الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من السفهاء، أيْ ضِعاف العقول المُعَطّلين لها المُسِيئين لاستخدامها المُمْتَهِنِين لذواتهم المُضَيِّعِين المُتْعِسِين لها باعتراضهم علي تشريعات الله وأنظمته والتّعَالِي عليها والاستهزاء بها وعدم اتّباعها ومُخَالَفتها، بل كنتَ من أقوياء العقول الذين يُحسنون استخدامها فيَتَّبِعون كل أخلاق الإسلام فيسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)" أيْ سيقول ضِعاف العقول من الناس المُعَطّلين لها المُسِيئين لاستخدامها الذين لا يُمَيِّزون بين النافِع والضارّ المُمْتَهِنِين لذواتهم المُضَيِّعِين المُتْعِسِين لها بتَرْكِهم لأخلاق الإسلام أو نفورهم عنها كلها أو بعضها، سيقولون من أجل التشكيك في الإسلام والاستهزاء به أنَّ فيه تَخَبُّطَاً وتَضَارُبَاً فلا يَتّبعه إذَن أحدٌ وإلاّ تَخَبَّطَت حياته وتَعِس، ما وَلّيَ المسلمين أي صَرَفَهم عن قِبْلَتهم الأولي التي كانوا يَتَوَجّهون إليها في صلاتهم وهي بيت المقدس بالشام وجعلهم يَتّجِهون إلي قِبْلَةٍ أخري وهي الكعبة المُشَرَّفَة في مكة؟! حيث كان المسلمون يَتَوَجَّهون إليه لفترةٍ في بدْء الإسلام لِحِكَمٍ منها تأليف عقول اليهود والنصاري وغيرهم ليعلموا أنَّ مصدر الإسلام واحد وهو الله تعالي فيُسلموا وليكون مركزاً ثالثاً لتجميع المسلمين وتوحيد كلمتهم وتقويتهم بعد الحرم المكيّ والمَدَنِيّ.. ".. قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بما يُخْرِس ألسنتهم لله تعالي جِهَتَىّ الشروق والغروب للشمس أيْ له كلّ جِهات الأرض وكل الكوْن أيْ مالِكه ومُدَبِّر كل شئونه فلا فضل لجِهَةٍ على أخرى بذاتها بل هو الذي يختار منها ما يشاء ليكون قبلة للصلاة، فالأمر إذَن كله له ولا اعتراض أبداً عليه، والمسلمون يستجيبون لوصاياه لأنَّ فيها حتماً صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في الداريْن فحيثما وَجَّهَهم تَوَجَّهوا وبأيِّ وَصِيَّةٍ وأخلاق وَصَّاهَم بها سارَعوا لقبولها وتنفيذها، ثم هم لم يَتَّجِهوا أولا لبيت المَقْدِس من تِلْقاء أنفسهم بل أيضا بأمره سبحانه.. ".. يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)" أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ حياتك مُتَوَازِنَاً مُتَوَسِّطَاً مُعْتَدِلاً بلا إفراطٍ أيْ مُغَالاةٍ أو تفريطٍ أيْ تقصيرٍ لأنَّ لكلٍّ منهما ضرره، في كل شئونك، في مأكلك ومَشْرَبك ومَلْبَسك ومسكنك ومركبك وفكرك وعلمك وعملك وكسبك وربحك وتخطيطك وإنتاجك وراحتك وعلاقاتك مع والديك وإخوتك وزوجك وأبنائك وجيرانك وأصدقائك وزملائك وأهل منطقتك وبلدك وعموم الناس، فتتمكن بهذا التوازُن أن تحقّق أسهل وأكمل وأسعد حياة دنيوية ثم تنال بذلك أعلي درجات الحياة الأخروية.. كذلك ستَسعد إذا أصابك اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما – سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير – فازددتَ حينها تَمَسُّكَاً بربك واستعانة به واستغفاراً له وعَمِلْتَ بأخلاق إسلامك واستعنتَ بالصالحين من أهل الخبرة وتَمَاسَكْتَ وأحسنتَ استخدام عقلك وعَلِمْتَ وتأكّدتَ بلا أيِّ شكٍّ أنه لا بُدَّ في هذا الاختبار الخير كما وَعَدَ تعالي ووَعْده الصدْق "..وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.." (البقرة:216)، ولم تُبالِغ في الحزن والتوتّر فتَجْزَع وتنحرف وتنقلب وتترك أخلاقك التي هي العاصِم لك بعد الله في مثل هذه المواقف، فلن يضيع سبحانه لك كل ذلك وهو الرؤوف الرحيم بعموم الخَلْق والناس فما بالك بمَن يُحبهم ويُحبونه المُتمسِّكين العامِلين بإسلامهم المُعتصمين به منهم، فسيُعينك حتما ويأخذ بيديك ويُوَفّقك لأسباب التصحيح والعلاج والنجاة كما وعد في قوله "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.." (غافر:60)، وقوله ".. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة:153)، وستخرج من هذا الحَدَث بخبراتٍ وصبرٍ وجَلَدٍ فتصبح أكبر وأقوي وأعلي من الأحداث وقائداً لا مَقُودَاً ومَتْبُوعَاً لا تابِعَاً، فتًسعد بذلك في دنياك إضافة بالقطع لعظيم المَكَانَة في أخراك كما وعد تعالي ".. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10)، ".. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة:155)
هذا، ومعني "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)" أيْ وكما هديناكم أيها المسلمون إلي صراطٍ مستقيمٍ بالقرآن العظيم والإسلام فيه كذلك جعلناكم به أمّة مُتَوَازِنَة مُتَوَسِّطَة مُعْتَدِلة بلا إفراطٍ أيْ مُغَالاةٍ أو تفريطٍ أيْ تقصيرٍ لأنَّ لكلٍّ منهما ضرره، في كل شئون حياتكم، لكي تكونوا بذلك مُؤَهَّلِين أن تصبحوا شهداء علي الناس أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – وليكون بذلك أيضا حتما الرسول الكريم محمد (ص) هو الشاهد الأول الأعظم عليكم الذي يُصَحِّح لكم ويَقودكم ويُعَلّمكم ويُوَجّهكم ويُرْشِدكم جميعا لذلك في الدنيا، ثم في الآخرة لتكونوا شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وليكون الرسول حينها كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه وأنكم صَدَّقتم به ويُزَكّيكم عندنا أنكم صادقون في شهادتكم عليهم لا تَحكمون إلا بالعدل التامّ، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ.." أيْ وما جعلنا القبلة التي كان عليها الرسول الكريم والمسلمون في بدء الإسلام وهي بيت المقدس ثم التّحَوُّل عنها إلي الكعبة المُشَرَّفَة إلا ليكون الأمر اختباراً، أيْ حتي لا يظنّ الناس أنهم بمُجرَّد أن يقولوا أنهم مؤمنون يُتْرَكون دون فتنةٍ أيْ اختبارٍ لهذا القول هل هو صِدْق أم كذب؟! كلا بالقطع! لابُدَّ أن يحدث لهم بين الحين والحين اختبار ما وبما يُناسب كلاًّ منهم لكي يَظهَر لهم مَن هو الصادق ومَن هو الكاذب، تماما كالذي يُعْلِن أنه قد تعلّم علماً مَا أو مهنة مَا فإنه لا يُؤْخَذ بكلامه حتي يتمّ اختباره ومعرفة صِدْقه مِن كذبه ودرجته ومستواه وتطبيقه العمليّ الواقعيّ ونحو هذا، ويتمّ هذا كل فترة وبما يُناسبه للإطمئنان علي أنه مُستمرّ علي ذلك، فهذه هي طريقة الله تعالي مع كل الناس السابقين منذ آدم عليه السلام وحتي يوم القيامة، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة)، وهو يُنَبِّههم لها قبلها الآن حتي يُحسنوا الاستعداد لها فيَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياهم وأخراهم، وبذلك سَنَعْلَم أيْ سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير الذين يَتَّبِعون الرسول في كل ما جاء به من إسلامٍ ويستمرّون علي ذلك والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ الذين يُخالِفونه ولا يَتّبعونه بل يَنقلبون علي أعقابهم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ يَرجعون علي أقدامهم للخَلْف هاربين مُبْتَعِدين عنه والمقصود يَرْتَدّون عن إسلامهم، فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في الداريْن.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا وعَمَلاً به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يَترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. ".. وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.." أيْ ولقد كانت هذه الفِعْلَة، أيْ تحويل القِبْلَة من قِبْلَة مألوفة إلي غيرها، بكل تأكيد، شديدة لا تُحْتَمَل علي البعيدين عن ربهم وإسلامهم حيث ازدادوا بُعْدَاً عنهما وتَشَكّكَاً في أنَّ في الإسلام تَخَبُّطَاً كما يَدَّعِي المُكَذّبون، بينما كانت سَهْلَة خفيفة مُفيدة مُسْعِدَة علي الذين اختاروا الهداية لله وللإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم فعاوَنَهم الله عليها بأنْ يَسَّرَ لهم أسبابها ووَفّقهم إليها وسَدَّدَ خُطاهم نحوها، الذين يتلقّون كل أوامر الله بالطاعة والاستسلام والترحيب والمُسارَعة في التنفيذ حيث كلها من عنده ولا يجدون أيّ صعوبة في الانتقال من طاعةٍ إلى طاعة ومن قِبْلَةٍ إلى قبلة، فهؤلاء قد نجحوا في الاختبار وازدادوا طاعة واستجابة لربهم وعملا بأخلاق إسلامهم الذي يتأكّدون بلا أيِّ شكّ أنه لا يُوَجّههم إلا لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن، وازداد سبحانه لهم عَوْنَاً وتوفيقا وتيسيرا وإسعادا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)" أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الكريم لِيَظلم أحداً بأيّ ذرَّة ظلم ويَستحيل ذلك بأن يُذْهِبَ نتائج وأجور تَصْدِيقكم به وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملكم بكل أخلاق إسلامكم وصبركم علي أيِّ اختبارٍ أو ضَرَرٍ بل سيُعطيكم كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم لأنه هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ رؤوف رحيم بالناس كلها وبالخَلْق كلهم فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عَلِمْتَ أنَّ الله تعالي سُرْعَانَ ما يستجيب لدعاء مَن يدعوه إذا أحسنَ اتّخاذ ما أمكنه من أسبابٍ إضافة للدعاء لكنه يَستجيب في التوقيت وبالأسلوب المُناسب الذي يحقّق للذي دعاه ولمَن حوله أسعد النتائج في الداريْن.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رَمْزاً لأن يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّبعون الحقّ دائما ولا يُعانِدونه وهم يعلمونه وإلا انتشر الظلم وسادَت الضغائن والعداوات والتعاسات.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتَوَاصَلون دوْماً مع ربهم ويعلمون أنه لا يَغفل عنهم لحظة وعن أعمالهم وأقوالهم فيُحسنونها ويطلبون حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده لهم ولمَن حولهم في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)" أيْ لقد شاهَدْنا ونُشَاهِد وعَلِمْنَا ونَعلم يا رسولنا الكريم تَحَوُّل وتَحَرُّك وَجهك ونَظَرك مرة بعد أخري في السماء تَطَلّعاً وتَرَقّبَاً وطَلَبَاً لنزول الوحى عليك بتحويل القبلة من بيت المَقْدِس إلى الكعبة المُشَرَّفة والتي هي قِبْلَة إبراهيم أبي الرسل والتي هي أكثر تعظيما وتشريفا وتجميعا وإرشادا للناس لربهم ولإسلامهم من بيت المقدس، ولكلٍّ مَكَانته ودرجته، فسَنُوَجِّهك قِبْلَة تحبها ونُحَوِّلك نحوها، فوَجِّه وجهك جِهَة المسجد الحرام حين تُصَلّي، وأينما كنتم في أيِّ مكانٍ أيها المسلمون فتَوَجَّهوا جِهَته عندما تُصَلّون.. ".. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ.." أيْ وبكل تأكيدٍ إنَّ الذين أعْطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أعطوا التوراة والنصاري الذين أعطوا الإنجيل يعلمون تمام العلم أنه – أيْ التَّحَوُّل إلى الكعبة، أو الرسول (ص) والقرآن العظيم – هو الحقّ المُؤَكَّد الذي أتَيَ من ربهم لِمَا عَلِموا من كُتُبهم أنَّ الرسول الكريم محمد (ص) هو خاتَم الرسل وأنه لا يقول إلا الحقّ أيْ الصدْق ولا يأمر إلا به وهو الذي قد أخبر بهذا التَّحَوُّل، ولكنهم يريدون التشكيك في الإسلام بادِّعائهم كذباً وزُورَاً أنَّ فيه تَخَبُّطَاً بالتّحَوُّل من قِبْلَةٍ إلي أخري فلا يَتّبعه إذَن أحدٌ وإلاّ تَخَبَّطَت وتَعِسَت حياته، وما كل ذلك إلا لأنهم مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)" أيْ وليس الله تعالي حتماً بغافلٍ عن ما يعمله وما يقوله أمثال هؤلاء – وعن أعمال كل المسلمين وكل الناس قطعا – أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معهم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسب الجميع عليها في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً عند دعوة غير المسلمين للإسلام، فأحْسِن إليهم القول والعمل والقُدْوة كرسولنا الكريم (ص) وأحْضِر لهم كلّ دليلٍ مناسبٍ ما استطعت بالحكمة والموعظة الحسنة لكن مع العلم بأنَّ بعضهم مُستكبرون علي الحقّ مُعانِدون له لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وهم كارهون لك ولدينك الإسلام يتمنّون لو أبعدوك وأضلّوك عنه لتتبع تحريفاتهم وتخريفاتهم وتدخل تحت سيادتهم وسلطانهم ليَنْهَبوا جهودك وإمكاناتك رغم أنهم ليسوا مُتّحِدِين فيما بينهم بل كلٌّ يتبع ما يُحَقّق شَرَّه ورغم معرفتهم المؤَكّدَة أنَّ الإسلام هو الحقّ كمعرفتهم بأبنائهم لا يُخطئونهم.. فإيّاك إيّاك أن تنخدع بهم وتنزلق معهم وتترك شيئا من أخلاق إسلامك بعدما ذُقْتَ سعاداته وإلا تَعِسْتَ وشَقِيتَ وظلمتَ ذاتك