوصاياه ولأخلاقيّاته لتَسْلَموا بسلامه وبرحمته تمام السلامة والأمان والسعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿59﴾ " أي يُقال في هذا اليوم ، يوم القيامة ، للمجرمين ، وهم الذين ارتكبوا الجرائم بكل أنواعها المختلفة ، أي الشرور والمَفاسد والأضرار ، يُقال لهم علي سبيل التأنيب واللّوْم الشديد كنوع من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار ، أنْ يَتَمَيَّزوا عن المؤمنين أي يَنفصلوا ويَنعزلوا ويَبتعدوا عنهم ، فهم ليسوا مُؤَهَّلِين لمجرّد الوقوف بجانبهم ، وذلك لإعدادهم لدخول جهنم وليُشاهدوا في ذات الوقت دخول المسلمين نعيم الجنة فتزاد حسرتهم ويزداد ألمهم وعذابهم
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿60﴾ وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴿62﴾ هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿63﴾ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿64﴾ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿65﴾ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ ﴿66﴾ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ﴿67﴾ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴿68﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذته علي الدوام عدوا ، أي لم تتّبع خطواته وقاومتها ولم تستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسكتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿60﴾ " أي لقد أوْصَيْتكم يا بني آدم من خلال رسلي وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومن خلال كُتُبي وآخرها القرآن العظيم ألاّ تُطيعوا الشيطان حيث هو لكم عدو واضح أي ضِدّكم يريد إضلالكم أي إبعادكم عن كلّ خيرٍ وسعادة في دنياكم وأخراكم ، والشيطان هو كل مُتَمَرّد علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. وكذلك أعطيتكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وَصَايَايَ وتشريعاتي والمخلوقات المُعجزات التي في كل الكوْن حولكم ، وجعلت لكم في هذه العقول فطرة مسلمة أصلا تساعدكم علي معرفة الخير من الشرّ والصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة في كلّ شئون حياتكم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. فانتَفِعوا إذن بكل ذلك وتمسّكوا به لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن .. وهذا الذي جاء في هذه الآية الكريمة هو ما سيُقالُ كذلك يوم القيامة للمجرمين الذين ُطلِبَ منهم التَّمَايُز والانعزال عن المؤمنين كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، ويُقالُ لهم ذلك أيضا علي سبيل التأنيب واللّوْم الشديد كنوع من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار .. ثم الآية تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم وعِتابٌ في الدنيا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا فيها وفي الآخرة
ومعني " وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ " أيْ ولقد أوْصَيْتكم أيضا ، إضافة إلي وَصِيَّة الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، أن تعبدوني وحدي ولا تعبدوا أحدا غيري (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأوْصَيْتكم أن تُخْلِصُوا هذه العبادة (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ " أي اعبدوني لأنَّ هذا هو فقط الطريق الذي ليس فيه أيّ انحرافٍ عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. إنه وحده الطريق المُعْتَدِل الأَسْرَع والأَقْصَر والأوْضَح والأضْمَن والأيْسَر والأَنْوَر والأَعْقَل المُؤَدِّي إلي السعادة التامَّة في الدنيا ، ثم إلي ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر في الآخرة
ومعني " وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴿62﴾ " أيْ لستم أول مَن أضلَّه الشيطان أيْ ضَيَّعَه وسارَ به في طريق الضياع أي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تؤدي إلي تمام التعاسة في الدنيا والآخرة ، فلقد أضلَّ قبلكم خَلْقا كثيرا منكم رأيتموهم أمامكم ، ولكنكم لم تعقلوا ذلك ولم تَتَّعِظوا بهم ، وفعلتم مثلهم فتَعِستم كتعاستهم !! .. " .. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴿62﴾ " أي أين كانت عقولكم حين انخدعتم به وسِرْتُم وراءه بعد أن حَذّرناكم منه أشدّ التحذير ووصَّيناكم أن تَتَّخذوه دائما عدوا لكم ؟!! .. وفي هذا تأنيبٌ ولوْمٌ شديدٌ لمَن يفعل هذا لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في الداريْن .... إنَّ العقول بالقطع موجودة ولكنَّ مثل هؤلاء يُعَطّلونها بما يضعونه عليها من أغشيةٍ تتمثّل في الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيص دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿63﴾ " أي بعد هذا التأنيب واللّوْم الشديد لمَن أطاعوا الشيطان في دنياهم والذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، يُقالُ لهم من ملائكة العذاب بأمرٍ من الله تعالي – لمزيدٍ من الألم والتخويف – هذه جهنم التي ستَدْخلونها الآن وقد ظَهَرَت أمام أعينكم حقيقة ًوالتي كنتم تُوعَدون بها في الدنيا من خلال الرسل والمسلمين بَعدهم ولكنكم كنتم تُكذبون وتَستهترون بها وتستهزؤن بمَن يُذكّركم إياها
ومعني " اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿64﴾ " أي يُقالُ لهم أيضا احترقوا بنارها ، بنار جهنم ، بَدْءا من اليوم ، يوم القيامة ، إلي ما شاء الله ، بسبب أنكم كنتم في حياتكم الدنيا تكفرون ، أي تُكذبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبالآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ففعلتم كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار ومُتْم مُصِرِّين علي ذلك .. هذا ، وقول ملائكة العذاب لهم بأمرٍ من الله تعالي " اصْلَوْها " يُفيد شدّة الإهانة والتحقير
ومعني " الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿65﴾ " أي في هذا اليوم ، يوم القيامة ، يُغْلِق الله فَمَ أيّ كافرٍ مِن هؤلاء الكافرين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة فلا يُمكن لألسنتهم أنْ تنطق بأيِّ كلام ، بينما الذي يتكلّم ويَشهد علي أفعالهم السَّيِّئَة بالحقّ هو أجزاء من أجسادهم ، حتي لا يُمكن لأيّ أحدٍ أنْ يُنْكِرَ فِعْله ، فالذي فَعَلَ قد شَهد !! فليس هناك أيّ أملٍ في أيِّ إنكار !! فالأيادِي تتكلّم بقدْرة الله تعالي بكل صدقٍ بما فَعَلت لأنها كانت مُجْبَرَة علي فِعْلها بسبب تَحَكّم عقل الكافر فيها ، ومعظم الشرّ تفعله الأيدي ولذا فهي التي تتكلم بينما الأرجل تَشْهَد وتُصَدِّق علي كلامها لأنها مجرّد ناقِلَة للجسد أو مُشَارِكة فقط .. " .. بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿65﴾ " أي بسبب الذي كانوا يَعملونه ويُحَقّقونه مِن شرور ومَفاسِد وأضرار
ومعني " وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ ﴿66﴾ " أي مِثْل هؤلاء المجرمين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ هم بالقطع دائما في قبضة الله تعالي وتحت سيطرته وقدْرته في كل أحوالهم ، فمِن المُمكن مثلا – كما خَتَمَ علي أفواهم كما في الآية السابقة – أن يَطمس علي أعينهم أي يلْغِي الرؤية منها أي يعْميهم فتصعب حياتهم لأنهم وقتها أَنَّيَ – أيْ كيفَ – يُبصرون حينما يَستبقون الصراط أي يُبادرون إلي السير في الطريق ؟! أو يَطمس بصيرتهم أي يلْغِي عقولهم فلا يُبصرون أيْ لا يَتَدَبَّرون ولا يَعقلون طريق الهدي لله وللإسلام فيحيون حياتهم في ضلالٍ دائم أي ضياع تامٍّ أيْ تعاسة تامّة في دنياهم وأخراهم .. وهذا في حياتهم الدنيا .. ولكنه من رحمته تعالي الرحيم بكلّ خَلْقه لا يفعل ذلك بل يَترك لهم الفرصة بعد الأخري طوال حياتهم ويترك لهم عقولهم وقوَاهم لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ﴿67﴾ " أي وكذلك أيضا – إضافة إلي إمكانية الطمْس علي أعينهم – فإنَّ الله قطعا قادر علي مَسْخِهم علي مكانتهم أي إقعادهم وإهلاكهم وتغيير أشكالهم إلي أشكال مَمْسوخة كحيوانات بلا عقول مثلا وكل ذلك وهم علي مَكَانتهم أي وهم في أماكنهم فلا يستطيعون الهروب حينها حتما سواء بالمُضِيِّ أي التقدُّم للأمام أو بالرجوع للخَلْف .. وفي الآيتين الكريمتين تهديدٌ شديدٌ لهم أنهم دوْما تحت قدرة الله تعالي يَفعل بهم ما يشاء لعلهم بهذا يَستقيظون ويعودون له ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ومن معاني الآيتين الكريمتين أنَّ كلّ هذا الطمْس أو المَسْخ أو غيره يحدث أيضا يوم القيامة ، ليُفيد ذلك أنهم لن يكون لهم يومها عند الله أيّ أملٍ في النجاة من النار ، فلو شاء طَمَسَ علي أعينهم فلا يَرَوْن مكان الصراط لو استبقوا إليه أي سارَعوا مُتَوَهِّمِين أنهم سيَنجون من جهنم بمرورهم عليه ، ولو شاء أوْقَفَ حركتهم فلا يستطيعون التقدُّم ولا التأخُّر ، وما شابه هذا من عذابٍ مُتَنَوِّع مُخيف
أما معني " وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴿68﴾ " أيْ ومَن نُطِل عُمْرَه حتي يَكبر في السِّنِّ نُعِدْه ونَرُدّه في صورة خِلْقَته وبين الخَلْق أي الناس إلي الحالة الأولي التي كان عليها حينما كان صغيراً ضعيفاً ، أيْ نُرْجِعه من القوة العقلية والجسدية وغيرها إلي الضعف فيها مرّة أخري .. فأين العقول المُنْصِفَة العادلة ممّا يَحدث أمام الجميع ويدلّ بصورة قطعية حاسمة علي قدرة الله تعالي علي كلّ شيء ، وأنَّ الحياة الدنيا لابُدّ مُنتهية بالموت ثم بالآخرة ، وأنه قادرعلي الانتقام من المجرمين والطمْس علي أعينهم ومَسْخهم كما ُذكِرَ في الآيات السابقة إذا استمرّوا علي ما هم فيه من إجرام ، وقادر علي بَعْث كلّ البَشَر يوم القيامة بأجسادهم وأرواحهم وحسابهم علي كل أقوالهم وأفعالهم .. وفي هذا تذكيرٌ لعلّ الغافلين التائهين الناسِين يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿69﴾ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كلِّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك ﴿ برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿69﴾ " أي ما أوحينا إلي رسولنا الكريم محمد ﷺ شعرا وإنما أوحينا إليه قرآنا كريما فيه كلّ ما يُصلِح الناس ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وما ينبغي له أي لا يُمكن أبدا ولا يَحدث ولا يَصِحّ هذا أن يكون الرسول شاعرا ، وأيضا لا ينبغي له أي للقرآن العظيم أن يكون شعرا ، فالجميع يعلم أسلوب الشعر ويعلم أنه ليس بشعر ، ولكنه – أي القرآن وأيضا الرسول ﷺ – ما هو إلا ذِكْرٌ أيْ تَذكرة للناس بربهم وبما هو في فطرتهم من عبادته وحده والتمسّك بدينه الإسلام ليَسعدوا بذلك في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف .. ثم مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وما هو إلا أيضا قرآن مُبِين أي يُقْرَأ ويُبَيِّن ويُوَضِّح لقارئه كلّ شئون الحياة علي أكمل وأسعد وجه .. وفي الآية الكريمة نَفْيٌ لمَزَاعِم مَن قد يَدَّعِي كذباً وزُوراً أنَّ القرآن الكريم ما هو إلا كالشعر وأنَّ الرسول ﷺ لم يُوح إليه شيءٌ وإنما هو شاعرٌ قد نَظّمَ هذا القرآن !!
ومعني " لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿70﴾ " أي أوحينا هذا القرآن العظيم لهذا الرسول الكريم لكي يُحَذّر مَن كان عقله حيَّاً لا مَيِّتَاً ، فهؤلاء العقلاء الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتَدَبَّرون فيما حولهم هم الذين سيَنتفعون بهذا الإنذار وهم الذين سيَسعدون تمام السعادة بهذا القرآن في دنياهم وأخراهم .. " .. وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿70﴾ " أي لكنَّ الكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ومَن يُشبههم ، الذين هم عقولهم مَيِّتَة ، أي لم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فمِثْل هؤلاء قد حقّ عليهم القول أي ثَبتَ وتَأكَّدَ عليهم العذاب ، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فهم يَستحِقّونه بسبب جرائمهم ، حيث قد جاءهم كلُّ دليلٍ ولكنهم أصَرُّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وماتوا علي ذلك .. وعذابهم يكون في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القلق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة يكون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم سيكون لهم في أخراهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿71﴾ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿72﴾ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿71﴾ " أي ألم يُشاهِد الناس ويَنظروا ويَتدَبَّر كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، والاستفهام للتقرير ، أي لقد رأوا وتأكّدوا ، أنَّ مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ نعمة أنَّه سبحانه قد خَلَقَ لهم أي أوْجَدَ مِن عدمٍ لمنفعتهم ولسعادتهم ، ممَّا عملته يده تعالي أي بقدْرته وحده دون أيّ مَشَارَكَة أو مساعَدة مِن أيّ شريكٍ آخر ، أنعاما كثيرة أي حيوانات والتي هي نِعَم لهم كالإبل والبقر والغنم وغيرها ، فهم لها مالكون أي يَتصرَّفون فيها تَصَرُّف المالك في مُلْكه أي يَتحكّمون فيها ويَنتفعون تماما بكل منافعها المختلفة .. هل عَمِىَ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة عن مظاهر قدْرة الله ونِعَمِه هذه ولم يَرَوا بأعينهم ولم يَعلموا ويَتَدَبَّروا بعقولهم ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنه التعطيل لها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿72﴾ " أي وجعلناها مُسَخَّرَة تماما مُنْقَادَة طائِعَة لهم لصغيرهم وكبيرهم فيكون منها ما يركبونه ويحمل أحمالهم من مكان لآخر ومنها ما يأكلون لحومه فينتفعون ويسعدون بكل ذلك ، ولقد كان من المُمكن جعلها كلها مُفترسة كما هي بعضها لا يقدرون عليها ولا ينتفعون بأيٍّ من منافعها
ومعني " وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾ " أي وأيضا يَنتفعون باستخدام أصوافها وجلودها وعظامها وغيرها في الاستخدامات والصناعات المختلفة ، ويَشربون ألبانها ويُصَنِّعونها .. " .. أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾ " أي ألَا تَستحِقّ كلّ هذه النِعَم وغيرها شُكْر مَن أنعمَ بها عليهم ؟! والاستفهام للتعَجُّب مِن حال مَن لا يَشكر ! إنَّ أيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ مستجيبٍ لنداء فطرته بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) لابُدَّ حتما أن يَشكرَ ربه الرزّاق الكريم الرحيم الذي أنعَمَ عليه بكلّ هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ ، يشكره بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأن يستخدمها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، فسيَجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وأيضا ألا يَستحِقّ سبحانه بهذا أنْ يُعْبَد وحده بلا أيّ شريك ؟! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأنْ يُخْلَصَ له في هذه العبادة ؟! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴿74﴾ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴿75﴾ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿76﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴿74﴾ " أي ورغم كلّ هذه الدلالات المُعْجِزات علي تمام قدْرة الله تعالي واتِّصافه بكل صفات الكمال ، ورغم كلّ هذه النِعم التي لا تُحْصَيَ ، فبعض الناس لم يكتفوا بعدم الشكر بل اتَّخذوا آلهة غيره سبحانه ليعبدوها كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نحوها !! طامِعين مُتَوَهِّمِين أنها تَنصرهم أيْ تَنفعهم أو تَمنع عنه ضرراً ما قد يُصيبهم حينما يَطلبون نفعها أو عوْنها !!
ومعني " لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴿75﴾ " أي هذه الآلهة المَزْعُومة كأصنامٍ أو أحجار أو غيرها لا تستطيع نصر مَن يعبدها ! وهذا في الحياة الدنيا ، لأنها أضعف مِن ذلك وأقلّ وأذلّ وأحقر ! بل هي لا تَقدِر على الانتصار لذواتها ولا الانتقام مِمَّن أرادها بسوءٍ لأنها جماد لا تسمع ولا تَعْقِل ! إنّما العابدون هم الذين ينصرونها !! فهم لها جنود تَحْضِر لنُصرتها وتدافع عنها حينما يعتدي عليها المعتدون بالسخرية أو التكسير أو ما شابه هذا من اعتداءات !! وكيف يكون العابد هو الأقوي من المعبود هكذا وهو الذي يُدافع عنه ويَنصره ويكون جنديّا حارسا له محافظا عليه ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! ولكنهم قد عَطّلوها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ثم يوم القيامة سيَجمعهم الله تعالي معاً ، العابِد والمعبود ، لتكون المواجَهَة ، فيُصْدَم بشدّة حينها العابدون حيث كانوا يَتَوَهَّمون أنَّ آلهتهم هي التي ستكون جُنداً لهم تدافع عنهم وتمنع عنهم أيَّ ضَرَرٍ أو عذاب فإذا هم يُفاجأون بأنها ليس لها أيّ قوة أو قيمة بل تَتَبَرَّأ منهم بل هي معهم في نار جهنم !!
ومعني " فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿76﴾ " أي لا تَشعر بالحُزن مِمَّا يقوله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن مِن كذبٍ وافتراءٍ واستكبار واستهزاء ، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام ، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم ، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين ، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما ... فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام ، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس ، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا ، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا ، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم ، وانطلقوا في دعوتكم لهما ، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن ، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما .. " .. إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿76﴾ " أي نعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما يخفونه مِن أيّ سوءٍ بداخل عقولهم مِن قول سَيِّءٍ أو تدبيرٍ لشَرٍّ ما أو نحو هذا ، وما يظهرونه من أقوالٍ أو أعمال سيّئة سواء بمفردهم أم مع غيرهم ، فلا يخفي علينا قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقنا ، وسنُحاسبهم علي كلّ هذا ، علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، في دنياهم بدرجةٍ ما مِن درجات القلق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم سيكون لهم حتما في أخراهم ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم .. وفي هذا طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿77﴾ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴿78﴾ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿79﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴿80﴾ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴿81﴾ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿82﴾ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿83﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿77﴾ " أي ألم يُشاهِد كلّ إنسانٍ ويَنظر ويَتدَبَّر ويعلم كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، بما في ذلك كلّ إنسانٍ مُكذب مُعانِد مُستكبر مُستهزيء ، والاستفهام للتقرير ، أي لقد رأيَ وتأكّد وعَلِمَ ، أنَّ الله تعالي خالقه قد خَلَقه مِن نُطفة أي من قطرة ماءٍ صغيرة والمقصود من حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مهين ؟! ثم تَخَلّق علي مراحل في بطن أمه ثم خرج للحياة بمنتهي الضعف لا يملك ولا يعلم أيّ شيء ، ثم ُأعطي من كل أنواع القويَ الجسدية والعقلية وغيرها ، أليس الله الذي يَفعل كل هذا وغيره ؟! هل استطاع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويَدَّعي أنه هو الذي يفعله ؟! أليس الذي يَخلق ما يشاء هكذا من كل أسباب القوة والضعف وكل شيءٍ في الحياة وهو العليم تمام العلم بكل شيءٍ والقادر عليه بتمام القدْرة أليس يُمكنه إعادة خَلْقكم مرة أخري يوم البعث يوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ ليُجازيكم علي الخير بكل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ بما يُناسبه وتَستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة ؟! إنه تعالي قادر بكل تأكيد ، فمَن خَلَق كل هذا البَشَر وهذا الخَلْق أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيده مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، فهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. " .. فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿77﴾ " أي فإذا بهذا الإنسان بَدَلاً أن يَتَدَبَّر في كل هذا ويعبد ربه وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ليَسعد في دنياه وأخراه ، إذا بالأمر المُفاجِيء للعقل المُنْصِف العادِل أنه خصيم مُبِين ! أيْ مُبالِغ في الخصومة أيْ مُخَاصِم شديد واضِح !! ومعَ مَن ؟! مع خالقه سبحانه !! يُعادِيه ويُقاومه ويُجادله ويحاول غَلَبَته ومُصارعته والانتصار عليه !!! أبَلَغَت به الحَماقة والسفاهَة والجَهَالَة إلي هذا الحَدّ ؟!! أين عقله ؟! ولكنه قد عَطّله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴿78﴾ " ، " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿79﴾ " أي الإنسان المُكذب المُعاند المُستكبر المُستهزيء ، لم يَكْتَفِ بأنه خصيمٌ مُبينٌ ، وإنما أيضا قد ذَكَرَ مَثَلاً لا يُمكن لعاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يَذكره ، حيث قد شَبَّهَ الخالِق بالمخلوق !! فهذا الأحْمَق السَّفيه الجاهل يَسْتَبْعِد علي الله تعالي أنْ يستطيع أنْ يُحييَ الإنسان بعظمه ولحمه وجسده وروحه مرة أخري يوم البعث للآخرة ليُحاسبه بعد أن صارت عظامه رَمِيما أي بالِيَة قديمة مُتَفَتِّتَة مُتَهَالِكَة !! إنه بهذا يُساوِي بينه وبين خَلْقِه الذين حتما لا يَستطيعون فِعْل ذلك ! ولقد ضَرَبَ هذا المَثَل دون أنْ يَتَذَكَّرَ خَلْقَه !! لقد نَسِيَ أننا قد خَلَقْناه أي أوْجَدناه وأنشأناه أول مرّة مِن عَدَم ! والخِلْقة الثانية ولا شكّ هي أسهل من الأولي حيث أصبحت معروفة وخاماتها موجودة !! كما يُثْبِت الواقع ذلك في مفهومنا نحن البَشَر ، فهو سبحانه يُخاطِبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وهذا هو معني " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿79﴾ " أي قل له ولأمثاله يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده ، قل له هذا الذي سَبَقَ ذِكْره ، ُقم بتذكرته به لكي يتذكّر ويَستفيق ليَسعد في الداريْن .. " .. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿79﴾ " أي هو تعالي يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكلّ شيءٍ عن خَلْقِه في أيّ مكانٍ وزمان ، وكيف يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم بدينه الإسلام ، وكيف يَبدأهم وكيف يُعيدهم مرة أخري يوم القيامة ليُحَاسِب بني آدم الحساب الختاميّ علي ما يعلمه تمام العلم من أقوالهم وأفعالهم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرِّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴿80﴾ " أي ودليلٌ آخرٌ علي قدْرته التامّة علي بَعْث الأجساد بأرواحها يوم القيامة بعد كوْنها ترابا ، أنه يجعل من الشجر الأخضر الذي هو رَطْب ومَلِيء بالماء الذي هو عكس النار ويُطفئها ، يجعل منه النار التي تُوقدونها حينما تُشعلونها فيه لتَنتفعون بمنافعها !! فالقادر سبحانه علي فِعْل ما فيه تَضَادّ هكذا قادِر أيضا علي ما لا تستطيعون تَخَيّله مِن البَعْث ، فتَدَبَّروا وتَعَمَّقوا في ذلك واعقلوه .. هذا ، وفي الحياة الدنيا كثيرٌ مِن المُتَضَادَّات التي تَدلّ علي تمام قدْرته تعالي كالليل والنهار والحرّ والبرد والقوة والضعف والصحة والمرض وغير ذلك الكثير
ومعني " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴿81﴾ " أي هل الذي خَلَقَ السماوات والأرض بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ والتي هي أكبر مِن خَلْق الناس كما قال تعالي في الآية الأخري " لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " ﴿غافر : 57﴾ وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما الناس يَتغيَّرون ويَمرضون ويَضعفون ويَشيخون ويَموتون فهي إذن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منهم ، فهل الذي خَلَقَ الأكْبَرَ لا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ ، خَلْق مِثْلهم أي الناس ، وفي هذا دليلٌ آخرٌ إضافة إلي الأدِلّة التي ُذكِرَت في الآيات السابقة علي قدْرته التامّة علي البَعْث .. والاستفهام للتقرير أي لكي يَقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم ، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض للذين يُكذبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح .. " .. بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴿81﴾ " أي نعم وقطعا هو قادرٌ سبحانه تمام القدْرة علي بَعْثهم بعد كوْنهم ترابا لأنه هو الخلاّق أي الكثير التخليق للمخلوقات بكل أنواعها ، ما يَعْلَمه البَشَر وما لا يَعْلَمونه ، ولأنه هو العليم أي الكثير العلم الذي يعلم بتمام العلم وبعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكلّ شيءٍ وبكلّ حَرَكات وسَكَنات خَلْقِه والقادر قدْرة تامَّة علي كلّ شيء
ومعني " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿82﴾ " أيْ إذا أرادَ سبحانه إيجاد شيءٍ أو إحداثَ فِعْلٍ ما ، فإنه بمجرّد أنْ يقول له كُن فإنه يكون ويَحدث فوراً كما يُريد ، فهو لا يحتاج مثلا إلي أدوات وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر !
ومعني " فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿83﴾ " أي بالتالي وبعدَ ما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل ومُعجزات ، فسَبِّحوه تعالي إذن ، أي نَزّهوه ، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. فهو سبحانه " .. الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ .. " أي الذي يَملك كلَّ شيء ، والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك ، أي يَملك المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة .. " .. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿83﴾ " أي سيَرْجِع الجميع حتما إليه لا إلي غيره يوم القيامة ليُحاسبهم الحساب الختاميّ علي كلّ أقوالهم وأفعالهم ، فمَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم .. فأحْسِنوا إذن الاستعداد لذلك بحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴿1﴾ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ﴿2﴾ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ﴿3﴾ إِنَّ إِلَٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴿4﴾ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴿5﴾ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿6﴾ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴿7﴾ لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ﴿8﴾ دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴿9﴾ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴿1﴾ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ﴿2﴾ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ﴿3﴾ إِنَّ إِلَٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴿4﴾ " أي يُقْسِمُ الله تعالي أنه هو الإله الواحد لكلّ الناس ولكلّ الخَلْق ولكلّ الكوْن ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، فهو يُقْسِمُ بالصافات وهي كلّ ما يَقِف في صفوفٍ من أجل الخير ، فقد تكون الصافات صفّاً هي الملائكة التي تَصْطَفّ صفوفا مُنضبطة مُنْتَظِرة تنفيذ أوامر الله تعالي ، وقد تكون السُّحُب المصفوفة التي تحمل مطرَ الخير للخَلْق ، وقد تكون تَجَمُّعات المسلمين الصالحين في الأرض المَصفوفين في كل مجالات الحياة من أجل حَمْل الخير والسعادة للجميع ونشر الإسلام والدفاع عن كلّ حقٍّ وعدلٍ وخير ، وهكذا .. أمّا الزاجرات زَجْرا فهي كلّ ما يَزْجر زَجْراً بليغاً أي يمنع منعاً مُؤَثّرا عميقا عن كل شرٍّ ويَدْفع لكل خير ، وهي أيضا قد تكون الملائكة التي تمنع الشرور عن بعض الخَلْق بأمر الله ، وقد تكون تَجَمُّعات المسلمين الصالحين الذين يجتهدون في منع البَشَر من فِعْل الشرّ ودفعهم لفِعْل الخير ليَسعدوا في الداريْن .. وأمّا التالِيات ذِكْراً فهي كل ما يَتلوا علي الناس تَذْكِرَةً عظيمة الشأن تُذَكِّرهم بالله تعالي ، فقد تكون أيّ خَلْقٍ من مخلوقاته تراه فيُذَكِّرك بالخير وفِعْله ، وقد تكون الملائكة التي تَذْكُر الله وتأتي بذِكْر الله وهو وصاياه وتشريعاته كوَحْي ٍمنه تعالي للرسل ليُبَلّغوه للناس ليَعملوا به ليسعدوا ، وقد تكون أيضا تَجَمُّعات المسلمين الصالحين الذين يَذْكُرون الله دوْماً ويَتلون القرآن أي يَتَّبِعُونه ويَقرأونه دائما ويعملون ويتمسّكون بكل ما فيه ويُذَكِّرون الناس به وبكل خيرٍ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام التي يَشملها .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ الصَّافّات والزاجرات والتاليات
ومعني " رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴿5﴾ " أي هو خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئيةٍ ومِن مَشارِق ومَغارِب حيث بدوران الأرض وبحركة الشمس فإنها تُشرق في مكانٍ ثم آخر فلها إذن مَشارق كثيرة يوميا وتَغْرُب في المقابِل في مَغارِب كثيرة .. وهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أي مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه .. وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم حيث هو مُنَزِّل عليهم هذا القرآن العظيم ومُوصيهم بالالتزام والعمل به كله لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن فهو لا يُمكن أبدا أن يَتركهم أو يهملهم فيهما .. ولذلك كله فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه بلا أيّ شريكٍ معه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهو المُسْتَحِقّ لأن تُخْلِصوا وتُحْسِنوا له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. لتسعدوا بكل ذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿6﴾ " أي ومن بعض علامات قدْرتنا علي كلّ شيء ورحمتنا بكم وإسعادنا لكم ، أننا قد زَيَّنَّا أي حَسَّنَّا وجَمَّلنا السماء القريبة إليكم والتي ترونها في دنياكم بزينةٍ هي الكواكب أي النجوم بأحجامها المختلفة ، بحيث تنفعكم بأن تُضِيء لكم سكون الليالي بتَلألأها وبأن تُحَدِّد اتّجاهات الطرق البرية والبحرية التي تَسيرون فيها ، وتُسعدكم بكلّ ذلك وغيره من المنافع ، فتَصَوَّروا لو كانت السماء مُظلمة تماما كيف يكون حالكم ليلا ؟! إنها ستكون بالتأكيد مُخيفة مُتْعِسَة لكم !!
أمّا معني " وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴿7﴾ " أي وأيضا من بعض علامات قدْرتنا علي كلّ شيءٍ ورحمتنا بكم وإسعادنا لكم ، أننا قد حفظنا السماء بقدْرتنا وبجنودنا التي لا يعلمها إلا نحن مِن أيِّ عابثٍ أو مُخَرِّب يَظنّ مُتَوَهِّمَاً أنه يُمكنه العَبَثَ بأيّ ذرّة منها أو تخريب أيّ شيءٍ فيها ، سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يعلمها خالقها وحده ، لأنّ معني شيطان في لغة العرب هو كلّ مُفْسِدٍ مُتَمَرِّدٍ علي الخير بعيدٍ عن الحقّ مِن أيِّ مخلوق ، ومعني مارد أي مُتَمَرِّد تَمَرُّدَاً شديداً ماهراً مُحْتَرِفَاً للشرِّ مُجَاوزاً لكلّ الحدود فيه
ومعني " لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ﴿8﴾ " ، " دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴿9﴾ " ، " إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴿10﴾ " أي ومِن تمام حِفْظنا لكوْننا ، لكي يَنْعَمَ ويَسعدَ بنِعَمِه كلّ الخَلْق ، أنه لا يُمكن لأيِّ عابِثٍ أو مُخَرِّبٍ يريد العَبَثَ بأيِّ ذرّة منه أو تخريبِ أيِّ شيءٍ فيه – سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يَعلمها خالقها وحده – حتي مُجَرَّد الاقتراب من هدفه الخبيث ذلك ، لأنه بمجرّد أن يحاول حتي أن يَسَّمَّع أي يُبالغ في الاجتهاد في طَلَب الاستماع إلي بعض أسرار الملأ الأعلي أيْ ما يَدُور في السماوات العُلا من تحرّكات الملائكة والكواكب وغيرها من المخلوقات ، لكي يُجَهِّزَ لشَرِّه بالمعلومات التي يظنّ أنه سيَأخذها مِن هذا التّسَمُّع ، بأجهزةٍ حديثةٍ أو ما شابه هذا ، فإنَّ هذا العابِث المُخَرِّب يُقْذَف مِن كلّ مكانٍ أي يُصابُ بما يَمنعه من عَبَثه وتخريبه الذي يُريده .. هذا ، ومن معاني تمام حِفْظه تعالي لكوْنه ، حفظه أيضا التامّ لقرآنه الكريم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، كما قال تعالي " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ﴿الحجر : 9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ ، لأنه هو مَصْدَر إصلاح البَشَر وإكمالهم وإسعادهم في الداريْن وبدونه يَفسدون ويَنقصون ويَتعسون فيهما .. " .. دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴿9﴾ " أي يُدْحَرُون دُحُورَاً أي يُدْفَعُون دَفْعَاً قويا ويُبْعَدون إبعادا شديدا عندما يُحاولون العبث أو التخريب بأيّ شيءٍ في الكوْن أو بالقرآن العظيم ، ويُعَذّبون بهذا الدفْع والإبعاد تعذيبا واصِباً أي مستمرّا مُوجِعَاً ، في دنياهم بكل قَلَقٍ وتوتّر وضيق واضطرابٍ وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة بكل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم بما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم .. " إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴿10﴾ " أي ومَن أصَرَّ مِن هؤلاء العابِثين المُخَرِّبين علي عَبَثه وتخريبه واجتهدَ بشدّة وحاوَلَ اختطاف وأخْذ عملٍ مُضِرٍّ مُخَرِّبٍ مَا علي وجه السرقة والخِفّة والسرعة والخِلْسَة ، وتَوَهَّمَ أنه قد حقّقَ شيئا ممّا يريده ، فإنه فورا يُصابُ بخيبة الأمل حيث سيُصابُ بما هو أشدّ وأعظم الذي سيُوقِفه عند حَدِّه ، سيُصاب بما يَثْقبه ، بما يَخرقه ويُضعفه ويحرقه ويهلكه ، بشهابٍ مثلا وهو الشحنة الكهربائية الحرارية النارية بين الكواكب والنجوم ، أو بغيره من مخلوقات الله في أرضه أو سمائه والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ ﴿11﴾ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴿12﴾ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ﴿13﴾ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ﴿14﴾ وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿16﴾ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴿17﴾ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴿18﴾ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴿19﴾ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿20﴾ هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿21﴾ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿22﴾ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴿23﴾ وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ﴿24﴾ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ﴿25﴾ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴿26﴾ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿27﴾ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴿28﴾ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿29﴾ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ﴿30﴾ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا ۖ إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴿31﴾ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴿32﴾ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿33﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴿34﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿35﴾ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴿36﴾ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴿37﴾ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ﴿38﴾ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿39﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ ﴿11﴾ " أي بعد هذه الأدِلّة علي تمام قدْرتنا والتي تَمَّ ذِكْر بعضها في الآيات السابقة ، فاسألهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعْده ، اسأل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين والذين لا يُصَدِّقون بوجود البعث والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، هل خَلْقهم أقويَ أم ما خَلَقْناه مِن مخلوقاتٍ أخري غير البَشَر كالسماوات والأرض والجبال وغيرها من المخلوقات القوية التي يَرَوْنها حولهم ؟! إنَّ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ والتي هي أكبر مِن خَلْق الناس كما قال تعالي في الآية الأخري " لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " ﴿غافر : 57﴾ وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما الناس يَتغيَّرون ويَمرضون ويَضعفون ويَشيخون ويَموتون فهي إذن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منهم ، هذا الذي خَلَقَ الأكْبَرَ سبحانه ، ألا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ والأضعف ، خَلْق الناس ! إنهم مخلوقون من ترابٍ مع ماءٍ فتكوَّنَ منه طينٍ لازِبٍ أي لَزِج لازقٍ ! إنهم إذن مخلوقون من شيءٍ ضعيف ! إنه قادرٌ حتما علي خَلْقهم مرة أخري بأجسادهم وأرواحهم بعد أن يكونوا ترابا ، أي قادرٌ حتما علي بَعْثهم يوم القيامة ليُحاسبهم ، فلم يَستبعدون ذلك وهم أصلا مخلوقون من هذا التراب ، من الطين ، وهو تراب وماء ؟! والخلقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة !! فالواقع يُثبت ذلك ! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا .. هذا ، وطَلَب سؤالهم في الآية الكريمة هو للتقرير أي لكي يَقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم ، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض ولِلَّوْم الشديد للذين يُكذبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح !!
