الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني " قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿31﴾ " أيْ قال لهم إبراهيم بعد أن اطمَأنَّ إليهم وعَلِمَ أنهم ملائكة مُرْسَلون من عند الله تعالي فما الأمر الهامّ الذي من أجله جئتم إلىَّ أيها المرسلون وما حالكم وحكايتكم وماذا تريدون بعد هذه البشارة ؟
ومعني " قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴿32﴾ " أيْ أجابوه بأنهم قد أرْسِلُوا بأمر الله إلي قومٍ يرتكبون الجرائم أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار ، ويَقصدون قوم لوط ، حيث كان أشهر جرائمهم والتي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين جريمة الشذوذ أيْ أن يُجامِع رجلٌ رجلا ، إضافة إلي الجريمة الأعظم وهي تكذيبهم لرسولهم واستكبارهم عليه واستهزائهم به وبربه وبدينه الإسلام وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك دون أيّ عودةٍ لأيّ خير
ومعني " لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴿33﴾ " أيْ لكي نَقْذِفَ عليهم حجارة من طينٍ مُتَحَجِّرٍ أحْمِيَ عليه في النار حتى صارَ صَلْباً شديد الصَّلابَة ، لكي نُعَذّبهم ونُهلكهم بها
ومعني " مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴿34﴾ " أيْ مُعَلَّمَة بعلاماتٍ تدلّ علي أنها ليست كحجارة الدنيا العادية المعروفة وإنما هي حجارة مُخَصَّصَة للعذاب شديدة الصلابة والسرعة لا يَنجو منها أيّ أحدٍ من المُعَذّبين بها مِمَّن تَستهدفهم وعلي كلِّ حَجَرٍ اسم مَن يُهْلَك بها ، وهي موجودة عند الله تعالي في مُلْكه تَنْزِل بشدّة من أعلي وهي مُجَهَّزَة ومُعَدَّة للمُسْرِفِين أيْ المُبالِغين في الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها المُكْثِرين منها
ومعني " فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿35﴾ " ، " فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿36﴾ " أيْ أنَّ الإيمان والإسلام هما سبب النجاة من أيّ سوءٍ وتحقيق كلّ خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة ، والمقصود هم لوط ﷺ وأهل بيته فيما عدا امرأته التي لم تكن مؤمنة كما وَرَدَ في آيات أخري .. أيْ أنَّ الله تعالي قبل إهلاك المجرمين أخرج من بينهم بفضله ورحمته وعوْنه وتوفيقه وتيسيره مَن كان فيها أيْ في القرية من المؤمنين ولم يكن هناك غير بيتٍ واحد من المسلمين فقط وهو بيت لوط ﷺ .. والآية تشير ضمنا إلى أنَّ امرأة لوط كانت تُظْهِر الإسلام وتخفي الكفر وتتعاون مع أهل القرية على فسادهم ، فبيت لوط إذَن كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم يَنْج منهم إلا الذين اتَّصَفوا بالإِيمان والإِسلام معاً .. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أيْ التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام ، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في هاتين الآيتين الكريمتين فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة .. وهذا هو المطلوب من الناس فلا يكفي إيمانهم ولكنْ لابُدّ من تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم حتي يحققوا السعادة التامّة في الداريْن ، مُتَشَبِّهين ببيت لوط – ما عدا امرأته – البيت المؤمن المسلم والذي امتدحه تعالي ونَجَّاه وأسعده بسبب ذلك
ومعني " وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿37﴾ " أيْ وبعد إهلاك هؤلاء المجرمين تركنا في قريتهم آثار دمارهم وبيوتهم الخَرِبَة لتظلّ آية أيْ علامة ومُعجزة واضحة ودليل ودرس واضح لا ينتفع به إلا الذين يخافون العذاب المُوجِع أنْ يَنْزِل عليهم من ربهم في دنياهم ثم أخراهم إذا هم كانوا مِثلهم مُكذبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار .. إنَّ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها حتما سيَتَدَبَّرون فيما حَدَث فيفعلون كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ ليَسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما مثلما حَدَث للذين يفعلون الشرَّ ويُصِرُّون تمام الإصرار عليه ولا يفعلون الخير .. أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فإنهم قطعا لا يَنتفعون بمثل هذه الآيات ولا غيرها !!
أمَّا معني " وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿38﴾ " أيْ وأيضا تَرَكْنا في قصة موسي ﷺ عِبْرَة وعِظَة للذين يخافون العذاب الأليم حين بعثناه إلي فرعون بدليلٍ واضح لا يُمكن تكذيبه يَشهد بصِدْقه وهو المُعجزات المُبْهِرات الواضحات التي يراها هو وقومه أمامهم وأهمها تَحَوّل العَصَيَ لثعبانٍ حقيقيّ ، فلم يكن لهم أيّ حجّة أو عُذر إذَن في ألاّ يؤمنوا
ومعني " فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿39﴾ " أيْ فقَابَلَ ذلك بأنْ أعْرَضَ بجانبه أيْ بجانب جسده أو بسبب ارتكانه واستناده إلي قوّته وماله وسلطانه ونفوذه وجنوده ، أيْ أعطاه ظهره والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابتعد عنه وتَرَكَه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء وقال له مُكَذّبا مُتعالِيا إنك إمَّا ساحر أيْ ما أتيتَ به ليس معجزة وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السِّحْر بالعقل ، أو مجنون أيْ لا عقل لك تقول كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل !!
ومعني " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿40﴾ " أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لتَوَلِّيه بِرُكْنِه هو ومَن معه مِن وزراء ومُعاونين وجنود ومَن يُشبههم وتكذيبهم بما جاءهم به رسولنا الكريم موسي من الحقّ وتَعَالِيهم عليه واستهزائهم به وعِنادهم له وإصرارهم علي ذلك دون عَوْدةٍ لأيِّ خير أن أخذناه أيْ عذّبناه هو ومعاونيه ومُتَّبِعِيه بأنْ قذفناهم وأغرقناهم في البحر بكلّ ذِلّةٍ وإهانةٍ وشِدَّة وإهمال ، لأنه – ولأنهم – مُلِيمٌ أيْ فاعِلٌ لِمَا يَلُومُه عليه الآخرون أيْ قد فَعَلَ ما يُلام عليه فاسْتَحَقّ العقاب الشديد بسببه حيث كان حاله كله تكذيباً وعنادً واستكباراً واستهزاءً وظلماً وإيذاءً وفِعْلاً للشرور والمَفاسد والأضرار ، حتي وَصَلَ به الأمر إلي أن قال أنا ربكم الأعلي !!
أمَّا معني " وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿41﴾ " ، " مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿42﴾ " أيْ وأيضا تَرَكْنا في قصة عاد – وهم قوم رسولنا الكريم هود الذين كذّبوه – عِبْرَة وعِظَة للذين يَخافون العذاب الأليم ، حين بعثنا عليهم الريح العقيم ، أيْ التي لا تأتي بأيِّ خير ، والعُقْم هو عدم الإنتاج كالمرأة العقيم التي لا تُنْتِج مولودا ، فهي ريح لا تُلَقِّح شجرا فتنتج ثَمَرَاً ولا تنزل مطرا نافعا وليس وراءها ولا من آثارها شيء من الخير بل كلها ضَرَر حيث هي شديدة مُضِرَّة مُتْعِسَة مُهْلِكَة .. " مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿42﴾ " أيْ لا تَتْرُك أيَّ شيءٍ تَمُرّ عليه إلا وتجعله كالشيء البَالِي القديم المُتَفَتِّت المُتَهَالِك
ومعني " وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ﴿43﴾ " ، " فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿44﴾ " ، " فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ﴿45﴾ " أيْ وأيضا تَرَكْنا في قصة ثمود – وهم قوم رسولنا الكريم صالح الذين كذّبوه – عِبْرَة وعِظَة للذين يخافون العذاب الأليم حين قال لهم مُهَدِّدَاً ومُحَذّرَاً من الاستمرار والإصرار التامّ علي ما هم فيه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء دون أيّ عودةٍ لأيِّ خير ، أنْ عِيشوا مُتَمَتِّعِين بحياتكم الدنيا فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار واستمرّوا هكذا إلي حين يأتي كلّ واحد منكم الموت ويَرَيَ عذاب قبره وبدايات عذاب آخرته أو إلي حين الوقت الذي فيه تُهْلَكون بعذاب الله الدنيويّ ثم بالأخرويّ ، فلعلهم بذلك التهديد والتحذير يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوَان .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه قال لهم ذلك في بدء دعوته لهم قبل أن يُظْهِروا تمام إصرارهم علي تكذيبهم رغم تكرار دعوتهم بكل الوسائل الدعوية المُناسبة المُمْكِنَة ولفتراتٍ طويلة ، قاله بصورةٍ فيها نصح وتَحَبُّب لهم ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة أن أسْلِموا واتَّبعوا أخلاق إسلامكم لتعيشوا سعداء مُتمتعين تمام التمتع بحياتكم حتي نهاية آجالكم في دنياكم ثم لتحيوا في أخراكم خالدين بلا نهاية فيما هو أتمّ وأعظم سعادة .. " فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿44﴾ " أيْ فتَكَبَّروا وظلموا وخالَفوا أمر الله وهو اتِّباع الإسلام وعصوه وتركوه واستهانوا به وتَمَرَّدوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصرّوا تمام الإصرار عليها ، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن أخذتهم الصاعقة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة ، والصاعقة هي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا .. " .. وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿44﴾ " أيْ وهم ينتظرون هذا العذاب لحظة بعد أخري ليكون الأمر أشدّ تعذيبا ورعبا حيث كانوا يتوقّعونه بداخل عقولهم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم وبتحذير المسلمين لهم حولهم ، وكذلك ينزل عليهم وهم يَنظرون إليه ويرونه بأعينهم ويُعاينون وقوعه بهم وهو يعذبهم ولا يستطيعون فِعْل أيّ شيءٍ أو منعه أو الهروب منه ، فهم في تمام الألم والخوف والذلّة والإهانة والذهول والترقّب والاضطراب حتي يهلكوا ويُبادوا تماما .. " فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ﴿45﴾ " أيْ حين نَزَلَ بهم العذاب شَلَّ حَوَاسَّهم فلم يستطيعوا أيَّ قيامٍ من أماكنهم أو تَحَرُّكٍ عنها من أجل الفرار منه ، فهم لم يستطيعوا القيام بأمر مقاومته ومنعه مطلقا ، وما كانوا مُنتصرين لأنفسهم منه فيهزموه بأيّ شيءٍ ينصرهم عليه أو بأيِّ ناصرٍ حولهم يعينهم وينقذهم ، فذاقوا بالتالي ألمه الشديد وهَلَكوا
ومعني " وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿46﴾ " أيْ وأهلكنا أيضا قوم نوح مِن قَبْل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المذكورين في الآيات السابقة حيث كانوا سابقين لهم في هذا السوء ، أهلكناهم بالطوفان الذي أغرقهم جميعا كما وَرَدَ في آيات أخري وأنجينا المؤمنين ، وكان في قصتهم كذلك عِبْرَة وعِظَة لمَن أراد أن يَتَّعِظ فلا يفعل أبدا مثلهم ، والسبب أنهم كلهم كانوا فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله وأخلاق دينه الإسلام ، أيْ يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار ويُصِرُّون عليها تمام الإصرار دون أيّ عودةٍ لأيِّ خير ، لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴿48﴾ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿50﴾ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿51﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾ " ، " وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴿48﴾ " ، " وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾ " أيْ ومِن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ، أنه بَنَيَ السماء مَرْفوعَة بلا أعمدة مُحْكَمَة مُتْقَنَة بما فيها مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء وتغيُّر الليل والنهار والصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان ، بناها بأيدٍ أيْ بقوّةٍ وقُدْرةٍ تامّة .. " .. وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾ " أيْ ونحن بكلّ تأكيدٍ مُوَسِّعُون لأنحاء الكوْن علي خَلْقنا حيث هو مُتَرَامِي الأطراف قادرون تماما علي ذلك ، ومُوَسِّعُون عليهم في كل أنواع الأرزاق والخيرات والرحمات حيث هي بلا حدود مُسْعِدَة لهم جميعا ، لأننا أصحاب سَعَةٍ أيْ غِنَيً وفضلٍ تامٍّ وكَرَمٍ فيَّاضٍ ومَقْدِرَةٍ كاملة علي كلّ شيء .. " وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴿48﴾ " أيْ وكذلك من بعض مُعجزاتنا ورَحَمَاتنا ونِعَمنا أنَّ الأرض بَسَطْناها ومَدَدْناها وسَوَّيْناها ومَهَّدْناها أيْ جَهَّزْناها وأصلحناها وحَسَّنَّاها علي أكمل وجه ، كالفراش المُمَهَّد المُيَسَّر الذي يَستقِرّ ويستريح عليه مَن جلس فوقه ، حيث جعلناها مَبْسُوطَة صالحة للسَّيْر عليها ولإنبات الزروع بها وجعلنا فِيها طُرُقا مُتَعَدَّدَة لكي يَصِل بواسطتها الناس من مكانٍ لآخر لقضاء حوائجهم ولتحقيق ما لا يُمكن حَصْره من المنافع والسعادات .. فنِعْمَ – أيْ ما أعظمَ وأحسنَ – المُمَهِّدُون نحن ، حيث مَهَّدْنا لخَلْقِنا كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم ثم أخراهم إذ يستحيل حتما علي غيرنا أن يقدر علي ذلك .. وهذا المدح منه سبحانه لذاته لتذكرة البَشَر بعظمته وكماله وقُدْرته وعلمه وبعظمة خَلْقه وبعظيم نِعَمه ورحماته عليهم ليعبدوه ويشكروه ويتوكّلوا عليه وحده ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن .. " وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾ " أيْ وكذلك من بعض مُعجزاتنا ورَحَمَاتنا ونِعَمِنا أننا خلقنا من كلَّ شيءٍ في الوجود من المخلوقات نوعيْن متقابليْن مختلفيْن ، كالذكر والأنثى والليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والبَرّ والبحر والعَذْب والمالح والصلب والرَّخْو والساخن والبارد وما شابه هذا ، مِمَّا يدلّ علي تمام قُدْرته وعلمه سبحانه حيث يخلق المُتَنَاقِضات وكلها تعمل بانسجامٍ لصالح منفعة وسعادة الإنسان .. " .. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾ " أي لعلكم تتذكّرون هذا ، أيْ لكي تتذكّروه ، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما عليكم فقط إلا أن تتذكّروه بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، فتعبدوه بالتالي وتشكروه وتتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن ، وتَحْذَروا بشدّة أن تكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلكم الذين تعسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿50﴾ " ، " وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿51﴾ " أيْ إذا كانت الأمور كما ذُكِرَت لكم أيها الناس في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ من إهلاك المكذبين المعاندين المستكبرين ومن أنَّ كلَّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة لمَن عمل بكلّ أخلاق إسلامه وكلّ شرٍّ وتعاسةٍ بما يُسَاِوي ما يُتْرَك منها لكلّ مَن تَرَكها كلها أو بعضها ، فبالتالي فإنْ كنتم أصحاب عقولٍ مُنْصِفة عادلة فأسْرِعوا واهْرَبُوا إذَن إلي الله ، أسرعوا ولا تَتَبَاطَأوا هروبا إليه من شرور وتعاسات التكذيب إلي خيرات وسعادات التصديق ومن الشرِّ إلي الخير ومن السيئات إلي الحسنات ومن الفساد إلي الصلاح ومن الإصرار علي السوء إلي التوبة ومن الجهل إلي العلم ومن النكران للنِّعَم إلي الشكر ومن الاعتماد علي غيره إلي التوكّل عليه وحده ، وبالجملة من كل ما يَكرهه سبحانه إلي ما يحبه ومن غضبه إلي رضاه ومن عذابه إلي رحمته ومن خوفه إلي أمنه ومِن تَرْك الإسلام إلي العمل بكلّ أخلاقه ، لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿50﴾ " أي هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين من بعدي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة ، ومُنْذِرا أي مُحَذِرا الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، فليطمئنّوا إذن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم .. هذا ، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم .. " وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿51﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما جاء في الآية السابقة ومزيدٌ من المُبَالَغَة في النصح به من إسراع بالفرار إلي الله تعالي وتحذيرٍ وإنذارٍ شديدٍ من مُخالَفته أو تَرْكه أو التَّبَاطُؤ فيه ، وذلك لأهميته ، وأهمّ هذا الفرار وأوَّله وأعظمه ألا تشركوا أيها الناس مع الله إلاهاً آخر غيره فتعبدوا صنما أو حجرا أو نجما أو نحوه وإلا تعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿52﴾ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿53﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴿54﴾ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص هؤلاء الرسل الكرام في كل القرآن الكريم وذلك لتكتمل الفوائد
هذا ، ومعني " كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿52﴾ " أيْ كذلك كان حال الأمم السابقة مع رسلهم دائما ، لم يحضر لهم مِن قَبْل المُعَاصِرين لك أيها الرسول الكريم أيُّ رسول يدعوهم لاتِّباع الإسلام ليسعدوا في الداريْن إلا قال عنه المُكذبون منهم المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن أنه ساحرٌ أو مجنون !! أيْ ما يأتي به ليس معجزة ولا وحيا من الله مُصْلِحَاً مُسْعِدَاً للبَشَر في دنياهم وأخراهم وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهامٍ وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السِّحْر بالعقل ، أو مجنون أيْ لا عقل له يقول كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل !! فنَزَلَ بأمثال هؤلاء عذاب الله الدنيويّ قبل الأخرويّ ، كما جاء في الآيات السابقة التي تحدَّثَت عن أحوال أقوام رسل الله الكرام من قبل قوم الرسول الكريم محمد ﷺ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. وكذلك أنتم الآن أيها المسلمون كدعاة مِن بَعْده ﷺ ستُقَابَلُون بأمثالهم الذين يقولون عنكم سَحَرَة أو مَجَانين أو نحو هذا !! وسيَلْقون مصيرا مُشابها لمصيرهم السَّيِّء علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم إن لم يعودوا لربهم ولإسلامهم .. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
ومعني " أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿53﴾ " ، " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴿54﴾ " ، " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ " أيْ هذا بيانٌ وتفسيرٌ لسبب أقوالهم المُتَشابِهَة هذه وهو تسلية أخري وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم أنَّ السبب في بُعْدهم عن ربهم ودينهم ليس تقصيرا منهم في حُسْن دعوتهم وإنما هو بسببهم لإصرارهم علي التكذيب .. أيْ هل أوْصَيَ الأوَّلُون السابقون من المُكذبين المُعاندين هؤلاء المُتأخِّرين المُعَاصِرين لكم أيها المسلمون بهذا القول الشنيع أنَّ الرسول ﷺ وأنتم من بعده سَحَرَة أو مَجانين أو نحو هذا ؟! والاستفهام للتعجُّب من حالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. بالقطع لا لم يُوصُوهم !! لأنَّ السابقين حتما لم يلتقوا أبدا هؤلاء المُعاصِرين !! ولكنَّ الذي جَمَعهم علي مِثْل هذا السوء هو تشابُه عقولهم فتَشابَهَت بالتالي أقوالهم وأفعالهم بسبب أنهم جميعا طاغون أيْ مُتَعَدُّون مُتَجَاوِزُن مُخَالِفون لله وللإسلام ظالمون لأنفسهم ولغيرهم بفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار ، لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴿54﴾ " ، " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ " أيْ هذا تسلية أخري وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم ، أيْ إذا كان حالهم هكذا فابْتَعِدوا إذَن أيها المسلمون عن المُصِرِّين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولا تهتمّوا ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم ، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم ، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين ، فليس عليكم بالتالي لوْم في ذلك حيث عليكم فقط البلاغ لهم وأنتم لم تُقَصِّروا معهم بل قد أدَّيْتُم قَدْر استطاعتكم كل ما عليكم نحوهم بحُسن دعوتهم بكل قُدْوة وحكمةٍ وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ولكنهم مُصِرُّون علي ما هم فيه (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿40﴾ من سورة الزخرف " أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " ، والآية ﴿8﴾ من سورة فاطر " .. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ " أيْ ومع تَوَلّيكم عن المُصِرَّين علي التكذيب استمرّوا ولا تتوقّفوا وداوِمُوا على تذكير جميع الناس بالقرآن والإسلام والذي فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وعلي التبشير بكلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما لمَن يعمل بأخلاقه والإنذار بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ لمَن يُخالِفه ، وذلك مهما قالَ وفَعَلَ هؤلاء وأمثالهم .. فإنَّ هذا التذكير عظيم الأهمية حيث ينتفع به مَن أراد الانتفاع والاعتبار والسعادة في الداريْن وهم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) حيث يزيدهم هذا التذكير عملا بأخلاق إسلامهم بكل هِمَّة وسهولة وسرور وعودة سريعة لها لو فُرِضَ ونسوا أو خالَفوا شيئا منها ، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فلن ينتفعوا حتما بهذه التَّذْكِرَات بأيِّ شيء
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ " أيْ ما أوْجَدتُ كلّ المخلوقات مِن عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابق ، سواء أكانت من الجِنّ – والجنّ في لغة العرب هي كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين – أم من الإنس أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس أيْ البَشَر الذين كَرَّمهم الله ومَيَّزَهم عن بقية الخَلْق بأنَّ لهم عقولا يعقلون بها ، إلا من أجل أن يعبدوني ، أيْ يَعْرفوني ، أيْ لكي يَتَعَرَّفوا بعقولهم عليَّ وعلَيَ خيراتي ونِعَمِي في كوْني لينتفعوا وليسعدوا بها في حياتهم الدنيا أولا لفترة بقائهم فيها ثم في آخرتهم خالدين بلا نهاية ، أي لِيَعرفوني لأني لو لم أخلقهم ما عَرَفوني فَيُطيعوني بعد هذه المعرفة إذ بدونها تصعب الطاعة فيسْعَدون بالتالي بذلك .. ومن المعاني أيضا أني ما خلقتهم إلا وهم مُؤَهَّلون للعبادة أيْ للطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فهم مُتَمَكِّنون منها تماما مُستعدّون لها تمام الاستعداد حيث البَشَر لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بحرية إرادتهم ولهم رُسُل سَيُرْسَلُون إليهم ومعهم كتب بها تشريعات وأخلاقيَّات تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها كلها وبقية المخلوقات مُؤَهَّلَة هي الأخري لأداء مهامّها في طاعةٍ تامّة لربها وكلها مُسَخَّرة لمنافع ومصالح وسعادات البَشَر (برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، لمعرفة قصة الحياة وسبب الخِلْقة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام﴾ .. ومن المعاني كذلك : إلا ليعبدوني وحدي بلا أيّ شريكٍ حيث لا مُسْتَحِقّ للعبادة غيري .. فمِن بني آدم مَن أطاع فسَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ومنهم مَن لم يُطِع فتَعِسَ تماما فيهما .. فلم أخلقهم إذَن لحاجتي إليهم فأنا كامِل الغِنَيَ والقُدْرة أو لعَبَثٍ بلا حِكَمٍ وفوائد أو لشيءٍ يعود علىّ بالنفع بل العبادة هي كلّ النفع والسعادة لهم .. هذا ، ومن أسباب تقديم الجِنّ علي الإنس في ألفاظ الآية الكريمة أنها خُلِقَت قبلهم وللتنبيه علي أنها غير خارجة هي أيضا عن العبودية لله تعالى لأنَّ البعض قد يعبدونها من دونه سبحانه
ومعني " مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ " ، " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴿58﴾ " أيْ هذا بيانٌ لكمالِ صفاته الحسني وغِناه التامّ سبحانه عن العالمين .. أي ما أريد منهم أيَّ منفعةٍ أو رزقٍ كمالٍ ونحوه أو طعامٍ أو شرابٍ أو غيره من الاحتياجات التي يحتاجها الناس بعضهم من بعض .. فهو تعالي غير محتاج إليهم حتما بل هم جميعا المُحتاجون إليه في كل أحوالهم حيث هو خالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُؤَمِّنهم ومُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن .. فليعبدوه إذَن وليشكروه وليتوكّلوا عليه وحده فهو المستحِقّ لذلك بلا أيّ شريك ، ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴿58﴾ " أيْ هذا بيانٌ وسببٌ وتأكيدٌ للحقيقة التي سَبَقَ ذِكْرها في الآية السابقة لتَتَرَسَّخ وتستقرّ في العقول ليطمئنّ كلّ الناس وجميع الخَلْق علي أرزاقهم النافعة المُسْعِدَة حيث هي مضمونة تماما من خالقهم الكريم الرحيم الودود العليم القادر علي كلّ شيءٍ المُتَكَفّل بها وما عليهم إلا أن يُحسنوا اتِّخاذ أسباب الوصول إليها وتحصيلها ، فهو سبحانه الرَّزَّاق أيْ كثير الإرْزاق لكلّ خَلْقه وهو صاحب القوّة الكاملة القادرة علي ذلك وهو المَتين أيْ الشديد أيْ الذي قوّته لا تَضعف مُطلقا بل هي دائمة فائقة لا تُقارَن ولا تُعارَض
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ﴿59﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا أيْ مُصَدِّقاً لا مُكَذّباً بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ﴿59﴾ " ، " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿60﴾ " أيْ سيكون بالتأكيد لكلِّ الذين ظلموا ذواتهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا ، سيكون لهم ذنوبا أيْ نصيبا من العذاب الدنيويّ والأخرويّ مِثْل نصيب أمثالهم الظالمين من الأمم السابقة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ يتمثّل في قلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين أو حتي إهلاكٍ بريح أو مطر أو فيضان أو زلزال أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، وبالجملة سيكون لهم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيَذوقون حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد .. " .. فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ﴿59﴾ " أيْ فلا يستعجلون عذاب الله في الدنيا والآخرة فإنه نازِلٌ بهم بكل تأكيدٍ في التوقيت وبالأسلوب المناسب الذي يُؤلمهم ويُتعسهم تماما ، فإنَّ طريقته سبحانه في الأمم الظالمة واحدة حيث كلّ مُسِيءٍ مُكَذّبٍ يُصِرّ على سوئه وتكذيبه من غير توبة وعودة لربه ولإسلامه فإنه لابُدّ أن يقع عليه درجة ما من درجات العذاب المُناسبة لشروره وهو غير بعيدٍ منه حتي ولو تأخَّر عنه لفترةٍ مَا فالمسألة إذَن مسألة وقتٍ فقط .. وفي هذا استهانة بشأن الظالمين وتهديد لهم وطَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم .. وذلك لأنهم قد وَصَلَ ببعضهم الجَهْل والعِناد والاستكبار والاستهتار وعدم تقدير الأمور أن يَستعجلوا عذاب الله تعالي !! وهذا النهي لهم عن عدم الاستعجال هو للتهديد وللذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليَسعدوا .. إنهم يَطلبون منه ﷺ – ومِن المسلمين مِن بَعده – بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يَعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذَن كاذب والمسلمون كاذبون ! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره .. " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿60﴾ " أيْ هذا تخصيصٌ لأسوأ أنواع الذين ظَلَموا المَذكورين في الآية السابقة وهم الذين كفروا بمزيدٍ من التأكيدِ علي تهديدهم لاستحقاقهم لهذا وتوضيحٌ لسبب عذابهم بأشدّ أنواع العذاب وهو الكفر .. أيْ فهَلاكٌ لهم إذَن من النار التي تنتظرهم لتُعَذّبهم يوم القيامة في مُقابِل كفرهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وهو اليوم الذي كان يَعِدُهم به الله ورسله والمسلمون معهم ولم يكونوا يُصَدِّقونه ، وذلك إضافة إلي الوَيْل الدنيويّ أيْ العذاب الذي يُصيبهم في دنياهم ويَتَمَثّل في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوَتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ليَستفيقوا قبل نزول العذاب بهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن .. وهو ضِمْنَاً رحمة بهم بصورة غير مباشرة لِيَنْتَبِهُوا وليَسْتَعِدُّوا.
وَالطُّورِ ﴿1﴾ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ﴿2﴾ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴿3﴾ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴿4﴾ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ﴿5﴾ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴿6﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴿8﴾ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ﴿9﴾ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴿10﴾ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ﴿12﴾ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴿13﴾ هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿14﴾ أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ﴿15﴾ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !!
هذا ، ومعني " وَالطُّورِ ﴿1﴾ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ﴿2﴾ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴿3﴾ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴿4﴾ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ﴿5﴾ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴿6﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴿8﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ وَعْده الدنيويّ والأخرويّ للناس كله صِدْق بالجزاء على الأعمال بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً وعلي أنَّ عذابه بالمُكَذّبين وبالفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار واقعٌ بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ وأنه لا دافِع ولا مانِع له عنهم .. وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ الطور والكتاب المَسطور والبيت المَعمور والسقف المرفوع والبحر المَسجور .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، فهو سبحانه يُقْسِمُ بالطور وهو اسم الجبل بسيناء بمصر والذي حَدَثَت عنده معجزة أنه كَرَّمَ موسى ﷺ بأن كَلّمَه وأسْمَعَه صوته بدون ساتِرٍ وأنزل عليه التوراة فيها الإسلام المُناسب لعصره المُسْعِد للبَشَر وقتها .. ويُقسم كذلك بكتابٍ مَسطور وهو كل كتاب مَكتوب سُطّرَت حروفه وكلماته تسطيرا جميلا حسنا واضحا أوْحاه للناس وآخرها القرآن العظيم ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن عن طريق رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ .. هذا ، ومن معاني كتاب مسطور أيضا أنه الكتاب الذي يُعْطَاه كل إنسان يوم القيامة ومُسَّطَر فيه كل أقواله وأفعاله من خيرٍ أو شرّ ليُحَاسَب عليها .. وهذا الكتاب الذي فيه تشريعات الله للبَشَر مكتوب في رَقٍّ مَنشور أيْ وَرَق مَبْسوط يراه بلا خَفَاء كل مَن أراد الاطّلاع علي ما فيه حيث لا شيء به يُخْفَي لأنه ضعيف مثلا أو به عَيْب أو خَلَل يُراد إخفاؤه بل كله ظاهر واضح للثقة التامّة في كمال صِدْقه وقوّته وحِكمته وعظمته ومنفعته لأنه كلام الخالق لا المخلوق ، والقَسَم به وهو في حال نشره لقراءته هو أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء بأخلاقه التي فيه للقارىء والسامع والانتفاع والسعادة بها .. ويُقسم أيضا بالبيت المعمور وهو بيته الحرام بمكة ، أي الكعبة ، للتذكرة بمكانته العظيمة عند المسلمين حيث هو قِبْلتهم ورمز تَجَمّعهم وقوّتهم ، فهو المعمور دائما بالطائفين والمُصَلّين والذاكرين وبالوافدين إليه للحج والعمرة ، وهو أيضا البيت المعمور في السماء في مُقابِل الكعبة والذي تعمره الملائكة بالطواف حوله وبالتسبيح وبكلّ ذِكْرٍ تعظيما له مُتَلَذّذة بذلك .. ويُقسم بالسقف المرفوع وهو السماء المرفوعة بلا أعمدة والتي جعلها كالسقف للأرض وما عليها وبها من مخلوقات لتَسْتَمِدّ منها بعض خيراتها من مطرٍ يأتي بكل أنواع الأرزاق وطاقة شمس وضوئها وما شابه ذلك من منافع .. ويُقسم بالبحر المسجور أيْ المَمْلوء بالماء بما فيه من مأكولات ومخلوقات بحرية نافعة مُسْعِدَة والذي يَتَبَخَّر ماؤه ليَصنع السُّحُب والأمطار المفيدة ، والمسجور أيضا هو المشتعل نارا حيث ذلك يَحدث يوم القيامة لزيادة نار جهنم اشتعالا لتزداد عذابا لمُستحِقّيها من أهل الشرّ .. " إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴿8﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقّ ماسَبَقَ ذِكْره إنَّ عذاب ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، عذابه الدنيويّ والأخرويّ ، لابُدّ حتما بكل تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ أن يقع وينزل ويحدث ويتحقّق علي مُسْتَحِقّيه في التوقيت وبالأسلوب الذي يريده سبحانه حيث يؤلمهم أشدّ الألم ، ولن يكون حينها له أيّ دافع يدفعه ويمنعه عنهم وينقذهم منه حين وقوعه بأيِّ وسيلةٍ كانت وبأيِّ أحدٍ مهما كان لأنه من الله الغالِب الذي لا يُغْلَب والذي لا يُخْلِف وعده مُطلقا
ومعني " يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ﴿9﴾ " ، " وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴿10﴾ " أيْ وموعد العذاب الأخرويّ الواقع بهم هو يوم القيامة وهو يوم تضطرب السماء اضطرابا شديدا وتَتَحَرَّك وتَتَمَوَّج وتَدور تَحَرُّكاً وتَمَوُّجاً ودورانا مُزعِجَاً مُخيفا .. " وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴿10﴾ " أيْ وهو أيضا يوم تَسِير الجبال عن أماكنها رغم ثقلها وقوّتها وتَتَطايَر كالسحب وتَتَفتَّت إلي رمال وتَتَناثر ، وذلك من شدّة هذا اليوم وفظاعة ما فيه من الأمور المُزْعِجَة والتي تُزلزل وتَنْسِف هذه المخلوقات الهائلة فكيف بالإنسان الضعيف ؟! فعليه إذَن أن يعمل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليأتي يومها آمنا من كل هذا مُستبشرا بانتظار كل أمْنٍ وسعادةٍ دون أيّ خوفٍ وتعاسة
ومعني " فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾ " ، " الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ﴿12﴾ " أيْ يوم تَمور السماء وتَسير الجبال يوم القيامة فهَلاكٌ يومها لهؤلاء المُكذّبين بعذاب النار التي تنتظرهم لتُعَذّبهم في مُقابِل تكذيبهم في دنياهم بهذا اليوم وبوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وبعثه للناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم ترابا وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وفي مُقابِل فِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار .. هذا ، والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم .. " الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ﴿12﴾ " أيْ الذين هم من صفاتهم أنهم دوْماً في دخولٍ باندفاع وانغماسٍ في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ ويستمرّون في حالهم هذا ويعيشون حياتهم مُنشغلين بلعبهم فيما لا يُفيد بل يَضُرّ غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين ناسِين الآخرة والاستعداد لها وللحساب والعقاب والجنة والنار بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ولذلك تعسوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴿13﴾ " ، " هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿14﴾ " ، " أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ﴿15﴾ " ، " اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿16﴾ " أيْ اذكر أيها العاقل لِتَعْتَبِر وتَتَّعِظ يوم القيامة يوم يُدْفَع هؤلاء المُكَذّبون إلى النار دَفْعَاً قويا غليظا لا رحمة ولا شفقة فيه ويُساقون إليها سَوْقَاً عنيفا ويُجَرّون على وجوههم جَرَّاً شديداً مُذِلَّاً مُهِينا بواسطة ملائكة العذاب .. " هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿14﴾ " أيْ تقول لهم الملائكة علي سبيل الذمِّ الشديد ولمزيدٍ من الحَسْرة والندم كنوع من العذاب النفسيّ مع الجسديّ هذه هي النار حقيقة واقعة ترونها الآن وتذوقون عذابها المُتَزَايِد الخالِد الذي لا يُوصَف والتي كنتم لا تُصَدِّقون بها وبأهوالها وتَسخرون منها وتَسْتَبْعِدون وجودها .. " أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ﴿15﴾ " أيْ تقول لهم أيضا وتسألهم علي سبيل الذمّ والاستهزاء هل هذا الذي ترونه بأعينكم واقعيا هو سِحْر يَسحر العقول بأوهامٍ وتخيُّلات ليست حقيقية كالتي يفعلها السِّحْر بالعقل كما كنتم تَدَّعون كذبا وزورا علي الوحي والرسل في الدنيا ؟! أم أنتم عُمْيَان عن رؤية عذابكم الذي تُعَذّبون به فلا تُبْصِرونه ؟! بالقطع لا ، فالعذاب ليس سِحْرا ولا أنتم بالعُمْيان بل هو حقيقة ترونها وتتألّمون بها الآن .. إنهم حقا كانوا لا يُبصرون الحقّ وهو الإسلام في دنياهم بتكذيبهم له لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿16﴾ " أيْ تقول لهم ملائكة العذاب أيضا ، بأمرٍ من الله تعالي ، بما يُفيد شدّة الإهانة والتحقير ، احترقوا بنارها ، بنار جهنم ، فاصبروا إن استطعتم ! وهذا أيضا مزيد من السخرية منهم والإذلال لهم حيث الصبر الآن في جهنم هو صبرٌ علي النار وليس الصبر والتّحَمُّل المعروف الذي يَتْبَعه الفَرَج واليُسْر وحُسن الثواب وبالتالي يقوم به الإنسان آملا في نتائجه ! إنه الصبر الذي جزاؤه أن تكون النارُ مثويً أيْ مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة فليس هناك أيّ أملٍ بعده إلا بما هو أسوأ !! هذا لو استطاعوا الصبر أصلا حيث هو أمر مُسْتَبْعَد مُسْتَحِيل ! ومَن يُمكنه تَحَمُّل عذاب نار جهنم والتي هي أضعاف نار الدنيا وفيها أنواع من العذاب لم تخطر لهم علي بال ؟! .. فإنْ صَبَروا – علي سبيل الفرض – فالنار الدائمة الخالدة هي النتيجة الحَتْمِيَّة إذن !! .. وإن لم يصبروا ولم يتحملوا – وهذا هو حتما الذي يحدث بلا أيّ احتمال آخر – فأيضا النار الدائمة الخالدة هي النتيجة الحتمية لعدم صبرهم !! فالحالان سواء عليهم أيْ يستويان فكلاهما لا فائدة من ورائه ولا ميزة للصبر علي عدم الصبر في موقفهم البائس هذا !! وفي هذا تمام التيئيس والقطع لأيِّ أملٍ لهم في الخروج منها فهم في عذاب دائم مُهين مُتَصَاعِد خالد .. " .. إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿16﴾ " أي هذا هو سبب ما يُفْعَل بهم الآن ، أي لا تُعَاقَبُون اليوم إلا على الذي كنتم تعملونه من شرور ومَفاسد وأضرار ، فلم نَفْتَرِ عليكم شيئا لم تعملوه وإنما هي أعمالكم مُسَجَّلَة بكل تفصيلٍ ودِقّةٍ ولا يظلم الله أحدا حتما مُطلقا بل يُجازي كُلاّ بعمله بتمام العدل بلا أيّ ذرّة ظلم
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴿17﴾ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿18﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿19﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿20﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21﴾ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿22﴾ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ﴿23﴾ ۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴿24﴾ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿25﴾ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴿26﴾ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴿27﴾ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من المُتّقين لله في كل أقوالك وأعمالك لأنه يعلم كل ما يُخفيه الإنسان وما يُعلنه ، أي كنت دائما من المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا ، ومعني " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴿17﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء بكل تأكيدٍ في جنات ونعيم ، فبعد تمام سعادة الدنيا التي كانوا فيها بسبب تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، يكونون في الآخرة في بساتين وحدائق مُخْضَرَّة مُبْهِجَة كثيرة الثمرات والخيرات والقصور وبها عيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير المُبْهِج وبها كلّ أنواع النعيم الخالد بلا نهاية الذي لا يَنقطع مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني " فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿18﴾ " أيْ مُتَنَعِّمِين مُتَلَذّذِين بسبب ما أعطاهم ربهم إيّاه في الجنة من كلّ أنواع النعيم اللذيد الذي لا يُوصَف ، وبسبب أنه أيضا إضافة لذلك قد جَنَّبَهم بفضله وكرمه ورحمته عذاب النار المُؤلِم المُهِين وهي نعمة عظيمة مستقلة بذاتها .. والمقصود من ذِكْر هذه الحالة إظهار الفرق الهائل بين حال المتقين وحال المُكَذّبين لمزيدٍ من تذكرتهم بالنِعَم العظيمة التي هم فيها عند ملاحظة ضِدَّها ، وأيضاً لبيان تمام العدل بوقايتهم من عذاب الجحيم لأنهم لم يفعلوا ما يستحِقّ العقاب والذي هو بالقطع يكون لمن يستحِقّه فقط
ومعني " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿19﴾ " أيْ يُقال لهم لتكريمهم وتشريفهم ، إضافة إلي كل الكرم والفضل السابق ذِكْره ، كلوا واشربوا كل ما تشتهونه هنيئا أيْ مُسْعِدَاً لكم مُسْتَسَاغَاً لذيذا طيبا مُفيدا لا ضارَّاً مُيَسَّرَاً بلا أيِّ مَشَقَّة .. " .. بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿19﴾ " أيْ هذا هو سبب ما أنتم فيه الآن ، أيْ أُعْطِيتُم كلّ هذا الفضل العظيم بسبب أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة في دنياكم واجتهادكم في تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم ، وفي هذا القول أيضا مزيد من التكريم والتشريف لهم