ظلماً شديداً في الداريْن، وإيّاك إيّاك أن تكون من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكين المُجادِلين في ذلك ولو للحظة وهو الذي يوافق عقلك الذي فطره خالقه وبَرْمَجه عليه لإسعادك في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)" أيْ ولو أحْضَرْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للذين أُعْطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أعطوا التوراة والنصاري الذين أعطوا الإنجيل ومَن يَتَشَبَّه بهم كلّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّ المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين منهم ما تَبِعُوا قِبْلَتك مُطلقاً أيْ لا يَتَّبِعُون مِلّتك الإسلام ويعملون بأخلاقه ويَتّجِهون عند صلاتهم لقِبْلَتك أيْ للكعبة، فالمشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ.." أيْ وما أنت يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أبداً بمُتَّبِعٍ مِلّتهم – أيْ دينهم – والتي حَرَّفوها عن أصلها وهو الإسلام ومن باب أوْلَيَ بمُتَّبِعٍ أيّ قِبْلَةٍ يَتّجِهون إليها في صلاتهم.. أيْ أنت على الحقّ ولست مطلقا بتابعٍ باطلهم لأنك علي أكمل دين وهو الإسلام الذي يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك بينما هم علي ضلال.. وفي هذا تَيْئِيس وقَطْع لأيِّ أملٍ لهم في أن يَترك المسلمون إسلامهم ويَتّبعوهم فهم مُتمسّكون عاملون به في كل شئون حياتهم.. ".. وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ.." أيْ وما اليهود بمُتَّبِعين قِبْلَة النصارى ولا النصارى بمُتّبِعين قبلة اليهود، فهم مع اتّفاقهم على عدم اتّباع الإسلام إلا إنهم مختلفون فى باطلهم، والسبب الاستكبار والعِناد حتي فيما بينهم وفي الباطل الذي هم مُصِرّون عليه وبالتالي فليس بمُسْتَغْرَبٍ منهم أن يُعانِدوك أيها المسلم ولا يَتّبِعوا الإسلام بل هذا هو المُتَوَقّع من أمثال هؤلاء حتي يتركوا استكبارهم وعِنادهم، فالمشكلة مرة أخري فيهم لا في الإسلام حتما ولا فيكم أيها المسلمون إذا أحسنتم دعوتهم لإسلامكم فاطمَئِنّوا واستمرّوا عليه ولا تتأثّروا بأمثالهم.. ".. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)" أيْ ولو سِرْتَ خَلْفَ شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أيها المسلم وفَعَلْتَ مثلها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، من بعد ما وَصَلَكَ من العلم من خلال القرآن العظيم بسوءِ وضَرَر وتعاسة كل ذلك في دنياك وأخراك ونفع وسعادة العمل بكل أخلاق الإسلام فيهما، فإنك بسبب هذا بالتالي حتما ستكون من الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم التي سَبَقَ ذِكْرها من كفرٍ أو شِرْكٍ أو نفاقٍ أو فسادٍ أو نحوه
ومعني "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)" أيْ الذين أعطيناهم الكتاب قبل القرآن كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري يعرفونه أي الرسول (ص) أنه رسول الله حقاً وصِدْقَاً بأوصافه المذكورة في كُتُبهم، وكذلك يعرفونه أي القرآن العظيم الذي أوحِيَ لهذا الرسول الكريم الصادق الأمين وما فيه من دين الإسلام أنه أيضا حقّ وصِدْق، تماما مثل معرفتهم بأبنائهم التي ليس فيها أيّ شكّ، ولكنَّ بعضهم يُخفون هذا الحقّ وهم علي علمٍ تامّ بأنه حقّ وعلمٍ بصِدْقه وصلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها في دنياها وأخراها وعلمٍ بأنهم مُعَذّبون فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وعدم اتّباعهم للإسلام، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)" أيْ دين الإسلام الذي أنت عليه أيها المسلم هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد (ص)، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً بالتأكيد من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)" أيْ ولكلّ إنسانٍ جِهَة هو مُتَّجِهٌ إليها في حياته، فلْيُحْسِن إذَن اختيار اتّجاهه وجِهَته في الحياة الدنيا بأنْ يُحْسِن استخدام عقله ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فيُسَارِع ويُسَابِق في فِعْل الخيرات ويكون مُتّجِهَاً دائما نحو كل ما هو خيرٍ وسعادةٍ ويترك مُطلقاً كل ما هو شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ فيكون مُتّجِهَاً دائما نحو ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – يطلب منه حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده له ولمَن حوله في دنياهم وأخراهم، مُتّجِهَاً دائما نحو رسوله الكريم محمد (ص) يَقْتَدِي به في كل أقواله وأفعاله حيث الكمال والسعادة الكاملة، مُتّجِهَاً دائما نحو الصالحين السعداء في أنفسهم المُسْعِدِين لغيرهم الذين يُعينوه علي كل خير، وبالجملة يكون مُتّجِهَاً دائما بإسراعٍ وتَسَابُقٍ ما استطاع نحو كل أنواع الخيرات من قولٍ وعملٍ وكسب وإنتاج وإنجاز وعلم وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ويكون أثناء كل ذلك مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنكم لا تَنشغلوا أيها المسلمون بتَشْكِيكات وأكاذيب المُكَذّبين الذين يَتّخِذون من تحويل القِبْلَة من بيت المَقْدِس إلي الكعبة سَبَبَاً للتشكيك في أنَّ الإسلام فيه تَخَبُّط ومَن يَتّبعه سيَتَخَبَّط في حياته ويَتْعَس حيث أنه كان لكل أمة من الأمم السابقة وِجْهَة أيْ قِبْلَة يَتّجِهون إليها في صلاتهم وَجَّههم الله لها لكنها رغم أهميتها لم تكن من أصول الدين مثل أنه تعالي هو المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ ومثل التصديق بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، فلا تتأثّروا إذَن بهم وبتفاهاتهم وانشغلوا بالأهمّ وهو فِعْل الخيرات وتَسَابَقوا في ذلك ولا تُجادِلوا أمثالهم واحفظوا أوقاتكم وجهودكم ما دُمْتم قد أحسنتم دعوتهم لله وللإسلام بما يُناسبهم.. ".. أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)" أيْ في أيِّ مكانٍ كنتم ومُتّمْ لا بُدَّ حتماً أن يُحْضِركم الله جميعا يوم القيامة من قبوركم مهما تَفَرَّقت وذابَت أجسامكم ليُحييكم مرة أخري لا يتخلّف منكم أحدٌ ليُحاسبكم علي الخير خيرا وسعادة والشرّ شرَّاً وتعاسة بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم، فهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. وما دام الأمر كذلك، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رَمْزاً لأن يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّبعون الحقّ دائما ولا يُعانِدونه وهم يعلمونه وإلا انتشر الظلم وسادَت الضغائن والعَدَاوَات والتعاسات.. وإذا كنتَ دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أي خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاك أن تفعل شرّاً ما لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تترك خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليك التمسّك دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنت مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم
هذا، ومعني "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)" أيْ ومِن أيِّ مكانٍ خَرَجْتَ أيها المسلم لأيِّ مكانٍ سواء في بلدك أو سَفَرِك وأردتَ الصلاة فوَجِّه وَجْهك جِهَة المسجد الحرام، وإنَّ تَوَجّهك إليه هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك الرحيم الودود بك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – الذي لا يريد لك إلاّ كلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن فاطْمَئِنّ وسَارِع إذَن بالتالي إلي الاستجابة له بلا أيِّ تَرَدُّد وأطِعْه في كلّ وَصَايَاه، وهو تعالي حتماً ليس بغافلٍ عن أعمالكم وأقوالكم أيها الناس أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانْتَبِهوا لهذا وأحْسِنُوا التعامُل معه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)" أيْ ومِن أيِّ مكانٍ خَرَجْتَ أيها المسلم لأيِّ مكانٍ سواء في بلدك أو سَفَرِك وأردتَ الصلاة فوَجِّه وَجْهك جِهَة المسجد الحرام، وأينما كنتم في أيِّ مكانٍ أيها المسلمون فتَوَجَّهوا جِهَته عندما تُصَلّون.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة – وكما في الآية (144) – هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.." أيْ فاثْبُتوا علي ذلك – وعلي دين الإسلام – أيها المسلمون فما أمرتكم بالتّوَجّه إلي المسجد الحرام عند صلاتكم إلاّ لكي لاَ ومِن أجل ألاّ يكون لأهل الكتاب من اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم عليكم احتجاج واعتراض بل يُمْنَع كله، حيث قد يقول بعضهم عنكم لا يَتّبِعون ديننا ويستقبلون قِبْلَتنا وهي بيت المقدس فعليهم إذَن أن يَتّبِعوا ديننا! وكذلك قد يقول بعضٌ آخرٌ منهم أو مِن غيرهم هم يَدَّعُون أنهم علي مِلّة إبراهيم التي هي دين الإسلام ثم لا يَتَوَجّهون إلي قبلته وهي الكعبة! وما شابه هذا من حِجَج واعتراضات قد تَصْدُر من بعضهم والتي قد تُقْنِع بعض ضِعاف العقول وهي لا قيمة لها عند كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.." أي حجَجُ عمومهم ستَضْعُف وتَقِلّ وتَمْتَنِع لكنَّ الذين ظلموا منهم وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون الذين يعلمون الحقّ تماما ولا يَتّبعونه والذين لا يُنْتَظَر منهم أنْ يُقنعهم أيّ دليلٍ سيستمرّون ويُصِرُّون علي جدالهم واعتراضهم بلا أيِّ عقلٍ أو مَنْطِقٍ مهما كانت الأدِلّة مُقْنِعَة أمامهم – مِثْل أنَّ لكل أمّةٍ قِبْلَة تَتّجه إليها – ويُثيرون الشكوك والأكاذيب كقولهم مثلاً أنه بما أنَّ المسلمين قد تَوَجّهوا أولا لبيت المقدس الذي هو قبلتنا إذن فديانتنا اليهودية والنصرانية هي الأفضل فعَلَيَ الجميع اتّباعها! أو بما أنهم عادوا للاتجاه للكعبة وقد كانت فيها الأصنام تُعْبَد من دون الله فهم سيَعودون يوماً مَا لعبادتها مرة أخري! وما شابه هذا من افتراءات وتخاريف! والتي لا يُريدون بها إلا الجدال والعِناد والتكذيب والتشويش علي الإسلام لمَنْع الناس من اتّباعه.. ".. فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.." أي فأمثال هؤلاء الذين ظَلَموا منهم والذين لا تَنْقَطِع أكاذيبهم وتشويشاتهم المُتَعَدِّدَة لا تخافوا حجَجهم واعتراضاتهم فهي لا يُهتمّ بها ولا يُلْتَفَت إليها ولا تضرّكم لأنها ضعيفة لا قيمة لها حيث لا تَستند لأيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ وهي لا تَثْبُت أمام الحقّ الذي جاء به الإسلام، وخافوني باتّباعه وعدم مُخَالَفَة أخلاقه واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كل شيء قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)" أيْ وأمرتكم بالتَّوَجُّه جِهَة المسجد الحرام عند الصلاة، وأمرتكم بالخَشْيَة، لكي أُكْمِل نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ عليكم بأن لا يكون للناس عليكم أيّ حجَّة بل تكونوا أنتم دائما الأعَزّ أصحاب الحقّ الكامل الذي لا يتأثّر بأيِّ باطلٍ وبأن تكون قِبْلتكم إلى أفضل بيتٍ بُنِيَ لله تعالى في أرضه والتي هي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ للناس جميعا لتكون أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم فتكونون بذلك قادة للأمم تَهدونهم لكل خيرٍ وسعادةٍ وتنالون لذلك أعظم الخير في الداريْن، وذلك كله بعد أعظم نِعْمَة أنعمت بها عليكم وهي نعمة القرآن والإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ولقد أعطيتكم كل هذا لعلكم تهتدون، أيْ لكي تهتدوا، أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)" أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره مِن نِعَمٍ لا تُحْصَيَ (برجاء مراجعة الآية السابقة لتكتمل المعاني) هو مِن نِعَمِي عليكم كنِعَمِ أن أرسلنا أيْ بعثنا فيكم رسولا أيْ مَبْعُوثاً يكون منكم أيْ تعرفونه فتَثِقُون فيه وتُصَدِّقونه يقرآ عليكم ويُبَلّغكم آياتنا سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولكم يُوَجِّهكم لتَدَبُّرها أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِه لتأكيد صِدْقه، ويزكيكم أيْ ويُطَهِّركم من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ يُرَبِّيكم علي العمل بكل أخلاق الإسلام فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعركم فتسعدون، والتزكية هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات، ويُعَلّمكم الكتاب الذي نُوحِيه إليه بأنْ يُبَيِّن لكم معانيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتكم لتسعدوا بها، ويعلمكم كذلك الحِكْمَة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في كتابنا، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، ويُعَلّمكم أيضا ما لم تكونوا تعلمون مِن قَبْل إرساله إليكم أيْ ما كنتم تجهلونه من علومٍ غيبية كالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار وكيفية الاستعداد لذلك بحُسن العمل، ومِن كيفية استنباط الأحكام من النصوص، ومن عبرٍ في أخبار وقصص وتصرّفات الرسل السابقين والأمم السابقة، وما شابه هذا من أصول العلوم التي تنتفعون وتَرْقُون وتَقْوُون وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الذكر لله تعالي دائم الشكر له.. وإيّاك إيّاك أن تكون من الكافرين بنِعَم ربهم عليهم فيُنكرونها أو يَستصغرونها أو ينسبونها لغيره أو نحو ذلك من أنواع الكُفْران والجُحود مِمَّا يُشْقِي ويُتْعِس ويكون من أسباب زوالها وعدم البركة فيها بسبب سوء التعامُل معها