ومعني " بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴿12﴾ " أي أنت تَعْجَب يا محمد ﷺ ، ويا كلّ مسلم مِن بَعْده ، مِن تكذيب هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، ومِن حقك أن تَتَعَجَّب وتَسْتَغْرب مِن حالهم السَّيِّء هذا ، لأنَّ الأدِلّة علي صِدْق القرآن والبَعْث في مُنتهي الوضوح كما ُذكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. ولكنهم هم في المُقابِل لا يكتفون بالتكذيب بل يُضيفون إليه السخرية والاستهزاء !! ولكن إذا عُرِفَ السبب بَطلَ العَجَب كما يقول المَثَل المشهور ! إنه تعطيل العقول ! إنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ﴿13﴾ " أيْ ومِن العجيب والمُسْتَغْرَب أيضا أنهم مِن صفاتهم السيئة المُلازِمَة لهم أنهم إِذا ذُكِّرُوا بما يعرفونه وبما هو مُستقرّ تماما في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، أيْ إذا ذُكِّرُوا بربهم وبإسلامهم ، وبما نَزَلَ بالمُكذبين أمثالهم قبلهم من عذاب ، فإنهم لا يَذْكُرون ذلك الذي يُذَكَّرون به أي لا يَتَدَبَّرون فيه ولا يَنتفعون به ولا بأيّ تَذْكِرَة ! والسبب أيضا – كما في الآية السابقة – هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ﴿14﴾ " ، " وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ " أيْ وأيضا مِن العجيب والمُسْتَغْرَب أنهم مِن صفاتهم السيئة المُلازِمَة لهم أنهم إذا عَلِموا بأيّ آيةٍ في القرآن الكريم أو شاهَدوا أيَّ دليلٍ علي وجود الله ومُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه ، فإنهم بدلاً أنْ يَتَدَبَّروا فيها ويَنتفعوا بها ليسعدوا في الداريْن ، إذا بهم يَستستخِرون أي يُبالِغون في السخرية والاستهزاء بل ويَطلبون السخرية أيضا مِمَّن يُشبههم في تكذيبهم وعِنادهم حتي تزداد وتنتشر ! .. " وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ " أي ولا يَكتفون بالسخرية بل أيضا يَدَّعون كذبا وزُورا أنَّ أيَّ آيةٍ ما هي إلا سحر مُبين أيْ تَخَيُّل واضح يُؤَثّر في العقول كالسحر وليس بحقيقةٍ فلذلك فهم لا يُصَدِّقونها !! والسبب أيضا – كما في الآية السابقة – هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿16﴾ " ، " أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴿17﴾ " ، " قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴿18﴾ " أيْ وأيضا يتساءلون مُستنكِرين مُسْتَبْعِدين مُسْتَهزِئين عن كيف يُبْعَثون بعد كوْنهم ترابا وقد تَحَلّلَت أجسامهم وأصبحوا عظاما قد تَفَتَّتَت ؟! وهل حتي الآباء والأجداد الذين ماتوا منذ زمن هائل سيُبْعَثون كذلك ؟! أي لا يُصَدِّقون أبدا ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم .. والسبب في أسئلتهم هذه – كما هو سبب سُخريتهم في الآية السابقة – هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴿18﴾ " أي رُدّ عليهم واذْكُر لهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده ، أنْ نَعَم بكلِّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكٍّ سيكون البَعْث ، وستكونون حينها داخِرين أيْ مُنْقَادِين خاضغين مُستسلمين أذِلّة مُهانين .. رُدّ عليهم بكلّ حَسْمٍ وتحذيرٍ لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم لعلهم يسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴿19﴾ " أي لا يحتاج أمر الله تعالي بالبعث لزمنٍ طويلٍ أو جهدٍ كبير ، وإنما بمُجرّد أن يُنْفَخَ بصيحةٍ واحدة ، يتمَّ بعثهم والجميع ، وسُمِّيَت النفخة زَجْرَة لأنَّ المُكذبين حينها سيُخْرَجون من قبورهم وهم يُزْجَرُون أي يُدْفَعُون مَذلولين ناظرين بعضهم لبعضٍ ولأهوال يوم القيامة وللعذاب الذي ينتظرهم وكانوا يُكذبون ويَستهترون ويَستهزؤن به ، وسيَستجيبون حتما جميعا للبعث وللحضور للحساب مُجْبَرين ودون أن يَتَخَلَّف منهم قطعا أيُّ أحدٍ عن أمر الله وبكلّ سرعةٍ من غير استغراقٍ لأيِّ وقت
ومعني " وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿20﴾ " أي حين يُبْعَثُون يوم القيامة ويَرَوْنَ الحقائق التي كانوا يُكذبون ويَستهزؤن بها أمام أعينهم ويَرَوْنَ العذاب الذي ينتظرهم ، يكون حالهم حال الخائف المَذعور النادِم المُتألّم المُتَحَسِّر ، ويقول بعضهم لبعض يا وَيْلنا أي يا هَلَاكَنا ، أي لقد هَلَكنا حقا بكل تأكيد ، فهذا هو اليوم الذي كنا نكذب ونستهزيء به ، إنه يوم الدين ، أي يوم الحساب والجزاء ، أي اليوم الذي ينفع فيه الدين ، دين الإسلام ، لمن كان عمل به
ومعني " هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿21﴾ " أي يُقال لهم من الله أو من الملائكة ومن المؤمنين ، أو يقول بعضهم لبعض ، علي سبيل التأنيب واللّوْم الشديد ، وهو بالتأكيد سيكون نوعا من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار ، أنَّ هذا هو اليوم الذي يَفْصِل فيه الخالق الكريم أي يَحكم ويُمَيِّز بين الناس ليُعْطِي لكلِّ صاحبِ حقٍّ حقّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، وهو اليوم الذي كنتم لا تُصَدِّقون حدوثه ، فها هو قد جاء فانتظروا إذن ما تستحِقّونه من عقابٍ علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم التي فعلتموها في حياتكم الدنيا
ومعني " احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿22﴾ " أي يأمر الله تعالي ملائكته بأنْ يَجمعوا الذين ظلموا ، بكلّ أنواع الظلم ودرجاته ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونَشْرا له أم ما شابه هذا .. " .. وَأَزْوَاجَهُمْ .. " أي ويَجمعوا كذلك كلّ أصنافهم أيْ أمثالهم أيْ مَن يُشبههم ويُعاونهم ويَتّبعهم في أقوالهم وأفعالهم ، ويَشمل هذا الجمع أيضا زوجاتهم من النساء إنْ كُنَّ شبيهاتٍ بهم في الظلم .. " .. وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿22﴾ " أي ويَجمعوا أيضا آلهتهم التي كانوا يُطيعونها في الدنيا كالأصنام وغيرها ليَعلموا كيف كان سفههم حينما عبدوها وليَرَوْا كيف هي في غاية الضعف مثلهم ولن تنفعهم بأيّ شيءٍ بل هي معهم في النار !! فتزداد بذلك حَسْرتهم وذِلّتهم وفضيحتهم وتعاستهم ، كنوع من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ في جهنم
ومعني " مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴿23﴾ " أي غير الله ، أي الآلهة التي عبدوها غيره تعالي .. أي اجْمَعوا يا ملائكتي كلّ هؤلاء الذين ظلموا وهم الذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ومعهم آلهتهم التي عبدوها غير الله ، فوَجِّهُوهم وأرْشِدُوهم جميعا إلي طريق النار .. هذا ، والتعبير بالهداية والصراط يُفيد السُّخرية الشديدة منهم والتأنيب واللّوْم الشديد لهم ، فتزداد بذلك حَسْرتهم وذِلّتهم وفضيحتهم وتعاستهم ، كنوع من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ في جهنم ، لأنه كأنَّ المعني بما أنهم لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم ، أي إلي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة ، فلْيَهتدوا إذن في الآخرة ، ولكن إلى صراط الجحيم !!
ومعني " وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ﴿24﴾ " أي يأمر تعالي ملائكته بحَبْس الذين ظلموا وهم الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ قبل دخولهم إلي الجحيم ، حَبْسهم في مكان الحساب لكي يُسْأَلوا ، وفي هذا مزيد من حَسْرتهم وذِلّتهم وفضيحتهم وتعاستهم ، كنوع من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ في النار ، حيث يُسْأَلون عمّا كانوا يعبدون في الدنيا مِن آلهةٍ غير الله تعالي ، ويُسألون عن مَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم ، ويُواجَهون بأدِلّةِ وإثباتاتِ كلّ ذلك ، لكي يذوقوا آلام ومرارات وتعاسات سؤالهم وحسابهم الختاميّ التفصيليّ واعترافهم بجرائمهم قبل تَذَوُّقهم نار جهنم
ومعني " مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ﴿25﴾ " أي يُقال لهم ، من الله تعالي أو من ملائكته ، أيضا لمزيدٍ من حَسْرتهم وذِلّتهم وفضيحتهم وتعاستهم ، كنوع من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ في النار ، ما الذي جعلكم في هذا اليوم عاجزين عن التناصُر فيما بينكم أيها الظالمون مع أنكم كنتم في الدنيا تجتمعون لينصر بعضكم بعضا ؟! إنهم لا يُجيبون هذا السؤال ، لأنهم في مُنْتَهَيَ الحَسْرة والذلّة والفضيحة والتعاسة والذهول ، وقد استسلموا وخضعوا لعذاب النار ، وانقطع عنهم أيّ أمل في أيِّ نجاة ، ولذلك فلم يَنطقوا
ومعني " بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴿26﴾ " أيْ ليسوا في هذا اليوم بقادرين على التناصُر فيما بينهم ، بل هم مُنْقادون تمام الانقياد لأمر الله تعالي ولحُكْمِه فيهم خاضعون مَذلولون تمام الخضوع والذلّة عاجزون تماما عن أىّ وسيلةٍ تنقذهم ممّا هم فيه مِن عذابٍ شديد
ومعني " وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿27﴾ " أيْ لمَّا جُمِعَ هؤلاء الظالمون هم وأشبهاهم وآلهتهم ، ووُجِّهُوا إلى صراط الجحيم ، ووُقِفوا فسُئِلوا فلم يُجِيبوا ، جاء بعضهم إلي بعض يَتجادَلون فيما بينهم ويَتخاصَمون ويَتلاوَمُون ويَتلاعَنُون علي أنْ ضلَّ بعضهم بعضا
ومعني " قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴿28﴾ " ، " قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿29﴾ " ، " وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ﴿30﴾ " أي قال حينها التابِعُون لمَن اتّبَعُوهم ، أي قال الضعفاء للرؤساء ، وهم في مُنْتَهَيَ الحسْرة والندم والذلّة ، يُلْقون عليهم باللّوْم مُتَوَهِّمين أنَّ ذلك قد يُخَفَّف عنهم بعض عذابهم ، قالوا لهم أنهم هم السبب فيما هم فيه مِن العذاب ، لأنهم هم الذين أضلّوهم حيث كانوا يأتونهم عن اليمين ، أي مِن جهة اليمين ، أي من ناحيةِ أيِّ خيرٍ لكي يمنعوهم من السيْر فيه واتِّباعه وفِعْله ، أي يمنعوهم عن اتّباع طريق الله والإسلام ، طريق الخير والحقّ والعدل والسعادة في الدنيا والآخرة .. كما أنّ من معاني اليمين في لغة العرب إضافة إلي معني الخير والبركة الذي سَبَقَ ذِكْره ، معني القَسَم والقوّة ، أيْ كنتم أيضا تُقْسِمُون لنا أحيانا بأشدّ الأيْمان أننا علي الصواب فكنا نُصَدِّقكم لِقَسَمِكم فتَبَيَّنَ الآن كذبكم ، كما أنكم كنتم في بعض الأوقات تَستضعفوننا فتَستخدمون القوّة لإجبارنا علي اتّباع الشرّ وترْك اتّباع خير الإسلام وكنا نَستسلم لكم لضعفنا .. " قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿29﴾ " أيْ يَرُدّ الرؤساء علي الضعفاء الذين اتَّبَعُوهم لكي يُبَرِّؤا أنفسهم من مسئوليتهم عن إضلالهم خوفا من تَحَمُّل مزيدٍ مِن العذاب بسبب ذلك ، قائلين لهم أنكم أنتم الذين اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم ألا تكونوا مؤمنين ، وكنا نحن مجرّد داعين لكم للشرّ فاسْتَجَبْتم ، وكنا جميعا مُعَطّلِين لعقولنا بسبب الأغشية التي وضعناها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ﴿30﴾ " أيْ ولم يكن لنا عليكم أيّ قوّة إجبار أو أيّ دليلٍ مُقْنِع نُقْنِعكم به إلا أننا بمجرّد دعوتكم للشرّ كنتم تستجيبون مباشرة باختياركم ! لأنكم أنتم أصلا كنتم قوما طاغين ! أي ظالمين مُتَعَدِّين مُتَجاوِزين لكل الحدود ساعِين مُسْرِعين لكلّ شرّ مُتَّبِعين له فاعِلين إيّاه تاركين لكلّ خيرٍ نافِرين منه مُبْتَعِدين عنه
ومعني " فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا ۖ إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴿31﴾ " أي يقول بعضهم لبعض : فبالتالي ونتيجة لكل ذلك وبسببه ، وَجَبَ وثَبَتَ وتَأَكَّدَ علينا قول ربنا أيْ عذابه ، سنذوقه معا جميعا رؤساء وضعفاء أتْبَاع ولن يَنجو مِنَّا أحدٌ منه .. إنه عذابٌ علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
أمّا معني " فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴿32﴾ " أي يقول الرؤساء للضعفاء الذين اتَّبَعوهم ، حين يَتَّهِمونهم بأنهم هم السبب فيما هم فيه من عذابٍ شديد يوم القيامة ، إننّا كنّا غَاوِين أي ضالّيِن في الحياة الدنيا فدَعَوْناكم للغِوَايَة أي للضلالة التي نحن فيها أيْ للشرّ والفساد لتكونوا مثلنا فقَبِلْتُموها بمجرّد دعوتنا لكم بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم ولم نُجبركم عليها ! فلُوموا أنفسكم إذن ولا تَلُومُونا نحن !!
ومعني " فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿33﴾ " أي إذا كان هذا هو حال الظالمين ، كما ُذكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فبالتالي فهم يومئذٍ أي يوم القيامة يَشتركون جميعا في أنهم سيُعَذبون ، الغاوِي ومَن تَمَّ إغواؤه أي المُضِلّ والمُضَلّ ، كما كانوا مُشتركين في الدنيا في الغِوَايَة أيْ في الشرّ والفساد ، فهم جميعا مُسْتَحِقّون إذن للعذاب ، فهذا هو الحُكم العادِل لله تعالي ، ولكن لكلٍّ منهم عذابٌ علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
أما معني " إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴿34﴾ " أيْ هكذا نفعل حتما بالمجرمين ، هكذا هو دوْما أسلوبنا معهم ، أن نعذبهم عذابا شديدا مُهينا ، وهم الذين ارتكبوا الجرائم بكل أنواعها ودرجاتها سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونَشْرا له أم ما شابه هذا
ومعني " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿35﴾ " أي كان الكافرون وهم الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله أصلا ، والمشركون أي الذين عبدوا غيره تعالي كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حجر أو نحوه ، كانوا في الحياة الدنيا حينما يُدْعَوْنَ لكي يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بها ، أي لكي يعبدوا الله وحده ويتمسّكوا بأخلاق الإسلام ، فإنهم يستكبرون علي ذلك وعلي مَن يَدعوهم إليه ، أي يَتَعالون تَعَالِيَاً شديدا أي يُكذبون ويُعاندون ويَستهزؤن ويَنصرفون ويُصِرُّون علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وإيذاءاتهم
ومعني " وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴿36﴾ " أي يقول المشركون وهم الذين عبدوا غيره تعالي كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حجر أو نحوه ، مِن شِدّة تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، عندما يُدْعَوْنَ لكي يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بها ، أي لكي يعبدوا الله وحده ويتمسّكوا بأخلاق الإسلام ، يقولون هل نترك الآلهة التي نعبدها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) من أجل هذا الشاعر المجنون ؟! ويقصدون بذلك – لعنهم الله – الرسول الكريم ﷺ !! وهم يعلمون تمام العلم أنه هو الصادق الأمين كما كان يُطْلِقون عليه ذلك هم بأنفسهم وأنه هو أحسنهم خُلُقاً !! ويعلمون تماما بداخل عقولهم أنه ليس بشاعرٍ وأنَّ القرآن العظيم ليس بشِعْرٍ لأنَّ للشعر أسلوبا هم أعلم الناس به ، كما أنه بالقطع ليس مجنوناً لأنَّ للمجنون صفات يعرفها الجميع كالتخريف وعدم الإدراك وسوء التصرّف ونحو ذلك .. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴿37﴾ " أي يَرُدّ الله تعالي مُكَذبا لهم أنه ليس قطعا بشاعرٍ ولا مجنون كما يَدَّعِي هؤلاء المُخَرِّفون كذبا وزُورَا ، ولكنه قد جاء بالحقّ أي بالصدق أي بكلّ عدلٍ وخيرٍ وسعادة ، فقد جاء بالقرآن العظيم وفيه الإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطلٍ والذي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد تمام السعادة مَن عمل بكلّ أخلاقه في دنياه وأخراه ، وقد صَدَّقَ ﷺ كلَّ المُرْسَلين السابقين ولم يُخالِفهم حيث كلهم قد جاءوا بعبادة الله تعالي وحده وبدين الإسلام بما يُناسِب كلّ عصر ، فالرسول ﷺ والقرآن الكريم مُصَدِّق أي مُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لِمَا قبْله من الكتب السابقة التي أوحاها الله للسابقين من خلال رسلهم قبله – وليس مُخَالِفا لها بل يُصَدِّق الحقّ الذي فيها وهي صَدَّقته حيث بَشَّرَت به قبل مَجِيئه وكان فيها ما يَتَطَابَق معه وذلك حتي يَثق فيه مَن كانوا مُتَّبِعِين لها سابقا فيَتَّبِعُوه – والتي كانت تُناسِب عصورها ليكون القرآن خاتما لها وصالِحا مُناسِبا مُسْعِدَاً لكلّ البَشَريّة في كل الأزمنة والأمكنة بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة
ومعني " إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ﴿38﴾ " أي يُقالُ للظالمين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، يُقالُ لهم مباشرة كدلالةٍ علي شِدَّة غضب الله تعالي عليهم ، إنكم ستَذوقون اليوم في الآخرة عذاب النار المُؤلِم المُوجِع بكلّ أشكاله وصوره ودرجاته .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنْ يُقالَ لهم هذا في الدنيا علي لسان الرسول ﷺ والمسلمين الدعاة مِن بَعده كتحذيرٍ لهم ليَستفيقوا قبل فوات الأوان ليَعودوا لربهم ولإسلامهم حتي لا يَذوقوا العذاب الأليم ، عذاب الدنيا مُتمثّلا في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم عذاب الآخرة حيث ما هو حتما أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
ومعني " وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿39﴾ " أيْ لم نَظلمكم بأيّ ذرّة ظلم ، وإنما أعطيناكم بتمام العدل ما تستحِقّونه من العذاب المُؤلِم المُوجِع ، فليس الذي تُعْطَوْنَه منه سواء في دنياكم أم أخراكم إلا بسبب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم التي تعملونها وعلي قدْرها وبما يُناسبها ، وقد حَذّرناكم كثيرا من خلال رسلنا والمسلمين الدعاة مِن بَعدهم فلم تستجيبوا وعانَدتم وكذبتم واستكبرتم واستهزأتم ، فلا تَلُومُوا إذن إلا أنفسكم
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿40﴾ أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴿41﴾ فَوَاكِهُ ۖ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴿42﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿43﴾ عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿44﴾ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿45﴾ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴿46﴾ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴿47﴾ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴿48﴾ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴿49﴾ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿50﴾ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴿51﴾ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴿52﴾ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴿53﴾ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ﴿54﴾ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿55﴾ قَالَ تَالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴿56﴾ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿57﴾ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴿58﴾ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿59﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿60﴾ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴿61﴾ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴿62﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴿63﴾ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴿64﴾ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴿65﴾ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿66﴾ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ﴿67﴾ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴿68﴾ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴿69﴾ فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴿70﴾ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ﴿71﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ ﴿72﴾ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴿73﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿74﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في هذه العبادة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿40﴾ " أي هؤلاء حتما مُسْتَثْنُون من هذا العذاب الأليم الذي يَنال الظالمين المجرمين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. والأمر قطعا ليس مجرّد استثناء مِن العذاب ! بل لهم حتما في دنياهم تمام الخير والسعادة ثم لهم في أخراهم في درجات الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، لأنهم قد عبدوا الله تعالي وحده بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكانوا مُخْلِصِين مُحْسِنِين في عبادتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فقد كانوا مُتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومعني " المُخْلَصين " أي الذين اسْتَخْلَصَهم الله تعالي أي اختارهم لعوْنه وتوفيقه وسَداده وتيسيره لأمورهم ، وسبب هذا الاختيار للعوْن والإسعاد هو حُسْن خُلُقهم ، ومِن حُسْن الخُلُق أنهم كانوا مُخْلِصِين قطعا ، أيْ أنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادة الله تعالي وحده بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق الإسلام واجتهدوا في ذلك فاختارهم سبحانه لكي يُساعدهم ويُسْعِدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴿41﴾ " أيْ أولئك العباد الذين يَعبدون الله تعالي وحده بلا أيّ شريكٍ والمُتَّصِفُون بتلك الصفة الكريمة وهي الإخلاص والذين ُذكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، لهم في الجنة رزق عظيمٌ مَعْلومٌ في وقته لا يتأخّر أبدا عن طَلَبهم في أيّ وقتٍ يريدونه ، ومعلومٌ في صفاته الطيِّبَة الحَسَنَة المُمْتِعَة المُسْعِدَة حيث هو لذيذ الطعم حَسَن المَنظر مستمرّ علي تَنَوُّعه وحُسْنه لا يَتَغَيَّر أو يَنقطع أو يُمْنَع أو يُصيب بالمَلَل ، إلى غير ذلك مِن طِيِبِ الصفات التي لا يُمكن تَخَيُّلها
ومعني " فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴿42﴾ " أي هذا الرزق المَعْلوم الذي سَبَقَ ذِكْرُه في الآية السابقة هو فواكِه ، أي ما يُتَفَكَّهُ به ، أي ليس من الضروريّات التي يحتاجها الجسم ، لأنَّ الأجساد في الجنة لا تحتاج لطعام يَحفظها ، فهي محفوظة بكرم الله وحفظه وفضله ، ولكن كلّ الطعام والشراب وغيره هو للتَّفَكُّه أي للتَّنَعُّم وللتّلَذّذ وللسعادة .. " .. وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴿42﴾ " أي مع ما هم فيه من تمام التنعيم والترفيه يكونون أيضا في غاية التكريم أي التعظيم والتوقير والتشريف من الله تعالي ومِن خَدَمِهم مِن ملائكته الكرام بما يُحَقّق لهم تمام السعادة
ومعني " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿43﴾ " أي هم في بساتين وقصور ليس فيها إلا النعيم التامّ الخالد حيث ما لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر
ومعني " عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿44﴾ " أيْ مِن علامات تكريمهم أيضا وتمام نعيمهم وراحتهم أنهم يجلسون في تمام الاسْتِجْمَام والراحة علي سُرُر – جمع سرير – مُزَيَّنَة بأفخم وأجمل أنواع الزينة والمفروشات ، ويُقابِل بعضهم بعضا وإذا أراد أحد مقابلة آخر وزيارته يجده في مُقَابَلَتِه وأمامه ، والمقصود أنه لا يوجد أيّ تَعَبٍ في الانتقال والزيارة وعقد المُقابلات والحفلات للتّسامُر ولتمام السعادة
ومعني " يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿45﴾ " أي يَدُور عليهم خَدَمُهم بكؤوسٍ مَليئةٍ بكلّ أنواع الشراب الكثير المُتَنَوِّع الفَخْم اللذيذ المُمْتع المُسْعِد ، والمَعِين هو الماء الجاري الظاهر ، والمقصود أنَّ كلّ أنواع المشروبات جاريَة حاضِرة مُتَوَفّرة بكثرة وعند الطَلَب وحسب المطلوب وبلا أيّ جهد ولا تنتهي
ومعني " بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴿46﴾ " أي هذه المشروبات لوْنها صافٍ مُشْرِق حَسَن مُبْهِج مِن أحسن الألوان وأفضلها ، وهي أيضا تُعطِي لذّة أيْ مُتْعَة مُسْعِدَة لشاربها أثناء الشرب وبَعْده بسبب طِيب لونها وطعمها ورائحتها ومَلْمَسها وكلّ مواصفاتها
ومعني " لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴿47﴾ " أي هذه المشروبات بكلّ أنواعها المختلفة ليس فيها أيّ اغْتِيَالٍ للعقول وللأجسام ، أي الذهاب بها أو إيذائها ، كما هي بعض مشروبات الدنيا كالخمور وما شابهها .. " .. وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴿47﴾ " أي ولا يُمكن أبدا عنها أي عن طريقها أي بسببها يُنزَفون ، أي تُسْتَنْزَف أي تُسْتَهْلَك تدريجيا وتَنتهي عقولهم وأجسامهم وجهودهم وأملاكهم وغيرها ، كما هو الحال في دنياهم ، حيث المُسْكِرَات وأشباهها تَسْتَنْزِفُ طاقاتهم ، كما يُثْبِت الواقع ذلك
ومعني " وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴿48﴾ " أيْ أهل الجنة ، رجالا ونساءً ، يكونون في أجمل وأحليَ صورة ، وفي أعلي درجات الحب والصفاء والعِفّة فيما بينهم ، فالنساء قاصراتُ الطرْفِ أيْ حابِسَات الأعْيُن أي يَمْنَعْنَ عيونهنَّ عن النظر لغير أزواجهنّ ، كما أنهنَّ مْن شدّة جمالهنَّ فهُنَّ يقْصِرْنَ أيضا طرْفَ أزواجهنّ أيْ يَجعلهنَّ مُقْتَصْرين فقط عليهنّ فلا يَنظرنَ لغيرهنّ ، والجنة قطعا ليس فيها صفات الدنيا التي كانت تَتَطَلّب غضَّ البَصَر حيث الكلّ جميل سعيد لا يحمل إلا كلّ صفات الخير دون أيّ شرّ .. " .. عِينٌ ﴿48﴾ " أيْ ومِن صِفاتهنَّ أيضا أنهنَّ عِين ، جَمْع عَيْنَاء ، وهي المرأة واسعة العَيْن ، وهي دَلَالَة علي شدّة جمال نساء أهل الجنة
ومعني " كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴿49﴾ " أي نساء الجنة ، من شدّة جمالهنَّ ، يَكُنَّ كالبيض المَكْنُون أي كاللؤلؤ المُصَان المَحفوظ المَسْتُور المُكَرَّم الذي لم تَمَسّه أيُّ يَدٍ بحيث تُحْدِث فيه أيّ عيْب
أما معني " فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿50﴾ " أيْ ومِن تمام نَعيم أهل الجنة أنهم أثناء تَمَتّعهم الذي سَبَقَ ذِكْره فإنهم يُقْبِل بعضهم علي بعضٍ يَتسامَرون ويَتَحاوَرون بكلّ الحبّ والصفاء مُتَذَكّرين بعض أحوالهم في الدنيا ليَشكروا الله تعالي أكثرَ وأكثر علي ما هم فيه من تمام سعادةٍ دون أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسة
ومعني " قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴿51﴾ " أيْ قال أحد أهل الجنة لمَن حوله أثناء محادثاتهم المُسْعِدَة حَاكِيَاً لهم عن قِصّته أنه كان له قرين أيْ صاحب مُلازِم له في الدنيا
ومعني " يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴿52﴾ " أي يسأله هذا الصاحب السَّيِّء بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وتَعَجُّب واسْتِبْعاد ولَوْم وتشكيك ومحاولة إبعادٍ عن الإيمان بالله تعالي واتّباع الإسلام ، يسأله هل هو يُصَدِّق بوجود بَعْثٍ للأجساد بأرواحها يوم القيامة بعد كوْنها ترابا وبوجود آخرةٍ وحسابٍ وعقاب وجنة ونار ؟!!
ومعني " أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴿53﴾ " أي ويُضيف له سؤالا آخر وهو أنه هل يُصَدِّق بهذا الأمر الذي هو في غاية البُعْد والاسْتِغْراب ويدعو للسُّخرية – مِن وِجْهة نظر هذا المُكذب المُعانِد – وهو البَعْث ؟! أي هل تُصَدِّق أننا بعد الموت وكوْننا ترابا مُتَنَاثِرا وقد تَآكَلَت لحومنا وتَفَتَّت عظامنا هل بعد كلّ هذا يُمكن إعادتنا كما نحن الآن بأجسادنا وأرواحنا يوم القيامة ؟!! وأن نكون أيضا مَدِينين أيْ مُحَاسَبِين ومُجَازِين علي أقوالنا وأفعالنا بالخير خيرا وبالشرّ شرَّا ؟!! ماذا تقول أيها الرجل ؟!! ألاَ تستيقظ ممّا أنت فيه ؟!!
ومعني " قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ﴿54﴾ " أي يقول لهم الله تعالي أو الملائكة ، اطّلِعُوا علي حالِ هذا المُكذب وحالِ أمثاله في النار ، أي انظروا إليهم ، لِتَزدادوا حمدا لله علي ما أنتم فيه من تمام السعادة ولِتَطْمَئِنّوا أنّ العدل قد تحَقّقَ وأخذَ كلُّ مظلومٍ حقّه مِمَّن ظَلَمَه حيث سيَراه يُعاقَب في العذاب .. وكذلك قد يكون هذا مِن قوْل الرجل من أهل الجنة الذي كان يَحْكِي هذه القصة حيث يقول لمَن حوله هيا صاحِبوني لِنَطّلِعَ علي حال هذا الذي ذَكَرْتُ لكم قِصَّته وهو في النار لنزداد حمدا لربنا علي ما نحن فيه من سعادة تامّة
ومعني " فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿55﴾ " أيْ فنَظَرَ ، ونظرَ مَن معه أيضا ، وكلّ مَن أراد النظر من أهل الجنة ، له ولأمثاله من أهل النار ، فرَأوه في سواء الجحيم أو في وَسَطها ، أي ليس لهم أيّ أملٍ في أيِّ نجاةٍ من عذابها ، ليزداد بذلك أهل الجنة حمدا لله علي تمام السعادة التي هم فيها .. هذا ، والله تعالي يُعَرِّف كلَّ مظلومٍ بمَن ظَلَمَه وهو يُعَاقًب في النار ليطمئنَّ أنه قد أخذ له حقّه ، وهو سبحانه الذي سيُعَرِّفه به لأنَّ النار تُغَيِّر الأشكال بلهيبها
ومعني " قَالَ تَالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴿56﴾ " أي قال لصاحبه هذا الذي كان مُكذباً مُعَانِداً في الدنيا حينما رآه في وسط النار ، والله تعالي هو الذي يُؤَهِّل بقدرْته أهل الجنة لمعرفة أهل النار ومُخاطَبتهم ، قال له لائماً لوْمَاً شديداً : والله لقد قارَبْتَ لكي تهلكني معك لو كنتُ استجبتُ لك ، وهذا يُفيد كثرة تكراره عليه افتراءاته وتخريفاته ومحاولاته المُتَكَرِّرَة المُلِحَّة لإبعاده عن ربه وإسلامه
ومعني " وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿57﴾ " أيْ لكنْ لولا فضل الله عليَّ ، وعلي كلّ مسلمٍ ، بأنْ أنعمَ علينا بأعظم نِعْمَةٍ تستحِقّ أكثر شكرٍ ، نعمة الإسلام والثبات والاستمرار عليه بعدما اخترناه نحن بكامل حرية إرادة عقولنا فيَسَّرَ لنا سبحانه بعد ذلك التمسّك بكلّ أخلاقه فسَعِدْنا في دنيانا وأخرانا (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. لولا هذه النعمة العظمي لكنتُ الآن مِمَّن ُأحْضِرُوا للعذاب معك في جهنم
ومعني " أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴿58﴾ " ، " إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿59﴾ " ، " إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿60﴾ " ، " لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴿61﴾ " أي يَستمرّ في قوله لصاحبه المُكذب المُعانِد لائِمَاً له لوْمَاً شديداً سائلاً إيّاه هل لن نموت إلا المَوْتَة الأولي في الدنيا ثم نختفي وننتهي في التراب وبالتالي فلا بَعْثَ بعدها ولا عذاب كما كنتَ تَدَّعِي ألم تَرَ كَذِبَ إدِّعائك الآن ؟!! .. وقد يكون ذلك أيضا قوله لأهل الجنة حوله علي سبيل شدّة الفرح والشكر لنعمة الله الكبري حينما يُؤَكِّد عليهم الملائكة ما كانوا مُوقِنين به في الدنيا أنهم في الجنة خالدين دون أيّ موتٍ بعد المَوْتة الأولي في دنياهم فيقولون فَرِحِين مُؤَكِّدين لِمَا سمعوه من الملائكة مُكَرِّرين سؤالهم عليهم علي سبيل التقرير لِمَا هو مُقَرَّر مَعْلوم للمؤمنين في القرآن الكريم وعلي سبيل التّلَذذ والتّمَتُّع بهذا الكلام : أنحن مُخَلّدون مُنَعَّمون في الجنة كما نحن الآن ولسنا بمَيِّتين بعد ذلك إلا المَوْتَة الأولي التي متْناها في دنيانا وما نحن بمُعَذبين بأيّ عذابٍ مثل الذين يُعَذبون ؟!! والإجابة نعم بكل تأكيد .. وهذا الكلام يقولونه أيضا بعضهم لبعض بما يُفيد أنهم مُتأكّدون من هذا الخلود في هذا النعيم لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلِفُ وعْده مُطلقا .. ولهذا يقولون بعد ذلك " إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿60﴾ " أي حقا وبالتأكيد هذا الذي نحن فيه من النعيم التامّ والراحة والسعادة التامّة الخالدة بلا نهاية هو بالقطع النجاح العظيم الذي ليس بعده أيّ نجاح وفوزٍ أعظم منه .. وقد يكون هذا من قول الله تعالي للناس في القرآن الكريم لتَحفيزهم ليَنالوه بفِعْلهم كلّ خيرٍ وترْكهم كلّ شرٍّ من خلال تمسّكهم بكلّ أخلاق الإسلام ، وهذا هو معني " لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴿61﴾ " أي لِمِثل هذا العطاء العظيم الهائل الخالد الكامل السعادة اجتهدوا واسْعوا وسَارِعُوا يابني آدم العاملين في الحياة الدنيا للحصول عليه ، فهذا هو الذي يجب ويَسْتَحِقّ أن يكون فقط الهدف الحقيقي الذي علي أيِّ عامِلٍ يَعمل ويَسعيَ في دنياه أن يضعه دائما أمام عينيه يَجتهد في العمل له لكي يحصل عليه وذلك بفِعْل كلّ صالح ، ولا يضيع عمله ووقته وجهده في فِعْل أيّ سوءٍ فيَخسر حتما هذا الهدف ومعه مثل هذا الفضل الكبير
أما معني " أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴿62﴾ " أي هل ذلك النعيم العظيم الخالد في الجنة والذي سَبَقَ الحديث عنه خيرٌ نُزُلاً أي مكاناً يُنْزَلُ فيه فيُكْرَم النازِل إكراما عظيما ، أم شجرة الزّقّوم ؟! والاستفهام للتقرير أي لكي يُقِرّ كلّ مَن يَسمع ويقول نعم بالتأكيد ، كما أنه للتأنيب ولِلّوْم الشديد لِمَن لا يعمل لتحصيل هذا النعيم ويَفعل الشرور ويُسِيء الاختيار بين أمريْن واضِحَيْن تماما هكذا .. والزّقّوم هو كلّ طعامٍ قاتلٍ كريهِ الطعم والرائحة ، وشجرة الزّقّوم هي التي تُنْبِته في النار ليكون نوعاً مِن طعام أهلها لتعذيبهم .. إنَّ الإجابة بكلّ تأكيدٍ واضحة لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ! وهي بالقطع أنَّ النعيم العظيم الخالد في الجنة هو خير ولا يُقَارَن بأيّ شيء !!