ومعني " مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿20﴾ " أيْ ويكونون فيها في صورةٍ من صور التّمَتّع والنعيم حيث النسيم الطيّب لظلال الأشجار وحيث في بعض أحوالهم يكونوا مُتَّكِئين أيْ جالسين جلسة وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم والتي تُفيد تمام التمتّع بالراحة والاسْتِرْخاء وكمال التكريم علي سُرُر جَمْع سرير مُزَيَّنَة بأفخم الزينة والمفروشات ، وهذه السُّرُر مَصفوفة أيْ علي شكل صُفوف مُنتظمة مُتَرَاصَّة مُتَقَابِلَة بشكلٍ مُمْتع وبما يَدلّ على كثرتها وحُسن تنظيمها وتَجَمّع أهل الجنة عليها وسعادتهم بحُسن لقائهم بعضهم بعضا ولُطْف كلامهم فيما بينهم .. " .. وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿20﴾ " أيْ وإضافة إلي كلّ النعيم السابق أنعمنا عليهم كذلك بأنْ زوَّجناهم بحورٍ ، جَمْع حَوْراء أيْ بَيْضاء ، عِينٍ ، جمع عَيْناء أي واسعة العين ، والمقصود أنَّ أهل الجنة من الرجال والنساء سيكونون في أعلي درجات الجمال في كلّ شيءٍ والتّمَتّع مِن كلّ شيء
ومعني " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21﴾ " أيْ هذا مزيد من التكريم والتشريف والفضل والكرم والحب والرحمة والإسعاد لهم ، أيْ ومِن فضلنا وكرمنا أيضا أنَّ الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره واجتهدوا في التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامهم ، واتَّبَعتهم أيْ سارَت خَلْفهم علي طريقهم ذُرِّيَّاتهم في هذا الإيمان ، يُلْحِقهم أيْ يُدخلهم وراءهم ويَجعلهم الله تعالي الكريم الودود ذو الفضل العظيم مع آبائهم في منزلتهم ودرجتهم في الجنة يوم القيامة وإن لم يبلغوا درجة عملهم حيث يَرْفع قليل العمل إلي كثير العمل فيجتمعون جميعا علي أحسن حالٍ فيَسعد الجميع بذلك لأنَّ الإنسان تكتمل سعادته بوجوده بين أهله وهم أيضا سعداء مثله .. هذا ، والآباء هم كذلك ذُرِّيَّة لآبائهم يَرفعهم الله لدرجاتهم إنْ كانوا أعلي منهم ، وهم كآباءٍ يَرتفعون درجاتٍ كثيرةٍ باستغفار أبنائهم لهم ، وهكذا خير علي خير وسعادة علي سعادة من فضل الله العظيم .. " .. وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ .. " أيْ لم ننْقص الآباء المَتْبُوعين الأعلي درجةٍ أيَّ شيءٍ من ثواب أعمالهم بل أخذوا أجورهم كاملة ، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ الخالق الوَهَّاب سبحانه حينما رَفَع لهم ذرِّيَّاتهم كان بسبب مثلا أنه أخَذَ من حسناتهم وأجرهم شيئا ما وأعطاه للأبناء !! ولماذا يفعل ذلك وخيراته التي لا تُحْصَيَ هو خالقها ولا نفادَ أو نهاية لها فهي ليست شحيحة غير كافية للآباء والأبناء معا حتي يأخذ من أحدهم ويُعْطِي للآخر فيكون ظُلما للمأخوذ من حقه وهو أعدل العادِلين سبحانه ؟! ولكنَّ الأمر كله تَفَضُّلٌ وتَكَرُّمٌ ورحمة وإحسانٌ منه علي الجميع .. " .. كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21﴾ " أي يُعْتَبَر هذا الرَّفْع من الفضل عليهم حتما لأنَّ الأصل أنَّ كلَّ إنسانٍ هو مَرْهُون – كالرَّهْن الذي يُعْطَيَ في مُقابِل دَيْنٍ مَا ولا يُسْتَرَدّ حتي يُسَدَّد – عند الله تعالي بما كَسَبه أيْ فَعَلَه من عملٍ في دنياه وهؤلاء الذين رُفِعُوا لم يكن عملهم مُساويا لدرجتهم وبالتالي فرَفْعهم هو تَفَضُّل عليهم .. وعموما فإنَّ الإنسان لن يستطيع أن يَفكَّ ويَسْتَرِدَّ نفسه المَرْهُونَة هذه ويَنطلق من مَحْبَسه هذا عند الله إلا بعد أنْ يُسَدِّدَ دَيْنَه بمعني أن يُحَاسَب علي عمله ، فإنْ كان خيرا انْفَكَّ مِن أسْرِه ونَالَ كلَّ خيرٍ وسعادةٍ في درجات الجنات ولم يُنْقَص من ثوابه ولو حَسَنة وإنْ كان شرَّاً بَقِيَ رهينا أسيرا في العذاب بما يُسَاوِي شروره .. وأيضا كلّ إنسان مَرْهُون بعمله لا يُؤَاخَذ به غيره أيْ لا يَحمل أحدٌ إثم أحدٍ آخر وإلا كان ذلك مُخَالِفَاً لعَدْله تعالي ، وذلك حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ رَفْع درجات الأبناء للآباء بالجنة قد يَحدث ما يشبهه مع أهل النار حيث يَحمل أحدٌ عن غيره ذنبه وعذابه !! فكلُّ فردٍ يَتحمَّل نتيجة عمله وحده
ومعني " وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿22﴾ " أيْ ومن فضلنا وكرمنا الواسع عليهم أيضا أن أعطيناهم مَدَدَاً أيْ زيادةً علي ما هم فيه من نعيمٍ مِن كلّ ما يحبون وبمجرّد أن يتمنّوه من جميع أنواع الفواكه واللحوم المتنوِّعة اللذيذة المُشْتَهَاة التي لا تنقص ولا تنقطع
ومعني " يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ﴿23﴾ " ، " وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴿24﴾ " أيْ وإضافة إلي كلّ النعيم السابق أنعمنا عليهم كذلك بأنهم يَتناولون ويَتعاطون ويَتبادلون في الجنة بصورةٍ فيها مُدَاعَبَة وألْفَة ومَحَبَّة كؤوسا مَليئةٍ بكلّ أنواع الشراب الكثير المُتَنَوِّع الفَخْم اللذيذ المُمْتع المُسْعِد ، وكلها حاضِرة مُتَوَفّرة بكثرة وعند الطَلَب وحسب المطلوب وبلا أيّ جهد ولا تنتهي ، وهذه المشروبات بكلّ أنواعها المختلفة ليس فيها مُطلقا – ولا في الجنة عموما حتما بكل خيراتها – أيّ ضَرَر للعقول وللأجسام أيْ الذهاب بها أو إيذائها كما هي بعض مشروبات الدنيا كالخمور وما شابهها والتي تؤدي بمَن يشربها إلي اللغو وهو الكلام الساقط الذي لا خير فيه والذي قد يستحقّ العقوبة عليه أحيانا إذا كان شرَّاً ، أو تؤدي به إلي التأثيم أيْ جَعْله يرتكب الآثام أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أنواعها ، وإنما هم جميعا يتكلمون بالكلام الحَسَن مُستمتعين بذلك لأنّ عقولهم ثابتة كاملة مُتَّزِنَة وهم علي أحسن وأكمل وأسعد حال فكريا وجسديا من فضل الله وكرمه عليهم .. " وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴿24﴾ " أيْ ويَمرّ ويَدور عليهم بتلك الكئوس غِلمان لهم أيْ خَدَم شباب مُخَصَّصُون لخدمتهم في سنِّ القوة والحركة لا يَشيخون ويضعفون ، كأنهم في صفائهم ونقائهم وحُسن منظرهم كاللؤلؤ المَصُون المَحفوظ في صَدَفِه لم يُصِبْه غبار فهو في تمام اللّمَعان والجمال والمنظر البَهيج المُسعد .. هذا ، وليس في الجنة قطعا تَعَب ولا حاجة لخدمة لأنّ المطلوب من أيّ نعيمٍ يتحقّق بمجرّد تَمَنِّيه ولكنَّ وجود الخدم يدلّ على تكريمهم وتشريفهم وكمال راحتهم وكثرة نعيمهم وتمامه
أمَّا معني " وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿25﴾ " أيْ وهم في الجنة أثناء هذا الحال الطيِّب السعيد يَتقابلون يَتحادثون ويَتساءلون وهم مُقْبِلُون بوجوههم علي بعضهم البعض بكل حب واهتمام عن أعمالهم وأحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا وما فعلوه من خيرٍ أدَّيَ بهم إلي هذا الخير العظيم الذي هم فيه الآن من ربهم ، فيزدادون بهذا الحديث المُمتع سعادة علي سعادتهم وشكرا علي شكرهم لخالقهم الكريم
ومعني " قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴿26﴾ " ، " فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴿27﴾ " ، " إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴿28﴾ " أيْ يُجيبون بعضهم بعضا عن تساؤلاتهم مُسْتَرْجِعين مُتَذَكِّرين سبب نَيْلهم تمام السعادة التي هم فيها الآن في الجنة قائلين أننا كنا قبل هذا النعيم سابقا في دنيانا مع أهلنا ومَن حولنا دائما في حالة إشفاقٍ أيْ خوفٍ من الله ومِمَّا نحن مُقْبِلُون عليه في الآخرة ، خوف الهيبة والعظمة مع الحب والرغبة في شفقته أيْ رأفته وعطفه وحنانه وحبه وتحصيل نِعَمه وخيراته وأفضاله ورحماته ، فعِشْنا بالتالي حياتنا كلها مُتَوَازِنين بين الخوف منه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه ففَعَلنا كلَّ خيرٍ وتركنا كلّ شَرٍّ ما استطعنا من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامنا (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. " فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴿27﴾ " أيْ فتَصَدَّقَ الله علينا بفضله وكرمه بأنْ غفر لنا ورضي عنا وتَقَبَّلَ أعمالنا في الدنيا رغم قِلّتها والتي لا تُذْكَر إلي جانب نعيم جنته التي أدخلنا إيَّاها وضاعَف لنا أجورنا ودرجاتنا فيها وأعطانا كل خيراتها ونَجَّانا برحمته من عذاب السموم وهو عذاب النار التي تخترق بحَرِّها المَسَامّ مثل الريح الشديدة الحرارة تَنْفُذ إلي الجسم من مَسَامِّه فتُؤَثّر فيه مثلما يُؤَثّر السُّمّ بانتشاره به .. إنهم يزدادون بهذا الحديث المُمتع فيما بينهم سعادة علي سعادتهم وشكرا علي شكرهم لخالقهم الكريم الوَهَّاب .. " إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴿28﴾ " أيْ يَستكملون حديثهم مُسْتَرْجِعين مُتَذَكِّرين سبب نَيْلهم تمام السعادة التي هم فيها الآن في الجنة قائلين إنا كنا من قبل هذا النعيم سابقا في دنيانا ندعوه أيْ نعبده سبحانه أيْ نُطيعه ونُخْلِص ونُحْسِن له العبادة وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، للشرح والتفصيل) ، وكذلك كنا ندعوه أيْ نسأله في دعائنا دائما من دعواتنا دخول الجنة والنجاة من النار .. " .. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴿28﴾ " أيْ فاستجاب دعاءنا وتَقَبَّلَ عبادتنا لأنه هو البَرّ أيْ المُحْسِن لخَلْقه اللطيف بهم أيْ الذي يُوصل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لهم بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسبابٍ لا يدركونها وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أيْ الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق .. الرحيم أيْ كثير عظيم الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴿29﴾ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴿30﴾ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴿31﴾ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿32﴾ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴿34﴾ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿35﴾ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ﴿36﴾ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴿37﴾ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿38﴾ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴿39﴾ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴿40﴾ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿41﴾ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ﴿42﴾ أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿43﴾ وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴿44﴾ فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴿45﴾ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿46﴾ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَٰلِكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿47﴾ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴿48﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴿49﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴿29﴾ " ، " أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴿30﴾ " ، " قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴿31﴾ " أيْ فإذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لكم في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ عن حال الكفار التعيس وحال المؤمنين السعيد ، فبالتالي فاستمرّ إذن أيها الرسول الكريم واستمرّوا أيها المسلمون مِن بعده ولا تتوقّفوا وداوِمُوا على تذكير جميع الناس بالقرآن والإسلام والذي فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وعلي التبشير بكلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما لمَن يعمل بأخلاقه والإنذار بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ لمَن يُخالِفه ، وذلك مهما قالَ وفَعَلَ هؤلاء وأمثالهم ، فإنَّ هذا التذكير عظيم الأهمية حيث ينتفع به مَن أراد الانتفاع والاعتبار والسعادة في الداريْن .. " .. فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴿29﴾ " أي فأنت أيها الرسول الكريم – وكذلك أنتم أيها المسلمون مِن بعده – لست ولستم بحمد الله ، ولستم بسبب نعمة القرآن والإسلام التي أعطاكم إيّاها وأرشدكم لاتِّباعها ، ولستم بسبب إنعام الله عليكم بالعقل وحُسن استخدامكم له وتمسّككم وعملكم بأخلاق إسلامكم ، لستم أبدا كما يَدَّعي المُكذبون كذبا وزُورا ، مِن الكَهَنَة تَدَّعون أنكم تعرفون الأشياء الغَيْبِيَّة المستقبلية وتُخبرون عنها ، ولا من المجانين لا عقل لكم وتقولون كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل ، بل أنتم بما معكم من قرآنٍ وإسلامٍ علي تمام الحقّ والصدق والصواب والخير والسعادة وهم يعلمون تماما ذلك داخل عقولهم .. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له لينالوا أجرهم العظيم وليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴿30﴾ " أيْ هل يقولون عليك أيضا أحيانا أنك شاعر ولست رسولا إضافة لقولهم كاهن أو مجنون ؟! بل يقولون ذلك بالفعل ، وهم كاذبون حتما فيما يقولونه ! ويقولون نحن ننتظر به أن تَنْزِل عليه أحداث الأيام والزمن التي تجعله مُتَشَكّكَاً قَلِقَاً كمصيبةٍ مُضْعِفَةٍ أو رجوع عن دعوته أو رحيله أو نحو هذا أو نهايته بموته فنستريح منه ومِمَّا يَدعو إليه من إسلام !! .. فالمَنون يعني الضعف والقَطْع والموت ، والرَّيْب يعني القَلَق والشكّ .. والمقصود من السؤال هو الذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لأقوالهم والتعجُّب من سوء حالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. إنَّ الجميع يعلم أسلوب الشعر ويعلم أنَّ القرآن العظيم ليس بشعرٍ أبدا وأنَّ الرسول ﷺ الذي هم يُلَقِّبونه بالصادق الأمين ليس بشاعرٍ مُطلقا ولم يُنَظّم القرآن علي هيئة الشعر كذبا علي الله وإنما هو وَحْي أوْحاه إليه ليُبَلّغه للناس ليعملوا بأخلاقه كلها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فبَلّغه بكلّ صِدقٍ وأمانة .. " قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴿31﴾ " أيْ قل لهم أيها الرسول الكريم وأيها المسلمون من بعده ، رَدَّاً علي أقوالهم السيئة هذه وما يشبهها من هؤلاء والذين يَتَشَبَّهون بهم ، علي سبيل التهديد والتحذير والتأنيب والإشعار بالسوء ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا ، إن كنتم تنتظرون موتنا وانقطاع دعوتنا للإسلام فنحن أيضا معكم من المُنتظرين لعذابكم في دنياكم وأخراكم ، وستَرون حتما مع الوقت بكل تأكيدٍ مَن الذي سيكون له كل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الدنيا قبل الآخرة من فضل الخالق الكريم القويّ المتين مالِك المُلك ، نحن أم أنتم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿52﴾ من سورة التوبة " قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿32﴾ " ، " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ " ، " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴿34﴾ " أيْ وهل تأمرهم عقولهم بهذا الكذب الشديد والقُبْح والسوء الذي هم فيه حيث يقولون علي الرسول الكريم ﷺ الذي يُلَقِّبونه هم بالصادق الأمين أنه كاهن أو مجنون أو شاعر وأنَّ ما جاء به من القرآن العظيم هو شعر أو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل ؟! بالقطع لا ! لأنه ليس هناك أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يقول بهذا مُطلقا عندما يتدبَّر ويتعَقَّل فيه ! ولكنَّ السبب في ذلك أنهم طاغون أيْ مُتَعَدُّون مُتَجَاوِزُن مُخَالِفون لله وللإسلام ظالمون لأنفسهم ولغيرهم بفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار ، لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والاستفهام للتعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ " أيْ وهل يقولون أيضا أحيانا علي الرسول الكريم الذي يُلَقِّبُونه هم بالصادق الأمين أنه يقول كَذِبَاً القرآن من عند نفسه ويَنْسِبه زُوراً وادِّعاءً لله وهو ليس وحْيَاً منه إليه وأنه ليس رسولا ، وذلك إضافة لقولهم كاهن أو مجنون أو شاعر أو ساحر ؟! بل يقولون ذلك بالفعل ، وهم كاذبون حتما فيما يقولونه ! ولكنَّ السبب أنهم لا يؤمنون ، أيْ لا يُصَدِّقون ، لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والاستفهام للتعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴿34﴾ " أيْ فليأتوا بقرآنٍ يُشبهه في عظيمِ بلاغةِ كلامه وأخلاقيَّاته وأنظمته المُتكَامِلَة التي تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، فليُحضروه وليَكتبوه من عند أنفسهم إذَن ما دام هو من كلام البَشَر وهم أساتذة في البلاغة والفَصَاحَة إنْ كانوا صادقين في ادِّعائهم أنَّ محمدا قد تَقَوَّله كَذِبَاً من عند نفسه !! وهذا التَّحَدِّي هو تحفيز لهم ليأتوا بمثله فإن لم يأتوا فهم بالتالي حتما كاذبون ، وقد عَجزوا تماما بالفعل ، وسيَظل كلّ المُكذبين المُستكبرين في الأرض حتي لو اجتمعوا عاجزين يائِسين ولن يستطيعوا ذلك مُطلقا إلي قيام الساعة .. فثَبَتَ بهذا بلا أيّ شكّ أنَّ القرآن العظيم هو من عند الله تعالي ولو كان من عند غيره لاستطاعوا الإتيان بمثله أو حتي بسورة أو بآية منه
أمَّا معني " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿35﴾ " ، " أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ﴿36﴾ " أيْ وهل يدَّعون أنهم خُلِقُوا على هذه الصورة المُعْجِزَة المُبْهِرَة – والتي لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يَدَّعِيَ أنه هو خالقها – من غير أن يكون هناك خالِق لهم ؟! أم هم الذين خَلَقُوا أنفسهم بدون احتياج لخالق ؟! وإنْ كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَق آباءهم وأجدادهم ومَن قبلهم ؟! أم هم الذين قاموا بخَلْق السموات والأرض وما فيهما وبينهما وما في الكوْن كله من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ ؟ لا بالقطع ، فإنَّ شيئا مِن ذلك لم يَحدث ، فإنهم لم يُخْلَقُوا مِن غير خالِق ، وإنما الذي خلقهم بقُدْرته هو الله سبحانه وحده ، كما خَلَق السموات والأرض بقدرته أيضا ، وهم يَعترفون بذلك كما يُؤكِّده قوله تعالى : " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. " ﴿الزخرف : 87﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. وبالتالي فهو المُستحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أيْ الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وهو بالتالي أيضا قادر تمام القُدْرة علي بَعْث الناس يوم القيامة أيْ خَلْقهم مرة أخري أيْ إحيائهم مِن قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم لحسابهم علي الخير خيرا والشرّ شرَّا ، حيث الخِلْقة الثانية ولا شكّ هي أسهل من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة !! كما يُثْبِت الواقع ذلك في مفهومنا نحن البَشَر ، فهو سبحانه يُخاطِبنا بما تفهمه عقولنا ! فلماذا يُنْكِرُون البعث إذَن ؟! .. " .. بَلْ لا يُوقِنُونَ ﴿36﴾ " أي ولكنَّ السبب في أنهم لا يعبدون الله وحده ولا يُصَدِّقون بالبَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار أنهم حينما يقولون أنَّ الله هو الذي خَلَقَهم يقولون هذا القول وهم ليسوا متأكِّدين منه ويَتَشَكَّكون به ولا يُحسنون استخدام عقولهم ولا يَتدبّرون ويَتعقّلون ويَتعمَّقون فيه لكي يتأكّدوا ويَصِلوا إلي التصديق التامّ أي الإيمان بكل هذا ، ولذا فهم يَتشكَّكون ولا يُوقِنون في أنه وحده المستحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك فيعبدون معه آلهة آخري كصنمٍ أو حجر أو كوكب أو غيره !! وسبب عدم يقينهم هذا أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام المُتكرِّر في هذه الآيات الكريمة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴿37﴾ " أي وهل يَمْلِك هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغُون الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة مفاتيح الخزائن التي فيها رحمات وخيرات وأرزاق وتقديرات وتدبيرات وترتيبات ربك وربّ الناس والخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم وهو المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة حتي يمكنهم منعها عنهم وعنك وعن اختيارك وتكريمك لتكون أنت رسولنا الرحمة المُهْداة المُسْعِدَة للعالمين بهذا القرآن والإسلام العظيم ؟! وهم الذين قد قالوا مِن قبْل مُتَوَهِّمِين التهوين من شأنك أأنْزِلَ عليه الذكْر مِن بيننا فهل لا يوجد مِن عظمائنا مَن هو أولي منه ؟! .. " .. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴿37﴾ " أيْ وهل هم المُتَحَكِّمون المُتَصَرِّفون في أمور هذا الكوْن بحيث يُحَرِّكُونها كما يشاءون وبحيث يُعطون مَن يَشاءون ويَمنعون مَن يُريدون ؟! وبسبب هذا الامتلاك لخزائن الدنيا والسيطرة علي شئونها هم مُسْتَغْنُون مُبْتَعِدُون عن ربهم وإسلامهم لأنهم ليسوا في حاجة لهما !! لا بالقطع !! لم يمتلكوا خزائنها ولم يسيطروا علي أحوالها وأحوال الخَلْق فيها ، والجميع مُحتاجون تماما لخالقهم ، مالِك المُلك المُتَصَرِّف فيه الفَعَّال لما يريد ، وللإسلام ، ليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم !! وإنما هم مُستكبرون مُكذبون مُعاندون .. والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿38﴾ " أيْ وهل لهم مصْعَد يَصعدون فيه إلى السماء يَستمعون به إلي وَحْي من الله فيَدَّعون أنهم سمعوا هناك منه أنَّ الذي هم عليه مِن تكذيبٍ وعبادةٍ لغيره وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار هو حقّ ولذلك فهم مُتمسّكون به لأنه وَحْيٌ أوْحاه الله إليهم واستمعوه منه !! فإنْ كانوا صادقين في ادِّعائهم هذا فلْيَأتِ إذَن هذا الذي يَدَّعِي أنه استمع ذلك بدليلٍ واضح مُبَيِّن أنَّ ادِّعاءه صادق !! كما أتَىَ محمد ﷺ بدليل على صدقه فيما جاءهم به من عند الله تعالي وهو القرآن العظيم .. وهذا التحَدِّي لهم هو لتعجيزهم وللاستهانة بهم ولإثبات أنهم حتما كاذبون إذا ادَّعوا ذلك مُرَاوِغُون لم يُوحَ لأيِّ أحدٍ منهم أيّ شيءٍ ويتحَجَّجون بأيِّ حجَج ساقطة لا تُعْقَل لكي لا يُسْلِموا والسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
أمّا معني " أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴿39﴾ " أيْ وهل يقولون أنَّ الله سبحانه له البنات ولهم هم الذكور ؟! هل بعد أنْ جعلوا لله تعالي شركاء يعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو نحوها ظلما وزورا يجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تَزَوَّجها وأنْجَبَ منها ؟!! وحتي هذه المواليد هي من البنات التي يَتَحَرَّجُون هم من إنجابها ويحتقرونها من وجهة نظرهم فينسبونها له سبحانه وهم يُنْجِبون البنين الذين يفتخرون بهم كمصدر قوة وعِزّة لهم !! .. أيْ حتي في ظلمهم وكذبهم وزورهم يأخذون لأنفسهم النفيس ويتركون لله ما هو خسيس !! .. إنَّ مَن كان عقله هكذا فلا يُسْتَبْعَد منه حتما تكذيب البعث والبُعد عن ربه وإسلامه وفِعْل كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَر !! .. والسبب – كما في كل الآيات السابقة – هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴿40﴾ " أيْ وهل تَطلب منهم أجرا ماليا أو غيره في مُقابِل أنك تدعوهم لله وللإسلام وبالتالي فهم من هذه الغَرَامَة مُتْعَبُون مُرْهَقُون كأنَّ عليهم حِمْلا ثقيلا حيث لا يستطيعون دفع قيمتها حتي يُسْمَح لهم بالدخول في الإسلام وبالتالي فهم لم يُسلموا لهذا السبب كما أنهم أصبحوا يكرهونه ويتضايقون منه بسبب غراماته المُرْهِقَة الكثيرة المفروضة عليهم مَهْمُومِين مَشغولين بهمومها لا يمكنهم التفكير في الإسلام بتَعَمّق ليَقتنعوا به ليَدخلوا فيه ؟! بالقطع لا ، لم تَطلب منهم شيئا ، بل أنت والمسلمون معك تنفقون بلا أيّ مُقابِل من جهودكم وفكركم وأموالكم وأوقاتكم وغيرها لحُسن دعوتهم لإسعادهم في الداريْن بالإسلام .. فليس عليهم إذن أيّ ضَرَرٍ من أن يُسلموا بل سيكون لهم كلّ السعادة ولكنَّ السبب في امتناعهم هو كما ذُكِرَ في كلّ الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
أما معني " أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿41﴾ " أيْ وهل عندهم اللّوْح المحفوظ الذي في السماء والذي مكتوب فيه كلّ علم الله تعالي وفيه ما هو غائب عن الناس وما سيَحدث مستقبلا فهم يكتبون منه ما فيه ويُخبرونه لهم أنَّ ما يُخبرهم به الرسول ﷺ في القرآن العظيم من أمور البعث ويوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار هي كلها كذب وأنهم هم بعبادتهم للأصنام الذين علي الصواب بينما هو والمسلمون معه في ضلال ؟! بالقطع لا !! فلا أحد حتما له علم بكل ما غابَ عن الناس في الماضي والحاضر والمستقبل في السماوات والأرض والكوْن كله إلا الله تعالي وحده ، وعبادته أي طاعته هي فقط الصواب المُسْعِد في الداريْن وعبادة غيره هي قطعا الخطأ الفاحش المُتْعِس تمام التعاسة فيهما .. ولكنَّ السبب في حالهم السَّيِّء هذا هو كما ذُكِرَ في كلّ الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم والاستهانة بهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ﴿42﴾ " أيْ وهل يريدون مَكْرَاً أيْ شَرَّاً وهلاكاً بالإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، فإنهم حتما واهِمون ، فهؤلاء الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبالبعث وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار ، ومَن يُشبههم مِن كلّ كائِدٍ ماكِر ، هم الذين مع الوقت سيُكَادُون أيْ الذين سيُصيبهم الشرّ والهلاك وسيَعود عليهم كيدهم وسيُغْلَبُون وسيَخسرون ، إمّا بصورة مباشرة من الله تعالي بزلازل أو أعاصير أو أمراض أو نحوها وإمّا بأنْ يُسَلّط عليهم خَلْقَاً من خَلْقه يَنتقمون منهم ، ويُقَوِّيكم أيها المسلمون ويُنجيكم من مَكْرهم وتدبيرهم ويَنصركم عليهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر " .. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وفي هذا استهانة بشأن الظالمين وتهديد لهم وطَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم .. إنَّ السبب في حالهم السَّيِّء هذا هو كما ذُكِرَ في كلّ الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم والاستهانة بهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿43﴾ " أيْ وهل لهم إله يَستحِقّ العبادة غير الله تعالي ؟! بالقطع لا ، وهذا هو المقصود من سؤالهم كل ما سَبَقَ من أسئلة في كل الآيات السابقة وفي هذه الآية الكريمة ، أن يَصِلُوا إلي هذا ، إلي أنه هو وحده الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فهو خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعِيهم ، ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم من خلال تشريعاته وأخلاقِيَّاته في الإسلام في قرآنه العظيم .. " .. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿43﴾ " أيْ بعد التدبُّر والتعَمُّق في كل هذا الكوْن المُعْجِز المُتكَامِل فسبحان الله إذن حتما مِن كل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، وهو ذِكْر يعني تنزيه الله أيْ إبعاده عن كل صفة لا تليق به ، وتعاليَ أي تَعَاظَم وارتفع وابتعد أيضا عنها وعمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم ! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده !! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها !! ولكنه التعطيل للعقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآيات السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم والاستهانة بهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
أمَّا معني " وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴿44﴾ " أيْ هذا بيانٌ لتمام الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار عند المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين بحيث أنهم حتي ولو حَدَثَ وجاءتهم آية عظيمة هائلة وهي أن يَروا بأعينهم واقعيا أنَّ قِطَعَاً من السماء ساقطة علي الأرض ما اعترفوا ولا صَدَّقوا أبدا بأنها معجزة لا تَحدث إلا بقدرة خالق هذه السماوات وهو الله تعالي وكان المفروض لو لهم عقول مُنْصِفَة عادِلة أن يؤمنوا به سبحانه ولكنهم لم يؤمنوا بل ويقولوا ما هذه القِطَع الساقطة علينا إلا مجرد سحاب متراكم بعضه فوق بعض كالذي قد تَعَوَّدْنا عليه !! .. كذلك تُفيد الآية الكريمة أنهم مُصِرُّون علي تكذيبهم واستكبارهم حتي آخر لحظة من حياتهم !! فلو فُرِضَ ونَزَلَ عليهم قِطَعٌ من السماء لعذابهم ولهلاكهم ما اعترفوا أنه عذاب بل يُوهِمون أنفسهم أنه مجرّد سحاب مَرْكوم وأنَّ الأمر سيَمُرّ كما مَرَّ عليهم ذلك سابقا كثيرا بل وسيأتيهم بخيره من المطر المُفيد لسَقْيِهِم ومزارعهم ودَوَابِّهم وذلك رغم تأكّدهم أنه ليس كالسحاب الذي اعتادوا رؤيته !! .. والسبب في حالهم السَّيِّء هذا هو كما ذُكِرَ في كل الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴿45﴾ " أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب ، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم ، فذرْهم إذَن ، أيْ اتركهم فيما هم فيه ، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعانِدون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين ، حتي يحين الوقت الذي فيه يُصْعَقون أيْ تصيبهم الصاعقة بعذابها بسرعة وبشدّة ، والصاعقة هي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا ، والمقصود اليوم الذي فيه يُلاقون ويُقابِلون العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وَعَدَهم الله إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم ، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين أو حتي الإهلاك بزلازل أو فيضانات أو غيرها وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي الآية الكريمة تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون ، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب .. كما أنَّ فيها تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿46﴾ " أيْ هذا اليوم ، يوم يُصْعَقون ، سواء في الدنيا أو الآخرة ، هو يوم لا يَنفعهم حتما ويَمنع عنهم العذاب مَكْرُهم أيْ شَرّهم وتدبيرُهم السَّيِّء الذي اعتادوا أنْ يَكيدوا به للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بأيِّ شيء ، فهذا الكيد القويّ ليس له أيّ قيمة أمام عذابه تعالي ، كما لا يُمكنهم مطلقا ولا غيرهم نصر أيْ إنقاذ بعضهم بعضا بدفع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم ، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه ، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ ، فهذا هو تمام العدل ، فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، ليَنجو ويَسعد ولا يَتعس في دنياه وأخراه
ومعني " وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَٰلِكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿47﴾ " أيْ وبكل تأكيدٍ وحتما إنَّ لكلِّ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن ، بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا ، إنَّ لكلٍّ منهم عذاباً مَا بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ في دنياهم أقلّ مِن وغير وقَبْل ذلك العذاب المُجَهَّز لهم في أخراهم الشديد المُوجِع المُهِين المُتنوِّع المُتَزَايِد المُتْعِس ، وهذا العذاب الدنيويّ سيَتَمَثّل في قلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين أو حتي إهلاكٍ بريح أو مطر أو فيضان أو زلزال أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، وبالجملة سيكون لهم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، إضافة قطعا لعذابهم عند موتهم وفي قبورهم حتي قيام يوم القيامة .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿47﴾ " أي ولكنَّ كثيرا مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه ، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ويتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ " .. أَكْثَرُهُمْ .. " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴿48﴾ " ، " وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴿49﴾ " أيْ فَذَرْهُم حتي يُلاقوا يومهم الذي فيه يُصْعَقون (برجاء مراجعة الآية ﴿45﴾ من هذه السورة لتكتمل المعاني﴾ واصبر في ذات الوقت أيْ كُن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد يُصيبك أحيانا من أذي مِمَّن تدعوهم ، وكن من المستمرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ ، وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. " .. لِحُكْمِ رَبِّكَ .. " أيْ علي ما حَكَمَ به ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، أيْ خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكل خير وسعادة ، من تكريمكم وتشريفكم أيها المسلمون باختياركم لدعوة جميع الناس في كل الأرض لله وللإسلام لتكونوا رحمة لهم ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، واصبروا إلي أن يَحكم الله بينكم وبين مَن يُؤذونكم قولاً وفِعْلاً ويَنصركم عليهم ويَنشر إسلامكم .. " .. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا .. " أيْ فأنت يا رسولنا الكريم ، ويا كل مسلم مُتَشَبِّه به ، بنَظَرنا ، أيْ بتمام رعايتنا وحمايتنا وحفظنا وتأييدنا وعوْننا وتيسيرنا لأمورك وتوفيقنا ونصرنا .. وأيّ إكرام واهتمام وحب وأمان وعزّ أفضل من هذا ؟! .. وفي هذا استهانة بشأن الظالمين وتهديد لهم وطَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم .. " .. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴿48﴾ " ، " وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴿49﴾ " أي ويُعينكم علي الصبر أن تُسَبِّحوا ربكم أيْ تُنَزِّهوه وتُبْعِدوه عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وأن تحمدوه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه ، حين تقومون من نومكم أو من مجلسكم أو للصلاة أو لأي عمل ، في أول النهار وآخره ، وأيضا من أوقات الليل وعند إدبار النجوم أيْ اختفائها أيْ أواخر الليل وبداية الفجر وأوائل الصباح ، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم ، أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الله تعالي وتنبيهه لبعض الأوقات كأواخر الليل قبل الصبح لأهمية الذكر فيها من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي وللمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ في اليوم السابق من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة .. هذا ، وتوجيه الله تعالي للرسول ﷺ بدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه ﷺ دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿1﴾ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿2﴾ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿3﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿4﴾ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿5﴾ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ﴿6﴾ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ ﴿7﴾ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴿8﴾ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴿9﴾ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ﴿10﴾ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴿11﴾ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴿12﴾ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴿13﴾ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ﴿14﴾ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ﴿15﴾ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ﴿16﴾ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴿17﴾ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿1﴾ " ، " مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿2﴾ " ، " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿3﴾ " ، " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿4﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ الرسول ﷺ أبدا ما ضَلَّ وما غَوَيَ وما يَنطق مُطلقا عن الهَوَيَ .. وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ النجم الذي يَهْوِي .. إنه تعالي في الآية الكريمة الأولي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، فهو سبحانه يُقْسِمُ بالنجم وهو الذي يَظهر في السماء مساءً يَتَلألأ يُزَيِّنها ويُسْعِد العقول ويَهتدي به الناس في بعض تحرّكاتهم وتنقّلاتهم برا وبحرا ، ويُقْسِم به عندما يَهْوِي أيْ يَسقط كما يراه البعض أحيانا متحرّكا من مكانٍ لآخر أو يَهوي بمعني يَغيب بظهور ضوء الصباح ، والمقصود التذكرة بتمام قُدْرة الله تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " .. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿2﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ ما مَالَ أبدا رسولكم الكريم ﷺ ، المُصَاحِب المُلازِم لكم في حياتكم والذي تعرفون جيدا أصله ونشأته وأخلاقه والذي تُلَقِّبونه أنتم لا غيركم بالصادق الأمين من كمال وعَظَمة خُلُقه ، ما مَالَ عن الصدق والحقّ والعدل والخير والطريق المستقيم ، وما صارَ مُطلقا غاوِيَاً أيْ شَرِّيَّاً فاسدا مُنْغَمِسَاً في الغواية أيْ الشرّ والفساد والخيبة والجهل والفكر الفاسد ولكنه دائما خيريّ صالح راجح العقل رشيد سَدِيد .. " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿3﴾ " ، " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿4﴾ " أيْ وما يَنطق أبدا رسولكم الكريم بأيِّ كلامٍ يَنطقه يكون صادرا عن الهوى ، أيْ الشرّ والفساد والضَرَر ، وبسببه وبغرض تحقيقه ، ولكنه ينطق كل كلامه بلا أيِّ شكّ بما يُوحِيه الله تعالي إليه من قرآنٍ كريم وقولٍ حكيم وتوجيهٍ رشيدٍ مُفيدٍ خيريّ مُسْعِدٍ تمام السعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن يعمل به كله
أما معني " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿5﴾ " ، " ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ﴿6﴾ " أيْ علّمَ الرسولَ ﷺ القرآنَ وكلَّ ما يُوحَيَ إليه مِن حِكْمةٍ مَلَكٌ مِن ملائكتنا الكرام هو جبريل عليه السلام خلقناه به قوَي جسدية كثيرة شديدة تُمَكِّنه من تنفيذ ما نُكَلِّفه به ، وهو أيضا صاحب مِرَّة أيْ مَتَانَة عقلية كبيرة ، فاسْتَوَيَ أيْ فنَضَجَ واكتملَ تماما القرآن والإسلام بداخله وكان هو ناضجا مُكْتَمِلاً بما يَكْفِي لحَمْل هذه الأمانة بتمامها دون أيّ زيادة أو نقصان من الله تعالي لرسوله الكريم ﷺ لتوصيلها للناس ، ولم يَتْرُك جبريلُ الرسولَ ﷺ في كلِّ مَرَّةٍ يَنْزِل بها بالوحي إلاّ وهو أيضا ﷺ قد اسْتَوَيَ أيْ نَضَجَ واكتملَ واستقرَّ عِلْمه تماما بما أوُحِيَ إليه
أما معني " وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ ﴿7﴾ " أيْ فاسْتَوَيَ واسْتَقَرَّ واعْتَدَلَ جبريل علي حالته الأصلية القوية الضخمة الهائلة ذات المنظر الحَسَن وهو في الآفاق أيْ الجهات السماوية العلوية ، فرآه الرسول ﷺ علي صورته الحقيقية عندما صعد هو أيضا إلي الأفق الأعلي أي إلي جهة السماء ليلة الإسراء والمعراج ، وكانت رؤيته ﷺ له علي هذه الصورة – حيث كان يراه في الدنيا فقط علي صورة رجل – نوعا من تكريمه وإسعاده ﷺ وهو في رحاب وجَنْب الله وملائكته وجنته ونعيمه
ومعني " ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴿8﴾ " ، " فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴿9﴾ " أيْ ثم بعد ذلك اقترب جبريل من الرسول ﷺ فنَزَلَ نحوه برِفْقٍ واقتربَ منه شيئا فشيئا حتي كان علي مسافةٍ منه قَدْر قَوْسين أو أقلّ من ذلك ، والقَوْس هو ما يُرْمَيَ به السَّهْم ، أيْ ما يُعادل تقريبا قَدْر ذِراع أو ذراعيْن ، والمقصود بيان كمال ودِقّة التواصُل مع الرسول ﷺ لتوصيل الوحي بلا أيّ واسِطَة .. هذا ، ومن المعاني أيضا أنَّ الرسول ﷺ قد اقترب قريبا جدا من مقام ربه تعالي فتَدَلّيَ أيْ فنَزَلَ وهبط ساجدا
ومعني " فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ﴿10﴾ " أيْ فأوْحَىَ الله تعالي بواسطة جبريل عليه السلام إلى عبده محمد ﷺ الذي أوْحاه إليه حينها من قرآنٍ وإسلامٍ وحِكْمةٍ وخيرٍ وإسعادٍ للناس في دنياهم وأخراهم