هذا، ومعني "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)" أيْ كما ذَكَرْناكم بالنّعَم السابقة التي لا تُحْصَيَ (برجاء مراجعة الآيتين السابقتين لتكتمل المعاني) فاذكروني أيها المسلمون – وأيها الناس – بألسنتكم وبعقولكم وبأعمالكم، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخلكم فتَنطلقون لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله تعالي ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد الإنسان تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. أَذْكُرْكُمْ.." أيْ فاذكروني بالطاعة التي سَبَقَ ذِكْرها أذكركم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، أذكركم بالرعاية والأمن والحب والرضا والرزق والعوْن والتوفيق والسداد والتيسير والقوة والنصر والسرور.. ".. وَاشْكُرُوا لِي.." أيْ وكونوا دوْمَاً من الشاكرين لي علي نِعَمي والتي لا يمكن حصرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدتكم ووعدي لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم: 7).. ".. وَلا تَكْفُرُونِ (152)" أيْ ولا تُنْكِروا نِعَمِي فلا تعترفون بها أو تستصغرونها أو تنسبونها لغيري أو نحو ذلك من أنواع الكُفْران والإنكار الذي يؤدّي إلي أن أعاقبكم بسَحْبها منكم ومنعها عنكم بسبب سوء تعامُلكم معها فتَشْقون وتَتْعَسون، وإيّاكم أيضا أن تَصِلُوا إلي درجة أن تكفروا بي أيْ لا تُصَدِّقوا بوجودي وبكتبي ورسلي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنتي وناري فتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظركم، وإلاّ فإنَّ نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة درجة ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة بما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ من المقيمين للصلاة أي الذين يقومون بها علي أكمل وجهٍ أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مدار يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – استعينوا في كل أموركم بكل شئون حياتكم بالصبر، أيْ بالثبات والصمود والاستمرار بكل هِمَّة علي تَمَسّككم بربكم وإسلامكم وعلي طَلَب العوْن منه ثم من الصادقين المُتَخَصِّصِين مِمَّن حولكم، فهذا سيُعينكم ولا شك علي إتقان وتطوير أعمالكم وكَسْبِكم وعِلْمِكم ومعاملاتكم ونحوها وتَحَمُّل أعبائها والاستفادة بخبراتها وتصحيح أخطائها وحُسن الانتفاع بخيراتها والامتناع عن الوقوع في شرورها، إلي غير ذلك من السعادات، وإنْ أصابتكم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا فاصبروا عليه واستعينوا بربكم والجأوا إليه لتَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وكذلك استعينوا بالصلاة لأنه ما أوْصَيَ بها سبحانه إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يَطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. فمَن يفعل ذلك أيْ يستعين بوصية الله تعالي له بالصبر والصلاة، لا بُدّ أن يُعينه ويُيَسِّر له كل أموره ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، وتخصيص التذكرة بالصبر والصلاة من تعاليم الإسلام هو للتنبيه علي أهميتهما وآثارهما المُسْعِدَة.. ".. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)" أيْ هذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة
وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْمَاً مِن المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامك المُستعِدّين للدفاع عنها دائما لأنها مصدر سعادتك في حياتك وبدونها تَشْقَيَ وتَتْعَس ولا معني لها، المستعدين دائما للبذل والعطاء في سبيلها أفضل وقتٍ وقولٍ وعملٍ وفكرٍ وجهدٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وتواصُلٍ مع الآخرين ونحو ذلك من صور الجهاد وبذل الجهد في سبيل الله وفي سبيل المحافظة عليها ونشرها ودعوة الغَيْر لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فمَن ماتَ أثناء هذا فله درجة من درجات الشهداء، ومَن سَأَلَ ربه الشهادة في سبيل ذلك صادقا أيْ مُتَّخِذَاً ما أمكنه من أسبابها فسيَنالها وإنْ مات علي فراشه كما وَعَدَ الصادق الأمين رسولنا الكريم (ص)، ومَن دَفَعَ دَمَه وروحه بالفِعْل دفاعاً عنها عند الاعتداء عليها فهو شهيدٌ حيٌّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّيِن مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والصالحين
هذا، ومعني "وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154)" أيْ هذا تشريفٌ وتكريمٌ وتعظيمٌ للشهداء في الدنيا قبل الآخرة وتشجيعٌ لكل مسلم أن يكون قويا شجاعا مِقْدَامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمه وروحه وكل ما يملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامه والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينال العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف.. أيْ لا تقولوا أيها المسلمون لمَن يُقْتَل في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة حيث كان يَنشره بكل قُدْوة وحكمة وموعظة حسنة ويدافع عنه بما استطاع بكل الوسائل المُمْكِنَة حتي قُتِل من أجل إعلاء كلمة الله ونُصْرة الإسلام والمسلمين، لا تقولوا أبداً لأمثال هؤلاء أموات مثل أيّ مَيِّتٍ قد مات بمعنى أنهم قد تَلِفَت نفوسهم وانقطعت عنهم النِّعَم وأصبحوا كالجمادات وتحزنون علي فقدانهم لحياتهم وفراقهم كما يُفْهَم من معنى المَيِّت فهم لم يخسروا الحياة المحبوبة لكل البَشَر بل حَصَلَ لهم وانتقلوا لحياةٍ أعظم وأكمل سعادة مِمَّا تَحسبون لأنهم وإن فَقَدوا حياتهم ظاهريا أمامكم لكنهم واقعيا أحياء عند ربهم الكريم الرحيم الرزّاق الوهّاب يُرْزَقون ويَتَنَعّمون ويَسعدون بأعظم أنواع النعيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولذا فهم شهداء يَشهدون تمام الخير والسعادة لا أموات.. ".. وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154)" أيْ ولكن لا تُحِسُّون أنتم أيها الأحياء بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا ولا تُدْركونها لأنها حياة لا يعلمها إلاّ علّام الغيوب سبحانه
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة).. إنك إذا كنتَ مُسْتَعِدَّاً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألاّ يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم.. فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)" أيْ وبالتأكيد سنَختبركم أيها المسلمون بين الحين والحين باختبارٍ ما بما يُناسب كلاًّ منكم، فهذه هي طريقتنا مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيكم آدم، وذلك لمصلحتكم ولسعادتكم، لتستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، ونحن نُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم.. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – أعمالكم وأقوالكم وأحداثكم وتصرّفاتكم كلها فيَتَبَيَّنَ لكم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته في الداريْن)، فيَتَبَيَّنَ بذلك لكم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب ليَسعد حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون لأيّ أحدٍ حجّة أو جدال حينما يَنال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد!.. "..بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ.." أيْ ولنَخْتَبِرَنّكم بشيءٍ قليلٍ من الخوف في شأنٍ ما من شئون الحياة، ومن الجوع أحيانا بقِلّة الطعام والشراب، ومن نقصِ بعض أنواع الأموال بصعوبة الحصول عليها أو ذهابها، وبعض الأنفس بموت الأحباب من الأقارب والأصحاب وبأنواع الأمراض المختلفة وبالاستشهاد في سبيل الله، وبعض الثمرات من كل النباتات بضعف إنتاجها أو تَلَفها أو فسادها، أو بما شابه هذا من أنواع الاختبارات المُتَعَدِّدة.. هذا، ولفظ "بشيء" يُفيد أنَّ الاختبار بالشيء الصعب أو الضَرَر هو يَسِير جدا نسبة إلي الخير الكثير الذي فيه المسلمون – وعموم الناس – رحمة وكرماً من خالقهم الكريم سبحانه ولمَنفعتهم كما سَبَقَ وذَكَرْنَا.. ".. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)" أيْ أَخْبِرْهم وذَكّرهم دائما بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعاً لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي صبرهم وصمودهم وثباتهم واستعانتهم بربهم ولجوئهم إليه، وهو أنَّ لهم مِنه عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً، في دنياهم حيث تمام الخير والسعادة، ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، كما وَعَدَ ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً ".. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10) .. فليَحْيَا الصابرون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
ومعني "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)" أيْ الذين من صفاتهم أنهم إذا نَزَلَت بهم مَضَرَّة تَضُرّهم وتُؤذيهم في أجسادهم أو مشاعرهم أو ممتلكاتهم أو غيرها في أيِّ شأنٍ من شئون حياتهم قالوا فوراً بمجرّد نزولها بلا تأخيرٍ أو تَرَدُّدٍ بألسنتهم واستشعروا بعقولهم قول "إنا لله وإنا إليه راجعون" وعاشوه حقيقة واقعة في مثل هذه المواقف إذ هو يعني تمام تفويض الأمر لصاحب الأمر سبحانه والرجوع واللجوء إليه والاعتصام والتَّشَبُّث به ودعاءه وذِكْره واستغفاره وطَلَب معوناته ورحماته فهم خَلْقه وهو خالقهم ومالِكهم ومُدَبِّر شئونهم ولا بُدَّ حتماً راحِمهم ومُنَجِّيهم فبهذا يَسكنون ويَطْمَئِنّون ويَرتاحون ويَستبشرون مُنْتَظِرين عوْنه وتَفْرِيجه وتَيْسيره وأجره وخيره العظيم في دنياهم حيث هم فيها إليه راجعون أيْ هو مَرْجِعهم ومَلْجَأهم ومُعِينهم أيْ الذي يُرْجَع إليه في أمرِ كلِّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله ثم هم في أخراهم راجعون حتما له يوم القيامة بعد بَعْثِهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم لينالوا أجورهم.. إنَّ صبرهم هو صبر جميل أي خالٍ من أيِّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخط داخليّ أو شكوي لأحدٍ غير الله تعالي وإنما كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه والاستعانة به ودعائه فهو المُسْتَعَان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد، مع العمل قَدْر الاستطاعة علي محاولة التَّغَلّب علي الصعاب بكل إيجابية دون أيِّ سلبية بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة.. هذا، ومَن لم يَصْبِر صبراً جميلاً يَتَنَاقَص ثوابه تدريجياً علي قَدْر بُعْدِه عن مُوَاصَفاته وقد لا يكون له أيّ ثوابٍ إذا خَالَفه كُلّيَّاً وقد يأثم علي قًدْر ما يفعل من شرور ومَفاسد وأضرار بسبب عدم صبره.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الحُزْن المُعْتَدِل عند حدوث الضَرَر لا يُخْرِج عن صفة الصبر ولا يُنْقِص ثوابه لأنه من المشاعر الإنسانية في العقل وقد سَمَحَ به سبحانه ووَضَعه في خَلْقه لمصلحتهم ليتراحموا فيما بينهم وليعلموا قيمة ما هم فيه مِن سعادةٍ غالِبَة يعيشونها إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء وليكون حافزاً لهم للانطلاق مرة أخري نحو الخير والتَّشَبُّث به دوْماً مستقبلاً دون أيّ تفريط، أمّا إنْ زادَ الحُزن عن حَدِّ التَّوَسُّط والاعتدال ووَصَلَ لمرحلة الجَزَع والخوف والإحباط واليأس والوقوع في الأخطاء والتّقَاعُس عن الإيجابية والإقدام لمقاومة هذا الحزن ولعلاج أسبابه وأخطائه والعودة سريعا لكل خيرٍ فقد خَرَجَ مَن يفعل ذلك عن صفة الصبر والصابرين ولا بُدَّ سيَشْقَيَ ويَتعس بصورةٍ من الصور ودرجةٍ من الدرجات في الداريْن