ومعني " إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴿63﴾ " أي في الآخرة ، هذه الشجرة يجعلها سبحانه فتنة أي مِحْنَة وعذابا ، للظالمين ، أي الذين ظلموا ذواتهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم ، بأيّ صورةٍ مِن صور الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. وفي الدنيا ، هي أيضا جعلها الله ، أيْ جَعَلَ ذِكْرَها ، فتنة ، أي اختبارا ، لأنَّ هؤلاء الظالمين ، لمّا سمعوا في القرآن الكريم أنَّ شجرةً في النار ثمارها تكون عذابا كذّبوا وسَخِرُوا حيث كيف توجد في النار والنار أصلا تَحْرِق الشجر ؟!! إذن القرآن ليس صادقا !! بينما الذين آمنوا ، أي صَدَّقوا بوجود الله وتمسّكوا بأخلاق إسلامهم ، صَدَّقوا بذلك تماما بلا أيّ شكّ ، لتأكّدهم من تمام قدرة الله تعالي الخالق العظيم القادر علي كلّ شيءٍ وعلي خَلْق المُتناقِضات ، والتي يوجد منها الكثير في الحياة الدنيا كدليل علي قدْرته علي خلق شجرٍ في النار ، كالليل والنهار مثلا والحرّ والبَرْد والقوة والضعف وغير ذلك الكثير والكثير ، بل الشجر ذاته تخرج منه النار عندما يُشْعَل رغم وجود الماء فيه ! ثم شجرة الزّقّوم خَلَقها سبحانه من النار وتَتَغَذّي عليها لا علي الماء !
ومعني " إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴿64﴾ " أيْ مَنْبَتها وجِذْرها يخرج من أسفل الجحيم أيْ مِن قَعْر النار ، أمّا أغصانها وفروعها فترتفع وتنتشر فيها
ومعني " طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴿65﴾ " أيْ ثمرها الذي يَطلع منها يشبه في شدّة قُبْحه وسُوئه ، رأس الشيطان ، والمقصود أنَّ صفات هذه الشجرة هي كلّ ما يُمْكِن للعقل أن يَتَخَيَّله أو يأتي علي خاطره مِن قُبْحٍ وسُوء ، لأنه قد استقرّ في عقول البَشَر أنّ لفظ شيطان يُفيدُ كلّ ما هو قبيح المنظر سَيِّء الصفات ، وفي الحياة الدنيا مشهور علي ألسنة كثير من الناس إذا رأي منظرا أو إنسانا قبيحا يقولون كأنه شيطان ، والآية الكريمة جعلت رؤوس الشياطين نَكِرَة غير مُعَرَّفَة لكي يَنطلق خيال كلّ قاريءٍ للقرآن الكريم بما يشاء في تَخَيُّل غاية السوء والقُبْح
ومعني " فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿66﴾ " أيْ هؤلاء الظالمون الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة والذين يستهزئون بمَن يُحَدِّثهم عن هذه الشجرة ، سيأكلون من ثمارها وأوراقها كثيرا حتى تمتلئ بطونهم ، إجباريّا بغير رغبة منهم ، رغم قُبْحها وسوئها ومَرارتها ، ليكون ذلك مزيدا من التعذيب والإذلال والإهانة لهم
ومعني " ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ﴿67﴾ " أيْ كلّما أكَلُوا من هذه الشجرة كلّما عَطشوا فيُريدون ماءً ليَشربوا ، فيُسْقون إجباريَّاً علي أكلتهم التي في بطونهم هذه شَوْبَاً أي مَزيجاً من حميمٍ أيْ من ماءٍ مَغْلِيّ ، أي يُعطون سائلا ليَشربوه هو عبارة عن مزيج من الماء المغليّ والصديد والدم وفتات لحم المُعذبين وما شابه هذا من الخليط الذي يُعذبهم ويُقَطّع بطونهم وأحشاءهم ولا يَرْوِي قطعا عَطَشَهم
ومعني " ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴿68﴾ " أيْ بعد أن يُعَذّبوا لفترةٍ بعذاب طعام شجرة الزّقّوم وشراب الشوْب من الحميم الذي سَبَقَ ذِكْره ، يُعَادُون لمُسْتَقَرِّهم الدائم في مكان عذابهم الأصليّ المُوجِع في النار ، ثم يعودون مرة أخري لموعد الطعام والشراب المُؤْذِي المُتْعِس حينما يحين وقته ، ثم للنار بأنواع عذاباتها المختلفة ، وهكذا مِن نوعِ عذابٍ لآخر إلي ما شاء الله
أما معني " إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴿69﴾ " ، فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴿70﴾ " أيْ أنَّ السبب فيما فيه هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم من عذابٍ شديد ، هو ليس ظلما لهم بالقطع ، وإنما لأنهم قد وجدوا آباءهم ضالّين أي ضائعين أي يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. " فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴿70﴾ " أي فكانوا مُتَّبِعين لخطواتهم تماما وهم يُهرعون أي يُسْرِعُون في كل شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ دون أيّ تفكير ! ألم يكن لهم عقول فيُمَيِّزون بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لهم وتحذيرٌ للمسلمين ألا يفعلوا أبدا مثلهم حتي لا يتعسوا مثل تعاساتهم التامّة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ﴿71﴾ " أيْ لقد كان كثيرٌ مِن السابقين ضالّين مِثْلهم لا يُحسنون استخدام عقولهم ، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء ، لأنهم أيضا مثلهم قد وضعوا عليها أغشية وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولفظ " .. أَكْثَرُ .. " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسَعِدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. وفي الآية الكريمة تَسْلِيَة للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة مِن بعده ، أيْ لا تَحزنوا عليهم ولا تتأثّروا بأفعالهم وأقوالهم فلستم إذن أول مَن يُكذبهم الذين يَدْعونهم ! واستَمِرُّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي حُسْن دعوتهم وغيرهم لله وللإسلام لتستمرّ سعادتكم ومَن حولكم في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ ﴿72﴾ " ، " فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴿73﴾ " أي ولقد أرسلنا في هؤلاء الأقوام السابقين رُسُلاً كثيرين يُحَذّرونهم ويُخَوِّفونهم من النتائج السَّيِّئة للضلال أي للشرّ والفساد بكلّ أنواعه ، حيث في الدنيا لهم درجة ما من درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيق أو اضطراب أو صراع مع الآخرين وبالجملة لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، وقد يُهْلَكون تماما برياح أو سيول أو زلازل أو غيرها (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، ثم في الآخرة لهم حتما ما هو أتمّ تعاسة وأشدّ وأعظم .. ولكن بعض هؤلاء الأقوام لم يستجيبوا لذلك .. " فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴿73﴾ " أيْ فتَأَمَّل وتَدَبَّر وتَعَقّل يا كلّ مَن أراد الاعتبار والاستفادة كيف كان نهاية أمر هؤلاء الذين تمّ إنذارهم ولم يستجيبوا .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لمِثْل هؤلاء لعلهم يستقيظون قبل فوات الأوان ونزول العذاب ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، وتحذيرٌ للمسلمين ألا يفعلوا أبدا مثلهم حتي لا يتعسوا مثل تعاساتهم التامّة في دنياهم وأخراهم
ومعني " إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿74﴾ " أي هؤلاء حتما مُسْتَثْنُون من هذا العذاب الأليم الذي يَنال الظالمين المجرمين الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. والأمر قطعا ليس مجرّد استثناء مِن العذاب ! بل لهم حتما في دنياهم تمام الخير والسعادة ثم لهم في أخراهم في درجات الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، لأنهم قد عبدوا الله تعالي وحده بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكانوا مُخْلِصِين مُحْسِنِين في عبادتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فقد كانوا مُتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومعني " المُخْلَصين " أي الذين اسْتَخْلَصَهم الله تعالي أي اختارهم لعوْنه وتوفيقه وسَداده وتيسيره لأمورهم ، وسبب هذا الاختيار للعوْن والإسعاد هو حُسْن خُلُقهم ، ومِن حُسْن الخُلُق أنهم كانوا مُخْلِصِين قطعا ، أيْ أنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادة الله تعالي وحده بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق الإسلام واجتهدوا في ذلك فاختارهم سبحانه لكي يُساعدهم ويُسْعِدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿75﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿76﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿77﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿78﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿79﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿80﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿81﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿82﴾ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿83﴾ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿84﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿85﴾ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴿86﴾ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿87﴾ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿88﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿89﴾ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿90﴾ فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿91﴾ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿92﴾ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿93﴾ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿94﴾ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿95﴾ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿96﴾ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴿97﴾ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴿98﴾ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴿109﴾ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿110﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿111﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿112﴾ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴿113﴾ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴿114﴾ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿115﴾ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴿116﴾ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴿117﴾ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿118﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴿119﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴿120﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿121﴾ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿122﴾ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿123﴾ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿124﴾ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴿125﴾ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿126﴾ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿127﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿128﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿129﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ﴿130﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿131﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾ وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿133﴾ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿134﴾ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿135﴾ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ﴿136﴾ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ﴿137﴾ وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿138﴾ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿139﴾ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿140﴾ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴿141﴾ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿142﴾ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿143﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿144﴾ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿145﴾ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴿146﴾ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴿147﴾ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ﴿148﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أن أهل الحق والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصص هؤلاء الأنبياء الكرام في سور متعددة في القرآن الكريم وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعتها من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿75﴾ " أيْ ومِن أمثلة نصرنا وإسعادنا لعبادنا المُخْلصين أنَّ رسولنا نوحا عليه السلام قد دعانا وطَلَبَ منّا أن ننصره على قومه المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين لم يَستجيبوا له ويُسْلِموا رغم بقائه بينهم ألف سنة إلا خمسين عاما يَدعوهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ، فكنا نحن له نِعْمَ المُجِيبون ، أي استجبنا له بأحسِن إجابة ، فما أَنْعَمَ وأجملَ وأطيبَ وأعظمَ وأسعدَ هذه الإجابة ، حيث قد أهلكنا أعداءه بالطوفان الذي أغرقهم جميعا ونصرناه والمؤمنين معه ومَكَنَّاهم وأسْعدناهم في كلّ الأرض .. وهكذا يَستجيب تعالي لكلّ مَن يَلجأ إليه (برجاء مراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿76﴾ " أيْ وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ أنقذناه وخَلّصْناه وسَلّمْناه هو وأهله ، أي وأهل دينه الإسلام ، أي والمؤمنين معه من عائلته ومن غيرهم ، حيث ركبوا في السفينة التي سارَت بهم إلي برّ الأمان .. نجّيناهم من الحزن الشديد والمَشقّة العظيمة وهي الطوفان المائيّ الذي أغرقنا به كل المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين جميعا .. وهذه النجاة هي بفضلنا وكرمنا ورحمتنا
ومعني " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿77﴾ " أي أهلكنا المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وأبْقينا أهل الخير حيث تَناسَلُوا وتَكاثَروا وانتَشَروا في كلّ الأرض .. وهذا هو الحال دائما ، حيث ينتشر الخير وينمو ويَسعد به الناس تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ما داموا مُتوَاصِلين دائما مع ربهم متمسّكين دوْما بكلّ أخلاق إسلامهم ، ويُيَسِّر لهم ربهم حتما هذا الخير ويزيده لهم ويَحميهم مِن الشرّ ما داموا مُستمرّين علي ذلك ، بل ويَنْزَوِي ويَنْقَرِض ويَتَلاَشَيَ الشرّ تدريجيا ويُصبح كأنه غير موجود .. فإنْ تَرَكَ الناس الخير ونَسوا ربهم ودينهم وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، عادَ بالقطع الشرّ وانتشرَ وتَعِسَ الجميع به في الداريْن ، إلي أنْ يستقيظوا ويعودوا لخير ربهم وإسلامهم فتعود سعادتهم ... إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿78﴾ " أي وأبْقَيْنا على نوح ذِكْرَاً جميلا ومَدْحا حَسَنَاً في مَن تأخَّر بعده مِن الناس يَذكرونه به حتي يوم القيامة .. والمقصود أنَّ الله تعالي مِن حُسْن خُلُقه وحُسن دعوته للآخرين وطول صبره عليهم جعله يعمل أعمالَ خيرٍ كثيرةٍ مُتنوّعة ويَسَّرها له وَوَفّقه فيها وباركها أي زادها خيرا بحيث يتركها للآخرين الذين يأتون من بعد وفاته فينتفعون بها كثيرا فيَذكرونه دائما إلي نهاية الدنيا وقيام الساعة علي ألسنتهم بكل خيرٍ ويَدْعون له فيَزداد ثوابه في الآخرة وتَعْلُو درجاته .. وهذا هو حال كلّ الرسل الكرام .. بل هذا هو الحال الذي علي كلّ مسلم أن يسعي إليه من خلال الاجتهاد في التَّشَبُّه بهم
ومعني " سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿79﴾ " أي وبسبب أعماله الحَسَنَة جعلنا الناس دوْما خاصة الصالحين منهم كلّما تَذَكَّروه يُسَلّمون عليه في جميع الأجيال وثَبَّتْنَا ذلك حتي نهاية الحياة الدنيا ، فبمجرّد أن يَذْكُروه قالوا " عليه السلام " أي يَطلبون من الله ويَدْعونه أن اعْطِهِ ياربّ السلام والأمن والسلامة والطمأنينة والسعادة في أعلي درجات الجنات بعدما أعطيتَ له ذلك في دنياه ، مع إعطائه السلامة من أن يَذْكره أيّ أحدٍ بسوءٍ في العالَم حتي يوم القيامة .. لقد سلّمَ الله تعالي عليه ليَقتديَ بذلك البَشَر فلا يَذكره أحدٌ بسوءٍ مَا ، بل بكلّ خير
ومعني " إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿80﴾ " أيْ كما أعطاه الله الكريم ذو الفضل العظيم كلّ هذا الخير الكثير (برجاء مراجعته في الآيات السابقة لتكتمل المعاني﴾ ، فهكذا سيكون حال كلّ مُحسِن ، كل مُتقِن مُجيد ، كلّ متمسّكٍ بكل أخلاق إسلامه ، سيُؤتَيَ حتما من فضل ربه من الخير التامّ ما يُسعده ومَن حوله سعادة تامّة في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني " إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿81﴾ " أيْ والسبب في كلّ هذا الخير العظيم الذي أعطاه الله إيّاه في دنياه وأخراه (برجاء مراجعته في الآيات السابقة لتكتمل المعاني﴾ ، والذي سيُعطيه حتماً لكلّ مُحْسِنٍ مُتَشَبِّهٍ به مِن المسلمين ، أنه كان مِمَّن عَبَدوا الله تعالي وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فكان من المؤمنين به أي المُصَدِّقِين بوجوده وبكتبه وآخرهم القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وكان من المتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿82﴾ " أيْ وإضافة إلي النِعَم العظيمة التي سَبَقَ ذِكْرها في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، هناك نعمة أخري عظيمة أيضا نُخبركم بها ونؤكّد عليها وهي إهلاك الآخرين وهم كلّ أعدائه المُكذبين بإغراقهم بماء الطوفان ، بينما هو والمؤمنين معه قد نجيناهم ونصرناهم عليهم .. هذا ، ولفظ " الْآخَرِينَ " يُفيد تمام الاحتقار لهؤلاء الغَرْقَيَ المُهْلَكِين !
أما معني " وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿83﴾ " أيْ ولقد كان مِن شِيعته ، أي مِن أتْباعه السائرين علي طريقته ، أيْ مِن اتْباع نوح ، كان إبراهيم ، عليهما السلام ، أي اتَّبَعَه علي دين الإسلام ، وعلي حُسْن دعوة الناس له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة ، وعلي الصبر علي أذاهم حتي يستجيبوا لله وللإسلام فيسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿84﴾ " ، " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿85﴾ " أي اذكر أيها العاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء حين جاء إبراهيم إلى ربه ، أي أقْبَلَ علي عبادة ربه وأسرع إليها ودعا غيره لها بقلبٍ سليمٍ ، أي وكان حاله وكانت صفته أنه يحمل قلباً سليما ، أيْ عقلا صحيحا خاليا من الأمراض كالكفر وهو التكذيب بوجود الله (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) ، وكالشرك وهو عبادة غير الله كصنمٍ أو حجر أو كوكب أو نار أو غيره ، وكالنفاق وهو إظهار الخير وإخفاء الشرّ ، وكالظلم والاعتداء وعدم العدل ، وكالفساد والإفساد بنشر الشرّ ، وما شابه هذا من شرور ومَفاسِد وأضرار ، وهو أيضا العقل المُخْلِص المُحْسِن المُتَدَبِّر المُتَعَلّم العادِل الحريص علي كل خيرٍ وسعادة له وللغير في الداريْن بل ولكل المخلوقات وللكوْن كله (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وهو أيضا العقل الذي يستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿85﴾ " أيْ تَذَكَّر حين سَأَلَهم عن أيِّ شيءٍ هذا الذي يَعبدونه من دون الله تعالي ؟! والسؤال للاستفسار ولفتح مجالٍ للحوار معهم ودعوتهم لخير الإسلام وسعادته في الداريْن ، كما أنه سؤالٌ للإنكار عليهم أي لرفض ما يفعلونه ، ويشمل تَعَجُّبَاً مِن حالهم
ومعني " أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴿86﴾ " أي كيف تُريدون أن تعبدوا آلهة غير الله فتكونوا بذلك قد فعلتم إفْكَاً ، أي كَذَبْتم كَذِبَاً شديدا شَنِيعَاً وقَلَبْتم الحقائق قَلْبَاً هائلا ؟! إنها آلهة مَأْفُوُكَة أي مَكْذُوبَة وإنكم بهذا تكونون آفِكِين أيْ كاذبين أشدّ أنواع الكذب مُتَّصِفِين به لأنه بلا أيّ دليل !! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ليسعدوا ، إذ كيف يعبدون أصناما أو أحجارا أو نيرانا أو ما شابه هذا ممّا هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم !! فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿87﴾ " أيْ فأخبروني إذن عمَّا تُفكّرون فيه وما تَتَصَوَّرونه عن ربّ العالمين ؟! ومَن هو الذي يَستحِقّ أن يُعْبَدَ لأنه رب العالمين ؟! هل علمتم أيّ شيءٍ هو أو علمتم عليه نَقْصَاً ما حتي جعلتم الأصنام شركاء له سبحانه ؟! هل شككتم في وجوده تعالي حتي تركتم عبادته تماما ؟! وما الذي لا يُعْجِبكم في أنَّ الله هو ربّ العالمين ؟! أليس هو الذي خَلَقكم ووَفّر لكم كلّ أسباب وأصول وخامات الرزق من ماءٍ وهواء وشمس وعقل وصحة وقوة وما شابه هذا ؟! هل تَجَرَّأَ أيُّ أحدٍ وادَّعَيَ أنه هو الذي فَعَلَ ذلك ؟! كيف تَتَصَوَّرون ما الذي سيَفعله بكم بعد أن تَجَرَّأْتم عليه ولم تخافوا منه وعبدتم غيره سبحانه أم تُسِيئون استخدام حِلْمه وكَرَمه تعالي ؟! إنكم ولاشكّ ستُحْرَمُون عوْنه وتوفيقه وتيسيره ورعايته وأمنه وستُعَذبون وستَتعسون حتما في دنياكم وأخراكم ببُعْدكم عنه وعن وَصَاياه .. والاستفهام أيضا كما في الآية السابقة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليسعدوا ، إذ كيف يَعبدون أصناما أو أحجارا أو نيرانا أو ما شابه هذا ممّا هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم !! فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والمقصود من الآية الكريمة رفض حتي مجرّد تَصَوُّر أيّ ظنٍّ سَيِّءٍ بالله تعالي ، فكيف يكون حقيقيا علي أرض الواقع ؟! وذلك لأنَّ دلائل وجوده من خلال كلّ معجزاته في كوْنه واضحة جدا لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل !!
ومعني " فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿88﴾ " ، " فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿89﴾ " ، " فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿90﴾ " أيْ فتَفَكَّرَ وتَأَمَّلَ وتَدَبَّرَ في الكوْن حوله من نجومٍ وغيرها وفي قدْرة الله تعالي في كلّ خَلْقه ليزداد يقينا بوجوده وحبا له واستعانة به ، وتَدَبَّرَ كذلك في كيفية حُسْن دعوة قومه وفيما يريد فِعْله معهم حتي يُثبت عجز الأصنام التي يتّخذونها آلهة لهم .. " فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿89﴾ " أي ثم قال لهم أنه سَقِيم أيْ مريض أي مهموم مشغول مُرْهَق ذِهْنِيَّاً ، وذلك بسبب حزنه علي ما هم فيه وانشغاله بمهمّته التي يريد القيام بها وهي إثبات عجز أصنامهم لعلهم يستفيقون ويعودون إلي ربهم ليسعدوا في الداريْن .. " فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿90﴾ " أي ابْتَعَدُوا وانصرَفوا وانشغلوا عنه وتركوه ، فكانت فرصة لكي يُنَفّذ ما خطَّطَ له وهو كَسْر هذه الأصنام كدليلٍ علي عجزها عن حتي الدفاع عن ذاتها فكيف يَتَوَقّعون منها أن تمنع عنهم ضَرَرَاً ما أو تنفعهم بنفع ما ؟!!
ومعني " فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿91﴾ " ، " مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿92﴾ " ، أي ثم ذهب إلي أصنامهم التي يتّخذونها آلهة في سرعةٍ وتَسَلّل ومُرَاوَغَة لهم بعد أن تركوها مُنْفَرِدة ، فقال لها على سبيل السخرية والاستهزاء أيتها الأصنام ألا تأكلين تلك الأطعمة التي قدّمها هؤلاء الجاهلون تَقَرُّبَاً لك لتُبارِكِي لهم حياتهم !! وقد كلّمها كما لو كانت عاقلة لأنّ قومه كانوا بجهلهم يرفعونها إلي منزلة العقلاء !! .. " مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿92﴾ " أي قال لها ذلك زيادة فى السخرية منها وإظهارا للغيظ والضيق بها ولكي يزداد بهذا تصميما وقوة علي تكسيرها إذ كيف يَليق بهم أن يعبدوها وهي جماد لا تأكل ولا تتكلم ولا يُمكن أبدا أن تنفع بأيّ شيءٍ ولا أن تمنع مِن أيّ ضَرَر ؟!
ومعني " فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿93﴾ " أي أقْبَلَ علي الآلهة يَضربها بقوةٍ بيده اليمني حتي كَسَّرَها
ومعني " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿94﴾ " أي جاءوا إليه وهم يُسْرِعون نحوه ليُعاقبوه وليَنتقموا منه
أمّا معني " قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿95﴾ " ، " وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿96﴾ " أيْ ولم يَتَأَثّر إبراهيم عليه السلام بهياج قومه وإقبالهم نحوه مُسْرِعين غاضبين مُهَدِّدِين ، بل رَدَّ عليهم رَدَّاً مَنْطِقِيَّاً صحيحا ، فقال لهم مُؤَنِّبَاً ولائِما لوْما شديدا ورافضا لحالهم ومُتَعَجِّبَاً منه لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ليَسعدوا في الداريْن ، قال لهم أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها أي تقطعونها وتُشَكّلونها بأيديكم من الأحجار أو الأخشاب أو غيرها وتتركون عبادة الله تعالي الذي خَلَقكم وخَلَقَ كلّ الموادّ التي تعملون منها هذه الآلهة المَزْعُومة وتعملون منها كذلك غيرها من كل شئون حياتكم الدنيا ؟! كيف تعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلكم بل هو أضعف منكم !! فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة .. ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴿97﴾ " أيْ لمَّا انهَزَموا ولم يَجدوا إجابة مَنْطِقِيَّة عقلية مَقبولة لها دليل علي سؤاله السابق يُدافعون بها عن آلهتهم المَزعومة ، وكعادة المُكذبين المُعاندين المُستكبرين دائما حينما يَنهزمون ، لا يَتَبَقَّيَ لديهم إلا استخدام مَنْطِق القوة ! لقد قالوا فيما بينهم ابنوا لإبراهيم بناءً مرتفعا مُغْلَقَاً كالبيت ، ثم املئوه بالجحيم وهي النار الشديدة الاشتعال التي نارها بعضها فوق بعض ، ثم ألقوا به فيها لتحرقه وتهلكه ، عقابا له ما فعل
ومعني " فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴿98﴾ " أيْ أرادوا به كيْدا أي مَكْرَاً ، أيْ شرَّاً وهَلَاكَا ، عن طريق إحراقه بالنار ، فجعلناهم بقدْرتنا التامّة التي لا يمنعها أيّ شيءٍ الأسفلين أي الأذّلِين المَغْلُوبين ، حيث أبْطَلنا كيْدهم وأفقدنا النار خَوَاصَّها وحَوَّلناها إلى بَرْدٍ وسلامٍ على إبراهيم عليه السلام .. وهكذا هي دائما رعاية الله تعالى تَرْعَيَ وتَحْرُس الصالحين ، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أما معني " وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ " أيْ قال لهم بعد أن نجَّاه الله من النار ، إني سأهاجر إلي حيث يُوجّهني ربي واستجابة ًإلي طَلَبِه ، إلي حيث يُمْكِنني عبادة ربي وحده لأسعدَ بذلك ، إلي حيث يُمْكِنني دعوة مَن حولي له ولدينه الإسلام لأبَلّغ رسالته للبَشَر ليَسعدوا مثلي في دنياهم وأخراهم ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله ، برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة﴾ .. " .. سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ " أي سيُرْشِدني إلي كلّ خيرٍ وسعادة في دنياي وأخراي وسيُثَبِّتني علي دين الإسلام وسيُيَسِّره لي ما حَيِيِت فهو المُتَكَفل بذلك .. وهذا هو دائما حال المؤمن أي المُصَدِّق بربه المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه يكون دوْما متوكّلا عليه واثقا تماما في نصره (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل عن التوكّل وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
ومعني " رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾ " أيْ دَعَا ربّه أن اعْطِ لي ذرِّيَّة تكون من الصالحين ، الذين يُصلِحون في الأرض ولا يُفسدون ، أي الذين يُسعدونها ومَن عليها بدينك الإسلام ، في دنياهم وأخراهم
ومعني " فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ " أي فاستجبنا لدعاء إبراهيم فبَشَّرناه أي أخبرناه أخبارا سارَّة سَتَحْدُثُ مستقبلا ، على لسان ملائكتنا ، أنه سيُرْزَق بأنْ يُولَد له مولودٌ عندما يكون غلاماً أيْ يُقارِب سِنَّ البُلُوغ سيكون حليما ، أي موصوفا بأنه كثير الحِلْم ، أي كثير الصبر كثير العفو والتسامُح عمَّن أخطأ لا يَسْتَفِزّه غضبٌ ويتحمَّل الصعاب ويُحْسِن التصرّف في الأمور كلها باتّزانٍ وتَعَقّل ، وبالجملة هو حَسَنُ الخُلُق .. وهو اسماعيل عليه السلام
ومعني " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ " أيْ فلمَّا وَصَلَ هذا الغلام إلي السِّنِّ الذي يمكنه فيه السعي معه أي التحرّك لحُسن الدعوة لله وللإسلام وللعمل ولقضاء المصالح المختلفة في الحياة ، قال له إبراهيم أنه قد رَأَيَ رؤية في منامه تُذَكِّره بنَذْرٍ قد نَذَرَه قبل ولادته لئن أعطاه الله تعالي من فضله وكرمه ذرِّيَّة من الأبناء بعد أن أصبح شيخا كبيرا سيَجعل شكره له سبحانه بأنْ يُقَدِّمَ أول مولود لله يذبحه كدلالةٍ علي تمام حبه لربّه وتَعَلّقه به ، وذلك قبل إرشاد الله له بترْك هذا الأمر كما في الآيات القادمة .. " .. فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ .. " أي ما رأيك ، تَفَكَّر وتَدَبَّر وتَعَقّل الأمر ؟! أريد تنفيذ نَذْرِي أيْ وَعْدِي مع الله ، هل ستُساعدني علي ذلك ولك أجرك العظيم ؟! وهو بذلك يُجَهِّزه لهذا الحَدَث الشديد ليَسْتَحْضِر نواياه ليَنَالَ هذا الأجر العظيم ولكي يُصبح سهلا عليه تنفيذه ، وهو يتمنَّيَ استجابته ليُوَفّي بوعْده مع ربه ولا يُخْلِفه .. " .. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ .. " أيْ قال له ليُطَمْئِنه يا أبي افعل هذا الذبح دون أيَّ تَرَدُّد ، ونَفِّذ أمر الله الذي أمَرَنا بالوفاء بالوعود ، وسأساعدك علي تنفيذه وسيكون لك ولي أجرنا العظيم ، ولذلك امتدحه سبحانه بأنه صادق الوعد " إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ .. ﴿مَرْيَمَ : 54﴾ " تكريماً له ودليلاً علي عظيم أجره الذي ناله في الداريْن .. " .. سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ " أيْ ستَرَيَ أني سأكون بعوْن الله وتوفيقه وتيسيره من الثابتين الصامدين وأحْتَسِب أجري عنده الكريم الرحيم .. وهذا يدلّ علي تمام الاستعداد لتنفيذ وصايا الله تعالي حتي ولو كان هناك بذلٌ للدماء ، لأنها حتما فيها المصلحة والكمال والسعادة في الدنيا والآخرة حتي ولو لم تكن الحكمة من بعضها غير واضحة لبعض الناس في بعض الأحيان .. وهكذا علي كل مسلم أن يَتَشَبَّه بالرسل الكرام ويتمسّك تمام التمسُّك بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ " ، " وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ " ، " قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ " أي حينما استسلما وانقادا للتنفيذ وفَوَّضَا أمرهما لله ، وحينما تَلَّه للجَبين أي كَبَّه وألقاه ووضعه علي الأرض ليكون جبينه وهو أحد جانبيّ الوجه مُلامِسَاً لها ، وهو وضع ذبْح الذبيحة ، حَدَثَ وقتها ما كان من فضل الله وتبشيره بإنقاذه حيث ناداه سبحانه بوَحْيه من خلال ملائكته ليُوقِف الذبْح وأخبره بأنك قد نَفَّذَتَ وعْدك ولم يَعُد إلا إمرار السكين علي رقبته فنحن برحمتنا لا نطلب منك فِعْل ذلك بل أوْقفه .. " .. إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ " أي هكذا نحمي الذين يطيعوننا من المَكَاره والشدائد ونجعل لهم دائما منها إذا حَدَثَت فَرَجَاً ومَخْرَجَاً ونجزيهم بالخلاص من كل سوءٍ في الدنيا والآخرة ونعطيهم فيهما أعظم عطاءٍ مُسْعِد .. إنه كما أعطاه الله الكريم ذو الفضل العظيم كلّ هذا الخير الكثير ، فهكذا سيكون حال كلّ مُحسِن ، كل مُتقِن مُجيد ، كلّ متمسّكٍ بكل أخلاق إسلامه ، سيُؤتَيَ حتما من فضل ربه من الخير التامّ ما يُسعده ومَن حوله سعادة تامّة في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني " إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106﴾ " أي أنّ هذا الموقف الذي مَرَّ به هذين الرسوليْن الكريميْن هو الاختبار الواضح الذي به يَتَمَيَّز المُتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه عمَّن يتركها بعضها أو كلها (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر علي الصعاب وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ " أي وأوحينا حينها إلي إبراهيم أن يذبح ذِبْحَاً أي مَذْبُوحَاً من الغنم بدلاً من ذَبْح ابنه إسماعيل .. لقد كان ذِبْحَاً عظيما في هيئته حيث هو جيّد طيّب والأهمّ كوْنه عظيما في قيمته لأنه كان فداءً لإنسان ، وسيكون رسولا ، وهو إسماعيل ، وهو ابن رسول ، وعظيما في أنه ممّا يُذَكِّر بالصبر وبالتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام تَشَبُّهَاً بالرسوليْن الكريميْن من أجل تحصيل تمام السعادة في الدنيا والآخرة
ومعني " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108﴾ " ، " سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴿109﴾ " ، " كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿110﴾ " ، " إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿111﴾ " (برجاء مراجعة ما ُذكِرَ عن نوح عليه السلام في الآيات ﴿78﴾ حتي ﴿80﴾ من سورة الصَّافّات ، للشرح والتفصيل) .. مع مراعاة أنّ نهاية كلّ مجموعة من الآيات الكريمة التي تَتَحَدَّث عن رسولٍ من الرسل الكرام هي مُتَشابِهَة ، للتأكيد علي تكريم الله لهم جميعا بسبب حُسن خُلُقهم ، ولمزيدٍ من تذكرة المسلمين ليجتهدوا في التَّشَبُّه بهم لينالوا مثلما نالوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿112﴾ " أيْ ومَظْهَرٌ آخرٌ مِن مَظَاهِر تكريمنا لإبراهيم وإنْعَامِنا عليه بسبب حُسن خُلُقه ، أننّا بَشَّرناه أيْ أخبرناه من خلال ملائكتنا بخبرٍ سارٍّ سيَحدُث مستقبلا وهو أنه سيُرْزَق بأنْ يُولَد له ولدٌ آخر غير إسماعيل هو إسحاق ، وسنجعله أيضا نبيّا من أنبيائنا الصالحين يَحمل الإسلام للناس ليَسعدوا به في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴿113﴾ " أي وأنزلنا عليهما البركة وهي النموّ والزيادة في كل أنواع الخير بكل مجالات الحياة المختلفة ، في علمهما وعملهما ، وفي ذرِّيتهما حيث نَشَرَ الله منها أمماً كثيرة وظهر فيها عددٌ كبيرٌ من الأنبياء من نَسْلهما ، ليكون ذلك في ميزان حسناتهما حيث كانا هما السبب فيه ، تكريما لهما وإنعاما مِنّا عليهما بسبب حُسن خُلُقهما .. " .. وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴿113﴾ " أي ولكنَّ النَّسَبَ للأنبياء والصالحين لا تأثير له في الهداية لله وللإسلام ، إذ بالرغم من كوْن هذه الذرِّيَّة هي أبناء أنبياء مُكرمين عند الله تعالي ، لكنْ مِن تمام العدل وعدم المُحَاباة لأحدٍ أنَّ كلّ فردٍ سيَتَحَمَّل نتيجة عمله وسيُحاسَب عليه ، فمَن كان مُحْسِنَاً مِن هذه الذرِّيَّة ، أي مُتمسّكا بالإسلام ، فله كلّ الإحسان ، له كل الخير والسعادة في دنياه وأخراه ، ومَن كان منهم ظالما مُبِينَاً أيْ واضِحا في ظُلْمِه قد تَبَيَّنَ ظُلْمُه لذاته أو لغيره ، سواء أكان هذا الظلم كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فله كلّ الشرّ والتعاسة فيهما علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، وفي الآية الكريمة تَبْشِيرٌ للرسول ﷺ – وللمسلمين مِن بعده – أنَّ الله تعالي سيَزيد في أمته وسيَنشر دينه الإسلام استمراراً لِمَا حَدَثَ مع إبراهيم عليه السلام
ومعني " وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴿114﴾ " ، " وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿115﴾ " ، " وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴿116﴾ " ، " وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴿117﴾ " ، " وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿118﴾ " ، " أيْ وكما أنعمنا علي نوح وإبراهيم فقد أنعمنا أيضا علي موسي وأخيه هارون بنِعَمٍ كثيرةٍ أهمها نعمة الإسلام وكرَّمْناهما بأنْ يكونا رسوليْن مِنَّا للناس يُبَلّغونه لهم ويَدْعونهم إليه ليَسعدوا به في دنياهم وأخراهم .. ونَجَّيْناهما وقومهما بني إسرائيل من عدوّهما فرعون الذي كان يُحْيِيهم في كَرْبٍ عظيمٍ أيْ حزنٍ وهَمٍّ كبيرٍ باستعبادهم وإذلالهم وقتلهم .. ونَصَرْناهم عليه بإغراقه وجنوده في البحر وهم ينظرون فغَلَبوهم ووَرِثوا كلّ أملاكهم وثرواتهم وأراضيهم وديارهم .. وأنزلنا عليهما الكتاب المُسْتَبين – وهو التوراة – أي الواضح الشديد الوضوح والمُبَيِّن تمام التَّبْيِين ﴿والسين والتاء للمُبَالَغَة﴾ لقواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِهم لكي تُصلحهما ومَن حولهما وتُكملهم وتُسعدهم في حياتهم .. وهديناهما الصراط المستقيم أيْ أرشدناهما إلي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة ، ووَفّقناهما إليه ويَسَّرْناه عليهما ليُرْشِدا الآخرين له ليَسعد الجميع في الداريْن
ومعني " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴿119﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴿120﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿121﴾ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿122﴾ " (برجاء مراجعة ما ُذكِرَ عن نوح عليه السلام في الآيات ﴿78﴾ حتي ﴿80﴾ من سورة الصَّافّات ، للشرح والتفصيل) .. مع مراعاة أنّ نهاية كلّ مجموعة من الآيات الكريمة التي تَتَحَدَّث عن رسولٍ من الرسل الكرام هي مُتَشابِهَة ، للتأكيد علي تكريم الله لهم جميعا بسبب حُسن خُلُقهم ، ولمزيدٍ من تذكرة المسلمين ليجتهدوا في التَّشَبُّه بهم لينالوا مثلما نالوا في دنياهم وأخراهم