ومعني " مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴿11﴾ " ، " أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴿12﴾ " أي ما كذّبَ العقلُ للرسول ﷺ ما رآه بَصَرُه ، والمقصود أنه ما مِن شيءٍ رآه ﷺ ليلة الإسراء والمعراج أي الصعود إلي السماء من مُعجزاتِ الله المُبْهِرَات وتكريماته وإسعاداته له وما مِن مَشَاعِر استشعرها داخل عقله ، حيث رَأَيَ الله تعالي – عند بعض العلماء – ورأي جبريل علي صورته الحقيقية ورأي بعض نعيم الجنة وخيراتها وبعض جحيم النار وعذاباتها وبعض المُعَذّبين فيها ، كلّ ذلك الذي رآه صِدْق يَقْبله العقل وحقيقة واقعية مُثْبَتَة وليس تَخَيُّلاً كاذباً وشيئاً وَهْمِيَّاً لا يَقبله .. وفي هذا رَدّ علي الذين يُكَذّبون الرسول ﷺ فيما ذَكَرَه عَمَّا رآه في هذه الليلة المُبَارَكَة وتحذير وذمّ شديد لهم من عدم التصديق أو الاستهزاء ، ولذا يقول تعالي لأمثال هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين " أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴿12﴾ " أيْ هل تُجادلونه بدون أيِّ حقٍّ أو دليلٍ وتُكَذّبونه فيما رآه ليلتها ببصره حقيقيا واقعيا لا خياليا وفيما يُوحَيَ إليه من عندنا من قرآنٍ وإسلامٍ وحِكْمَةٍ من خلال مُلاقَاته لجبريل الذي ينزل بوَحْينا عليه وأنتم متأكّدون تماما أنه الصادق الأمين بل وتُلَقِّبونه بذلك ؟! .. والسؤال والاستفهام هو للتعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴿13﴾ " ، " عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ﴿14﴾ " ، " عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ﴿15﴾ " ، " إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ﴿16﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد أنَّ الرسول ﷺ قد رأي جبريل عليه السلام علي صورته الحقيقية – أو رأي الله تعالي عند بعض العلماء – أيْ ولقد رآه أيضا مَرَّة أخري في مكانِ نزولٍ آخر غير المَرَّة التي سَبَقَ ذِكْرها في الآيات السابقة وهذا المكان الآخر هو عند سِدْرَة المُنتهي وهو المكان المُعَظّم الذي بعده عَرْش الله تعالي وينتهي عنده تَحَرّك الملائكة وغيرها من المخلوقات في السماء والتي لا يعلمها إلا خالقها لأنها لا تحتمل أن تَتَعَدَّاه وإلا هَلَكَت من نوره سبحانه ، ومِن فَخَامَة هذا المكان وجلاله وجماله أنَّه عند سِدْرَةٍ أيْ شجرةٍ عظيمةٍ ذات أوراق وظلال هائلة ومَنظر بَهيج مهيب ورائحة طيّبة جميلة ، وهي التي يُشبهها في الدنيا شَجَر النّبْق المعروف في بعض البلدان بشجر السِّدْر .. ومن مظاهر تشريف سِدْرَة المنتهي هذه أنَّ عندها تكون جنة المَأْوَيَ أيْ التي يتمّ الإيواء فيها للمؤمنين أي يُرْجَعُ إليها ويُسْتَقَرُّ في نعيمها الخالد التامّ المُسْعِد بلا نهاية .. وهذا يدلّ علي عظيم منزلة الرسول ﷺ حيث وصل إلي مُنتهي التكريم والتعظيم والإسعاد .. " إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ﴿16﴾ " أيْ هذا إظهارٌ لكمال هذه السدرة وعظمتها هي ومنطقتها التي فيها حيث يُغَطّيها من الخيرات والبركات والسعادات والأنوار الإلهيَّة والمناظر والألوان الجميلة والملائكة والطيور البهيجة الكثير مِمَّا لا يُمكن حَصْره ولا وَصْفه مِن شِدَّة كثرته ورَوْعَته وإسعاده .. هذا ، وعدم ذِكْر تفصيل ما يَغْشَيَ هذه السِّدْرة هو من أجل فتح المجال للعقل ليَتَخَيَّل ما يريد تَخَيُّله من خيرٍ وسعادة
أمَّا معني " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴿17﴾ " أيْ هذا مدحٌ للرسول ﷺ علي كمال أخلاقه وتوجيهٌ لكل مسلم يريد سعادتيّ الدنيا والآخرة أن يَتَشَبَّه به ، فمن صفاته ﷺ تمام الطاعة والانضباط والالتزام بكل ما يأمره به الله تعالي دون مُرَاوَغَةٍ أو تقصيرٍ أو إفراطٍ ، فهو حينها لم يَزِغ ببصره يمينا ولا يسارا أيْ لم يذهب به في خفاءٍ عَمَّا طُلِبَ منه أن ينظر إليه ، ولم يَطْغَ أيْ يتجاوَز بأن يَمُدَّ بصره يريد النظر إلي أشياء أخري لم يُسْمَح له بالنظر إليها
ومعني " لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴿18﴾ " أيْ والله لقد رأي حينها ﷺ بعض آيات ربه أيْ دلائله علي وجوده ومُعجزاته في كوْنه والتي تُوصَف بأنها الكبري أي العظمي التي هي أكبر من أي كبير الهائلة المُبْهِرَة التي لا يُمكن وَصْفها والتي تدلّ علي كمال قُدْرته وعلمه تعالي ، كالجنة والنار وبعض الملائكة علي صورتها الحقيقية كجبريل وسِدْرَة المُنتهي وغيرها ، وقد أكرمه برؤيتها ليزداد يقينا على يقينه وثباتا على ثباته في تمام صواب ما هو عليه وقوّة على قوَّته في حمل أمانة الإسلام وتبليغه للعالمين ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ﴿19﴾ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿20﴾ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ ﴿21﴾ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ﴿22﴾ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ ﴿23﴾ أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ ﴿24﴾ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ ﴿25﴾ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ﴿26﴾ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَىٰ ﴿27﴾ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴿28﴾ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿29﴾ ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ ﴿30﴾ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴿31﴾ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴿32﴾ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ ﴿33﴾ وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ ﴿34﴾ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ ﴿35﴾ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴿36﴾ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ ﴿37﴾ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴿38﴾ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41﴾ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ﴿42﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴿43﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴿44﴾ " وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿45﴾ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ﴿46﴾ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿47﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ﴿48﴾ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ ﴿49﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا
هذا ، ومعني " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ﴿19﴾ " ، " وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿20﴾ " أيْ أخبروني عن شركائكم ، أيّها المشركون ، عن آلهتكم هذه التي تعبدونها غيره سبحانه وتُسَمّونها اللّاتَ والعُزَّيَ ، والثالثة التي تُدْعَيَ مَناة هي الأخري – علي سبيل السُّخرية والاستهانة – وأرُونِي أي أطْلِعُوني وعَرِّفُوني بها وقد جعلتموها كذبا وزورا شريكا له في العبادة ، أروني إيّاها علي أرض الواقع حتي نَرَيَ سَوِيَّاً هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقدرة عليه والعلم به أم لا ؟! وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكل حجَجهم الوَاهِيَة حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي – ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته حينما يُلام عمليا هكذا – لأنهم بالقطع لن يُطْلِعوه علي شيءٍ لأنهم يعلمون أنه يَرَيَ هذه الآلهة ويَعلمها بالفِعْل وأنهم يُصابون بالخِزْي والعار حينما يُواجههم أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويسألهم هل هي آلهة حقيقة أم لا ، وذلك لأنهم يعلمون تماما أنها لا تقدر علي أيّ شيءٍ ولم تخلق شيئا بل هي مخلوقة مثلهم بل هي أضعف منهم ، ولن تستطيع كشف أيْ إزالة أيَّ ضَرَرٍ عن أيَّ أحدٍ نَزَلَ به أو إمساك أيْ منع أيَّ رحمةٍ وخيرٍ يريده الله له ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فليُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والسؤال والاستفهام هو للتعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولأفعالهم وللاستهانة بهم وللسُّخرية منهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. هذا ، ولم يَذكر سبحانه إجابة لهم علي هذا السؤال لأنها معروفة مُتَوَقّعَة من السياق وهي بالتأكيد قولهم : لا
أمَّا معني " أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ ﴿21﴾ " ، " تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ﴿22﴾ " أيْ هذا سؤالٌ واستفهامٌ آخرٌ لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم والرفض التامّ لأقوالهم ولأفعالهم والاستهانة بهم والسُّخرية منهم وذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. أيْ هل تقولون أنَّ الله سبحانه له الإناث ولكم أنتم الذكور ؟! هل بعد أنْ جعلتم لله تعالي شركاء تعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو نحوها ظلما وزورا تجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تَزَوَّجها وأنْجَبَ منها ؟!! وحتي هذه المواليد هي من البنات التي تَتَحَرَّجُون أنتم من إنجابها وتحتقرونها من وجهة نظركم فتنسبونها له سبحانه وأنتم تُنْجِبون البنين الذين تفتخرون بهم كمصدر قوة وعِزّة لكم !! .. أيْ حتي في ظلمكم وكذبكم وزوركم تأخذون لأنفسكم النّفِيس وتتركون لله ما هو خَسيس !! .. إنكم لو اقتسمتم مِثْل هذه القِسْمَة أنتم ومخلوق مثلكم لكانت تلك القسمة بالتالي وبكل تأكيدٍ قسمة ضيزي أيْ ظالمة غير عادلة جائرة غير متساوية فما بالكم عند فِعْلها مع خالقكم الذي لا مُقارَنَة أصلا بينكم أنتم المخلوقين وبينه !! .. تعالي الله عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. إنَّ مَن كان عقله هكذا فلا يُسْتَبْعَد منه حتما تكذيب البَعْث والبُعد عن ربه وإسلامه وفِعْل كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَر !! .. والسبب – كما في الآيتين السابقتين – هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ ﴿23﴾ " أيْ هذه الأصنام وغيرها من الآلهة التي عبدتموها غير الله تعالي ما هي إلا عِبَارَة عن مجرّد فقط أسماء وليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القدرة والعلم والرزق ونحو ذلك لكنكم أنتم وآباؤكم الذين سمَّيتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم ، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار ، وما أنزل بأمور هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم ، ولا توجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها ، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة ، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك ، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد !! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح .. " .. إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ .. " أيْ وهم يفعلون ذلك ليس لهم أيّ دليلٍ موثوقٍ فيه يَستندون إليه ، ولكنهم ما يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد ، وما يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له ، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي قد وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ ﴿23﴾ " أيْ وهم يَتَّبعون الظنَّ والهَوَيَ رغم أنَّ حالهم أنهم بكلّ تأكيدٍ بلا أيّ شكٍّ قد جاءهم من ربهم ما فيه تمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم لو اتَّبَعوه كله ، وهو الإسلام الذي أرسله إليهم ، ولكنهم لم يَتَّبِعوه فتَعِسوا فيهما تمام التعاسة .. هذا ، وقد انتقل سبحانه من خطابهم مباشرة إلي خطاب الغائب وذِكْر خَبَرهم بما يُفيد تَجاهلهم والتحقير من شأنهم كأنهم لا وجود لهم بسبب سوء أفعالهم .. هذا ، وفي الآية الكريمة تعجُّب من حالهم ورفض تامّ لأقوالهم ولأفعالهم واستهانة بهم وذمّ لهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
أمّا معني " أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ ﴿24﴾ " ، " فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ ﴿25﴾ " أيْ هل يُمكن للإنسان أن يُحَقِّق كل ما يتمنّاه في حياته ؟! لا ، إلا إذا اتَّخذ كل ما أمكنه من أسبابٍ صحيحة لتحقيقه ، وأهمها أن تكون مُوَافِقة لأخلاق الإسلام غير مُخَالِفة له وإلا لم يساعده ربه حتما وبالتالي لم يستطع الوصول لما هو نافع مُسعد له ولغيره في الداريْن ، مع الاستعانة قطعا بالله تعالي والاعتماد عليه تماما ليُسَهِّل له ما يتمنّاه إمّا مباشرة بتوفيقه وإلهامه له وإمّا بتيسير مَن يُعينه عليه ويُؤَدِّيه له ، وذلك لأنه سبحانه وحده هو حتما الذي يَملك كل أمور الأولي وهي الدنيا وكذلك الآخرة ولا يَحدث فيهما أيّ شيءٍ إلا بإذنه وتيسيره .. إنَّ واقع الحياة يُثبت ذلك تماما ، فلا أمنية – وأهمها وأوّلها أعظم أمنية يتمنّاها كل مؤمن وهي دخول أعلي درجات الجنة – بدون أسبابٍ عمليةٍ مِن صِدْقٍ وفكرٍ وجهدٍ ونحوه لتحقيقها ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل ، قانون الأسباب والنتائج ، فمَن زَرَعَ حَصَدَ ومَن لم يزرع لم يَحصد .. ثم علي الإنسان أن يكون طَمُوحَاً لكنْ واقعيا ولا يتمنّي أصلا إلا ما يتوقع أثناء التخطيط له إمكانية تحقيقه حسب إمكاناته وظروفه وأحواله وعلومه وثقافاته وبيئته ونحو ذلك .. فإنْ حقَّق ما يريد فليحمد الله ليزيده تحقيقا لغيره من الأمنيّات ما دامت خيرية مُفيدة مُسْعِدَة له ولكل مَن حوله .. وإنْ لم يُحَقّقه فمِن المُؤَكَّد أنَّ عالِم المستقبل سبحانه يعلم أنه لا خير له وللآخرين فيه فليُحاول إذَن في غيره وله أجره في الآخرة علي جهوده علي كل حال وسيُعَوِّضه الله بما هو أفضل وأسعد في الداريْن ما دامت نواياه دائما في كلّ خير .. هذا ، ومِن معاني الآيتين الكريمتين أيضا أنه هل يتمنّي الإنسان المُكَذّب المُعانِد المُسْتَكْبِر أن لا يكون هناك نظام للحياة يُنَظّمها بالخير من خلال أخلاق الإسلام ليَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار أو أن يُغَيِّر نظام الخير فيها إلي نظام شرّ ؟! لا ، لن يَحدث هذا الذي يتمنّاه مُطلقا بكل تأكيدٍ لأنَّ الله تعالي خالِقه وخالِق الكوْن كله له كل ما في الدنيا والآخرة وهو الذي يُنَظّمهما بالنظام الذي يُريده وهو نظام الإسلام والذي يُسْعِد خَلْقه تمام السعادة فيهما .. هذا ، وقد قُدِّمَت الآخرة علي الدنيا للاهتمام بها لأنَّ نعيمها هو الأعظم الأخلد أمّا الدنيا فزائلة يوما ما ولا تُقَارَن بها بل هي المُجَهِّزَة لها
ومعني " وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ﴿26﴾ " أيْ هل يَتَمَنَّوْنَ – مُتَوَهِّمِين – هؤلاء الذين يَعبدون غير الله تعالي كأصنامٍ أو غيرها أن تنفعهم بأيِّ شيءٍ في دنياهم بمصلحةٍ مَا أو في أخراهم كأنْ تَشفع لهم مثلا عند الله أيْ تَتَوَسَّط لهم عنده فتنقذهم من عذابه المُعَدّ لعقابهم ؟!! إنهم واهِمون بل مَخْبُولون حَمْقَيَ بكل تأكيد !! وذلك لأنه إذا كان كثير من الملائكة والتي هي مُكَرَّمَة عنده تعالي لأنها تُطيعه وتُنَفِّذ أوامره تماما في تسيير شئون كوْنه لا يُمكن أن تَشفع لأيِّ أحدٍ إلا مِن بَعْد أن يأذن الله لمَن يشاء أن يشفع من الملائكة وغيرها من الأنبياء والشهداء والصالحين ويرضَىَ عن المَشْفُوع له لأنه يَستحِقّ هذه الشفاعة حيث كان مسلما لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا !! فهل هذه الأصنام وغيرها مَمَّا يعبدونه غير الله وهي المُهَانَة عنده الممنوع تماما عبادتها يمكن أن يُكْرِمها تعالي كما يُكْرِم الشفعاء فتَشفع لهم ؟!! إنَّ هذا التفكير والتَّمَنِّي الوَهْمِيّ لا يُمكن أنْ يصدر إلا مِمَّن قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم قد مَنَعوا عن أنفسهم رحمة أرحم الراحمين سبحانه ! .. ثم هم أصلا يُكَذّبون بوجود الآخرة فلماذا إذن يَتَحَدَّث بعضهم عن الشفاعة حينما يسمع عنها من المسلمين ؟!! إنهم يتحدّثون عنها من باب السخرية والتكذيب !! .. هذا ، وفي الآية الكريمة تعجُّب من حالهم ورفض تامّ لأقوالهم ولأفعالهم واستهانة بهم وذمّ لهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. كما أنَّ فيها أيضا دعوة ضِمْنِيَّة للمسلمين لمُوَاصَلَة التمسّك والعمل بأخلاق إسلامهم ليكونوا مُؤَهَّلِين للحصول على الشفاعة التي يَتمنّوْنَها في الآخرة لتعويض أيّ تقصيرٍ قد يَحدث منهم في الدنيا
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَىٰ ﴿27﴾ " أيْ إنَّ الذين يُكَذّبون بالحياة الآخرة بعد الحياة الدنيا وبما فيها مِن بَعْثٍ بالأجساد والأرواح من القبور بعد كوْنها ترابا ومِن حسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ ولا يخافون كلّ ذلك ولا يَتذكّرونه أصلا هم بالتأكيد بسبب هذا في جرأةٍ شديدة علي كل قُبْح وفُحْشٍ وسُوءٍ لأنهم لا يُصَدِّقون أنهم سيُحَاسَبون وسيُعَاقَبون علي كلّ أقوالهم وأفعالهم ، ولذا فهم يُسَمّون الملائكة – التي هي مِن خَلْق الله – إناثَ الله ، بناتَ الله ، يَقصدون بناته من زوجةٍ تَزَوَّجها !! تعالي سبحانه عمِّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني " وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴿28﴾ " أيْ هذا رَدّ منه سبحانه علي أكاذيبهم بما يخْرِس ألسنتهم ويَنْسِف هذه الأكاذيب ويفضحها ، فهم ما لهم بذلك الذي يقولونه مِن ادِّعاءٍ كاذبٍ فاحِشٍ أيّ علمٍ صحيح أو دليل موثوق يستندون إليه يُصَدِّق قولهم جاءهم مِن رسولٍ أو كتاب من الله ولذا فهو قول في منتهي الجهل ولا يقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، ولكنهم ما يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا يَنبني عليه أيّ تغييرٍ للحقّ أي لِمَا هو ثابت أكيد ، فهو أبدا لا يُغْنِي أيْ لا يَنفع أيَّ شيءٍ ولا يَحِلّ مُطلقا مَحلّ الحقّ ولا يَنفع في معرفته والوصول إليه بأيِّ شيء
أمَّا معني " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿29﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لك أيها الرسول الكريم أنهم لا يَتَّبعون إلا الظنَّ وما تَهْوَيَ الأنْفُس ، فاتركهم إذَن واتركوهم أيها المسلمون وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم ، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم ، والسبب في مثل هذا الإعراض عن أمثال هؤلاء أنهم قد تَوَلّوا عن ذِكْرنا أيْ أعْرَضوا عن قرآننا وإسلامنا الذي أنزلناه إليكم أيْ أعطوه ظهرهم والتفتوا وانصرفوا وابتعدوا عنه وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء بل وقاوَموه ويُحاولون يائسين منع انتشاره ، ولم يريدوا إلا الحياة الدنيا أيْ يكفرون بالآخرة أيْ لا يُصَدِّقون بوجودها ولا يُريدونها ولا يَعملون لها فيَفعلون لذلك الشرور والمَفاسد والأضرار مُتَوَهِّمين أنهم لا يُبْعَثون ولا يُحَاسَبون ولا يُعاقَبون
ومعني " ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ ﴿30﴾ " أيْ ذلك التَّوَلِّي عن القرآن والإسلام وعدم إرادة إلا الدنيا أيْ الكفر بالآخرة هو غاية وأقصي قَدْر عقولهم وعلومهم !! وفي هذا تحقير وتهوين لها واستهانة بهم لعلهم يستفيقون ويُحسنون استخدام العقول والعلوم فيَعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " .. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ ﴿30﴾ " أيْ مَن يَبتعِد ويُعانِد ويُكابِر ويفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليتحمَّل إذَن نتيجة سوء عمله ، لا يتحمله عنه الرسل الكرام ، ولا المسلمين الدعاة مَن بعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوته بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة ، فليطمئنوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعويهم حينما يُعْرِضوا عنهم لفترةٍ كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فهو تعالي يعلم مَن سيشاء الهداية فيَشاءها له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه ويُسَدِّده لها ويُعينه عليها ، ويعلم مَن لن يشاءها فلا يشاؤها له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يوفقه لها ما دام لم يُحسن هو استخدام عقله ويَتقدّم نحوها ولو بخطوةٍ حتي يعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، ثم هو سبحانه الأعلم بأهل الهُدَيَ والخير وأهل الضلالة والشرّ وسيُجازي كلاّ بعمله ، بكل خير وسعادة أو كل شرّ وتعاسة ، في دنياهم قبل أخراهم ، بما يناسب قَدْر خيرهم أو شرّهم .. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم ، وتحذير شديد لمَن ضَلَّ عن سبيل الله أيْ طريقه وطريق الإسلام لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
ومعني " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴿31﴾ " أيْ هو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة ، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء لِيَجْزِيَ بالشرّ والتعاسة الذين أساءوا أيْ فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بما يُناسب أعمالهم وأقوالهم السيئة بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، بعد جزائهم ببعض ذلك في دنياهم ، وليجزي الذين أحسنوا بالمَثوبَة الحُسْنَيَ أيْ يُثيبهم ويُعطيهم ما هو أفضل وأحسن وأعظم مِمَّا عملوا حيث الجنّات التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر خالدين فيها بلا نهاية ، بعد جزائهم ببعض ذلك من كلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم
ومعني " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴿32﴾ " أيْ من الصفات الحَسَنَة المَمدوحة المَحبوبة من الله للذين أحسنوا المُجَازِين بالحُسْنَيَ والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم يفعلون كلّ خيرٍ ويَتَجَنَّبون أيْ يَبتعدون تماما عن فِعْل كبائر الإثم أيْ الآثام الكبيرة أيْ الشرور والمَفاسِد والأضرار الكبيرة التي يَكْبُر ويَعْظُم ويَشْتَدّ عقابها في الدنيا والآخرة لضَرَرها الشديد علي النفس والغير كالقتل وشرب الخمر والشرك أيْ عبادة غير الله تعالي ونحو هذا وكذلك يَجْتَنِبون الفَوَاحِش وهي الشرور الفاحِشة أيْ المُضِرّة أيضا ضَرَرَاً شديدا بالذات وبالغير ولكنها مع كِبَر عقابها فإنَّ فيها قُبْحَاً كاللواط والزنا وما يُشبههما .. هذا ، وعند كثير من العلماء كبائر الإثم والفواحش هما بمعني واحد وذِكْرها معا هو لمزيدٍ من الاهتمام والتأكيد علي التنفير منها وتمام الابتعاد عنها والترْك لها وكلّ أنواع الآثام صغرت أم كبرت لِمَا فيها من التعاسات لفاعلها ومَن حوله في دنياه وأخراه بينما تاركها له تمام السعادة فيهما .. " .. إِلَّا اللَّمَمَ .. " أيْ يَبتعدون تماما عن كبائر الذنوب والفواحش لكنَّ اللّمَم قد يَفعلونه ، وهي الذنوب الصغيرة التي ضَرَرها صغير علي النفس والغير والتي هي ليست كبيرة فاحشة كالتي ذُكِرَت سابقا أو التي هي حتي كبيرة لكنهم يُلِمُّون بها أيْ يُصِيبونها ويفعلونها ويَنْزِلون بها ويَقَعُون فيها علي سبيل النّدْرَة في لحظاتِ ضعفٍ أو نسيانٍ ويُسارعون بالتوبة منها دون استمرارية وإصرار ، فإنَّ هذه النوعية من الذنوب ، مع الحرص والاجتهاد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، مع سرعة التوبة منها ورَدّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلِّقَاً بهم ، يَغفرها الله لهم ويَسترها عليهم ولا تُخْرِجهم عن صِفة الإحسان ، لأنَّ ربهم وربّ الجميع واسع المغفرة أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة ، الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه وهو أرحم بهم من أنفسهم (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب ، ثم مراجعة الآية ﴿53﴾ من سورة الزمر " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " ، لكي تكتمل المعاني﴾ ، وحتي مَن لم يَتُبْ يغفر لمَن يشاء منهم مادام مسلما لا كافرا ولا مشركا يعبد غير الله كصنم أو غيره ، حيث هو أعلم بأحوال البَشَر وبضَعفهم وبنِسيانهم أحيانا أكثر من علمهم هم بأنفسهم مِن حينِ ووقتِ أنشأَ وأوْجَدَ وخَلَقَ أباهم آدم من ترابِ الأرض وخَلَقهم من سلالته وهو يَرعاهم ويُرَبِّيهم ويَرزقهم منذ كانوا أجِنَّة ضعيفة مَحْمِيَّة في بطون أمهاتهم في أطوارها المختلفة وبالتالي فهو يعلم كل أحوالهم وصفاتهم وضعفهم ونسيانهم وأقوالهم وأفعالهم لا يَخْفَيَ عليه منها أيّ شيءٍ لأنه خالقهم .. فليعبدوه إذَن وحده وليشكروه ويتوكّلوا عليه وحده وليَستمرّوا علي فِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ والتوبة منه سريعا عند فِعْله من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فهم مُحَاسَبُون مُجَازُون علي الخير خيرا والشرّ شرَّاً في دنياهم وأخراهم .. هذا ، وليس المقصود بالقطع من قوله تعالى " .. إِلَّا اللَّمَمَ .. " فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب !! وإنما المقصود التخفيف عَمَّن يقع فيها بفتح باب التوبة له منها والتشجيع علي المسارعة بها لتعود إليه سعادته سريعا حينما يتخلّص من تعاسات ذنبه وحتى لا يَيأس مَن يَرتكب شرَّاً مَا مهما كَبُر مِن رحمة أرحم الراحمين سبحانه الأمر الذي قد يَدْفعه لمزيدٍ مِن فِعْل الشرور والتي قد تستمرّ وتزداد وتَكْبُر وتَفْحُش وتَضُرّه وتُتعسه والمجتمع كله حيث لا أمل له في أيِّ عودةٍ لأيِّ خير !! كذلك المقصود ضِمْنَاً بهذا الاستثناء التأكيد والتنبيه علي أنَّ فاعل الصغيرة لا يُعامَل قطعا مُعَامَلَة فاعل الكبيرة لا في الدنيا ولا في الآخرة .. " .. فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴿32﴾ " أىْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم من أنكم ضعفاء مُعَرَّضُون للأخطاء وأنكم أقوياء فقط باستعانتكم بربكم وبأخلاق إسلامكم وبمساعدة بعضكم بعضا في الخير وأنه لوْلَا عوْن الله لكم وتوفيقه وتيسيره ورحمته وعفوه عن اللَّمَم ما زَكَيَ أيْ طَهُرَ وارْتَقَيَ وسَعِدَ أحد ، فبالتالي فلا تمدحوا أنفسكم أو غيركم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، واحذروا ذلك تمام الحَذَر لأنَّ هذا يَضُرّكم ويُتعسكم في دنياكم وأخراكم حيث قد تَتَعالون وتتكبَّرون علي الآخرين فتُثيرون الأحقاد بينكم وقد تَقَعون في ذنوب نِسْيان نِعَم ربكم عليكم والكذب والنفاق والرِّياء أي لِيَرَيَ الناس أعمالكم فتَطلبون منهم مَدْحَاً أو سُمْعَة أو مَكَانَة أو نحو هذا ولا تطلبون ثواب الله في الداريْن بعملكم – إلا إذا كان ذِكْر الأعمال الصالحة ليس علي سبيل التَّعالِي والتَّفاخُر والإعجاب بالنفس والمدح الكاذب لها وللغير وما شابه هذا بل علي سبيل شكر الله تعالي ونشر الخير وتشجيع الفاعل علي المزيد منه فهذا لا ضَرَر فيه بل هو مطلوب وله ثوابه لأنه يَنْفَع ويُسْعِد – ولكنْ اشكروه سبحانه تمام الشكر علي توفيقكم وتقويتكم وعوْنكم علي الخير فهو العليم بكم وبدَوَاخلكم وبضعفكم وبنسيانكم وبكل أحوالكم الظاهرة والخَفِيَّة ، وهو وحده الأعلم بمَن اتَّقَيَ أيْ أخلص العمل (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) واجتهد أن يكون من المتقين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، فهو أعلم بالجميع أكثر من أنفسهم ولا يَخْفَيَ عليه منهم أيَّ شيء ، فلا مجال إذَن لتزكية النفس أو القطع بتزكية الآخرين ولكن لِيُتْرَك أمر التقييم هذا لله وليَحْرِص كل فرد علي دوام الاستزادة بكل هِمَّة من كل خير وترك كل شرٍّ ولا يَكْتَفِي بعمله الذي عمله ويَغْتَرّ به فيتكاسَل أو يُقَصِّر .. هذا ، وفي حالة مَدْح الآخرين لتشجيعهم علي مزيدٍ من فِعْلهم للخير علّمنا الإسلام أن نقول مع المدح الصادق : ولا نُزَكِّي على الله أحداً ، أيْ لا نَتَدَخَّل في هذه التزكية ولكنها مَتْروكَة لله تعالى لأنه هو الذي يُزكِّي أيْ يُطَهِّر ويَزيد مَن اجتهد ويَرْفع قَدْره في الداريْن لأنه هو وحده الأعلم بحقيقة الجميع وصِدْقهم أو كذبهم في تَقْوَاهم
أمَّا معني " أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ ﴿33﴾ " أي هل نظرتَ وتأمَّلتَ فرأيتَ وعلمتَ أيها الرسول الكريم وأيها المسلم هذا الذي قد تَوَلّي عن الإسلام أيْ أعطاه ظهره والتفت وانصرف وابتعد عنه وتَرَكه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء بل وقاوَمه ويُحاول يائسا منع انتشاره .. والآية الكريمة تعجُّب من حاله ورفض تامّ لأقواله ولأفعاله واستهانة به وذمّ له ذمَّا شديدا لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني " وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ ﴿34﴾ " أيْ وأعطي قليلا من الطاعة لله وللإسلام وما فيه مِن فِعْلِ خيرٍ وإنفاقِ مالٍ وفكرٍ وجهدٍ وغيره في كلِّ نفع وإسعادٍ للنفس وللغير ، وأعطي قليلا من التَّفَكّر والتَّقَبّل والمَيْل للإسلام قبل الدخول فيه إذا لم يكن مسلما ، وقَطَعَ ومَنَعَ بعدها هذا العطاء القليل ولم يُواصِل !! .. وهذا أيضا مزيدٌ مِن الذمِّ له والتَّعَجّب من سوء فِكْره وحاله فهو كلما اقتربَ من الخير أو فَعَلَه تَرَاجَعَ وابْتَعَدَ وامتنعَ عنه ولم يستمرّ فيه !!
ومعني " أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ ﴿35﴾ " أيْ هل عند هذا الإنسان الذي تَوَلَّيَ وأعطيَ قليلا وأكْدَيَ اللّوْح المحفوظ الذي في السماء والذي مكتوب فيه كلّ علم الله تعالي وفيه ما هو غائب عن الناس وما سيَحدث مستقبلا ولذلك فهو يَرَيَ أيْ يعلم ويشاهد بعَيْنَيْهِ واقعيا أنَّ ما فَعَله هو الصواب ؟!! وأنَّ ما في القرآن العظيم من أمور البعث ويوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار هي كلها كذب ؟! بالقطع لا !! فلا أحد حتما له علم بكل ما غابَ عن الناس في الماضي والحاضر والمستقبل في السماوات والأرض والكوْن كله إلا الله تعالي وحده ، وعبادته أيْ طاعته هي فقط الصواب المُسْعِد في الداريْن وعبادة غيره هي قطعا الخطأ الفاحش المُتْعِس تمام التعاسة فيهما .. ولكنَّ السبب في حاله السَّيِّء هذا هو أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والسؤال والاستفهام هو لمزيدٍ من التعجُّب من حاله والاستهانة به وللرفض التامّ لأقواله وأفعاله ولذمّه ذمَّا شديدا لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن
ومعني " أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴿36﴾ " ، " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ ﴿37﴾ " ، " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴿38﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ له علي جَهْله وحَمَاقته وعدم تَفَكّره وتَعَقّله فيما يفعله وعدم سؤاله عَمَّا لا يَعلمه ، أيْ وهل لم يُخْبَر بما جاء في الصحف التي أوحاها الله لموسي ﷺ وهي التوراة ولإبراهيم ﷺ أيضا قبله والذي قام بالوفاء دون أيّ إخلافٍ أو تقصيرٍ بتمام طاعة الله واتِّباع الإسلام وبتبليغ جميع ما أمِرَ به أن يُبَلِّغه للناس من إسلامٍ دون أيّ نُقْصانٍ ولم يُخْلِف وَعْده مع الله والناس في أيّ شيء وبَذَلَ ما استطاع من جهد وصبر وتضحية من أجل ذلك ؟! وهذه الصحف وغيرها كلها أصلها الإسلام لكن بما يناسب كل عصر بما يُسْعِد الناس في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه ، وكلها صُحف مشهورة يَعلمها الجميع .. فإذا كان هذا الإنسان الذي تَوَلَّي وأعطيَ قليلا وأكْدَيَ يُكَذّب ما جاء في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي محمد ﷺ فليسأل إذَن المُتَخَصِّصِين وليبحث عَمَّا جاء في صُحف موسي وإبراهم وسيتأكَّد أنَّ أصول ما فيها هو ما في القرآن تماما بلا أيِّ اختلاف ، فالقرآن إذَن صادق بلا أيّ شكّ ولكنه هو الذي يُغْلِق عقله ويُرَاوِغ !! .. وكل هذه الصحف والكتب فيها قواعد كلّ خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة ، ومنها " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴿38﴾ " أيْ أنْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيرا فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما .. والوِزْر معناه الحِمْل الثقيل ، لأنّ أيّ ذنبٍ ، أيْ شرٍّ وضررٍ ، هو حِمْل ثقيل يُؤدّي للهَمِّ والنكَد علي قدْره في الدنيا قبل الآخرة ، والوَازِرَة هي الحَامِلَة لهذا الحِمْل الثقيل أي الشخصية التي تَفعل الذنب ، أي لا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها
ومعني " وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ " ، " وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ " ، " ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41﴾ " أيْ وفي هذه الكتب أيضا ، وإضافة إلي أنه لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخري ، فإنه لا يَحصل الإنسان إلا على نتيجة سَعْيِه هو لا غيره ، أيْ سَيْره وتَحَرُّكه في حياته الدنيا سواء في عمل الخير أو الشرّ ، فليس له ولا عليه مِن سَعْي غيره شيء .. " وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ " أيْ وهذا السَّعْي ، سواء أكان خيرا أم شرَّاً ، سوف يَراه يوم القيامة مُسَجَّلاً أمامه في صحيفة أعماله بكل دِقّة وتفصيل ، ويراه الناس والملائكة ، تشريفا وتكريما وتبشيرا للمُحسنين ، وإهانة وإذلالا وتحقيرا وتخويفا للمُسِيئين (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿105﴾ من سورة التوبة " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا ، ومن فضل الله وكرمه ورحمته ورضاه فإنَّ أثر السعي في الخير لابُدَّ وأن يُرَيَ حتما علي فاعله في دنياه في صورة طمأنينةٍ واستبشارٍ وسعادةٍ وهِمَّة في مزيدٍ من عمل الخير لتحقيق مزيدٍ من السعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿29﴾ من سورة الفتح " .. سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41﴾ " أيْ ثم يَجزيه ويُعطيه الله تعالى علي سَعْيه هذا العطاء التامّ الكامل الذي ليس فيه أيّ نقصٍ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، علي الخير خيرا ويَزيد بلا حساب – إضافة إلي كل الخيرات والسعادات التي كان فيها في دنياه بسبب فعله الدائم لكل خير – وعلي الشرّ شرَّاً بما يُعادِل ما ارْتَكَبَ من شرور ومَفاسد وأضرار ، إضافة إلي ما أصيب به من بعضِ سوءٍ في الدنيا بسبب بعض الآثار السيئة لهذه الشرور التي يفعلها .. فهو سبحانه أوْفَيَ الأوفياء في وفائه بما يَعِد به خَلْقه
ومعني " وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ﴿42﴾ " أيْ وفي هذه الكتب والصحف أيضا – إضافة إلي ما ذُكِرَ في الآيات السابقة – أنَّ إلي ربك حتما أيّها الإنسان ، أيْ مربيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك لكلّ خيرٍ وسعادة ، إليه وحده لا إلا غيره ، المَرْجِع ، في الدنيا حيث هو الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه ، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة ، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله ، ثم المَرْجِع في الآخرة حيث الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره يوم القيامة ليكون هو الحاكِم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسِده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم .. وإجمالا فإنَّ إلى الله تعالي المُنْتَهَىَ في كلّ شيء ، فإليه سبحانه وعنده ينتهي كلّ علمٍ وخبرةٍ وحكمة وقُدْرةٍ وعظمة ورحمة وأمن وخير وسعادة وكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني " وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴿43﴾ " أيْ وهو سبحانه وحده الذي أوْجَدَ في الإنسان ، في خِلْقَتِه ، بعقله وبالمَشاعِر فيه ، وفي الكوْن كله ، أسباب الضحك والبكاء ، فمَن كان كلّ فِعْلِه خيرا كان في تمام السعادة والأمان والتَّبَسُّم والضحك ، في دنياه ثم في أخراه في أعلي درجات الجنات حيث يَنال ذلك كاملا بلا أيّ نقصانٍ خالدا بلا أيّ نهاية ، ومَن كان كلّ فِعْله شرَّاً كان في تمام التعاسة والقَلَق والحزن والبكاء فيهما ، حتي ولو ظَهَرَ عليه أحيانا في دنياه بعض الضحك فهو سَطْحِيّ لا مُتَعَمِّق وَهْمِيّ لا حقيقيّ وكثيرا ما يَتْبَعه الشقاء كما يُثْبِت الواقع ذلك ، ومَن فَعَلَ خيراً وشرَّاً نَالَ في الداريْن سعادةً وتعاسة وضحكاً وبكاءً وأمناً وقَلَقاً بمقدار ما يَفعل مِن خيرٍ أو شرّ .. هذا ، ومِن مُعجزات الله تعالي المُبْهِرات في كوْنه والدَّالاّت علي كمال قُدْرته وعلمه وإحاطته التامَّة بالإنسان وكل أقواله وأفعاله الظاهرة والخفيّة وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه ، خَلْق أسباب الضحك والبكاء هذه ورَبْطها في معظمها بالخير والشرّ ، وذلك لكي يتدبّر ويتعقّل الإنسان ويَفعل دوْما كل خيرٍ لَمَّا يَرَيَ نتائجه المُسْعِدَة له ومَن حوله في دنياه واستبشاره بما يَنتظره في أخراه ، ويَبتعد تماما عن فِعْل أيّ شرٍّ حينما يري نتائجه المُتْعِسَة عليه والآخرين في الدنيا ثم تَصَوُّر ما يُتَوَقّع له مِن سوءٍ في الآخرة .. هذا ، ويُصاب المسلم أحيانا أثناء حياته بضَرَرٍ مَا يُحزنه أو يُبكيه لفترةٍ لخطأٍ منه فيُصَوِّبه أو كاختبارٍ من ربه فيَصبر عليه فيَخرج منه مُستفيدا استفادات كثيرة ويعود بعدها لسروره وضحكه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. هذا ، وقد بدأ سبحانه بالضحك قبل البكاء للإشعار بعظيم فضله علي الناس وأنه – مع الخير – هو الأصل في الحياة بينما البكاء – ومعه الشرّ – هو الاستثناء
ومعني " وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴿44﴾ " أيْ وهو وحده سبحانه بكمال قُدْرته وعلمه الذي أحياكم وخلقكم وأنشأكم في بطون أمهاتكم وهو يُنْشِئ الحياة أمام أعينكم إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً في المواليد التي تُولَد لكم كلّ لحظة ؟! ثم كذلك يُميتكم عند نهاية آجالكم في دنياكم دون اختياركم كما ترون أمواتا منكم يَقبض أرواحهم أيضا في كل لحظة ، فلا عَجَب إذن في أن يُحيي الناس ويَجمعهم إلى يوم القيامة لحسابهم ولا سبب يدعو إلى الرَّيْبِ أيْ الشكّ في هذا الأمر مُطلقا لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي تشهدون مثله لحظيا ! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. فمَن خَلَقهم أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدهم مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادّها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عَدَم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته ! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه تعالي قد أماتَ الكافر بسبب كفره أيْ تكذيبه حيث قد اختاره بكامل حرية إرادة عقله وأصرَّ عليه فعاشَ حياته دون أيِّ توفيقٍ من الله فكان كالمَيِّت فاقِد العقل الذي هو أصل الحياة فهو بالتالي في شرٍّ علي شرٍّ وتعاسةٍ علي تعاسةٍ ثم له في آخرته ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة ، وأحيا المؤمنَ بسبب إيمانه والذي اختاره بإرادته فعاشَ حياته حيَّاً حياة حقيقية مُوَفّقا مُنْتَعِشَاً مُتفائلا ناجحا فكان في خيرٍ علي خير وسعادةٍ علي سعادة ثم له في أخراه ما هو أعظم وأتمّ وأخلد خيرا وسعادة (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام " أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، ثم مراجعة الآية ﴿24﴾ من سورة الأنفال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أمَّا معني " وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿45﴾ " ، " مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ﴿46﴾ " ، " وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿47﴾ " أيْ ومِمَّا يَدُلُّ كذلك علي أنه سبحانه قادرٌ علي كلّ شيءٍ وعالِمٌ به تمام العلم وقادرٌ علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا – وهذا هو معني " وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿47﴾ " أيْ وبالتأكيد وَوَعْد ووَاجِب عليه هو وحده لا علي غيره إنشاء الخِلْقة الآخرة الثانية بعد الأولي في الحياة الدنيا – حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، أنه تعالي خَلَقكم أيّها الناس من تراب ، فأبوكم آدم من طين ، وأنتم جميعا من سلالته ، ثم أصبحتم بَشَرَاً ، أي كلاًّ منكم أصبح إنسانا ، وأصبحتم زوجين أي صنْفَيْن ذكرا وأنثي – وكذلك الحيوانات – وتَتَزاوَجُون فيما بينكم ، ثم تَتَكَوَّنون كأجِنَّة علي مراحل دقيقة في بطون أمهاتكم من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الذكر حين تُمْنَيَ أي تُدْفَع وتُقذف وتتدفق إلي رحم الأنثي لتَتَّحِدَ مع بُوَيْضَة مِن مِبْيَضها ، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون وتَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها
ومعني " وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ﴿48﴾ " أيْ وهو وحده الذي جعل الناس أغنياء بكل أنواع الأرزاق المختلفة من صحة وقوّة وفكر وعقل وعلم ومال وثروة وأرض وزرع وتجارة وغير ذلك مِمَّا لا يمكن حصره بتيسير أصول وموارد وخامات الرزق في الكوْن وتوفيقهم لأسباب تحصيله من التجارات والصناعات والحِرَف وغيرها .. وأقْنَىَ أيْ وجعلهم يَقْتَنُون أيْ يمتلكون كل هذه المُقْتَنَيَات أيْ الممتلكات المتنوِّعة المُفيدة المُسعدة لهم ولمَن حولهم وأرضاهم بها .. وبالتالي فهو وحده المُستحِقّ للعبادة أيْ للطاعة وللشكر وللتوكّل عليه .. هذا ، ومن معاني أقني أيضا أيْ أفقر ، أيْ هو وحده سبحانه الذي عنده أسباب الغِنَي والفقر للناس حسبما يُحسنون أو يُسيئون اتِّخاذ الأسباب لتحصيل أرزاقهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿62﴾ من سورة العنكبوت " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿62﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أمَّا معني " وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ ﴿49﴾ " أيْ وهو بالتأكيد وحده ربّ كلّ شيءٍ في الكوْن أيْ خالقه ومُرَبِّيه ورَاعِيه وهو عابِد أيْ طائع له سبحانه بما في ذلك النجم الضخم الشديد البياض واللمَعَان والذي يتَّخذه البعض إلهاً يعبده ويُسمّونه الشِّعْرَيَ !!