ومعني "أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)" أيْ هذا تشجيعٌ علي مزيدٍ مِن الصبر الجميل، أيْ هؤلاء المَوْصُوفون سابقا بهذه الصفات الطيبة الكريمة حتما سيكون عليهم صلوات من ربهم ورحمة في دنياهم وأخراهم أيْ يُصَلّي عليهم أي يَذْكُرُهم ويَرْحَمُهم ويَتَوَاصَل معهم بكلّ عوْنٍ ورعاية وبَرَكَة وحبّ ورضا وخير، لأنَّ الصلاة أصلا ما هي إلا ذكْر ورحمة وتَوَاصُل، ففي الدنيا لهم تمام الخير والسعادة حيث سيُوَفّر لهم كلّ الحب والرضا والرعاية والأمن والعوْن والتوفيق والسداد والنصر والرزق والقوة، ثم في الآخرة سيكون لهم قطعاً ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. "..وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)" أيْ وهؤلاء هم حتما السائرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، لأنه طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة، بسبب صبرهم وثباتهم وصمودهم وتمسّكهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المحافظين علي شعائر الله تعالي المتمسّكين العامِلين بها المُسْتَزِيدين منها، وهي مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. فإنْ فَعَلْتَ هذا كان علامة علي حبك لربك ولدينك وسيشكره لك سبحانه وشكره سيكون مُتَمَثّلاً في كل الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)" أيْ إنَّ السَّعْيَ والمَشْيَ بين الصفا والمروة، وهما جَبَلَان صغيران قُرْبَ الكعبة من جهة الشرق، هو من مَعَالِم دين الله، فهي شَعِيرَة شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل.. فمَن قَصَدَ بيت الله الحرام للحجّ أو للعُمْرَة فعليه أن يَطُوفَ بهذه الجَبَلَيْن بأنْ يسعيَ ويسير بينهما، وهو المكان الذي سَعَت وسَارَت فيه هاجَر زوجة الرسول الكريم إبراهيم (ص) باحِثَة عن ماءٍ لابنها فأكرمها الله ببئر زمزم، ليَتَذَكّر كل مسلم فضله وكرمه وعوْنه سبحانه فيستعين دائما به فيَسعد في الداريْن.. هذا، ومعني لا جناح عليه أيْ لا حَرَجَ ولا ضِيق ولا إثم عليه حيث البعض قد يَتَوَهَّم أنَّ هذا السَّعْي هو تَشَبُّه ببعض أفعال الجاهلية قبل الإسلام.. ".. وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)" أيْ وكلّ مَن فَعَلَ طاعة، فَعَلَ خيراً مَا، عن طَوَاعِيَةٍ واختيار، فإنَّ الله تعالي شاكر أيْ كثير الشكر أي يَقبل القليل من عمل الخير ويُعطي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسِب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خير حتي ولو كان قليلا ليكون تشجيعا له علي الاستمرار فيه والزيادة منه فتزداد بذلك سعادة فاعله في الداريْن، وهو أيضا عليم حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون نشر الإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. وإيّاك إيّاك أنْ تَكْتُم شيئا منه عنهم أو تُقَصِّر في ذلك بلا عُذرٍ مقبول وإلا تعسوا وانتشرت تعاساتهم ومراراتهم ولعناتهم فيما بينهم والتي حتما سيُصيبك منها شيءٌ قَلَّ أو كَثُر وستَحلّ عليهم لعنات ربهم أيْ يبتعدون عن رحمته ورعايته وأمنه وتوفيقه وعوْنه وبركته وإسعاده وقد يُصيبك مِن ذلك فكُن حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر وقُم بتأدية واجبك ولا تتركه لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره حتي تسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)" أيْ هذا حثّ علي إظهار الحقّ والعدل والخير والعلم النافع وبيانه وتحذيرٌ شديدٌ من إخفائه.. أيْ إنَّ الذين يُخْفُون ما أنزلنا علي رسلنا وأوحيناه إليهم من البَيِّنَات أيْ الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوا الناس لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وكذلك يَكْتمون الهُدَيَ وهو كلّ علمٍ يَهْدِىِ إلى الخير عموماً فهو أعَمّ من البَيِّنات وتأكيد لها.. ".. مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ.." أيْ مِن بَعد ما أظهرناه ووَضَّحْناه للناس في الكُتُب التي أوحيناها لرسلنا كالتوراة التي أنْزِلَت علي موسي (ص) لليهود والإنجيل الذي أنْزِلَ علي عيسي (ص) للنصاري وكآخرها وهو القرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد (ص)، فيَكتمونها ويُخفونها عنهم ولا ينشرونها أو يُفَسِّرونها تفسيرات فاسدة بعيدة عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الكتمان، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ.." أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بهذه الأوصاف السيئة وبسبب أفعالهم الشنيعة يَطردهم ويُبْعِدهم الله من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. "..وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)" أيْ ومِن شِدَّة غضب الله عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، يجعل الله اللعنة مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيّ مكانٍ إذ يلعنهم الناس بل الخَلْق جميعا وذلك كلما أصابهم ضَرَرٌ مَا بسبب كتمان الخير ونشر الشرّ حيث هم السبب فيه، أيْ يَدْعُون عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله في الداريْن، فاجتمعت عليهم لعنات الخالق وكل خَلْقه
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم – ككِتْمان الخير والعلم وغيره من الذنوب أيْ الشرور – وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وأصلحوا أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وبَيَّنُوا أيْ قاموا بإظهار خلاف ما كانوا عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاعوا من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)" أيْ فهؤلاء أقبل توبتهم وأعفو عن ذنوبهم وأمحوها كأن لم تكن ولا أعَاقِبهم عليها وأزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة وأوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فأسْتُرهم وأعِينهم وأسعدهم، لأني أنا التواب أيْ الكثير العظيم التوبة على مَن تاب إليّ ورجع إلى طاعتي باتِّباع أخلاق الإسلام وأنا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمتي وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تَسْبِق غَضَبِي (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَقَنطَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير !
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)" أيْ إنَّ المُصِرِّين علي كُفرهم من الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يتوبوا ويعودوا لربهم ويُسْلِموا واستمرّوا علي ذلك حتي ماتوا وهم كفار، هؤلاء عليهم حتما لعنة الله أيْ طرد وإبعاد الله لهم من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ومِن شِدَّة غضب الله عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، يجعل الله اللعنة مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيّ مكانٍ إذ تلعنهم الملائكة والتي ستقوم في الآخرة بلَعْنِهم أيضا وبتعذيبهم في النار، ويلعنهم الناس بل الخَلْق جميعا وذلك كلما أصابهم ضَرَرٌ مَا بسبب سوئهم، أيْ يَدْعُون عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله في الداريْن، فاجتمعت عليهم لعنات الخالِق وكل خَلْقه
ومعني "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162)" أيْ ماكِثين مُستمرّين في هذه اللعنة ثم في عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. ".. وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162)" أيْ وحين يَحلّ وقت العذاب الدنيويّ ثم الأخرويّ لا يُمْهَلون أيْ لا يُتْرَكون ولو للحظة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يشبههم لكي يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَانِ ونزول العذاب.. وفيه أيضا – إذا ماتوا مُصِرِّين علي ما هم عليه – قطعٌ لهم لأيِّ أملٍ في تخفيفِ العذاب أو حتي بقاءه كما هو بغير زيادةٍ في مقداره أو تغييرٍ في نوعه، وهذا من علامات شِدّة غضب الله تعالي علي أمثالهم
وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (163)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (163)" أيْ ومَعْبُودكم أيها الناس مَعْبُودٌ واحدٌ، لا مَعْبُود أيْ مُطَاع إلا هو، وهذا مزيدٌ من التأكيد أنه إلهٌ واحد، أيْ هو الله وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، والفرق بين الرَّبِّ والإله – والله تعالي هو حتما الاثنين معا – أنَّ الرَّبَّ هو الذي يَخْلُق خَلْقَه ويُرَبِّيهم ويَرزقهم ويَرعاهم جميعا، أمَّا الإله فهو المَعْبُود أيْ المُطَاع أيْ الذي يُشَرِّع للبَشَر مِن خَلْقِه الأخلاقيَّات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فمَن أطاعه واتَّبَعَ شَرْعه أيْ الإسلام فقد اتَّخَذَه إلاهَاً له وسَعِدَ فيهما، ومَن خَالَفه وأطاعَ غيره فيما يُخَالِف الإسلام فقد اتَّخَذَ هذا الغَيْر إلاهَاً له وعَبَدَه وتَعِسَ فيهما علي قَدْر مُخَالَفَاته.. ".. الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (163)" أيْ هو الرحمن أي الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورِزْقهم ورِعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. هذا، وعند بعض العلماء فإنَّ معني الرحمن هو الذي يرحم جميع خَلْقه برزقهم ورعايتهم ومعني الرحيم هو الذي يزيد المؤمنين به برحماتٍ خاصَّة تتمثل في حبهم وعوْنهم وتوفيقهم وتيسير أحوالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. كذلك عند علماء آخرين هما بمعني واحدٍ وهو كثرة الرحمة واجتماعهما معاً هو للتأكيد علي عظيم وكمال ودوام رحمته تعالي.. إنك ستَسعد في حياتك كثيرا أيها المسلم إذا عِشْتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكن حريصاً دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدَاً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَه فَعُدْ سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ الآية الكريمة هي طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، خَلْق السماوات والأرض أيْ إيجادها من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بما فيهما مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء وتغيُّر الصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان.. "..وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.." أيْ وكذلك تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. "..وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ.." أي وكذلك من الآيات والنِعَم ما خَلَقه وجَعَله الله مِن خَوَاصِّ الماء والهواء أنه يَحمل السفن ولا يُغرقها بل تطفو علي سطحه – مع تيسيره سبحانه للعقل لأسباب صناعتها – وتجري فيه بما ينفع الناس لكي تستطيعوا الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو ذلك من أفضال وأرزاق ونِعَم الله عليكم المُفيدة المُسْعِدَة لكم.. ".. وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.." أيْ وأيضا ما أنزله من السماء من مطرٍ مُعْتَدِلٍ لسَقْي الزروع والدوابّ ونموها وما شابه هذا مِمَّا يُحيي الأرض ومَن عليها ويُكثر خيراتها ومنافعها وسعاداتها بعد أن كانت ملساء هامدة لا نبات فيها.. ".. وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ.." أيْ ونَشَرَ فيها مِن كل أنواع المخلوقات التي تَدُبّ عليها والتي كلها مُسَخَّرة لنفع وإسعاد الإنسان.. "..وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.." أي وكذلك تقليب وتحريك الرياح والسُّحُب المُذَلّلة بينهما في الجهات المختلفة ونقلها حسبما يريد هو وحده لا غيره من مكانٍ لآخر وتغيير سرعتها وقوَّتها وحرارتها ووقتها ونحو هذا بما يَنفع الناس ويُسعدهم أو يُعاقبهم إنْ أساءوا.. ".. لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)" أيْ في كلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وغيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دلالات واضحات على تمام قدْرة الله وعلمه ولكنْ لا يُدْرِك أهمية هذه الآيات ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا القوم الذين يعقلون أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا جَعَلْتَ الله تعالي أشَدَّ مَحْبُوبِيك، وكيف لا وهو الذي يَرْعاك ويُؤَمِّنك ويُعينك ويُوَفّقك ويُسَدِّد خُطاك ويرزقك ويُقَوِّيك وينصرك في كل شئون حياتك وبحبه ستسعد بتبادُل الحب بينك وبين كل مَن حولك كوالديك وإخوتك وجيرانك وأقاربك وزملائك وأصدقائك وأهل بلدك وعموم الناس بل والمخلوقات كلها والكوْن كله كما وَعَدَ سبحانه حُبّ مَن يُحبه بقوله "..يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه.." (المائدة:54)، وهذا هو فضله علي مَن يحب إذ سيكون سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وسيُحِبّه الجميع وسيُعِينوه كما وَعَدَ الصادق الأمين (ص) وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه.. وإيّاك إيّاك أن تجعل لله تعالي نِدَّاً، أيٍ مَثِيلَاً ونَظِيرَاً تعبده غيره أيْ تُطيعه، وكيف تُسِيء استخدام عقلك هكذا حتي تَصِلَ به إلي هذا السَّفَه وأنت تُوقِن وتَرَيَ أمامك أنه لا خالق غيره سبحانه فلْيُريك أحدهم ماذا يَدَّعِيه أنه قد خَلَقه وهو تعالي الذي يُسَيِّر الكوْن كله ويُخْرِج أرزاق الأرض والسماء فهل بعد هذا تَترك صاحب القوة جميعا وتَتَّخِذ ضعيفا مثلك أو أضعف تطلب منه رزقا أو صحة أو قوة أو غيره بل وتَتَذَلّل له وتُطِيعه حيث سَار وإنْ كان شرَّاً وكأنه ربّ لك؟!!.. كذلك ستَسعد في الداريْن إذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)" أيْ ومع كلّ هذه الأدِلّة القاطِعَة الحاسِمَة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي تدلّ بلا أيِّ شكّ أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة، يوجد البعض من الناس مِمَّن عَطّلوا عقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة يَجعل أنداداً أيْ أمثالاً وشركاءَ غير الله تعالي يَعبدونهم ويُحِبّونهم ويُعَظّمونهم عبادة وحبا وتعظيما كعبادةِ وحبِّ وتعظيمِ الله والذي هو حتما وحده مَن يَسْتَحِقّ كل هذا والذي يُفترض أن يكون من المَخلوق لخالِقه، وكعبادة وحبّ وتعظيم المؤمنين لله، كأصنامٍ أو كواكب أو نحوها أو كبَشَرٍ ضعيفٍ مثلهم أو أضعف يَطلبون منه رزقاً أو صحة أو قوة أو غيره بل ويَتَذلّلون له ويُطِيعونه حيث سَار وإنْ كان شرَّاً وكأنه إلهٌ لهم !!.. "..وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ.." أيْ هذا مدحٌ للذين آمنوا – أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – وتشجيعٌ لهم للاستمرار علي ما هم عليه ليسعدوا في الداريْن.. أيْ هم أشدّ حبا لله تعالي من كل شيء وحُبّهم لمَن حولهم هو جزء مِن حبهم له لأنه يأمرهم بحبهم ويحبهم إذا أحبوهم ويزيدهم قُرْبَاً منه وإسعاداً في دنياهم وأخراهم بسبب ذلك، وهم أيضا أشدّ حبا له من حب غير المؤمنين للأنداد الذين عبودهم غيره سبحانه كالأصنام ونحوها ومِن حب التابعين لمَن يتبعونهم مِن البَشَر ويعبدونهم أيْ يُطيعونهم في الشرور والمَفاسد والأضرار، وذلك لأنَّ حب الذين آمنوا لله الخالق الكريم ناتِجٌ عن أدِلّة مؤكَّدة بتمام قدْرته وعلمه بخَلْقه وكمال صفاته الحسني وسلطانه ونفوذه وحكمته وعدالته ورحمته ووُدِّه وعطائه، وهو مَصْحُوبٌ بيقينٍ بأنَّ هذا الحب يؤدّي حتما إلي تمام السعادة في الدنيا والآخرة، وكل ذلك يَقْبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، بينما حب غير المؤمنين لمَعْبُوداتهم ناتج عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الفاسدة والأفكار السفيهة التي لا يقبلها العقل السليم ولا الفطرة،ولا يؤدي إلا لكل تعاسة في الداريْن، كذلك المؤمنون لا ينشغلون عن مَحْبُوبهم في الشدّة ولا في الرخاء بينما غيرهم فإنهم يعبدونهم في وقت الرخاء فإذا نَزَل بهم شدَّة مَا لجأوا إلى الله بفطرتهم لأنهم لا يخدعون أنفسهم حيث ساعة الجدّ لا يلجأون إليهم لأنهم يعلمون تماما أنهم لا ينفعونهم بأيِّ شيء بينما الذي ينفعهم مؤكّداً خالقهم الكريم سبحانه فالمؤمنون لا ينسونه لا في الرخاء ولا في الشدة لكنَّ الكافرين لا يعرفونه إلا في الشدائد فإذا مرَّت الشدّة فإنهم يعودون إلي ما كانوا عليه فحبهم له هو لفترات ضئيلة ومُجْبَرين عليه فهو حتما أضعف.. ".. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)" أيْ ولو شاهَدَ الذين ظلموا – أي ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – العذابَ المُعَدّ لهم في الآخرة بما يُناسبهم لَعَلِمُوا حين يرونه تمام العلم أنَّ الله هو المُتَفَرِّد وحده بالقوة كلها لا آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا حيث لا قيمة لها ولا تنقذهم ولَعَلِمُوا أنه شديد العذاب ولَامْتَنَعُوا تماما عن ظلمهم في دنياهم حتي ينجوا ويسعدوا.. إنهم لو كانوا يعلمون ويُقَدِّرون بحقٍّ وجدٍّ قوة الله تعالي وشدّة عذابه لامتنعوا ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يرونه أيْ لا يعقلونه لأنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، ذلك اليوم الشديد علي المُكَذّبين المُسِيئين – اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة – حين يَتَنَصَّل ويَتَنَكّر ويَبْتَعِد فيه المَتْبُوعون من الذين اتّبَعوهم والرؤساء مِن مَرْؤسِيهم، عند رؤيتهم جميعاً للعذاب الذي لا يُوصَف المُعَدّ لهم بما يناسبهم، وحين تَتَقَطّع ما بينهم من روابط وصِلَات ومَوَدَّات كقَرَابات وعلاقات وغيرها كانوا يَتَواصَلون بها فى الدنيا وصارَ كلّ فريقٍ منهم يلعن الآخر ويَسبّه ويَتَبَرَّأ منه لأنه كان مِمَّن أوقعوه فيما هو فيه
ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)" أيْ وقال الذين كانوا تابِعين لغيرهم في دنياهم فى الشرور والمَفاسد والأضرار بدون تَعَقّل، علي سبيل الحَسْرة والندم الشديد، نَتَمَنَّيَ لو أنَّ لنا رَجْعَة وعَوْدة إلى الحياة الدنيا فنتبرَّأ مِن هؤلاء الذين اتّبعناهم وأضلّونا ونبتعد عنهم ونتّبع الإسلام لنسعد، كما تَبَرَّأوا مِنّا الآن يوم القيامة.. لكنَّ هذا التَّمَنِّي وهذا التَّبَرُّؤ وهذا النّدَم حتماً لن ينفع بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب.. ".. كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)" أيْ كما يُريهم الله شدّة عذابه يوم القيامة وما يُصاحِبه من التّبَرُّؤ والتّقَطّع للأسباب بينهم أيضا يُريهم أعمالهم السيئة لتكون نَدامات شديدة عليهم كنوعٍ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار والتي هم ليسوا بخارجين منها أبداً أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي الناس سواء أكانوا مؤمنين أيْ مُصَدِّقِين به أم غير مؤمنين لينتفعوا وليسعدوا بها تمام الانتفاع والسعادة فيشكروه ويعبدوه أيْ يطيعوه ويتوكلوا عليه وحده فتزداد وتَتِمّ سعادتهم في دنياهم وأخراهم ولعل غير المؤمنين يستيقظون فيؤمنون فيسعدون هم أيضا.. أيْ يا أيها الناس كلوا من رزق الله الذي خَلَقه في الأرض مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.." أيْ ولا تَسِيروا خَلْف طُرُقات الشيطان الذي يأخذكم حتما للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات التامَّات في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)" أيْ لأنه عدو مُبين أيْ واضِح لكم، أيْ ضِدَّكم يريد إضلالكم أيْ إبعادكم عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه
ومعني "إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)" أيْ لأنه ما يَطلب منكم إلاّ السوء أيْ الشرّ الذي يَسُوء الإنسان ويُصِيبه أو غيره بالضرَر والتعاسة ويشمل كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار، وإلاّ الفحشاء وهي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر، وإلاّ أنْ تفعلوا ما هو أشدّ وأفظع سُوءَاً وفُحْشَاً وهو أن تقولوا علي الله ما لا تعلمون أيْ تقولوا عليه سبحانه شيئا بغير علمٍ أو دليلٍ أو تَثَبُّتٍ، أو تَصِلُوا إلي مرحلة أن تقولوا عليه كذباً أو افتراءً أو سَفَهَاً أو تَعَالِيَاً أو عِنادَاً أو مُرَاوَغَة أو ما شابه هذا، سواء أكان هذا القول في شَرْعه تعالي وهو الإسلام أو في صفاته أو أقواله أو أفعاله
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُقَلّدَاً لكلّ خيرٍ مُتَّبِعَاً لكلّ حقّ وعدلٍ مُحْسِنَاً استخدام عقلك مُهْتَدِيَاً بكلّ خُلُقٍ حَسَنٍ من أخلاق الإسلام، أمّا إنْ كنتَ مُقَلّدَاً لشرٍّ مُتَّبِعَاً لباطلٍ مَا مُسِيئاً لاستخدام عقلك سائراً كالدابّة دون فكرٍ مَسْلُوب الإرادة خَلْفَ قريبٍ أو زعيمٍ أو مديرٍ أو زميلٍ أو صديقٍ أو غيره، حَرَجَاً أو تَعَصُّبَاً أو طَلَباً لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا تنتظر إلا الشقاء والكآبة والتعاسة في الداريْن بمقدارٍ يُساوِي قَدْر إساءتك
هذا، ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)" أيْ وحينما يقول المسلمون ناصحين لهؤلاء الذين يتّبعون خطوات الشيطان بكل أشكالها – سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا من شرور ومفاسد وأضرار وتعاسات – اتّبِعوا ما أنزل الله أيْ سيروا خَلْف القرآن العظيم والإسلام واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، قالوا لا نَتّبِعه بل نَتّبِع ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا السابقين في عبادة ما يعبدون وفِعْل ما يَفعلون.. ".. أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)" أيْ يتّبِعونهم حتي ولو كانوا لم يُحسنوا استخدام عقولهم وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا، ولا يَهتدون أيْ لا يَسيرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة..!!.. حتي ولو كانوا لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ولا يهتدون إلى طريق الصواب!! حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)" أيْ هذا مَثَلٌ يَذْكُره الله تعالي للناس لتقريب المعني للأذهان كي يسهل فهمه وتطبيقه، وهو حال الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم في قِلَّة وانعدام العقل والحَقَارة، كمَثَل وحَال مَن يَنْعِق أيْ يصِيح ويَرْفع صوته بمخلوقٍ أمامه لا يَسمع إلاّ مجرّد دعاء أيْ صوت عن قُرْب أو نداء أيْ صياح عن بُعْد ولا يَفهم ما يَسمعه، والمقصود أنهم حين يدعوهم المسلمون لله وللإسلام لا يسمعون سماع تَعَقّل وتَعَمُّق وتَدَبُّر فينتفعون بما يسمعونه فيؤمنون بربهم ويتمسّكون بإسلامهم لكي يسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة، أيْ كأنهم لم يسمعوا إلا مجرّد أصوات ونداءات وهَمْهَمَات لا يفهمونها كالبهائم التي تَسمع مِمَّن حولها أصواتا لا تفهم معانيها!! وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمّ ولوْمٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم وتحذيرٌ مِن التَّشَبُّه بهم لتَجَنُّب تعاساتهم في الداريْن.. ".. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)" أيْ هؤلاء حتما هم صُمٌّ أيْ كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سماع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهم بُكْمٌ أي كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير، وهم عُمْيٌ أيْ كالذين فقدوا أبصارهم لأنهم لا ينتفعون بها في رؤية الخير حولهم والاعتبار به والتّدَبُّر فيه، وبالتالي وبسبب ذلك التعطيل لحواسِّهم ولعقولهم هم لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في هذا وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كانت حياتك كلها عبادة لله تعالي (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا جاء في الآية السابقة (168) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) مع تخصيص المؤمنين بالذكر لتكريمهم وتشريفهم ولأنهم هم لا غيرهم مَنْ يَنتفع ويَسعد في الداريْن بوَصَايا الله تعالي وتطبيقها.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كلوا من كل أنواع الطيِّبات أيْ النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقناكم إيّاها وخلقناها في الأرض والتي أحللناها أيْ سَمَحْنا بها لنفعها ولإسعادها والتي لم تحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، ولا تأكلوا أبداً مِمَّا حَرَّمْناه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. ".. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ.." أي وكونوا دوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7).. ".. إنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)" أيْ لو كنتم تعبدونه أي تطيعونه وحده بحقٍّ كما تقولون وتريدون حقا أن تكون عبادتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن فافعلوا إذَن ذلك، كلوا من طيِّبات ما رَزَقَكم واشكروا له