أما معني " وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿123﴾ " أيْ وإلياس أيضا هو مِن المُرْسَلين أيْ مِن رسلنا الذين أرسلناهم للناس بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وإلياس هو من ذرِّيَّة هارون والذي هو من ذرية إبراهيم وإسحق عليهم السلام جميعا ، وهو من الرسل الذين أرسلوا إلي بني إسرائيل ، ويسمونه " إيلياء " ، وله اسم آخر وهو إدْريس
ومعني " إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿124﴾ " أي اذْكُر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم ويا أيها العاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء ، اذكر حين قال لقومه ألاَ تخافون الله وعقابه لكم في دنياكم وأخراكم حيث عَبَدْتم غيره ؟! والسؤال هَدَفه رفض حالهم مع حَثّهم أيْ دَفْعهم وتَشجيعهم ليكونوا مِن المُتَّقِين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني " أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴿125﴾ " ، " اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿126﴾ " أيْ قال لهم على سبيل الذمّ واللّوْم الشديد والرفض لعلهم يمتنعون ويستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، قال لهم هل تعبدون بَعْلا أيْ ربّاً وصَنَمَاً يُسمونه بعلا لا ينفع بأيِّ شيءٍ ولا يمنع من أيّ ضَرَر وتَتَرُكون عبادة الله تعالي أحسن الخالقين ؟! أيْ أحسنَ مَن خَلَق وصَنَع ولم ولن يتمكن أيّ أحدٍ مهما كان أن يَخلق مثل أيٍّ مِن خَلْقه سبحانه مهما صغر وهو المُتَّصِف بأحسن الصفات وأكملها الذي خَلَق الخَلْق جميعا أنتم وآباءكم وأجدادكم السابقين حتي آدم قبل أن تخلقوا أنتم هذه الأصنام وأحسن خَلْقهم ويُرَبِّيهم ويَرزقهم فيُحْسِن تربيتهم ورزقهم بكلّ أنواع الأرزاق المُسْعِدَة ويَفيض عليهم بكلّ نِعَمه الظاهرة والباطنة ويُرشدهم إلي كلّ ما فيه خيرهم وسعادتهم في الداريْن .. وهذا هو معني " اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿126﴾ " أي الله تعالي وحده هو الخالِق والمُرَبِّي لكم ولآبائكم ولأجدادكم حتي أبِي البَشَر آدم مِن قبْل أن تَخْلُقوا أنتم هذه الآلهة المَزعومة وهي الأصنام فكيف تكون ربّا لكم وهي خُلِقَت بعدكم وبأيديكم ؟! وكيف تعبدون مخلوقاتٍ مثلكم بل هي أضعف منكم فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ثم مِن آبائكم إبراهيم وإسحق وكانوا كما تعلمون علي الإسلام فكيف تَتركون دينهم ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! .. ولكنه التعطيل لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فاعبدوه لتسعدوا في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿127﴾ " أي لم يُصَدِّقوه ، لم يُصَدِّقوا بوجود الله واستمرّوا في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفي عبادتهم لأصنامهم وفي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فبالتالي فلابُدّ أنهم سيُحْضَرُون إلي عذاب الله بكلّ ذِلّة ومَهَانَة ، في الدنيا حيث سيكون لهم حتما درجة ما مِن درجات العذاب يَتَمَثّل في كلّ قَلَقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيكون لهم قطعا ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد
ومعني " إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿128﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿74﴾ من هذه السورة الكريمة ، للشرح والتفصيل) .. وإعادتها هو للدّلاَلَة علي أنهم لم يكونوا كلهم مُكَذبين بل كان منهم الصالحون ككلّ الأمم السابقة ، إضافة للتأكيد علي معانيها لتثبيتها في الأذهان
ومعني " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿129﴾ " ، " سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ﴿130﴾ " ، " إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿131﴾ " ، " إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾ " (برجاء مراجعة ما ُذكِرَ عن نوح عليه السلام في الآيات ﴿78﴾ حتي ﴿80﴾ من سورة الصَّافّات ، للشرح والتفصيل) .. مع مراعاة أنّ نهاية كلّ مجموعة من الآيات الكريمة التي تَتَحَدَّث عن رسولٍ من الرسل الكرام هي مُتَشابِهَة ، للتأكيد علي تكريم الله لهم جميعا بسبب حُسن خُلُقهم ، ولمزيدٍ من تذكرة المسلمين ليجتهدوا في التَّشَبُّه بهم لينالوا مثلما نالوا في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ويُرَاعَيَ أنّه في بعض لَهجات العرب لفظ إلياسين هو إلياس ، كما أنهم أحيانا يعتبرونه نِسْبَة إلي إلياس ، وكأنهم يَقولون إلياسِيِّين ويلْغون ياءً لتسهيل النطق ، كما يُقال مثلا إسلاميين نسبة إلي الإسلام ، أي يَقصدون مَن يَنْتَسِبُون إلي إلياس عليه السلام من أهله والمسلمين معه ويكون نِسْبتهم إليه تكريما وتشريفا لهم أنَّ الله تعالي يُسَلّم عليهم هم أيضا مع إلياس
أما معني " وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿133﴾ " أيْ وإنَّ لوطاً أيضا هو مِن المُرْسَلين أيْ مِن رسلنا الذين أرسلناهم للناس بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، ولوط هو ابن أخ لإبراهيم عليه السلام ، وقد أسلمَ وهاجَرَ معه (برجاء مراجعة الآية ﴿26﴾ من سورة العنكبوت ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿134﴾ " ، " إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿135﴾ " ، " ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ﴿136﴾ " أي اذْكُر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم ويا أيها العاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء ، اذكر حين نَجَّيْناه وأهله والمؤمنين ، إلا زوجته العجوز الكافرة بَقِيَت في الغابِرين أيْ الباقين في العذاب ، حيث بعد ابتعاده هو والمؤمنون معه عن قريته أرسلنا علي قومه المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين مطرا ليس مِن ماءٍ ولكنْ مِن حجارةٍ صلبة مُلتهِبَة أهلكتهم جميعا وخَرَّبَت بيوتهم وجعلت أسْقُفَهَا مُلامِسَة للأرض ، وذلك بسبب إصرارهم علي الشرور والمَفاسد والأضرار وعلي رأسها ارتكاب جريمةٍ شنيعةٍ هي جِمَاع رجل مع رجل والتي لم يَسبقهم لها قبلهم أيّ أحدٍ رغم أنهم تُرِكُوا لفتراتٍ طويلة وتَنَوَّعَت لهم وسائل دعوة رسولهم إليهم
ومعني " وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ﴿137﴾ " ، " وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿138﴾ " أي وإنكم أيها الناس تَمُرُّون على مساكنهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة وأنتم سائرون إلى بلاد الشام ، أحيانا صباحا وأخري ليلا ، وتُشاهِدون بأعينكم ما حَلَّ بهم مِن دَمَار .. " .. أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿138﴾ " أيْ ألا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون فيما حَدَثَ لهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتَتَجَنَّبون تماما مثل أفعالهم وتستيقظون وتعودون لربكم ولإسلامكم حتي لا تتعسوا مثل تعاساتهم ولتسعدوا في دنياكم وأخراكم ؟!
أما معني " وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿139﴾ " أيْ وإنَّ يونس أيضا هو مِن المُرْسَلين أيْ مِن رسلنا الذين أرسلناهم للناس بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وقد ُأرْسِلَ إلي أهل نِيِنَوَيَ بالعراق في حوالي القرن الثامن قبل ميلاد عيسي عليه السلام
ومعني " إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿140﴾ " أي اذْكُر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم ويا أيها العاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء ، اذكر حين هَرَبَ من قومه مُتَّجِهَاً باتّجاه البحر إلي المَرْكِب المَلِيء بالناس والأمتعة والبضائع
ومعني " فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴿141﴾ " أيْ فقَارَعَ أيْ فقامَ بعمل قُرْعة مع الآخرين فكان من المَغلوبين المُنهزمين فيها فألقيَ بنفسه في البحر ، وذلك لأنه وَصَلَ للسفينة وكانت ممتلئة وكادت أن تغرق وهي سائرة بالماء فاتفقوا علي أن يَقذفوا بأحدهم إلي البحر حماية للمجموع فلا يَغرقون جميعا ، ولتمام العدل يُقيموا قرعة ومَن يَخسر فيها يكون ممّن يُلقِي بنفسه في البحر ، وكان هذا أسلوبا مُتًّبَعَاً عندهم ليكون الأمر ليس فيه مُحَابَاة لأحد (برجاء مراجعة جانبا آخر من جوانب قصة يونس في الآية ﴿87﴾ من سورة الأنبياء ، والآية ﴿98﴾ من سورة يونس ، لتكتمل المعاني﴾
ومعني " فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿142﴾ " أيْ فابْتلعه الحوت بسرعة ، وهو مُلِيمٌ أيْ فاعِلٌ لما يَلُومُه عليه الآخرون ، فقد كان هذا هو حاله ووصفه لأنه قد غادَرَ قومه وهم يحتاجونه لأنْ يدعوهم لله وللإسلام (برجاء مراجعة تفصيل ذلك في الآية ﴿87﴾ من سورة الأنبياء﴾
ومعني " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿143﴾ " ، " لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿144﴾ " أي ولوْلا تَسبيحه ودوام ذِكْره وصَلاحه وتمسّكه بإسلامه وحُسن صلته بالله تعالي قبل هذا الموقف الشديد وفي أثنائه ، لَكَانَ بَقِيَ في بطن الحوت ومات فيه وظلّ البحرُ كقبرٍ له حتي يوم يُبعث الخَلْق يوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فَعَلوا ، ولكن بسبب أنه كان مِن المُسَبِّحِين الصالحين نَجَّاه سبحانه برحمته الواسعة بأنْ أوْحَيَ للحوت ألاّ يُؤذيه بل وحَفِظَه مِن الغَرَق وأخرجه باتِّجاه الشاطِيء بعد فترة زمنية قليلة ، وكذلك يُنجي اللّه المتمسّكين بأخلاق إسلامهم عند وقوعهم في الشدائد ولجوئهم إليه تعالي .. فليَسْتَبْشِروا وليَطمئنوا إذن بذلك
ومعني " فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿145﴾ " ، " وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴿146﴾ " أي وأوحينا برحمتنا للحوت أن يُخرجه بلا أذَيَ ويتركه بأرض الشاطيء الفضاء الخالية ليَستعيد عافيته .. وقد كان سقيما أي ضعيف الجسم مُنْهَكَاً .. وجعلنا له آية أن أنبتنا عنده شجرة مِن يَقطين وهو كلّ نباتٍ لا ساق له كالقَرْع والقِثّاء والبطيخ ونحو ذلك ، بحيث يَتَعَافَيَ ويَتَدَاوَيَ بثمره وبورقه ويَستظِلّ به من الحرّ ويَتغطيَ به من البرْد وما شابه هذا من منافع
ومعني " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴿147﴾ " أيْ وبعد نِعْمة نَجَاته واكتمال عافيته أنعمنا عليه كذلك بأنْ أرسلناه إلي ناسٍ كثيرين عددهم حوالي مائة ألف أو أكثر ليكون رسولنا إليهم يدعوهم لله وللإسلام .. ولعلّ المقصود من عدم تحديد العدد – لأنَّ الله تعالي بتمام علمه يعلمه قطعا – عدم الالتفات كثيرا له وإنما التركيز علي الدروس والعِبَر المُسْتَفَادَة ، أو للتذكرة بأنَّ الداعي عليه ألا يترك أبدا مثل هذه الأعداد الهائلة من الناس دون دعوتهم لخير الإسلام ليَسعدوا مثل سعادته في الداريْن وإلاّ لو تَرَكهم لَتَعِسُوا ولَهَلَكُوا وسيَتْعَس هو أيضا حتما بسوء أخلاقهم وسيُسْأَل عنهم يوم القيامة ، أو للتنبيه أنَّ الذين لا يستجيبون من المَدْعوين في بداية دعوتهم لسببٍ ما سيَستجيبون كلهم أو أغلبهم أو بعضهم بإذن الله مع الوقت ، إلي غير ذلك مِن الحِكَم التي هي في علم الله تعالي .. وهؤلاء الناس الذين ُأرْسِلَ إليهم يونس عليه السلام قد يكونوا أهل قريته الذين تَرَكهم أو غيرهم .. المهمّ أنه قد استفاد من هذه التجربة – وكذلك كلّ مسلم عليه أن يستفيد منها – ولم يَحْرِمه الله تعالي من شَرَفِ حمل رسالته وهي دين الإسلام للآخرين وثواب ذلك العظيم في الدنيا والآخرة رغم تَرْكه لقومه وهم يحتاجون له ليَدعوهم لربهم ولدينهم بل غَفَرَ له واستمرّ في نِعَمه عليه (برجاء مراجعة الآية ﴿87﴾ من سورة الأنبياء ، لتكتمل المعاني﴾
ومعني " فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ﴿148﴾ " أي فصَدَّقوا بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وتمسَّكوا بأخلاق الإسلام ، فمَتَّعَهم سبحانه بسبب ذلك وأسْعَدهم بحياتهم حتي حين انتهاء أَجَل كلّ فردٍ منهم بموته .. ثم سيكون لهم حتماً في آخرتهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ﴿149﴾ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴿150﴾ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴿151﴾ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿152﴾ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴿153﴾ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿154﴾ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿155﴾ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ﴿156﴾ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿157﴾ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿158﴾ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿159﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿160﴾ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴿161﴾ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴿162﴾ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴿163﴾ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴿164﴾ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ﴿165﴾ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴿166﴾ وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ ﴿167﴾ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿168﴾ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿169﴾ فَكَفَرُوا بِهِ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿170﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ﴿149﴾ " ، " أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴿150﴾ " أي اسأل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم ويا كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُشركين الذين يعبدون مع الله تعالي آلهة أخري كأصنامٍ أو غيرها ، اسألهم سؤالا فيه ذمّ لهم وتَأْنِيب ولَوْم شديد ورفض وتَعَجُّب لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، اسألهم هل بعد أن جعلوا لله شركاء يعبدونهم غيره ظلما وزورا يجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تزوجها وأنْجَبَ منها ؟!! وحتي هذه المواليد هي من البنات التي يَتَحَرَّجُون هم من إنجابها ويحتقرونها من وجهة نظرهم فينسبونها له سبحانه وهم يُنْجِبون البنين الذين يفتخرون بهم كمصدر قوة وعِزّة لهم !! .. أي حتي في ظلمهم وكذبهم وزورهم يأخذون لأنفسهم النفيس ويتركون لله ما هو خسيس !! .. " .. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴿150﴾ " أي اسألوهم أيضا علي سبيل السخرية منهم والتَّسْفِيه والتَّجْهِيل لهم ، هل كانوا شاهِدين حاضِرين حينما خَلَقَ الله الملائكة ورَأَوْها إناثا ؟!! كيف حَكَموا بهذا بلا أيّ علمٍ ولا أيّ دليل ؟!! .. وذلك لأنه كان بعضهم يُصَدِّق بوجود الملائكة ولكنهم يعتبرونها هي بنات الله سبحانه التي أنجبها ولذلك كان بعضهم يعبدونها !!! تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني " أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴿151﴾ " ، " وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿152﴾ " ، " أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴿153﴾ " ، " مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿154﴾ " ، " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿155﴾ " أيْ مِن كذبهم الشديد وقَلْبِهم للحقائق يقولون أنَّ الله تعالي قد أنْجَبَ مولودا مِن زوجةٍ تزوجها !! ومواليده كلها إناث وهي الملائكة كما ُذكِرَ في الآيتين السابقتين !! وبالقطع وحتماً هم في ذلك كاذبون أشدّ الكذب وأقْبَحه وأخَسّه !! فهو الخالق الكريم الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ القادر علي كلّ شيءٍ والذي لا يحتاج قطعا لمُعِينٍ أو شريكٍ كزوجةٍ أو ولدٍ أو وزيرٍ أو نحو ذلك !! .. هذا ، و " ألاَ " هي أداة تنبيه للاهتمام بما سيُقال .. " أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴿153﴾ " أيْ يُؤَكِّد سبحانه مزيداً من الذمّ لهم والتَأْنِيب واللَوْم الشديد والرفض والتَعَجُّب لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، حيث يطلب سؤالهم – إضافة إلي الأسئلة في الآيات السابقة ﴿ برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ – بما يُفيد التَّسْفِيه والتَّجْهِيل لهم عن أنه لو سَلَّمْنا بكذبكم أنه سبحانه قد أنْجَبَ مولوداً فأيّ شيءٍ يُجْبِره علي أن يصطفي أي يختار البنات ويترك البنين ولماذا لم يخترهم ما دام الأمر اختياريّا هكذا ؟! إنه تعالي بالقطع لا يحتاج لا لهذا ولا لذاك ولا لأيِّ مخلوقٍ فهو الغنيّ عن العالمين !! وكلهم خَلْقه ولا يُحابِي حتما أحدا علي حِساب آخر !! .. " مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿154﴾ " أي ماذا حَدَثَ لكم ؟! وكيف أصْدَرتم هذه الأحكام الواضحة السَّفَه والجهل والفساد لمَن كان عنده أيّ ذرّةٍ مِن عقل ؟! ما أسوأ هذا الحكم !! أمَا لكم عقول تتدبَّرون بها ما تقولون ؟! .. ولكنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿155﴾ " أي ألاَ تتدبَّرون ما تقولون فتعرفوا خطأه فتمتنعوا عنه ؟! ألا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم ، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه ، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها ، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن ؟! .. وهو استفهام أيضا كبقية الأسئلة السابقة للتَّعَجُّب من ذلك ولإنكاره أي عدم قبوله وطَلَب فِعْل عكسه
أمّا معني " أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ﴿156﴾ " ، " فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿157﴾ " أي هل لكم فيما تقولونه وتدَّعونه كذبا وزُورا وتَتَجَرَّأون به علي الله تعالي أيّ سلطانٍ مُبِين أيْ دليل واضِح مُبَيِّن مُوَضِّح للخير وللحقّ مِن كتابٍ ُأرْسِلَ إليكم مثلا كالقرآن الكريم أو رسولٍ مِن عند الله علي أنَّ قولكم صوابٌ ولذلك فأنتم مستمرّون عليه ؟!! وهو استفهامٌ أيضا للسخرية ولِلَّوْم الشديد علي ما هم فيه وللنفي التامّ له لعلهم يستفيقون فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿157﴾ " أي فأحْضِرُوا كتابكم هذا الذي ُأوُحِيَ إليكم أو هذا الدليل الذي يُؤَيِّد أكاذيبكم ويُثْبِت صِدْقكم !! فإنْ لم تُحْضِروه – ولن تحضروه حتما – فأنتم إذن بكلّ تأكيد كاذبون .. والمقصود تَعجيزهم وإثبات مزيدٍ مِن جَهْلِهم وسَفَهِهم
ومعني " وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿158﴾ " أيْ أنَّ هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُشركين الذين يعبدون مع الله تعالي آلهة أخري كأصنامٍ أو غيرها ، لم يكتفوا بأكاذيبهم وادِّعاءاتهم التي قالوها في الآيات السابقة ، بل أضافوا إلى ذلك جريمة أخرى شَنِيعَة ، وهي أنهم جعلوا بين الله تعالى وبين الجِنَّة أي الملائكة نَسَبَاً حيث ادَّعَوْا كذبا وزورا أنه سبحانه مُتزوجٌ منها وله بنات منها بسبب هذا الزواج !! تعالي الله عمّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. هذا ، والعرب يُسَمّون كلّ ما خَفي عن العين جِنَّاً .. " .. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿158﴾ " أي والملائكة تعلم تماما أنه مَن يَعْصِ الله ويُسِيء مثل هؤلاء الذين جعلوا بينها وبينه تعالي نَسَبَاً وأشباههم ممَّن يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار سيُحْضَر مُجْبَرَاً حتما إلي العقاب الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسِب فِعْله ، وأنه لا يوجد أيّ نَسَبٍ بين الخالق سبحانه وأيّ مخلوقٍ لأنه لو كان أحدٌ نَسِيبَاً أو صِهْرَاً لله تعالي كما يَدَّعِي هؤلاء المُكذبون المُشركون أو كان مُشَارِكَاً له سبحانه في الألوهيَّة ما عَذّبَه هكذا !! لأنه لا يُمكن أنْ يُعذبهم الله وهم أنسابه وأصهاره أو شركاء له في المُلْك فهذا لا يَليق بين الأنْسَاب والشركاء !! .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ أنه لن يَنفع أحدٌ أحدا يوم القيامة إلا التمسّك بكل خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ، لعلّ الناس يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿159﴾ " أي سَبِّحوه تعالي ، أي نَزّهوه ، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به وَصَفَهَا المُكذبون كَذِبَاً وزُورَا ، فله كلّ صفات الكمال ، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿160﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿74﴾ من هذه السورة ، للشرح والتفصيل) .. فمِثْل هؤلاء لا يُمكن أبدا أن يكونوا مُحْضَرين لهذا العذاب ولا أن يَصِفُوا الله تعالي بما لا يَليق
أمّا معني " فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴿161﴾ " ، " مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴿162﴾ " ، " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴿163﴾ " أيْ إنّكم أيّها المشركون وآلهتكم التي تعبدونها غير الله تعالي كأصنامٍ أو غيرها ، ما تَقْدِرون بما أنتم عليه مِن شِرْكٍ وضلالٍ أيْ شرٍّ وفساد أن تَفتنوا أيْ تُضِلّوا أحدا ولا أن تَفتنوه عليه سبحانه أي تُفسدوه عليه فلا يُطيعه باتِّباع إسلامه ، إلا مَن سَيَصْلَيَ الجحيم أي سيَحترق ويُشوَيَ بنارها لأنه هو الذي اختار طريقها بكامل حرية إرادة عقله فهذا هو فقط الذي أنتم له فاتِنُون (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. والمقصود من الآية الكريمة إظهار عَجْزهم وعَجْز آلهتهم التامّ عن إضلالِ أيِّ أحدٍ وتَحقيرهم وتَسفيههم وتَجهيلهم لعلّهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، مع بيان كمال قدرته تعالى وحمايته لعباده المتمسّكين بإسلامهم من الضلال ، وفي هذا تبشيرٌ لهم وتشجيع للاستمرار علي ما هم فيه من خيرِ الإسلام لتتمّ لهم السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴿164﴾ " ، " وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ﴿165﴾ " ، " وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴿166﴾ " أي يُبَيِّن الله تعالي براءة الملائكة ممّا قاله المشركون مِن أكاذيب وادِّعاءات أنها بنات الله ولها نَسَب ومُصَاهَرَة معه أو هي شركاء له في المُلْك (برجاء مراجعة الآيات السابقة لتكتمل المعاني﴾ فتقول رَدَّاً علي افتراءاتهم أنَّه ما مِن مَلَكٍ مِن الملائكة إلا وهو عابد لله تمام العبادة أيْ طائع له تمام الطاعة حيث له مَقام مَعلوم أيْ مكان مُحَدَّد في الكوْن يُؤَدِّي فيه علي أكمل وجْهٍ مهمّته التي كلّفه بها خالقه لنفع الخَلْق ولسعادتهم ، وكلهم صافّون أيْ يَقِفون في صفوفٍ مُنتظمة مُنضبطة مُنتظرين أوامره تعالي ، وكلهم مُسَبِّحون له أي مُنَزِّهونه عن كلّ صِفَةٍ لا تَلِيق به ويَذْكرونه بكل أنواع الذِكْر ويَحمدونه علي نِعَمه عليهم بطريقتهم الخاصّة التي خَلَقَهم عليها .. إنَّ هذه بعض الصفات التي علي البَشَر أنْ ينتبهوا لها ويجتهدوا في التَّشَبُّه بها ما استطاعوا ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أمّا معني " وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ ﴿167﴾ " ، " لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿168﴾ " ، " لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿169﴾ " ، " فَكَفَرُوا بِهِ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿170﴾ " أي لقد كان المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة وأشباههم ، مِن شِدَّة تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم ، يقولون قبل أن يأتيهم الرسول الكريم محمد ﷺ ويَدَّعُون كذبا وزُورا أنَّه لو أنَّ عندهم ذِكْراً مِن الذي جاء السابقين يُذَكِّرهم بالله وبالخير يَتَمَثّل في كتابٍ سماويٍّ كالتوراة والإنجيل وغيرهما وفي رسولٍ كموسي وعيسي وغيرهما ، لكانوا أصبحوا مَن أخلص وأحسن عباد الله !! وقد ظهَرَ كذبهم بكلّ وضوح !! لأنه بمجرّد أن جاءهم الرسول محمد ﷺ بالقرآن الكريم كفروا به أي كذّبوه ولم يُصَدِّقوه !! فأين إذن ادِّعاءاتهم بالتصديق والإخلاص والإحسان ونحو ذلك وقد تَحَقَّق لهم ما كانوا يَطلبونه ؟!! .. " .. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿170﴾ " أي سيعلمون مع الوقت النتائج السَّيِّئة لكفرهم حينما ينزل بهم العذاب المناسب لأقوالهم ولأفعالهم ، في الدنيا حيث سيَتَمَثّل في كل قَلَقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيكون بما هو قطعا أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿173﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿174﴾ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿175﴾ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿176﴾ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ﴿177﴾ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿178﴾ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿179﴾
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿180﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿181﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿182﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ " ، " إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ " ، " وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿173﴾ " أي لقد تَقَدَّمَت كلمتنا ، أي لقد جاء سابقا في كلامنا منذ القِدَم قبْل خَلْق الخَلْق ، أي في علمنا وتدبيرنا وتقديرنا ووعْدنا ، وقَضَيْنا وحَكَمْنا وانتهَيَ الأمر وُفرِغَ منه وتأكَّدَ وثَبتَ يقيناً بلا أيّ شكٍّ ولا أيّ تغييرٍ ، أنَّ النتائج والنهايات الحَسَنة الطيِّبة المُسْعِدَة مِن نَصْرٍ وغَلَبٍ وفوزٍ ونجاح ونحوه في الدنيا والآخرة هي دائما وحتما لعبادنا مِن الرسل ومَن يؤمنون بهم ويَتَّبِعونهم .. فهل هناك مثلا رسول أرسله تعالي وتَرَكَه وخَذَلَه وانهزم نهائيا هو ومَن معه مِن جُنْدِ الله في الأرض الذين يَنشرون دينه ويتمسّكون به ويُدافعون عنه وُقضِيَ علي الإسلام ؟!! هل حَدَثَ مِثْل هذا أبدا ؟!! .. وفي الآيات الكريمة بشارة عظيمة للمسلمين المتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم بتمام السعادة والمَكَانَة في دنياهم وأخراهم
أمّا معني " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿174﴾ " ، " وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿175﴾ " أي ابْتَعِد عن المُصِرِّين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولا تهتمّ ولا تتأثّر بأقوالهم وأفعالهم ، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ، حتي يَحِين موعد نزول العذاب الدنيويّ بهم – قبل الأخرويّ والذي يبدأ في قبورهم حين موتهم – بدرجاته المختلفة علي حسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وحتي يَحِين موعد نصركم أيّها المسلمون عليهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. " وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿175﴾ " أيْ وراقِبهم وتَأَمَّل أحوالهم وانظر إليهم وشاهِدهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم عندما ينزل بهم العذاب ويوم تنتصرون عليهم ، فاسْتَبْشِر فهو قريب ستَراه وسيَراه المسلمون بكلّ تأكيد ، والمُكذبون حتما سوف يَرْونه واقعيا ويذوقونه ، وسيَرَوْنَ نصر المسلمين وهزيمتهم هم وحَسْرتهم وذِلّتهم ، فى دنياهم أولا ، ثم فى أخراهم سَيَرَوْنَ عظيم ثوابهم وسيكونوا هم فيما هو أشدّ وأعظم وأخلد من عذاب الدنيا الذي كانوا فيه .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم في كلّ عصرٍ لعلهم به يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿176﴾ " أي هل وَصَلَ بهم الجَهْل والعِناد والاستكبار والاستهتار وعدم تقدير الأمور أن يَستعجلوا عذاب الله تعالي ؟! والاستفهام هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليَسعدوا .. إنهم يَطلبون منه ﷺ – ومِن المسلمين مِن بَعده – بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يَعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذن كاذب والمسلمون كاذبون ! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِه بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك !! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ﴿177﴾ " أيْ عندما يَنزِل العذاب الموعود الذي كانوا يَستعجلونه بمكان تَوَاجُدهم في بداية صباحهم حيث لا يمكنهم الاستعداد له والهروب منه ولكي تكون فضيحتهم واضحة لمَن يريد رؤيتهم ، حينها سيُدْرِكون عمليّا سوء هذا الصباح الذي يبدأ بعذابٍ مُؤلمٍ مُهْلِكٍ مُذِلٍّ ليس منه أيّ نجاة ولا ينفع معه أيّ ندمٍ أو توبة حيث قد فات وقتهما .. إنه ما أسوأَ يوم عذابِ الذين ُأنْذِرُوا وحُذّرُوا كثيرا ولكنهم كذّبوا واستهتروا واستهزؤا واستكبروا واستمرّوا في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، ما أسوأ حالهم عند تَذَوُّقِهم لنتيجة سُوئِهم ، حينما ينزل بهم عذابٌ ما مِن الله تعالي كخَسْفٍ أو فيضانٍ أو نحوه ، أو حينما تُعذّبونهم أنتم بالانتصار عليهم بعوْنه سبحانه لكم
ومعني " وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿178﴾ " ، " وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿179﴾ " أيْ هذا مزيدٌ مِن التأكيد لما ُذكِرَ في الآيتين السابقتين ﴿174﴾ ، ﴿175﴾ (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ علي نزول العذاب بهم لمزيدٍ مِن تهديدهم وتحذيرهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوان .. هذا ، ويُراعَيَ أنه تعالي قال هنا " وَأَبْصِرْ " ولم يقل " وَأَبْصِرْهُمْ " للتعميم ، أي ما يُبْصِره المُشاهِد لهم مِن أنواع عذابهم الذي يَنزل بهم مُتَنَوّع وكثير ويَصعب الإحاطة به ، يَتَمَثّل في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم سيُبْصِر المُشاهِد لهم في الآخرة ما هم فيه من تعاسةٍ أكثر تَنَوّعَاً وأشدّ وأعظم وأتمّ .. وكذلك الحال بالنسبة لما يُبْصره المسلمون ويشاهدونه لأنفسهم من أنواع البُشْرَيات والسعادات التي سيكونون فيها فهي هائلة لا يُمكن حَصرها ، في الدنيا ، ثم ما هو أعظم وأخلد ولا يُقارَن في الآخرة
أمّا معني " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿180﴾ " أي سَبِّحوه تعالي ، أي نَزّهوه ، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به وَصَفَهَا المُكذبون كَذِبَاً وزُورَا ، فله كلّ صفات الكمال ، والتي منها أنه ربّ العِزَّة أيْ صاحِب ومالِك الغَلَبَة والقوّة التى لا يقف أمامها شيء والتى لا يملك أيُّ أحدٍ غيره تمام أسبابها ، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿181﴾ " أي وبسبب الأعمال الحَسَنَة لكل الرسل الكرام جعلنا الناس دوْما خاصة الصالحين منهم كلّما تَذَكَّروهم يُسَلّمون عليهم في جميع الأجيال وثَبَّتْنَا ذلك حتي نهاية الحياة الدنيا ، فبمجرّد أن يَذْكُروهم قالوا " عليهم السلام " أي يَطلبون من الله ويَدْعونه أن اعْطِهِم ياربّ السلام والأمن والسلامة والطمأنينة والسعادة في أعلي درجات الجنات بعدما أعطيتَ لهم ذلك في دنياهم ، مع إعطائهم السلامة من أن يَذْكرهم أيّ أحدٍ بسوءٍ في العالَم حتي يوم القيامة .. لقد سلّمَ الله تعالي عليهم ليَقتديَ بذلك البَشَر فلا يَذكرهم أحدٌ بسوءٍ مَا ، بل بكلّ خير
ومعني " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿182﴾ " أي كونوا جميعا دائما من الشاكرين لربكم علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴿1﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴿2﴾ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴿3﴾ وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴿4﴾ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿5﴾ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴿6﴾ مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴿7﴾ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴿8﴾ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴿9﴾ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ﴿10﴾ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " ص .. " أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه .. " .. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴿1﴾ " أي هذا بَيَانٌ مِن اللّه تعالى لصِفَة القرآن الكريم ، فهو صاحِب ومالِك الذكْر ، أيْ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة .. هذا ، والواو تُفيد القَسَم ، أي يُقْسِم الله تعالي بهذا القرآن ذي الذكْر الذي بين أيدي البَشَر ، بهذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة التي فيه والتي تُقرأ وتُتَّبَع ويُعْمَل بها ، علي أنَّ الرسول ﷺ مِن المُرْسَلِين أيْ من رسله الذين أرسلهم لخَلْقه بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وهو سبحانه لا يحتاج ولا قرآنه المجيد حتما إلي قَسَم ! فكلامه قطعا مُقَدَّس مُعَظَّم مُصَدَّق ! ولكنه لإضفاء مزيدٍ من الهيبة والتعظيم والتصديق للرسول الكريم ﷺ ولدينه الإسلام ، فهو يُقْسِم علي صِدْقه وصِدْق ما جاء به ، وعلي أنه علي صراطٍ مستقيم أي علي طريقٍ ليس فيه أيّ انحرافٍ نحو أيّ شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ بل هو موجَّه بكل دِقّة وسرعة ووضوح نحو كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الدنيا والآخرة لكل مَن يَتبعه بكلّ أخلاقه .. هذا ، والمُقْسَم عليه وهو صِدْق القرآن وكلّ ما جاء فيه وصِدْق الرسول ﷺ لم يَذْكره سبحانه صراحة لدلالة ما بعده عليه حيث هو مفهوم بالضرورة مِن سياق الآيات بعد ذلك في هذه السورة ، بل وفي القرآن كله
ومعني " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴿2﴾ " أيْ هذا القرآن العظيم هو تذكيرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة لمَن أراد أن يتذكَّر – كما ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ – لكنَّ الكافرين لم يَتَذَكَّروا به ويَنتفعوا لأنهم في عِزَّةٍ وشِقاق ، أي في استكبارٍ وخِصَامٍ للإيمان ، أيْ للتصديق بوجود الله وبكتبه وآخرها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه .. وهم في هذه الحالة ، رغم تأكّدهم مِن صِدْق القرآن الكريم واشتماله علي كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، لأنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴿3﴾ " أيْ أنَّ هؤلاء الكافرين المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين قد علموا أننا أهلكنا كثيرا من القرون قبلهم أي الأجيال السابقة الكافرة أمثالهم ، وأنّ هؤلاء السابقين عندما رأوا علامات ومُقَدِّمات العذاب نادَوْا مُستغيثين بمَن حولهم لإنقاذهم ، ولكن نادَوْا " وَلَاتَ حينَ مَنَاص " ﴿ولات أي وليس وهي عبارة عن لا أضيف لها تاء لتأكيد النفي وتُستعمل مع الأزمنة خاصة .. مناص أيْ نَجاة وفرار﴾ أي نادَوْا وليس الحين حينما نادوا كان حين مناص أي ليس الوقت حينما نادوا كان وقت نجاة وفرار من العقاب وإنما كان وقت تنفيذ العقوبة فيهم بسبب إصرارهم التامّ علي الاستمرار في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم مع استمرارهم في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم دون أيّ توبةٍ وعودةٍ لربهم ولإسلامهم .. فَلْيَحْذَر إذن كلّ مَن يَتَشَبَّه بهم أنْ يستمرّ مثلهم على عِزَّته وشِقاقه أي استكباره وخِصامه فيُصيبه ما أصابهم ويَتعس كتعاساتهم في دنياه وأخراه
ومعني " وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴿4﴾ " ، " أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿5﴾ " أيْ ومِن عَلامات عِزّتهم وشِقاقهم أي استكبارهم وعِنادهم أن اسْتَغْرَبُوا مِن أنْ جاءهم رسولٌ منهم يُحَذرهم بكل شرٍّ وتعاسة في الداريْن إذا هم عبدوا غير الله تعالي ولم يعملوا بأخلاق الإسلام ، وسبب تَعَجُّبهم هذا هو ادِّعاؤهم أنهم كانوا يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك ! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب ! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون من بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق ! .. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لطلبوا رسولا من البَشَر !! لأن الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴿4﴾ " أي وبسبب كفرهم واستكبارهم وعِنادهم أيضا قالوا عن الرسول الكريم محمد ﷺ هذا ساحِر كذاب !! وهم أكثر مَن يعلم صِدْقه وأمانته حيث هم الذين كانوا يُسَمّونه بأنفسهم الصادق الأمين ! إنهم يقصدون بذلك ادِّعاء أنَّ القرآن العظيم ليس وحيا من الله تعالي ليُسْعِد البشرية في الداريْن وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وأنَّ الرسول ﷺ ما هو إلا ساحر ولا يُوحَيَ إليه أيّ شيء بل هو كذاب كثير الكذب !! .. إنهم حتما هم الكذابون ، لأنَّه بكل بَسَاطَةٍ وعُمْقٍ إذا كان الرسول ﷺ ساحرا فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به ؟!! .. " أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿5﴾ " أي وأيضا قال هؤلاء الكافرون الذين قالوا عن محمد ﷺ أنه ساحرٌ كذاب ، قالوا مِن شِدَّة جَهْلهم وسَفَههم : هل جَعَلَ محمد المعبودات كلها معبوداً واحداً يَسمع دعاء الجميع ويُعينهم كلهم ويَعلم عبادة كلّ عابدٍ منهم وخَلَقَ كلّ هذه المخلوقات وحده ولم يُشاركه في خَلْقها أيُّ أحدٍ يُساعده عليها ؟! .. " .. إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿5﴾ " أي هذا الذي يَدَّعِيه هو شيء شديد العَجَب والغَرَابَة وبلغ الحدّ الأقصي فيهما بل وتجاوَز كل الحدود التي يقبلها العقل !