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ ﴿50﴾ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ ﴿51﴾ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ﴿52﴾ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ ﴿53﴾ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تسلية وطمأنة وتبشير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحق والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وعاد وثمود ولوط وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود والمؤمنون وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ ﴿50﴾ " ، " وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ ﴿51﴾ ، " وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ﴿52﴾ " ، " وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ ﴿53﴾ " ، " فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ ﴿54﴾ " أيْ وهو تعالي بكمال قُدْرته وقُوَّته أهلك عادا وهم قوم الرسول الكريم هود ﷺ ، بريح صَرْصَرٍ عاتِيَة أي شديدة البرودة والصوت والهبوب ، وهي الأولي من الأمم التي أُهْلِكَت بعد قوم نوح .. وكذلك ثمود وهم قوم صالح ﷺ أهلكهم بالصَّيْحَة وهي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة ، فلم يُبْقِ منهم أيَّ أحد .. وأهلك أيضا قوم نوح مِن قبل إهلاكه لعاد وثمود ، وهم كانوا أشدَّ منهما ومن كل الأمم المُهْلَكَة من بعدهم في الظلم لأنفسهم ولغيرهم وفي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ، وكانوا سابقين في هذا فلم يسبقهم إليه أحدٌ فهم أول المُكذبين من ذرية آدم ، وكانوا أشدَّ في الطغيان أيْ في الاعتداء علي الله والإسلام والناس وفي المبالغة والتجاوز الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، وقد آذوا نوحا أذَيً شديدا ولمدة طويلة جدا هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبعد كل هذا لم يُصَدِّقه ويَتَّبع الإسلام إلا القليل منهم بينما معظمهم مُصِرّون مُستمرّون علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ويُوَرِّث بعضهم بعضا هذا جيلا بعد جيل ، فأهلكهم الله تعالي بسبب ذلك بطوفان الماء من السماء والأرض الذي أغرقهم جميعا .. وأهلك سبحانه القرى المُؤْتَفِكَة بأهلها ، أيْ المَقْلوبة بحيث أصبح أعلاها أسفلها ، وهي قري قوم لوط ﷺ ، بأنْ أهْوَىَ بها جبريل عليه السلام إلى الأرض أيْ جعلها تسقط بعد أن رفعها منها فدمّرها بمن فيها ، فغَشَّاها ما غَشَّي أيْ غطّاها وأحاطَ بها هي وكل الأمم السابقة المذكورة من أصناف العذاب الشديد ما غطّاها دون ذِكْرِ تفصيلٍ مَا لأنه لا يُوصَف مِن شِدَّته عليهم وإيلامه وتدميره وإهانته لهم .. وفي هذه الآيات الكريمة طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم ، وتهديدٌ شديدٌ لكل المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم لكي يَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب كما حَدَثَ لهؤلاء السابقين
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴿55﴾ " أيْ بعدَ ذِكْر كلّ هذه النِعَم السابقة ، في هذه السورة الكريمة ، إضافة إلي ما في الحياة عموما مِمَّا لا يُحْصَيَ ، بما فيها من إهلاكِ المُكذبين والذي يعني نصراً وإسعادً للمؤمنين وإراحة لهم منهم مع نعمة اتِّعاظهم بما حَدَثَ فيهم لكي يَتَجَنَّبوه تماما ليسعدوا في الداريْن ، بعد كل هذا فبأيِّ نعمةٍ من نِعَم ربك إذَن أيّها الإنسان التي يَفيض بها عليك يمكنك أن تتشكّك وتُجادِل فيها وتُكَذّب بها ولا تشكرها وتَدَّعِي أنها ليست نعمة مفيدة مُسْعِدَة لك وللجميع أو ليست من عنده وكلها ثابتة أمامك لا تستطيع تكذيبها وإخفائها والتقليل من قيمتها بأيِّ حال من الأحوال ؟! إنه لا يوجد بالقطع أيّ نعمة كذلك !! ومَن كان عنده أيّ شكٍّ في أيِّ واحدة منها فليُعلنه إذَن !! فكن دوْماً شاكراً لها لتستمرّ معك وليَزيدك منها ومِن غيرها
هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ ﴿56﴾ " أيْ هذا الرسول الكريم وهذا القرآن العظيم هو نذير أيْ مُحَذّر لكم أيها الناس مِن جِنْس الإنذارات الأولى أيْ مِثْل التحذيرات السابقة التي أتَىَ بها الرسل السابقون في كتبهم لأممهم ، فإنْ عملتم بكل ما جاءكم به من أخلاق الإسلام سعدتم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، وإنْ لم تعملوا به وكذّبتم وعانَدْتم واستكبرتم واستهزأتم تَعِسْتُم تمام التعاسة فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿9﴾ من سورة الأحقاف " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ﴿57﴾ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا
هذا ، ومعني " أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ﴿57﴾ " أيْ اقتربت القريبة ، أي الساعة ، أي الآخرة ، أي يوم القيامة ، اقتربت منكم وستأتيكم سريعا بلا أيِّ شكٍّ أيها الناس فأحسنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد ، وموت كل إنسان بانتهاء أجله في الحياة هو ساعته ، وهو يأتي فجأة ، وهو قريب جدا إذ قد يحدث بعد لحظة كما يُثبت الواقع ذلك ولا يمكن لأحدٍ أن يُكَذّب هذا ، ثم يبدأ حسابه المَبْدَئِيّ عند دخوله قبره إلي أن يأتي الحساب الختاميّ الأخرويّ
ومعني " لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴿58﴾ " أيْ ليس لهذه الآزفة ، سواء أكانت الآخرة أم الموت أم الإهلاك في الدنيا للمُكذبين المُعانِدين المُستكبرين أم الإصابة بمصيبةٍ أو واقعةٍ مَا كبيرة أم صغيرة ، ليس لها من أيِّ أحدٍ غير الله تعالي كاشِف يكشفها ، أيْ يكشف بعلمه بالمستقبل وقت حدوثها ، ويزيل مَضَارَّها ويُيَسِّر أسباب النجاة منها .. فأحْسِنوا إذَن الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتَأْمَنوا ولتَسعدوا في الداريْن
أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ﴿59﴾ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ﴿60﴾ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ﴿61﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ﴿59﴾ " ، " وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ﴿60﴾ " ، " وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ﴿61﴾ " أيْ هل من هذا الكلام الذي في القرآن العظيم – والذي هو يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تماما في دنياكم وأخراكم – تَسْتَغْرِبون أيها المُكذبون به بصورةٍ فيها عِناد واستكبار واسْتِبْعَاد واسْتِحَالة لصِدْق ما فيه ؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ﴿60﴾ " أيْ وكذلك تَضحكون ساخِرين مُستهزئين مِمَّا به وكان من المُفْتَرَض لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل يَسمعه أن يتدبَّر فيه ويبكي ويخاف إنْ كان يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار مِمَّا ينتظره من عذابٍ بسبب سُوئه والذي بعضه دنيويّ ومعظمه أخرويّ لا يُوصَف ويَجتهد سريعا في تغيير ذاته نحو كل خيرٍ ليسعد في دنياه وأخراه !! .. " وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ﴿61﴾ " أيْ وحالكم في منتهي السوء حيث أنتم لاهُون غافلون عَمَّا فيه من خيرٍ وسعادة تائهون ناسُون لا تحاولون تغيير ذواتكم باتِّباعه ، وكل ذلك بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴿62﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴿62﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم في الآيات السابقة من أنَّ التمسّك والعمل بكل أخلاق القرآن والإسلام هو سبب كل خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة وتَرْكها كلها أو بعضها وتكذيبها وعِنادها والاستكبار عليها والاستهزاء بها ومحاربتها هو سبب كلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما ، فاسجدوا لله إذَن أيها الناس أيْ اخْضَعُوا لخالقكم ورازقكم ولتوجيهاته وإرشاداته واستجيبوا واستسلموا لها وقوموا بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتكم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور ، وأيضا اسجدوا لله متواضعين خاشعين ساكنين علي جباهكم في صلاتكم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، واكتسبوا من ذلك تواضعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا تَسْتَعْلوا عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما .. " .. وَاعْبُدُوا ﴿62﴾ " أيْ وهذا مزيد من التأكيد بعد السجود والاستسلام لله علي أن أطيعوا الله تعالي تمام الطاعة عموما وبصورةٍ شاملةٍ في كل الأمور وليس في بعضها دون بعض أو بالسجود والصلاة فقط وأن أخلصوا له وحده تمام الإخلاص والإحسان ولا تشركوا معه في عبادته أيَّ شيءٍ آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أيْ الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، للشرح والتفصيل)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴿1﴾ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴿2﴾ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴿3﴾ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴿4﴾ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴿5﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴿6﴾ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴿7﴾ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴿1﴾ " أيْ قَرُبَت الساعة ، أيْ ساعة إقامة يوم القيامة ، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها ، اقتربت منكم وستأتيكم بلا أيِّ شكٍّ أيها الناس فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد ، وموت كل إنسان بانتهاء أجله في الحياة هو ساعته ، وهو يأتي فجأة ، وهو قريب جدا إذ قد يحدث بعد لحظة كما يُثبت الواقع ذلك ولا يمكن لأحدٍ أن يُكَذّب هذا ، ثم يبدأ حسابه المَبْدَئِيّ عند دخوله قبره إلي أن يأتي الحساب الختاميّ الأخرويّ .. " .. وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴿1﴾ " أيْ وحينها سيَنْشَقّ القمر إلي شِقَّيْن أيْ قِسْمَيْن وسيَتغيَّر الكوْن استعدادا لها ، وفي الدنيا قد انشقّ ظلام الليل بضوء القمر كآيةٍ من آياته سبحانه ، وهذا تذكيرٌ للناس أنَّ حولهم دوْماً مُعجزات لا تُحْصَيَ في كل مخلوقات الله تدلّ علي تمام قُدْرته وعظمته وعلمه وصِدْق بَعْث الخَلْق مرة أخري بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا كإحياء الأجِنَّة في كل لحظة وإحياء الأرض الميتة وإنبات النبات فيها بمجرد نزول الماء إليها ، وغير ذلك الكثير الذي يدلّ علي صِدْق حدوثها وصدق وجوده تعالي وصدق الرسول الكريم ﷺ وكل ما جاء في القرآن العظيم ، ولهذا فمِن معاني انشقّ القمر كذلك أيْ وَضَحَ الأمر وظَهَر صدق كل ذلك بأدِلّة كثيرة لأنَّ العرب يضربون بالقمر مثلا فيما قد اتَّضَح .. هذا ، وقد حَدَثَ بالفعل للرسول ﷺ انشقاق القمر ورآه البعض وقتها ونَقَلَ الخَبَرَ للآخرين وذلك كمُعجزةٍ من الله حتي يُصَدِّقه المُكَذّب ويزداد المُصَدِّق تصديقا
ومعني " وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴿2﴾ " أيْ وإنْ يُشاهد المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن أيَّ آيةٍ في الكوْن أيْ دلالة وعلامة يرونها واضحة أمامهم والتي هي حجّة ظاهرة كافية قاطعة حاسمة علي قدْرة الله تعالي التامّة ، وكذلك حين تُقْرَأ وتُعْرَض عليهم كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم والتي فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم ، إذا هم يُعْرِضون عنها أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! وكذلك يقولون سحر مستمرّ أيْ دائم شديد !! أيْ ليس وَحْيَاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن ، وإنما هو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل ! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء ! .. إنه إذا كان القرآن والإسلام وكل آيات الله في كوْنه سحرا والرسول ﷺ ساحر ، كما يَدَّعون كذبا وزورا ، فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون ؟! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد !! .. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴿3﴾ " أيْ ورغم كلّ ما يَرَوْنه مِن آياتٍ حولهم لكنَّ حالهم دائما أنهم لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وابتعدوا عن الخير مُتَّبِعين لأهوائهم أيْ لأفكارهم الشَّرِّيَّة في عقولهم ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم .. وأيضا هم في كل ذلك قد اتَّبَعوا أهواءهم بمعني أنهم لم يكن عندهم أيّ دليلٍ عقليّ أو غيره يَدلّ علي صِحَّة ما هم فيه .. " .. وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴿3﴾ " أيْ وكلّ أمرٍ من خيرٍ أو شرٍّ لا بُدَّ وأن يَستقرَّ عند نهايةٍ مَا ، فأمر هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين سيَنتهي حتما في وقتٍ مَا عاجلٍ أو آجلٍ إلي كلِّ شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم ثم إلي ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد شرَّاً وتعاسة في أخراهم ، بينما أمر المسلمين المجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فمُستقرّ ثابت دون تَغَيّر في كل خيرٍ وسعادة في الداريْن .. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي دينهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم ، وتحذير شديد لمَن كذّبَ واتَّبَعَ هَواه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
ومعني " وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴿4﴾ " ، " حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴿5﴾ " أيْ ولقد جاء لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين في القرآن العظيم من الأنباء والأحاديث الهامة ومن أخبار الأمم السابقة المُعَذّبَة المُهْلَكَة ما فيه ازْدِجَار أيْ مَنْع وإنهاء لهم عن التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، لو عملوا به ، حيث فيه حتما تمام الخير والسعادة لهم في دنياهم وأخراهم ، ولكنهم لم يعملوا بأخلاقه فبالتالي سيكون قطعا مصيرهم مثلهم حيث كلّ شرٍّ وتعاسة فيهما .. " حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴿5﴾ " أيْ هذا الذي جاءهم في القرآن العظيم من كل الأنباء والأحاديث هو حكمة بالغة أيْ بَلَغَت أقْصَيَ الدرجات في القيمة والعَظَمَة وهي وَاصِلَة بمَن يعمل بها كلها إلي تحقيق أعظم الفائدة في دنياه وأخراه ، والحكمة هي العلم النافع الذي يترتب عليه تَتَبُّع الصواب دائما في كل قولٍ وفِعْلٍ بحيث يُوضَع كلّ أمرٍ في موضعه الصحيح بكلّ دِقّة دون أيِّ عَبَثٍ من أجل تحقيق تمام الخير والسعادة في الداريْن .. " .. فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴿5﴾ " أيْ فما الذي تُفيده إذَن الإنذارات والتحذيرات مهما كان شِدَّتها بالنسبة لهؤلاء ما داموا مُصِرِّين هكذا على ما هم فيه ؟! إنها لا تنفع شيئا حتما طَالَمَا لم يُحسنوا استخدام عقولهم بل قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أمَّا معني " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴿6﴾ " أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم ، أيْ إذا كان حالهم هكذا فابْتَعِدوا إذَن أيها المسلمون عن المُصِرِّين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولا تهتمّوا ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم ، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم ، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين ، فليس عليكم بالتالي لوْم في ذلك حيث عليكم فقط البلاغ لهم وأنتم لم تُقَصِّروا معهم بل قد أدَّيْتُم قَدْر استطاعتكم كل ما عليكم نحوهم بحُسن دعوتهم بكل قُدْوة وحكمةٍ وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ولكنهم مُصِرُّون تماما علي ما هم فيه (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿40﴾ من سورة الزخرف " أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " ، والآية ﴿8﴾ من سورة فاطر " .. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴿6﴾ " أيْ وانتظر عليهم إلى اليوم الذي يَدعوهم ويُناديهم ويَطلبهم فيه المنادي وهو المَلَك المُوَكَّل بذلك إلى أمرٍ تُنكره عقولهم ومشاعرهم لعدم اعتيادها علي مثله لفظاعته وشِدَّته وصعوبته وإبهامه عليهم أيْ عدم معرفتهم به وبخَبَايَاه ، وهو يوم القيامة حيث يَبْعث الله الناس بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا للحساب الخِتامِيّ علي الخير خيرا وسعادة والشرِّ شرَّاً وتعاسة .. وفي هذا تحذير وتهديد شديد للمُكذبين ولأمثالهم في كلّ عصرٍ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَان ونزول العذاب (برجاء أيضا مراجعة الآيتين ﴿174﴾ ، ﴿175﴾ من سورة الصافّات " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ " ، " وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿175﴾ " ، ثم الآية ﴿29﴾ من سورة النجم " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴿7﴾ " أيْ يُشاهِدهم الناظِر إليهم حالهم ذليلة أبصارهم أيْ مُنْكَسِرين مُتَضَائلين مُستسلمين مِن شدّة الذلّ يَسرقون النظر ولا يستطيعون المُوَاجَهَة بعيونهم لأنّ ما هم فيه من خِزْي وعارٍ وفضيحةٍ يكسر أعينهم ويخفضها ويذلّها ، وذلك حين يُناديهم المُنادِي لحسابهم وعقابهم ويَخرجون من الأجداث أي القبور خائفين مَرْعُوبين لا يَعرفون أين يتوجَّهون مُتَدَاخِلين بعضهم في بعضٍ مُسرعين إلي مكان حسابهم كأنهم في تزاحُمهم وتَلاحُمهم وعشوائيةِ وسرعةِ حركتهم وتَفَرُّقهم وتَخَبُّطهم بسبب شِدَّة فزعهم مثل أسْرَاب الجراد حين تنتشر وتَسْرَح
ومعني " مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴿8﴾ " أيْ مُسرعين من شِدَّة خوفهم مَادِّين أعناقهم مُوَجِّهين أنظارهم لا يَلتفتون لشيءٍ آخر نحو الداعي الذي يدعوهم للحساب وللعقاب مُلَبِّين نداءه وطَلَبه في مُنْتَهَيَ الانكسار والذلّة والذعْر والالتزام دون أن يُخالِف منهم أحدٌ أو يَتَخَلّف أو يتأخّر .. " .. يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴿8﴾ " أيْ وأثناء ذلك يقول الذين كذّبوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، بكل حَسْرةٍ ونَدَمٍ وألَم وذِلّة وانكسار ، هذا يوم – أي يوم القيامة – شديد الصعوبة ، بسبب ما ينتظرهم ويتوقّعونه من عذابٍ لا يُوصَف ، علي أمثالهم والمُتَشَبِّهين بهم ، بينما هو يسير خفيف سريع سعيد علي المؤمنين أيْ المُصَدِّقين المُتَمَسِّكين بأخلاق إسلامهم
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴿9﴾ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴿10﴾ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴿11﴾ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴿12﴾ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿13﴾ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴿14﴾ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿15﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿16﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿17﴾ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿18﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴿19﴾ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴿20﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿21﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿22﴾ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴿23﴾ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴿24﴾ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ﴿26﴾ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴿27﴾ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴿28﴾ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ ﴿29﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿30﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴿31﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿32﴾ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ﴿33﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴿34﴾ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴿35﴾ وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ﴿36﴾ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿37﴾ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴿38﴾ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿39﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿40﴾ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ﴿41﴾ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿42﴾ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴿43﴾ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴿44﴾ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴿45﴾ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ﴿46﴾ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴿47﴾ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴿48﴾ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴿49﴾ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴿50﴾ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿51﴾ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴿52﴾ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴿53﴾ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴿54﴾ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص هؤلاء الرسل الكرام في كل القرآن الكريم وذلك لتكتمل الفوائد
هذا ، ومعني " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴿9﴾ " أي ليس قومك فقط يا محمد ﷺ وليس مَن حولكم أيها المسلمون مِن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين هم أوّل مَن فَعَلَ هذا ، فقد سَبَقَهم إلى هذا التكذيب أمّة نوح التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان ، حيث كذّبوا تكذيبا شديدا وجيلا بعد جيل عبدنا ورسولنا نوحا ﷺ وآذوه أشدَّ الإيذاء النفسيّ والجسديّ وكان من بعض صور تكذيبهم أنهم قالوا عليه مجنون أيْ لا عقل له يقول كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل وقاموا بزَجْره أيْ مَنْعه وتخويفه بغِلْظَة وشِدَّة عن توصيل الإسلام للآخرين بكل الوسائل المُؤْذِيَة المُمْكِنَة وكانوا يَتَوَاصون بهذا التكذيب والإيذاء زَمَنَاً بعد زمن لأنه قد بقي فيهم مدة طويلة جدا وهي ألف سنة إلا خمسين عاما صابرا علي أذاهم مُوَاصِلاً دعوته لهم بكلّ هِمَّة وقُدْوة وحكمة وموعظة حَسَنة ومع ذلك ظَلّوا مُصِرَّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ولم يؤمن منهم إلا القليل
ومعني " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴿10﴾ " أيْ فعند ذلك دعا نوح ﷺ الله تعالي قائلا له ياربّ إنهم قد غَلَبُوني بقوَّتهم وعدم طاعتهم لك ولدينك ولا أقْدِر عليهم لأنه لم يؤمن معي إلا القليل ولا أستطيع فِعْل أكثر مِمَّا فَعَلت طوال هذه المدة فانتصر إذَن أنت للإسلام واهزمهم بالأسلوب وفي التوقيت الذي تراه فأنت أقوي الأقوياء وأعظم نصير للمَغْلوبين علي أمرهم المظلومين مثلنا
ومعني " فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴿11﴾ " أيْ فأَجَبْنا دعاءه ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْهَمِرٍ فَتَحَها ، أيْ مُنْصَبٍّ منها مُتَدَفّقٍ بكثرةٍ وبقوةٍ وتَتَابُع نازِلٍ على الأرض
ومعني " وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴿12﴾ " أيْ وشَقَقنا فيها عيونا مائية كثيرة يَسِيل منها الماء بغَزَارَة وشِدَّة ، فاجتمع الماء النازل من السماء مع الماء المُتَفَجِّر من الأرض على أمرٍ قد قُدِر ، أيْ أتْقِنَ وأحْكِمَ وضُبِطَ وعُيِّنَ مِقداره تماما ، وهو أمر قد قَدَّره الله تعالى أيْ حَكَمَ به بمقدارٍ ونظامٍ مُحَدَّدٍ وفي توقيتٍ ومكانٍ مُقَدَّرٍ مُعَيَّنٍ وهو هلاك قوم نوح بهذا المقدار من طوفان الماء على الحال الذي قَدَّرَه وحَكَمَ به دون أيّ تغييرٍ أو تعديلٍ أو تأخيرٍ إذ كلّ شيءٍ عنده سبحانه بمِقدار
ومعني " وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿13﴾ " أيْ وحملنا نوحا والمؤمنين معه على سفينة مصنوعةٍ من ألواح خشبيّةٍ ومن دُسُرٍ أيْ مَسَامِير تشدّ هذا الخشب وتربط بعضه إلي بعض .. وهذا يدلّ علي متانتها وإحكام صُنْعها حيث قام نوح بتصنيعها بوَحْي من الله وتيسيرٍ وكرم منه إذ لم تكن السفن معروفة من قبل ، فنَجَّاهم سبحانه بقُدْرته ورحمته وفضله
ومعني " تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴿14﴾ " أيْ تَسِير بمن فيها بنَظَرنا ، أيْ بتمام رعايتنا وحمايتنا وحفظنا وتأييدنا وعوْننا وتيسيرنا وتوْفيقنا ونصرنا .. وأيّ إكرام واهتمام وحب وأمان وعزّ أفضل من هذا ؟! .. وفي هذا طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم .. " .. جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴿14﴾ " أيْ فَعَلْنا ذلك جزاءً لنوح ﷺ – وللمؤمنين معه – أيْ عطاءً كريماً رحيماً له ولهم وهو الذي كان قد كُفِر ، أيْ كَفَرَ به قومه فلم يُصَدِّقوه وما جاءهم به من الإسلام .. هذا ، وهناك بعض القراءات بفتح الكاف أيْ عقاباً شديداً لمَن كان كَفَرَ بالله تعالي وظَلَّ مُصِرَّاً عليه فاعِلاً للشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني " وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿15﴾ " أيْ ولقد تركنا قصة نوح علامة ومُعجزة واضحة ودليل ودَرْس واضح معلوم مشهور بين الناس لكل مَن أراد أن يتذكّرها ويَتَّعِظَ بها مِمَّن يأتي بعدهم ، لكن لا ينتفع بها إلا أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أي الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حَدَث فيفعلون كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما مثلما حَدَث للذين يفعلون الشرَّ ويُصِرُّون تمام الإصرار عليه ولا يفعلون الخير .. " .. فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿15﴾ " أيْ فهل هناك إذَن مُتَذَكِّر يَتَذَكَّر بها ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل فيها ويَتَّعِظ بأحداثها فإنها في غاية الوضوح والقيمة وتستحِقّ الاهتمام ؟! والاستفهام هو لِدَفْع وتشجيع جميع الناس علي التَّذَكّر لها ولأشباهها من القصص والأحداث وعدم نسيانها للاعتبار بها والاستفادة منها والسعادة في الداريْن بالعمل بما فيها من دروس ، وهي أيضا للتخويف وللتحذير من عدم الانتفاع بها
ومعني " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿16﴾ " أيْ فانظروا وتَدَبَّرُوا أيّها العقلاء كيف كان عذابي الشديد العجيب وإنذاراتي وتحذيراتي الكثيرة المُتَكَرِّرَة المُتَنَوِّعَة لأمثالهم والتي لا تُبْقِي لهم أيّ عُذْر بأنْ عَاقبتهم بعذابٍ لا يُوصَف ، ولم تَنفعهم حينها أيّ قوّة مِن قوّاتهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ مِن الحياة﴾ .. إنَّ الذين يَتَشَبَّهون بهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون مثلهم تماما !! فليَحذروا ذلك إذَن وليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا قبل فوات الأوان .. وفي هذه الآية الكريمة اسْتِهَانَة بشأن المُكذبين وتخويف وتحذير شديد لهم وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أمَّا معني " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿17﴾ " أيْ ولقد جعلنا القرآن – والإسلام – يَسْهل فهمه وحتي حِفظه لكلّ مَن يُحسن استخدام عقله بإنصافٍ وعدلٍ ويَتَدَبَّر فيه ، كما يَسهل العمل به والدعوة له لمَن أراد بصِدْقٍ أن يَتَّبعه أيْ سيُيَسِّر ربه له ذلك حتما ، لأنه يُوافِق العقل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ولقد يَسَّرْناه باللغة العربية لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. والهدف الأسْمَيَ مِن هذا التيسير والذي هو مِن أعظم نِعَم الله ورحماته العظيمة التي لا تُحْصَيَ هو أن يكون " .. للذّكْر .. " أيْ للتَّذَكّر والاتِّعاظ ، أي لكي يتذكّروه ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذَن سهل مَيْسُور لمَن يُريده بصِدْق ، وعليهم أن يحذروا بشِدَّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حارَبوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم .. إنَّ هذا التيسير سيكون حتما دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿17﴾ " أيْ فهل هناك إذَن مُتَذَكِّر يَتَذَكَّر به ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل فيه ويَتَّعِظ بأخباره فإنه في غاية اليُسْر والوضوح والقيمة ويستحِقّ الاهتمام ؟! والاستفهام والسؤال هو لِدَفْع وتشجيع جميع الناس علي التَّذَكّر له وعدم نسيانه وحِفْظه وتَعَلّم علومه للاعتبار به والاستفادة منه والسعادة في الداريْن بالعمل بما فيه من أخلاقٍ ودروس .. إنهم سيسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو اتَّخذوا هذا القرآن العظيم والإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل دائما مَرْجِعهم في كل مواقف ولحظات حياتهم ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة سيجدون السعادة كلها في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. هذا ، والاستفهام والسؤال هو أيضا يعني ضِمْنَاً التخويف والتحذير من نسيان القرآن الكريم وعدم الانتفاع به حيث التعاسة التامّة في الداريْن
ومعني " كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿18﴾ " أيْ لم تُصَدِّق أيضا أمة عاد – كقوم نوح قبلها – والتي كانت باليمن والتي أرسل الله تعالي لها هودا ﷺ رسوله الكريم يدعوها إلى عبادة الله وحده واتِّباع الإسلام فكذّبوه .. " .. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿18﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها ومزيدٍ من التهديد والتحذير والذمّ الشديد لمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴿19﴾ " أيْ فبسبب إصرارهم تمام الإصرار علي استكبارهم وتكذيبهم وعِنادهم واستهزائهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار عاقبناهم بأنْ بعثنا عليهم ريحا شديدة البرودة والصوت والهبوب في يوم نَحْسٍ أيْ شَرٍّ مستمرٍّ لأنَّ الريح بدأت في هذا اليوم واستمرَّت ودامَت ثمانية أيام – كما جاء في آيات أخري – مُتتابعات نَكِدَات تَعيسات كلها شرّ عليهم حتي أهلكتهم ولأنَّ عذابهم هو مستمرّ دائم شديد في قبورهم حيث هَلَكُوا إلي أن يقوم يوم القيامة وينالوا عذاب جهنم الأشدّ والأتمّ والأخلد .. وهذا الإرسال للريح هو لكي يذوقوا العذاب المُهين المُذِلّ في الدنيا والمُناسِب لِتَكَبُّرهم لِيُحَطّمه (برجاء مراجعة متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة في الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) قبل العذاب الأعظم إهانة وألما وتماما وخلودا في الآخرة .. إنهم في دنياهم لم يجدوا حينها مُطلقا أيَّ أحدٍ ينقذهم مِمَّا هم فيه ويمنعهم منه ، ثم حتما في أخراهم لن يكون لهم أيّ ناصِرٍ أو مُعِين
ومعني " تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴿20﴾ " أيْ هذه الريح مِن شِدَّتها وسُوئها كانت تَقْتَلِع الناس ، وهم الذين سينالهم العذاب ، وتزيلهم بعُنْفٍ من أماكنهم وترفعهم عن الأرض ثم تقذفهم إليها فتَنْخَلِغ رؤؤسهم عن أجسادهم التي تَبقي جُثَثَاً بدونها وتخرج منها أحشاؤها فتصبح فارغة ويراهم الناظر إليهم كأنهم مثل جذوع النخل المُنْقَعِر أيْ المُنْقَلِع من جِذْره الخاوي بعد زوال فروعه وقد قُطِعَ ورُمِيَ وذَبُلَ وهَلَك .. فحالتهم حالة فظيعة مُخِيفة مُقَزِّزَة .. فلْيَسْتَفِق إذَن مَن يَتَشَبَّه بهم ولْيَعُد لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿21﴾ " ، " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿22﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ ثم ﴿17﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها ومزيدٍ من التهديد والتحذير والذمّ الشديد لمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴿23﴾ " أي لم تُصَدِّق أيضا أمة ثمود – كقومِ عادٍ قبلها – والتي كانت عند شمال الجزيرة العربية قُرْب الشام والتي أرسل الله تعالي لها صالحا ﷺ رسوله الكريم يدعوها إلى عبادة الله وحده واتِّباع الإسلام فكذّبوه وكذّبوا بالإنذارت والتحذيرات الكثيرة المُتَكَرِّرَة المُتَنَوِّعَة والتي لا تُبْقِي لهم أيّ عُذْر
ومعني " فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴿24﴾ " ، " أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴿25﴾ " أيْ فقالوا مُتسائلين حين أنذرهم رسولهم بالنذر ، بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء ، هل نَتَّبع بَشَرَاً من جِنْسِنا مثلنا – وليس مَلَكَاً – واحداً أيْ مُنْفَرِدَاً في هذه الدعوة التي يدعو إليها من عبادة الله وحده بلا أيّ شريكٍ ولم يَدْعُ بها معه أحدٌ غيره ولم يَتَّبعه أتْباع بل ويُخالِف ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا كما أنه شخص واحد ضعيف لا يُخاف منه ولا قوة له وهو من عموم الناس وليس أفضلهم فهو لا قيمة له ونحو الجماعة الكثيرة الأقوي والأفضل ؟!! إننا لو فعلنا ذلك واستجبنا له وسَلّمناه قيادتنا سنكون بالتأكيد في ضلالٍ أيْ ضياع ، وفي سُعُر أيْ جنون ، كالكلب المَسْعُور الأهْوَج المُضِرّ ، وأيضا في نارٍ أيْ في شقاءٍ وعذاب في دنيانا ، جَمْع سَعِير أيْ لهيب النار .. إنَّ من أسباب تَعَجُّبهم هذا هو ادِّعاؤهم أنهم كانوا يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك ! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب ! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون من بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق ! إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر !! وكذلك لو كان رجلا عظيما لقالوا أنَّ ما جاءهم به من الإسلام هو من عند فِكْره العظيم وليس وَحْيَاً من ربه !! لأنَّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة أو يكون قويا أو ضعيفا أو ما شابه هذا وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنَّ كلامهم هذا يُفيد ضلالهم وشقاءهم هم وليس الرسول الكريم ﷺ حيث قد تَرَفّعوا واستكبروا أن يَتَّبعوا رسولا من البَشَر ولم يَتَأَفّفوا أن يكونوا عابدين لأصنامٍ وأحجارٍ وأبقارٍ وغيرها !! .. " أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴿25﴾ " أيْ وتساءلوا أيضا بتكذيبٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وعِنادٍ ومُرَاوَغَة هل أُنْزِلَ عليه هذا الذكر – أي الإسلام الذي أُوحِيَ إليه لِيُبَلّغه لهم – واختاره الله واخْتَصَّه مِن بيننا وتَرَكنا نحن ولم يُنْزِله علينا ونحن الأوْلَيَ لأننا الأكثر شَرَفَاً ومَكَانَة وأموالا منه ؟!! إنه لو كان أُنْزِلَ علي عظيمٍ مِن العظماء مِن بيننا لكُنَّا آمَنَّا مباشرة !! .. " .. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴿25﴾ " أيْ هو ليس إذَن رسولاً يُوحَيَ إليه ولكنه كثير الكذب والشَّرِّ والتَّعَالِي والإعجاب بالنفس والادِّعاء بما ليس فيه حيث يَتَّخِذ مِن كذبه هذا وسيلة للتَّرَقّي لمَكانَة لا يستحِقّها ، فلا يليق بنا بالتالي أن نَتَّبعه !!
ومعني " سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ﴿26﴾ " أيْ هذا تهديد فظيع شديد من الله تعالي لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما ، أيْ سيعلم هؤلاء – ومَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان – في الغد القريب يوم يَنزل بهم العذاب المُوجِع المُهِين الذي لا يُوصَف في الدنيا ثم في الآخرة مَن هو حينها الكذّاب الأشِر ، رسولنا الكريم أم هم ؟! المسلمون أم هم ؟! .. وفي هذا طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم
ومعني " إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴿27﴾ " ، " وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴿28﴾ " أيْ نحن باعِثوا الناقة من الهضبة والصخرة التي سألوا رسولهم الكريم إرسالها منها كمُعجزة لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه ولتكون فتنة لهم أيْ اختبارا لتعلموهم علي حقيقتهم هل هم صادقون بالفعل في طَلَبهم معجزة فيُصَدِّقوه بها أم هم كاذبون مُرَاوِغون لا يؤمنون إلا القليل منهم مهما جاءهم من مُعجزات ؟! .. " .. فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴿27﴾ " أيْ فانتَظِر ماذا سيَفعلون أيُؤمنون أم يَكفرون ، واصبِر أيْ اثبت واثبتوا دائما أيها المسلمون واستَمِرّوا علي حُسن دعوة مَن حولكم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَةٍ وعلي الصبر علي أذاهم – والاصطبار هو درجة عالية من الصبر لا يصاحبها أيّ مَلَلٍ أو غضبٍ أو يأسٍ أو نحوه – وانتظروا أيضا كلّ خيرٍ وسعادةٍ ونصرٍ في الدنيا والآخرة ، وانتظروا لِمَا يُصيبهم هم من كلّ شرٍّ وتعاسةٍ وهزيمةٍ فيهما إن استَمَرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، فإنهم سيَرَوْن ذلك حتما يوما ما .. " وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴿28﴾ " أيْ وأخبرهم أنَّ الماء الذي يشربون منه هو مَقْسُوم بينهم وبين الناقة فهم لا يشاركونها في يوم شِرْبها أيْ نصيبها من شُرْب الماء وهي لا تشاركهم في يوم شِرْبهم ، وهي كانت كأنها عاقلة بإلهامٍ من الله حيث تخرج في يومٍ من أجل شِرْبها وفي اليوم التالي لا تخرج لتترك لهم نصيبهم ليشربوه ثم تخرج في اليوم الذي بعده وهكذا .. " .. كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴿28﴾ " أيْ كلّ نصيبٍ من الماء مُحْتَضَر عنده صاحبه أيْ يحضره مَن هو له ، فالناقة تحضر إلى الماء في يومها ، وهم يحضرون إليه في يومٍ آخر
ومعني " فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ ﴿29﴾ " أيْ فرفضوا هذه القِسْمَة ولم يَكتفوا بعدم التصديق بهذه المُعجزة فاسْتَدْعوا واحدا منهم فتَعَاطَيَ أيْ فأخذ الناقة وأخذ سيفه فعَقَرَها أيْ ذَبَحَها بما يدلّ علي تمام استهانتهم وإصرارهم علي التكذيب
ومعني " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿30﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها ومزيدٍ من التهديد والتحذير والذمّ الشديد لمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴿31﴾ " أيْ فعذّبناهم بأنْ بَعثنا عليهم صيحة واحدة – من الصياح – مُزَلْزِلَة مُدَمِّرَة فأهلكتهم حيث أصبحوا بعدها كهَشِيم المُحْتَظِر أيْ مثل غصون الأشجار المُهَشَّمَة أي اليابِسة المُكَسَّرَة المُفَتَّتَة والتي يجمعها المُحْتَظِر وهو الإنسان الذي يصنع الحظائر فيعمل منها حظيرة لسَكَن الحيوانات !! والمقصود أنهم قد أصابهم عذاب عظيم مُهَشِّم مُهْلِك مُهِين مُذِلّ
ومعني " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿32﴾ " أي (برجاء مراجعة الآية ﴿17﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها ومزيدٍ من التهديد والتحذير والذمّ الشديد لمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
أما معني " كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ﴿33﴾ " أيْ لم تُصَدِّق أيضا أمة لوط – كقومِ عادٍ وثمود قبلها – والتي كانت بأرض الشام والتي أرسل الله تعالي لها لوطا ﷺ رسوله الكريم يدعوها إلى عبادة الله وحده واتِّباع الإسلام فكذّبوه وكذّبوا بالإنذارت والتحذيرات الكثيرة المُتَكَرِّرَة المُتَنَوِّعَة والتي لا تُبْقِي لهم أيّ عُذْر
ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴿34﴾ " أيْ لقد عذّبناهم وأهلكناهم بسبب تكذيبهم وفسادهم بأنْ بَعَثْنا عليهم حاصِباً أيْ ريحا شديدا تحمل الحَصباء أيْ الحصَيَ الصغير إلا آل لوط وهم مَن آمَنَ به مِن قومه فقد نجَّيناهم من هذا العذاب المُهْلِك في وقت السحر وهو الوقت الذي يختلط فيه سواد آخر الليل ببياض أول النهار وهو قبل طلوع الفجر بقليل
ومعني " نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴿35﴾ " أيْ كانت نَجَاتهم نعمة عظيمة مِنّا عليهم ، أيْ مَسَرَّة وخيراً وكرما وفضلا ورحمة وعيشا طيِّبا حَسَناً هَنِيئا مَيْسُورا مُباركا ، وهذه النِّعَم هي صادرة من عندنا لا من عند غيرنا ، وبالتالي فهي هائلة لا تُوصَف ولا تُحْصَيَ لأنها مِن خالق كلّ النِّعَم سبحانه .. " .. كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴿35﴾ " أيْ كما أنعمنا عليهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم كذلك نُنْعِم علي كل مَن شَكَرَ وتَشَبَّهَ بهم ، أيْ كان من الشاكرين ، بعقولهم باستشعار قيمة هذه النِّعَم وبلسانهم بحمده وبعملهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وفي هذا بُشْرَيَ عظيمة للمسلمين لتشجيعهم علي المزيد مِمَّا هم فيه
ومعني " وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ﴿36﴾ " أيْ وسبب هلاكهم أنهم قد حذّرهم وخوَّفهم رسولُهم الكريم عذابَنا الشديد فقابَلوا ذلك بالشَّكِّ والتكذيب والجدال بصورةٍ فيها استكبار واستهزاء وعِناد في هذه الإنذارات والتحذيرات الكثيرة المُتَكَرِّرَة المُتَنَوِّعَة والتي لا تُبْقِي لهم أيّ عُذْر
ومعني " وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿37﴾ " أيْ وإضافة لتكذيبهم فقد كانوا شديدي الفساد والفجور حيث أنهم قد أرادوا وطَلَبوا بصورةٍ فيها تكرار وخِداع ومُرَاوَغَة من لوط ﷺ أن يُمَكِّنهم مِن فِعْل الفاحشة مع ضيوفه من الملائكة التي جاءته في صورةِ بَشَرٍ رجالٍ لتُخْبره بأنها بأمر الله ستُهْلِك قومه والذين كانوا شَوَاذّاً يُجامِعون الرجال بدلاً عن النساء ، فمَحَوْنا بَصَرَهم من أعينهم حينما دخلوا بيت لوط فلم يَرَوا الضيوف فخرجوا ورجعوا ولم يُحَقِّقوا ما يريدون .. " .. فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿37﴾ " أيْ وقلنا لهم ، علي سبيل الاستهانة والاستهزاء ، إمَّا قولاً حقيقياً عن طريق الملائكة أو بلسان الحال حيث هذا هو حالهم الفِعْلِيّ ، فتَجَرَّعوا إذَن عذابي الشديد الذي نَزَلَ بكم بسبب تكذيبكم لرسولي واستهانتكم بإنذاراتي وتحذيراتي لكم
ومعني " وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴿38﴾ " أيْ ولقد نَزَلَ بهم عذابٌ عذّبهم وأهلكهم في وقتٍ مُبَكِّرٍ من الصباح وقد استقرَّ فيهم في الدنيا بحيث لا يَتركهم ولا يَهربون منه وهو لا يُفارقهم أبداً فهو بصورةٍ مستمرَّةٍ دائمةٍ شديدةٍ ثابتةٍ مُصَاحِبَةٍ لهم في قبورهم حيث هَلَكُوا إلي أن يَستقرّ وينتهي بهم في يوم القيامة فيَنالوا عذاب جهنم الأشدّ والأتمّ والأخلد
ومعني " فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿39﴾ " ، " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿40﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿37﴾ ثم الآية ﴿17﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها ومزيدٍ من التهديد والتحذير والذمّ الشديد لمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
أمَّا معني " وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ﴿41﴾ " ، " كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿42﴾ " أيْ وأيضا لقد جاء إلى فرعون وآلِهِ وهم أقربائه وحاشيته وأتْباعه الذين كانوا يُؤَيِّدونه ويُناصرونه الإنذارات والتحذيرات والتهديدات الكثيرة المُتَكَرِّرَة المُتَنَوِّعَة والتي لا تُبْقِي لهم أيّ عُذْر ، من خلال رسولنا الكريم موسي ، ولكنهم لم يستجيبوا له ولم يُصَدِّقوا بجميع المُعجزات التي أيَّدْناه بها والتي تَدلّ أعظم دلالَة على صِدْقه فيما يَدعوهم إليه ، ولفظ " كُلّها " يُفيد كثرتها وبأنهم قد كذّبوها جميعها بلا استثناء .. " .. فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿42﴾ " أيْ فبسبب تكذيبهم هذا عاقبناهم وعذّبناهم عقابا وعذابا لم يُبْقِ منهم أحدا حيث أغرقناهم جميعا في البحر ، وهو أَخْذٌ شديدٌ فظيعٌ لا يُوصَف لأنه أخْذُ الله تعالي الذي هو عزيز أيْ غالِب قاهِر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ولا يمنعه أحدٌ مِمَّا يريده ، مُقْتَدِر أيْ عظيم القُدْرة علي كلّ شيءٍ بأنْ يقول له كن فيكون كما يريد فهو غير عاجزٍ ولا ضعيف .. هذا ، وقد اختار سبحانه هاتين الصِّفَتَيْن وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ لتكونا مُناسبتيْن للردِّ على تَكَبُّر فرعون وظُلمه وتَبَجُّحه والذي وَصَلَ به الحال أنْ زَعَمَ أنه هو الربّ الأعلى !!
أمَّا معني " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴿43﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ للكفار في كلّ زمانٍ ومكان ، أيْ المُكذّبين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ومَن يَتَشَبَّه بهم ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب .. أيْ هل كفاركم يا أهل مكة – والذين كانوا علي عهد الرسول الكريم محمد ﷺ – ويا أيها الناس في كل عصر ، خير من أولئك الكافرين السابقين في القوة بكل أنواعها والسلطان والنفوذ ؟! بالقطع لا فأنتم لستم أقوي منهم ! وأيضا كلكم في الشرِّ متساوون فلستم علي خيرٍ وهم كانوا علي شرّ ، وبالتالي فلن تَنْجُوا قطعا من عذابٍ مشابهٍ لعذابهم !! .. وهم كل قُوَّاتهم لم تمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم !! .. أم معكم من الله وثيقة ووَعْد براءةٍ وسلامةٍ في الزُّبُر – جمع زَبُور وهو الكتاب الذي يُكتب فيه – أيْ الكتب التي أنزلها علي رسله ألاّ ينالكم أيّ عذابٍ علي كفركم ؟! حتما لا أيضا ! .. وبالتالي وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا تُصِرُّون علي الكفر إذَن ؟! فالعقل والمنطق السليم يقول أنه مَن كان أضعف منهم هكذا مثلكم فليكن إذَن أكثر حَذَرَاً فيُسارِع بالإيمان بربه والعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب ! وكذلك الحال قطعا لمَن عَلِمَ أنه ليس له أيّ براءةٍ ونجاةٍ من العذاب علي كفره في دنياه وأخراه فعليه بالمُسارَعَة أيضا !
ومعني " أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴿44﴾ " أيْ وهل يقولون نحن جميعٌ يَدٌ واحدةٌ وسنَنتصر على مَن خالَفنا وعادانا وقَصَدَنا بأيِّ سوءٍ أو مكروه ؟! إنهم حتما واهمون ! فأين ستكون قوّتهم إلي جانب قوة الله مالِك المُلك واهِب القُوَيَ المُنْتَقِم الجبَّار ؟!! .. وفي هذا استهانة بشأن الظالمين وتهديد لهم وطَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم
ومعني " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴿45﴾ " أيْ هذا رَدّ من الله تعالي بما يُنْهِي أوْهامهم وبما يُبَيِّن تمام ضعفهم وحَتْمِيَّة هزيمتهم ، أيْ سيُهْزَم في المستقبل القريب أيُّ جمع للكافرين ومَن يُعاونهم ويَتَشَبَّه بهم ويُوَلّون أدْبَارهم أيْ يُعطونكم ظهورهم أيّها المسلمون أيْ يَفِرّون من أمامكم مُنْهَزِمِين مُنْكَسِرين خائبين .. وفي هذه الآية الكريمة أيضا اسْتِهَانَة بشأن المُكذبين وتخويف وتحذير شديد لهم وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
ومعني " بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ﴿46﴾ " أيْ ليس هذا الذي يحدث لهم في الدنيا من هزائم وتعاسات هو نهاية عقوباتهم وعذاباتهم ، بل الساعة – أيْ ساعة قيام يوم القيامة – والتي يُكذّبون بها هي ميعادهم النهائيّ الخِتامِيّ الذي سيَنالون فيه ما كانوا يُوعَدون به مِن سوءٍ حيث أعظم عذاب وأتَمّه وأشدّه وأخلده وأتعسه ، والساعة هي أشدّ داهِيَةٍ بالنسبة لهؤلاء وأمثالهم – والداهية هي الأمر البغيض الفظيع الذي لا يُعرف له خَلاَص منه – وهي أَمَرّ أيْ أشدّ مَرَارَة مِمَّا أصابهم وسيُصيبهم من عذابٍ وشقاءٍ دنيويّ
ومعني " إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴿47﴾ " أيْ قطعا وبكلّ تأكيدٍ إنَّ المجرمين أيْ الذين يرتكبون الجرائم بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، هم في دنياهم في ضلالٍ أيْ ضياع وشرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة ، وفي سُعُر أيْ جُنون ، كالكلب المَسْعُور الأهْوَج المُضِرّ ، وأيضا في نارٍ واحتراقٍ أيْ في شقاءٍ وعذاب ، جَمْع سَعِير أيْ لهيب النار ، ثم في أخراهم حتما هم فيما هو أشدّ ضلالا وسعيرا وأعظم وأتمّ حيث نار جهنم بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴿48﴾ " أيْ يوم القيامة هو يوم يُجَرُّون في النار علي وجوههم لتعذيبهم بعذابٍ لا يُوصَف ويُقال لهم حينها علي سبيل الإهانةٍ والإذلال والاحتقار – إضافة لذِلّة السَّحْب علي الوَجْه – تَجَرَّعُوا وقاسُوا مَسَّ جهنم ، أيْ أوَّل ما يَلمسكم ويَنالكم ويُصيبكم من شِدَّة آلامها وعذاباتها ونيرانها وحراراتها ثم سيستمرّ معكم ويَتَزَايَد ، بسبب تكذيبكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴿49﴾ " أيْ نحن وَحْدنا بلا أيِّ شريكٍ خَلَقْنا كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل ، مِن أجل نفع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم .. إنَّ حركة كلّ شيءٍ مُقَدَّرَة بمنتهي الدِّقّة بما يحافظ علي نظام الكوْن وبما يحقّق تمام المنفعة والسعادة للخَلْق ، كما أنَّ كلّ مخلوقٍ قد أعطاه خالِقه من المُواصَفات والإمكانات التي تُمَكِّنه من أداء مهامّ له في هذه الحياة وهداه وأرشده لأدائها ، لتكون كلها مُسَخَّرَة للإنسان ، والذي أعطاه مواصفاتٍ أهمها العقل ليُحسن التعامُل مع هذا الكوْن من خلال التواصُل الدائم مع ربه ودينه الإسلام ، كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو منعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في دنياهم ثم في أخراهم لأهل الخير منهم حيث خَلَق لهم مِمَّا خَلَق أيضا الجِنَان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، كذلك حدوث عذابٍ مَا بمَن يستحِقّه يكون بالمقدار وفي التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لعقوبته في الدنيا ثم في الآخرة بما لا يُوصَف من العذاب في النار التي هي أيضا من خَلَقه لكي تكون عقابا عادلا بلا أيّ ذرّة ظلمٍ لأهل الشرّ منهم ﴿للمزيد من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف﴾ .. إنه تعالي يعلم كلّ ما غابَ عن البَشَر وعن حَوَاسِّهم وعن كل ما هو من الماضي أو من المستقبل أو بعد البعث في الآخرة ونحو ذلك من أنواع الغيْبِيَّات وهو شاهِد عالِم يشهد ويعلم تمام العلم كل قولٍ وعملٍ لكل خَلْقٍ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً ويعلمه قبل حدوثه فهو سبحانه يعلم المستقبل وما سيَحدث في هذا الكوْن قبل خَلْقه فكله مُقَدَّر أيْ مُحَدَّد في علمه ومكتوب كيفية ووقت حدوثه في كتابٍ في اللوح المحفوظ .. إنَّ كل تشريعات الله تعالي في الإسلام ، وكل تقديراته في كوْنه ، مُقَدَّرَة تقديرا بكل تأكيدٍ أيْ مَوزونة اتّزانا ومُحْكَمَة إحكاما ومحسوبة حسابا دون أيّ عَبَث وبكل تمامٍ وكمال ، ولابُدّ أن تتحقّق وتَقَع في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحة خَلْقه وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعها أو يُغَيِّرها (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿37﴾ من سورة الأحزاب " .. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا " ، لتكتمل المعاني وتَثبت وتتأكّد﴾ .. إنَّ كلَّ ما سَبَقَ ذِكْره هو من معاني الآية الكريمة
ومعني " وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴿50﴾ " أيْ وأيضا ليس شأننا وحالنا في إيجاد شيءٍ أو إحْداث فِعْلٍ مَا نريده إلا مجرّد أنْ نأمره ونقول له كلمة واحدة لا تتكرَّر مرة ثانية وهي كُن فإنه يكون ويَحدث فوراً كما نُريد في لمحةٍ كما يلمح البصر شيئا مُتَحرِّكَاً علي عَجَل ، أيْ في طَرْفَة عَيْن ، أيْ بمنتهي السرعة دون أيّ لحظة تأخيرٍ أو مُمَانَعَة أو صعوبة .. فهو سبحانه لا يحتاج مثلا إلي أدواتٍ وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر ! .. وكذلك لو أراد إنزال عذابٍ بأحدٍ فإنه ينزله به سريعا وقتما وحيثما يريد ولا يمكنه منعه أو الاستعداد لدفعه وإيقافه .. فليَحذر إذَن المُكذّبون والبَعيدون عن دينهم هذا وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب .. والآية الكريمة بيان لتمام قُدْرته وكمال علمه تعالي وإحاطته بكلّ شيءٍ في كوْنه وبكل أقوال وأفعال خَلْقه
ومعني " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿51﴾ " أيْ هذا دليلٌ علي نَفَاذِ هذه القُدْرة التامَّة لله تعالي وسرعة تنفيذها وتحقيقها في التوقيت وبالأسلوب الذي يريده سبحانه بما يُحَقّق عقاب المُكذّبين وعذابهم وإيلامهم وهلاكهم ، وهو تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لأمثالهم في كلّ زمانٍ ومكانٍ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم في دنياهم قبل أخراهم .. أيْ لقد أهلكنا أمثالكم السابقين مِن المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم ، جَمْع شِيَع وشِيَع جمع شِيِعَة ، وهي المجموعة التي يَتْبَع ويُسَانِد بعضها بعضا سواء علي الخير أم الشرّ .. فهل هناك إذَن مُتَذَكِّر يَتَذَكَّر بهذا ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل فيه ويَتَّعِظ بأحداثه فإنه في غاية الوضوح والقيمة ويستحِقّ الاهتمام ؟! والاستفهام هو لِدَفْع وتشجيع جميع الناس علي التَّذَكّر له ولأشباهه من القصص والأحداث وعدم نسيانه للاعتبار به والاستفادة منه والسعادة في الداريْن بالعمل بما فيه من دروس ، وهو أيضا للتخويف وللتحذير من عدم الانتفاع به
ومعني " وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴿52﴾ " ، " وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴿53﴾ " أيْ ومن كمال علمه تعالي عن كوْنه وخَلْقه أنَّ كلَّ شيءٍ فَعَلَه المُكذّبون ، وفَعَلَه كلّ إنسانٍ ، مِن قولٍ أو فِعْلٍ ، صغيرٍ أو كبيرٍ ، ظاهرٍ أو خَفِيٍّ ، خيرٍ أو شرٍّ ، هو مُسَجَّل مَكتوب مَسْطُور ومَحفوظ في كُتُب الحَفَظَة من الملائكة التي تُسَجِّلها علي جميع الناس بكل دِقّةٍ وتفصيل دون أيّ زيادةٍ أو نقصان وسيَتَسَلّمونها يوم القيامة ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يُكَذّب أيَّ شيءٍ فيها .. والزُّبُر جَمْع زَبُور وهو الكتاب الذي يُكْتَب فيه .. ومُسْتَطَر يعني أنه مُسَطّر قد كُتِبَ في سُطُور مُنَظّمَة واضحة .. وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ لكلِّ صاحبِ عقلٍ سليمٍ أن يفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لأنه سيُحَاسَب علي الخير خيرا وسعادة في الداريْن وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة فيهما
ومعني " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴿54﴾ " ، " ، " فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿55﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ المُتَّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء بكل تأكيدٍ في جناتٍ ونَهَر ، فبعد تمام سعادة الدنيا التي كانوا فيها بسبب تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، يكونون في الآخرة في بساتين وحدائق مُخْضَرَّة مُبْهِجَة كثيرة الثمرات والخيرات والقصور وبها نَهَر أيْ أنهار وكذلك عيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير المُبْهِج والخمر والعسل واللبن ، وبالجملة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿55﴾ " أيْ في مجلس حقّ كله صِدْق ليس فيه أيّ كذب أو لغو أيْ كلام غير مفيد أو إثم أيْ شرّ وفساد وضَرَر وهو في مكان مُرْضٍ كريم بهيج فخْم مُسْعِد وهو الجنة .. وهو مقعد لا يجلس فيه ولا يناله إلا الذين كانوا صادقين في حياتهم في أقوالهم وأفعالهم وصَدَّقوا الله ورسله الذين وعدوهم بهذا الوعد الصدق .. وهو المكان الذي يَصْدُق الله فيه وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقا للطائعين له بإسعادهم تمام السعادة الخالدة .. والمقصود بالمقعد مكان القعود الذي يقيم فيه الإنسان بكل أمن واستقرار وخير وسرور دائم خالد بلا نهاية ولا زوال ولا نقصان .. وهم في هذا المقعد مُقَرَّبُون مُكَرَّمون مُعَزَّزون مُحَبَّبون مُقَدَّرون مُرْتَفِعُوا المَقام عند مَلِكٍ عظيمٍ واسع المُلْك – ولفظ المَليك يُفيد المبالغة في عظمة المَلَك ومُلْكه – مقتدرٍ أيْ عظيم القُدْرة علي كل شيء خالق الأشياء كلها صاحب القوة التي لا تُوصَف لا يَمنعه أيّ مانع عن تنفيذ ما يريد والوفاء تماما بكل ما يَعِد به خَلْقه سبحانه الوَهَّاب الرَّزَّاق الكريم الرحيم الودود المَلِيك المُقْتَدِر
الرَّحْمَٰنُ ﴿1﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا عشتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ ، وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
هذا ، ومعني " الرَّحْمَٰنُ ﴿1﴾ " أي هذا اسم من أسماء الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء ، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم
عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴿2﴾ " أيْ وأهم علامات ودلالات رحماته تعالي وأعظم نِعَمه علي خَلْقه أنه عَلّمَ القرآن العظيم – وكتبه التي قبله – للإنسان ، للرسول الكريم محمد ﷺ – وعَلّمَ رسله السابقين أيضا كتبه – ليُعَلّمه لمَن حوله ليُعَلّموه هم ويُوَضِّحوا مَعانيه للعالمين إلي يوم القيامة ليكون مصدر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم حيث فيه كل أخلاق الإسلام التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿17﴾ من سورة القمر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴿3﴾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴿4﴾ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴿5﴾ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴿6﴾ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿7﴾ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿8﴾ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿9﴾ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴿10﴾ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ﴿11﴾ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴿12﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿13﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴿14﴾ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴿15﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿16﴾ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴿17﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿18﴾ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴿19﴾ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴿20﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿21﴾ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴿22﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿23﴾ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿24﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿25﴾ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26﴾ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿27﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿28﴾ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴿29﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿30﴾ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ﴿31﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿32﴾ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴿33﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿34﴾ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ﴿35﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿36﴾ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴿37﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿38﴾ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ﴿39﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿40﴾ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴿41﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿42﴾ هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿43﴾ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴿44﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿45﴾ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿46﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿47﴾ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ﴿48﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿49﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴿50﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿51﴾ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴿52﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿53﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴿54﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿55﴾ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿56﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿57﴾ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴿58﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿59﴾ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿60﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿61﴾ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿62﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿63﴾ مُدْهَامَّتَانِ ﴿64﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿65﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿66﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿67﴾ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴿68﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿69﴾ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴿70﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿71﴾ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴿72﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿73﴾ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿74﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿75﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴿76﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿77﴾ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿78﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا ، ومعني " خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴿3﴾ " ، " عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴿4﴾ " أيْ هاتان نعمتان ورحمتان عظيمتان أخريان من نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها حيث أوْجَده من عدمٍ بتمام قُدْرته وكمال علمه لينتفع ويسعد في هذه الحياة الدنيا وسَخَّرَ له كل ما فيها وأعطاه العقل والقوة وعَلّمه البيان أيْ النطْق والفهم والإفصاح عمَّا يريد بالكلام بلسانه عن طريق المَنْطِق السليم والقول الواضح كما مَكَّنه من فهم كلام غيره له لتبادُل المنافع معه والتعلم والتعليم والابتكار والتطوّر ومعرفة اللغات والكتابات ووَضَعَ في فطرته مِيزَانَاً ليَعرف به الخير والشرّ وما يَنفعه ويُسعده وما يَضُرّه ويُتعسه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف للشرح والتفصيل) .. فمَيَّزَه سبحانه بكل ذلك عن كل المخلوقات الأخرى وصار مُؤَهَّلاً بحَقٍّ لأنْ يكون خليفته في كوْنه (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿30﴾ ، ﴿31﴾ من سورة البقرة " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .. " ، " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وبالجملة فقد أعطاه تعالي من فضله وكرمه ورحمته وحبه له كل الإمكانات لكي يُحسن الانتفاع بهذا الكوْن الذي سَخَّره له ليُحقّق تمام المنفعة والسعادة .. فليشكر ربه إذَن وليعبده أيْ يُطيعه وحده بلا أيّ شريك باتِّباع كل أخلاق إسلامه ليَسعد في دنياه ثم في أخراه التي خَلَقَ له فيها إذا أحْسَنَ في حياته جنات بها من كل النعيم الخالد مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشر
ومعني " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴿5﴾ " أيْ هاتان نِعْمتان ورحمتان عظيمتان أخريان من نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها ، فمِن عظيم قدْرته وكمال عِلْمه ودِقّة نظامه أنَّ الشمس والقمر مَحْسُوبان بحسابٍ دقيقٍ بحيث لا يُمكن أبدا ولا يَحدث أنَّ الشمس تُزَاحِم القمر في غير وقت طلوعها وفي زمن وجوده ، ولا هو كذلك يُزاحمها ، ولكن كلاّ منهما له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويسير ويدور فيه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق ولسعادتهم
ومعني " وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴿6﴾ " أيْ والنجوم وهي التي تَظهر في السماء مساءً تتَلألأ تُزَيِّنها وتُسْعِد العقول ويَهتدي به الناس في بعض تحرّكاتهم وتنقّلاتهم برا وبحرا ، وكذلك الأشجار بكل أنواعها ومنافعها وسعادتها ، وكل هذه أيضا وقطعا من نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها ، كلها وغيرها مِن مخلوقاتِ هذا الكوْن سواء أكانت تعقل أم لا تعقل تسجد لخالقها سبحانه أيْ تَنْقاد وتَخضع تماما لإرادته في مُلْكِه وتُنَفّذ كاملا مَهامَّها التي خَلَقها لها لتُحَقّق نفع وإسعاد الإنسان .. والمقصود من الآية الكريمة التذكرة بتمام قُدْرته تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب والأشجار وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه !
ومعني " وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿7﴾ " ، " أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿8﴾ " ، " وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿9﴾ " أيْ وأيضا من نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها أنه رفع السماوات بغير أعمدة مَرْئِيَّة وفيها ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرَاتٍ معلوماتٍ وغير معلومات وكلها مُسَخَّرات لنفع ولسعادة الناس والخَلْق .. والمقصود من الآية الكريمة كما في الآية السابقة أيضا التذكرة بتمام قُدْرته تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه لا غيره .. " .. وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿7﴾ " أيْ وَوَضَعَ في الدنيا والآخرة وفي فطرة الإنسان العدل وشَرَعَه وأمَرَ به في كل الأقوال والأفعال وكل تَصَرّفٍ صَغُرَ أم كَبُر مع جميع البَشَر والخَلْق كله ، وهو القانون الإلهيّ الأساسيّ الذي به تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما .. " أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿8﴾ " أيْ فلا تَتَجاوَزُوا وتَتَعَدُّوا في أمر العدل وتَظلموا ، فقد شَرَعَه لكم وأمركم وأوصاكم به حتي لا تَظلموا ، والطغيان هو التَّعَدِّي والظلم في أيّ شيء .. " وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿9﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد الشديد علي ما سَبَقَ ذِكْره من الأهمية العُظمي للعدل ، واستخدام ألفاظ الميزان والوزن والقسط وكلها مُرادِفات لمعني العدل هو من أجل هذا التأكيد والتوضيح ، أيْ واجعلوا دائما الوزن لكل أقوالكم وأفعالكم ومعاملاتكم فيما بينكم في كل شئون حياتكم قائما بالقسط أي بالعدل التام دون أيِّ ذرة ظلم أيْ مُرْتَكِزَاً عليه وعلي أساساته ومُلاَزِمَاً له ، وكونوا دوْما مِمَّن يقومون به علي أكمل وجه أيْ يُحسنونه ويُتقنونه ومُقِيمين ومُسْتَقِرِّين ومُسْتَمِرَّين عليه ومُهْتَمِّين به تمام الاهتمام وثابِتين مُسَدِّدِين نحوه دون أيِّ انحرافٍ يمينا أو يسارا .. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره هو من معاني " وأَقِيمُوا .. " .. وهذا التشديد هو لكي يهتمّ ويتمسّك ويعمل الناس بهذا العدل الكامل لأنه سبحانه ما أوْصَاهم به إلا لأمنهم ولسعادتهم تمام الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم وبدونه يَتعسون حتما فيهما .. " .. وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿9﴾ " أيْ ولا تُنْقِصُوا المَوَازِين العادلة في كل أمور دنياكم .. ولا تنقصوا كذلك بالقطع ميزان حسناتكم يوم القيامة في أخراكم بترك العدل وفِعْل الظلم .. وإلا تعستم في الداريْن
أمَّا معني " وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴿10﴾ " أيْ وأيضا من نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها والتي تدلّ علي تمام قُدْرته وكمال عِلْمه وأنه هو وحده المستحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه ، أنه كما رَفَعَ السماء فقد وَضَعَ الأرض أيْ خَلَقَها موضوعة علي هذا الوَضْع المُبْهِر المُعْجِز بكل ما فيها من خيرات لا تُحْصَيَ ، للأنام ، أيْ للخَلْق كلهم عليها ، من أجل منفعتهم وسعادتهم
ومعني " فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ﴿11﴾ " ، " وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴿12﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها والتي عليه أن يَتَذَكَّرها ويشكرها ، ففي الأرض – إضافة إلي ألَذّ الأطعمة والمشروبات المختلفة – فواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِمَّا يشتهيه الناس ويتمنّونه يأكلون منها هنيئا كيفما يريدون وحسبما يختارون .. والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم .. وفيها أيضا النخيل صاحبة الأكمام جمع كِمّ أي طَلْع وهو أول ما يطلع من ثمارها وهو كُوز أخضر يَتَفَتَّح وتخرج منه السُّبَاطَة التي تحتوي على الأعواد التي تحمل حبَّات البلح النافع .. " وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴿12﴾ " أي وفيها كذلك كل الأطعمة الأساسية غير الفاكهة الترفيهية والتي يحتاجها الخَلْق لبناء أجسادهم وصحتهم وقُوَّتهم كالحبوب بكل أنواعها ذوات العَصْف وهو القِشْر عليها يحميها ويُنتفع أيضا به في صناعات مختلفة نافعة ، وكذلك الريحان كمَثَلٍ لنباتات الزينة ذوات الروائح الطيّبة المُنْعِشَة المُبْهِجَة للحياة ، كما أنَّ من معاني الريحان في اللغة العربية أنه الرزق ، أيْ في الأرض كل أنواع الأرزاق الوَفيرة المُفيدة المُسْعِدَة لكل المخلوقات
أمَّا معني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿13﴾ " أيْ فبَعْد ذِكْر كلّ هذه النِعَم والرحمات التي لا تُحْصَيَ فبالتالي فأيّ نعمة واحدة من نِعَم ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالِقكم وراعِيكم ورازقكم وأيّ قُدْرة من قُدْراته تُكَذّبان فلا تعترفان بها وبأنها من فضله وكرمه ورحمته وقُدْرته وعِلْمه وهو مَصْدرها وخالقها وحده مع أنَّ كلّاً منها ناطق بذلك ؟! والخطاب بالمُثَنَّيَ والمقصود المُفْرَد وهو الإنس أيْ بني الإنسان على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التَّثْنِيَة في بعض الأحيان ، وقد يعني لفريقين من البَشَر أيْ لفريق المؤمنين والسؤال لهم هو لمزيدٍ من تذكيرهم بالاستمرار علي حالهم الطيّب مع ربهم من شكر النِعَم ليُبقيها لهم ويزيدهم منها وأكثر خيرا غيرها ، ولفريق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين النَّاسِين اللّاَهِين الفاسدين والسؤال لهم هو لذَمِّهم ذَمَّاً شديدا وللتَّعَجُّب من حالهم لعلهم يَستيقظون ويَعترفون بخالقهم ونِعَمه عليهم ويَعودون له ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. وقد يكون السؤال أيضا لفريقين هما الذكر والأنثي من الناس .. وقد يكون لفريقين من المخلوقات عموما العاقل منها كالإنسان وغير العاقل الذي له لغة تَخَاطُب يُخَاطِبه بها خالِقه فيَفهمها أو للظاهر منها وللخَفِيّ ، وكأنه سبحانه يقول فبأي آلاء ربكما تكذبان يا أيها القِسْمَان ؟! بما يُفيد أنه لا أحد ولا شيء في هذا الكوْن إلا ولربه عليه نِعَم ورحمات لا تُحْصَيَ ولا يُمكنه مُطلقا أن يُكَذّبها .. وهذا بالقطع يدعو أيَّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأن يكون حتما جوابه علي هذا السؤال عمليا بأن يعبد ربه المُنْعِم أيْ يُطيعه وحده بلا أيّ شريك ويتوكّل عليه وحده ويشكره دائما وكثيرا تمام الشكر علي كل نعمةٍ صغرت أم كبرت فكلها عظيمة نَفِيسَة مُفيدة مُبْهِجَة بأن يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴿14﴾ " أيْ خَلَقَ سبحانه بتمام قُدْرته وكمال عِلْمه آدم الذي هو أصل كلّ البَشَر وهم ذرِّيته تَنَاسَلُوا بعده فيما بينهم من صَلْصَالٍ وهو طين أيْ تراب وماء يتمّ تجفيفه حتي يُصبح له صَلْصَلَة أيْ صوت مثل صوت الفَخَّار حين يُطْرَق عليه .. فالإنسان مخلوق من طينٍ جافٍّ يُشبه الفَخَّار وهو الطين الذي يُصْنَع منه بعض الأوعية والأواني والتُّحَف ثم يُجَفّف .. وبالتالي وما دام أصله هكذا فعليه إذَن ألاّ يَتَكَبَّر في الأرض علي مخلوقات الله ويَظلم ويُفْسِد فيَتعس ويُتْعِس مَن حوله في دنياهم وأخراهم !! .. بل عليه لكي يَسعد فيهما أن يَعبد أيْ يُطيع خالقه وحده بلا أيّ شريكٍ ويتوكّل عليه ويشكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأهمها نعمة إيجاده حيث أوْجَده من عدمٍ لينتفع ويسعد في هذه الحياة الدنيا وأرشده بالقرآن للإسلام الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده في الداريْن وسَخَّرَ له كل ما فيها وأعطاه كلَّ إمكاناتٍ تُمَكّنه من ذلك كالعقل والقوّة والخامات المتنوّعة ونحو هذا
ومعني " وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴿15﴾ " أيْ وأيضا خَلَقَ تعالي مِمَّا خَلَق مخلوقات تسمي الجِنّ – والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين – بعضها من مارج أيْ من لهبٍ مُخْتلط الألوان يخرج من نارٍ ويكون في أعلاها ، أيْ هناك مخلوقات لا يعلمها إلا هو سبحانه وكلها لها مَهامّ في الكوْن من أجل منفعة الإنسان ، فهو قادر علي كل شيءٍ حيث يَخلق ما يشاء مِمَّا يشاء فيَخلق مثلا مِمَّا هو بارد لَزِج كالطين ومِمَّا هو حارّ خفيف كالنار ومن غير ذلك من موادّ ، وكلها حتما مَخلوقة لا خَالِقَة فلا تُعْبَد إذن حيث البعض قد يعبدون مخلوقاتٍ غير الله الخالق تعالي !!
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿16﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿13﴾ من السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها للانتفاع بذلك في مزيدٍ من حُسن عبادته تعالي بتمام طاعته والعمل بكلّ أخلاق إسلامه وشكره والتوكّل عليه لتَتِمّ السعادة في الدنيا والآخرة .. وفي المُقابِل لمزيدٍ من التحذير والذمّ الشديد والإيقاظ وإقامة الحجَّة وقَطْع الأعذار والعَوْن علي الإقرار والاعتراف لمَن يُكَذّب ولا يَعترف بها لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴿17﴾ " أيْ هو سبحانه ربّ مَشْرِق الشمس في الشتاء ومَشْرِقها في الصيف حيث أقلّ وأقصي زاوية لها علي الأرض ، وربّ مَغْرِبها فيهما .. إنه تعالي ربّ كل المَشارِق والمَغارِب حيث بدوران الأرض وبحركة الشمس فإنها تُشرق في مكانٍ ثم آخر فلها إذَن مَشارق كثيرة يوميا وتَغْرُب في المقابِل في مَغارِب كثيرة .. وهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أيْ مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه .. وكلّ هذا النظام المُحْكَم الدقيق المُبْهِر هو من نِعَمه ورحماته التي لا تُحْصَيَ علي خَلْقه لنفعهم وسعادتهم ، والتي عليكم أن تَتَذَكَّروها وتَشكروها
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿18﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴿19﴾ " ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴿20﴾ " أيْ ومن نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها ، والتي عليكم أن تَتَذَكَّروها وتَشكروها ، ومِن عظيم قُدْرته وكمال عِلْمه ودِقّة نظامه أنَّه مَرَجَ البحريْن أيْ أرسلهما ، أيْ النوعين من المياه ، مياه الأنهار العَذْبَة أيْ الحلوة ، ومياه البحار المالحة ، بما فيهما من مخلوقات نافعة مُسْعِدَة للخَلْق ، يلتقيان أيْ يلتقي كلٌّ منهما بالآخر حيث يَصُبّ النهر العَذْب في البحر المالِح لكنْ مع وجود برزخ بينهما أيْ حاجز لا يُرَيَ من خَوَاصّ فيزيائِيَّة يمنع اختلاط هذا بذاك فلا يَبْغِيان أيْ لا يَغْلِب ويَتَعَدَّي أحدهما علي الآخر فيَمْتَزِجان فتَتَغيَّر بالتالي مُوَاصفاتهما وفوائدهما بل يظلّ كلّ ماءٍ منهما مُحْتَفِظَاً بخصائصه ومنافعه للخَلْق ليَنتفعوا وليَسعدوا به
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿21﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴿22﴾ " أيْ ومن نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها ، والتي عليكم أن تَتَذَكَّروها وتَشكروها ، ومِن عظيم قُدْرته وكمال عِلْمه ودِقّة نظامه ، أنكم يَخرج لكم من مائهما مِمَّا تستخرجونه اللؤلؤ والمرجان ونحوهما وكلها من الأحجار الكريمة التي تصنعونها وتلبسونها وتَتَزَيَّنون وتَتَحَلّون بها وتَسعدون
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿23﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿24﴾ " أيْ ومن نِعَم ورحمات الرحمن تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها ، والتي عليكم أن تَتَذَكَّروها وتَشكروها ، ومِن عظيم قُدْرته وكمال عِلْمه ودِقّة نظامه ، أنَّه له سبحانه وحده لا لغيره ، التَّصَرُّف التامّ في سَيْر وجَرَيَان الجَوَارِي أيْ السفن والمراكب المنشآت أيْ التي يُنْشِئها الناس أيْ يقيمونها ويبنونها ويصنعونها – ولفظ له يُفيد أنه بالرغم من إنشائهم هم لها فإنَّ هذا لا يُخرجها قطعا عن مُلْك الله ونفوذه وسلطانه عليها – والتي تجري في مياه البحار والأنهار كالأعلام جَمْع عَلَم وهو كلّ شيءٍ مرتفع يُرَيَ مِن بُعْد كالعلم المرفوع وكالجبل العالي وما شابه ذلك ، بخواصّ الهواء الفيزيائية وبقوة رفع الماء ونحو هذا ، مع تيسير الله للعقل لأسباب صناعتها ، ليَطلبوا بها من أرزاقه تعالي لهم حيث تنقلهم وتجاراتهم من مكانٍ لآخر لينتفعوا وليسعدوا بكل رحمات الله هذه في دنياهم ثم أخراهم لو أحسنوا استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِد
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿25﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26﴾ " ، " وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿27﴾ " أيْ كلّ مَن علي هذه الأرض وهذه الحياة من أيّ مخلوقٍ مِن مخلوقاته سبحانه مِن إنسانٍ وغيره لابُدَّ حتما يَفْنَيَ ويَهْلَك ويَنتهي ويموت ويزول يوما ما ، بما فيهم حتما ما يَدَّعِيه البعض مِن آلهةٍ يعبدونها غيره تعالي !! وربكم وحده – ولفظ وجه يُفيد وجوده وذاته عَزَّ وجَلّ – الباقي الحَيّ بلا زوال ولا تَغَيُّر قبل خَلْق الخَلْق وبعد فنائهم ، صاحب الجلال أي العظمة والاستغناء التامّ ، والإكرام أىْ الفضل والإحسان والكرم والإنعام الكامل .. وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه .. وكلكم أيها الناس مَيِّتون وعائدون إليه حتما بعد موتكم يوم القيامة حيث يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم فأحسنوا إذَن الاستعداد للقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿28﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴿29﴾ " أيْ هذا بيانٌ لِغِنَاه التامّ سبحانه فهو لا يحتاج مُطلقا لغيره بل غيره هم الذين في تمام الحاجة إليه لا يَستغنون عنه للحظة ، أيْ هو تعالي يسأله أيْ يَطلب منه كلّ مخلوقٍ من إنسانٍ وغيره في السماوات والأرض والكوْن كله ، بدعائه بالقول أو بلسان حاله ، سؤال المحتاج إلى رزقه وفضله وستره وعافيته .. وهو تعالي في كل يومٍ أيْ في كل وقتٍ من الأوقات ولحظةٍ من اللحظات في شأنٍ من الشئون وأمرٍ من الأمور هامٍّ عظيمٍ حيث يُدَبِّر كلَّ شئون هذا الكوْن الهائل بكل ما فيه من مخلوقاتٍ بتمام القُدْرة وكمال العلم والرحمة والرفق والكرم والعطاء فيُعطي السائل ويُجيب الداعي ويَرزق الساعي ويُسامح المُذنب ويُيَسِّر العُسْر ويَنصر الحقّ ويَهزم الباطل ويُحيى ويُميت ويُعِزّ ويُذِلّ ويُغنى ويُفْقِر ويشفى ويُمْرِض ونحو ذلك من غير أن ينشغل بشأنٍ عن شأن أو يُخطيء سبحانه في مسائل السائلين أو يَغضب من إلحاح المُلِحِّين بما يُحَقِّق مصالح وسعادات خَلْقه .. ثم شأنه يوم القيامة هو الحساب والثواب والعقاب .. وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه ..
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿30﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ﴿31﴾ " أيْ سنَتَفَرَّغ لمُحاسبتكم يوم القيامة حيث قد انتهت شئون الدنيا يا مَن لكم ثَقَل علي الأرض أيْ وَزْن وقيمة ونَفَاسَة وكرامة ، أيْ يا أيها الإنْس ، أيْ يا بني الإنسان ، أيْ يا أيها الناس ، وهم الذين سيُحَاسَبون ، لأنَّ بني آدم هم وحدهم المُكَرَّمون بالعقل علي كلّ الخَلْق ، وتَمَّ ذِكْر ثَقَل آخر معهم وهي مخلوقات أخري لها أيضا ثقل وأهمية في الأرض لكنها مُسَخَّرَة تماما لنفعهم – سواء أكانت مخلوقات ظاهرة واضحة أم خَفِيَّة أيْ جِنِّيَّة لأنَّ الجِنَّ في لغة العرب هي كل مخلوقٍ لا يُرَيَ بالعين لكنها لا تُحَاسَب ما دامَت لا تَعقل – ليُفيد ذلك ضِمْنَاً دِقّة وشمولية الحساب بحضور الجميع وأنَّ شأن الله تعالي حينها سيكون شأنا واحدا وهو أمور الآخرة مِن بعثٍ للخَلْق وحسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وتَغَيُّراتٍ في الكوْن تجهيزاً للآخرة .. والله تعالي قطعا لا يشغله شيءٌ عن آخرٍ حتي يَتَفَرَّغ ويَتَجَرَّد ويَنتهي منه ليقوم بالآخر وإنما كلّ أمرٍ يُنَفّذ ويُدَار بمجرّد قول كن فيكون !! ولكنَّ المقصود تقريب الأمر للتصوّر البَشَريّ ، أيْ أننا سنَقْصِد لحسابكم جميعا بكلّ دِقّةٍ وتفصيلٍ عن كل أقوالكم وأفعالكم التي عملتموها في دنياكم وسنُجازيكم علي الخير خيرا وسعادة والشرّ شرَّاً وتعاسة .. وهذا تهديدٌ شديدٌ لكلّ مُكَذّب ومُخَالِف .. وبالتالي فكل صاحب عقلٍ سليمٍ عليه إذَن أن يُحسن الاستعداد لهذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. وبالتالي أيضا وما دام الثقلان مُسَيْطِرَا عليهما هكذا وهما حتما مَخلوقان لا خَالِقَان وأنَّ الله وحده هو خالِقهما فلا يُعبد إذَن أحدٌ منهما غيره سبحانه حيث البعض قد يعبدون مخلوقاتٍ جِنِّيَّة أو غيرها غير الله الخالق تعالي !! .. إنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿32﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴿33﴾ " أيْ يا أيّها الجَمْع الكثير مِن كلّ أنواع المخلوقات سواء أكانت جِنِّيَّة – والجِنّ في لغة العرب هي كلّ مخلوقٍ لا يُرَيَ بالعين – أم إنْسِيَّة أيْ بني الإنسان أم غيرها ، إليكم هذا التنبيه والتذكير والتحذير ، حتي تعبدوا الله أي تطيعوه وحده وتشكروه وتتوكّلوا عليه أيها الناس وأنتم العُقلاء من هذه المخلوقات فتسعدوا تمام السعادة في الداريْن وإلا ستتعسوا تماما فيهما ، إنْ قَدَرْتم علي أن تَخرجوا من جَوانب وأماكن السماوات والأرض وتَفْلتوا من أمر الله وحُكْمه ونظامه وتقديراته في الدنيا وسيطرته التامّة عليكم وعلي مصادر أرزاقكم وقُوَّاتكم أو تَهربوا من موتكم عند انتهاء آجالكم أو من عذابكم لمَن يستحقه منكم فاخرجوا إذَن واهربوا وافلتوا من عقابه ! فلن تخرجوا حتما إلا بإذن الله وأمره وقُدْرته وقُوَّته ونفوذه أو تكون لكم قوة أكبر منه وهو القويّ الجبَّار حتي تَتَغَلّبوا علي مَنْعه إيّاكم من الخروج !! وهو أمر حتما تَعْجِيزِيّ لهم !! كذلك من معاني الآية الكريمة أنه إنْ قَدَرْتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السموات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلا بعلمٍ يُيَسِّره الله لعقولكم .. والمقصود أنَّ جميع الخَلْق بالقطع تحت تَصَرُّفه سبحانه ، فلماذا إذَن يعبد بعضكم أيها الناس غيره ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟!! وإذا كان هذا عَجْزكم التامّ في دنياكم أمام كمال قوّته تعالي وسلطانه ونفوذه وعلمه فإنكم قطعا في أخراكم ستكونون أشدّ عَجْزَاً علي الهروب من عقابكم عند حسابكم يا مَن تستحقونه !! فأحْسِنوا إذَن الاستعداد لهذا بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿34﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ﴿35﴾ " أيْ لو حَدَثَ وحاولَ أيّ مخلوقٍ من المخلوقات هذا النفاذ لن يمكنه حتما ذلك حيث سيُعَذّب بشواظ أيْ لهبٍ شديد الحرارة يخرج من نار ، وبمعدن مُذاب ، فلا يستطيع حينها أن ينتصر أيْ ينقذ نفسه مِمَّا يصيبه ولا أيّ أحدٍ آخر يمكنه إنقاذه من هذا العذاب .. والمقصود أنَّ الجميع في كوْن الله تعالي في دنياهم وأخراهم حتما تحت سيطرته ولن يستطيعوا مُطلقا الهروب من تقديراته ونظامه فيه وأنَّ تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزاءهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار لابُدّ يُعَاقَبون عليه بما يُناسب بحيث يكون بعض هذا العقاب في الدنيا بصورةٍ من الصور ودرجةٍ من الدرجات ثم يكون تمامه وأشدّه في الآخرة .. فليعبدوه إذَن وحده بلا أيّ شريك فهو المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿36﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴿37﴾ " أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد .. أيْ فإذا انشقّت السماء أيْ ظهرت فيها التَّشَقّقات والتَّصَدُّعات فصارت حين انشقاقها وتَصَدُّعها كالوردة في شكلها وكالدِّهَان الذي يُدْهَن به في ذَوَبَانها وألوانها المُتَعَدِّدَة ، رَأَيَ المُكَذّبون حينها ما يُخيفهم ويُزعجهم من شدّته وفظاعته
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿38﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ﴿39﴾ " أيْ فيومها ، يوم القيامة ، لا يُسأل المجرمون عن ذنوبهم التي فعلوها ، لأنها مَعلومة مَعروفة مُوَثّقَة تماما ، منهم حيث هم أدري بأنفسهم تماما وبما ارتكبوه من جرائم ! ومِن الله تعالي خالقهم بالقطع الذي يعلم سِرَّهم وما هو أخفَيَ منه .. إنهم لا يُسألون لا في الدنيا ولا في الآخرة حينما يُنزل ربهم بهم العذاب الذي يستحِقّونه ، ففي دنياهم ينالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة بالتأكيد دون أيّ سؤال ! ولماذا السؤال والله تعالي يعلم ذنوبهم تماما والملائكة التي ستُعذبهم تعلمها وهم أنفسهم يعلمونها ؟! بل ووجوههم وأحوالهم البائسة تُظهِر جرائمهم ومقدار العذاب الذي يستحِقّونه !! فالأمر مع الله تعالي العالِم الخبير بكل شيء عن كل خَلْقه العادِل الذي لا يظلم مُطلقا ولو بمقدار ذرَّة لا يحتاج إلي تحقيقٍ كما يحتاجه البَشَر لمعرفة أين الحقائق لتحقيق تمام العدل دون أيّ ظلم ! .. هذا ، وبعض آياتٍ أخري في القرآن الكريم تدلّ علي حدوث السؤال ، وذلك يكون في بعض مواقف من يوم القيامة ، حيث أحداثه كثيرة ، وكلها سَيِّئَة حتما علي المجرمين ، إذ أحيانا يُسْأَلون وأحيانا أخري لا يُسألون ولكن يُهملون يَنتظرون مَرْعُوبين وأحيانا ثالثة لا يَسألهم تعالي هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكن يقول لهم لِمَ عملتم كذا وكذا لذَمِّهم ولتخويفهم ولتقريرهم بما فعلوه ، وهكذا .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه لا يَسأل بعضُهم بعضاً عن حاله لانشغال كلٍّ بذاته سواء أكان من الإنس أيْ إنسان أم من الجِنّ أي من مخلوقاتٍ أخري موجودة وقتها لا يَراها الإنسان لأنَّ الجِنَّ في لغة العرب هي كلّ مخلوقٍ لا يُرَيَ بالعين .. هذا ، وذِكْر الجانّ مع الإنس من أهدافه التذكرة بأنَّ الجميعَ مخلوقاتُ الله وهم تحت سيطرته وتصرّفه وسؤاله عن تنفيذِ أوامره لحُسْن تدبير كوْنه لمصلحة خَلْقه فلا يُعْقَل إذَن أن يُعْبَدَ في الدنيا مخلوقٌ ضعيفٌ هو تحت تصرّف خالِقه تماما ويُتْرَك الخالِق سبحانه حيث البعض يعبدون مخلوقاتٍ غير خالِقهم ، تعالي الله عمَّا يفعلون ويقولون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿40﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴿41﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، يُعْرَف المُجرمون بعلاماتهم التي تدلّ عليهم وأهمها سَواد الوجه كأنَّ عليه تراب وزُرْقَة العين مع الذلّ والبُؤْس والرُّعْب وغيره مِمَّا هو ظاهر منهم ولا يحتاج لكثيرِ تَدْقِيقٍ لمعرفتهم في مثل هذا الموقف العصيب حيث تأخذهم ملائكة العذاب من نواصيهم أيْ مُقَدِّمَة رؤؤسهم ومن أقدامهم في صورةٍ كلها تحقير وإذلال وإرْعَاب وعدم قدرةٍ علي أيْ إفلاتٍ فتقذفهم في النار إلي أماكن عذابهم .. هذا ، والمُجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿42﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿43﴾ " ، " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴿44﴾ " أيْ تقول لهم ملائكة العذاب بما يُفيد الإهانة والإذلال والتصغير والتحقير والتأنيب والذمّ الشديد كعذابٍ نفسيٍّ مع الجسديّ ، هذه النار التي كنتم تُكَذّبون بوجودها في الدنيا أيها المجرمون ها هي حاضرة تشاهدونها واقعيا بأعينكم أمامكم وتدخلونها .. وهم يَطوفون أيْ يَمشون ويُكَرِّرُون المرور طوال وقتهم ذهاباً وعودةً بين مكان عذابها المُتَنَوِّع المُتَزَايِد يَنالون منه لفتراتٍ وبين حميمٍ أيْ ماء مَغْلِيّ ساخن جدا ، آنٍ أيْ بَلَغَ أشدّ درجات إنَاهُ أيْ نُضْجَه وغليانه وحرارته ، وهو أيضا آن أيْ حاضِر ، يُعَذّبون بَه ويشربون منه لفتراتٍ أخري ، وهكذا علي الدوام
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿45﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿46﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ لكل مَن أحسنَ التَّعامُل مع مَقام خالِقه العالِي العظيم فأحسنَ اللجوء إليه والتوكّل أيْ الاعتماد عليه والتمسّك والعمل بوصاياه كلها في شرعه وأحبه وطلب رعايته ورضاه وحبه وأمنه وتوفيقه ورزقه وقُوَّته ونصره وسعادته في دنياه واتَّخذه وَلِيَّا لأموره يُديرها له علي أكمل وجهٍ مع إحسان اتِّخاذه لأسباب ما يريد في حياته ، وهو مع كل ذلك يخاف مقام ربه أيْ رقابته عليه فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرّ ، كما يخاف المقام بين يديه يوم القيامة فيُحسن الاستعداد لذلك بالتمسك والعمل بكل أخلاق إسلامه ليدخل أعلي درجات جناته ، مِثْل هذا لابد حتما له في الآخرة عند لقاء ربه جنتان أيْ جنات كثيرة من أفضال الله ورحماته وعطاءاته وبركاته أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعماله تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. ولفظ " جنتان " يعني جنات كثيرة لأنه في القرآن الكريم تُستخدم أحيانا التثنية للتَّعَدُّد وللكثرة كما في قوله تعالي مثلا " .. سَنُعَذّبهم مَرَّتَيْن .. " ﴿التوبة : 101﴾ ، كما أنه قد يعني جنة للتمتع الجسديّ وأخري للنفسيّ ، أو جنة للسَّكَن وأخري للتَّنَزّه ، أو جنة يمين قصوره وأخري يساره ، أو جنة مقابل أعماله الصالحة وأخري فضلا وزيادة من الله تعالي الكريم الرَّزَّاق الوَهَّاب ، أو ما شابه هذا مِمَّا يُفيد تمام الفضل الإلهيّ والتّمَتّع والسعادة .. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمه الله بها حيث كانت حياته كأنه في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيره مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانه بربه وتوكّله عليه وشكره له وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿47﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ﴿48﴾ " أيْ جنّتان صاحبتا أغصان عظيمة حَسَنَة لَيِّنَة نَضِرَة كثيرة الأوراق والثمار ، جَمْع فَنَن أي غُصْن ، وأيضا صاحبتا ألوان جميلة بأوراقها وثمارها ، جمع فَنّ أيْ لَوْن
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿49﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴿50﴾ " أيْ في كلّ جنّة منهما عَيْن تَسير وتجري بالماء العَذْب لتكون مَنْظَرا مُسْعِدَاً ولسَقْي تلك الأشجار والأغصان فتُثمر من جميع الثمار المُبْهِجَة ، أو في كل واحدة من الجنتين عيْنان إحداهما تَفيض بماءٍ طيّب والأخرى بخمر لَذّة للشاربين أو لبن أو عسل أو غيره من المشروبات اللذيذة الطيّبة
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿51﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴿52﴾ " أيْ في الجنتين مِن كل نوع من أنواع الفاكهة المُتَنَوَّعَة صِنْفَان ، بل أصناف كثيرة مُتَعَدِّدة ، كلّ صنْفٍ له لذّة وطعم ولون وشكل ومَلْمَس وغيره من المَوَاصفات ما ليس للصنف الآخر ، من أجل تمام التَّنَوُّع والتَّمَتُّع والسعادة
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿53﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴿54﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلسةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التمتع بالراحة والاسترخاء ، علي مفروشاتٍ مُبَطّنَة من الداخل ومِمَّا لا يَظْهَر منها ويُلامِس الأسِرَّة والكَرَاسِي ببِطانات مصنوعة من إستبرقٍ أيْ حرير سَميك وهو أحسن الحرير وأفخمه ، فإذا كان هذا هو باطِنها فكيف يكون ظاهرها ؟! فهي بالتالي مُريحات نَفِيسات مُزَيَّنات بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة .. " .. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴿54﴾ " أيْ وثَمَر الجنتين وما يُجْنَيَ ويُجْمَع ويُؤْخَذ من ثمارها وأزهارها دانٍ أيْ قريب يُمكن لكلّ مَن أراد تناوله أن يأخذه بكل سهولةٍ ويُسْر بلا أيّ تَعَب حينما يريد سواء أكان مُتَّكِئَاً أم قاعدا أم قائما
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿55﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿56﴾ " أي في الجنتين أيضا ، يكون أهل الجنة ، رجالا ونساءً ، في أجمل وأحليَ صورة ، وفي أعلي درجات الحب والصفاء والعِفّة فيما بينهم ، فالنساء قاصراتُ الطرْفِ أيْ حابِسَات الأعْيُن أي يَمْنَعْنَ عيونهنَّ عن النظر لغير أزواجهنّ ، كما أنهنَّ مْن شدّة جمالهنَّ فهُنَّ يقْصِرْنَ أيضا طرْفَ أزواجهنّ أيْ يَجعلهنَّ مُقْتَصْرين فقط عليهنّ فلا يَنظرنَ لغيرهنّ ، والجنة قطعا ليس فيها صفات الدنيا التي كانت تَتَطَلّب غضَّ البَصَر حيث الكلّ جميل سعيد لا يحمل إلا كلّ صفات الخير دون أيّ شرّ .. " .. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿56﴾ " أيْ هُنَّ أبْكار ، أيْ لم يُجامِعهن أحدٌ من الإنس أيْ بني الإنسان قَبْل أزواجهنّ هؤلاء ويُنْزِل منهنّ الطّمْث أيْ الدم الذي يَحدث عادة عندما تُجامَع المرأة البِكْر لأول مرّة ، ولم تُصَبْ بأيِّ شيءٍ مُؤْذٍ في فَرْجِها من أيِّ مخلوقاتٍ أخري يمنع متعة الجِمَاع ، لأنَّ الجِنَّ في لغة العرب هي كل مخلوقٍ خَفِيٍّ لا تراه عين البَشَر ، والمقصود أنَّ المتعة والسعادة الزوجية والجنسية تكون كاملة دون أيّ نقصان أو مُضَايَقات
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿57﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴿58﴾ " أيْ مِن شِدَّة جمالهنَّ يُشْبِهْنَ الياقوت في الصفاء والبَريق واللّمَعَان ، والمرجان في الحُسن وحُمْرَة الوجوه
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿59﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿60﴾ " أيْ لا جزاء وعطاء من الله تعالي في مُقابِل الإحسان ، وهو العمل الحَسَن في الدنيا ، أيْ الإيمان به ، أيْ التصديق بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، مع عمل الصالحات ، أيْ التمسّك بكل أخلاق الإسلام بحيث تكون كل الأقوال والأعمال في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ – ولو فُرِضَ وتَمَّ فِعْل شَرٍّ مَا فلتكن التوبة منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – وتكون بكلّ إحسانٍ أيْ إتقانٍ وإجادةٍ وكأنَّ هؤلاء المُحسنين يرون ربهم وهو يراهم لحظيا ويعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون ولذا فهم يجتهدون ما استطاعوا في إحسان كل أقوالهم وأفعالهم وإحسان ما يظهر منها وما يَخفي ليَراهم علي أحسن حالٍ في كل وقت (برجاء أيضا مراجعة معاني الإحسان والإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. لا جزاء حتما لهذا الإحسان من الله الخالق الكريم الرحيم الودود الرزّاق الوهّاب إلا الإحسان لهم في مقابل إحسانهم هذا إذ سيَنالون منه في دنياهم كل أمن وخير وسعادة ثم في أخراهم ما وَعَدهم به وهو الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطلقا بما سَبَقَ ذِكْره في هذه السورة الكريمة وغيره مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في جنات الخلد حيث ما هو أعظم وأتمّ وأخلد أمنا وخيرا وسعادة
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿61﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿62﴾ " أيْ ومن غيرهما ، أيْ من غير الجنتين اللتيْن ذُكِرَتَا في الآية ﴿46﴾ من السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ لمَن خاف مقام ربه ، فله أيضا جنتان أخريان زائدتان ، من فضل الله تعالي وكرمه وعطائه الزائد بلا حدود ، وذلك لمزيدٍ من التحفيز علي فِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. كذلك من المعاني أنَّ هناك جنتين دونهما أيْ أقل قليلا منهما في الدرجة تكونان لمَن هو أقلّ عملا مِمَّن خاف مقام ربه تمام الخوف حيث الجنة درجات لتحقيق تمام العدل إذ ليس الجميع متساويين في أعمال الخير التي قاموا بها في دنياهم
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿63﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " مُدْهَامَّتَانِ ﴿64﴾ " أيْ مُسْوَدَّتان ، أيْ مِن شِدَّة كثافة الأوراق والثمار والنَّضَارَة يكاد يكون اللون الأخضر لأشجارها كالأَسْوَد
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿65﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿66﴾ " أيْ في كلّ جنّة منهما عَيْن فَيَّاضَة فَوَّارَة بالماء العَذْب بحيث لا ينقطع منها النَّضْخ والفَوَرَان لتكون مَنْظَرا مُسْعِدَاً ولسَقْي الأشجار فتُثمر من جميع الثمار المُبْهِجَة ، أو في كل واحدة من الجنتين عيْنان نَضَّاخَتان أو إحداهما تَفيض بماءٍ طيّب والأخرى بخمر لَذّة للشاربين أو لبن أو عسل أو غيره من المشروبات اللذيذة الطيّبة
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿67﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴿68﴾ " أيْ في الجنتين – إضافة إلي ألَذّ الأطعمة والمشروبات المختلفة – فواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِمَّا يشتهيه الناس ويتمنّونه يأكلون منها هنيئا كيفما يريدون وحسبما يختارون .. والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم .. وفيهما أيضا نخيل يحمل حبَّات البلح النافع .. وكذلك الرُّمَّان المُمْتِع المُفيد .. ونحو هذا من أنواع الفاكهة مِمَّا هو مشهور معروف بينهم ومِمَّا لا يعرفونه ولا يَخطر ببَالِهم
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿69﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴿70﴾ " أيْ في كلّ هذه الجنّات التي سَبَقَ ذِكْرها كل أنواع الخيرات الكثيرات المتنوّعات الحَسَنات مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿71﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴿72﴾ " أيْ ومن هذه الخَيْرات الحِسَان يُوجَد حُورٌ عِيِن ، وحور جَمْع حَوْراء أيْ بَيْضاء ، وعِين ، جمع عَيْناء أي واسعة العين ، والمقصود أنَّ أهل الجنة من الرجال والنساء سيكونون في أعلي درجات الجمال في كلّ شيءٍ والتّمَتّع مِن كلّ شيء (برجاء أيضا من أجل اكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من هذه السورة الكريمة " فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ "﴾ .. " .. مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴿72﴾ " أيْ مُقْتَصِرَات مُكْتَفِيَات بمَشاعِرهِنَّ وبأنظارهنَّ بأزواجهن فلا تُرِدْنَ بَدَلاً منهم وذلك من تمام المَحَبَّة والمُتعة بينهم ، كما أنهنَّ مَسْتُورَات مَصُونَات مُلاَزِمَات القصور وهذه مِن صفات التَّرَف في نساء الدنيا فهنَّ لا يَحْتَجْنَ إلى مغادرة بيوتهنّ لتحقيق مَنْفَعَةٍ أو غَرَضٍ مَا بل هنَّ مَخْدُومَات مُكَرِّمَات مُمَتَّعَات تماما بكل شيءٍ في أماكنهنّ .. " .. فِي الْخِيَامِ " أيْ في البيوت الفَخْمَة المصنوعة من اللآليء الضخمة المُجَوَّفَة التي يشبه تجويفها الخيمة الكبيرة المفروشة والمُزَيَّنَة بأفخم وأعظم المفروشات والزِّينات من الذهب والفضة وغيرهما
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿73﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿74﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿56﴾ من السورة﴾
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿75﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴿76﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلْسَةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التمتع بالراحة والاسترخاء ، علي رفرفٍ خُضْرٍ أيْ وَسَائِد مُرتفعة كالرَّفّ خضراء اللون فَخْمَة مُريحَة مُبْهِجَة ، وعلي عبقريٍّ حِسَان أيْ سجاجيد ثَخِينَة لها زوائد كالقطيفة عجيبة الصُّنْع فائقة لا تُقَارَن في حُسنها وجمالها وفخامتها وإتقانها ، ولفظ عبقريّ هو وَصْف عند العرب يُطْلَق علي السجاد الفخم والثياب الفخمة المنقوشة المُزَخْرَفَة وعلي الدِّيبَاج أيْ الثوب الحريريّ أو النسيج من الحرير الأصلي الفخم ويُطلقونه عموما علي كل ما كان ممتازا نادرَ الوجودِ في صفاته
ومعني " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿77﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿16﴾ من السورة﴾
ومعني " تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿78﴾ " أيْ فتَعَالَيَ وتَعَاظَمَ إذَن شَأنُ واسْمُ وذِكْرُ وذاتُ وصفاتُ ربِّكم وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُه أيْ خيراتُه أيها الناس – والخَلْق جميعا – فهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم ، أيْ فاسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيهٍ حيث لا يُشبهه أيّ أحدٍ في ذلك ، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كل شيء علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع ، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه ، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. فكلّ هذا الخير الذي سَبَقَ ذِكْره لكم في هذه السورة الكريمة هو من اسمه تعالي الرحمن الذي ذُكِرَ في أوّلها ، فما بالكم ببقية الأسماء ؟! ولذا قال لمزيدٍ من التأكيد ولاستكمال بعض صفات الكمال الحُسني له وللتذكرة والانتفاع بها .. " .. ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿78﴾ " أيْ صاحب العَظَمَة والاستغناء التامّ ، والإكرام أىْ الفضل والإحسان والكَرَم والإنعام الكامل .. فدَاوِمُوا إذَن علي ذِكْره والتواصُل معه لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذكر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿1﴾ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴿2﴾ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴿3﴾ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ﴿4﴾ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ﴿5﴾ فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا ﴿6﴾ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴿7﴾ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴿7﴾ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿8﴾ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿9﴾ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿10﴾ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴿11﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿12﴾ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ﴿14﴾ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴿15﴾ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴿16﴾ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴿17﴾ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿18﴾ لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ﴿19﴾ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿20﴾ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿21﴾ وَحُورٌ عِينٌ ﴿22﴾ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴿23﴾ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿24﴾ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ﴿25﴾ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴿26﴾ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴿27﴾ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴿28﴾ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴿29﴾ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴿30﴾ وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ ﴿31﴾ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ﴿32﴾ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ﴿33﴾ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴿34﴾ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً ﴿35﴾ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴿36﴾ عُرُبًا أَتْرَابًا ﴿37﴾ لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿38﴾ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ﴿39﴾ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴿40﴾ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴿41﴾ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ﴿42﴾ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴿43﴾ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴿44﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴿45﴾ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ﴿46﴾ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿47﴾ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴿48﴾ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ﴿49﴾ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴿50﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ﴿51﴾ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ﴿52﴾ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿53﴾ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ﴿54﴾ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴿55﴾ هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿1﴾ " أيْ اذكروا أيّها الناس حينما تَحدث الحَادِثَة ، وهي حادثة يوم القيامة ، والواقعة من أسمائه المتعدِّدة ، وسُمِّيَت بذلك لأنها واقِعَة حتما بلا أيّ شكّ وهي قريبة الوقوع حيث كل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد ولأنها يَقع فيها وَقائع كثيرة كلها مَصائب وشرور وتعاسات للمُسِيئين وبَشائر وخيْرات وسعادات للمُحسنين ، وبالتالي فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴿2﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ للآية السابقة أنَّ حدوث يوم القيامة صِدْق بلا أيّ كذب ، أيْ ليس لوقوع الواقِعَة تكذيب وليس لحدوثها شخصية كاذبة تُكَذّبها كما كانت تُكَذّب بها في الدنيا حيث حينها سيُصَدِّقها الجميع لَمَّا يرونها واقِعَة أمام أعينهم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحدوث العذاب
ومعني " خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴿3﴾ " أيْ هي تُخْفِض وتُنْزِل وتُهِين وتُذِلّ التُّعَسَاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار إلي أسفل درجات النار علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. وتَرْفَع وتُكْرِم وتُشَرِّف وتُعْلِي إلي أعلي درجات الجنة السعداء الذين آمنوا بربهم وتمسَّكوا وعملوا بأخلاق إسلامهم .. بكل عدلٍ من الله تعالي أعدل العادلين لكلٍّ من الفريقين دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا تشجيعٌ للصالحين للاستمرار علي حالهم الصالح السعيد والازدياد منه وتهديدٌ وتحذيرٌ للفاسدين التعيسين لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحدوث العذاب
ومعني " إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ﴿4﴾ " ، " وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ﴿5﴾ " ، " فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا ﴿6﴾ " أيْ اذكروا حين سَتُرَجّ الأرضُ أيْ تتحرّك وتَضطرِب وتَتزلزل تحرّكاً واضطراباً وزلزالاً شديداً متكرِّرَاً مُخِيفَاً .. وفُتِّتَت الجبال تَفْتيتاً دقيقاً .. فصارت غُباراً مُنْتَشِرَاً مُتَطَايِرَاً .. حينها ستَقع الواقعة وسيَحدث الانخفاض والارتفاع للسعداء وللتعساء ولمُكوِّنات الأرض وللكوْن كله حيث ستَتَبَدَّل الأشياء استعدادا للآخرة .. فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴿7﴾ " أيْ وصِرْتُم أيّها الناس في هذا اليوم الهائل الشديد الثقيل المُخيف العَسير الطويل التعيس علي المُسِيئين ، الخفيف اليَسير السريع السعيد علي المُحسنين ، أصنافا ثلاثة ، على حسب أعمالكم في الدنيا من خيرٍ أو شرّ ، وهم أصحابُ المَيْمَنَة ، وأصحاب المَشْأمَة أيْ الشِّمال والشّؤْم أيْ الشرّ ، والسَّابقون
ومعني " فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿8﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ للأصناف الثلاثة ، فأمّا أصحاب اليمين وهم الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليمين ويَأخذون بأيديهم اليُمني الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم وكلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة وهم أهل الجنة .. " .. مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿8﴾ " أيْ ما هُم ؟ أيّ شيءٍ هُم ، في حالهم وصِفَتهم ؟ والاستفهام للتعظيم والتفخيم .. أيْ فَهُم في غاية حُسن الحال .. إنهم ما أسعدهم وما أعظم ثوابهم ومكانتهم عند الله ، حيث هم فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عَقَل بَشَر .. ولم يذكر سبحانه تفصيل حالهم واكتفي بلفظ " ما " الذي هو استفهام يُفيد التَّعَجُّب والتعظيم لشأنهم ليَسبح الخيال العقليّ كيفما يشاء في سعاداتهم الغامِرَة المتنوِّعَة التي لا تُوصَف
ومعني " وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿9﴾ " أيْ وأمّا أصحاب المَشْأَمَة ، وهم الصِّنْف الثاني ، أيْ أصحاب الشِّمَال الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليَسار ويَأخذون بأيديهم اليُسري الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم ويظهر عليهم تمام الشّؤْم أيْ الشرّ بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة وهم أهل النار .. " .. مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿9﴾ " أي ما هُم ؟ أيّ شيءٍ هُم ، في حالهم وصِفَتهم ؟ والاستفهام للتهويل وللتحقير .. أيْ فَهُم في غاية سوء الحال .. إنهم ما أتعسهم وما أعظم عذابهم وأسوأ مَكَانتهم عند الله تعالي .. ولم يذكر سبحانه تفصيل حالهم واكتفي بلفظ " ما " الذي هو استفهام يُفيد التَّعَجُّب والتهويل لشأنهم الفظيع في سوئه والتحقير الشديد لمَكَانهم ليَسبح الخيال العقليّ كيفما يشاء في تعاساتهم الغامِرَة المتنوِّعَة التي لا تُوصَف .. إنهم علي العكس تماماً من حال الصِّنْف الأول
ومعني " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿10﴾ " ، " أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴿11﴾ " ، " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿12﴾ " أيْ والصِّنْف الثالث هم السابقون إلى الخيرات في الدنيا أيْ الذين سَبَقُوا غيرهم إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ ، هؤلاء هم السابقون إلى الدرجات العُلَا في الآخرة .. وهؤلاء هم المُقَرَّبون عند الله تعالى قُرْبَاً لا يُوصَف ولا يَعرف أحدٌ مقداره من عظمته وعُلُوّ مكانته بما يَدلّ علي تمام الحبّ منه والتقدير والتنعيم والعطاء لهم ، إضافة إلي قُرْبهم الذي كانوا فيه وتَمَتَّعوا به دوْما في دنياهم بسبب سَبْقهم هذا .. وهؤلاء هم الذين يُدخلهم سبحانه يوم القيامة في جنات النعيم أيْ في بساتين وقصور ليس فيها إلا النعيم التامّ الخالد حيث ما لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، إضافة قطعا إلي سعادة الدنيا التي كانوا فيها وكأنها كالجنة بسبب خَيْرهم .. هذا ، وقد أخَّرَ تعالي ذِكْرَهم رغم أنهم في درجةٍ أعلي من أصحاب المَيْمَنَة وذلك للتشويق إلى معرفة أحوالهم وما أعَدَّه لهم من ثوابٍ عظيم من أجل الاقتداء بهم والتشجيع علي فِعْل مثلهم .. هذا ، وتكرار اللفظ يُفيد أيضا مزيدا من التأكيد علي عِظَم حالهم وشَرَف قَدْرهم وسَبْقهم أيْ أنَّ حالهم قد بَلَغَ مُنتهىَ الرِّفْعَة بحيث لا يَجِدُ مَن يريد التَّحَدُّث عنهم إلا اسم " السابقون " إذ قد تَعَذّر التعبير بغير ذلك الوَصْف !