ومعني "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)" أيْ مَا حَرَّمَ أيْ مَنَعَ عليكم أيها المؤمنون – وأيها الناس عموما – إلا فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، كأكل الميتة التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة وكالدم المُسَال قطعا والذي هو مَلِيء بها، وكلحم الخنزير حيث خَلَقه تعالي ليتغذي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا من أجل أن يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلا كان شديد الأضرار، وكالذي أهِلَّ به لغير الله أيْ يُذْكَر عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تُذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)" أيْ لكنْ مع هذا فمَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لشيءٍ منها، بمعني أنه سيهلك بدونها، وهو غير باغٍ أيْ مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرض عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون نشر الإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. وإيّاك إيّاك أنْ تَكْتُم شيئا منه عنهم أو تُقَصِّر في ذلك بلا عُذرٍ مقبول وإلا تعسوا وانتشرت تعاساتهم ومراراتهم ولعناتهم فيما بينهم والتي حتما سيُصيبك منها شيءٌ قَلَّ أو كَثُر وستَحلّ عليهم لعنات ربهم أيْ يبتعدون عن رحمته ورعايته وأمنه وتوفيقه وعوْنه وبركته وإسعاده وقد يُصيبك مِن ذلك فكُن حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر وقُم بتأدية واجبك ولا تتركه لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره حتي تسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي بعض المعاني التي جاءت في الآية (159) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ هذا حثّ علي إظهار الحقّ والعدل والخير والعلم النافع وبيانه وتحذيرٌ شديدٌ من إخفائه.. أيْ إنَّ الذين يُخْفُون ما أنزل الله علي رسله وأوحاه إليهم ليبلغوه للناس من آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، كالتوراة التي أنْزِلَت علي موسي (ص) لليهود والإنجيل الذي أنْزِلَ علي عيسي (ص) للنصاري وكآخرها وهو القرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد (ص)، فيَكتمونها ويُخفونها عنهم ولا ينشرونها أو يُفَسِّرونها تفسيرات فاسدة بعيدة عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الكتمان، ويُحَصِّلون بذلك ثَمَنَاً حقيراً مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.." أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بهذه الأوصاف السَّيِّئة وبسبب أفعالهم الشنيعة هم في حقيقة الأمر لا يأكلون أكلاً مُفِيدَاً مُسْعِدَاً بل ما يأكلون إلا ما يؤدّي بهم في الآخرة إلي النار وعذابها المُهِين الذي لا يُوصَف!.. وذلك قطعا مع نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وقد خَصَّ سبحانه بالذكر الأكل فى بطونهم من بين صور انتفاعهم بما يأخذونه من ثمنٍ حرامٍ لإظهار حقارتهم حتى إنهم يكتمون ما أنزل الله لمجرّد ملء البَطْن!.. ".. وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ ويُهْمِلهم فلا يُكَلّمهم بأيِّ كلامٍ يوم القيامة بما يدلّ علي شدّة غضبه تعالي عليهم، أو لا يُكَلّمهم كلاماً مُطَمْئِنَاً مُسْعِدَاً بل يُكَلّمهم بما يُخِيفهم ويُهِينهم ويتعسهم.. ".. وَلَا يُزَكِّيهِمْ.." أيْ ومن شدة غضبه عليهم أيضا أنه لا يُطَهِّرهم من ذنوبهم بمغفرتها، فهو لا يَرحمهم.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)" أيْ وسيكون لهم في انتظارهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)" أيْ هذا بيانٌ لسَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم، أيْ هؤلاء الموصوفون بالصفات السيئة في الآية السابقة هم الذين بالفِعْل قد باعوا الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ واشتروا بدلاً منه الضلالة أي الضياع! دَفَعوا الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!! باعوا ما يُوصلهم إلى المغفرة والرحمة من ربهم في دنياهم وأخراهم ليأخذوا فى مقابل ذلك العذاب فيهما!!.. تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة فيهما!!.. ".. فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ ما الذي أصْبَرهم على النار حتى تَرَكوا الحقّ وفَعَلوا الباطل؟! ما الذي يُعطيهم الأمل في أنهم سيَصبرون عليها؟! هل عندهم صَبْر إلى هذا الحَدّ يجعلهم يُقْبِلُون ويُدَاوِمون بلا أيِّ مُبَالَاة علي الشرور والمَفاسد والأضرار التي تؤدّي بهم إليها لأنهم يَثِقون تماما أنهم بصبرهم وعزمهم هذا سيَتحمّلون عذابها؟! إنهم غير مُدْرِكِين أبداً لِمَا ينتظرهم فهم كالسفهاء ضعاف فاقدي العقول لأنهم لو استفاقوا لحظة وتَعَقّلوا وتَدَبَّروا لتأكّدوا أنَّ النار لا يمكن لأيِّ أحدٍ مطلقاً أن يصبر عليها.. إنَّ الآية الكريمة كذلك تحمل ضِمْنَاً تهديداً شديداً لأمثالهم، كمَنْ يَعْصِي أوامر مسئوله فيُقال له علي سبيل التهديد والتوضيح ليَمتنع ما أصبرك علي العقاب أيْ لا يَفِعَل فِعْلك إلا مَن هو واثق مِن صبره حين يُعاقَب بمعني إلا مِن الواثِق مِن أنه سيُعَاقَب حتماً فانْتَظِر عقابك إذَن عاجلاً أو آجلا
ومعني "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)" أيْ ذلك العذاب المذكور سابقا الذي استحَقّوه بسبب أنَّ الله تعالى نَزَّلَ الكتاب الذي فيه الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ علي رسله الكرام ليُبَلّغوه للناس وآخرها القرآن العظيم علي رسوله الكريم محمد (ص) بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، فاخْتَلَفوا فيه أيْ فآمَنوا ببعض آياته أيْ صَدَّقوها ولم يُصَدِّقوا ببعضها الآخر أو كَتَمُوها أو فَسَّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهؤلاء وأمثالهم بالتأكيد في شقاقٍ أيْ في شِقٍّ أيْ جانبٍ والله ورسوله في شِقٍّ مُقَابِل أيْ خالَفوهما وعانَدوهما وتكبَّروا عليهما وآذوهما وعادوهما وحاربوهما والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، إنهم في شقاقٍ بعيدٍ أيْ شديدٍ بعيدٍ كلّ البُعْد عن الصواب والسعادة.. كذلك من المعاني أنهم في شقاقٍ بعيدٍ أيْ خلافٍ شديدٍ فيما بينهم بما يُضْعِفهم حيث كلٌّ يَدَّعِي أنه هو الذي علي الصواب وغيره علي الخطأ
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك
هذا، ومعني "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)" أيْ هذا توجيهٌ وإرشادٌ للمسلمين لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولكي يكونوا من الذين يُحسنون ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك.. أيْ ليس الخير – والبِرّ هو كلّ خير، هو حُسن الخُلُق كما قال (ص)، هو العمل بكل خُلُقٍ من أخلاق الإسلام في حينه واستخدامه في توقيته – مُقْتَصِرَاً علي أن تُوَجِّهوا وجوهكم عند صلاتكم جِهَة الشرق أو الغرب ولكنَّ الخير كل الخير، البِرّ الكامِل الذي ليس له أجر إلا تمام سعادتيّ الدنيا والآخرة، البِرّ الذى يجب الاهتمام به لأنه يؤدى إلى هذا، هو بِرّ مَن آمَنَ أيْ صَدَّقَ بوجود الله تعالي خالِق الخَلْق وعمل بأخلاق إسلامه وداوَمَ علي التواصُل معه وطَلَب رعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعظم ثوابه في اليوم الآخر حيث الحساب الختاميّ لِمَا فعل يُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا عند أعدَل العادلين إذ يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، إضافة للتصديق بملائكته التي خَلَقها لتخدمه في تسيير شئون كوْنه ولخِدْمَة خَلْقه، والتصديق بالنّبيِّين الذين أرسلهم مُعَلّمين للبَشَر وقدواتٍ لهم يعلمونهم عمليا كيفية تطبيق دينهم الإسلام والذي هو في كتبهم ورسالاتهم المُوحَاة إليهم من ربهم والهادية المُسْعِدة للخَلْق، والإنفاق من كل ما رزقه الله إيّاه مع حبه له وحاجته إليه ومع حبه لله تعالي يريد خيره وإسعاده بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاته ومَن حوله وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقه به عليه من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيع استصحابه من نوايا خيرٍ في عقله بما يُسعد كل لحظات حياته هو ومَن حوله وبما يجعل له أعظم الأجر في آخرته، فيُنفق علي الأقارب عند احتياجهم وله أجران أجر الصدقة وصلة الأرحام، وعلي اليتامي الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ مِمَّن يحتاجون للمعونة، والمساكين أيْ المُحتاجين لكلّ أشكال العوْن، وابن السبيل وهو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه، والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدّة حاجتهم، ويُنفق كذلك في تحرير الرقاب أيْ العبيد إنْ وُجِدُوا من عبوديتهم لأسيادهم ليكونوا أحرارا وكذلك في إطلاق سراح الأسري مِن أَسْرهم إنْ وقعوا فيه.. ".. وَأَقَامَ الصَّلَاةَ.." أيْ وأَتَيَ بالصلاة علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنها وأتقنها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خير وسعادة.. ".. وَآتَى الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطَيَ الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كان مِن أصحاب الأموال.. ".. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا.." أيْ وكان دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. ".. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.." أيْ وكذلك كان دَوْمَاً من الصابرين عموما أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، ومن الصابرين خصوصا في البأساء أي في حالة البؤس بسبب فقرٍ وغيره والضَّرَّاء أيْ عند الضرَر كمرضٍ ونحوه وحين البأس أيْ عند القتال في سبيل الله أيْ دفاعا عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)" أيْ هذا مدحٌ عظيم للأبرار وتبشيرٌ لهم بما ينتظرهم من كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم لتشجيعهم علي الاستمرار في كل هذا البِرّ والاستزادة منه لتحصيل تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتما بكل تأكيدٍ الذين صَدَقوا أيْ الذين صَدَّقوا تماما قولهم بأنهم مؤمنون بفِعْلهم بالعمل التامّ بكل أخلاق إسلامهم ما استطاعوا وكانوا مُخلصين مُحسنين في ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وكذلك حتما هم المُتّقون أيْ المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم.. فلو فُرِضَ وعَطّلتَ عقلك وفَعَلْتَ من ذلك شيئا ما، فقَدِّم نفسك لكي يُقْتَصَّ منك، أيْ يُفْعَل بك مثلما فعلتَ بالتساوِي، فهذا هو العدل وهذا هو ما يُصَفّي ما في العقول من غِلٍّ وانتقامٍ فتهدأ الأمور وتنحصر الأضرار وتعود الأوضاع لما كانت عليه ويأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفوضي وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – فَرَضَ الله عليكم القصاص بسبب القتلي أيْ أنْ تَقْتَصّوا من القاتل عَمْدَاً بقتله، بشرط تمام العدل بين جميع الناس، فلا يجوز بأيِّ حالٍ قَتْل غير القاتل، كما لا يجوز الإسراف فى القتل بقَتْل القاتل وآخرين غيره، وإلا كان ظلماً وتَكَبُّرَاً وفساداً وجَهْلاً وتَخَلّفاً عظيماً تُعَاقَبُون عليه عقابا شديدا في الدنيا والآخرة، فإنْ قَتَلَ الرجلُ الحرُّ أيْ الذي ليس عبدا مملوكا لأحدٍ يتصرّف في شئونه – إنْ كان في زمنٍ يوجد فيه عبيد – رجلاً حُرَّاً آخرَ يُقْتَل هذا القاتل ولا يُقال أنَّ القاتل شريف فلا يُقْتَل أبداً أو يُقْتَل بَدَلاً منه رجلا أقل شَرَفَاً ومَكَانَة! وكذلك لو قَتَلَ عبدٌ عبداً لسَيِّدٍ له مكانة لا يُقْبَل بقَتْل هذا العبد القاتل وإنما بقتل حُرّ! وأيضا لو قَتَلَت أنثي أخري لا يُقال أنها شريفة لا تُقْتَل أو لا يُقْبَل بقتلها بل يُقْتَل في مقابلها رجل لأنَّ المقتولة هي الشريفة لا القاتلة!! ولو قَتَلَ رجلٌ امرأة يُقْتَل ولا يُقال أنها امرأة وهو رجل فكلاهما نفس حَرَّم الله تعالي قتلها، وكذلك لو قَتَلَت امرأةٌ رجلاً تُقْتَل، وهكذا.. فهذا العدل يُصَفّيِ ما في العقول من غِلٍّ وانتقامٍ فتهدأ الأمور وتنحصر الأضرار وتعود الأوضاع لما كانت عليه ويأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفوضي وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون.. ".. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.." أيْ فالقاتل الذي يَتِمّ العفو أيْ التنازُل والتسامُح له، من أخيه أيْ مِن جِهَة ورثة أخيه المقتول، بكل رضا دون أيّ إكراه، بأيِّ شيءٍ من العفو مهما قَلّ، بمعني أنه حتي لو رَضِيَ واحد فقط من الورثة بالعفو، يَسقط القصاص ويُؤْخَذ بَدَلاً منه الدِّيَة والتي هي مبلغ من المال يدفعه القاتل مُقابِل العفو عنه أو حتي يُعْفَيَ عنها هي أيضا من كل الورثة أو بعضهم الذين يرضون بالعفو بلا أيِّ إجبارٍ عليه.. هذا، ولفظ "أخيه" يُفيد تذكير الله تعالي بالأخُوَّة في الإنسانية وفي الإسلام للتشجيع علي العفو وثوابه العظيم في الداريْن حيث كأنَّ العافِي يَهَب للمَعْفُو عنه الحياة فيَسعد المجتمع بعودة العلاقات الحَسَنة بينهما كما كانت سابقا وبانتهاء الخلافات والتعاسات ثم في الآخرة سيكون ثواب كل ما يفعله فيها من خيرٍ في ميزان حسناته لأنه هو السبب في حياته.. ".. فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.." أيْ فالواجب حينها، علي العافِي اتّباع هذا الحُكْم بالتسامح دون إجهادٍ للقاتل الذي سيَدْفع الدِّيَة أو تَعْنِيفٍ له بل مُطالَبته بالرفق واللّين، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسانٍ أيْ بلا مُمَاطَلَةٍ أو تأخيرٍ أو انتقاص، وللطرفين أجرهما العظيم في الداريْن إذا التزما بأخلاق الإسلام الحَسَنة هذه.. ".. ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.." أيْ ذلك الذى شَرَعْناه لكم ووَصَّيْناكم به مِن تيسير أمر القصاص بالتخيير بينه وبين العفو وأداء الدِّيَة إلى وَرَثة القتيل إذا رضوا باختيارهم بلا إكراه، أردنا منه التخفيف عليكم والرحمة بكم، إذ فى الدِّيَة تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل، وفيها كذلك نَفْع للوَرَثة بقيمتها، فالإسلام بهذا الحكم العادل الرحيم – وبكل قوانينه وأخلاقه وأنظمته – يُؤَمِّن الناس ويحِلّ خلافاتهم ويُقَوِّي روابطهم ويسعدهم.. ".. فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)" أيْ فمَن تَجَاوَز بعد ذلك التشريع العادل الرحيم الحكيم الذى شَرَعْناه بأنْ قَتَلَ مثلا القاتل بعد قبول الدِّيَة منه أو قَتَلَ غير مَن يستحقّ القتل أو نحو هذا فله عذاب شديد الألم من الله تعالى، في الدنيا أولا حيث سيكون مُسْتَحِقّاً للقتل، ثم في الآخرة ينتظره في النار عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)" أيْ هذا بيانٌ للحكمة العظيمة من تشريع القصاص لتهيئة العقول لتطبيقه، أيْ ولكم أيها المسلمون والناس عموما في تشريعه وتنفيذه حياة آمِنَة مُستقرّة سعيدة يا أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادلة – والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها – لِمَا فيه من الامتناع عن سفك الدماء وإزهاق الأرواح، وذلك لأنَّ مَن يُفَكّر في القتل ويَهِمّ به إذا عَلِمَ أنَّ في ذلك هلاك نفسه لم يُنَفّذ ما هَمَّ به، وفى ذلك حياته وحياة مَن كان يريد قتله وامتنع، ويحيا بالتالي بحياتهما خَلْق كثير.. كما أنَّ لكم حياة في الآخرة تامّة خالدة السعادة إذا امتنعتم بسببه عن قتل بعضكم بعضا.. إنه لولا القصاص في الأنفس والأعضاء والجروح وحتي في الضرب واللّطْم ونحوه لكان من الممكن أن تغرق البشرية في الدماء والجرائم والمخاوف والتعاسات ولو تَرَكَته لغَرقت في كل ذلك بالفِعْل.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ كريماً مُنْفِقَاً بكل خيرٍ طوال حياتك حتي مَمَاتك، فسَيُحِبّك ربك ويُحَبِّب فيك خَلْقه فتَرْبح وتَسعد في دنياك ثم بعظيم ثوابه في أخراك وبدعاء مَن أكرمتهم لك بالرحمات بسبب ما قَدَّمتَ مِن نَفْعٍ لهم وسيكون في ميزان حسناتك ما يفعلونه مِن خيرٍ به، وكلما تَقَدَّمَ بك العُمْر أو أُصِبْتَ بما يُشعرك بقُرْب الأجَل فأوْصِيِ بشيءٍ من الخير مِمَّا تَمْلِك لمَن ليس مِن ورثتك الذين لهم حقّ معلوم فَرَضَه الله في ميراثك، كبعض الأقارب وغيرهم، لكن بما لا يُؤَثّر علي الوَرَثة أو يضرّهم، لتسعد بذلك ويسعدون، في الداريْن
هذا، ومعني "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)" أيْ فُرِضَ عليكم أيها المسلمون إذا جاء أحدكم علامات الموت كمرضٍ شديدٍ أو شيخوخةٍ مُضْعِفَة مثلا، إنْ تَرَكَ خيراً أيْ كان عنده مال نقديّ أو عَيْنِيّ يَتركه، الوصية أي أنْ يُوصِي بشيءٍ من الخير مِمَّا يَمْلِك يُنَفّذ بعد موته لمَن ليس مِن ورثته الذين لهم حقّ معلوم فَرَضَه الله في ميراثه، كبعض الأقارب وغيرهم، لكن بما لا يُؤَثّر علي الوَرَثة أو يضرّهم، ليسعد بذلك ويسعدون، في الداريْن، حيث مَن أكرمهم سيَدْعُون له بالرحمات بسبب ما قَدَّمَ مِن نَفْعٍ لهم وسيكون في ميزان حسناته ما يفعلونه مِن خيرٍ به،وسيُزيل ما قد يكون بدواخلهم من أحقاد ضِدّ ورثته، وأيضا بالوصية سيُعَوِّض بعض ما فاته من خيرٍ لم يفعله أثناء حياته وتكون له صدقة جارية مستمرّة حتي يوم القيامة إذا أوْصَيَ مثلا لبناء مدرسة أو مستشفي أو نحوها.. هذا، والآية الكريمة فَرَضَت الوصية كمرحلةٍ قبل نزول آية المواريث التي فَرَضَت الميراث وفَصَّلَت لكلٍّ من الوالدين والأقربين حقوقهم والتي بعد نزولها جَعَلَت آية الوصية ليست فَرْضَاً أيْ يُثاب فاعله ويأثم تاركه وإنما من الأمور المُسْتَحَبَّة التي يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها – إلاّ في سداد الديون ونحوها فهي فرض – لتكون للتشجيع علي فِعْل كلّ خيرٍ وإعطاءِ وإكرامِ الذين ليسوا مِن الوَرَثة سواء أكانوا أقربين أو غيرهم أو حتي والديْن لكنهما لا يستحِقّان الميراث كأنْ يكونا كافريْن مثلا، حتي ينتشر الخير بمِثْل هذه الوصايا الطيبة النافعة فيَسعد المجتمع ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ في دنياه وأخراه.. ".. بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام، فلا يُعْطِى مثلا غير المحتاج ويَترك المحتاج بل الأولوية للمحتاجين من الأقْرَب ثم الأبْعَد، مع مراعاة العدل فلا يَضُرّ أحداً، ولا يَزيد في الوصية عن ثلث ما يَملك كما أوْصَيَ الرسول (ص) لأنَّ زيادتها تَضُرّ غالبا الورثة وتنقص حقوقهم، وما شابه هذا من صور المعروف أيْ العدل والإحسان والرفق.. ".. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)" أيْ هذه الوصية جعلها الله تعالي حقاً أيْ تشريعاً وأمراً ثابتاً علي مَن يريد أن يكون مِن المُتّقين والذي عليه أن يعمل به ليكون منهم وهم الذين يعملون بكل أخلاق إسلامهم المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)" أيْ فمَن غَيَّرَ مَا أوْصَىَ به المُتَوَفّى بعدما عَلِمه وتَحَقّقه منه، بأيِّ شكلٍ من أشكال التغيير كزيادةٍ أو نقصانٍ أو تعديلٍ أو كتمانٍ أو نحوه، فإنما إثم ذلك التبديل يكون على هؤلاء الذين يُبَدِّلون ما في هذه الوصية، حيث يُعَدّون خائنين للأمانة، وليس علي المُوصِي أيّ إثمٍ حتماً لأنه قد أدَّىَ مَا عليه بفِعْله للوصية كما يريدها الله تعالى.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)" أيْ هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، والذين منهم هؤلاء الذين يُبَدِّلُون الوَصَايَا
ومعني "فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)" أيْ فمَن عَلِمَ مِن مُوصٍ وصيته وخاف منه فيها جنفا أيْ مَيْلاً بطريق الخطأ عن حقِّ وعدلِ الإسلام أو إثماً أيْ مَيْلاً عنه ومُخَالَفَة له بتَعَمُّد، بأنْ يُوقِع مثلا ظلما مَا بأحدٍ مَا، فنَصَحَ هذا المُوصِي وقت الوصية بتغييرها بما هو الأعدل حيث هو لم يمت بَعْد وحتي لا يأثم إنْ كان مُتَعَمِّدَاً، وأصلح بينه وبين وَرَثته وبين الموصَيَ لهم بأنْ غَيَّرَها، فإنْ لم يَحصل له ذلك ومات قبل التعديل فأصلح بعد موته بين المُوصَيَ لهم وبينهم وبين الورثة بتغيير الوصية لكي توافق الإسلام، فلا ذنب عليه حتما فيما يُحْدِثه من تغييرها وتبديلها علي هذا النحو، لأنه لا يريد التغيير للضرَر كما في الآية السابقة وإنما للإصلاح وللإسعاد للجميع، بل سيكون له أجره العظيم في دنياه وأخراه، لأنَّ الله غفور رحيم أيْ لأنه إذا كان تعالي يغفر الذنوب للمُسِيئين ويَرحمهم فمِن باب أوْلَيَ أنْ يغفر ويرحم هذا المُبَدِّل للوصية الذي يقصد الإصلاح لا الضرَر حتي ولو أخطأ في اجتهادٍ مَا قد اجتهده، ويغفر كذلك للمُوصِي المُخْطِيء إذا تابَ ورَجَعَ قبل موته أو سامَحه الموصَيَ لهم وورثته بعد وفاته، ويغفر لهم جميعا بهذا التسامُح والتراحُم والتنازُل والتصالح فيما بينهم، فهو سبحانه حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُؤَدِّيَاً لفريضة صيام رمضان، فالصوم يُقَوِّي إرادة عقلك كما وَعَدَ بذلك سبحانه "لعلكم تتقون" فتَمتنع عن فِعْل أيِّ شرٍّ وتنطلق بهِمَّة لفِعْل كلّ خير، فكأنه دورة تدريبية لمدة شهر تَخرج منها بقوةِ إرادةٍ تكفيك طوال العام تُعِينك علي قوة العلم والعمل والإنتاج والإنجاز والربح والكسب والتخطيط والابتكار والإتقان وحُسن العلاقات مع الآخرين فتحيا رابحاً سعيداً حتي يأتيك رمضان الذي بعده، وهكذا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – فَرَضَ الله عليكم الصيام كما فرضه علي السابقين قبلكم لفوائده الدنيوية والأخروية وقاموا بأدائه علي أكمل وجه فلا يستثقله أحد فهو في استطاعتكم فاتخذوهم قدوة لكم وتنافسوا معهم وأدوه مثلهم بل وأفضل.. والصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع بين الزوجين من أذان الفجر حتي غروب الشمس.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. فالصوم يُقَوَّي إرادة عقولكم فتمتنعون عن فِعْل أيِّ شرٍّ وتَنطلقون بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير، فكأنه دورة تدريبية لمدة شهر تَخرجون منها بقوةِ إرادةٍ تكفيكم طوال العام تُعينكم علي قوة العلم والعمل والإنتاج والإنجاز والربح والكسب والتخطيط والابتكار والإتقان وحُسن العلاقات مع الآخرين فتحيون رابحين سعداء حتي يأتيكم رمضان الذي بعده، وهكذا.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)" أيْ صُوموه أياماً قليلاتٍ يُمكن عَدَّها لا كثيرات، وذلك لتَهْوِين أمره على المسلمين وإشعارهم بأنه تعالى ما فَرَضَ عليهم إلا ما هو فى مَقْدُورهم وسَهْل مَيْسُور تماما لهم.. ".. فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.." أيْ ومِن مظاهر هذا التيسير أيضا أنه مَن كان منكم مريضاً مرضاً يَضُرّ معه الصوم، أو كان في سفر، فله أن يفطر وعليه صيام عدد من أيام أُخري بقَدْر التي أفطرها بعد انتهاء الشهر.. ".. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.." أيْ هذا تيسيرٌ آخر، أيْ وعلي الذين يَقْدِرُون علي الصوم ويَتَحَمّلونه ولكن بمَشَقّة وتَعَب – لأنَّ لفظ الطاقة يعني القُدْرَة على الشىء مع الشدّة والمَشَقّة بينما لفظ الوسْع يعني القدرة عليه بسهولة ويُسْر – بسبب عُذْرٍ دائمٍ كشيخوخة أو مرض شديد مستمرّ أو نحو هذا، فِدْيَة عن كل يومٍ يُفْطِرونه وهي طعام مسكين حيث لهم أن يُفطروا ولا يُعيدوا الأيام التي يفطرونها لدوام عُذْرهم.. والفِدْيَة هي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن شيءٍ ما.. ".. فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ.." أيْ إذا كان قد فَرَضَ الله تعالي عليكم الصوم ويَسَّره كل هذا التيسير، فمَن فَعَلَ طاعة، فَعَلَ خيراً مَا، عن طَوَاعِيَةٍ واختيار، حتي ولو كان قليلا، والمقصود هنا أنه زادَ على القَدْر المفروض فى الفِدْيَة أو أطعم أكثر من مسكين أو جَمَعَ بين الإطعام والصوم أو صامَ زيادة على صوم فرض رمضان بصيامٍ غيره، أو أيَّ تَطَوُّعٍ مَا، فهو خيرٌ له حتما لأنَّ الله تعالي قطعا سيُعطيه عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسِب كرمه وعظمته سبحانه وبما يُناسب تَطَوُّعه فهو لا يضيع أبداً أجر مَن أحسن عملا.. ".. وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ.. " أيْ هذا تَحْبِيبٌ فى الصوم عموما، في رمضان وغيره، أىْ وأنْ تصوموا أيها المسلمون خير لكم، لِمَا فيه من الفوائد الدنيوية حيث يُقَوِّي إرادة عقولكم فتَنطلقون في حياتكم بهذه الإرادة القوية تستكشفونها وتَسعدون بخيراتها ومن الفوائد الأخروية حيث عظيم الثواب.. ".. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