ومعني " وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴿6﴾ " أيْ وتَحَرَّك سَادَتُهم وقادتهم ورؤساؤهم وكُبَراؤهم مُنْطَلِقين بهِمَّةٍ وحَمَاسَةٍ وسرعةٍ قائلِين لعابِدي الأصنام وغيرها أمثالهم أن امشوا أيْ سِيروا علي ما أنتم عليه من عبادة أصنامكم واصبروا علي آلهتكم أي استمرّوا واثبتوا على عبادتها ودينكم هذا ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من عبادةِ إلهٍ واحد .. " .. إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴿6﴾ " أي إنَّ هذا الذي يَدعوكم إليه محمد ﷺ من عبادة الله وحده هو شيءٌ سَيِّءٌ يُرَادُ ويُدَبَّرُ لكم ! إنه يُريد به السيادة عليكم والتَّحَكُّم فيكم وأن تكونوا تابعين له ويَسْتَغِلّ جهودكم وثرواتكم لأطماعه ولرِفْعَة ذاته وليس صادقا في أنَّ الأمر لمصلحتكم !! ولذلك فلن نُجيبه جميعا لِمَا يدعو إليه
ومعني " مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴿7﴾ " أي يُضيفون إلي قولهم السَّيِّء السابق قولا سَيِّئَاً آخر يُفيد ضِمْنَاً عدم تصديق القرآن والرسول ﷺ وهو أنهم لم يسمعوا بهذا الدين الذي جاء به والذي فيه أنَّ الإله واحد وهو الله تعالي في المِلَّة الآخرة أي في الدين الأخير الذي عليه آباؤهم وهو عبادة الأصنام !! وكأنَّ دينهم هذا هو المَرْجعية التي علي الجميع أن يَرْجِعوا إليها لمعرفة كلّ صوابٍ وخير وسعادة !! .. " .. إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴿7﴾ " أي ويزيدون السوء سوءاً بقولهم أنَّ هذا الذي جاء به محمد من قرآن وإسلام ما هو إلا اختلاق أي كذب مُخْتَلَق مُبْتَدَع قد اختلقه هو وليس له أيّ أصلٍ من الواقع !!
ومعني " أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴿8﴾ " أي هذه صورة أخرى من صور التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة حيث كانوا سابقا يَطلبون لكي يُؤمنوا نزول مَلَكٍ من الملائكة عليهم كرسولٍ من الله لهم وليس بَشَرَاً كما في الآية ﴿4﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، وهنا في هذه الآية الكريمة يتساءلون رافضين : هل ُأنْزِلَ عليه أيْ علي هذا الساحر الكذاب – ويقصدون عاقَبَهم الله بما يستحِقّون الرسول الكريم ﷺ – هذا الذكر أي القرآن واختاره الله واخْتَصَّه مِن بيننا وتَرَكنا نحن ولم يُنْزِله علينا ونحن الأوْلَيَ لأننا الأكثر شرفا ومَكَانَة وأموالا منه ؟!! إنه لو كان ُأنْزِلَ علي عظيمٍ مِن العظماء مِن بيننا لكُنَّا آمَنَّا مباشرة !! .. " .. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي .. " أي لا تَحزن يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بعده ولا تَتَأثّر ولا تَهتمّ بهم وبأقوالهم وأفعالهم واستمرّ في تمسّكك بإسلامك واستمرّوا أيها المسلمون في حُسن دعوتهم وغيرهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، لأنَّ الأمر إذن ليس تقصيرا منك ومنكم أو اتهاما حقيقيا لكم بالكذب والسحر ونحو هذا ولكنَّ السبب الحقيقيّ أنهم يُشكّكون في ذِكْري أي قرآني حتي لا يَتَّبعوه ويمنعوا الناس من اتّباعه وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴿8﴾ " أيْ والسبب أيضا أنهم لم يَذوقوا حتي الآن عذابي ، وحينما يذوقونه فإنهم حتما سيتأكّدون عمليا وقتها مِن كذبهم وعِنادهم ، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم أنَّ النجاة من العذاب لن تستمرّ طويلا لعلهم يستفيقون قبل فوات الأوان ولا يَتَوَهَّمون أنَّ تأخير العذاب قليلا يعني عدم حدوثه فإنه قد يقع في أيّ لحظة ! وسيُنزله تعالي في التوقيت المُوجِع المُؤلم لهم ، وسيَتمثّل في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات القَلَق والتوَتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ، ثم في الآخرة حتما بما هو أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴿9﴾ " أي هل يَمْلِك هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغُون الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة مفاتيح الخزائن التي فيها رحمات وخيرات وأرزاق وتقديرات وتدبيرات وترتيبات ربك وربّ الناس والخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم وهو المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة حتي يمكنهم منعها عنهم وعنك وعن اختيارك وتكريمك لتكون أنت رسولنا الرحمة المُهْداة المُسْعِدَة للعالمين بهذا القرآن والإسلام العظيم ؟! وهم الذين قد قالوا مِن قبْل مُتَوَهِّمِين التهوين من شأنك أأنْزِلَ عليه الذكْر مِن بيننا فهل لا يوجد مِن عظمائنا مَن هو أولي منه ؟! .. والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليَسعدوا .. إنَّ ربكم الكريم له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه هو " .. الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴿9﴾ " أي إنما المالك لكلّ ذلك ليس هم قطعا ولكنه الله تعالى العزيز أي الذي لا يَغْلِبه غالِب ويُنَفّذ كلّ ما يريد حينما يريد بمجرّد قول كُن فيكون دون أيّ تَدَخّلٍ مِن أيّ أحدٍ في أيّ تَصَرُّفٍ له ، الوَهَّاب أى الكثير العطاء لكلّ خَلْقه
ومعني " أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ﴿10﴾ " أيْ هذا أيضا تأكيدٌ لِمَا ُذكِرَ في الآية السابقة من عدم ملكيتهم لأيّ شيءٍ مِن خزائن الله تعالى ومِن كلّ الكوْن بل هم خَلْق صغير مِن خَلْقه العظيم ، وإنْ كان لهم مُلْك السماوات والأرض وما بينهما فَلْيَرْتَقُوا فى الأسباب أي فليَصعدوا إذن ما دام الأمر كذلك في الوسائل والقُوَيَ المُمْكِنَة التي تساعدهم علي هذا الصعود والوصول إلى السماء ليتولَّوا هم تدبير أمر الكوْن والخَلْق واختيار الرسل والرسالات التي تنظم للناس حياتهم وإن أرادوا فلْيَقطعوا الماء والهواء والضياء والأرزاق والرحمات والرعايات عمَّن يريدون ويُعطونها لمن شاءوا ونحو ذلك !! .. والاستفهام هو للسخرية من أمثال هؤلاء وللتعجيز لهم !!
ومعني " جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ﴿11﴾ " أيْ ما هؤلاء الذين يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ومَن يُشبههم إلا جند مَا مِن الجنود التي تَجَمَّعَت من الأحزاب المُتَجَمِّعَة ضدّ الله والإسلام والمسلمين وكلها مهزوم بإذن الله هناك حيث يكونوا مُتَجَمِّعِين مُتَحَزِّبين في أماكن وأوقات مُتَعَدِّدَة وسواء أكان تَجَمُّعهم وتَحَزُّبهم عسكريا أم سياسيا أم اقتصاديا أم غيره ، ولفظ " ما " يُفيد التحقير من قوّتهم مهما بَلَغَت حتي ولو كانوا كثيرين بالمقارَنة بقوة الله تعالي .. والآية الكريمة تبشيرٌ بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ﴿12﴾ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ﴿13﴾ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴿14﴾ وَمَا يَنظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴿15﴾ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما متأكِّدا ومُسْتَبْشِرا أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ﴿12﴾ " ، " وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ﴿13﴾ " ، " إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴿14﴾ " أيْ ليس قومك فقط يا محمد ﷺ وليس مَن حولكم أيها المسلمون مِن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين هم أوّل مَن فَعَلَ هذا ، فقد سبقهم إلى هذا التكذيب أمّة نوح التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان ، وأيضا قوم عاد الذين كذبوا رسولهم هوداً فأُهلكوا بالرياح الشديدة ، وكذلك فرعون ذو الأوتاد أي صاحب ومالِك المباني الضخمة العظيمة والجنود الكثيرين الذين يكونون كالأوتاد – جمع وَتد وهو ما يُدَقّ في الأرض لتثبيت الشيء وتقويته – التي تُثَبِّت مُلْكه وتُقَوِّيه ، وذلك يَدلّ علي ثبوت مملكته كالأوتاد الثابتة القويّة .. " وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ﴿13﴾ " أي وكذّب أيضا قوم ثمود رسولهم صالحا ، وقوم لوط رسولهم لوطا ، وأصحاب الأيْكة أي مالِكي البساتين والأشجار الكثيفة ذات الخير الكثير وهم قوم شعيب حيث كذبوه كذلك ، فكانت نتيجة هذا التكذيب الإهلاك لهم ولأمثالهم .. " .. أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ﴿13﴾ " أي أولئك المذكورون هم كانوا من الأمم التي لا تُساويها أمم أخري في القوة والشدّة الذين اجتمعوا وتَحَزَّبوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُدَدِهمْ من أجل محاولة القضاء علي الإسلام فلم تُفِدْهم شيئا وانهزموا وهَلَكوا في النهاية .. " إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴿14﴾ " أي مَا مِن أحدٍ مِن كلّ هؤلاء المُهْلَكِين وإلا وقد كذّب الرسل وما جاءوا به مِن إسلامٍ وعانَدوا واستكبروا واستهزأوا فكان ذلك هو السبب في استحقاقهم العقاب وثُبوته عليهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. وهذه الآيات الكريمة هي تحذيرٌ شديدٌ لكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم في أيّ عصرٍ ومكانٍ لعله يستقيظ ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في الداريْن قبل أن يفوت الأوان ويُعَذّب ويَتعس مثل تعاسات هؤلاء السابقين والذين كانوا أشدّ منه قوة وتَجَمُّعاً وتَحَزُّبَاً ومع ذلك حَدَثَ لهم ما حَدَث وهو أضعف منهم فهو إذن ليس ببعيدٍ عن مِثْله
ومعني " وَمَا يَنظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴿15﴾ " أيْ أنّهم لا يَنتَظِرون – هؤلاء المُكذبون الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة – حتي يَتَحَقّقَ ما يستعجلونه من نزول العذاب بهم بدرجاته وصوره المختلفة وقتا طويلا ، وإنما هي أوقات قليلة ثم تأتي لحظات عذابهم الدنيويّ أو موتهم وعذاب هذا الموت وعذاب قبورهم أو لحظة قيام الساعة حيث نهاية الحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة ، وكلّ ذلك يأتي فجأةً وبسرعةٍ خاطِفَةٍ ليَأخذهم أي يُعَذبهم ويهلكهم ولا يحتاج لكثيرِ وقتٍ أو جهدٍ فالله تعالي قادرٌ علي كل شيء ، فالأمر لا يَتَطَلّب إلا فقط صيْحة واحدة أيْ صوت أو نحوه يُعْلِن بَدْء ذلك ، وكلّ ما هو آتٍ فهو قريبٌ فلا يَتَوَهَّم أيُّ أحدٍ أنه بَعيد .. وفي هذا إنذارٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم ونُصْحٌ أيضا ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصلحوا من ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان ، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها ؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته !! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴿15﴾ " أي هذه الصيحة المُعْلِنَة ببدء العذاب المُعَدّ لهم والذي سيكون مُناسبا لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم لا يكون لهم منها ومِن عذابها أيّ فواق أي إفاقة واستعادة لعافيتهم بسبب سُوئه وشِدَّته ، وأيضا بمجرّد بدء علاماتها فليس لها مِن فواق أيْ مِن تَوَقُّف وانتظار حتى ولو بمقدار فَوَاق ناقة وهو الزمن الذي يكون بين الحَلْبَتَيْن لِلَبَن النّاقَة
ومعني " وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴿16﴾ " أيْ وأيضا مِن شِدَّة استهتارهم واستهزائهم بعذاب الله وتَجَرُّؤهِم علي خالقهم يقولون ربنا – وقول ربنا وهم لا يؤمنون به هو لمزيدٍ من السخرية فكأنهم يُقَلّدون المؤمنين ويَدْعُون ربهم هم أيضا مثلهم ! – أسْرِع لنا بقِطِّنا أي قِسْطنا أي نصيبنا من العذاب هذا الذي تَعِدُنا به فنحن مشتاقون له قبل أن يأتي يوم الحساب هذا حيث نحن لا نؤمن به وليكون دليلا لنا في الدنيا علي أنك مِن المُمْكِن أن تَقْدِر علي عذابنا في الآخرة التي تَدَّعِي وجودها !! فإن لم تَأْتِنا به في دنيانا فإذن ما تَعِد به في قرآنك وإسلامك هو كذب وبالتالي سنكون مُحِقِّين في عدم اتِّباعنا له !!
اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿17﴾ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴿18﴾ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴿19﴾ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴿20﴾ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿22﴾ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿23﴾ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿24﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿25﴾ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿26﴾ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴿27﴾ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴿28﴾ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿29﴾ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿30﴾ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴿31﴾ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿32﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴿33﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴿34﴾ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿35﴾ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴿36﴾ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ﴿37﴾ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴿38﴾ هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿39﴾ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿40﴾ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴿41﴾ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴿42﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿43﴾ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿44﴾ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴿45﴾ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴿46﴾ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴿47﴾ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبار أو ضرر ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما متأكِّدا ومُسْتَبْشِرا أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض (برجاء مراجعة الآية ﴿14﴾ من سورة يونس " ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿17﴾ " أي كن دائما يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم من الصابرين علي ما يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، أي كن دوْما من الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وتَذَكَّر دائما عبادنا الصالحين السابقين ليُعينك ذلك علي صبرك ويُخَفّفه عليك حيث ُأصيبوا بما أصابك وصَبَروا وجاءهم نصرنا وتمكيننا وإسعادنا لهم في دنياهم ثم في أخراهم .. ومنهم عبدنا ورسولنا داود عليه السلام " .. ذَا الْأَيْدِ .. " أي صاحب القوة والهِمَّة في العبادة والسعي في الأرض وإصلاحها وتعميرها والانتفاع بخيراتها وتحقيق السعادة فيها له وللناس حوله والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿17﴾ " أي ومن أهمّ صفاته أيضا أنه دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ودينه الإسلام دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴿18﴾ " أي ومِن أمثلة أفضالنا الزائدة الكثيرة التي نُعطيها للصالحين ، تسخير كل ما في الكوْن وتَنَاسُقه وتَجَاوُبه معهم لنفعهم ولسعادتهم ، فالجبال علي سبيل المثال لا الحصر تُسَبِّح مع تسبيح داود عليه السلام وتسبيح مَن يسبح أي تُرَدِّدُ وتُرَجِّعُ صَدَيَ صوت مَن يتكلم ، وهو دليلٌ منها علي تَجَاوُبها مع مَن يريد الانتفاع بما فيها مِن خيراتٍ كالمعادن النفيسة وخامات الصناعة وغيرها ، وهكذا الكوْن كله مُتَجَانِس مُتَوَافِق مُتَنَاغِم مُتَجَاوِب مُيَسَّر مع الإنسان المسلم إذا كان دوْما مع خالقه سبحانه ومع دينه الإسلام فيحيا بذلك في تمام الأمن والسَّلاسَة والخير والسعادة في دنياه قبل أخراه .. " .. بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴿18﴾ " أي في آخر النهار وأوله ، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم ، أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة
ومعني " وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴿19﴾ " أي والطيور كذلك مَجموعة ومُسَخَّرَة لكي تُغَرِّد وتُسْعِد وتَنفع مَن أراد الانتفاع بها ، وكلها أوَّاب أيْ مُطيع لمصالح الإنسان ومنافعه وسعاداته بأمر الله تعالي لها ، وهي أيضا تُسَبِّح له سبحانه كالجبال وككلّ المخلوقات بطريقتها الخاصَّة التي خَلَقها خالقها عليها ، والكلّ أوَّاب لله تعالي أيْ مُطيع له راجع إليه مرتبط به دائما ، ليُفيد ذلك أنّ المُلك كله له فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده
ومعني " وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴿20﴾ " أيْ قَوَّينا مُلْك داود بما أعطيناه من كلّ أسباب القوة ووَفّقناه للوصول لها ويَسَّرناها عليه وأعَنَّاه علي حُسن استخدامها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرٍّ فسَعِدَ وأسعدَ الجميع .. " .. وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ .. " أيْ وأعطيناه النّبُوَّة والإسلام ليُبَلّغه للناس ليَسعدوا به في الداريْن وكذلك العلم النافع المُفيد وحُسن التصرُّف والتعَقّل والتدبُّر بوضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح المُناسب المُسْعِد دون أيّ عَبَث .. " .. وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴿20﴾ " أيْ وأعطيناه كذلك الخطاب أي الكلام البليغ الفاصِل بين الحقّ والباطل وبين الصواب والخطأ ووَفّقناه للفَصْل أيْ للحُكْم بين الناس في خصوماتهم بكلّ عدل
ومعني " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ " أيْ وهل وَصَلَ إلى علمك يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم ذلك النَّبَأ أي الخبر المُهِمّ ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر .. إنه نَبَأ أولئك الخصوم الذين تَسَلَّقوا على داود غرفته وقت أن كان جالسا فيها لعبادة الله – والمِحْراب هو المكان الذي يُصَلَّي فيه – مِن غير إذنٍ منه ولا علمٍ بقدومهم
ومعني " إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿22﴾ " أي حين دخلوا عليه فتَفَاجَيء من أسلوب دخولهم من غير إذنٍ وفي توقيتٍ غير الوقت الذي كان يُخَصِّصه للحُكم بين المُتخاصِمين في نزاعاتهم ، ولكن لعلّ أمرهم كان مُستعجلا ويحتاجون فيه لحُكمٍ سريع لمنع أضرار كبيرة ، ولذلك أخبروه بحالهم ليزول عنه فَزَعه أي اضطرابه واستغرابه من تصرّفهم ، فَهُمْ قد بَغَيَ أي ظلمَ واعتديَ بعضهم علي بعض ، وذَكَّروه بما يعرفه كما يفعل كلّ مُتَضَرِّرٍ مع مَن يشتكي إليه ويريد حُكْمه بأن يحكم بينهم بالحقّ أي بالعدل ولا يُشْطِط أي لا يَبتعد عنه فيَظلِم وأن يهديهم إلي سواء الصراط أي الطريق الوسط وهو طريق الحقّ والعدل والصواب والخير
ومعني " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿23﴾ " أيْ بَدَأ أحدهما بعَرْض القضية بينهما ، وابتدأ بالتذكير بالأخُوَّة في الله ، سواء أكان أخوه حقيقة أم في الدين أم النَّسَب أم الصداقة ، للتذكرة بما تَستحِقّه من عدم الظلم والاعتداء ، حيث كان هو له فقط نعجة واحدة وهي أنثي الضأن وأخوه له تسع وتسعون نعجة ، فقال له اجعلها في كَفَالَتِي وملكيتي وتَنَازَل لي عنها لتكتمل النِّعاج عنده مائة ، وقَهَرَه وغَلَبَه وضَغَط عليه في الكلام بصورةٍ فيها تهديد وتطاوُل وطمَع
ومعني " قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿24﴾ " أي قال داود عليه السلام بعد فراغ المُدَّعِى مِن كلامه وبعد إقرار المُدَّعَىَ عليه بصدق أخيه فيما ادَّعَاه : إنْ كان ما تقوله حقا أيها المُدَّعِى فإنَّ أخاك في هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طَلَبه منك أن تتنازَل له عن نَعْجَتك لكي يَضُمّها إلى نِعَاجه الكثيرة .. هذا ، ولم يُصَرِّح القرآن الكريم بأنه عليه السلام قد قال حُكْمه بعد سماع كلام المُدَّعَىَ عليه ، لأنه مُقَرَّر ومَعروف عند صاحب كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ القاضي لا يَحكم إلاّ بعد سَمَاع الخُصوم كلها وأدِلّتهم لكي يتمكّن من الحُكْم بالعدل ، وحَذْف ما هو مُقَرَّر ومَعلوم هو أمر مَقبول عند العقول السليمة .. " .. وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. " أيْ أراد داود عليه السلام وهو الذي آتاه الله الحِكمة وفَصْل الخطاب أن يُخَفِّف الأمر عن المُشْتَكِىِ ويُسَلِّيه عمَّا قاله أخوه الغَنِيّ وما فَعَلَه معه وحتي يَتَقَبَّل الطرفان حُكْمه بتَلْطِيف الأجْواء فقال له أنّ كثيرا من الشركاء قد يَعتدي بعضهم علي بعضٍ بصورِ اعتداءٍ مختلفةٍ كلاميةٍ وماليةٍ وغيرها لكنَّ المؤمنين بربهم أي المُصَدِّقين به المتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم لا يفعلون قطعا أيَّ شيءٍ من هذا الظلم ، وفي هذا دعوة لهم للتمسّك بأخلاق الإسلام ليَسعدوا به ولا يَتعسوا بالوقوع في مِثْل ما هم فيه من مُنَازَعَات .. " .. وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ .. " أي لكنَّ القليل من الناس هم الذين يتمسّكون بكلّ أخلاق إسلامهم طوال الوقت وعلي كلّ حال .. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا كذلك بما استطاعوا ، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز ، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه .. " .. وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿24﴾ " أيْ رَجَحَ في فِكْره وعَلِمَ أنَّ هذا الحُكْم الذي حَكَمه – ككلّ مواقف الحياة – هو اختبارٌ من الله تعالي له ، وقد نَجَحَ فيه حيث حَكَم بالعدل إلاّ أنه مِن تمام تَقْواه وخوفه من أيِّ تقصيرٍ أو نَقْصٍ في حُكْمه اسْتَغْفَرَ الله تعالي ليَتِمّ له تمام الثواب وخَرَّ راكعاً أي سَقَطَ ونَزَلَ سريعاً راكعاً وساجداً ومُصَلِّيَاً وأنابَ أي رَجَعَ تائباً له سبحانه مِن أيِّ احتمالِ خطأٍ يكون قد وَقَعَ فيه .. وفي هذا تذكيرٌ بتمام التقوي والعدل والتَّأَنِّيِ والاستغفار لكلّ مَن يَتَصَدَّيَ للحُكْم في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة
ومعني " فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿25﴾ " أيْ عَفَوْنا عَمَّا كان منه واستغفر بسببه ، وهو له عندنا إكراماً مِنّا ووَعْدَاً لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ، له قطعا في الدنيا بسبب حُسن إسلامه وعدله التامّ في مُلْكه واستغفاره أولا بأوّل ، له زُلفَيَ أي قُرْبَة ودَرَجَة ورِفْعَة ومَكَانَة سامية وتَقَرُّب منّا ورعاية وأمن ورضا وحب وتوفيق وسداد ورزق وقوّة وسعادة ، ثم له حتما في الآخرة حُسن مآب أيْ مَرْجِع حَسَن طَيِّب في أعلي درجات الجنات حينما يعود إلينا بعد موته ويوم القيامة حيث سيكون له ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. وهذا أيضا سيكون بالتأكيد هو حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه به وبالرسل الكرام
ومعني " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿26﴾ " أيْ ومِن علامات أنَّ له عندنا زُلْفَيَ أنّنا جعلناه بفضلنا وكرمنا خليفة أي يَخْلفنا ويكون نائبا عنّا في الأرض ، ليَتَوَلّىَ حُكْم الناس بالحقّ ، أيْ لكي يُحسن إدارة كلّ شئون حياتهم بالعدل وبكلّ أخلاق الإسلام التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام الصلاح والكمال والسعادة في دنياهم وأخراهم ، وحَذّرناه من اتّباع الهَوَيَ وهو الشرّ والفساد والضَرَر وإلا ضَلّ أي ضاعَ وانحرفَ وتَاهَ عن سبيل الله أي طريقه المستقيم المُسْعِد في الداريْن ، لأنَّ هؤلاء الذين يَضِلّون سيكون لهم حتما عذاب شديد يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، في دنياهم حيث سيكون لهم درجة ما مِن درجات درجات القَلَق والتوَتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم لهم حتما ما هو أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد ، وكلّ ذلك سَبَبه " .. بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿26﴾ " أيْ بسبب نِسيانهم للآخرة أيْ تَرْكهم الاستعداد لها وللحساب وللعقاب وللجنة وللنار لذلك ارتكبوا ما ارتكبوه ، وسبب هذا النسيان أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي الآية الكريمة توجيه للناس ليكونوا جميعا نِعْمَ الخُلفاء في الأرض ليَسعدوا فيها تمام السعادة ثم في آخرتهم بما هو أتمّ وأعظم وأخلد
ومعني " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴿27﴾ " أيْ ما خلقنا بقدْرتنا التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها ، ما خلقنا كلّ ذلك باطلا أيْ عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة ! وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا .. " أي ذلك الظنّ السَّيِّء الفاسد الجاهل بأنَّ خَلْق هذا الكوْن خالٍ مِن الحِكْمة هو فقط ظنّ واعتقاد الذين كفروا وحدهم ، فكفرهم بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وبعقابه وبجنته وبناره هو سبب اعتقادهم هذا والذي سببه تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴿27﴾ " أيْ فهَلاكٌ لهم إذن من النار التي تنتظرهم لتُعَذّبهم يوم القيامة في مُقابِل هذا الاعتقاد السَّفِيه والذي دَفَعهم لفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار – والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم – وذلك إضافة إلي الويْل الدنيويّ أيْ العذاب الذي يُصيبهم في دنياهم ويَتَمَثّل في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوَتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ليَستفيقوا قبل نزول العذاب بهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن .. وهو ضِمْنَاً رحمة بهم بصورة غير مباشرة لِيَنْتَبِهُوا وليَسْتَعِدُّوا
ومعني " أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴿28﴾ " أيْ وكما أنّنا لم نخْلُق هذا الكوْن عَبَثَاً ولكن بحِكمة ولحِكمة ، واسْتِحَالة أن يكون غير ذلك ، فهل من الحكمة أن نساوي بين الذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بأخلاق الإسلام وكانوا من المُتقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، وبين المُفسدين الذين يَفعلون المَفاسد والشرور والأضرار بكلّ صورها المختلفة ، الفُجَّار أي الذين يفعلون أشدّها وأسوأها وبلا مُبالاة لأيّ شرٍّ وضَرَرٍ أو خوفٍ من عقاب ؟!! إنه أمر مستحيل حتما أن يساوي الله تعالي بينهما وهو الخالِق العادل الحكيم الرحيم !! .. إنه بلا أيّ شكّ وبكلّ تأكيد هناك فرق شاسِع بينهما في الدنيا والآخرة ، فالفريق الأول قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ به ونَشَرَه لغيره ، بينما الثاني فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم ، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه ، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿29﴾ " أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته للرسول ﷺ وللناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه .. لقد أنزلناه لكي يَتَدَبَّروا آياته أي يَتَعَمَّقوا ويَتَفَكَّروا ويَتَعَقَّلوا فيها ليَنتفعوا وليَسعدوا بها حيث تشمل البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمَواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة سيجدون فيها السعادة كلها في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. " .. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿29﴾ " أيْ وأيضا لكي يَتَذَكَّر أصحاب العقول أي لكي يتذكّروا ولا يَنسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصِدْق ، وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نَسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حارَبوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تَعِسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة
أما معني " وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿30﴾ " أيْ وأعطينا ورزقنا بفضلنا وكرمنا لداود ابنه سليمان عليهما السلام والذي سيكون هو أيضا رسولا مِنّا للناس يَحمل لهم الإسلام ويَدْعوهم إليه ليَسعدوا به في دنياهم وأخراهم ، وهو نِعْمَ العبد لنا (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) أيْ ما أحْسَنَه لأنه متمسّك بكلّ أخلاق إسلامه والتي منها أنه أوَّاب أيْ دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ودينه الإسلام دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴿31﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم حين عُرِضَ علي سليمان عليه السلام أي ُأحْضِرَ له ومَرَّ أمامه للعَرْضِ للاطمئنان علي قوة جنوده ومُعِدَّاتهم واستعداداتهم للدفاع عن دولة الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، عُرِضَ عليه بالعشي أي آخر النهار هذا العَرْض الذي كان فيه الصَّافِنات الجِياد أي الخيول ذات الجودة السريعة الجري حينما تجري والصافنات أي الواقفات التي عندما تقف يكون وقوفها بخِفَّة ورَشَاقَة واستعداد ، وفي هذا الوصف دلالة علي القوّة والنَّفاسة والفَخَامَة وتمام الاستعداد