أمَّا معني " ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ " ، " وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ﴿14﴾ " أيْ هؤلاء السابقون المُقَرَّبون هم ثُلَّة ، أيْ مجموعة من الناس سواء كثرت أم قَلّت ، من الأوَّلِين أيْ المُتَقَدِّمين منذ آدم عليه السلام حتي زمنَ الرسول الكريم محمد ﷺ ، أو مِمَّن كانوا في بداية عهده ﷺ من الصحابة الكرام والتابعين لهم القريبين لزمنهم .. " وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ﴿14﴾ " أيْ والسابقون المُقَرَّبون هم أيضا قليل من الآخرين أيْ الذين بعده ﷺ وصحابته في كلِّ زمنٍ حتي يوم القيامة .. والمقصود من الآيتين الكريمتين أنَّ السابقين المُقربين – والذين هم في أعلي درجات الجنات مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين – أعدادهم قليلة نسبة إلي عموم أهل الجنة في درجاتها المُتَعَدِّدَة وهم أصحاب اليمين الذين سيأتي ذِكْرهم لاحقا في الآية ﴿28﴾ من هذه السورة الكريمة .. ومقصود ذلك دَفْع وتشجيع كل الناس ليزيدوا هِمَمَهم ما استطاعوا وليتنافسوا ليكونوا جميعا من السابقين المقربين لينالوا مثل أجرهم العظيم ، وذلك بالاجتهاد التامِّ والدائم في فِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴿15﴾ " ، " مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴿16﴾ " أيْ مِن علامات تكريمهم وتمام نعيمهم وراحتهم أنهم يجلسون في تمام الاسْتِجْمَام والراحة علي سُرُر – جمع سرير – موضونة أيْ مَنْسُوجَة ومُضَفَّرَة بإتقانٍ وإحكامٍ وجَمَال ، وهذه الضفائر مُزَيَّنَة ومُشَبَّكَة بأفخم وأجمل أنواع الزينة من ذهبٍ وفضة وغيرهما بحيث يُوضَع عليها المفروشات والوَسَائِد المُريحة الفَخْمة المُبْهِجَة .. " مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴿16﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلْسَةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التمتع بالراحة والاسترخاء ، علي هذه السُّرُر ، مُتقابلين أي يُقابِل بعضهم بعضا وإذا أراد أحدٌ مقابلة آخر وزيارته يجده في مُقَابَلَتِه وأمامه ، والمقصود أنه لا يوجد أيّ تَعَبٍ في الانتقال والزيارة وعَقْد المُقابَلات والحفلات للتّسامُر ولتمام السعادة
ومعني " يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴿17﴾ " أيْ يَدُور عليهم خَدَمُهم وهم وِلْدان أيْ شباب مُخَصَّصُون لخدمتهم مُخَلّدون أيْ دائمون بلا نهايةٍ علي الطواف عليهم وبصفةٍ واحدة بلا أيِّ تغييرٍ فلا يَشِيخُون ولا يَضعفون بل هم دوْما في سنِّ قوةٍ وحركةٍ وفي حُسْنِ مَظْهَرٍ وجودةِ وتمامِ خدمةٍ .. هذا ، وليس في الجنة قطعا تَعَب ولا حاجة لخدمةٍ لأنّ المطلوب من أيّ نعيمٍ يتحقّق بمجرّد تَمَنِّيه ولكنَّ وجود الخدم يدلّ على تكريمهم وتشريفهم وكمال راحتهم وكثرة نعيمهم وتمامه
ومعني " بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿18﴾ " أيْ هؤلاء الخَدَم يَطوفون عليهم بأشكالٍ مختلفةٍ من الأوعية كالأكواب المعروفة وكالأباريق وهي التي لها يد من ناحية وفتحة وخرطوم ينزل منه السائل من ناحية أخري وكالكؤوس وهي التي لها قاعدة مرتفعة غالبا ، ونحو هذا من أوعيةٍ فَخْمَةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وغيرهما ، وكلها مَليئةٍ بكلّ أنواع الشراب الكثير المُتَنَوِّع الفَخْم اللذيذ المُمْتع المُسْعِد .. والمَعِين هو الماء الجاري الظاهر ، والمقصود أنَّ كلّ أنواع المشروبات جاريَة حاضِرة مُتَوَفّرة بكثرةٍ وعند الطَلَب وحسب المطلوب وبلا أيّ جهد ولا تنتهي ، وهي مشروبات لوْنها صافٍ مُشْرِقٍ حَسَن مُبْهِج مِن أحسن الألوان وأفضلها ، وهي أيضا تُعطِي لذّة أيْ مُتْعَة مُسْعِدَة لشاربها أثناء الشرب وبَعْده بسبب طِيب لونها وطعمها ورائحتها ومَلْمَسها وكلّ مواصفاتها
ومعني " لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ﴿19﴾ " أيْ لا يُصِيبهم صُدَاعٌ أو ما يُشبهه من أيِّ تَعَبٍ أو إيذاءٍ عن طريقها أيْ بسبب شُرْبها بكلّ أنواعها المختلفة كما يَحدث مع بعض مشروبات الدنيا كالخمور وما شابهها .. " .. وَلَا يُنزِفُونَ ﴿19﴾ " أي ولا يُمكن أبدا أيضا أن تَنْزِف عقولهم وأجسامهم وجهودهم وأملاكهم وغيرها ، أي تُسْتَنْزَف ، أي تُسْتَهْلَك تدريجيا وتَنتهي ، كما هو الحال في دنياهم ، حيث المُسْكِرَات وأشباهها تَسْتَنْزِفُ طاقاتهم ، كما يُثْبِت الواقع ذلك
ومعني " وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿20﴾ " أيْ ويُطاف عليهم كذلك – إضافة إلي ألَذّ الأطعمة والمشروبات المختلفة – بفواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِمَّا يشتهيه الناس ويتمنّونه يأكلون منها هنيئا كيفما يُريدون وحسبما يَختارون .. والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم .. هذا ، وإنْ اشتهوا أحيانا اقتطافها بأيديهم ليتمتعوا ويسعدوا بذلك تقترب لهم علي الفور وبمجرّد تَمَنِّيهم الأغصانُ والثمار
ومعني " وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿21﴾ " أيْ ويُطاف عليهم أيضا بكلّ صنْفٍ من لحم الطيور مِن الذي يَشتهونه ويتمنّونه ويحبونه ويتمتعون ويسعدون به ، علي كل الأشكال سواء أكان مشويا أم مطبوخا أم غيره
ومعني " وَحُورٌ عِينٌ ﴿22﴾ " أيْ وعندهم حورٌ عينٌ ، أيْ وكما أكرمناهم بكلّ النعيم السابق أنعمنا عليهم كذلك بأنْ زوَّجناهم بحورٍ ، جَمْع حَوْراء أيْ بَيْضاء ، عِينٍ ، جمع عَيْناء أي واسعة العين ، والمقصود أنَّ أهل الجنة من الرجال والنساء سيكونون في أعلي درجات الجمال في كلّ شيءٍ والتّمَتّع مِن كلّ شيء
ومعني " كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴿23﴾ " أيْ هؤلاء الحُور العِيِن يُشْبِهْنَ اللؤلؤ المَكنون أيْ المُصَان المَحفوظ المَسْتُور المُكَرَّم لنَفَاسَته والذى لم تلمسه الأيدى ويُصْبه الغبار فيتغيَّر بريقه ولَمَعانه وجماله ، بما يدلّ علي تمام صفاء بياضهنَّ وكمال جمالهنَّ
أمَّا معني " جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿24﴾ " أيْ أعطيناهم هذا العطاء العظيم الذي لا يُوصَف جزاءً مناسباً بسبب ما كانوا يعملونه فى دنياهم من أعمالٍ صالحةٍ ويقولونه من أقوالٍ طيِّبَة خَيْرِيَّة
ومعني " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ﴿25﴾ " ، " إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴿26﴾ " أيْ هذا استكمالٌ للنعيم العظيم التامِّ الذي هم فيه حيث لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع التأثيم أيْ كل ما يُوقِع في الإثم أيّ الشرّ والفساد والضَرَر ، ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط قول " سلاما سلاما " أيْ الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو إثمٍ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة .. هذا ، وإعادة ذات اللفظ هو للتأكيد وللإشعار بكثرته بما يدلّ على تمام التحابّ والتقارُب والتلاحُم والتَّأدُّب بينهم
أمَّا معني " وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴿27﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي الحال العظيم السعيد للسابقين المُقَرَّبين بَدَأَ في وَصْف حال أصحاب اليمين أو المَيْمَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من السورة الكريمة ، للشرح والتفصيل) والذين هم أيضا في درجاتٍ من الجنة – وأيّ درجةٍ منها لا يُمكن تَخَيُّل نعيمها – ولكنها ليست كدرجة السابقين لأنَّ أعمالهم لم تكن مثلهم ، ليَتحقّق تمام العدل
ومعني " فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴿28﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لبعض حالهم السعيد ، فهم فى حدائق مُمْتَلِئَة بالشجر الذى ليس فيه شوك وامتلأ بكل أنواع الثمار الطيبة التي تميل بها الأغصان لكثرتها يَتمتعون ويَتلذّذون ويَسعدون بها ، ومن هذه الأشجار شجر السِّدْر وهو النَّبْق الذي له طعم طيب ورائحة طيبة وظل وفير ، وهو مَخْضود أيْ خُضِدَ شَوْكُه أيْ قُطِع وتمَّ استبداله بثَمَرٍ قد خَضَدَ الغُصْنَ أيْ ثَنَاهُ مِن كثرته
ومعني " وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴿29﴾ " أيْ ومن أشجار الجنة التي هم أيضا فيها يَتمتعون ويَتلذّذون ويَسعدون بها الطلح وهو الموز اللذيذ الطعم الذي شجره جميل المَنْظَر ، وهو مَنْضُود أيْ مُرَتَّب ومُنَسَّق وثمره مَصفوف بعضه فوق بعض بشكلٍ جميلٍ مُبْهِج
ومعني " وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴿30﴾ " أيْ وأيضا مِن بعض تَمَتُّعِهم وسعادتهم أنهم في ظلالٍ مُتَّسِعَة مُنْبَسِطَة دائمة لا تَنْكَمِش ولا تَتَغَيَّر ولا تذهب ولا تَنْقطع ولا تزول كظلال الدنيا ، وهي تحمل نسائم مُمْتِعَة ، وهي حاصِلَة من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها وثمارها بمناظرها المُسْعِدَة المُبْهِجَة
ومعني " وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ ﴿31﴾ " أيْ وأيضا مِن بعض تَمَتُّعِهم وسعادتهم أنهم يَتَلَذّذون ويَسعدون بماءٍ كثيرٍ مَصْبُوبٍ يجرى ويَتَدَفّق في جناتهم ينظرون إلي منظره المُبْهِج ويشربون منه ويتعاملون معه ويأخذون منه بلا أيّ جهدٍ أو تَعَب
ومعني " وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ﴿32﴾ " ، " لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ﴿33﴾ " أيْ وأيضا مِن بعض تَمَتُّعِهم وسعادتهم أنهم يَتَلَذّذون ويَسعدون في جناتهم – إضافة إلي ألَذّ الأطعمة والمشروبات المختلفة – بفواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِمَّا يشتهيه الناس ويتمنّونه يأكلون منها هنيئا كيفما يريدون وحسبما يختارون .. والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم .. " لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ﴿33﴾ " أيْ لا تَنقطع عنهم فى وقت من الأوقات ولا تمتنع عمَّن يطلبها حين يريدها ، فهي ليست كفاكهة الدنيا أحيانا تكون مقطوعة لأنَّ لها أوقاتا مُعَيَّنَة تظهر فيها ، وأحيانا أخري تكون موجودة لكن يصعب الحصول عليها لامتناع أصحابها عن إعطائها مثلا أو لصعوبة الوصول إليها لكثرة الشوك حولها أو لبُعْد مكانها أو لارتفاع ثمنها أو ما شابه هذا ، بل هي على الدوام موجودة وثمارها قريبة وتكون فورا في مُتَنَاوَل يد مَن يريدها بمجرّد أن يتمنّاها
ومعني " وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴿34﴾ " أيْ وأيضا مِن بعض تَمَتُّعِهم وسعادتهم أنهم يَتَلَذّذون ويَسعدون في جناتهم بأن يجلسوا ويناموا علي مفروشاتٍ عالِيَات ليست علي الأرض بل مرتفعات عنها علي الأَسِرَّة والكراسِي المُتْقَنَة الصُّنْع المُزَخْرَفَة بالذهب والفضة وغيرهما ، وهي مرفوعة بكثرة حَشْوِها زيادة في الاستمتاع بها ، وهي مرفوعة القَدْر والقِيمة لأنها مصنوعة من الحرير مُبَطّنَة به وبالتالي فهي مُريحات نَفِيسات مُزَيَّنات بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة
ومعني " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً ﴿35﴾ " ، " فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴿36﴾ " ، " عُرُبًا أَتْرَابًا ﴿37﴾ " أيْ لقد خَلَقْنَا في الجنة وأوجدنا وأعَدْنَا خِلْقَة نساء أهل الدنيا خَلْقَاً وإنشاءً جميلاً مُسْعِدَاً كاملاً بلا نقصانٍ خالداً بلا نهايةٍ شباباً بلا شيخوخةٍ طاهراً من كل سوءٍ جسديّ أو معنويّ كما كان يُصيبهنّ في دنياهنّ .. وكذلك أيضا خَلَقْنا وابْتَدَعْنَا الحُور العِين خَلْقَاً وإبْدَاعَاً باهراً مُبْهِجَاً (برجاء مراجعة الآية ﴿22﴾ من هذه السورة ، للشرح والتفصيل عنهنّ﴾ .. " فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴿36﴾ " أيْ ولمزيدٍ من السعادة بالاستمتاع الجِنْسِيّ لكلٍّ مِن الرجال وأزواجهنّ ، فقد جعلنا بقُدْرتنا هؤلاء النساء أبكاراً جَمْع بِكْر وهي التي تتزوج وتُجَامَع لأول مرة وكلما تَمَّ الجِمَاع تعود بِكْرَاً من جديد .. " عُرُبًا أَتْرَابًا ﴿37﴾ " أيْ ولمزيدٍ من السعادة لكلٍّ من الرجال وأزواجهنّ فإنَّ مِن صفاتهنَّ أنهنَّ عُرُبَاً جَمْع عَرُوُب وهي المرأة المُتَحَبِّبَة إلى زوجها بحُسن كلامها وحبها وأدبها وهيئتها وجمالها ، كما أنه هو لها أيضا كذلك ، وبالجملة فهنَّ عاشِقات لأزواجهنّ وأزواجهنّ عَوَاشِق لهنّ ، وبالتالي تكتمل سعادة الجميع .. والأتْراب هم المُتَسَاوون في السِّنّ ، فكلٍّ مِن الأزواج والزوجات في عُمْرٍ واحدٍ وهو سِنّ الشباب ، وكذلك هم المُتساوون في كمال وحُسن الخُلُق والصفات ، وبذلك يتحقّق تمام التَّمَتُّع والتفاهُم والتآلُف والتلاحُم والسعادة بينهم جميعا
ومعني " لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿38﴾ " أيْ أنشأناهنّ كذلك – إضافة بالقطع إلي كل النعيم الذي لا يُوصَف والذي سَبَقَ ذِكْره – من أجل أصحاب اليمين ، تكريما وتشريفا لهم وإنعاما عليهم ، وهم الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليمين ويَأخذون بأيديهم اليُمني الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم وكلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة وهم أهل الجنة
ومعني " ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ﴿39﴾ " ، " وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴿40﴾ " أيْ هؤلاء أصحاب اليمين هم ثُلَّة ، أيْ مجموعة من الناس سواء كثرت أم قَلّت ، من الأوَّلِين أيْ المُتَقَدِّمين منذ آدم عليه السلام حتي زمنَ الرسول الكريم محمد ﷺ ، أو مِمَّن كانوا في بداية عهده ﷺ من الصحابة الكرام والتابعين لهم القريبين لزمنهم .. " وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرين ﴿40﴾ " أيْ وأصحاب اليمين هم أيضا ثُلَّة من الآخرين أيْ الذين بعده ﷺ وصحابته في كلِّ زمنٍ حتي يوم القيامة .. والمقصود من هاتين الآيتين الكريمتين مع الآيتين السابقتين " ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ " ، " وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ﴿14﴾ " أنَّ السابقين المُقَرَّبين عند الله تعالي أصحاب المَكَانَة العالية التي لا تُوصَف ، وهم الذين سَبَقُوا غيرهم إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ ، والذين هم في أعلي درجات الجنات مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين ، أعدادهم قليلة نسبة إلي عموم أهل الجنة في درجاتها المُتَعَدِّدَة وهم أصحاب اليمين .. ومقصود ذلك دَفْع وتشجيع كل الناس ليزيدوا هِمَمَهم ما استطاعوا وليتنافسوا ليكونوا جميعا من السابقين المقربين لينالوا مثل أجرهم العظيم ، وذلك بالاجتهاد التامِّ والدائم في فِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
أمَّا معني " وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴿41﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمّا أصحاب الشِّمَال أيْ الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليَسار ويَأخذون بأيديهم اليُسري الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم ويظهر عليهم تمام الشّؤْم أيْ الشرّ بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة وهم أهل النار .. " .. مَا أَصْحَابُ الشِّمَال ﴿41﴾ " أي ما هُم ؟ أيّ شيءٍ هُم ، في حالهم وصِفَتهم ؟ والاستفهام للتهويل وللتحقير .. أيْ فَهُم في غاية سوء الحال .. إنهم ما أتعسهم وما أعظم عذابهم وأسوأ مَكَانتهم عند الله تعالي
ومعني " فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ﴿42﴾ " ، " وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴿43﴾ " ، " لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴿44﴾ " أيْ هم في سمومٍ أيْ ريح شديدة الحرارة تَنْفُذ إلي الجسم من مَسَامِّه فتُؤَثّر فيه مثلما يُؤَثّر السُّمّ بانتشاره به .. وهم أيضا في حميمٍ أيْ ماءٍ مَغْلِيٍّ بَلَغَ أقصيَ درجات السُّخُونَة والغَلَيَان .. " وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴿43﴾ " أيْ وهم كذلك في ظلٍّ من دُخانٍ حَمِيمٍ أيْ شديدِ الحرارة شديدِ السَّوَاد بسبب نار جهنم يَخنق أنفاسهم ويزيدهم عذابا ورُعْبا ، فهو ليس قطعا ظِلَّاً يُسْتَظَلّ به من الحَرّ ! وهذا من باب السخرية منهم والتحقير لشأنهم ، فهم أيضا في ظلٍّ ولكنْ لا مقارنة حتما بينه وبين ظِلِّ أهل الجنة ذي النَّسَائِم والنِّعَم ! .. " لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴿44﴾ " أيْ هذا أيضا مزيدٌ من السخرية منهم والتحقير لشأنهم ، فهذا الظّلّ ليس فيه أيّ شىءٍ مِن بُرُوَدةٍ ولا كَرَم ونَفْع وخيرٍ وحُسْنِ مَنْظَر ، وهذه المُتَطَلَّبَات هي عادة أهم ما يحتاجه مَن يلجأ إليه مِن الحَرّ ! فهم في تمام الحرارة والضَرَر والألم والسوء والتعاسة .. وهذه بعض صور عذاب جهنم
أمَّا معني " إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴿45﴾ " أيْ هذا بيانٌ للأسباب التي أدَّت بهؤلاء التعساء إلي ما هم فيه لكي يتجنّبها صاحب كل عقلٍ سليمٍ حتي يسعد في الداريْن ولا يكون مصيره مثلهم .. أيْ إنهم كانوا قبل ذلك العذاب الذى حَلَّ بهم ، في دنياهم مُتْرَفِين أيْ أغنياء يستخدمون الغِنَيَ والنِعَم في التّعَالِي والظلم والفساد ولا يشكرون الله عليها باستخدامها في كل خيرٍ دون أيِّ شَرّ
ومعني " وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ﴿46﴾ " أيْ ومن الأسباب أيضا أنهم كانوا في دنياهم يُصَمِّمون ويَثْبتون ويَستمرّون بلا أيِّ زَحْزَحَةٍ وبلا أيّ توبةٍ وعودةٍ لربهم ولإسلامهم علي الذنب الكبير الشديد سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿47﴾ " ، " أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴿48﴾ " أيْ ومن الأسباب أيضا أنهم كانوا في دنياهم يَتساءلون مُستنكِرين مُسْتَبْعِدين مُسْتَهزِئين عن كيف يُبْعَثون بعد كوْنهم ترابا وقد تَحَلّلَت أجسامهم وأصبحوا عظاما قد تَفَتَّتَت ؟! وهل حتي الآباء والأجداد الذين ماتوا منذ زمن هائل سيُبْعَثون كذلك ؟! أي لا يُصَدِّقون أبدا ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم .. والسبب في أسئلتهم هذه وما يُشبهها هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ﴿49﴾ " ، " لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴿50﴾ " أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده : إنَّ الأمم السابقة والتى منها آباؤكم وأجدادكم ، والأمم اللاَّحِقَة والتى منها أنتم ومَن بَعْدكم حتي نهاية الحياة الدنيا ، الكلّ حتما بكلّ تأكيدٍ سيُجْمَعون وسيُحْشَرون إلى مكانِ الحسابِ فى وقتٍ واحدٍ مُحَدَّدٍ مُعَيَّنٍ فى علمِ الله تعالى ووَاقِعَاً بلا أيِّ شكّ ولا يَتَقَدَّم ولا يَتَأَخَّر وهو يوم القيامة وبداية الحياة الآخرة ، وعندما يأتى هذا اليوم بقُدْرة الله وإرادته لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ مَنْعه أو تأجيله ، وحينها سيُجَازَيَ أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادةٍ وأهل الشَّرِّ بكلّ شَرٍّ وتعاسة
ومعني " ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ﴿51﴾ " ، " لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ﴿52﴾ " أيْ ثم قُل لهم أيها الرسول الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده علي سبيل الذمّ والتحذير والتهديد الشديد لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ووقوع العذاب ، إنكم بعد انتهاء حسابكم ودخولكم عذاب جهنم أيها الضائعون في دنياهم البعيدون عن طريق الهدي والصدق والعدل والخير الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا بكتبه ولا برسله ولا بآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، ستأكلون حتما بالتأكيد مِن شجرٍ مِن أخْبَث وأسوأ الشجر هو زَقّوم ، وهو كلّ طعامٍ قاتلٍ كريهِ الطعم والرائحة ، وشجرة الزّقّوم هي التي تُنْبِته في النار ليكون نوعاً مِن طعام أهلها لتعذيبهم
ومعني " فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿53﴾ " أيْ ويستمرّون في الأكل من هذه الشجرة الخبيثة حتي تمتلأ بطونهم لمزيدٍ من عذابهم
ومعني " فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ﴿54﴾ " أيْ ويَشربون علي هذا الأكل من الماء المَغْلِيّ الذي بَلَغَ أقصيَ درجات السُّخُونَة والغَلَيَان ، لمزيدٍ من العذاب والألم
ومعني " فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴿55﴾ " أيْ ويستمرّون في الشُّرْب من هذا الحميم شُرْباً كثيرا كما يَشرب الهِيِم جَمْع أَهْيَم وهو مَن كان شديد العَطَش ، لكي يستمرّ ألمهم وعذابهم
أمَّا معني " هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴿56﴾ " أيْ هذا الذي سَبَقَ ذِكْره من أنواع العذاب المُهِين ، وغيره مِمَّا لم يُذْكَر ، هو مَسْكَنهم ومَقَرّهم عند قدومهم يوم الدين أي يوم الحساب والجزاء ، أي اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به .. والنُزُل في الأصل هو الفُنْدُق الذي يُسْتَضَاف ويُكْرَم فيه النَّازِل به حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور ، فهم أيضا لهم نُزُل واسْتِضَافَة ولكنْ في عذاب جهنم حيث تمام الإهانة والإهمال والألم والتعاسة !! وهذا استهزاء بهم وتحقير لشأنهم
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴿57﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿58﴾ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴿59﴾ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿63﴾ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿64﴾ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿65﴾ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿66﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿67﴾ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿68﴾ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿69﴾ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴿71﴾ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴿72﴾ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ﴿73﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿74﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴿57﴾ " أيْ لقد أوْجَدْناكم من عدمٍ أيّها الناس – وكذلك خَلَقْنا كلّ المخلوقات – بقُدْرتنا وكمال عِلْمنا ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر لكلّ مَن تَدَبَّر فيه وكان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، ألَاَ تُصَدِّقون بعد كلّ هذا الإعجاز بوجود الله ؟! ألَاَ تُصدقون بالبعث وبالحساب والعقاب والجنة والنار ؟! فلماذا لا تُصَدِّقون ؟! .. هذا ، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده ، فهو سبحانه يَحثّهم علي التصديق ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما بالتكذيب ، أيْ فَلَوْ تُصَدِّقُون لكانَ خيراً لكم .. أليس الذي خلقكم أول مرة قادر علي أن يخلقكم مرة أخري فيبعثكم ليوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا ؟! أليست الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة كما يُثبت الواقع ذلك ؟! فالله تعالي يُخاطِبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سَهْل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذَن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! .. إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا ! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه
ومعني " أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿58﴾ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴿59﴾ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿63﴾ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿64﴾ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿65﴾ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿66﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿67﴾ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿68﴾ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿69﴾ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴿71﴾ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴿72﴾ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ﴿73﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿74﴾ " أيْ هذه بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، وعلي أنه القادر تمام القُدْرة علي بَعْث البَشَر يوم القيامة من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بالأجساد والأرواح ، وذلك عند تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ، إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته ! .. " أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿58﴾ " ، " أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴿59﴾ " أيْ أخبرونى أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عَمَّا تَقذفونه مِن المَنِىّ ، هل بَصرتم وعَلمتم حاله العجيب المُذْهِل الذي ترونه واقعيا أمامكم ؟! هل أنتم الذين تخلقونه ثم تجعلونه جنينا في الرحم يَتطوّر حتي يُصبح إنسانا مكتملا ؟! لا بالقطع ، ولن يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يقول ذلك ! ولكننا نحن الذين خلقناه وخلقنا الخَلْقَ والكوْن كله ، ولا شكّ أنكم تتأكّدون من ذلك بعقولكم بالفطرة التي بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عَبدتم إذَن غير الله تعالى آلهة أخرى كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ؟! هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقُدْرة عليه والعلم به أم لا ؟! إنكم تعلمون تماما أنها لا تَقْدِر علي أيّ شيءٍ ولم تَخْلق شيئا من الكوْن ترونه أمامكم بل هي مخلوقة مثلكم بل هي أضعف منكم ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فلتُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكلّ حجَجهم الوَاهِيَة حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي .. ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته بهذه التذكرة فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي خَلَق الإنسان فى جميع أطواره .. " نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ " أيْ كما أننا وحدنا لا غيرنا بكمال قُدْرتنا وعِلْمنا أحييناكم وخَلَقناكم وأنشأناكم في بطون أمهاتكم وما زِلْنا نُنْشِيء الحياة أمام أعينكم إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً في المواليد التي تُولَد لكم كلّ لحظة – كما نُبِّهَ لهذا في الآية السابقة – فكذلك نحن وَحْدنا الذين حَكَمْنَا وقَضَيْنا بوجود الموت وقَسَّمْنَاه ووَقّتْنَاه لكي يَتَنَقّل بينكم ، أيْ نُميتكم عند نهاية آجالكم في دنياكم دون اختياركم كما ترون أمواتا منكم نَقبض أرواحهم في كل لحظة ، فلا عَجَب إذَن في أن نُحييكم ونَجمعكم إلى يوم القيامة لحسابكم ولا سبب يدعو إلى الشكّ في هذا الأمر مُطلقا لكلِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي تشهدون مثله لحظيا ! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. " .. وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ " أيْ ولسنا بمَغْلوبين ، أيْ حتما لا يَغلبنا أيّ أحدٍ أو شيءٍ ويَجعلنا عاجزين عن فِعْل أيِّ شيءٍ من ذلك .. " عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ " أيْ ما نحن بمَسْبوقين ، بل قادرين تمام القُدْرة علي أن نَستبدل أشباهكم ، في الدنيا ، بعد موتكم نخلق من ذرِّيَّاتكم وغيركم بَشَرَاً مثلكم كما خلقناكم قبلهم ، وبعد هلاككم إذا أردنا إهلاكم بعذابٍ تستحقونه دنيويّ قبل الأخرويّ كمرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره ويكونوا أفضل منكم يؤمنون بربهم ويعملون بأخلاق إسلامهم .. فانتبهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. ثم في الآخرة ، عندما نبعثكم نستبدلكم بصور وصفات وأحوال مختلفة ، حيث المؤمن يكون علي أحسن حال ، حال الشباب والنضارة والتّمتّع والسعادة ، والكافر يكون علي أسوأ حال ، حال البؤس والذلّة والإهانة والرعب والتعاسة .. " .. وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ " أيْ ونخلقكم في الدنيا فيما لا تعلمونه من أشكال ومخلوقات كأن نجعلكم مثلا قردة أو خنازير كما حدث مع بعض الأمم المُكَذّبة قبلكم كنوع من عذابها في دنياها ، ونخلقكم في الآخرة فيما لا تعلمونه من مواصفات وأماكن وأجواء ودرجاتِ عذابٍ للكافرين ونعيمٍ للمؤمنين وما شابه هذا .. إنكم لا تعلمون تفاصيل تلك الأحوال التي نُنْشِئكم فيها في دنياكم وأخراكم .. فنحن قادرون علي كلّ شيءٍ عالِمون بكلّ شيء ، في الدنيا والآخرة .. " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾ " أيْ وبالتأكيد علمتم وعرفتم ورأيتم وأدركتم الخِلْقَة الأولي حيث خلقناكم من نُطْفَةٍ تعرفونها هي المَنِيّ ثم من أطوار مختلفة داخل أرحام أمهاتكم حتي صِرْتُم بَشَرَا ، لقد أوْجَدْناكم من عدمٍ أيّها الناس – وكذلك خَلَقْنا كلّ المخلوقات – بقُدْرتنا وكمال عِلْمنا ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر لكلّ مَن تَدَبَّر فيه وكان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، ألَاَ تَتَذَكَّرون ذلك وتَتَدَبَّرونه وتُصَدِّقون بعد كلّ هذا الإعجاز بوجود الله ؟! ألَاَ تُصدقون بالبعث وبالحساب والعقاب والجنة والنار ؟! فلماذا لا تُصَدِّقون ؟! .. هذا ، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده ، فهو سبحانه يَحثّهم علي التَّذَكّر والتَّدَبُّر والتصديق ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما بالنسيان والتكذيب ، أيْ فَلَوْ تَتَذَكَّرون وتُصَدِّقُون لكانَ خيراً لكم .. أليس الذي خلقكم أول مرة قادر علي أن يخلقكم مرة أخري فيبعثكم ليوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا ؟! أليست الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة كما يُثبت الواقع ذلك ؟! فالله تعالي يُخاطِبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سَهْل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذَن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا ! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه .. " أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿63﴾ " ، " أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿64﴾ " أيْ أخبرونى أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عَمَّا تَحْرثون أيْ عن شَقِّكم الأرض وتَقْلِيبها ووَضْع البِذْر فيها من أجل زراعتها ، هل بَصرتم وعَلمتم حاله العجيب المُذْهِل الذي ترونه واقعيا أمامكم ؟! هل أنتم الذين تُنبتونه وتجعلونه زرعا مُثْمِرَاً نافعا ؟! لا بالقطع ، ولن يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يقول ذلك ! ولكننا نحن الذين زرعناه ونَمَّيْناه وخَلَقنا ثماره ، ولا شكّ أنكم تتأكّدون من ذلك بعقولكم بالفطرة التي بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عَبدتم إذَن غير الله تعالى آلهة أخرى كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ؟! ولماذا لا تُصَدِّقون بالبَعْث إذَن ؟! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي يزرع الزرع ويُنْبِته ويُثْمِره .. " لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿65﴾ " أيْ نحن أنْبتناه بقُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم ولو أردنا لجعلنا بكل تأكيد هذا النبات حُطَاماً أىْ مُكَسَّرَاً مُفَتَّتَاً هالِكَاً لا نفع فيه بإصابته بريح أو مرضٍ أو نحوه حينما نريد ذلك ، فظَلَلْتم حينها وصِرْتُم وبَقِيتم بسبب ما أصاب زرعكم من هلاكٍ تَفَكَّهُونَ أىْ تَتَعَجَّبُون مِمَّا أصابه وتَتَحَسَّرون وتندمون وتحزنون على ضياع أموالكم وجهودكم التي بذلتموها فيه بلا فائدة .. والتَّفَكّه في الأصل هو التَّنَقّل فى الأكل من فاكهةٍ إلى أخرى ، ويُستخدم بمعني التنقل من حديث إلى آخر ، وهو يشمل أيضا معاني مُتَضَادَّة كالفكاهة أيْ السرور وكالتَّعَجّب والنَّدَم والحَسْرَة والحُزْن ، وبالتالي فهو يعني هنا ما يكون بينهم من أحاديثهم المُتنوِّعَة المُتَعَجِّبة المُتَحَسِّرَة النادِمَة الحزينة بعدما أصابهم من هلاكِ زَرْعهم وزوالِ فكَاهتهم وسعادتهم .. فتَنَبَّهُوا إذَن لقُدْرتنا هذه .. واعبدونا وحدنا واشكرونا وتوكّلوا علينا .. وتَذَكَّروا دائما أنَّ القادرَ علي زراعته وتحطيمه وإماتته وإعادة زراعة مثله قادرٌ حتماً علي بَعْثكم ! وقادرٌ أيضا علي إهلاككم في دنياكم بسبب شروركم ومَفاسدكم وأضرار ؟! فتَدَبَّروا في كلّ ذلك يا أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة !! .. " إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿66﴾ " أيْ تقولون حينها بحَسْرَةٍ ونَدَم ، إننا بكل تأكيدٍ مُصابون بالغُرْم وهو ذهاب المال بلا مُقابِل ، وبالاحتياج والفقر ، وبالغَرَام أيْ العذاب ، بسبب ما أصاب زرعنا وهلاك أرزاقنا .. " بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿67﴾ " أيْ وتقولون أيضا أننا لسنا فقط مُغْرَمِين ولكنّنا كذلك مَمْنُوعون من منافع وسعادات هذه الأرزاق .. " أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿68﴾ " ، " أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿69﴾ " أيْ أخبرونى أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عن الماء الذي تَشربونه ويَشربه كلّ حيٍّ وكلّ زَرْع وبدونه لا حياة لكم ، هل بَصرتم وعَلمتم حاله العجيب المُذْهِل الذي ترونه واقعيا أمامكم ؟! هل أنتم الذين أنزلتموه من المُزْنِ أيْ السحاب بعد تكوينه فيه ليصبح ماء نافعا ؟! لا بالقطع ، ولن يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يقول ذلك ! ولكننا نحن الذين خَلَقناه وصَنَعناه وأنزلناه ، ولا شكّ أنكم تتأكّدون من ذلك بعقولكم بالفطرة التي بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما دام الأمر كما تَعرفون ، فلماذا عَبدتم إذَن غير الله تعالى آلهة أخرى كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ؟! ولماذا لا تُصَدِّقون بالبَعْث إذَن ؟! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي يخلق الماء ويُنزله .. " لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾ " أيْ نحن أنْزلناه بقُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وأبقيناه لكم عَذْبا نافعا رحمة بكم ولو أردنا جعلناه أجاجا أيْ شديد المُلُوحَة والمَرَارَة معا فلا يُفيد في شُرْبٍ ولا زرع بل يكون ضارا مُهْلِكَاً ، حينما نريد ذلك .. " .. فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾ " أيْ ألَاَ تشكرون ذلك ؟! ألا تَتَدَبَّرونه وتُصَدِّقون بعد كلّ هذا الإعجاز بوجود الله ؟! ألَاَ تُصدقون بالبعث وبالحساب والعقاب والجنة والنار ؟! فلماذا لا تُصَدِّقون ؟! .. هذا ، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده ، فهو سبحانه يَحثّهم علي الشكر والتَّذَكّر والتَّدَبُّر والتصديق ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما بنُكْران النِّعَم وبالنسيان وبالتكذيب ، أيْ فَلَوْ تشكرون وتَتَدَبَّرون وتَتَذَكَّرون وتُصَدِّقُون لكانَ خيراً لكم .. أليس القادر علي كل ذلك قادر علي أن يخلقكم مرة أخري فيبعثكم ليوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا ؟! إنَّ القادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. هذا ، والشكر يكون بالعقل باستشعار قيمة النِّعم وباللسان بحمده تعالي وبالعمل باستخدامها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، فبذلك سيَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. " أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴿71﴾ " ، " أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴿72﴾ " أيْ أخبرونى أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عن النار التي تُوقِدون وتُشْعِلون وتَنتفعون بها في التدفئة والطهي والصناعة ونحو هذا ، هل بَصرتم وعَلمتم حالها العجيب المُذْهِل الذي ترونه واقعيا أمامكم ؟! هل أنتم الذين خَلَقْتم الشجر الذي يُوقدها ؟! لا بالقطع ، ولن يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يقول ذلك ! ولكننا نحن الخَالِقون المُوجِدُون المُنْبِتُون له ، ولا شكّ أنكم تتأكّدون من ذلك بعقولكم بالفطرة التي بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما دام الأمر كما تَعرفون ، فلماذا عَبدتم إذَن غير الله تعالى آلهة أخرى كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ؟! ولماذا لا تُصَدِّقون بالبَعْث إذَن ؟! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي يَخْلق الشجر ويُخْرِج منه النار عند إشعال المواد التي خَلَقَها فيه ومُجَهَّزَة لذلك .. " نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ﴿73﴾ " أيْ نحن جعلنا نار الدنيا موعظة لنار الآخرة وتذكيراً بها والتي لا يُمكن المُقَارَنَة بينهما ، ليَتَّعِظَ بذلك الناس فيَتَجَنَّبوها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن تمام السعادة ولا يتعسوا فيهما .. وكذلك جعلناها منفعة وسعادة للمُقْوِين أيْ للمُحتاجين لها المُسْتَمْتِعِين بها بكل صورها في كل شئون حياتهم المختلفة كالطهي والتدفئة والإضاءة ونحو هذا .. " فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿74﴾ " أيْ فبالتالي وبَعدَما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل ومُعجزات تدلّ علي تمام قُدْرته تعالي وكمال علمه وواسع رحمته وكرمه وفضله ، فسَبِّح إذَن يا كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ باسْم ربك أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك ، العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة ، فسَبِّحوه تعالي أيها الناس ، سَبَّحوه بكل أسمائه وصفاته ، أيْ نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴿79﴾ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴿81﴾ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴿82﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴿79﴾ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ سابقا من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ فلا داعي أنْ أقْسِم ! أنَّ القرآن كريم ! كما سيأتي في الآية ﴿77﴾ ، وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! .. أيْ أقْسِم بمواقع النجوم وهي أماكنها ومَدَارَاتها في السماء ، ولقد أقْسَمَ سبحانه بها للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل حيث كلّ نجمٍ من هذه النجوم الهائلة العَدَد فى الفضاء له مجاله الذى يتحرك فيه دون صدامٍ مع غيره .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ مواقع النجوم .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، فهو سبحانه يُقْسِمُ بالنجوم التي تَظهر في السماء مساءً تتَلألأ وتُزَيِّنها وتُسْعِد العقول ويَهتدي به الناس في بعض تحرّكاتهم وتنقّلاتهم برا وبحرا ، والمقصود التذكرة بتمام قُدْرة الله تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ " أيْ وإنَّ هذا القَسَم الذي أقْسَمْتُ به هو بكلّ تأكيدٍ قَسَم عظيم لو تعلمون عظمته لَعَظّمْتُم حتما الذي يُقْسَم عليه وهو ما في الآية القادمة وهو القرآن الكريم ، وفي هذا حَثّ علي تعظيمه والعمل بكل أخلاقه لِتَتِمّ سعادة الداريْن .. " إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴿77﴾ " أيْ إنَّ هذا الذي يُتْلَيَ عليكم هو بكلّ تأكيدٍ قرآن أيْ كتاب مَقْرُوء نَفِيس عظيم رفيع القَدْر كامل الصدق فيه كل خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بكل أخلاقه ، وليس كما يَدَّعِي المُكَذّبون شِعْرَاً أو سِحْرَاً أو خُرافاتٍ أو كَتَبَه بَشَر أو ما شابه هذا من ادِّعاءاتهم الكاذبة .. " فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ " أيْ في كتابٍ عند الله تعالي لا يَعلم وَصْفه إلا هو سبحانه بكمال عِلْمه مُصَانٍ مَحفوظٍ مَسْتُورٍ مُكَرَّمٍ مُعَظّمٍ لنَفَاسَته لا يُمكن أن يصيبه أيّ تغييرٍ بزيادةٍ أو نُقْصَان ، وهو الذي يُسَمَّي اللّوْح المَحفوظ .. والآية الكريمة تشمل أيضا القرآن الكريم الذي بين أيدي البَشَر في دنياهم حيث هو أيضا محفوظ تماما من أيِّ تحريفٍ بحِفْظه سبحانه له ثم بجهود المسلمين .. " لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴿79﴾ " أي لا يَلْمس هذا اللوح المحفوظ في السماء المَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام إلاّ مَن يَأذن له مِن الملائكة وهي المُطَهَّرَة مِن الشرور لتَنْزِل بما يأمرها به مِن إسلامٍ بما يُناسب كلّ عَصْرٍ علي رسله ليُبَلِّغوه للناس حولهم ، وهذا رَدّ علي مَن يَدَّعِي مِن المُكَذّبين المُستكبرين أنَّ اللّوْح المحفوظ يُصيبه تحريف وتبديل إذ لا أحد يمكنه مَسّه .. وكذلك من معاني الآية الكريمة أنَّ القرآن الكريم وهو آخر كتبه تعالي والذي بين أيدي البَشَر الآن لا يَمَسّه أيْ لا يَلْمس ويُحِسّ ويَجد منافعه وسعاداته ويَأخذ ويَنال منها ولا يُوَفّق للعمل به ويُيَسَّر له ذلك مِن ربه ولا يَمَسّ ويُحَصِّل ثوابه – وكذلك كانت كل كتبه السابقة بالنسبة للسابقين – إلاّ المُطَهَّرون أيْ المؤمنون الذين اختاروا بعقولهم الإيمان بالله واتِّباع إسلامه حيث هم قد طَهَّروا أنفسهم من اختيار الكفر وهو عدم التصديق بوجود الله ومِن الشرك وهو عبادة غيره كصنمٍ أو نحوه ومِن النفاق وهو إظهار الخير وإخفاء الشرّ ومِمَّا شابه هذا من شرور .. وكلما اجتهد المؤمن في تطهير ذاته بترك كلّ شَرٍّ وفِعْل كل خيرٍ كلما كَشَفَ الله له معاني أكثر منه وعاوَنه علي فَهْمه والعمل به أكثر فسَعِدَ بالتالي أكثر في الداريْن .. وكذلك من معاني لا يَمَسّه أيْ لا يَلْمس المُصحف إلا مَن كان طاهراً من الجنابة وذلك احتراما وتعظيما له .. " تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ " أيْ هذا القرآن الكريم هو مُنَزَّل مِن ربِّ العالمين – أي مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – لا مِن عند أحدٍ غيره كما يَدَّعِي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ، وليس شِعْرَاً أو سِحْرَاً أو خُرافاتٍ أو كَتَبَه بَشَر أو ما شابه هذا من ادِّعاءاتهم الكاذبة ، بل فيه كلّ صدقٍ وخيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بكل أخلاقه .. " أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴿81﴾ " أيْ هل بهذا الكلام الذي في القرآن العظيم – والذي هو يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تماما في دنياكم وأخراكم أيها الناس – أنتم مُدهنون ، مِن المُدَاهَنَة أو الإدْهَان وهي دَهْن الجِلْد بدهانٍ مَا لتَلْيِينه ولإخفاء شيءٍ ما ، أيْ هل أنتم مُكَذّبون به مُشركون مُنافقون تُظهرون اللَّيِن لتُخْفُوا بداخل عقولكم الكفر والشرك والنفاق ؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للكافرين أيْ الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وللمشركين أيْ الذين يعبدون غيره كصنمٍ أو نحوه وللمنافقين أيْ الذين يُظهرون الخير ويُخفون الشرّ ، ولِمَا شابَهَ هذا من شرور ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. هذا ، والخطاب أيضا هو للمؤمنين ليَحذروا تمام الحَذَر مِن التَّشَبّه بهم ، ولكي يبتعدوا تماما عن المُداهنة وهي التَّهَاوُن والتَّرَاخِي في اتِّباع هذا القرآن العظيم ، ويَتَمَسَّكوا ويعملوا بقوةٍ واهتمامٍ بكل أخلاقه لتتحقّق لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وكذلك يمتنعون تماما عن إلاَنَة القول للمُكَذّبين وتَرْك العمل ببعض أخلاق الإسلام مُسَايَرَةً لهم ومُنَاصَرَةً ومُسَاعَدَةً علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولتحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. أمَّا المُدَارَاة وهي بعض الكلام اللّيِّن غير المُضِرّ والتَّنازُل عن بعض الحقوق لهم أحيانا دون ضَرَرٍ ليُدَارِي ويُخْفِي مَن يَفعل ذلك في مُقابله حفظ شيءٍ من الإسلام وتحقيق حُسْن دعوتهم له ، فهي مطلوبة ولها ثوابها العظيم .. " وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴿82﴾ " أيْ وأيضا وإضافة إلي أنكم مُدْهِنون فأنتم تجعلون بَدَلَ شُكر رزقكم الذي يرزقكم الله إيّاه بكل أنواعه والذي لا يُحْصَيَ والذي من المُفْتَرَض أن يزيدكم حبا وشكرا له وارتباطا به وتوكّلا عليه فيَزيدكم بالتالي من كل خيرٍ وسعادة ، تجعلون بَدَلَ كلّ هذا أنكم تُكَذّبون بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ! .. ومن أعظم هذه الأرزاق لكم القرآن الكريم الذي يُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بكل أخلاقه لكنكم تجعلون شكركم لهذه النعمة العظيمة بأنْ تُكَذّبوا به ولا تعملوا بما فيه ! .. كذلك تجعلون أسلوب حصولكم علي رزقكم هو الكذب والشرّ والفساد والضَرَر بما يُتعسكم في الداريْن بَدَلاً من الصدق والخير والصلاح والنفع والذي يُسعدكم فيهما ! .. إنكم تجعلون شكر إحساني إليكم إساءة منكم إليّ فهل بمثل إساءاتكم هذه تُقَابِلون نِعَمي وأفضالي ورحماتي عليكم ؟! .. إنكم من مُدَاوَمتكم علي الكذب فكأنه أصبح هو غذاؤكم ورزقكم ! .. وفي هذا ذمّ ولوْم شديد ورفض تامّ وتعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي فيه مَن يَفعل ذلك .. فلْيَتَجَنَّبه إذَن كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ليَسعد في دنياه وأخراه
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴿83﴾ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴿84﴾ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴿85﴾ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴿86﴾ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿87﴾ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿88﴾ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴿89﴾ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿90﴾ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿91﴾ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ﴿92﴾ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴿93﴾ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴿94﴾ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴿95﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿96﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴿83﴾ " ، " وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴿84﴾ " ، " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴿85﴾ " ، " فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴿86﴾ " ، " تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿87﴾ " أيْ فإذا وَصَلَت الروح للحَلْق وهو آخر الفم ، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده ، فهو سبحانه يَحثّ الناس جميعا علي الاعتبار مِن هذا الموقف الذي يرونه أمامهم عند خروج روح مَن هو في لحظات الموت ودخول القبر حيث سيكون له حساب مَبدئيّ قبل الحساب النهائي الأخرويّ لأقواله وأفعاله وبعض العذاب للمُسِيء وبعض النعيم للمُحْسِن ، وذلك لكي يُحسنوا الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما بنسيان ذلك أو الاستهانة به أو تكذيبه ، أيْ فَلَوْ تَعتبرون وتَتذكّرون وتَهْتَمّون وتُصَدِّقون لكانَ خيراً لكم .. كذلك هو حثّ للمُكَذّبين بالله ولقائه بعد الموت وحسابه علي أنه إذا بلغت روح أحدكم الحُلْقوم عند موته وأنتم حضور حوله فأمسكوا إذَن روحه في جسده بحيث لا تخرج وامنعوا أمر الله بخروجها وأطِيلُوا عمره !! إنكم لن تستطيعوا حتما هذا فأنتم عاجزون تماما عنه !! وفي هذا ذمّ ولوْم شديد ورفض تامّ وتعَجُّب من حال التكذيب السَّيِّء الذي هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون إلي ربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما .. " وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴿84﴾ " أيْ فإذا وَصَلَت الروح للحَلْق وحالكم أنكم أيها المُحيطون تُبْصِرون مَن يموت وتخرج روحه وهو فى تلك الحالة وتَنتظرون خروجها بأمر خالقها ولا تملكون فِعْل أيّ شيءٍ له أمام هذا الموقف .. " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴿85﴾ " أيْ وفى هذه الحالة وغيرها نحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقُدْرتنا وبملائكتنا حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه وإنما أنتم تشاهدون فقط ما هو ظاهر لكم ولا تُدركون ما وراءه لجهلكم بقُدْرتنا التامّة وبشئوننا معه ، وكذلك لا ترون ملائكتنا التي تَقْبِض روحه والتي هي أيضا أقرب إليه منكم حتما .. " فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴿86﴾ " ، " تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿87﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الحَثِّ للمُكَذّبين – لإظهار تمام عَجْزهم واستسلامهم – علي أنهم إن كانوا كما يَدَّعُون غير مُحَاسَبِين غير مُجَازِين غير مَمْلوكِين لله غير مُستسلمين لأمره في تقديراته في كوْنه وفي بَعْثه للناس يوم القيامة بعد موتهم بالأجساد والأرواح لحسابهم وجزائهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة ، إنْ كانوا كذلك ، وهم بالقطع ليسوا أبدا هكذا حيث الكلّ مَبْعُوث مُحَاسَب خاضع لله تعالي ، فليقوموا إذَن بإرجاع الروح إلي الجسد عند خروجها ومنع أمره بهذا إن كانوا صادقين في أنهم غير مَدِينين له تعالي بأعمالهم وأقوالهم فلا يُحاسبهم عليها بعد بعثهم غير مَرْبُوبين له أيْ هو ليس ربهم أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعِيهم وليسوا تحت تمام قُدْرته وعلمه وسلطانه وتَصَرّفه !!