ومعني " فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿32﴾ " أيْ فقال أثناء هذا العَرْض الطيِّب الضخم إني امتلأتُ بحبِّ الخير ويَقصد الخيل والقوّة والمال وكلّ ما يُفيد في نشر الإسلام والدفاع عنه ، عن ذِكْر ربّي أي أحببته حبّا صادرا وناشئا عن حبّ الله تعالي وحب إسلامه والناس والخَلْق جميعا والذين أمره ربه بحبهم وهو مُرَبِّيه وراعيه ورازقه ومُرْشِده لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، فأنا أحب القوة لحُبِّي الشديد لهؤلاء ومِن أجْلِهم .. " .. حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿32﴾ " أي بَقِينا في هذا العَرْض ، في هذا الجهاد في سبيل الله وبهذه الهِمَّة والحماسة والاستعداد بالقوة لدفع أيّ اعتداء ، بَقِينا طوال اليوم حتي اختفت الخيل عن الرؤية بسبب الحجاب أي الساتِر والمانِع وهو ظلام الليل الذي حَجَبَ الرؤية أيْ مَنَعَها
ومعني " رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴿33﴾ " أيْ أرْجِعُوها إليَّ لكي نكرمها ونتعرَّف علي مزيدٍ مِن احتياجاتها لتلبيتها فقد أجهدناها كثيرا في هذا العَرْض ، فأخَذَ وبَدَأَ يَمْسَح سُوقها – جَمْع ساق – أي أرجلها وأعناقها أي رقابها تعبيرا منه عن الحب والرفق والاهتمام والإكرام والإعجاب والسرور
أمّا معني " وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴿34﴾ " أي اختبرنا سليمان كما نختبر كلّ الرسل وكل البَشَر باختباراتٍ بين الحين والحين ليَخرج الجميع منها مُستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لهم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴿34﴾ " أيْ ومِن بعض هذه الاختبارات أنْ ألقينا علي كرسيّ مُلْكه جَسَدَا ، وهو جسده هو ذاته حيث أصابه مرضٌ فكان جَسَدَاً هامِدَاً عندما يَجلس علي الكرسيّ فلا يَقْوَيَ علي الحركة وتسيير شئون البلاد ، وذلك ليعلم أنّ إدارة مملكته هي بتوفيق الله وعوْنه وتيسيره فلا يَغْتَرَّ أو يَظلم أو نحو ذلك مِن فِتَن الحُكم والسلطان ، ولذلك بعد هذا الاختبار أنابَ لله أي رَجَعَ تائباً له سبحانه مِن أيِّ احتمالِ خطأٍ يكون قد وَقَعَ فيه .. وفي هذا تذكيرٌ بتمام التوكّل علي الله والتقوي والعدل والتَّأَنِّيِ والاستغفار أوّلاً بأوَّلٍ عند التعامُل مع أيِّ شأنٍ من شئون الحياة لتتمّ السعادة فيها ثم في الآخرة
ومعني " قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿35﴾ " أي عندما رَجَعَ وأنابَ دَعَا وقتها بالمغفرة وبأن يُعطيه الله مُلْكَاً لا يستطيع أحدٌ بعده أيْ غيره أن يأخذه منه ، وذلك ليس حرصاً منه حتما – ككلّ الرسل الكرام – علي أثمان الدنيا الرخيصة بالنسبة للآخرة وإنّما للحِرْص الشديد علي ألاّ يأتي مَلِكٌ بعده لا يَحْكُم بالإسلام فيَتعس الناس بذلك ، وحتي بعد موته يدعوه تعالي بأن يَحكم مُلْكه والأرضَ كلها حاكِمٌ مسلمٌ صالحٌ مثله ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، وطَلَبه هذا عليه السلام ليس أيضا قطعا غَيْرَة منه وحَسَدَاً ومَنْعَاً لأحدٍ مِن خيرٍ يأتي له مِن ربه مهما عَظُمَ هذا الخير والمُلْك لأنه لا يستطيع مَنْعه أصلا ثم هذا لا يُمْكِن مُطْلَقَاً أن يكون من صفات الرسل ولا المسلمين عموما !! .. " .. إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿35﴾ " أي الكثير العطاء لكلّ خَلْقك .. وفي الآية الكريمة تذكرةٌ للناس أن يُحْسِنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا من خلال التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام في كلّ مواقف الحياة المختلفة ليَنالوا تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة ذلك في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
ومعني " فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴿36﴾ " أيْ فاستجاب الله تعالي لدعائه وأعطاه مُلْكَاً عظيما ونِعَمَاً هائلة لا تُحْصَيَ والتي منها أنه ذَلّل له الرياح تتحرّك بإذنه ورغبته من خلال إذنه سبحانه لها بصورةٍعليقيقاط مطر مفيد لأرض ما لزراعتها وما شابه هذا من منافعا تحمله من خير وسعادة للناسه الرياح تتحرك بإذنه عند دعائه لربه ورغبته ب فيها رَخَاوَة ولِيِن وطاعة لتنقله حيث يَهْدِف ويَتَّجِه ويَذهب إلي المكان الذي يريد الوصول إليه بسفنه وما تحمله من خيرٍ وسعادةٍ للناس أو لتحقيق إسقاطِ مطرٍ مُفيدٍ علي أرضٍ ما لزراعتها أو ما شابه هذا من منافع
ومعني " وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ﴿37﴾ " أيْ وأيضا مِن نِعَمِنا وبأمرنا وتَيْسِيرنا وتَسْخِيرنا ، جُمِعَ لسليمان جنودٌ كثيرون مُتَنَوِّعون يَعملون تحت أوامره لا يُخالفونها أبدا بحيث يُحَقّقون مصالح الناس ومنافعهم وسعاداتهم ومنهم جُنْدٌ من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو سبحانه هي عبارة عن مخلوقات جِنِّيَّة ليست أعْيُن البَشَر مُؤَهَّلَة لرؤيتها يُطْلَق عليها شياطين ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين ، وعند بعض العلماء المقصود بالشياطين ُأناس بَشَر مَرَدَة أيْ مَهَرَة أشِدَّاء اختارهم سليمان بعناية لهذه المهامّ الصعبة ، ويُتَعَارَف في بعض البلدان إطلاق اسم شيطان علي مَن يقوم بمثل هذه الأعمال الخارِقة غير المُعْتَادَة مِن بني آدم .. " .. كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ﴿37﴾ " أي كثير منها يكون بَنَّاءً أي كثير البِنَاء للمباني العظيمة النافعة ، وكثير منها أيضا هو غَوَّاص أيْ كثير الغَوْص في أعماق البحار لاستخراج خيراتها وكنوزها المختلفة المُفيدة المُسْعِدَة
ومعني " وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴿38﴾ " أيْ وآخرين منهم أيضا غير البَنَّائين والغَوَّاصِين الذين ُذكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ مُقَيَّدِين في السلاسل ، وهؤلاء هم الذين يعصونه في بعض أوامره أو لا يُحسنون أعمالهم فيُعاقبهم بعقوبةٍ مناسبة عادلة ، وهذا يدلّ علي تمام السيطرة علي جنوده وحُسن مُتابعتهم حتي لا يُقَصِّروا في مَهامِّهم لنفع الناس ولإسعادهم
ومعني " هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿39﴾ " أيْ هذا المُلْك العظيم هو العطاء الذي أعطيناك إيّاه من فضلنا وكرمنا وإنعامنا وهو كثير لا يُمكن حسابه وحَصره ، فأعْطِ منه مَن شِئْتَ لأنه يستحِقّ العطاء أو امنع منه مَن شِئْتَ لأنه يستحِقّ المَنْع ، فلا مُحَاسَبَة ومُؤَاخَذَة عليك أي لك مُطْلَق حرية التَّصَرُّف فيه في مِقدار ما تُعطيه وما تَمنعه ، وهذا دليلٌ علي تمام ثقة الله تعالي في حُسن خُلُقه وتمسّكه بكل أخلاق إسلامه حيث سيكون تامَّ العدل حَسَنَ التصرّف في كلّ موقف من المواقف بما يُحَقّق السعادة له وللناس جميعا .. وهكذا سيكون حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه بالرسل الكرام في تمام تواصلهم مع ربهم وكمال تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم حيث سيكون مِمَّن يَعْدِلون ويُحسنون التصرّف في كلّ شئونهم فتتحَقّق حتما لهم ولمَن حولهم السعادة التامَّة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿40﴾ " أي وهو له عندنا إكراماً مِنّا ووَعْدَاً لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ، له قطعا في الدنيا بسبب حُسن إسلامه وعدله التامّ في مُلْكه واستغفاره أولا بأوّل ، له زُلفَيَ أي قُرْبَة ودَرَجَة ورِفْعَة ومَكَانَة سامية وتَقَرُّب منّا ورعاية وأمن ورضا وحب وتوفيق وسداد ورزق وقوّة وسعادة ، ثم له حتما في الآخرة حُسن مآب أيْ مَرْجِع حَسَن طَيِّب في أعلي درجات الجنات حينما يعود إلينا بعد موته ويوم القيامة حيث سيكون له ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. وهذا أيضا سيكون بالتأكيد هو حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه به وبالرسل الكرام
أما معني " وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴿41﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم وتَذَكَّر وذَكِّر الآخرين بحال عبدٍ مِن عبادنا ورسولٍ مِن رسلنا لتَستفيد مِن صَبْره الطويل علي حاله (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ ، كما استفدتَ من قصة داود وسليمان عليهما السلام في الآيات السابقة والتي كان فيها الاختبار بالمُلْك والخير الكثير (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فاذكُر حين نادَيَ أيوب عليه السلام أيْ دَعَا ربه وسأله أن يشفيه مِمَّا أصابه حيث ُأصيبَ بنُصْبٍ أيْ تَعَبٍ وعذاب أي ألمٍ بسبب مرضٍ ما من الأمراض لفترة .. هذا ، وقد نَسَبَ التعبَ والألم للشيطان وهو رمزٌ لكلّ شرٍّ وسوءٍ ولم يَنْسِبه لله تَأَدُّباً معه سبحانه حيث الكمال له تعالي والنقْص يكون مِن غيره لأنه في معظم الأحيان إن لم يكن كلها يكون الإنسان ذاته أو مَن حوله هم سبب مرضه وما يقع فيه مِن ضَرَرٍ بسوء تعاملهم مع الصحة والتغذية ومواقف الحياة المختلفة ونحو هذا .. ومِن أدبه أيضا عليه السلام أنه عَرَضَ حاله وشكواه ولم يقترح حَلَّاً مُعَيَّنَاً وإنما تَرَكه للقويّ الكريم الرحيم العالِم بكلّ شيءٍ ليَختار له أفضل الحلول وأنسبها وأسعدها وتوقيت حُدوثها بما يُحَقّق له ما يُسعده في دنياه وأخراه
ومعني " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴿42﴾ " أيْ فاستجبنا له دعاءه وأرشدناه الى علاج ما به بأنْ قلنا له ارْكُض برجلك أى اضرب بها الأرض فضربها فنَبَعَتَ من تحت رجله عيْنٌ مِن ماءٍ فوَجَّهناه إلي أنَّ هذا الماء الطيِّب البارد الذي يُبَرِّد ويُزيل أيّ حُمَّيَ ونحوها هو مُغْتَسَلٌ يُغْتَسَلُ به لجسده ويُشْرَبُ منه ، فشفي بقدْرة الله مِمَّا هو فيه وبأسبابٍ يَسيرة يَسَّرَها له وهَدَاه إليها القادر علي كلّ شيءٍ سبحانه .. وهذا أيضا سيكون بالتأكيد هو حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه به وبالرسل الكرام
ومعني " وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿43﴾ " أيْ ولم نَكْتَفِ فقط بعلاجه بل أيضا بعد شفائه أعطيناه وأَعَدْنَا له أقاربه ومعهم أمثالهم كثيرون مِن عموم الناس لِيَزُورُوه ولِيَتَوَادُّوا ولِيَتَعَامَلُوا معه مِن جديدٍ بعدما انقطعوا عنه فترة مرضه مِن باب اتِّخاذ أسباب مَنْع العدوي ، وكلّ ذلك برحماتنا ونِعَمِنا وأفضالنا .. " .. وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿43﴾ " أيْ وكذلك قد شَفَيْناه ووَهَبْنا له أهله مِن أجل أنْ يَتَذَكَّر ويَعْتَبِر بهذا أصحاب العقول الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويجتهدون في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامهم أنَّه إذا أصابهم اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما فلْيَصبروا عليه حتي يَخرجوا منه مُستفيدين منافع كثيرة ولْيَستعينوا بربهم ولْيَدعوه وسيكشف حتما ما هم فيه بأفضل توقيتٍ وأسلوبٍ يُحَقّق لهم كلّ خيرٍ وسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿44﴾ " أيْ ومِن نِعَمِنا عليه أيضا أننا قد خَفَّفْنا عنه وعاونّاه علي تنفيذ قَسَمَه ولا يَحْنَث فيه ، أي يَأْثَم بأن يُخْلِفه ولا يُوَفّيِ به ، حيث قد أقْسَمَ أثناء مرضه علي ضرب أحدٍ مِن أهله عدّة ضربات بعد أن يُشْفَيَ لأنه قَصَّرَ تقصيرا ما في حقّ الله ، فأرشدناه أن يأخذ ضِغْثَاً أيْ حزْمَة صغيرة فيها عدد من العِصِيّ يُساوي عدد الضربات التي كان سيَضربها لمَن سيُعاقبه ويَضربه بها ضربة واحدة فقط ، وفي هذا توجيهٌ لكلّ مسلم أنه عند تنفيذ قَسَمه يُخَفّف ما استطاع بحيث لا يُسِيء لأحدٍ مع حرصه التامّ علي تنفيذ وعْده وقَسَمه ، وإنْ رَأَيَ أنه سيحدث ضَرَرَاً ما لأحدٍ ما فلْيَحْنَث حينها ولْيُكَفّر عن يَمِينه بكفّارته المعروفة .. وهذا من تيسرات الإسلام حيث يَتَوَازَن بين الوفاء بالوعود وبين عدم الإثقال علي أحدٍ بل إسعاد الجميع في دنياهم وأخراهم .. " .. إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا .. " أي هذا التيسير والإنعام كانا جزاءً علي ما عَلِمَه سبحانه من أخلاقه وظَهَرَ في سلوكيّاته وتَصَرّفاته للآخرين حيث كان صابرا علي الاختبار مُتوكّلا علي ربه تمام التوكّل متمسّكا بكلّ أخلاق الإسلام .. " .. نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿44﴾ " أيْ ما أحسنَ هذا العبد في عبادته لنا (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) لأنه متمسّك بكلّ أخلاق إسلامه والتي منها أنه أوَّاب أيْ دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ودينه الإسلام دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴿45﴾ " أي اذكر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم وتَذَكَّر وذَكِّر الآخرين بحال عبادنا ورسلنا هؤلاء لتقتدوا جميعا بهم حيث أحْسَنوا وأخلصوا العبادة لنا (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وكانوا " .. أُولِي الْأَيْدِي .. " أي أصحاب القوة والهِمَّة في العبادة والسعي في الأرض وإصلاحها وتعميرها والانتفاع بخيراتها وتحقيق السعادة فيها لهم وللناس حولهم والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير .. " .. وَالْأَبْصَارِ ﴿45﴾ " أي وكانوا أيضا أصحاب الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أي إدراك العقل ، أي يتبَصَّرون أي يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون بعقولهم الإسلام الذي فيه كل ما يُنير لهم طريقهم في حياتهم ويكون لهم إرشادا فيعرفوا به أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقّق لهم ولكلّ مَن يَقتدي بهم السعادة التامّة في الدنيا والآخرة
ومعني " إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴿46﴾ " أيْ إنّا خَصَّصْناهم بخَاصِيَّةٍ عظيمةٍ هى ذِكْرهم الدار الآخرة بثوابها وعقابها باستمرار ، الأمر الذي دَفَعَهم إلي العمل لها بصورةٍ دائمةٍ مِن خلال تمسّكهم بكلّ أخلاق الإسلام ، وقد دَعَوْا غيرهم لذلك وذَكَّرُوهم به وأعانوهم عليه ليَسعد الجميع في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وهذه الخاصِيَّة هي في فِطْرَة كلّ إنسان وعليه تفعيلها وتنميتها ودعاء ربه تيسير ذلك للاستفادة وللسعادة بها مثلهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وأيضا من معاني الآية الكريمة أنَّ مِن نِعَمِنا عليهم كذلك والتي جعلتهم ذوي أيدٍ وأبصارٍ كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أنّنا أخْلَصْناهم أيْ جعلناهم خالِصين لنا أيْ مُخلِصين لنا لا لغيرنا أصفياء أنقياء من أيّ سوءٍ أيْ وَفّقناهم للإخلاص لنا في العبادة بلا أيّ شريكٍ ولاتّباع الإسلام بلا أيّ نظامٍ آخر وذلك بسبب هذه الخاصِيَّة وهي التذكّر الدائم للآخرة والتي تجعلهم دوْما فاعِلين لكلّ خيرٍ وتاركين لكلّ شرٍّ والتي مَن سيَتَشَبَّه بهم فيها فسَيَنال حتما ما نالوا من سعادتيّ الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهذا التوفيق للإخلاص – لهم ولكلّ مسلم – جاء بعد اختيارهم هم أولا لاتّباع ربهم وإسلامهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيَسَّرَ لهم سبحانه بعد ذلك كلّ هذا الخير ووفّقهم له (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴿47﴾ " ، " وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ﴿48﴾ " أيْ وبسبب حُسن خُلُقهم وبتَذَكّرهم الدائم للآخرة كما ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ كان لهم عندنا مَكَانَة عظيمة رفعناهم إليها حيث جعلناهم مِن المُصطفين – جمع مصطفي – أيْ مِن المُختارِين الذين اخترناهم ليَحملوا الإسلام للناس ليَسعدوا به في الداريْن وينالوا أعظم الثواب لذلك ، وجعلناهم كذلك من الأخيار أي المَشهورين بالخير المُنْتَسِبِين دائما له الذين يفعلونه دوْماً ولا يفعلون أيّ شرّ ، وكذلك كان كلٌّ من اسماعيل والْيَسَع وذا الكِفْل والذين أوصينا بتذكّر أحوالهم والاستفادة منها : " وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ﴿48﴾ " والْيَسَع هو مَن اسْتَخْلَفه إلياس عليه السلام مِن بعده علي بني إسرائيل وأعطاه الله تعالي النّبُوَّة ، وذا الكفل هو أحد الصالحين صاحب التكفّل بحماية الإسلام بعد أيوب عليه السلام ووَفَّيَ بوْعده وقد يكون هو أحد أبنائه وأعطاه أيضا تعالي النبوّة كأيوب .. وكذلك سيكون حال كلّ مَن سيَتَشَبَّه بهم مِن المسلمين في حُسن خُلُقهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم حيث سينالوا كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم
هَٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴿49﴾ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴿50﴾ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴿51﴾ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴿52﴾ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿53﴾ إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴿54﴾ هَٰذَا ۚ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴿55﴾ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿56﴾ هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴿57﴾ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴿58﴾ هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ۖ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ ۚ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴿59﴾ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ ۖ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ۖ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴿60﴾ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴿61﴾ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ﴿62﴾ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴿63﴾ إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴿64﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هَٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴿49﴾ " أيْ هذا القرآن العظيم الذي أنـزلناه إليكم أيها الناس هو ذِكْرٌ لكم تتذكّرون به كلّ خيرٍ وسعادةٍ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم عندما تعملوا بكلّ أخلاق الإسلام التي فيه .. وكذلك هذا الذي ذَكَرْنَاه وقَصَصْناه عليكم هو ذكرٌ لهؤلاء الرسل الكرام والذي هو تذكرةٌ مُفِيدَة مُسْعِدَة لمَن أراد أن يتذكّر بأحوالهم ليَسعد مثل سعاداتهم في الداريْن .. " .. وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴿49﴾ " أيْ تَذَكّروا الذي قِيلَ سابقا وأيضا تذكّروا دائما أن للمُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، تذكّروا أنَّ هؤلاء لهم حُسن مَآب أي مَرْجِع حَسَن طَيِّب في أعلي درجات الجنات حينما يعودون إلي ربهم بعد موتهم ويوم القيامة حيث سيكون لهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ممّا كانوا فيه مِن سعادة الدنيا والتي كانوا فيها بسبب دوام تَوَاصُلهم مع ربهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم
ومعني " جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴿50﴾ " أي حُسْن المَرْجِع هذا الذي ُذكِرَ في الآية السابقة هو عبارة عن جناتٍ أيْ بساتين وقصور ونعيم مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، وهي جنات عدنٍ أي جنات إقامة دائمة خالدة بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد ، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم .. وقد فُتِحَت أبوابها بإذن ربها بمجرّد رؤيتهم تِلْقائيّا دون أيّ جهدٍ منهم على سبيل التكريم لهم والسرور بحضورهم ودخلوهم لها لتمام التمتّع بها
ومعني " مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴿51﴾ " أيْ ويكونون فيها في صورةٍ من صور التّمَتّع والنعيم حيث النسيم الطيّب لظلال الأشجار وحيث في بعض أحوالهم يكونوا مُتَّكِئين أيْ جالسين جلسةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم والتي تُفيد تمام التمتّع بالراحة والاسْتِرْخاء وكمال التكريم علي أرائك مُزَيَّنَة بأفخم الزينة والمفروشات جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يشبهه ، ويطلبون أنواعا كثيرة من الفاكهة اللذيذة ومن الشراب الطيّب فيُسْتَجَاب لطَلَبهم مِمَّن يخدمونهم في الحال بمجرّد أن يَمرّ بخيالهم ما يطلبونه ويتمنونه
ومعني " وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴿52﴾ " أيْ أهل الجنة ، رجالا ونساءً ، يكونون في أجمل وأحليَ صورة ، وفي أعلي درجات الحبّ والصفاء والعِفّة فيما بينهم ، فالنساء قاصراتُ الطرْفِ أيْ حابِسَات الأعْيُن أي يَمْنَعْنَ عيونهنَّ عن النظر لغير أزواجهنّ ، كما أنهنَّ مْن شدّة جمالهنَّ فهُنَّ يقْصِرْنَ أيضا طرْفَ أزواجهنّ أيْ يَجعلهنَّ مُقْتَصْرين فقط عليهنّ فلا يَنظرنَ لغيرهنّ ، والجنة قطعا ليس فيها صفات الدنيا التي كانت تَتَطَلّب غضَّ البَصَر حيث الكلّ جميل سعيد لا يحمل إلا كلّ صفات الخير دون أيّ شرّ .. " .. أَتْرَابٌ ﴿52﴾ " أيْ الجميع مُتَساوُون مُتَمَاثِلون في السنّ وهو سنّ الشباب وفي الجمال وكلّ الأخلاق الحَسَنَة
ومعني " هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿53﴾ " أيْ هذا الذي ُذكِرَ لكم من النعيم العظيم الذي لا يُقَارَن في جناتِ عدْنٍ هو وعْدنا الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً والذي تُوعَدُون به مِنّا في الحياة الدنيا والذي ستَنالونه في يوم الحساب في الآخرة جزاءَ ومُقَابِلَ تمسّككم بأخلاق إسلامكم
ومعني " إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴿54﴾ " أيْ إنَّ هذا الذي ُذكِرَ لكم ووُعِدتم به من النعيم العظيم الذي لا يُقَارَن في جناتِ عدْنٍ هو رزقنا ، هو نَعيمنا الذي ليس له أيّ نفاد أيْ زَوَال وانتهاء بل هو دائم مُتَزَايِد مُتَنَوُّع ، مِن فضلنا وكرمنا ورحمتنا علي المؤمنين بنا المتمسّكين بإسلامنا
أما معني " هَٰذَا ۚ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴿55﴾ " أي هذا الذي سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ خالدٍ هو حتماً للمؤمنين ، أمَّا الذي هو مُعَدّ ومُجَهَّز للطاغين فإنه قطعا شرّ مآبٍ أيْ مَرْجِع سَيِّء خَبيث تَعيس حينما يَرْجِعون إلينا بعد موتهم ويوم القيامة ، حيث التعاسة التامّة بسبب العذاب المُؤلِم المُهِين – إضافة إلي درجةٍ مَا مِن درجات عذاب الدنيا الذي كانوا فيه والذي تَمَثَّل في ضيقٍ أو قَلَقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة – والذي سيُناسِب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. والطاغون هم كلّ مَن طغَيَ أيْ جاوَزَ الحَدّ أيْ خالَف الإسلام أيْ ظَلَمَ بأيِّ نوع من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
ومعني " جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿56﴾ " أيْ شَرّ المَآبِ هذا الذي ُذكِرَ في الآية السابقة هو عبارة عن جهنم يَحترِقون بنارها وتَشْوِي بلَهِيبها جلودهم ولحومهم وأحشاءهم بعذابها المُؤْلِم المُوجِع المُهِين ، فما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي يَفترشونه ويَستقرّون فيه .. هذا ، ولفظ " المِهاد " فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب !
ومعني " هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴿57﴾ " أيْ هذا العذاب هو حميمٌ وغسَّاقٌ فلْيَذوقوه وليَتعذبوا به إذن جزاء تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أثناء حياتهم الدنيا ، والحميم هو الماء الذي وصل أقصي درجات السخونة ، والغسّاق هو السائل الذي يتكوّن من القيح والصديد والدم وغيره الذي يسيل من أجسادهم المحترقة بالنار ، فيُؤْمَرُوا أن يَشربوه قَهْرَاً ، كنوع من أنواع عذاب جهنم
ومعني " وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴿58﴾ " أي وهناك أيضا عذابٌ آخر مِن شَكْل عذاب الحميم والغسَّاق الذي ُذكِرَ في الآية السابقة أيْ مِثْله في شِدَّته وفَظَاعَته وسُوئه ومَهَانته وهو من كلّ الأزواج أي الأصناف والأنواع التي لا تخطر علي بالِ أحد .. أيْ هناك أزواج وأزواج أيْ أنواع وأنواع مُتَعَدِّدَة مختلفة من العذاب المُؤلم المُوجِع المُهين بما يناسبهم
أمّا معني " هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ۖ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ ۚ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴿59﴾ " ، " قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ ۖ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ۖ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴿60﴾ " أي يُقالُ لِمَن في النار هناك فوجٌ أيْ جَمْعٌ سيَقْتَحِم أي سيَدْخُل وسيُرْمَيَ بشدّة وبسرعة معكم في عذابكم .. حينها لا يُرَحِّبُون بهم بل يَسُبُّ ويَلْعَنُ بعضهم بعضاً بصورةٍ فيها نَدَم وحَسْرَة ولوْم وضيق بسبب أنهم جميعا كانوا في دنياهم من أهل الشرّ والفساد والضَرَر وكانوا يتعاونون فيما بينهم عليه ، فيكون ذلك نوعا من العذاب النفسيّ إضافة إلي العذاب الجسديّ الذي هم فيه .. وهذا يَحْدُث بين كلّ فَوْجَيْن مُتتابِعَيْن يَدخلون جهنم حيث دخولهم يكون أفواجا مُتَتالِيَة يُدْفَعُون فيها دَفْعَاً بكل ذِلَّة وإهانَة .. " .. إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴿59﴾ " أيْ وعلي ماذا نُرَحِّب بهم ؟! هل جاءوا لينقذونا مِمّا نحن فيه أو حتى ليُخَفّفوا عنّا ؟! إنهم جاءوا مثلنا للنار وللاصْطِلاء أي الاحتراق بحَرِّها وللعذاب الأليم المُهِين فيها بأنواع عذاباتها المختلفة !! .. " قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ ۖ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ۖ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴿60﴾ " أيْ فيَرُدّ عليهم الداخِلون الجُدُد للنار فيقولوا لكنكم أنتم الأحقّ بعدم الترحيب بكم وبكلّ سبٍّ وذَمٍّ ولَعْنٍ لأنكم أنتم الذين قَدَّمْتُم لنا هذا العذاب لنذوقه حيث كنتم قادة ونحن تابعين لكم ولذلك دخلتم النار قبلنا حيث قَدَّمتم لنا أي عَرَضْتُم علينا وحَسَّنْتُم لنا في الدنيا التكذيب والعِناد والاستهزاء ودعوتمونا إليه وسَهَّلْتُمُوه لنا وساعدتمونا عليه وعلي كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ من أجل أن نحصل علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وهذا الحوار ذو النّدَم والحَسْرَة والضيق والسَّبِّ واللّعْن يكون بين كلّ تابع حينما يَرَيَ مَن اتَّبَعه الذي أضَلّه معه في العذاب .. " .. فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴿60﴾ " أيْ فمَا أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المكان المُسْتَقِرِّين نحن فيه وهو جهنم .. وهذا يُفيد تمام نَدَم الجميع التابعين والمَتْبُوعين وحَسْرَتهم وألمهم
ومعني " قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴿61﴾ " أيْ ويَطلب التابعون من ربهم من أجل شفاء غِلِّهِم أن يُعطي ويَزيد عذابا مُضَاعَفَاً من عذاب النار للمَتْبُوعِين حيث هم الذين قدَّموا لهم هذا العذاب لأنهم دعوهم في دنياهم للتكذيب والعِناد والاستهزاء وللشرور والمَفاسد والأضرار وكانوا السبب فيما هم فيه ، فلابُدَّ أن يكون لهم إذن عذابٌ بسبب فسادهم وعذابٌ آخر كثير بما يُناسب إفسادهم لكثيرين غيرهم ، فهذا هو العدل بلا أيّ ذرّة ظلم
ومعني " وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ﴿62﴾ " ، " أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴿63﴾ " أيْ ويَتَلَفَّت أهل النار حولهم يُحاولون رؤية رجال من المؤمنين كانوا في الدنيا يعتبرونهم كذباً وزُوراً أشراراً أيْ حَقِيرين ضعفاء فقراء مُتَخَلّفين رَجْعِيِّين لا خير فيهم ولا فائدة منهم لأنهم لا يفعلون المَفاسد ولا يَعبدون الأصنام مثلهم !! ولا يَكتفون بذلك بل ويسخرون منهم ويحتقرونهم ويَتَعالُون عليهم ويُذِلّونهم !! ويتساءلون فيما بينهم عن لماذا لا نراهم معنا في النار ؟!! هل كنّا مُخطئين حين سَخَرْنا منهم واستحقرناهم وكانوا صائبين ولذلك لم يدخلوا النار معنا أم هم هنا ولكن عيوننا زائغة عنهم لا تراهم ؟!! وهذا السؤال يُفيد تمام حَسْرتهم حيث يكتشفون حينها الحقيقة أنَّ هؤلاء الذين يَدَّعُون أنهم أشرار هم أصحاب الجنة وهم الأشرار حقا أصحاب النار !!