أمَّا معني " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿88﴾ " ، " فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴿89﴾ " أيْ هذا بيانٌ لأحوال الناس عند موتهم وهم يُوشِكُون علي تَرْك الحياة الدنيا واستقبال بدايات الحياة الآخرة .. أيْ إنْ كان صاحب هذه الرُّوُح التي تُفارِق الحياة من المُقَرَّبين أيْ السابقين إلى الخيرات في الدنيا الذين سارَعوا إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ وهم الذين ذُكِرُوا في الآيتين ﴿10﴾ ، ﴿11﴾ من هذه السورة " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ " ، " أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ " (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ ، فله عندنا عند موته ، ومَرْجِعه ومَصيره ، راحة وطمأنينة لا تُقَارَن ورحمة واسعة تامَّة وفرح وسرور كامل ، وكذلك ريحان وهو الشجر ذو الرائحة الطيِّبة المُسْعِدَة وهو رمز لرائحةٍ طيِّبةٍ من روائح الجنة تأتيه بها الملائكة عند قَبْض روحه ونزول قبره وله رزق واسع مُسْعِد تُبَشِّره به لأنَّ الريحان يعني أيضا الرزق ، وبالجملة له جنات يَنْعَم فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر على عقل بَشَر حيث تَتَنَعَّم روحه فيها إلي أن يأتي يوم القيامة حيث يَتَنَعَّم بنعيمها خالدا بعد بعثه بالجسد والروح معا
ومعني " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿90﴾ " ، " فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿91﴾ " أي وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي الحال العظيم السعيد للمُقَرَّبين بَدَأَ في وَصْف حال أصحاب اليمين أو المَيْمَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من السورة الكريمة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني﴾ والذين هم أيضا في درجاتٍ من الجنة – وأيّ درجةٍ منها لا يُمكن تَخَيُّل نعيمها – ولكنها ليست كدرجة المُقَرَّبين لأنَّ أعمالهم لم تكن مثلهم ، ليَتحقّق تمام العدل .. أيْ وإنْ كان هذا الذي يُوشِك علي الموت من أصحاب اليمين ، فحين موته تَتَلَقَّاه وتُبَشِّره الملائكة بكلّ خيرٍ وتُسَلِّم عليه بالسلام والأمان وتقول له وقتها وعند دخول قبره ومكانه في جنته تكريما وتشريفا وطَمْأَنَة له سلام لك من عند الله أيْ سَلِمْتَ من كلّ سوءٍ وتعاسة ولك منه تمام الخير والسعادة الخالدة لأنك من أصحاب اليمين ، وكذلك له سلام وتحية وتكريم وطمأنة من بقية أهل الجنة من أصحاب اليمين أمثاله عند وصوله إليهم وملاقاتهم
وأمَّا معني " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ﴿92﴾ " ، " فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴿93﴾ " ، " وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴿94﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وإنْ كان هذا الذي يُوشِك علي الموت من المُكَذّبين بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، الضالّين أي الضائعين في دنياهم البعيدين عن طريق الهُدَيَ والصدق والعدل والخير ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، وهم أصحاب الشمال الذي ذُكِرُوا في الآيات ﴿41﴾ حتي ﴿56﴾ من هذه السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. " فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴿93﴾ " أيْ فله عند مُلاقاة ربه يوم القيامة ، وكنوع من أنواع العذاب المُهين وليس كله بالقطع ، وإضافة إلي عذاب خروج روحه وعذاب قبره الذي لا يعلمه إلا الله تعالي ، له في النار نُزُلٌ أيْ مَسْكَنٌ ومَقَرّ هو من حميمٍ أي ماءٍ مَغْلِيٍّ بَلَغَ أقصيَ درجات السُّخُونَة والغَلَيَان .. والنُزُل في الأصل هو الفُنْدُق الذي يُسْتَضَاف ويُكْرَم فيه النَّازِل به حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور ، فهو أيضا له نُزُل واسْتِضَافَة ولكنْ في عذاب جهنم حيث تمام الإهانة والإهمال والألم والتعاسة !! وهذا استهزاء به وتحقير لشأنه .. " وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴿94﴾ " أيْ وله أيضا احتراقٌ وشَوْيٌ لجسده بالجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل
ومعني " إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴿95﴾ " أيْ إنَّ هذا الذى قَصَصْناه عليكم فى هذه السورة الكريمة ، وإنَّ هذا القرآن الكريم كله ، هو بكلِّ تأكيدٍ الصدْق الثابت المُؤَكَّد الذي ليس فيه أيّ شَكّ
ومعني " فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿96﴾ " أيْ فبالتالي وبَعدَما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل ومُعجزات تدلّ علي تمام قُدْرته تعالي وكمال علمه وواسع رحمته وكرمه وفضله ، فسَبِّح إذَن يا كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ باسْم ربك أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك ، العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة ، فسَبِّحوه تعالي أيها الناس ، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته ، أيْ نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿1﴾ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿2﴾ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿4﴾ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿5﴾ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿1﴾ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿2﴾ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿4﴾ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿5﴾ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿6﴾ " أيْ هذا إخبارٌ منه سبحانه عن مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ ، وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿1﴾ " أيْ أنَّ جميع مَن في السماوات والأرض وما في الكوْن كله يُسَبِّح لله تعالي ، أيْ هو يَنْقَاد ويَخضع لإرادته ، أيْ يُؤدّي مهمّته التي خَلَقه من أجلها لنفع الإنسان ولسعادته ، وكل المخلوقات بما فيها مِن عجائب خالِقها تَدْفَع كلّ عاقلٍ لتسبيحه سبحانه حين يُحْسِن التدبّر فيها وتَدْفَعه لأنْ يعبده بالقطع وحده دون غيره ، كما أنها في ذاتها تُسَبِّحه وتحمده علي نِعَمه عليها ، بطريقتها الخاصَّة التي خَلَقها عليها والتي حَوَاسّ البَشَر غير مُؤَهَّلَة لإدراكها كما قال تعالي " .. وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. " ﴿الإسراء : 44﴾ .. " .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿1﴾ " أي هو تعالي الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، وهو في كلّ أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث .. " لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿2﴾ " أيْ هو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، فهو له كلّ الملك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة ، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء ، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار .. " هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿3﴾ " أيْ ومِن بعض صفات كماله الحُسْنَيَ أنه هو سبحانه الموجود سابقا قبل كل شيء لأنه هو خالِقه ومُوجِده ، وهو الباقي مُؤَخَّرَاً بعد فناء كل شيءٍ لأنه هو وَارِثه ، وهو الظاهر في كلِّ شيءٍ مخلوقٍ في الكَوْن حيث كلّ شيءٍ يدلّ علي وجوده وعظمته وكمال قُدْرته وعلمه ويُظْهِر ذلك بكلّ وضوح ، لأنه من المعروف عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ كلَّ مخلوقٍ لا بُدَّ له من خالِقٍ وكلّ موجودٍ لا بُدَّ له مِن مُوجِد ، كما أنه الظاهر بمعني الغالِب لكلّ شيءٍ وفوقه ويَعْلُوه ويَقهره ويَتصرَّف ويَتَحَكَّم فيه تماما ، وهو الباطن الذي لا تُدركه الأبصار ولا تُحيط بحقيقة ذاته العقول والذي يعلم كذلك تماما بَوَاطِنَ وخَفايَا كل شيء ، وعموما فهو عالمٌ حتما بكلّ شيءٍ ظاهرٍ واضح أو باطن خَفِيّ ، وبالجملة فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم سواء أكان ماضيا أم مستقبلا بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه وتعالي أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه .. " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿4﴾ " أيْ أنَّ الله تعالي هو وحده الذي خَلَقَ أيْ أوْجَدَ من عدمٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَمٍ وخَيْرات ، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان ، في ستة أيام ، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها ، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد ، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن .. " .. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ .. " أيْ قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه .. " .. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا .. " أيْ يعلم سبحانه بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ، ما يَلِج أيْ يَدخل في الأرض مِن أيّ شيء ، مِن عددِ قطراتِ مياهٍ وطاقاتِ حرارةٍ وبذورٍ ونفايات وخلايا أجسام موتي وغير ذلك ممّا لا يَخطر ببال ، ويعلم ما يَخرج منها سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً كالنباتات والمعادن والبراكين والغازات والدوابّ الساكنة بداخلها وما شابه ذلك .. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته ، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا أقوالكم وأفعالكم في السِّرِّ والعَلَن .. إنه يعلم كذلك ما يَنزل من السماء من أمطارٍ وثلوج وصواعق وغيرها ، وما يعرج فيها أي يَصعد مِن أبخرة ورياح ونحوها ، ويشمل هذا بالقطع أقوال وأعمال البَشَر الصاعِدَة له لتُسجَّل عنده سبحانه وكذلك أرواحهم عند قبضها لتعود إليه .. وبالجملة هو تعالي يَعلم كلّ شيءٍ عن أيّ شيء .. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كلّ نِعَمه ومع كلّ خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿4﴾ " أيْ وهو تعالي معكم بتمام عِلْمه وقُدْرته ورحمته أينما كنتم ويعلم كل ما تُسِرّون وما تُعلنون كبيره وصغيره .. وتذكّروا دوْما أنه سبحانه بصيرٌ علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم ، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن .. " لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿5﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿2﴾ من هذه السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها .. " .. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿5﴾ " أيْ كلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها ، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم ، وهو وحده الذي له الحُكم ، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه ، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة ، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله ، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه .. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به ، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن .. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿6﴾ " أيْ ومِن بعض مُعجزاته سبحانه أيضا ، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها ، إضافة إلي ما ذُكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ ، أنه يُولِج الليل في النهار أي يُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا ويزيد أحيانا في أحدهما ما ينقصه من الآخر والعكس ، بما يدلّ بلا أيّ شكّ دلالة عقلية علي أنه قادر علي بعثكم يوم القيامة كما يُميت النهار ويُحي الليل ثم يُميته ويُحي النهار بعده وهكذا .. " .. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿6﴾ " أي لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة ويعلم السرّ وما هو أخْفَيَ منه ، وهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفِكْرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة ، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، ولفظ " عليم " جاء بصيغة المُبَالَغَة – والذي يعني كثير العلم التامّ الشامل – عند الحديث عمّا بداخل العقول ليكون الناس شديدي الحَذَر بأنْ يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ وأنَّ حسابهم يوم القيامة سيكون بتمام العلم والدِّقّة والعدل حيث خالقهم يعلم عنهم كلّ شيءٍ بكلّ تفاصيله
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿9﴾ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿10﴾ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾ " أيْ يا أيها الناس جميعا صَدِّقوا بوجود الله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، واثْبُتُوا وداوِمُوا واستمرّوا علي ذلك .. " .. وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .. " أيْ ومِن مُتَطَلَّبات هذا الإيمان وعلاماته أن تكونوا دوْماً من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .. " أيْ أنفقوا مِن كلّ ما جعلكم خُلَفَاءَ ونُوَّابَ عنه سبحانه ووُكَلاَء له في التَّصَرّف فيه من أرزاقٍ وأملاكٍ وأموالٍ ونحوها ، وتذكّروا أنكم تَخْلُفُون مَن قبلكم فيها وتموتون وتتركونها لمَن بَعْدِكم ولن تأخذوها معكم في قبوركم لأنها فقط مُعَارَة لكم لفترة حياتكم ! فهي في جميع الأحوال مِلْك لله تعالى وحده في حقيقة الأمر وأنتم لا تملكونها علي الحقيقة بل أنتم فقط مُسْتَخْدِمون لها ومُوَظّفون عنده تُنَفّذون أوامره فيها والتي هي لمصلحتكم ولسعادتكم ! .. فأحْسِنوا إذَن التَّعَامُل معها بالإنفاق في كلِّ خيرٍ دون أيِّ شرّ .. " .. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾ " أيْ فمَن يفعل ذلك منكم ، يُؤمن ويُنْفِق ، سيكون له أجر وعطاء عظيم ، في دنياه أولا حيث كل الخير والسعادة ثم في أخراه حيث ما هو أعظم خيرا وسعادة وأتمّ وأخلد فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. وفي هذا تشجيعٌ لتطبيق ذلك لنَيْل خيره الكبير هذا ولاغتنام هذه الفرصة في تحصيله قبل الموت وانتقالها لمَن سيَأتي بَعْد
ومعني " وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾ " أيْ هذا تشجيعٌ للناس علي الإيمان وتسهيلٌ لهم لفِعْله والاستمرار عليه ، وكذلك تَعَجّبٌ وذَمّ وتأنيبٌ لمَن لم يُؤمن أو تَرَاجَعَ عنه بعد إيمانه حيث ليس له أيّ عذر أو حجّة ، أيْ وما الذي يمنعكم من الإيمان وحالكم أنَّ الرسل الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومعهم الكتب التي فيها الإسلام وآخرها القرآن الكريم الباقي بينكم إلي يوم القيامة قد بَيَّنوا لكم ما يدعوكم إلي الإيمان وإلي تمام الخير والسعادة في دنياكم وأخراكم لو اتَّبعتم كل أخلاقه وعملتم بها ؟! كذلك يُساعدكم علي الإيمان والدوام عليه أنَّ فُرَصَه كلها مُتَاحَة لكم إذ هو تعالي قد أخذ منكم ميثاقكم أيْ عهدكم معه ووَعْدكم له حيث كنتم مؤمنين أصلا وذلك من خلال الفطرة التي وضعها فيكم عند خَلْقكم والتي يُولَد بها كلّ مولود (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) وبالعقول التي أعطاكم إيّاها وبالأدِلّة حولكم في الكوْن كله والتي تدلّ بلا أيّ شكّ وبكل سهولة كلَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي الإيمان .. كذلك من معاني " .. إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾ " أيْ إنْ كنتم تريدون أن تكونوا مؤمنين فقد تَحَقَّقَت الأدِلّة وهي قاطِعَة وكل الظروف مُيَسَّرَة ، فلا تَتَرَدَّدوا إذَن وآمِنوا وأسْلِموا تَنْجوا وتَسعدوا في الداريْن ، قبل فوات الأوَان
ومعني " هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿9﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نعمةٍ عليهم من نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ وهي نعمة الإسلام الذي جاءتهم به رسلهم الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومعه آخر الكتب وهو القرآن العظيم والذي لو عملوا بكل أخلاقه لَصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، حيث يَجدون فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة سيجدون السعادة كلها في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. أيْ هو وحده لا غيره الذي أنزل علي رسله آياتٍ بَيِّنات أيْ دلالاتٍ واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْقهم وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها ، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه .. " .. لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ .. " أي كل ذلك الخير فعله لكم أيها الناس برحماته وأفضاله لكي يخرجكم به من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، لكي يأخذكم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة ، إلي النور ، نور الإيمان ، نور الإسلام ، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف .. " .. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿9﴾ " أيْ وإنَّ الله تعالي خالقكم بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكٍّ بكم أيها الناس كثير الرأفة والرحمة ، فمِن رأفته ورحمته بكم فَعَل ذلك ، أنزل لكم الآيات البينات ليُخرجكم بها من الظلمات إلي النور ، فهو أرحم بكم من أنفسكم ومن الوالدة بولدها .. والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه ، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده .. إنه سبحانه كثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيء والتي هي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. ويَدُلّكم على ذلك إنزاله الكتب وإرساله الرسل وتوضيحه الأدلة والبراهين لكم .. فلماذا لا تؤمنون إذَن يا مَن لم يؤمنوا بَعْد أيها الناس ؟! ما هذا التَّرَدّد والتَّبَاطُؤ في الإِيمان وهو بكم رءوف رحيم لا يريد لكم إلا مصلحتكم وسعادتكم ؟! فاعْرِفوا هذا واعْقِلوه وآمنوا به لتسعدوا في الداريْن
ومعني " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿10﴾ " أيْ ولماذا تَبْخلون ولا تُنفقون في سبيل الله أيْ في كلّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة للنفس وللغير (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ من هذه السورة الكريمة ، لتكتمل المعاني﴾ – والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من سوء حال مَن يَبْخَل ، كما أنه تشجيع ضِمْنِيّ علي الإنفاق لمَن يريد ثوابه العظيم ويَغتنم الفرصة قبل موته وتَرْكه ما يَملك – والحال أنه ليس لكم شيء بل لله مِيراث كل السماوات والأرض بكل ما فيهما فهو مالِك المُلك كله والذي منه جميع ممتلكاتكم وأموالكم والتي هو لا غيره قد مَلّكَها لكم والتي ستَنتقل من أيديكم إليه بعد موتكم ويَرِثها منكم ليُوَرِّثها ويُمَلِّكها لغيركم ثم يَرِث كلَّ شيءٍ في نهاية الحياة الدنيا ، فكل الذي معكم هو في الأصل مِلْكه وأنتم مُجَرَّد مُسْتَخلفين أيْ وكلاء عنه فيه وقد طَلَبَ منكم الإنفاق منه فلم لا تُنْفِقون إذَن ؟! فليس لكم بالتالي أيّ عُذْرٍ في البُخْل !! ثم كله عائد إليه فأنفقوه في سبيله ليُعطيكم أجر ذلك خيرا في الداريْن وإلا فسيعود إليه بدون أجرٍ لكم ! واغتنموا الإنفاق ما دامت الأموال معكم وانتهزوا هذه الفرصة وأنفقوا ولا تخشوا فقرا وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالِك السماوات والأرض وبيده خزائنهما وهو الذي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا بقوله " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " ﴿سبأ : 39﴾ .. " .. لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا .. " أيْ هذا بيانٌ لتفاضُل الأعمال بحسب الظروف والأحوال والبيئات والمَجْهودات المَبذولة والنوايا الخيرية المُتَعَدِّدة المَصحوبة بداخل العقول ونحو هذا ، أيْ مِن تمام العدل وحتي لا يُظْلَم أحدٌ ولو بمقدار ذرّة أو أقل ألاّ يتساوي حتما مَن يُنفق في أوقات الشدّة كظروفٍ صعبة يمرّ بها هو أو الإسلام والمسلمين في أيّ زمانٍ ومكانٍ ، كما حَدَثَ مع المسلمين الأوائل في عهد الرسول ﷺ الذين أنفقوا قبل فتح مكة من جهودهم وأوقاتهم وأموالهم وأفكارهم ودمائهم واسْتُشْهِدَ بعضهم دفاعا ضد المعتدين ونحو ذلك في أوقاتٍ شديدة مَرَّت عليهم عند ضعفهم في بدء دعوة الإسلام قبل ازدياد قوتهم وانتصاره وانتشاره (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، لا يستوي هؤلاء قطعا مع الذين يُنفقون ويُقاتِلون ويُجاهدون في سبيل الله في أوقات القوة والرخاء حيث ازدياد الأموال والممتلكات والقوي المُتعدّدة ، فالفريق الأول ومَن يَتشبّه به في أيّ عصرٍ ومكانٍ أعظم درجة بالقطع بلا أيّ شكّ .. " .. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ .. " أيْ والله يَعِد كُلَّاً من الفريقين حتما الجنة مع اختلاف درجاتهم فيها ، إضافة قطعا إلي ما يَعِدهم به في دنياهم من عِزّةٍ ونصرٍ ومكانةٍ أو فوزٍ بالاستشهاد ودخول أعلي درجات الجنات .. وهذا مدحٌ لكلٍّ منهما وتشجيع للجميع ليَبذلوا أقصي جهودهم ما استطاعوا دون تقصيرٍ علي حسب ظروفهم وأحوالهم وجهودهم وبيئاتهم ، وهو أيضا إزالة لاختلاط الأمور حيث قد يَتَوَهَّم أحدٌ مُخْطِئَاً أنَّ الفريق الثاني وهو الذي يُنْفِق ويُجاهِد وقت العِزّة والقوة محروم من الأجر الدنيويّ والأخرويّ الذي يناله الفريق الأول ! حاشا لله تعالي العدل أن يظلم أحدا ولو بمقدار ذرّة أو أقل ! .. " .. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿10﴾ " أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فأحْسِنوا إذن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني " مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿11﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي الإنفاق في كل وجوه الخير وتأكيدٌ علي ما سَبَقَ ذِكْره .. وهذا الاستفهام يُفيد الحَثَّ على الكرم والعطاء مع التذكرة بالتَّحَلِّي بحُسْن الخُلُق .. أيْ مَن هذا المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه الذي يُعطي مِمَّا يَملكه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن يُنفقه في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة له ولغيره ، حرصاً ورَجَاءً أنْ يُعَوِّضه بأكثر مِمَّا أنفقه ، فكأنه يُقْرِضه سبحانه ويَنتظر منه أن يَرُدَّ له ما أقرضه إيّاه ! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالا أيْ نافعا مُسْعِدَاً لا حراما أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام .. هذا ، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب ! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه .. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه .. " .. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿11﴾ " أيْ حتي يَرُدَّهُ له أضعافا كثيرة لا تُحْصَيَ ، وهذا العطاء المُضَاعَف هو كريمٌ أيْ نَفِيس طيِّب عظيمُ الشأنِ فَخْمٌ هائلٌ لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بمقدار بما يُناسِب كَرَمه وعظمته تعالي ، وعلي قَدْر جَوْدَة القَرْض الحَسَن وإتقانه والصدق فيه ومنافعه ودَوَامه ونحو ذلك ، ويكون له في دنياه حيث يَنَال كل خيرٍ وسعادة ، ثم في أخراه بنَيْلِه أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12﴾ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿13﴾ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿14﴾ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) أي مُصَدِّقا بوجود الله وبجنته وناره وحسابه وعقابه في الآخرة يوم القيامة حين يَبعث الناس إليه بعد موتهم .. وإذا كنت دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12﴾ " أيْ اذْكُر يا كلّ مسلم ويا كلّ عاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء ، اذكر يوم القيامة ، يوم تَنْظُر إلي المؤمنين والمؤمنات – أيْ المُصَدِّقِين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – فتَرَاهُم يتحرّك نورٌ لهم اكتسبوه بسبب إيمانهم وأعمالهم الحَسَنَة في دنياهم ، هو يُضِيء وجوههم وأجسادهم فتكون لها بَشَاشَة ونَضَارَة وبَهْجَة ويَسْبِقُهم أينما ساروا ليُضِيء لهم طريقهم عند الحساب وأثناء دخولهم الجنة ، يكون بين أيديهم أيْ أمامهم وعن أيْمانهم أيْ جِهَة يَمينهم ، والمقصود أنه يُحيطهم من كل جانب ، كتكريمٍ وتشريفٍ لهم وتمييزٍ عن غير المؤمنين ، وتكون شِدَّته علي قَدْر عملِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة ، وبأيديهم اليمين أيضا يكون معهم كتاب كلٍّ منهم المُسَجَّل فيه أقواله وأعماله ، ويُبَشَّرون أي يُخْبَرُون من الله تعالي أو من ملائكته الكرام بأفضل بُشْرَيَ وخَبَرٍ سارٍّ أنَّ لهم جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها .. " .. ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12﴾ " أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة .. وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية عاشوها بسبب إيمانهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم إذ كانوا في نور الإيمان ، نور الإسلام ، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ
أمَّا معني " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿13﴾ " أي وكذلك اذْكُر يا كلّ مسلم ويا كلّ عاقل لكي تَعْتَبِر وتَتَّعِظ وتَقْتديَ لتَسعد بذلك الاقتداء ، اذكر يوم القيامة ، يوم يقول المنافقون والمنافقات – وهم الذين في دنياهم أظهروا الخير وأخفوا الشرّ – للمؤمنين والمؤمنات في ذِلّةٍ وإهانةٍ وحَسْرَةٍ ونَدَمٍ انتظرونا وتَمَهَّلوا في سَيْركم لكي نَلْحَق بكم ونَقْتَبِس أيْ نأخذ جزءاً من نوركم الذي أكرمكم الله به وحَرَمَنا منه فنَسْتَنِير ونَسِير به مثلكم لنَنْجُو من العذاب ، وذلك لأنهم في ظلام شديد لا يَدرون كيف يمشون فيه .. " .. قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا .. " أيْ قال لهم المؤمنون أو الملائكة – ذَمَّاً وإبْعاداً وطَرْدَاً لهم واستهزاءً بهم كما كانوا يستهزؤن بالمسلمين في الدنيا – ارجعوا وراءكم حيث الموقف الذي كنا واقفين فيه فحاوِلوا أخْذَ أيّ نورٍ منه ، أو ارجعوا إلى الحياة الدنيا لتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو ارجعوا خائبين خاسرين فليس لكم أيّ نور عندنا ، وهذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهم فيه .. " .. فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿13﴾ " أيْ فحينها فُصِلَ بين المؤمنين وبين المنافقين بحائطٍ عظيم كبير ، له باب ، يدخل منه المؤمنون حيث الأمان بالداخل – ويُمْنَع المنافقون لتزداد حَسْرتهم – إذ باطِن أيْ داخل هذا السور والباب من جهة المؤمنين يُوجَد فيه الرحمة أيْ الجنة برحماتها ومُتَعها التي لا تُوصَف ، وظاهر هذا الباب وخارجه مِن قِبَلِه أيْ من الجهة المُقابِلَة من جهة المنافقين يأتي من ناحيته العذاب ، عذاب النار المؤلم المُذِلّ المُهين .. والمقصود بيان أنَّ المؤمنين في مكانٍ آمِنٍ تحيط به الجنة معزولون بسورٍ عن المنافقين الذين هم في مكان مُظْلِم مُخِيف يؤدى بهم إلى النار
ومعني " يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿14﴾ " أيْ لم يَكْتَفِ المنافقون بهذا الرجاء للمؤمنين الذي سَبَقَ ذِكْرُه في الآية السابقة ، بل أخذوا يُنادونهم في تَحَسُّرٍ وتَذَلّلٍ ونَدَمٍ سائلين إيّاهم ألم نكن معكم في الدنيا نَنْطِقُ بالشهادتين ونُصَلّي ونَصوم ونفعل خيرا مثلكم كما أوْصَانا الإسلام ؟! .. " .. قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ .. " أيْ فيَرُدّ عليهم المؤمنون أنْ نَعَم قد كنتم معنا في الظاهِر ولكنكم أوْقَعْتُم أنفسكم في الفِتَن أيْ الشرور وأهلكتموها بها حيث اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم أن تكونوا منافقين أي تُظْهِرون الخير وتُخْفُون الشَّرّ وتَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حينما لا تكونون معنا .. " .. وَتَرَبَّصْتُمْ .. " أيْ وكذلك انتظرتم هزيمة الإسلام والمسلمين لكي تُظْهِرُوا شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بما في ذلك الكفر أيْ عدم التصديق بوجود الله والشرك وهو عبادة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه وما شابه هذا من سوء .. " .. وَارْتَبْتُمْ .. " أيْ وأيضا شَكَكْتُم في الحقّ الذي ليس فيه أيّ شكٍّ عند كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولم تَتَّبِعوه وهو أنَّ الله تعالي وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وأنَّ الرسل الكرام صادقون وأنَّ ما جاءوا به من إسلامٍ هو صالح لإسعاد البشرية كلها حتي يوم القيامة وأنَّ البَعْث فيه بالأجساد والأرواح للحساب علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة هو صِدْق بكل تأكيد ، وكَذّبتم كل ذلك وعانَدتُم واستكبرتم واستهزأتم .. " .. وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ .. " أيْ وخَدَعَتْكُم كل أنواع الأمْنِيَّات المختلفة التي كنتم تُمَنّون بها أنفسكم حيث كانت كلها كاذبة خادِعَة ، سواء أكانت أطماعا فَكَّرْتُم فيها بأفكاركم الشَّرِّيَّة بعقولكم وبعقول أمثالكم وعاوَنْتم بعضكم بعضا عليها مثل أنَّ الإسلام لن يَنتصر بل أنتم بشروركم ومفاسدكم وأضراركم الذين ستَنتصرون فاسْتَمَرَّيْتُم فيها ، أم كانت انْخِدَاعَاً بامتداد الأعمار وبفِتَن الدنيا بفِعْل الشرور فيها دون أن يُصيب بعضكم سوء مناسبٍ له ، أم كانت تَوَهُّمَاً أنكم سيُغْفَر لكم وستَنالون مثلما ينال المؤمنين ، أم بما شابه هذا من أماني كثيرة وَهْمِيَّة خاطئة خادِعَة .. " .. حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ .. " أيْ وما زلتم علي كل هذا السوء دون عودة لربكم ولإسلامكم حتي جاء أمر الله وهو الموت فمُتُّم علي ذلك .. " .. وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿14﴾ " أيْ وخَدَعَكُم الغَرُور وهو كل ما يَغُرّ الإنسان أي يَخدعه ويَستغفله سواء أكان تفكيره الشرِّيّ أم مَن حوله مِمَّن يأخذونه للشرّ فيستجيب لهم بكامل حرية اختيار إرادة عقله أم نحو هذا ، ومعني " .. بِاللَّهِ .. " أيْ بأنَّ الله غفور رحيم كريم لا يُعذّب أحدا مثلا ! أو بأنه يُخوّفكم فقط ولن يُنَفّذ ! أو ما شابه ذلك من خِدَاعَات .. أيْ خُدِعْتُم بأنَّ الله كذلك ولم تَحذروا وتُحْسِنوا الاستعداد للقائه بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام .. إنَّ وَعْده صِدْقٌ لا يُخلف مُطلقا أنَّ مَن فَعَلَ ذلك فله حتما تمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه .. فعلي كل مسلمٍ إذَن أن يأخذ الدروس من أحوال هؤلاء وأمثالهم ولا يَتَشَبَّه بهم أبداً ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِسَ مثل تعاساتهم فيهما
ومعني " فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾ " أيْ يُقال لهم من المؤمنين استكمالا لكلامهم السابق أو من الله تعالي أو من ملائكته الكرام ، لا يُؤْخَذ منكم اليوم أيها المنافقون الذين كنتم تُظْهِرون الخير وتُخْفُون الشرَّ ، وكذلك لا يُؤخذ من الذين كفروا المُعْلِنين لكفرهم أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولا مِن كلّ مَن تَشَبَّهَ بكم ، أيّ فِدْيَة ، وهي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما ، حتي لو فُرِضَ وجاء أحدكم الآن بمِلْءِ الأرض ذهبا وأضعافه ليَفتدي به من عذاب الله فلن يُقْبَل منه ، وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهم في النجاة مِمَّا هم فيه .. هذا ، وقد تَمَّ إضافة الذين كفروا للمنافقين حتي لا يَتَوَهَّموا أنهم من المُمكن أن يَفتدوا أنفسهم ما دام لم يأتِ ذِكْرهم مثل المنافقين !! .. " .. مَأْوَاكُمُ النَّارُ .. " أيْ مَسْكنكم ومَقَرّكم الذي تَأوون إليه وتَستقرّون فيه هو النار فما أسوأ هذا المَأوي الذي ليس هناك أسوأ منه .. " .. هِيَ مَوْلَاكُمْ .. " أيْ هي التي ستَتَوَلّي أموركم وتَتَكَفّل بكم ! وهي أولي بكم من أيِّ شيءٍ آخر بسبب سُوئكم ! وفي هذا استهزاء بهم حيث من المُفْتَرَض أن يكون المُتَوَلِّي للأمور نافعا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُؤْلِمَاً مؤذيا مُهينا مُتْعِسَاً كنار جهنم !! .. " .. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾ " أيْ وما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصيرون إليه وهو النار
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿16﴾ " أيْ هذا حَثّ وتشجيعٌ للمؤمنين علي الاستمرار والدوام في كل وقتٍ علي العمل بكل أخلاق إسلامهم وتنبيهٌ وتحذيرٌ لهم من أيِّ كَسَلٍ أو ضعفِ هِمَّةٍ أو تقصيرٍ في التمسّك بها أو الابتعاد عنها والتَّرْكِ لها بعضها أو كلها ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما لو تَهَاوَنُوا كما فَعَلَ ويَفعل غيرهم .. أيْ ألم يَحِنْ الوقت ، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرُّوا ، للذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وكذلك مَن آمَنَ ظاهراً ولم يُؤمن باطناً كالمنافقين ومَن يَتَشَبَّهَ بهم ، وأيضا مَن آمَنَ بالتوراة والإنجيل واكتفي ولم يُؤمن بالقرآن – أنه قد آنَ الأوَان الآن وبمسارعةٍ وبغيرِ انتظارٍ لأنْ تَخشع عقولهم ومشاعرهم بداخلها أي تَلِين وتَسْكن وتَهدأ وتَستقرّ وتطمئنّ وتَرِقّ وتَتَدَبَّر وتَتَعَقّل وتَنْقَاد لِذِكْر الله أيْ عند ذكره تعالي وبسببه وعند ذِكْر كلام رسوله الكريم ﷺ وعند كلّ ما يُذَكِّرهم بحالِ أهل الخير ورحمات ربهم بهم وأفضاله عليهم وتمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم ، وكذلك عندما تَسمع ما نَزَل من الحقّ وهو القرآن العظيم الذي يحمل كل صِدْق ، أنْ تخشع لكل ذلك فتُطيعه وتَعمل به كله لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ؟! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذكر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿16﴾ " أيْ وقد حانَ الوقت أيضا الآن وبمسارعةٍ وبغيرِ انتظارٍ ألاّ يكونوا مثل بعض الذين أعْطُوُا الكتب من السابقين قبلهم كالتوارة والإنجيل وغيرها وهم اليهود والنصاري ومَن سَبَقَهم حيث طالَ وبَعُدَ عليهم الوقت بينهم وبين تَرْك أنبيائهم لهم فنَسوا وتَنَاسوا تعاليم الإسلام الذي تركوه لهم وابتعدوا شيئا فشيئا تدريجيا مع مرور الزمن عن ربهم ودينهم وكتبهم وحَرَّفوا فيها وانْغَمَسُوا في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وغَلَّبُوا في شئون حياتهم ومُتَعِها الفساد كثيرا علي الصلاح والشرّ علي الخير ولم يَتناصَحوا فيما بينهم بالخير وبالتوبة وبالعودة له فقَسَت بسبب ذلك بالتدريج قلوبهم أيْ تَحَجَّرَت وتَصَلّبَت عقولهم ومشاعرهم فصارَت لا تتأثّر لا بالترغيب في كل خيرٍ وسعادةٍ لمَن يعمل بكل أخلاق إسلامه ولا بالترهيب مِن كلّ شَرٍّ وتعاسةٍ لمَن يتركها بعضها أو كلها علي قَدْر ما يَترك وبما يُناسبه ، وصارَت لا تُفَرِّق بين الحلال النافع المُسْعِد والحرام الضارّ المُتْعِس مِن كثرة فِعْل السوء وعدم التفكير في الخير والعودة له ، وأصبح كثير منهم فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله والإسلام ، فتَعِسوا في دنياهم وأخراهم نتيجة لكلّ ذلك .. فلا يَتَشَبَّهَ بهم إذَن أيّ مسلم حتي يَسعد في الداريْن ولا يَتعس فيهما مثلهم .. هذا ، ولفظ " كثير " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول واستمرّوا علي إيمانهم ثم آمنوا بالقرآن الكريم لمَّا وَصَلَهم وأسلموا مع المسلمين
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك !
هذا ، ومعني " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿17﴾ " أيْ لا يَبْعُد عنكم وليَكُن في علمكم وفِكْركم دائما أيّها الناس جميعا – واستفتاح الآية الكريمة بهذا اللفظ " اعلموا " يُفيد أنَّ ما سيُلْقَىَ مِن توجيهاتٍ بَعْده هو هامّ لابُدّ من الانتباه إليه وتَدَبّره والعمل به لأنَّ فيه كلّ ما يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد في الداريْن – أنَّ الله تعالي مِن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه يُنزل المطر من السحاب في السماء فيَنزل على الأرض فتُنْبِت نباتاتها وثمارها المتنوّعة المُفيدة المُسْعِدَة لكلّ خَلْقه بعد أن كانت ميتة أيْ مَلْساء لا شيء فيها .. والقادرُ علي ذلك سبحانه قادرٌ حتماً على إحياء الموتى يوم القيامة للحساب الختاميّ فيُعطيهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرِّ شَرَّاً وتعاسة .. والآية الكريمة تَحْمِل ضِمْنَاً الأمل الكبير الكامل لكلِّ بعيدٍ عن ربه وإسلامه لأنه كما هو سبحانه قادر علي إحياء الموتي فهو أيضا قادر علي إحياء عقول البَشَر وتَلْيِيِن مشاعرها بعد موتها أيْ قسوتها وغفلتها ونسيانها والذي جاء التحذير منه في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، وذلك لمَن اسْتَفَاقَ وبَدَأَ في إحسان استخدام عقله وأرادَ العودة لربه ودينه ، فإنه تعالي يُعينه ويُيَسِّر له هذا ليَسعد في الداريْن ، فهو بتمام قُدْرته وعِلْمه وحِكْمته يُحيي الأفراد والأمم بالقرآن بعد موتها ويحيي الأرض بعدل الإسلام بعد ظلم غيره من الأنظمة المُخَالِفَة له .. كذلك تُفيد الآية الكريمة أنَّ المُواظَبَة على ذِكْر الله تعالى وعلى تلاوة قرآنه وتَدَبّره والعمل بما فيه كلّ هذا يكون له أثره الطيِّب في حياة العقول وانتعاشها وسعادتها التامّة في دنياها قبل أخراها ، كأثر المطر عندما ينزل على الأرض الميتة اليابسة فتُنْبِت مِن كلّ خير ، وفي هذا تشجيعٌ للذاكرين علي الاستمرار وفِعْل المَزيد .. " .. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿17﴾ " أيْ قد وَضَّحْنا لكم الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا ، لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيه فتَعملوا بكلّ أخلاقه فتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين له عامِلين به
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا ، ومعني " إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿18﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآيات ﴿7﴾ ، ﴿10﴾ ، ﴿11﴾ من هذه السورة الكريمة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ من أهمية الإنفاق من كل أنواع الأرزاق في كل وجوه الخير لِمَا في ذلك من أثَرٍ كبيرٍ في إسعاد النفس والغير والناس جميعا بل والكوْن كله .. أيْ إنَّ المؤمنين والمؤمنات أيْ المُصَدِّقين والمُصَدِّقات بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وكانوا بسبب إيمانهم مِن المُصَّدِّقِين والمُصَّدِّقات أي الذين يَتَصَدَّقونَ واللائي يَتَصَدَّقْنَ بكثرة أي يُنفقون ويُنْفِقْنَ كثيراً مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا .. " أيْ وهذا مزيدٌ من التشجيع والتأكيد علي الإنفاق حيث يَصِف تعالي ما يُنفقونه وكأنه قَرْضٌ حَسَنٌ له ! أيْ وكان إنفاقهم قرضاً حسناً لله ! أيْ وأعطوا مِمَّا يَملكونه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن يُنفقوها في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة لهم ولغيرهم ، حرصاً ورَجَاءً أنْ يُعَوِّضهم بأكثر مِمَّا أنفقوه ، فكأنهم يُقْرِضونه سبحانه ويَنتظرون منه أن يَرُدَّ لهم ما أقرضوه إيّاه ! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالا أيْ نافعا مُسْعِدَاً لا حراما أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام .. هذا ، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب ! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه .. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه .. " .. يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿18﴾ " أيْ حتما سيَرُدّه لهم أضعافا كثيرة لا تُحْصَيَ ، وهذا العطاء المُضَاعَف هو كريمٌ أيْ نَفِيس طيِّب عظيمُ الشأنِ فَخْمٌ هائلٌ لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بمقدار بما يُناسِب كَرَمه وعظمته تعالي ، وعلي قَدْر جَوْدَة القَرْض الحَسَن وإتقانه والصدق فيه ومنافعه ودَوَامه ونحو ذلك ، وسيكون لهم في دنياهم حيث يَنَالون كل خيرٍ وسعادة ، ثم في أخراهم بنَيْلِهم أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكاً عاملاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ .. " أي هذا حَثّ وتشجيعٌ كبيرٌ علي الإيمان والمُسَارَعَة له والاستمرار عليه .. أيْ وأيضا الذين صَدَّقوا بالله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم وتشبّهوا تماما برسلهم ما استطاعوا في كل أخلاقهم ، ولم يتشكّكوا بأيّ شكٍّ ولا لأيِّ لحظةٍ في كل ما جاءوهم به ، وكانوا سَبَّاقين دائما إلى الخيرات مُسارعين إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ مُسْعِدٍ تاركين لكلّ شرٍّ مُتْعِسٍ ، داعين الناس جميعا لذلك بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ، مدافعين عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بكل ما أمكنهم من قوَيَ فكرية ومالية وعلمية وحتي عسكرية إن احتاج الأمر للدفاع ضد المعتدين .. " .. أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ .. " أيْ هذا مدحٌ لهم إنْ فَعَلوا ذلك لتشجيعهم علي الدوام والمزيد .. أيْ هؤلاء الذين يفعلون ما سَبَقَ ذِكْرُه هم بحَقٍّ الصِّدِّيقون أيْ الذين عَظُم وكَمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل اعتقاداً وفهماً وفكراً وقولاً وعملاً .. وهم أيضا بحقٍّ الشهداء الذين كَرَّمَهم وشَرَّفَهم الله في الدنيا فعَاوَنَهم بعد أن اختاروا هم الإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم علي أن يَخْلُفُوا الأنبياء ليكونوا قائمين بالشهادة لله علي أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ نظام الإسلام هو وحده الصالح لإسعاد البشرية كلها في كل زمانٍ ومكانٍ إلي يوم القيامة وعلي أنْ يدعوا غيرهم لهذا ويصبروا علي أذاهم بل وأكرم بعضهم باختيارهم ليكونوا شهداء يُقْتَلُون في سبيل ذلك .. وهم الذين حتما في الآخرة مع الصِّدِّيقين والشهداء المعروفين بعُلُوِّ الدرجات .. وهم المُجَهَّز لهم عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم ثوابٌ ونورٌ عظيم لا يُوصَف مِثْل عظيمِ ثوابِ ونورِ الصديقين والشهداء .. فهم في المنزلة التي تحت منزلة الرسل وقريبة منها ، أي يُلْحَقُون بهم في تمام النعيم وإن اختلفت درجاتهم فيه علي حسب اختلاف أعمالهم الدنيوية لتحقيق تمام العدل ، كما يقول تعالي " وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا " ﴿النساء : 69﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. وذلك حتما إضافة إلي ما نالوه في دنياهم من كل خيرٍ وسعادةٍ بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم .. " .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿19﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وكذّبوا بآياته أيْ دلالاته علي تمام قُدْرته وعلمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت آياته في الكوْن في كل مخلوقاته المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم أم آياته في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم ، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم حتما المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل ، أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن عذابٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أيْ لا يُخْرَجُون منها أبدا إلي ما شاء الله بلا تغييرٍ ولا تناقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع علي حسب أعمالهم كجزاءٍ في مُقابِل ما كانوا يعملونه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار .. وذلك بَعد التعاسة التي كانوا فيها حتما في حياتهم الدنيا بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾ " أي لا يَبْعُد عنكم وليَكُن في علمكم وفِكْركم دائما أيّها الناس جميعا – واستفتاح الآية الكريمة بهذا اللفظ " اعلموا " يُفيد أنَّ ما سيُلْقَىَ مِن توجيهاتٍ بَعْده هو هامّ لابُدّ من الانتباه إليه وتَدَبّره والعمل به لأنَّ فيه كلّ ما يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد في الداريْن – واحذروا تمام الحَذَر أيها المؤمنون أي المُصَدِّقون بربكم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامكم المُوقِنون بحساب الآخرة ونعيمها الخالد أن تحيوا حياتكم مثل هذه الحياة الدنيا أي الدنيئة الحقيرة التي يحياها المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون البعيدون عن ربهم وإسلامهم ، حيث حياتهم كلها لَعِب أي عَبَث أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف ! .. كما أنها كلها لَهْو أي انشغال بما هو حقير عمَّا هو كبير وبما هو شرّ غالبا أو دائما عَمَّا هو خير .. وكلها زينة أيْ تَزَيُّن وتَجَمُّل بمُتعها والاستمتاع بها علي أيّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيرا .. وكلها تَفَاخُر بينهم وبين غيرهم أيْ ذِكْر للإمكانات من أموالٍ ومناصب وأعمال وأنساب ونحوها مصحوب بتَكَبُّرٍ وتَعَالٍ علي الغير واحتقارٍ وإذلالٍ وإساءةٍ له في الأقوال والأعمال وإضاعةٍ للحقوق وإيذاءٍ للمشاعِر ونحو ذلك من شرورٍ تؤدّي إلي التباغُض والتنازُع والتصارُع وحتي الاقتتال بين الناس .. وكلها تَكَاثر في الأموال والأولاد أيْ تَزَايُد فيها لأنَّ كل أحدٍ منهم يريد أن يكون أكثر من غيره منها ليَتَفَاخَر ويَتَبَاهَي بها عليه .. ثم تذكّروا دائما ولا تنسوا أبدا أيها المؤمنون المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم أنَّ هذه الحياة الدنيا – أيْ القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياتكم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي أنتم مُوقِنون بها والتي فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، فأحْسِنوا تمام الإحسان الاستعداد لها ، فهي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية ، بلا أيّ موت ، بلا أيّ تَعَب ، بلا أيّ ذرّة تعاسة ، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين .. " .. كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا .. " أيْ هذا مَثَلٌ واضحٌ يَضْرِبه الله تعالي يراه الجميع ليَعْتَبِر به مَن أرادَ الاعتبار عن سرعة زوال مُتَع الحياة الدنيا وأنها مهما طالَت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها ، وأنها ستَنتهي يوما ما ، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا ، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عَجْزٍ أو نحوه ، أو بموتٍ يأتي فجأة .. فهو سبحانه يُشَبِّه الحياة الدنيا بنباتٍ نَزَلَ عليه الغَيْث من السماء أيْ المطر فنَمَيَ فسُرَّ به الكفّار أي الزّرَّاع – وسُمُّوا كذلك لأنهم يَكفرون البذور أيْ يُغَطّونها بالتراب عند زراعتها – وكذلك يُسَرّ به الكفار غير المؤمنين بالله وتَمَّ تَخصيصهم بالذّكْر هنا لأنهم غالبا أشدّ إعجابا وسرورا وتفاخُراً بزينة الحياة الدنيا وانغماسا فيها من المؤمنين ، ثم يَهيج أيْ يَيْبَس فيَنْظُر الناظِر إليه فيَرَاه مُصْفَرَّاً جافّاً ذابِلاً من بعد خضارته ونضارته ثم يتحطّم ويتفتّت ويَتَنَاثَر بأيِّ هواءٍ ويَنتهي ، هكذا بكلّ سرعة ! .. " .. وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ .. " أيْ هذه هي الدنيا أمَّا الآخرة ففيها عذاب شديد لا يُوصَف بجهنم للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّهَ بهم الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار علي قَدْر ما فعلوه بكلِّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. " .. وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ .. " أيْ وفيها في المُقابِل للمؤمنين أهل الخير الذين عملوا الصالحات كل المغفرة والرضا والحب والأمن والنعيم الهائل الذي لا يُوصَف من الله الغفور الرحيم الكريم الوهّاب .. " .. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾ " أيْ وليست مُتَع الحياة الدنيا – والتي عَرَضْنا لكم مَثَلَها – لمَن عمل لها وحدها ناسيا الآخرة إلا متاع هو غُرور أيْ خِداع لأنه زائل غير دائم ولا يُقارَن مُطلقا بالآخرة الخالدة .. إنَّ مُتَعَها تَغُرّ الكافرين ومَن يتشبَّهَ بهم مِن الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم لكنَّ المؤمنين المُحسنين لاستخدامها لا يَتشبَّهون بهم أبدا ولا يَنخدعون بها أو يَنسون اتِّخاذها طريقا لآخرتهم الدائمة الأبدية .. إنها متاع الغرور تَغُرّ بحقٍّ إنْ أَنْسَتَ طَلَب الآخرة لكنّها إنْ أَدَّت إلى حُسْن طَلَبها فستكون أفضل متاع وأفضل وسيلة لتحصيلها .. ولهذا فعلي المسلم إذَن أن يُحْسِن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني " سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿21﴾ " أيْ سارِعوا مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدي بكم ويُؤَهِّلكم ويكون سببا إلي نَيْل مغفرته ورحمته فتعيشون في رحابها سعداء في دنياكم وإلي تحصيل في أخراكم جناتٍ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي هي واسعات شاسعات تَسَعكم جميعا بنعيمها حيث عرضها كعرض السماوات والأرض فما بالكم بطولها ومساحتها إذ معلوم أنَّ الطول أكبر من العَرْض !! وسارِعوا بالتوبة عند فِعْل أيِّ شَرٍّ سواء أكان صغيرا أم كبيرا دون إصرارٍ واستمرارٍ عليه مع علمكم أنه شَرّ ، بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لكم في دنياكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ ولِتَنَالوا في أخراكم أعلي درجات هذه الجنات المُبْهِرَات التي لا تُوصَف والتي هي مُعَدَّة ومُجَهَّزَة للذين آمنوا بالله ورسله أيْ صَدَّقوا بوجوده وبما جاءتهم به رسلهم من الإسلام وبكتبه وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره .. هذا ، ولفظ " سابِقوا " يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي الاستجابة حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يحرصون فيه متعاونين مُتَحَابِّين علي أن يسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بالجوائز العظيمة الموعود بها .. " .. ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ .. " أيْ مَن يشاء أيْ يُريد من الناس الهداية لله وللإسلام والنّيْل لهذا الفضل العظيم أيْ العطاء الهائل الذي لا يُقَدَّر بأيِّ قَدْرٍ وهو المغفرة والجنات يَشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه ويُعطيه له ويتفضَّل به عليه بواسِع كَرَمه فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات وخيراتها .. بينما مَن لم يَشَأ الهداية ، وهم الظالمون ، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن ، بأيّ نوع من أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فهؤلاء قطعا لا ينالون فضل الله هذا إذ قد حَرَموا هم أنفسهم منه ، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ ناصرٍ لهم ، غير الله خالقهم ، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه .. " .. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿21﴾ " أيْ هذا الذي تَفَضَّلَ به عليهم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك .. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ عليهم من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطاهم في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿22﴾ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿23﴾ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ دائما من المُتواضِعين أيْ الذين لا يَتعالون علي الآخرين ويُحسنون التعامُل معهم ولا يَتحقرونهم ويحفظون حقوقهم وبذلك يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالتَّعَالِي والظلم والشرّ ونحو ذلك يتعسون فيهما .. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا ، ومعني " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿22﴾ " ، " لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿23﴾ " أيْ ليس هناك أيّ شيءٍ أو حَدَثٍ يحدث صغر أم كبر في الكوْن كله من خيرٍ مُفْرِح مُسْعِدٍ وهو الغالب أو شَرٍّ مُحْزِنٍ مُتْعِسٍ وهو الأقل كما نَبَّه تعالي لذلك بقوله " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " ﴿البقرة : 155﴾ حيث لفظ " بشيء " يُفيد أنَّ الإصابة والاختبار بالشيء الصعب أو الضرر في الحياة الدنيا هو يسير جدا نسبة إلي الخير الكثير الذي فيه الخَلْق رحمة وكرما وفضلا من خالقهم الكريم (برجاء مراجعة الآية الكريمة لتكتمل المعاني﴾ ، إلا إذا أساء الناس أحيانا في بعض فترات حياتهم فغَلَّبوا الشرَّ علي الخير .. أيْ ما يَحدث مِن مصيبةٍ في الكوْن عموماً ومنه الأرض كسيولٍ أو زلازلٍ أو نحوها ، أو في أنفس البَشَر كمرضٍ وفقر وفقدان أحِبَّة بموتٍ أو ما شابه هذا ، كل ذلك مُسَجَّل ومُثْبَت في علم الله في اللوح المحفوظ عنده لا يتغير مُطلقا ولا يتأخّر أو يتقدّم عن موعده ، مِن قبل أن يَبْرَأها أيْ يخلقها أي الأنفس والحياة بكل مخلوقاتها وتقديراتها ، وكل ذلك سواء الخَلْق أو كتابة التقديرات وأنظمة الحياة ونحوها سهل مَيْسُور عليه تعالي لتمام علمه وقُدْرته فهو القادر علي كل شيء الذي يقول له كن فيكون كما يريد .. هذا ، وقد خَصَّ سبحانه المصائب بالذكر دون المَسَرَّات لأنَّ الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا وكثيرا ما يكون إحساسه بها وإدراكه لآثارها أشدّ من إحساسه وإدراكه للمَسَرَّات .. " لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .. " أيْ لقد أخبرناكم مْسبقا بهذا حتي تستعدوا فلا تحزنوا علي أيِّ شيءٍ من رزقٍ ما يفوتكم فلا يمكنكم تحصيله لسببٍ ما حُزْنَاً يُقْعِدكم عن مواصلة الحياة والتغلّب علي بعض صعابها والاستفادة من التعامُل معها والصبر عليها والاستفادة منها خبرات واستفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ أو يُقعدكم ويُبعدكم عن اللجوء إلي الله الخالق الكريم المُعين القادر علي كل شيء ودعائه والتوكّل عليه مع إحسان اتِّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا المُحَرَّمة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أو يُوقِعكم في شَرٍّ ما كسوءِ تَعَامُلٍ معه تعالي بنسيانِ فضله وعوْنه ودعائه ورفض تقديراته في كوْنه ويَجعلكم تُسِيئون لأنفسكم ومَن حولكم بالاستسلام للمصيبة وما شابه هذا مِمَّا يُتعسكم ويُتعسهم .. إنه قد فاتكم هذا الرزق الذي كنتم تسعون إليه ولم تحصلوا عليه لأنَّ الله لم يكتبه لكم لحكمةٍ ما تستفيدون منها عاجلا أو آجلا سواء علمتموها وقتها أو بعد حين .. وكذلك أخبرناكم مُسبقا حتي لا تفرحوا وتسعدوا بما أعطاكم الله تعالي فَرَحا يُنسيكم شكره ويجعلكم تَغْتَرّون وتَنخدعون بما عندكم وتظنون أنه من ذواتكم وأنه لا تغيُّر ولا زوال له وتتكبّرون علي الآخرين فتتباغَضون وتتصارَعون وتتعسون ، فهو سبحانه الذي يَسَّرَ لكم أسبابه وأعانكم عليه ووَفّقكم له ومن المُمكن إزالته عنكم بأهَوْن سبب إذا أسأتم استخدامه في شَرٍّ لا خير ، فانتبهوا إذَن لذلك ولا تنسوه .. إنَّ الفرح والسرور بخيرات الله وشكرها يكون باستخدامها في نفع وإسعاد النفس والغير وهو الأمر الذي يَطلبه الإسلام ويُحَقّقه لمَن يعمل بكل أخلاقه .. إنه بهذا الإخبار المُسْبَق لكم بهذه الأمور ستكونون دائما مُنْتَبِهين مُستعدين لها وتَقْوَيَ إرادة عقولكم لمواجهتها والاستفادة منها والهداية بها وبنتائجها ، فباستعدادكم لكل المُتغيّرات ستعيشون كل حياتكم مُتَوَازِنين حُكَماء تسعدون بالخير الكثير وتعالجون الشرّ القليل إذا حدث بما يفيدكم ويسعدكم أنتم ومن حولكم فتسعدون تمام السعادة في دنياكم ثم لكم أجوركم العظيمة في أخراكم علي حُسن التصرّف أثناء الخير أو الشرّ (برجاء أيضا لكي تكتمل المعاني مراجعة قوله تعالي " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " ﴿التوبة : 51﴾﴾ .. إنَّ مَن عَلِمَ ذلك بتَدَبّر وتعقّل وتعمّق ، وهذا هو دائما حال المسلم الذي يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه ، هَانَت عليه المصائب إذا حَدَثَت واطمأنّ تماما لكل تقديراته تعالى وكان دوْما بعوْنه صبورا عند الشدائد وشكورا عند المَسَرَّات فيَسعد بذلك في دنياه وأخراه ، بينما مَن لم يَتَخَلّق بخُلُق الإسلام فإنه يتخبَّط في الخوف والقَلَق إذا أصابته أيّ مصيبة ويتكبّر ويتعالَيَ ويتفاخَر علي الآخرين إذا جاءه خيرٌ مَا فيَخرج عن الاتِّزان والحكمة في الحالتين ويَتعس في الداريْن .. " .. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿23﴾ " أي وهو تعالي لا يحب كل متكبِّر مُتَعَالٍ يفتخر ويتباهَيَ ويتعالَيَ علي الناس بما عنده فيؤذيهم ويتعسهم بأقواله وأفعاله ، ولا يشكره بل ينسبه إلي مهارته هو ولو أحسن شكره لَمَا فَعَلَ ذلك معهم ولَأَحْسَنَ استخدامها بنفع نفسه ونفعهم ، ومَن لا يحبه سبحانه لا يستشعر بل يفقد رعايته وأمنه وحبه ورضاه وعوْنه وتوفيقه ونصره وإسعاده في دنياه وأخراه .. إنه يحب من كان متواضعا شاكرا له .. هذا ، ويُرَاعَيَ أنَّ الحزن المعتدل عند حدوث الضرر لا يُخْرِج عن صفة الصبر ولا يُقَلّل ثوابه لأنه من المشاعر الإنسانية في العقل وقد سَمَحَ به سبحانه ووضعه في خَلْقه لمصلحتهم ليتراحَموا فيما بينهم وليعلموا قيمة ما هم فيه من سعادة غالبة يعيشونها إذ بالضِّدِّ تتميّز الأشياء وليكون حافزا لهم للانطلاق مرة أخري نحو الخير والتشبّث به دوْما مستقبلا دون أيّ تفريط .. أمّا إنْ زادَ الحزن عن حَدِّ التوسّط والاعتدال ووَصَل لمرحلة الجزع والخوف والإحباط واليأس والوقوع في الأخطاء والتقاعُس عن الإيجابية والإقدام لمقاومة هذا الحزن ولعلاج أسبابه وأخطائه والعودة سريعا لكل خير فقد خرج مَن يفعل ذلك عن صفة الصبر والصابرين ولابُدّ سيَشقي ويتعس بصورةٍ من الصور ودرجةٍ من الدرجات في الدنيا والآخرة .. هذا ، وليس المقصود من الآيتين الكريمتين قطعا عدم اتِّخاذ الأسباب المُمكِنَة المُتاحَة المُبَاحَة حيث كلّ شيءٍ قد تمَّ تسجيله وانتهي الأمر فلماذا العمل إذَن ؟! وذلك لأنَّ ما سَجَّله الله في كتابه علي البَشَر قبل أن يخلقهم لا علم لهم به ! ثم ما سَجَّله عليهم هو لأنه سبحانه يعلم المستقبل ، وما تَمَّ تسجيله وسيُحَاسَبون عليه في آخرتهم ما هو إلا الذي سيَختارونه هم طوال حياتهم الدنيا بكامل حرية إرادة عقولهم ولم يُكرههم هو تعالي عليه ، فلْيُحسنوا إذَن اختيار القول والعمل في كل خيرٍ بلا أيِّ شَرٍّ لينالوا سعادة الداريْن
أمَّا معني " الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾ " أيْ المُخْتالون الفَخُورون مِن بعض صفاتهم أنهم هم الذين يبخلون ، والله كما لا يحب كلَّ مُختالٍ فَخور لا يحب كذلك الذين يبخلون ، أيْ الذين يَمتنعون عن الإنفاق علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. إنهم لا يكتفون بهذا السوء الذي هم فيه وهو بُخْلهم خاصة علي غيرهم بل يزيدون الأمر سُوءَاً بأن ينصحوا الناس به ويُحَسِّنُوه لهم ويَدفعوهم إليه وإلي الامتناع عن فِعْل أيَّ خير ! فيَتعس الجميع بذلك في الداريْن لو استجابوا لهم .. " .. وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾ " أيْ وكلّ مَن يُدِرْ ظهره لأخلاق الإسلام ويَتركها كلها أو بعضها ويهملها ويُخالِفها ولا يُنَفّذها ويفعل الشرور والمَفاسد والأضرار ، فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك هو أن يَتعس بقَدْر ما تَرَكَ منها وما فَعَل مِن سوء ، فهو تعالي يُعَذّبه عذابا مُوجِعَاً هو السبب فيه بأفعاله السيئة ، في دنياه أولا لعله به يستفيق ويعود للخير ليسعد ، يُعذّبه بما يُناسبه ويُحَقّق مصلحته ، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه إن استمَرّ علي ما هو فيه دون عَوْدة عنه وتوبة منه بما هو أشدّ ألما وأتمّ وأعظم .. " .. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾ " أيْ مَن يَفعل ذلك فإنه حتما يَضُرّ أول ما يَضُرّ نفسه ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة ، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء !! فإنه سبحانه هو الغنيّ أيْ هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه ، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا ! وهو الحَمِيد أي المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم ، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا ، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات ، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿25﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿26﴾ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿28﴾ لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا ، ومعني " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿25﴾ " أيْ لقد بعثنا رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ إلي الناس بكل البَيِّنات أي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقهم وأنهم من عند الله وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها .. " .. وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ .. " أيْ وبعثنا معهم الكتب التي أوحيناها إليهم وأنزلناها عليهم ليُبَلّغوها لهم والتي فيها ذلك وفيها تفاصيل تشريعاتنا وأنظمتنا وأخلاقيَّاتنا المُسْعِدَة لهم في الداريْن التي نُوصِيهم بها المناسبة لكل عصرٍ وآخرها القرآن العظيم الذي يناسبهم بكل بيئاتهم وثقافاتهم ومتغيّراتهم إلي يوم القيامة .. " .. والْمِيزَانَ .. " أيْ وأنزلنا أيضا الميزان أي وَضَعْنا في الدنيا – ثم في الآخرة – وفي فطرة الإنسان العدل وشَرَعَناه وأمَرْنا به في كتبنا ليُسْتَعمل في كل الأقوال والأفعال وكل تَصَرّفٍ صَغُرَ أم كَبُر مع جميع البَشَر والخَلْق كله ، وهو القانون الإلهيّ الأساسيّ الذي به تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما .. " .. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. " أيْ فعلنا ذلك لكي يعمل الناس بالعدل – إضافة قطعا لعملهم بكل أخلاق الإسلام الذي أنزلناه لهم في الكتب – فيما بينهم في كل أقوالهم وأعمالهم ومعاملاتهم في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلُوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. ولفظ " يَقوم " يُفيد الإتيان به علي أكملِ وأحسنِ وأتْقَنِ وجهٍ مع تمام الاهتمام بتحقيقه والثبات والاستمرار عليه والتسديد نحوه دوْماً بلا أيّ ذرّة انحرافٍ عنه .. هذا ، واستخدام لفظيّ الميزان والقسط وهما مُرادِفان لمعني العدل هو من أجل تأكيد وتوضيح الأهمية العُظمَيَ له لمزيدٍ من الاهتمام والتشجيع علي العمل التامّ به .. فعَلَيَ الناس إذَن ألا يُنْقِصُوا المَوَازِين العادلة في كل أمور دنياهم وألا يُنقصوا كذلك بالقطع ميزان حسناتهم يوم القيامة في أخراهم بترك العدل وفِعْل الظلم وإلاّ تَعِسُوا في الداريْن .. " .. وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. " أيْ وكما أنزلنا الكتب والميزان أوجدنا كذلك الحديد في الأرض بأن أنزلنا الماء عليها فتَكَوَّنَ من بعض مُكَوِّناتها وأنعمنا به عليكم وبغيره من المعادن المفيدة ليكون فيه قوة شديدة لكم تصنعون منه ما يمكنكم به الدفاع عن الكتب والميزان في الأرض حتي لا تضيع الحقوق وتتعسون حيث تدافعون به عن أنفسكم ضد المعتدين عليكم وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم في مصالحكم وفي شئون حياتكم ، فهو منه تكون آلات الحرب ، ومنه كذلك تكون أدوات الصناعة والزراعة وغيرها .. " .. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ .. " أيْ وإضافة لثمار وآثار كلّ ما سَبَقَ ذِكْره هناك أثر هامّ لكم وهو لكي يُظهِر الله ويُمَيِّز لكم الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير الذين ينصرون دينه ودين رسله الذي تركوه لهم بالتمسّك والعمل التامّ بكل أخلاقه وبنشره بالدعوة له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة وبالدفاع عنه بكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ ضدّ مَن يعتدي عليه حتي بالقتال وبذل الدماء إذا كان الاعتداء عسكريا ، يُظهرهم ويُمَيِّزهم عن الكاذبين أيْ أهل الباطل والشرّ ، فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم .. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ولكن لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته ، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته ، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يَترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله وإلا تَعِس في الداريْن .. ثم في الآخرة بعد ذلك ، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أيّ اعتراضٍ حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع ! .. هذا ، ومعني " .. بِالْغَيْبِ .. " أي وهم غائبون عن الناس لا يَراهم أحد (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) كما أنهم مُصَدِّقون تماما بكلّ ما غابَ عنهم من ماضٍ ومستقبلٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والحساب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. " .. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿25﴾ " أيْ وهو يَفعل كلّ ذلك لأنه هو حتما له كل صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه هو وحده القويّ أي العظيم الكامل القوة والتي لا تُقارنها أيّ قوة وما مِن قوةٍ لأحدٍ أو لشيءٍ إلا مِن قوّته تعالي ، كما أنه هو العزيز أي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر .. واختيار هاتين الصفتين مناسب لختام الآية الكريمة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مثلا مِن المُكذبين ومَن يشبههم أنّه تعالي في حاجةٍ لأحدٍ ينصره فهو قطعا قويّ عزيزٌ لا يَعجز ولا يضعف !! وهو حتما يُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم
ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿26﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لِمَا ذُكِرَ مُجْمَلَاً في الآية السابقة ، أيْ ولقد أرسلنا رسلا كثيرين قبل الرسول الكريم محمد ﷺ منهم نوحا وإبراهيم ﷺ ، وجعلنا في ذرِّيَّتهما كل الأنبياء الذين بعثناهم للبشرية كلها ، وأوحينا إليهم كل كتبنا التي فيها الإسلام بما يناسب كل عصرٍ والتي تَهدى الناس لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم والتي آخرها القرآن الكريم .. هذا ، وقد خَصَّ سبحانه هذين الرسولين الكريمين بالذكر لشهرتهما ولأنه أكرمهما بأن يكون جميع الرسل من نسلهما .. " .. فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿26﴾ " أيْ فكثير مِن ذرِّيتهم ومِن الناس حولهم الذين أرْسِلُوا إليهم مَن استجاب لدعوة رسلهم في كلّ زمنٍ واختار دين الإسلام فآمَنَ به أيْ صَدَّقه فكان مُهْتَدِيَاً مُسْتَرْشِدَاً بكل أخلاقه في حياته فسَعِدَ فيها ثم في آخرته ، وكثير كذلك من هذه الذّرِّيَّة – غير الرسل بالقطع – ومِن هؤلاء الناس كانوا فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله ورسله وإسلامه ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار فتعسوا في الداريْن .. فالعاقل إذَن مَن يُحسن الاختيار فيكون من المهتدين لا الفاسقين
ومعني " ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾ " أيْ ثم لكي يستمرّ صلاح الناس وكمالهم وسعادتهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، أتبعناهم مِن خَلْفِهم أيْ أرسلنا مِن بَعْدِهم أيْ من بعد نوح وإبراهيم ﷺ وذرِّيَّاتهما الذين كان فيهم النبوة والكتاب ، رسولا بعد رسول ، وأتْبَعنا هؤلاء الرسل بإرسال عيسي ابن مريم ﷺ الذي هو قبل الرسول الكريم محمد ﷺ خاتم النبيين والذي أوحينا إليه الإنجيل بما فيه من إسلامٍ يناسب عصره ليكون هاديا للناس لكل خير وسعادة لهم في الداريْن .. " .. وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً .. " أيْ هذه بعض وأهم صفات المسلمين الذين يَتَّبِعون كل أخلاق إسلامهم الذي جاءهم به رسلهم ، ففي عقولهم كل مشاعر الرأفة وهي اللِّيِن والرِّقّة والرحمة وهي الشفقة والعطف عند التعامُل مع الآخرين بل ومع كل المخلوقات والكوْن كله ، وبصفةٍ عامةٍ فإنَّ الرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه والرحمة هي حبّ إيصال الخير والنفع له بما يُسعده ، وهي المشاعر التي لو صاحَبَت كل خُلُقٍ وتَصَرّفٍ لسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، فبحرصهم عليها يجعلها الله ثابتة مُتَزَايِدَة فيهم بعوْنه وتوفيقه وتيسيره لهم .. " .. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا .. " أيْ فابْتَدَعَ بعضهم رهبانية – وهي اعتزال مُتَع الحياة الحلال والمُبَالَغَة في الرهبة والخوف من الله تعالي – هم الذين اخترعوها من تِلْقاء أنفسهم واختاروها لحياتهم ونحن ما فرضناها عليهم وما أوصيناهم بها ، لأنها تُخالِف فطرتهم التي فطرنا البَشَر أيْ خلقناهم عليها من حب الحياة والانتفاع والسعادة بحلالها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما أمرناهم إلا ابتغاء رضوان الله أيْ إلا بما يُؤَدِّي إلي طَلَب رِضَيَ الله وهو الإسلام ، وهم كذلك ما فَعَلها بعضهم إلا من أجل أن يطلبوا رضى الله عنهم ، لكنهم أخطأوا في هذه الزيادات والاختراعات التي زادوها في الإسلام وليست منه وبالتالي فكانت النتيجة المُتَوَقّعَة لهذا التَّشَدُّد عدم القُدْرة علي الاستمرار عليها لمُخالفتها لفطرتهم وقُدْراتهم فلم يستطيعوا أن يُراعوها حقّ الرعاية بالاستمرار والمحافظة عليها كاملة وعلي أكمل وجهٍ مُمْكِن بل بعضهم قد تَرَكَ الإسلام ذاته وكَفَرَ أو اتَّخذها وسيلة للتَّعَالِي علي الناس وخداعهم وابتزاز أموالهم وشَغْلهم عن الحياة ليَسهل عليهم رئاستهم واستعبادهم ونحو هذا من سوء ، فلا يَفعل أحدٌ إذَن مثلهم بل يعمل بأخلاق الإسلام التي أوْصَيَ الله بها دون أن يزيد عليها أو ينقص منها شيئا فهو خالق البَشَر وهو أعلم تماما بما ينفعهم ويسعدهم فلا يخترع أحدٌ زيادة أو نقصانا ما وإلا فكأنه يَتّهمه سبحانه بقصورٍ ما !! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا .. " .. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾ " أيْ فأعطينا الذين استمرّوا وثَبَتُوا علي إسلامهم والعمل بكل أخلاقه دون زيادةٍ أو نقصانٍ أو تحريفٍ – وهم كثيرون – وكذلك مَن كان منهم قد ابتعد عن ربه ودينه أو حتي كفر ثم عادَ وتابَ وآمَن ، أجورهم كاملة علي قَدْر حُسن أقوالهم وأعمالهم ، في دنياهم أولا حيث كل خير وسعادة ثم في أخراهم بما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد ، بينما الذين فَسَقوا ، وهم كثيرون كذلك ، أيْ خرجوا عن طاعة الله والرسل والإسلام ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث فسقوا بصورةٍ ما من صور الفسق سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، هؤلاء تعسوا في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ولفظ " كثير " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول واستمرّوا علي إيمانهم بعيسي والإنجيل ثم آمنوا بالقرآن الكريم لمَّا وَصَلَهم وأسلموا مع المسلمين .. فالعاقل إذَن مَن يُحسن الاختيار فيكون من المُهتدين لا الفاسقين .. هذا ، ومن ابتدعَ شيئا أيْ اخترعه واسْتَحْدَثه لكن له أصل في الدين كاستخدام وسائل حديثة مثلا في حفظ القرآن وتفسيره وعرضه والدعوة له وللإسلام وما شابه هذا فلا يُذَمّ ويَأثَم قطعا بل له أجره العظيم عليه ، وكذلك مَن شَدَّدَ علي نفسه دون غيره في بعض الأمور لفترة من أجل قوة الإرادة كالامتناع عن بعض الأطعمة مثلا ونحو هذا من باب الرهبانية فأيضا له أجره الهائل علي حسب نواياه الحَسَنة ، ولينتبه كلّ مَن عاهَدَ الله تعالي علي فِعْل خيرٍ ما أن يجتهد في الوفاء به حتي يكون من الذين يراعوا العهود حقَّ رعايتها لينال الأجر الكبير
ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿28﴾ " أيْ يا أيها المسلمون الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره استَمِرّوا واثْبُتُوا علي إيمانكم بربكم وبرسولكم وبقرآنكم وبآخرتكم ، وكونوا من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. كذلك الآية الكريمة تشمل أيضا الذين آمنوا بالله وبالرسل السابقين كموسي وعيسي ﷺ قبل خاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ كاليهود والنصاري وغيرهم ، أيْ خافوا الله واجعلوا وقاية بينكم وبين غضبه وعذابه لكم في الداريْن بأن تؤمنوا بمحمد ﷺ وبالقرآن العظيم الذي جاء به وتُسْلِموا مع المسلمين فتفعلوا الخير وتتركوا الشرّ فإنَّ دينكم أصله الإسلام وكتبكم تدعوكم للإيمان به .. " .. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ .. " أيْ يُعْطِكم بسبب ذلك نصيبين وضعفين من رحمته أيْ من عطائه وفضله وكرمه وتوفيقه وتيسيره في دنياكم وأخراكم حيث كل خير وسعادة فيهما ، فهو يعطي اليهود والنصاري وغيرهم الذين يُسلمون أجورا مُضَاعَفَة بسبب صبرهم علي الجهد الذي بذلوه للوصول للإسلام حيث لم يكونوا في بيئةٍ مسلمة أصلا وبسبب ما يتعرَّضون له أو ما يُحْتَمَل أن يتعرَّضوا له مِمَّن حولهم بسبب تركهم لدينهم وانتقالهم لدين الإسلام ، فالله تعالي لا يظلم أحدا ولو مقدار ذرَّة ويُضاعِف الأجر بغير حسابٍ لكل صابرٍ بكرمه وفضله الواسع ، ليكون ذلك تشجيعا لهم لدخول دين الإسلام والاستمرار عليه ودَفعا لغيرهم ليؤمنوا مثلهم لينالوا مثل أجرهم .. وأيضا ومن باب أوْلَيَ وقطعا يُعْطِي المسلمين المستمرِّين الثابتين علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم أجورا مُضَاعَفَة فليسوا حتما أقل من غير المسلمين الذين يُسلمون ثم هو سبحانه كريم وَهَّاب يُعطي بغير حساب ، فلهم أجر تمسكهم بإسلامهم في أنفسهم وأجر إيمانهم بكل الرسل السابقين وأجر كوْنهم قدوة لغيرهم يشاركون في عوْنهم علي الدخول في الإسلام بصورةٍ مباشرة من خلال دعوتهم أو غير مباشرة حيث يرونهم أمامهم فيُذَكِّرونهم بالإسلام ليُرَاجعوا ذواتهم وأجر دفاعهم عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بكل وسائل الدفاع المُمْكِنَة من فكرٍ ومال وجهد وحتي بالدم إن احتاج الأمر ذلك ضِدَّ مَن يعتدي ، وبالجملة يعطيهم تعالي أجرا علي فِعْل الخير وأجرا علي ترك الشرّ فهو أجر عظيم في الدنيا وآخر أعظم منه لا يُوصَف في الآخرة فهي إذَن أجور مُضَاعَفَة أضعافا كثيرة وليست فقط ضِعْفين من الرحيم الكريم الوَهَّاب سبحانه .. " .. وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ .. " أيْ ويُعطيكم نورا تهتدون به في الدنيا ثم في الآخرة ، ففي دنياكم تعيشون أسعد حياة بسبب إيمانكم بربكم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم بأن تكونوا في نور الإيمان ، نور القرآن ، نور الإسلام ، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ ، تمشون بذلك في كل لحظات حياتكم وبين الناس تُفيضونه عليهم جميعا وتدعونهم لإسلامكم ليسعدوا تمام السعادة مثلكم في الداريْن .. ثم في أخراكم يكون لكم نورٌ تكتسبونه بسبب إيمانكم وأعمالكم الحَسَنَة في دنياكم يُضِيء وجوهكم وأجسادكم فتكون لها بَشَاشَة ونَضَارَة وبَهْجَة ويَسْبِقُكم أينما سِرْتُم ليُضِيء لكم طريقكم عند الحساب وأثناء دخولكم الجنة يُحيطكم من كل جانب كتكريمٍ وتشريفٍ لكم .. " .. وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿28﴾ " أيْ وكل ذلك سيكون في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ خير وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ حيث سيَغفر لكم ذنوبكم بتوبتكم إليه بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لأنه تعالي غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم أي كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
أمَّا معني " لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾ " أيْ هذا ردّ علي أهل الكتاب الذين يَدَّعِي بعضهم كذبا وزُورَاً أنهم أفضل مَكَانَة من المسلمين حيث يقولون مثلا لن يدخل الجنة إلا مَن كان يهوديا أو نصرانيا أو أنهم أبناء الله وأحباؤه أو ما شابه ذلك من ادِّعاءات كاذبة ، فيَرُدّ الله تعالي عليهم أنَّ فضله العظيم الذي ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، والذي يَرفع شأن المسلمين دون غيرهم ، كإعطائهم كِفْلَيْن من رحمته وجَعْلِهم في نورٍ وغفرانٍ دائمٍ في دنياهم وأخراهم هو فقط للمسلمين المُحسنين المُتَّقين لا لغيرهم مِمَّن لم يُسلموا ولا أحد يَقْدِر حتما علي مَنْعه لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم .. أيْ يُعطي الله تعالي المسلمين كل هذا العطاء العظيم الذي سَبَقَ ذِكْره لكي لا يقع في الخطأ والجهل بل يعلم أهل الكتاب من اليهود والنصاري الذين يستمرّون علي دينهم ولا يُسْلِمون أنهم وغيرهم لا يَقدرون علي منع أيّ شيءٍ أراد الله تعالي إعطاءه لخَلْقه ولهم ولغيرهم ولا علي إعطاء أيّ شيءٍ أراد منعه ، وأنَّ كل الفضل من خيرٍ وعطاءٍ بيده يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعطي نِعَمه مَن يشاؤها ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها .. هذا ، ولفظ " لِئَلَّا " في اللغة العربية يُفيد أن انتبهوا لكي لا تقعوا في خطأ كذا ، وهو الذي سيُذْكَر بعدها في الكلام.