ومعني " إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴿64﴾ " أيْ أنَّ ذلك الذي قصصناه عليكم مِن تَخَاصُم أهل النار فيما بينهم ولَعْنهم وسَبّهم بعضهم بعضا هو حقّ ، أيّ صِدْق ليس فيه أيّ شكّ وثابت ثبوتا لا يَختلف عليه أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيّ اختلاف
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ ۖ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿65﴾ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿66﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ ۖ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿65﴾ " أي هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدي – وكلّ مسلمٍ هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم مُنْذِرَاً أي مُحَذِراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بَعْدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، فليطمئنّوا إذن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم .. هذا ، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم .. " .. وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿65﴾ " ، " رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿66﴾ " أيْ ليس هناك مِن إلهٍ سِوَىَ الله تعالى في هذا الكوْن وهو سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فهو الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. الْقَهَّارُ ﴿65﴾ " أي الكثير القَهْر أي الغَلَبَة لكلّ شيء ، فالجميع تحت سلطانه ، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده ، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره ؟! .. " رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿66﴾ " أي هو خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئية ، وهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أي مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه ، وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم حيث هو مُنَزِّل عليهم هذا القرآن العظيم ومُوصيهم بالالتزام والعمل به كله لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن فهو لا يُمكن أبدا أن يَتركهم أو يهملهم فيهما .. ولذلك كله فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه بلا أيّ شريكٍ معه .. وهو المُسْتَحِقّ لأن تُخْلِصوا وتُحْسِنوا له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. لتسعدوا بكل ذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿66﴾ " أي هو الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالك الملك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو الغفار أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿67﴾ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴿68﴾ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿69﴾ إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿67﴾ " أي قل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده للناس جميعا أنه أيْ هذا القرآن الكريم هو خبر عظيم الشأن وأمر شديد الأهمية عليكم أن تأخذوه بكلّ جدِّيَّة ولا تَستهينوا به وتتمسّكوا بكلّ أخلاقه وتهتّموا بما احْتَوَاهُ مِن تبشيرٍ وتحذيرٍ وذِكْرٍ عن الله والكوْن والخَلْق والإنسان والحياة الدنيا والآخرة والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار لأنّ فيه كلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياكم وأخراكم .. وفي هذا تنبيهٌ وحُسن دعوةٍ لهم ليستجيبوا ليسعدوا فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴿68﴾ " أي لكنَّ بعضكم أيّها الناس مُعْرِضون عنه أي يُعطونه ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! فسيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم .. وما فَعَلوا ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
أما معني " مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿69﴾ " ، " إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿70﴾ " أي يُخْبِر الرسول ﷺ بدليلٍ علي صِدْق هذا النبأ العظيم الذي هم عنه مُعْرِضون وهو القرآن الكريم بما فيه ، أنه ﷺ لم يكن له أيّ علمٍ بما يَدور في الملأ الأعلى وهو عالَم السموات مِن حوارٍ بين الملائكة وما سيَحدث مِن تَخاصُمٍ وسَبٍّ ولَعْنٍ بين أهل النار وغير ذلك مِمَّا يَغيب عن البَشَر إلا عن طريق الوحى ، لأنه لم يتّخِذ للحصول علي العلم الطريق المُتَعَارَف عليه بين الناس من قراءة الكتب أو التلقّى عن المعلمين أو ما شابه هذا لأنهم يعلمون تماما أنه ُأمِّيّ وأنَّ طريق علمه الوحيد هو الوحى ، وهذا الوحى ما يُوحَيَ إليه إلاّ مِن أجل أنه رسول من عند الله تعالى ومن أجل مهمَّة أساسية وهي أن يُنذرهم بما يُكَلّفه به سبحانه إنذارا واضحا مُبَيِّنَاً لكلّ شيءٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم حيث يُبَيِّن لهم بكلّ وضوح أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة .. وبما أنه ﷺ قد أخبرهم بتاريخ السابقين الذي يعرفونه ولم يكن هو يعرفه لأنه ُأمِّيّ وتأكّدوا مِن صِدْقه فيه – إضافة إلي معرفتهم السابقة به وبصدقه طوال حياته حيث كانوا يُسَمُّونه الصادق الأمين – فعليهم إذن أن يُصَدِّقوه فيما هو حالِيّ قد جاءهم به من تشريعاتٍ حَسَنَةٍ تُسعدهم وفيما هو مستقبليّ كالبعث والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ﴿71﴾ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ﴿72﴾ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿73﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿75﴾ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿76﴾ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴿77﴾ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ﴿78﴾ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿79﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿80﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿81﴾ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿82﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿83﴾ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴿84﴾ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿85﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ حَذِراً أشدّ الحذر من الشيطان ، وإذا اتّخذته دائما عدوا (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض (برجاء مراجعة الآية ﴿29﴾ ، ﴿30﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا وَثَقْتَ أنّ خالقك قد وَضَعَ في عقلك بذور معرفة كل أسرار الأرض ومنافعها وعلومها وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات ﴿31﴾ ، ﴿32﴾ ، ﴿33﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا عِشْتَ حياتك كلها عزيزاً كريما عفيفا مُتَرَفّعَاً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدْرك مِن عملٍ قبيح سَيِّءٍ يضرّك ويتعسك ، حيث نَبَّهَكَ خالقك لذلك حين أسجدَ لك ملائكته وجعل الأرض كلها بما عليها وفيها مِن مخلوقاتٍ مُسَخَّرَة لنفعك ولسعادتك إذا أحسنتَ تسخيرها واستخدامها (برجاء مراجعة الآيات ﴿34﴾ حتي ﴿39﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
إنَّ الله تعالي في هذه الآيات الكريمة يستخدم أسلوب التمثيل القصصيّ ليُوَضّح لنا تجربة الحياة وأصولها وكيفيتها والمُؤَثّرات فيها قبل أن تبدأ لنَعْتَبِرَ بها ونستعدّ لها أحسنَ وأتمّ الاستعداد لنَنْصِلَح ونَكْمُل ونسعد فيها تمام السعادة ثم بسعادة الخلود التامّة العظيمة في الآخرة (برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة بدء الحياة وقصتها وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان﴾
هذا ، ومعني " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ﴿71﴾ " ، " فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ﴿72﴾ " ، " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿73﴾ " أي اذكُر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بَعده حين قال ربك للملائكة – وهذا تفصيلٌ ومِثالٌ للحوار الذي دارَ في الملأ الأعلي والذي ُذكِرَ في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ – أنه سيَخلق إنسانا هو آدم من طينٍ أيْ تراب وماء ، وسُمِّيَ بَشَرَاً لأنّ له بَشْرَة وهي الجلد .. " فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ﴿72﴾ " أيْ فإذا صَوَّرته علي الصورة التي اخترتها له ، وأدْخَلْتُ فيه روحَاً مِن أمري وإذني وقدْرتي لتُحَرِّكه وتُعطيه الحياة والتي لا يعلم سِرَّها إلا أنا ، فحينها قَعُوا – من الوقوع – أي اسقطوا له مُنْحَنِين مُعَظّمِين علي سبيل التكريم والتحيّة لأنّ السجود بمعني العبادة لا يكون إلا لله تعالي .. وفي هذه الآيات الكريمة تذكيرٌ بالتكريم العظيم للإنسان ليستشعر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنَّيَ لأسفل سافِلين ويُهين كرامته بفِعْل الشرّ المُضِرّ المُهين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يفعل دائما كلّ خيرٍ نافع مُعِزّ مُسْعِد في الداريْن ، فقد سَوَّاهُ سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمة معه فيطمئنّ ويسعد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه ، وأسجدّ له الملائكة كدَلالَةٍ علي أنّ الأرض كلها بما فيها من مخلوقاتٍ هي مُسَخَّرَة له فليُحْسِن إذن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها ، وهذا هو معني " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿73﴾ "
أمّا معني " إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾ " أيْ فيما عدا إبليس فقد تَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أي العاصِين المُكذبين المُعاندين المُتَعَالِين .. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون هناك في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه ، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة .. هذا ، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا .. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا ؟ وعن لماذا سَمَحَ الله بوجود الشرّ في الحياة أصلا ؟! .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف أيضا ، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام﴾
ومعني " قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿75﴾ " أي يَذمّ الله تعالي المُستكبرين عن طاعته فلا يَتَّبِعون إسلامه ذَمَّاً شديداً فيُذَكِّرنا في القرآن بسؤاله لإبليس الذي هو رمز لهم ويُمَثّلهم عن ما السبب الذي يمنعهم من هذا ، من الاستجابة له وهو خالقهم بيديه الكريمتين ومُوجِدهم ووَاهِب الحياة لهم ورازقهم وراعيهم ومِن طاعة تشريعه وهو الإسلام الذي أنزله إليهم في قرآنه ليُسعدهم في دنياهم وأخراهم ؟! لعلهم يَستفيقون ويعودون له ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما .. " .. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿75﴾ " أيْ هل السبب أنك قد اسْتَكْبَرْتَ يا ابن آدم يا مَن تَشَبَّهْتَ بإبليس علي خَلْق الله مِن بَشَرٍ وغيرهم في الكوْن أم كنتَ مِن المُتَعَالِين حتي علي الله ذاته ؟! .. إنَّ السبب الأساسي بكلّ تأكيد هو تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿76﴾ " أي يُحاوِل الكافر تبرير كفره لذاته أو لغيره بتبريراتٍ كاذبة وبأدِلّةٍ ضعيفة لا قيمة لها !! إنه يَتَوَهَّم مُنْخَدِعَاً كأنه فوق الجميع وأشرف وأفضل منهم لأنه مخلوق آخر مُتَمَيِّز وليس مثلهم ! فهم يُطيعون خالقهم أمّا هو فلا يُطيعه ! بل قد لا يعترف بعضهم بوجود خالقٍ أصلا ! أو يعترف بوجوده لكن لا يستجيب لتوجيهه وإرشاده في تشريعه بل هو يفعل ما يشاء من شرور ومَفاسد وأضرار ! أو يُشْرِك معه في العبادة غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكبٍ أو نحوه ! تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. وفي هذا تمام التعاسة لأمثال هؤلاء في دنياهم وأخراهم .. والسبب كما ُذكِرَ في الآية السابقة هو تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي الآية الكريمة ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ولا يستكبرون مثل استكبار إبليس فيكون مصيرهم جهنم وبئس المصير
ومعني " قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴿77﴾ " ، " وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ﴿78﴾ " أيْ هذا حتماً هو مصير كلّ مَن يَتَّبِع الشيطان ، هو رَجِيم أيْ مَرْجُوم يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوء ، وعليه لعنة الله أي يُطْرَد ويُخْرَج مِن رحمته سبحانه وخيره في دنياه دائما إلي يوم الدين ، إلي يوم القيامة حيث تزداد اللعنة عليه وينال عقابه النهائيّ الكامل المُناسب لشروره ومَفاسده وأضراره في نار جهنم .. لكن مَن يتوب مِن بني آدم ويَترك اتِّباع الشيطان ويعود لربه ولإسلامه يتوب تعالي حتما عليه ويَسعد في الداريْن فهو واسِع المغفرة الذي يغفر الذنوب جميعا
ومعني " قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿79﴾ " ، " قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿80﴾ " ، " إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿81﴾ " ، " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿82﴾ " ، " إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿83﴾ " أيْ أنَّ وجود الشرّ في الحياة الدنيا إلي نهايتها إنما هو لحكمةٍ هامّة وهي أن يُعْتَبَرَ به فلا يَفعله الإنسان لأنه قد رأيَ أضراره وتعاساته ، وهذا هو معني " قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿79﴾ " أيْ أمْهِلْنِي أيْ أَجِّلْنِي أي اترك الشرَّ إلي يوم البعث حين تَبْعَث بني آدم بأرواحهم وأجسادهم في الآخرة للحساب الختاميّ لِمَا عملوا .. " قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿80﴾ " ، " إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿81﴾ " أيْ أنَّ الشرَّ مَتْروكٌ مَوجودٌ دون إزالةٍ له بحِكمة الله وبعلمه إلي يوم الوقت المعلوم أي إلي توقيت يوم القيامة الذي يعلمه سبحانه حين تنتهي الحياة الدنيا ، وذلك للاعتبار به .. " " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿82﴾ " أيْ هذا قَسَمٌ بعِزَّة الله أي بعظمته وبسلطانه وبقدْرته جاء علي لسان إبليس للتأكيد وللتنبيه علي استمرارية وجود الشرّ حتي نهاية الحياة الدنيا ليَتَّخِذ الناس جميعا مزيدا من الحذر نحوه ، أي لقد سَمَحْتَ يا ربّ بوجود الشرّ والإغواء أي الضلال والانحراف والدعوة له وتزيينه أيْ تجميله كذباً وخداعاً أنّ فيه مصلحة ، وذلك لكي لا يَتَّبعوه ، وإنّما ليُقاوموه فتزداد قوة إرادة عقولهم ، فينطلقون في الحياة بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر وأكثر وينتفعون ويسعدون بها أكثر وأكثر ، ثم يكون لهم بذلك في آخرتهم السعادة الأكثر والأعظم والأتمّ والأخلد ، وهذا هو حال الذين لا يستجيبون لأيّ شرّ ، وهذا هو معني " إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿83﴾ " أي الذين يَتَّبعون دَوْمَاً كلّ خير ، فهم يَعبدون الله تعالي وحده بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ويُخْلِصُون ويُحْسِنون في عبادتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ويتمسّكون بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومعني " المُخْلَصين " أي الذين اسْتَخْلَصَهم الله تعالي أي اختارهم لعوْنه وتوفيقه وسَداده وتيسيره لأمورهم ، وسبب هذا الاختيار للعوْن والإسعاد هو حُسْن خُلُقهم ، ومِن حُسْن الخُلُق أنهم كانوا مُخْلِصِين قطعا ، أيْ أنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادة الله تعالي وحده بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق الإسلام واجتهدوا في ذلك فاختارهم سبحانه لكي يُساعدهم ويُسْعِدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
أمّا معني " قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴿84﴾ " أي قال اللّه تعالى فالحقّ هو أنا وهو وَصْفِي وهو مِنِّي وهو فِعْلِي ، والحقّ هو قَوْلِي .. فاتَّبِعوا الحقّ واستمعوا الحقّ دائما لا غيره
ومعني " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿85﴾ " أي بالتأكيدِ َسُأدْخِلُ النارَ مِن كلّ أمثالك المَتْبُوعِين في الشرِّ وأتْباعك وأتْباعهم الذين اتَّبَعُوهم بفِعْله هم أيضا ليُعاقَب كلٌّ منهم علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴿86﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿87﴾ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴿88﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مِن غير المُتَكَلّفِين أيْ المُتَصَنِّعِين في الأقوال والأفعال المُدَّعِين لِمَا ليس فيهم ولا يُحسنونه ويَبذلون الجهود لأدائه أوالمُدَّعِين لِمَا ليس لهم به علم أو المُدَّعِين علي الله كَذِبَاً وزُورَاً أو المُتَشَدِّدين الذين يَزيدون في الإسلام ما ليس فيه بما يَجعله صَعب التطبيق علي ذواتهم وغيرهم .. فالتكَلّف مُتْعِس في الداريْن بينما تَرْكه مُسْعِد فيهما
هذا ، ومعني " قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴿86﴾ " أيْ قل للناس جميعا يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده – وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ علي دعوتي لكم لله وللقرآن وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم بأخلاقه !! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً ما كنت سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا !! .. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا ، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة .. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره ! .. " .. وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴿86﴾ " أي اتَّبِعوني لأني أيضا – إضافة إلي صِدْقي – لست مِن المُتَكَلّفِين أيْ مِن المُتَصَنِّعِين في الأقوال والأفعال المُدَّعِين لِمَا ليس فيهم ولا يُحسنونه ويَبذلون الجهود لأدائه أو المُدَّعِين لِمَا ليس لهم به علم أو المُتَشَدِّدين الذين يَزيدون في الإسلام ما ليس فيه بما يجعله صعب التطبيق علي ذواتهم وغيرهم أو المُدَّعِين علي الله كذبا وزورا بل نقلتُ لكم الإسلام كما ُأنْزِل دون أيّ زيادة أو نقصان .. اتَّبعوني لأنّي مِن السائرين علي طريق التيسير وليس التكَلّف والمَشَقّة والتشَدّد ، طريق الفطرة المُناسب المُوافِق لها تماما دون إيقاعها في أيّ حرج أو تَعَب (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، الطريق الذي يقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يحتاج إلي تَكَلّفاتٍ وتَفَلْسُفاتٍ لعَرْضه لكي يُقْبَل ، طريق الهُدي والرشاد والصواب التامّ ، لأنه طريق الله والإسلام ، طريق كلّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة .. وفي هذا تشجيعٌ لهم علي اتَّباع الإسلام بأسلوبٍ دعويٍّ رقيق مناسب جذاب .. وفي الآية الكريمة أيضا ذمٌّ للتكَلّف وحَثّ علي عدم فِعْله لمساوئه وأضراره وتعاساته في الداريْن
ومعني " إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿87﴾ " أي هذا بَيَانٌ مِن اللّه تعالى لصِفَة القرآن الكريم ، فما هو إلا ذِكْرٌ للعالَمين ، أيْ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس جميعا علي اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم وعلومهم وعصورهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا يَنتفعون ويَسعدون به تمام الانتفاع والسعادة
ومعني " وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴿88﴾ " أيْ سوف تَعرفون قطعا يا مَن لا يُصَدِّق بالقرآن العظيم صِدْق نَبَأَه أيْ صِدْق ما فيه مِن نبأٍ أيْ خَبَرٍ عظيمِ الشأن وأمرٍ شديدِ الأهمية ، فعليكم أن تأخذوه بكلّ جدِّيَّة ولا تَستهينوا به وتتمسّكوا بكلّ أخلاقه وتهتّموا بما احْتَوَاهُ مِن تبشيرٍ وتحذيرٍ وذِكْرٍ عن الله والكوْن والخَلْق والإنسان والحياة الدنيا والآخرة والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار لأنّ فيه كلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياكم وأخراكم .. ستَعلمون صِدْقه بعد حينٍ أيْ بعد وقتٍ مُحَدَّدٍ في علم الله تعالي ، فقد يعلم بعضكم حين يُحسن استخدام عقله ويَستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في دنياه وأخراه ، وقد يعلم آخرون حين يَنتصر الإسلام ويَنتشر ويَنهزمون ويُعذبون فيَستقيظون بذلك ويَعودون للخير ، وقد يعلم آخرون حين موتهم ودخولهم قبورهم وبدء عذابهم ، ثم يكون العلم التامّ للجميع يوم القيامة حين يُبْعَثون للحساب النهائيّ فينال أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة في الجنة وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة في النار بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ وحُسن دعوةٍ لهم ليستجيبوا ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿2﴾ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿3﴾ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿4﴾ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿5﴾ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُسْتَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما في كل أقوالك وأعمالك من المُخْلِصين المُحْسِنين (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان﴾ .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنتَ استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾ " أي هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم ، فهو كتابٌ أنزله الله تعالي العزيز الحكيم ، ولذا فهو يَتَّصِفُ بصفةِ مَن أنزله سبحانه ، فهو كتابٌ كله عِزَّة وحِكْمَة لمَن يَتَّبعه ويتمسّك بكلّ أخلاقه التي فيه ، هو كتابٌ عزيزٌ حكيمٌ ، أيْ غالِبٌ لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَتَدَبَّره ويعمل به كله ويَلجأ إلي مُنزله تعالي ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلْك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعانِدين المُستكبرين ، وهو حكيمٌ أيْ كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث ، وهو أيضا مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل ، وهو كذلك حاكِم أي مَرْجِع شامل يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها .. هذا ، وفي الآية الكريمة تأكيدٌ علي أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز هو ليس مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ أو عالم أو غيره كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله العزيز الحكيم
ومعني " إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿2﴾ " أيْ أنزلنا القرآن العظيم إليك يا محمد ﷺ وإليكم أيها الناس بالحقّ ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم ، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿2﴾ " أي فبالتالي ، وإذا كان الأمر كذلك كله حقٌّ في حقٍّ هكذا ، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أيها الإنسان أن تأتي بأيّ كذب وظلم ، بل عليك أنْ تُخْلِص لله الدين ، أيْ ما تَدِين وتَتَعَهَّد به وتلتزم بأدائه ووفائه ، أيْ لا تُشرك معه أبداً في العبادة إلاهَاً آخر كصنمٍ أو حجر أو كوكب أو نحوه كما قد يفعل بعض السفهاء أو أنْ تَتَّبِعَ ديناً أيْ نظاماً مع نظام الإسلام مُخَالِفاً له في كلّ أخلاقه أو حتي بعضها ، بل اعبده وحده واتَّبِع الإسلام وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وأَخْلِص له وحده أيْ قُل كلّ أقوالك واعمل كل أعمالك من أجل الله وحده لا من أجل غيره ، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراك الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لك حيث يُوقِعَك في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحك حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق ، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
ومعني " أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿3﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة مِن حَتْمِيَّة إخلاص الدين تماما لله تعالي لتتمّ السعادة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعتها﴾ ، والاستفتاح بلفظ " ألاَ " يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال .. " .. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ .. " أيْ بينما الذين لا يُخْلِصون لله تعالي ويتَّخِذون أولياء غيره سبحانه أيْ آلهة أيْ أولياء لأمورهم يتوهَّمون أنهم ينفعونهم بأيّ شيءٍ أو يمنعون عنهم أيّ ضَرَرٍ فهم يعبدونهم ويطيعونهم سواء أكانوا أصناما أم أحجارا أم كواكب أم بَشَرَاً ضعفاءَ يمرضون ويموتون مثلهم أم ما شابه هذا ، هؤلاء لا يَكتفون بذلك بل يكون حالهم ووَصْفهم أنهم يَكْذِبُون ويُرَاوِغون ويُعانِدون ويَستكبرون ويَستهزئون فيقولون كَذِبَاً وزُورَاً ومُرَاوَغَةً واستهزاءً أنهم ما يعبدون هؤلاء الذين يَعبدونهم إلا من أجل أن يُقَرِّبوهم إلي الله تعالي زُلْفَيَ أيْ تقريباً كثيرا !! إنهم يعبدونهم مِن أجل نَيْل الزلفَيَ مِن الله أي القُرْبَة والدَرَجَة والرِفْعَة والمَكَانَة السامية والفوز برعايته سبحانه وأمنه ورضاه وحبه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته وسعادته !! إنهم بذلك كأنهم يقولون للمسلمين نحن إذن مؤمنون بالله مثلكم أيها المسلمون فماذا تريدون منا أكثر من ذلك ؟!! وما كلّ ذلك السوء إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .. " أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن حيث سيَحكم الله بعدله حتما بينهم وبين المسلمين فيما يختلفون فيه من الإيمان والإخلاص والكفر والشرك فيُظْهِر الحقَّ في الدنيا قبل الآخرة في التوقيت الذي يَرَاهُ مناسبا حيث سيُسْعِدُ ويَنصر المسلمين في دنياهم وأخراهم حتما بسبب توَاصُلهم معه وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم بينما يُتْعِس الذين يَعبدون غيره سبحانه حيث سيكون لهم قطعا صورة ما مِن صور عذاب الدنيا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " .. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿3﴾ " أيْ بالقطع لا يُعِينُ الله تعالي ولا يُوَفّق ولا يُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) بسبب دوام وكثرة كذبه وعِناده وكفره واستمراره وإصراره عليه حتي وَصَلَ به الحال لمرحلة تعطيل عقله وإغلاقه كُلّيَّاً بسبب الأغشية التي وضعها هو عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة .. إنه تعالي قطعا يُعين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية مَن أحسنَ استخدام عقله واختار هو أولا ما في فطرته فيُعِينه بسبب ذلك سبحانه علي التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
أمّا معني " لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿4﴾ " أيْ هذا أيضا تكذيبٌ وتسفيهٌ وتجهيلٌ من الله تعالي لنوع آخر من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين – إضافة إلي الذين ُذكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ – وهم الذين لا يعبدونه سبحانه ولا يعبدون أصناما أو غيرها وإنما يَدَّعُون أنهم يعبدون مَن هو جزء مِن الله ومُنْتَسِب إليه وهو ولده !! كما فَعَلَ مثلا بعض النصاري حيث قالوا عن المسيح عيسي عليه السلام أنه ابن الله وكذلك بعض اليهود الذين قالوا أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو أيضا ابنه ، تعالي عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. إنه عَزَّ وجَلَّ علي سبيل الفرض الذي مِن المستحيل أنْ يَحْدث لو كان يريد ولدا ليُعاونه علي إدارة مُلْكه وليكون سَنَدَاً له ويَسْتَأنِس به لكان اصطفيَ أي اختار مِمَّا يخلق مَن يريد أن يرفعه لهذه المَكَانَة لا أن يختاروا له الولد الذي يريدونه هم !! .. " .. سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿4﴾ " أيْ سَبِّحوه تعالي ، أي نَزّهوه ، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به ، فله كل صفات الكمال ، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وهو سبحانه القَهَّار أي الكثير القَهْر أي الغَلَبَة لكلّ شيء ، فالجميع تحت سلطانه ، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده ، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره أو يحتاج لاتّخاذ ولدٍ أو زوجة أو شريك يكون له مُعينا أو وزيرا أو مستشارا ؟!
ومعني " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿5﴾ " أي يُذَكِّر الله تعالي الناس ببعض قدراته ليَتَدَبَّروا فيها ليتأكّدوا أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه وأنه لا شريك له ولا ولد ولا زوجة ، فهو سبحانه الذي خَلَقَ السماوات والأرض بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ بالحقّ ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ .. " أي يجعل سبحانه الليل يَلِفّ ويُغَطّي علي النهار والعكس ، فيُخْفِي هذا ذاك ، وهكذا طوال الحياة بكلّ نظامٍ دقيقٍ ، لينتفع الناس ويسعدوا بهما بين العمل والكسب والراحة والسكينة .. " .. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى .. " أي وأيضا ذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ الشمس والقمر لنفع خَلْقه وجَعَلَهما يسيران بانتظامٍ في فَلَكِهما بكل دِقَّةٍ دون أيّ خَلَلٍ حتي ينتهي أجلهما المُسَمَّيَ أي المُحدَّد لهما حين تنتهي الحياة الدنيا وتقوم الساعة لبدء الحياة الآخرة ، فهو إذن قادر علي كلّ شيء .. " .. أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿5﴾ " أيْ بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكٍّ هو وحده سبحانه العزيز أيْ هو الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلْك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو الغفّار أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلّقا بهم ، الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. هذا ، ولفظ " ألاَ " يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
ومعني " خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴿6﴾ " أي يُذَكِّر أيضا الله تعالي الناسَ ببعض قدْراته ونِعَمه الأخري غير التي ُذكِرَت في الآية السابقة ليَتَدَبَّروا فيها ليتأكّدوا أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه وأنه لا شريك له ولا ولد ولا زوجة ، فهو سبحانه الذي خلقهم جميعا رغم كثرتهم وانتشارهم وتَعَدُّد أشكالهم وألوانهم ولغاتهم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر ، وكلهم عنده متساوين فلا يتكَبَّرَ أحدٌ علي غيره ولا يَفْضُل أحدٌ أحداً إلا بعمل الخير ، وخَلَقَ مِن هذه النفس زوجها حواء من جنسها ونوعها وصنفها ليحدث التآلُف والتحابّ والالتئام والسرور التامّ بينهما لأنهما من بعضهما ، ولفظ " وجعل " يُفيد لَفْتَ الانتباه لهذه المعجزة العظيمة أيضا لأنها هي المرأة الوحيدة التي خُلِقَت من رجلٍ بينما بقية الأنفس يخلقها سبحانه بعد ذلك من التزاوُج بين الرجال والنساء .. " .. وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ .. " أيْ ومِن قدْراته ونِعَمه أيضا أن أنزل لنفعكم ولسعادتكم ثمانية أنواع من الأنعام ذكراً وأنثى وهى الإبل والبقر والضأن والماعز ، وقد خَصَّ سبحانه بالذِكْر هذه الأنواع الأربعة رغم كثرة الأنعام الأخري ومنافعها لأنها هي الأكثر استخداما من بني آدم ، ولفظ " وأنزل " يُفيد لفت الانتباه لإنزال الماء من المطر فيخرج به النبات الذي يَتَغذّي عليه هذه الدوابّ .. " .. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ .. " أي يخلقكم في بطون أمهاتكم طَوْرَاً من بعد طَوْرٍ في ظلماتٍ ثلاثٍ وهي ظُلمة البطن تحتها ظلمة الرحم تحتها ظلمة الغشاء الذي فيه الجنين والتي كلها من أجل تمام حمايته ورعايته وحفظه والاهتمام به ، فهو لا تمنعه الظلمة كما تمنع المَخلوقين .. " .. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴿6﴾ " أي ذلكم المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومالك أموركم وشئونكم كلها يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ حيث له كلّ الملك الحقيقي لا لأحدٍ غيره وهو وحده الذي يُمَلّك الخَلْق ما يمتلكونه وهو الذي لا إله إلا هو أي لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه ، فكيف تَنصرفون وتَبتعدون عن عبادته إلى عبادة غيره وعن نظامه إلي نظامٍ غيره مُخالِفٍ له مُضِرٍّ مُتْعِسٍ لكم في الداريْن ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! ولكنه التعطيل لهذه العقول من البعض منكم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾ " أي يا أيّها الناس إن لم تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي بعد ما ذَكَرَه لكم من أدِلَّة قاطعة في الآيات السابقة ولم تُصَدِّقوا برسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولم تَتَّبِعوا إسلامه وأنكرتم نِعَمه ولم تشكروها ونَسَبْتموها لغيره وما شابه هذا مِن سوءٍ ، فإنه تعالي غَنِيّ عنكم أي كامل الغِنَيَ لا يحتاج لشيءٍ بل له كلّ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي خَلْقه ، وكفركم ولو جميعكم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتكم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة ، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد .. " .. وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ .. " أي ومع غِناه التامّ عنهم سبحانه لكنه لا يَقْبَلُ منهم الكفر ولا يُوافقهم عليه ولا يَختاره لهم ولا يُحبه منهم ولا يَدعوهم إليه لأنه يُتعسهم في الدنيا والآخرة ، ويَتَعَامَل معه تَعَامُل غير الراضِي فلا يَرْضَيَ عَمَّن يكفر ولا يَرْعاه ويُؤَمِّنه ويَوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويُيَسّر أموره في حياته فتراه بسبب ذلك دائما في كلّ شقاءٍ بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات ثم في آخرته في نار جهنم علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره .. هذا ، ولفظ " ولا يَرْضَيَ " يُفيد ضِمْنَاً حب الله لخَلْقه ورحمته بهم وحرصه علي سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم – لأنهم خَلْقه وصَنْعَته وكلّ صانع يحب صنعته ويريد لها أفضل الأحوال ولله المثل الأعلي – وعدم إجبارهم علي شيءٍ وترْك تمام الاختيار لهم بعقولهم التي أعطاها لهم فهم الذين سيَسعدون تمام السعادة إذا أحسنوا الاختيار ويتعسون تماما بسوء اختيارهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ .. " أيْ وهو سبحانه قطعا علي العكس مِمَّا سَبَقَ يحبّ لهم ويُوصيهم ويَقبل منهم أن يختاروا الشكر بكامل حرية إرادة عقولهم لأنه يُسعدهم في دنياهم وأخراهم فيُؤمنوا به سبحانه ويتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ويَتَوَاصَلوا دائما معه ويتوكّلوا عليه ويشكروه علي نعمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. بهذا يَتَعامُل معهم سبحانه قطعا تعامُل الراضِي أي يجعلهم حتما يعيشون حياتهم في تمام الخير والسعادة حيث رضاه ورحماته وعفوه وما يَتْبَع ذلك بالقطع من تيسيره وتوفيقه ورعايته وأمنه ورزقه وقوَّته ونصره ، ثم في آخرتهم لهم بكل تأكيدٍ تمام الغفران والرضوان في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر .. " .. وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ .. " أي لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيرا فله كلّ الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما .. والوِزْر معناه الحِمْل الثقيل ، لأنّ أيّ ذنبٍ ، أيْ شرٍّ وضررٍ ، هو حِمْل ثقيل يُؤدّي للهَمِّ والنكَد علي قدْره في الدنيا قبل الآخرة ، والوَازِرَة هي الحَامِلَة لهذا الحِمْل الثقيل أي الشخصية التي تَفعل الذنب ، أي لا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها .. " .. ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .. " أي الجميع سيرجع إليه سبحانه يوم القيامة ، وهو تعالي عليم خبير بهم جميعا وبما عملوه ، وسيُخبرهم به بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة ، فمَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بالعدل التامّ .. " .. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾ " أي لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكلّ ما بداخل البَشَر وعقولهم وفِكْرهم وكلّ أقوالهم وأعمالهم العلنية والخَفِيَّة ، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد ، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم ، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾ ، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾ – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة ، وأيّ أزمة أنت فيها ، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به ، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره ، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء (برجاء مراجعة الآية ﴿22﴾ ، ﴿23﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن الاعتصام علي الدوام بالله تعالي وليس وقت الشدَّة والأزمات فقط﴾
هذا ، ومعني " وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿8﴾ " أي إذا حَدَثَ ولَمَسَ وَوَجَدَ إنسانٌ ما ، أيّ إنسان ، أو الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا أو المشرك الذي يُشرك بالله آلهة غيره فيَعبد صنما أو حجرا أو نحوه ، ضُرَّاً أيْ ضَرَراً ما ، أيْ شيئاً ما يَضرّه ويُسيء إليه في صحته أو ماله أو عمله أو أحبابه أو ما شابه هذا ، حينها يَدْعو خالقه الله تعالي بكل تَوَسُّلٍ واحتياج وتَذلّل ، وبكل إنابةٍ أيْ عودة تامّة له لا لأيِّ أحدٍ غيره ، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينه أي في دعائه وفي طاعته له وقتها حيث يكون مُخْلِصا مُحْسِنا ويَترك ويَلفظ ويَنسي آلهته ! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ ! (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، إنه حينها يَنْسَيَ بل يَحتقر عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ لأنه متأكّد أنها لن تنفعه بأيّ شيء ! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته ! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره ! .. " .. ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا .. " أي إذا استجابَ دعاءه وأراه رحماته سبحانه وخَوَّله منه أيْ أعطاه ومَلّكه نِعَمه وأذاقه سعاداتها فتَراه بَدَلاً أن يشكره تعالي علي خيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هو يَنْسَيَ الله والضّرَّ والدعاءَ الذي كان يدعوه إليه سابقا ليُكْشَفَ عنه !! أي يعود لِشَرِّه ولشِرْكه ويعبد آلهته بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها ! فلماذا لا يستمرّ علي عبادة ربه ليسعد في الداريْن وقد جَرَّبَ أفضاله ورحماته وسعاداته ؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء ! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله ، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار ! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم ! وهذا هو معني " .. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا .. " أيْ أمثالا وأشباها له تعالي .. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم .. " .. لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ " أي فَضَلَّ عن سبيل الله ، أيْ بِفِعْلِه هذا فقد ضَلَّ أي ابتعدَ وضاعَ وأضلَّ غيره وازداد ضلالا علي ضلاله عن طريق الله تعالي ، طريق الإسلام ، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿8﴾ " أي قل لمِثل هذا ولمَن يشبهه يا محمد ﷺ ويا كل مسلم مِن بَعده علي سبيل التحذير والتهديد لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، قل له تَمتَّع بحالتك التي أنت فيها وقتا ومتاعا قليلا في الدنيا حيث ستتركه بموتك وانتهاء أجلك فيها وهي مهما طالَت بمُتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له .. وحتي ما أنت فيه مِن متاع مُتنوِّع من أموال ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أي لا تستمتع به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره ، وقد تفقده بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره ، فهو إذن قليل دنيء زائل يوما ما .. بل مِن كثرة شروره هو غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم ، وبالجملة هو في تعاسة دنيوية تامّة .. وحتي ما يُحقّقه مِن بعض سعادةٍ فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره إضافة إلي ضِيقه عند تَذَكّره الموت والذي لا يدْري ما سوف يَحدث له بَعده ، وكلّ ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا .. ثم في آخرته هو مِن أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ علي قدْر مَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، والمسلم بالقطع في دنياه عليه ألا يَتمنّي ويتطلّع أبدا أن يكون مثلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه ، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في الآخرة
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من القانِتين أي المُوَاظِبين علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبَه منهم في وصاياه في الإسلام باختيارهم وبرضاهم وبكلّ حبٍّ لربهم ولطاعته واطمئنانٍ به وسكونٍ له .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الذين يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خير مُجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ وإن فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره .. وإذا كنتَ مُتَعَلّما لا جاهلا ومُتَخَصِّصَاً في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة لأنه بانتشار العلم والعلوم والعلماء يَرْقَيَ الناس في معاملاتهم ويتطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الجهل والجهلاء يتخلّفون ويتعسون فيهما (برجاء مراجعة الآيات ﴿97﴾ ، ﴿98﴾ ، ﴿99﴾ ، ﴿122﴾ من سورة التوبة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿9﴾ " أيْ أهذا الكافر ومَن يشبهه والذي ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ والذي جَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيله أحسن حالا أم مَن هو قانِت ؟! أيْ مُوَاظِب بإخلاص علي الطاعات في كل وقت ، وحتي آناء الليل أي في أحيانه وأوقاته والتي قد ينشغل فيها الآخرون بما هو شرٌّ فاسدٌ ، حيث هو يصلي ويكون ساجدا أحيانا وقائما أحيانا وفي طاعةٍ ما أحيانا أخري ، لأنه يخاف أن تفوته درجات الآخرة الهائلة أو أن يكون مُقَصِّرا فيُعَاتَب أو يُعَاقَب وفي ذات الوقت يأمل في رحمة ربه ونعيمه وخيراته في الداريْن ، فهو يحيا حياته دائما متوازنا بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) وهو لذلك يُحسن دوْما طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنهما بكلّ تأكيدٍ لا يستويان بأيِّ حالٍ من الأحوال عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل !! .. كذلك قل لهم أيضا يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده أنه قطعا لا يمكن أبدا أن يستوي العلماء الذين ينفعون الناس بعلومهم وتخصّصاتهم ويسعدونهم مع الجهلاء المُتَخَلّفين الذين يُتعسونهم فيهما !! (برجاء مراجعة الآيات ﴿97﴾ ، ﴿98﴾ ، ﴿99﴾ ، ﴿122﴾ من سورة التوبة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿9﴾ " أي فقط مَن يَتَذَكَّر هذا الإرشاد الخيريّ الذي يُتْلَيَ عليه في القرآن العظيم ويَنتفع به ويعمل بكلّ أخلاق الإسلام التي فيه ليَسعد بها في الداريْن هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلة الذين يتذكّرون ولا يَنسون ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه بكلّ إنصافٍ وعدل .. فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصِدْق .. أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فإنهم قطعا لا يَتَذَكّرون !!
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿11﴾ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴿12﴾ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿13﴾ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ﴿14﴾ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿15﴾ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴿16﴾ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿18﴾ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ﴿19﴾ لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَّقِين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنتَ مُخلصا مُحسنا دائما في كل أقوالك وأعمالك (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآية ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُسْتَعِدَّاً للهجرة في سبيل الله وترْك وطنك ، إذا لم تستطع عبادة الله تعالي وحده ، إلي أرضٍ أخري يُمكنك فيها عبادته والتمسّك بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن معاني وصور الهجرة والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويتركون كلّ شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾ " أيْ قل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده لعبادي الذين آمنوا بي أيْ صَدَّقوا بوجودي وتمسّكوا بدينهم الإسلام الذي ارتضيته لهم وأرشدتهم إليه ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم ، قل لهم يا عباد الله ، يا مَن تَعبدونه ، يا مَن تُطيعونه – ونَسَبَ سبحانه المؤمنين إليه تكريما لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سيده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيده مِن جهده وخَيْره – قل لهم وذَكِّرهم بأن يكونوا دائما مِن المُتَّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " .. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ .. " أي لأنهم إذا كانوا دوْما من المُتقين المُتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم فقد أحسنوا ، والذين أحسنوا لهم حتما في هذه الحياة الدنيا حَسَنة أيْ سعادة تامّة في كلّ شئون حياتهم قبل أن يكون لهم في الحياة الآخرة قطعا حَسَنة أتمّ حُسْنَاً وسعادة وأعظم وأخلد حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر .. وفي هذا التذكير بثواب الدنيا والآخرة تحفيز لهم علي الإحسان والاستمرار فيه .. " .. وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ .. " أيْ إن لم تَستطيعوا عبادتي في أرضٍ ما وُأجْبِرْتم علي عبادة غيري ، ومُنِعْتُم مِن تمَسّككم بإسلامكم كله أو حتي بعضه وُأكرهتم علي فِعْل الشرور والمَفَاسِد والأضرار ، بإيذاءٍ شديدٍ أو سجنٍ شديد أو تضييقٍ حياتيٍّ شديد أو تهديدٍ شديد جادٍّ بقتلٍ أو ما شابه هذا ، فانطلِقوا مُهَاجِرين إلي أرضٍ غيرها آمِنة تتمكّنون فيها من التمسّك بالإسلام ولا تعبدوا أبداً غيري ، ولا تتراجعوا مُطْلَقَاً عن هذا بل تُصِرُّوا عليه وإلا تَعِستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم ، وكونوا دائما مُخلصين مُحسنين في ذلك لتسعدوا تماما فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ ، فإنَّ أرضي واسعة ، فلا تُضَيِّقُوا علي أنفسكم في مكانٍ ما ، وكلها ملكي ، وكلها مُسَخَّرة لكم ، وستجدون فيها حتما رحمتي الواسعة ورزقي الواسع المُسْعِد ، وأنا معكم دوْما ُأيَسِّرَ لكم كلّ أسباب ذلك ، فاطْمَئِنّوا واسْتَبشِروا واسْعَدوا .. " .. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾ " أي ما يُعْطَيَ الصابرون في مُقابِل صبرهم ، عطاءهم وحقّهم وجزاءهم الدنيويّ والأخرويّ ، الوافِي أي المُكْتَمِل غير المَنْقُوص ، إلاّ بغير حساب ، أيْ بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابه وحَصره وتقديره فهو هائل عظيم وفير لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّله أو يعلم مقداره إلا مَن أعطاه سبحانه الكريم الوَهَّاب .. وفي هذا تكريمٌ كبيرٌ للصابرين وتشجيعٌ لهم علي الاستمرار علي صبرهم .. والصابرون هم الثابتون الصامِدون المُستمِرِّون بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
ومعني " قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿11﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية رقم ﴿2﴾ من هذه السورة مِن حَتْمِيَّة أن يُخلصَ الناسُ الدينَ تماما لله تعالي لتتمّ لهم السعادة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعتها ، للشرح والتفصيل) .. ولفظ " أمِرْتُ " يُفيد مزيداً من التأكيد والاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي التنفيذ لأنه أمرٌ لا تَهَاوُنَ فيه وإلا كانت التعاسة التامَّة في الداريْن .. فكلّ مسلم يقول ذلك ما استطاع لكلّ مَن حوله بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴿12﴾ " أيْ وكما أمَرَ تعالي الناسَ بتمام إخلاص العبادة له أمرَ أيضا بترجمة هذه العبادة – أي هذا التصديق العقليّ الفكريّ – وإظهارها عمليا في صورة التمسُّك بكلّ أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال في كل شئون ولحظات الحياة ليسعدوا بها وأن يجتهدوا لأن يكون كلٌّ منهم أي لكي يكون على رأس المسلمين وأول المُسارعين المُتنافسين للتمسّك بالإسلام وتطبيقه علي أرض الواقع حتى يقتدى به الآخرون في إخلاصه وطاعته له تعالي فيَتَّبعوه بكل سهولة ويُسْر ووَعْي وإقبال وبكلّ اختيارٍ ودون أيّ إجبار لَمَّا يَروا أثر الإسلام علي إسعاد حياته ، وله أجره العظيم في الداريْن بسبب دعوته لهم لهذا الخير الكبير (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. هذا ، وإعادة لفظ " أمِرْتُ " هو لدعوة كلّ مسلم لمزيدٍ مِن الاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي تنفيذ ذلك بما يستطيع لتتمّ له السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿13﴾ " أيْ قل يا محمد ﷺ وقل يا كلّ مسلمٍ مِن بَعده لمَن حولك وذَكِّرْه بخوفك من معصية الله أي عدم طاعته في اتّباع أخلاق الإسلام وترْكها بعضها أو كلها أو الابتعاد التامّ عن الإسلام بكفرٍ أي تكذيبٍ بوجودِ الله أو شركٍ أي عبادةٍ لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو اعتداءٍ وعدم عدلٍ أو فسادٍ ونشرٍ له أو ما شابه هذا ، ذَكِّرْه حتي لا يقع في هذه المعاصي فيتعس في الداريْن ، ذَكِّرْه بعذابِ يومٍ عظيمٍ وهو يوم القيامة حيث العذاب الشديد في نار جهنم علي قدْر الشرور والمَفاسِد والأضرار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وذَكِّرْه أيضا بعذاب الدنيا الذي يكون فيه الفاسِد بدرجةٍ مِن الدرجات وبصورةٍ مِن الصور بسبب فساده وضَرَره حيث يكون في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين .. هذا ، ومن المفيد تذكرتهم بأنّ الرسول ﷺ وهو مَن هو ومع عظمته لو ُفرِضَ وعَصَيَ فإنه لن يأمن من العذاب فكيف بهم هم ؟!
ومعني " قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ﴿14﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ آخر لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية رقم ﴿2﴾ من هذه السورة مِن حَتْمِيَّة أن يُخْلِصَ الناسُ دينهم تماما لله تعالي وحده لتتمّ لهم السعادة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعتها ، للشرح والتفصيل) .. وهذا التأكيد الإضافي يُفيد مزيداً من التذكير بالاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي التنفيذ لأنه أمرٌ لا تَهَاوُنَ فيه وإلا كانت التعاسة التامَّة في الداريْن
ومعني " فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿15﴾ " أي إذا علمتم الطريق الصحيح المُسْعِد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وهو طريق عبادة الله تعالي وحده والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام ، ولم تَتَّبِعوه ، فاعبدوا وأطيعوا واتَّبِعوا إذن ما تَشاؤون من أصنامٍ وأحجار وكواكب وغيرها من مخلوقاته سبحانه ، فلن تَضرّوا إلا أنفسكم والأقربين لكم فتتعسوها وتتعسوهم إن استجابوا لكم وستَرَوْنِ عمَّا قريبٍ النتائج السيئة لفِعْلكم في دنياكم وبعد موتكم في قبوركم وفي أخراكم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ وذمٌّ وتهوينٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. فهم وأمثالهم إذن وبكلّ تأكيد الخاسرون لأنهم خسروا وفقدوا دنياهم فتعسوا فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدهم عن ربهم وإسلامهم تَمَثّلَت في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وخسروا حتما أخراهم حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بل وقطعا سيَخسرون وسيَفقدون أيضا أهلهم وأحبابهم والذين كانوا سيَسعدون بصحبتهم لو كانوا دخلوا الجنة فهم إذا استجابوا لهم فقد دَخَلوا معهم عذاب جهنم فلن يَرَوْهم وإن لم يستجيبوا وأسلموا فهم في نعيم الجنة ولن يروهم أيضا أبدا .. " .. أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿15﴾ " أيْ هذا حقا هو الضياع الواضِح الظاهر الذي ليس فيه أيّ خفاءٍ أو شكّ ، المُبَيِّن لمَن يَرَاه أو يَعلم به أنه الضياع الحقيقي التامّ ، ولفظ ألَاَ في اللغة العربية يُفيد التنبيه للاهتمام بما سيُقال بعده وأنَّ الخسارة قد بَلَغَت أقصاها
ومعني " لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴿16﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ للخُسران المُبِين في الآخرة حيث ستكون النار بعذابها مُحيطة بهم من كل جانب فلا يكون لهم أيّ مخْرج أو مَهْرَب أو مَلْجأ ، إذ سيكون لهم من فوقهم ظُلَل من النار جمع ظُلّة وهي ما يُسْتَظَلّ به في الحَرّ ، وفي هذا سخرية منهم وإهانة لهم وذِلّة حيث هم سيَسْتَظِلّون من حَرّ النار بنار أشدّ وأكْثَف !! بطبقاتٍ مِن نارٍ تُظَلّلهم كالسُّحُب بعضها فوق بعض !! ثم النار التي تحتهم ستَرْتَفع عليهم لتُظِلّهم بعذابها هي أيضا وهي أصلا ظُلَل للذين هم تحتهم في الدرجة الأسفل منهم من درجات النار !! .. " .. ذَٰلِكَ .. " أي ذلك العذاب المُتَنَوِّع الشديد المُخيف المُجَهَّز لمَن يَستحِقّه .. " .. يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ .. " أي مِن رحمة الله التامّة للناس وحبّه لهم أنه يُحَذّرهم بما سيَحدث للمُكذبين منهم المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الفاسدين الظالمين الذين ينشرون فسادهم وشرَّهم وظلمهم وضَرَرهم ويُتعسون ذواتهم وغيرهم بل والكوْن كله بذلك ، يُحَذّرهم بالعقاب قبلها ولا يُعاقِبهم دون إنذارٍ أو يتركهم في غفلتهم ونسيانهم وتعاستهم ، بل يُذَكِّرهم ويُوقظهم حتي يَتَجَنَّبوا هذا العذاب المُهين كله فلا يَقعوا فيه ويَحيوا حياتهم الدنيوية ثم الأخروية في تمام السعادة وذلك من خلال طاعتهم له سبحانه بالتمسّك بأخلاق إسلامه ، فالمُحِبّ دائما يُحَذّر حبيبه مِمَّا قد يُصيبه مستقبلا حبا فيه وحرصا عليه ألّا يَقَع به ، وصاحب العقل المُنْصِف العادِل الذي يُحْسِن استخدامه لابُدّ أن يستجيب لِمَا فيه مصلحته وسعادته .. " .. يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴿16﴾ " أيْ هذا نداءٌ منه تعالى للناس بما يَدلّ على رحمته بهم وفضله عليهم حتي لا يُصيبهم ما سَبَقَ ذِكْره من عذابٍ أن يكونوا من المتقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني " وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ " أي لكن الذين ابْتَعَدوا وامتنعوا عن أن يعبدوا الطاغوت وهو كل ما يُعْبَد غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقر ولموت أم كان صنماً أم حجرا أم كوكبا أم غيره ، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن .. لقد ابتَعَدوا عن كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا .. " .. وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ .. " أي وجعلوا دوْما مَرْجِعِيَّتهم هي الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكانوا دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامهم أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيلوا سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتهم بتعاسة هذا الخطأ .. " .. لَهُمُ الْبُشْرَىٰ .. " أي أمثال هؤلاء لهم حتما كلّ التبشير وهو الإخبار بكلّ ما هو مُسْعِد والانتظار الدائم له ، أي لهم دوْما تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ .. " أيْ فقُم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بعده بتبشير الذين هذه هي صفاتهم بكلّ بُشْرَيَات الخير لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿18﴾ " أيْ ومِن صفاتهم أنَّ عقولهم تَتَّسِع وتستمع لكلّ أقوال الناس حولهم لكي ينتفعوا ويسعدوا بما فيها مِن خيرٍ فيأخذون أحْسَنَ ما فيها وهو الذي يُوافِق القرآن والإسلام وكلام الرسول ﷺ فليس هناك قطعاً أحْسَنَ مِن ذلك ، وهم كذلك حين يستمعون القرآن العظيم يأخذون بأَحْسَنه أيْ بأنْسَب رأي ٍمِمَّا تحتمله معاني الآيات بما يُحَقّق أفضل تَصَرُّفٍ في كلّ موقفٍ لتحقيق المصلحة والكمال والسعادة للجميع لأنّ الإسلام كله حَسَن مُسْعِد فليس فيه شيء أحسنَ مِن آخر ! وهم يجتهدون دوْما قدْر استطاعتهم في ترْك ما هو أقلّ حُسْنَاً ويَبتعدون تماما عن كلّ ما هو سَيِّءٍ مُخَالِفٍ للإسلام من أقوال الناس حولهم .. وفي هذا تشجيعٌ لكلّ مسلمٍ ليجتهد ويحاول أن يَصِلَ دائما لمرحلة الكمال ما استطاع في كل شئون حياته ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ولينال تمام الثواب في أخراه .. " .. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ .. " أي مِثْل هؤلاء وليس غيرهم هم الذين يُوَفّقهم الله إلى الهداية لطريقه وللإسلام ويُيَسِّره لهم ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن لأنهم هم الذين اختاروا أولا هذا الطريق بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم فوَفّقهم له بسبب ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿18﴾ " أي وهؤلاء قطعا دون غيرهم هم أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلة والتي أحسنوا استخدامها فمَيَّزُوا بين الأحْسَن والحَسَن والسَّيِّء والقبيح واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا مدحٌ جميل لهم من ربهم الكريم ليُشَجّعهم علي الاستمرار فيما هم فيه من صفاتِ خيرٍ ولِتَحْفِيز بقية الناس ليكونوا مثلهم ليسعدوا مثل سعاداتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني " أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ﴿19﴾ " أيْ هل مَن ثَبَتَ ووَجَبَ العذاب عليه بسبب أنه لا يُؤمن بعد أن عُرِضَ عليه الإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ، أي بسبب إصراره علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه وفِعْله كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار .. والمراد بالكلمة هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في كلامه في القرآن الكريم .. والعذاب يكون في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ثم يكون في الآخرة بما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأخلد .. هل مثل هذا يُمكن لك يا محمد ﷺ أو لأيّ أحدٍ مهما بَلَغَت قوّته أن ينقذه ممّا هو فيه ؟!! بالقطع لن يستطيع أحد !! فلا تذهب نفسك إذن عليهم حَسَرَات يا محمد ويا كلّ مسلم مِن بعده أيْ لا تَتَحَسَّر أيْ لا تَحزن وتتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام ، فهم لا يَستحِقّون مثل هذه الحَسَرات ! وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بَعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ، فليطمئنّوا إذن ولا يَشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم ولهم ثوابهم العظيم علي حبهم هذا للناس جميعا وحرصهم الشديد علي هدايتهم لله وللإسلام
ومعني " لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴿20﴾ " أيْ أمّا الذين اتقوا ربهم ، أي كانوا من المُتقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء لهم غُرَف جمع غُرْفة وهي المكان المُمَيَّز من البيت وليست كساحته كما أنها تكون مرتفعة وليس أرضية والمقصود قصور فخمة في أعلي درجات الجنة وأرْفعها وأمْيَزها وأعظمها ، وهي غرف مَبْنِيَّة بعضها فوق بعض بشكل هندسيّ بديع بهيج وقد تمّ بناؤها وتجهيزها لهم علي سبيل التكريم والتشريف بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ذات الروائح الطيبة ، وكلها وبما يحيطها من حدائق وبساتين وثمار تجري من تحتها الأنهار أي تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر .. " .. وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴿20﴾ " أيْ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه ! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا ، ولماذا يُخْلِف ؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا ، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا ، فهو مالك كل شيء وقادر تماما عليه .. فليَستَبْشِر إذن الذين اتقوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي تقواهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنتَ استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومُعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكٍّ بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وعوْنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿21﴾ " أي ألم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، وألم تشاهدوا وتتدبّروا وتعلموا أيها الناس ، والاستفهام للتقرير أي لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك ، أي لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله تعالي مِن تمام قدْرته وعلمه يُنزل الماء من السماء فيُدْخِله في مَسَالِك ومَنابِع وعيون وآبار وأنهار في الأرض فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كلّ أنواع الزروع والثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة ، وبعضها له مَرَارة ليُنْتَفَعَ به في الدواء ونحوه ، رغم أنَّ الماء واحد ، فسبحان الخَلاّق العليم ، فاشكروه علي كلّ هذه النِعَم التي لا يُمكن حصرها واعبدوه هو وحده لتسعدوا في الداريْن .. " .. ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا .. " أيْ ثم يَيْبَس ويَصْفَرّ ويَجِفّ ويَذْبل من بعد خضارته ونضارته ثم يتحطّم ويتفتّت وينتهي .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿21﴾ " أي في ذلك الذي ذكرناه تذكرة وعِبَر ودروس لأصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلة الذين يتذكّرون ولا يَنسون ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه بكلّ إنصافٍ وعدل .. فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق .. أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فإنهم قطعا لا يَتَذَكّرون !! .. إنّ ذلك الذي يتذكّره وينتفع ويسعد به أولو الألباب في الداريْن من هذا المَثَل الذي ذَكَرَه تعالي ويراه الجميع واضحا أمامهم هو تمام قدْرته وعلمه فيعبدونه وحده ويشكرونه وحده ويتوكلون عليه وحده ، ويعلمون سرعة زوال مُتَع الحياة الدنيا وأنها مهما طالت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها ، وأنها ستَنتهي يوما ما ، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا ، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عجز أو نحوه ، أو بموتٍ يأتي فجأة .. فهو سبحانه يُشَبِّه الحياة الدنيا بنباتٍ نَزَلَ عليه الماء فنَمَيَ ثم جَفّ فأصبح يابسا مُتَفَتِّتا مُتناثرا بأيِّ هواء ، هكذا بكلّ سرعة ! فهو تعالي قادر علي الإحياء وعلي الإماتة ، وعلي إحياءٍ آخرٍ لكلّ المخلوقات من أَجِنَّتها في الحياة ، ثم إحيائها بالقطع بعد موتها في الآخرة حيث الخِلْقة الثانية حتما أسهل لأنها أصبحت معروفة ! والعاقل هو مَن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، ومَن يُوقِن أي يتأكّد تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فَعَل ، ويكون مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، ويكون مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كلَّ عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) من خلال التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿22﴾ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآياتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿22﴾ " أيْ هل يَسْتَوِي مَن استجابَ للإسلام واجتهد في التمسّك بكل أخلاقه بعد أن أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله فعاوَنه الله بعد ذلك بسبب استجابته هذه أيْ وَفّقه للإسلام وسَدَّدَ خُطاه نحوه ويَسَّرَ إليه أسبابه ومَن يُعينه وشَرَحَ صدره له أيْ وَسَّعَ عقله ومَدَارِكه ومشاعره لكلّ خيرٍ فيه وأسعده وطَمْأَنه به وزاده منه ، هل يستوي مع مَن ليس كذلك ؟!! لا يستوون بكل تأكيد ! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء أيضا مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، لتكتمل المعاني﴾ .. إنَّ المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه والذي شَرَحَ الله صدره له قطعا يكون حاله دائما طوال حياته " .. عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ .. " أي فهو قد صارَ في كلّ خيرٍ وسعادة ، في حبّ ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا قبل ما سَيَصِير إليه حتما في الآخرة حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، إنَّ حياته وآخرته قطعا كلها نور علي نور من ربه الكريم خالق النور كله ، فهي كلها ضياء وصواب وصلاح وربح وجمال وحُسن وسرور .. بينما الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يكفروا بوجود الله وألا يَتّبعوا الإسلام – والمُتَشَبِّهين بهم من بعض المسلمين وغيرهم – بل واختاروا أن يُعادوه ويُقاوموه ويَمنعوه بل وتَقْسُو أيْ تَتَصَلّب وتَتَجَمَّد وتتغلّظ وتَنْغلق فلا تَتَدَبَّر عقولهم ومشاعرهم بداخلها مِن ذِكْر الله وقرآنه وإسلامه أي بسببه ، فمِثْل هؤلاء حالهم علي العكس تماما في دنياهم وأخراهم " .. فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ .. " أي لهم كل أنواع الوَيْل أي الهلاك والعذاب الشديد " .. أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿22﴾ " أي هم في ضَيَاع أيْ شرّ وفساد واضح ظاهر ليس فيه أيّ خفاءٍ أو شكّ ، مُبَيِّن لمَن يَرَاه أو يَعلم به أنه الضياع الحقيقي التامّ ، فهم في حياتهم سيكون لهم قطعا صورة ما مِن صور عذاب الدنيا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في آخرتهم سينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿23﴾ " أي الله تعالي خالق الناس من فضله وكرمه عليهم أنزل لهم أفضل كلام ، وهو القرآن العظيم ، لأنه سبحانه كاملٌ له كلّ الصفات الكاملة الحُسْنَيَ فبالتالي كل كلامه هو الأكمل والأحسن ولا يُقَارَن بأيّ حديث من أحاديث خَلْقه ، إنه كتابٌ مكتوبٌ فيه كلّ ما هو حَسَن ، كلّ ما هو خير وسعادة ، كل ما يُصلح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. مُّتَشَابِهًا .. " أيْ كلّ كلام وآيات ومعاني هذا الكتاب الكريم يُشبه بعضها بعضا في الصدق والحكمة وقوة الأدِلّة والبراهين والتوازُن والحُسْن والبلاغة والفصاحة والائتلاف وعدم الاختلاف والصواب والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادة .. " .. مَّثَانِيَ .. " أي تُثَنَّيَ أي تُكَرَّرَ – مثاني جمع مثني أي جمع اثنين واثنين وهكذا – معانيه وأخلاقه ووصاياه وتشريعاته وأحكامه مِن زوايا مختلفة ورُؤَيَ مُتَعَدِّدَة وبأدِلّة مُتَنَوِّعَة لكي يُكْمِلَ بعضها بعضا ولتكتمل الفوائد ويَنتفع ويَسعد بما فيه مِن خيرٍ جميعُ الناس علي اختلاف ثقافاتهم ومفاهيمهم وعلومهم وبيئاتهم وعصورهم ، وكلّما قَرَأوه وتَدَبَّروه كلّما وَجَدوا فيه ما يُناسِب تنظيم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ رغم كثرة مُتَغَيِّراتها وحتي يوم القيامة وكلّما ازدادت المعاني وضوحا وتَرَسُّخَاً فيهم وكلّما ازدادوا صلاحا وكَمَالا ونفعا وسعادة .. وكلّ هذا يدلّ بلا أيّ شكّ علي أنه أحسنَ الحديث وأنه ليس من كلام البَشَر والذي لا يُمكن بحالٍ أن يكون كذلك بل هو من عند خالقهم سبحانه .. " .. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ .. " أي الذين يخشون ربهم – والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – مِن شدّة تَدَبُّرهم وتَعَمُّقهم في معانيه ، فإنهم حينما يُذْكَر فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي يَنتظر المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ، فإنهم يتأثّرون تمام التأثّر إلي درجة أنْ تَقْشَعِرّ أيْ تَرْتَعِش وتَرْتَجِف وتَهْتَزّ جلودهم بسبب شدّة خوفهم ويَعْقِدون العَزْم بداخل عقولهم ألاّ يكونوا أبدا أمثالهم وذلك باجتهادهم في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامهم ، ثم لَمَّا يستمعون إلي ذِكْر الله في قرآنه وكذلك في كلام رسوله ﷺ وفي كلّ ما يُذَكِّرهم بحالِ أهل الخير ورحمات ربهم بهم وأفضاله عليهم وتمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم تَلِين بسبب ذلك أي تَسْكن وتَهدأ وتَستقرّ وتطمئنّ وتعود لحالتها الطبيعية جلودهم وعقولهم .. إنهم يحيون حياتهم دائما مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء في رحمته (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ .. وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. وفي هذا مَدْحٌ لهم وتشجيعٌ للاستمرار علي ذلك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذكر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ .. " أيْ ذلك التأثّر هو علامَة مِن علامات هُدَيَ الله أي إرشاده وفضله ونعمه علي المجتهدين في التمسّك بإسلامهم والتائبين العائدين دوْما إليه العازمين علي عدم تَرْكِه ، كما أنَّ ذلك الكتاب الذي هو بهذه المواصفات هو لا شكّ بكلّ تأكيدٍ هداية الله لخَلْقِه أي الذي جَعَله سَبَبَاً لإرشادهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وهذا الهُدَي يكون مِن الله لمَن يَشاؤه مِن البَشَر فيَشاؤه الله له بعد ذلك بأن يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو للهداية لله وللإسلام بإحسان استخدام عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿23﴾ " أيْ أمّا مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ.. " ﴿الرعد : 11﴾ ، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه ، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله ؟!
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿24﴾ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴿25﴾ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿24﴾ " أي هل يستوي مَن يُلْقَيَ في النار مُقَيَّدَاً تماما بحيث لا يمكنه اتِّقاء العذاب السَّيِّء الشديد في جهنم إلاّ بوجهه والذي لن يستطيع ذلك لأنّ الوجه غير مُجَهَّز لهذا مثل اليديْن والتي هي حينها مُقَيَّدَة ، والمقصود تمام الذلّة والمَهَانَة وإحاطة النار به من كلّ جانبٍ بلا أيّ أملٍ في أيّ نجاة ، وذلك بسبب شروره ومَفاسده وأضراره ، هل يستوي هذا مع مَن استجاب للإسلام وتمسّك بكلّ أخلاقه فكان في أعلي درجات الجنات حيث النعيم التامّ والسعادة الخالدة ؟! لا يستوون بكل تأكيد عند أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل !! .. " .. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿24﴾ " أي يُقال لهم مِن ملائكة العذاب علي سبيل الذمّ واللوْم الشديد والإهانة والعذاب النفسيّ إضافة للعذاب الجسديّ ذوقوا أي استشعروا ألم وعذاب ونتيجة السوء الذي كنتم تكسبونه أي تعملونه وكأنكم تربحون شيئا فلم تربحوا وتَجْنُوا إلا كلّ عذابٍ مُوجِعٍ مُهِينٍ علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم بأيّ صورةٍ مِن صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴿25﴾ " ، " فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ أيْ كما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء الحالِيِّين فقد كذّبَ كثيرون قبلهم منذ أبيهم آدم ، وكانت النتيجة السَّيِّئَة أن أصابهم العذاب الدنيويّ قبل الأخرويّ مِن الجِهَة التي لا تخطر لهم على بَالٍ أنه سيأتيهم منها وفي التوقيت الذي لا يتوقّعونه لكي يكون تأثيره عليهم أشدّ وأفظع .. وفي هذا تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لكلّ الذين يَتَشَبَّهون بهم حاليا ومستقبلا إلي يوم القيامة لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحلول العذاب والذي هو في دنياهم قد يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، وقد يَصِل الأمر إلي الإهلاك بريح أو فيضان أو زلزال أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، ثم في أخراهم سينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ " أي بهذا العذاب الدنيويّ الذي أصابهم قد جعلهم الله تعالي يستشعرون الخِزْي أي الذلّة والانحطاط والعار والفضيحة قبل الخزي الأكبر والذي لا يُقارَن في الآخرة .. " .. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ " أي لو كانوا يَعقلون ما فعلوا الذي فعلوه ، أي لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَتَدَبَّرُوا في هذا واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، ولم يتصرَّفوا وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حالهم ومَثَلهم ! وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فَلْيَتَّعِظ إذن مَن يريد الاتِّعاظ
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿27﴾ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿27﴾ " أي لقد ذَكَرْنا فيه ومَثّلنا وشَبَّهْنَا لهم من كل أنواع التذْكِرات والأمثال والتشبيهات والمَوَاعِظ والمواقف والأحداث والمفاهيم والأخلاقيّات وما شابه هذا مِمَّا يُرْشِدهم طوال حياتهم لتمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم ، وذلك لتقريب المعاني لعقولهم ليَسهل عليهم فهمها وتدبُّرها وبالتالي العمل والانتفاع والسعادة بها .. " .. لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿27﴾ " أي لكي يتذكروا ذلك ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
ومعني " قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿28﴾ " أي جعلناه قرآنا أيْ كتاباً مقروءاً عربيا ، أي باللغة العربية ، لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. " .. غَيْرَ ذِي عِوَجٍ .. " أيْ ليس أبدا يَتَّصِف بأيّ اعْوِجَاج أو انحرافٍ عن الحقّ والعدل والخير والسعادة بل كله استقامة ومُتَّجِه بدِقَّةٍ نحو هذه الصفات التي تُسْعِد مَن يعمل بها كلها تمام السعادة في الدنيا والآخرة .. " .. لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿28﴾ " أيْ لكي يكونوا مِن المُتَّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَّقِين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿29﴾ " أيْ ذَكَرَ الله تعالي ومَثّلَ وشَبَّهَ لكم مَثَلاً أيها الناس ليَتَّعِظَ به مَن يريد الاتِّعاظ وليَنتفع ويَسعد به في دنياه وأخراه ، وهذا المَثَل هو عبارة عن الفرق الشاسِع بين حال مَن يعبد الله تعالي وحده بلا أيّ شريكٍ ويكون سَلَمَاً له أيْ سالِما خالِصا طائعا له وحده سبحانه لا لأيّ أحدٍ غيره حيث يكون في تمام العِزّة وراحة البال والاستقرار والأمن والطمأنينة والسعادة لأنه سبحانه لا يأمره إلا بكل ما يُيَسِّر عليه حياته ويُسعده ويُصلحه ويُكمله فيها ثم في آخرته ، وبينَ مَن يَعبد ويُطيع آلهة مُتَعَدِّدَةٍ كأصنامٍ وبَشَرٍ كثيرين ضعفاء مثله يصيبهم ما يصيب البَشَر كمرضٍ وضعف وفقر وموت فمِثْل هذا كالعَبْد الذي يمتلكه أسيادٌ كثيرون والذي تراه طوال يومه وحياته في تمام الذلّة والحيرة والتخَبُّط والتشتُّت والقَلَق والتوتّر والاضطراب وعدم الراحة والتعب والبؤس والهَمّ وبالجملة تراه في كل تعاسة لأنه حائرٌ بين طلباتهم ولو أرْضَيَ أحدهم أغضبَ غيره لأنهم ليسوا مُتَّفِقين علي طلبٍ واحدٍ منه بل هم شركاءُ مُتشاكسون فيه أي مُشتركون مُتنازعون مُختلفون عليه لكلٍّ طَلَبه غير الآخر أصحاب أخلاق سَيِّئَةٍ عند التعامُل معه ، وهو سيَظلّ كذلك ما لم يستقيظ ويعود لعبادة ربه وحده ولإسلامه فحينها سيَتَحَرَّر وسيَستقرّ وسيَسعد في دنياه وأخراه .. " .. هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا .. " أيْ لا يُمكن بأيِّ حالٍ أن يستوي الحالان عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، وهو استفهام للتقرير أي لكي يُقِرَّ ويَعترف الناس بعقولهم باختلاف الحالَيْن ليَستيقظ الغافِل السَّاهِي التّائِه .. " .. الْحَمْدُ لِلَّهِ .. " أي اشكروا الله كلّ الشكر علي كلِّ نِعَمه والتي لا تُحْصَيَ ومنها وأهمها أنّه وَضَّحَ لكم كلّ هذه الحقائق وأنكم اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم أن تعبدوه وحده وتتمسّكوا بالإسلام كله دون غيره من الأنظمة المُخَالِفَة له المُضِرَّة المُتْعِسَة ، اشكروه بالعقل باستشعار قيمتها وباللسان بحمده سبحانه وبالعمل باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تكون دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. " .. ثم يَرُدّ سبحانه علي أمثال هؤلاء ومَن يشبههم بما فيه تَعَجُّب مِن حالهم وتَصَرُّفهم وتحقير له لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، فيقول تعالي : " .. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿29﴾ " أي رغم كلّ هذا الوضوح في الأدِلّة وكل هذا الإقرار مِن أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة ، لكنَّ كثيرا منهم لا يعلمون أي لا يعقلون أي لا يُحسنون استخدام عقولهم ، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه ، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء ، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد ! لأنهم قد وَضَعوا عليها أغشية وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولفظ " .. أَكْثَرُهُمْ .. " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿31﴾ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴿32﴾ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴿33﴾ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿34﴾ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿35﴾ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿36﴾ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾ ، " ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿31﴾ " أي الجميعُ سيَموت وسيَنتهي أجله في الحياة الدنيا في التوقيت المُحَدَّد له دون تقديمٍ أو تأخير بما فيهم الرسل وأفضل الصالحين ، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنه مُخَلَّد فيها ولن يُحَاسَب علي ما فَعَل ! ولا يَتَعَجَّل أحدٌ موت غيره لغيظه منه مثلا أو يطلب تأخيره لحبه ! .. ثم الجميع سيرجع إليه سبحانه يوم القيامة ، فيُخَاصِم – أي يَطلب من الله الحُكْم العادل فيما كانوا يتنازعون ويختلفون فيه ويتخاصَمون عليه – الصادقُ الكاذبَ والمظلومُ الظالمَ والمهدىُّ الضالَّ والضعيفُ المستكبرَ فيأخذ كلُّ صاحبِ حقٍّ حقَّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، وهو تعالي عليمٌ خبيرٌ بهم جميعا وبما عملوه ، وسيُخبرهم به بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة ، فمَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشَه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بالعدل التامّ .. وفي هذا تمام الطّمْأَنَة لأهل الخير لِيَحيوا مُستبشرين دائما وتمام التهديد لأهل الشرّ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان .. وفي هذا أيضا تحفيزٌ علي حُسن الاستعداد للآخرة بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ مِن خلال التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام
أمّا معني " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴿32﴾ " أيْ لا أحد أكثر وأشدّ وأعظم ظلما مِمَّن كَذَبَ على الله فادَّعَيَ مثلا أنَّ له ولداً أوشريكاً أو شَرَّعَ كذا ولم يُشَرِّعه أو نحو هذا من صور الكذب ، فإذا كان الكذب علي البَشَر أمرا سَيِّئاً ظالما مُضِرَّاً مُتْعِسَاً فالكذب علي الله هو في غاية السوء والظلم والضَرَر والتعاسة في الداريْن !! .. إنه لم يَكْتَفِ بذلك بل أضاف ظلما شديدا آخر حيث كذّب بالصدق حين جاءه وسَمِعَ وعَلِمَ به أي بالقرآن وما فيه من إسلامٍ وبصلاحيته لإسعاد البشرية كلها تمام السعادة في دنياها وأخراها ..