ومعني "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)" أيْ هذه الأيام المعدودات هي شهر رمضان الذي كَرَّمَه الله تعالي بأنْ بَدَأ فيه إنزال القرآن العظيم الذي هو هُدَيَ للناس جميعا حتي يوم القيامة، أيْ هو لهم هادِي أيْ مُرْشِد، وفيه هُدَي، أيْ إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، والذي هو بَيِّنَات أيْ واضِحات مِن كلِّ آياتٍ ودلالاتٍ من الهُدَيَ أيْ الإرشاد للخير والفرقان أيْ التفريق والتمييز بين الحقّ والباطل والصواب والخطأ والخير والشرّ والسعادة والتعاسة في كل شئون الحياة.. ".. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.." أيْ فمَن حَضَرَ وأدْرَكَ منكم أيها المسلمون هذا الشهر الكريم ولم يكن مريضا أو علي سفر فعليه صومه.. ".. وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.." أيْ ومَن كان منكم مريضاً مرضاً يَضُرّ معه الصوم، أو كان في سفر، فله أن يفطر وعليه صيام عدد من أيام أُخري بقَدْر التي أفطرها بعد انتهاء الشهر.. هذا، وقد أُعِيدَ ذِكْر هذا التيسير حتي لا يَتَوَهَّمَ أحدٌ بسبب تعظيم الله لأمر الصوم وفضله بعد أن قال في الآية السابقة ".. وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ.." أنه قد صارَ حتماً بلا أيِّ استثناءٍ وألْغَيَ التيسير فأراد سبحانه التأكيد علي استمراره، وزاده تأكيداً بقوله ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.." أيْ شُرِعَت لكم هذه التيسيرات لأنَّ الله يريد بكم دوْمَاً التسهيل والتخفيف والتيسير لا التصعيب والتعقيد والتعسير.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم (ص) حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)" أيْ وشُرِعَت لكم أيضا هذه التيسيرات لأنه يريد منكم أنْ تُكْمِلُوا عدد أيام الشهر بصيامها كاملة لتحصلوا علي فوائد الصيام الدنيوية والأخروية ولا يفوتكم أيّ شىءٍ منها، ومَن لم يستطع منكم أداء الصوم فى هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه فى أيام أخري حتي لا تفوته هو أيضا هذه الفوائد ويحصل عليها مُكْتَمِلَة، ويريد منكم كذلك أنْ تُكَبِّرُوه أىْ تُعَظّموه إذ هو وحده صاحب أكبر وأعظم كل صفات الكمال الحُسْنَيَ فتعبدوه أيْ تُطيعوه وحده وتتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا لأنه هو وحده الذى هداكم إلى الإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ويريد منكم أيضا أن تشكروه، وهذا هو معني ".. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)" أيْ ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7) .. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب
هذا، ومعني "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) " أيْ وإذا سألك الناس عموما عَنِّي يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، وإذا سألك عَنِّي عبادي، مَن يَعبدونني، مَن يُطيعونني – ونَسَبَ سبحانه إليه المسلمين تكريما لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سيده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيده مِن جهده وخَيْره – فإنّي حتماً بالتأكيد قريب منهم معهم أينما كانوا في كل لحظات وشئون حياتهم بعلمى وقُدْرتي ورحمتى وإجابتى لدعائهم إذا دعوني ورعايتي وأمني وحبّي ورضاي ورزقي وعوْني وتوفيقي وقوّتي ونصري وإسعادي في دنياهم ثم بكلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ خالدٍ تامّ لا يُوصَف في أخراهم، ولا يَخْفَيَ عليَّ شيءٌ مِن كل أقوالهم وأعمالهم في سِرِّهم وعَلَنِهم وسأحاسبهم عليها بما يُناسبها في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشر شرَّاً وتعاسة أو أعفو.. إنَّ المقصود مِن شِدَّة القُرْب هذه القُرْب عن طريق العلم والقُدْرة قطعا لا القُرْب في المكان لاستحالة ذلك عليه سبحانه لأنه ليس له مكان أو زمان بل هو فوقهما وخارجهما ومُسَيْطر عليهما ومُتَحَكِّم تَحَكّمَاً تامَّاً فيهما.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة دعوة للإنسان لمُرَاقَبَة خالِقه المُطّلِع على كل داخله القريب منه في جميع أحواله فليَفعل إذَن كل خير وليترك كل شرّ ليَسعد في دنياه وأخراه من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه.. هذا، ولم يَقلْ تعالي قلْ لهم إني قريب كما هو معتاد في القرآن الكريم عندما يُسْأَل الرسول (ص) بسؤالٍ مَا بل تَوَلّىَ سبحانه الجواب بذاته العَلِيَّة لإشعارهم بشدّة قُربه منهم وحضوره مع كل سائلٍ فلا تَتَوَقّف إجابته على وجود واسطة بينه وبين مَن يدعوه.. ".. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.." أيْ أستجيب حتما لدعاء أيّ داعي إذا دعاني، إمّا عاجِلاً أو آجِلاً، في التوقيت وبالأسلوب الذي أراه وأعلمه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ له ولمَن حوله، بالصورة التي طَلَبَها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنه أو بكلّ ذلك، بطريقةٍ مباشرةٍ أو بأنْ أُيَسِّرَ له مَن يُحَقّق له ما يريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لا بُدَّ مِن إحسان اتّخاذ الأسباب مع الدعاء، فلا رزق مثلا بلا سَعْيٍ حلال له مهما كان شكل أو نوع الدعاء! وهكذا مع كل صور ومُتطلّبات الحياة، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال في كل الشئون، كما يُرَاعَيَ أنَّ مَن يدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُسْتَجَاب له قطعا وهو آثمٌ كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لا بُدَّ ينصرها العدل الكريم سبحانه حتي ولو كانت من غير مسلمٍ إقامة للعدل في الأرض لِيَأْمَن الخَلْق.. هذا، وبما أنَّ الدعاء هو العبادة كما قال الرسول (ص) فمِن معاني الآية الكريمة كذلك أنَّ الله تعالي يُجيب أيْ يَتَقَبَّل حتماً ووَعْدَاً عبادة أيْ طاعة مَن يُخْلِص له العبادة ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) " أيْ هذا توجيهٌ لأهم أسباب إجابة الدعاء وهو الاستجابة له سبحانه بالعمل بأخلاق الإسلام، أيْ وإذا كنتُ أستجيب لدعائهم إذا دعوني فليستجيبوا لى هم في المُقَابِل باتّباع الإسلام وليَثْبتوا وليَسْتَمِرّوا علي إيمانهم بي أيْ تصديقهم بوجودي وبآخرتي وبحسابي وعقابي وجنتي وناري لعلهم بذلك يرشدون أيْ يَصِلُون إلى ما فيه رُشْدهم أيْ صوابهم وصلاحهم وكمالهم وخيرهم وسعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عابدين داعِين لربهم سبحانه لا لغيره
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون معامَلَة أزواجهم، فكلٌّ منهم كاللباس للآخر يَستره ويُعينه ويُكْمِل نَقْصَه ويَستفيد منه، وكلٌّ منهم سَكَنٌ للآخر يَأْمَن ويَهْدَأ ويَسْكن ويَطمئنّ إلي جواره، وحُسن التعامُل يكون بتبادُل الحب والحوار والتفاهم والتقارب والتسامح والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة والعلاقات الجنسية المُعتدلة المُنَظّمَة ونحو ذلك من أسباب الحياة الزوجية السعيدة.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَخونون ذواتهم بأنْ يُخالِفوا أخلاق الإسلام فيَضُرّوا أنفسهم بذلك بل يتوبون ويعودون مُسرعين لها ليسعدوا في الداريْن.. وإذا كنتَ مِمَّن يَبتغون في كل أعمال حياتهم التي رزقهم خالقهم إيّاها أن يَسعدوا بها ويُسْعِدوا مَن حولهم في دنياهم وأخراهم كما طَلَبَ منهم ربهم هذا وذلك باستحضار نوايا خيرٍ بعقولهم في كل أقوالهم وأفعالهم أثناءها.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَقتربون مِن أيِّ خطأٍ بل يبتعدون عنه كلّ البُعْد لتَجَنُّب شروره وأضرار ومَفاسده وتعاساته.. وإذا كنتَ مِمَّن يَنتفعون بآيات ربهم ووَصَايَاه والتي كلها الخير والسعادة لكل الناس في الدنيا والآخرة لو عملوا بها
هذا، ومعني "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)" أيْ أحلّ الله لكم أيها المسلمون أيْ سَمَحَ فى ليالى صومكم جِمَاع نسائكم وذلك لاختلاطهنّ بكم واختلاطكم بهنّ كاختلاط اللباس بالبَدَن ولصعوبة ابتعاد بعضكم عن بعضٍ وتخفيفاً عليكم فلا غِنَى لأحدكم عن الآخر فكلٌّ منكم كاللباس له يَستره ويُعينه ويُكْمِل نَقْصَه ويَستفيد منه وكلٌّ منكم سَكَنٌ للآخر يَأْمَن ويَهْدَأ ويَسْكن ويَطمئنّ إلي جواره، وفي هذا توجيه ضِمْنِيّ لحُسن التعامُل بين الزوجين بتبادُل الحب والحوار والتفاهم والتقارب والتسامح والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة والعلاقات الجنسية المُعتدلة المُنَظّمَة ونحو ذلك من أسباب الحياة الزوجية السعيدة التي يحبها الإسلام ويُوصِي بها ويُعطي عليها أعظم الأجر في الدنيا والآخرة، لأنَّ الأسرة والعائلة هي أساس وحَجَر مِن أسُس وأحجار بناء المجتمع، فإذا صلحت وسَعِدَت، صلح وسَعِدَ الجميع، في دنياهم وأخراهم، والعكس صحيح قطعا.. ".. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ.." أيْ لقد عَلِمَ الله أنكم كنتم تَخُونُون أنفسكم فلا تُؤَدُّون لها حقّها بأنْ تُحَرِّمُوا عليها الجماع أثناء ليلة الصيام بعد انتهاء نهاره حيث البعض منكم كان يَتَشَدَّد فيَعْتَبِر أنَّ الامتناع عن الأكل والشرب والجماع لا بُدّ أن يشمل يوم الصيام كله نهاره وليله وليس النهار فقط كما أنَّ البعض الآخر كان يَتَوَهَّم ذلك بلا علمٍ وسؤالٍ وكلاهما لم يلتزم سواء المُتَشَدِّد أو المُتَوَهِّم فخَالَفَ فجَامَعَ زوجته ليلا فتاب عليكم وعفا عنكم أيها المُخَالِفِين سواء بسبب التَّشَدُّد أو الجهل وعدم السعْي للتعلّم أيْ قد خَفّف عنكم وسَهَّلَ ووَسَّعَ عليكم وغفر ذنوبكم ومَحَاها كأن لم تكن وسامحكم ومَحَيَ أثرها التعيس عليكم في الداريْن.. ".. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.." أيْ فالآن بعد أنْ تَبَيَّنَ لكم أنَّه قد أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرَّفَث إلي نسائكم، جَامِعُوهنّ، لمَن يُريد.. فهذا هو حُكْم الإسلام الصحيح المُيَسَّر المُتَوَسِّط المُعْتَدِل.. ".. وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.." أيْ واطلبوا من وراء هذه المُبَاشَرَة ما قَدَّرَ الله لكم من التّمَتّع والسعادة بالزواج والتمتع بما يَنتج عنه من الأولاد الصالحين، واطلبوا كلّ ما كَتَبَ الله لكم في القرآن وأحلّه من كل مُتَع وسعادات هذه الحياة الدنيا، وبصورةٍ عامةٍ اطلبوا دائما في كل أعمال حياتكم التي رزقكم خالقكم إيّاها أن تَسعدوا بها وتُسْعِدوا مَن حولكم في دنياكم وأخراكم كما طَلَبَ منكم ربكم هذا وذلك باستحضار نوايا خيرٍ بعقولكم في كل أقوالكم وأفعالكم أثناءها، سواء أكانت هذه الأعمال زواجاً أم تربية أبناء أم علماً أم عملاً أم إنتاجاً أم إنجازاً أم كَسْباً أم ربحاً أم فكراً أم تخطيطاً أم ابتكاراً أم بناءً أم إدارة أم علاقات اجتماعية طيبة أم نحو هذا من كل شئون الحياة.. ".. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.." أيْ وكما أبَحْنَا أيْ سَمَحْنَا لكم بمُبَاشَرَة الزوجات فى ليالى الصوم، أبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وتشربوا فى هذه الليالى حتى يَظهر لكم بياض الفجر مُتَمَيِّزَاً من سَواد الليل كما يتميَّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فإذا جاء وقت الفجر هذا فصوموا عن الطعام والشراب والجماع من وقته ثم أكملوا الصيام إلي بدء مَجِيء الليل بغروب الشمس.. ".. وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ.." أيْ ولا تُجَامِعُوا زوجاتكم إذا كنتم مُعْتَكِفِين في المساجد حتي في الوقت المسموح به وهو الليل لأنه لا يَتَنَاسَب مع الاعتكاف الذي هو الإقامة في المسجد مدة معلومة للتفرّغ للذكر والتدبّر في الكوْن وقراءة القرآن والعلم ونحو ذلك من الخير الذي يشحن العقول والمشاعِر بداخلها بكل خير فتخرج من اعتكافها مُنْطَلِقَة بكل هِمَّة نحو كل خيرٍ وسعادةٍ لها ولمَن حولها في دنياها وأخراها.. ".. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا.." أيْ هذه التشريعات والأخلاقيات والنّظُم والوصايا التي نُوصِيكم بها هي حدود الله تعالي أيْ الحواجز التي عليكم ألاّ تقتربوا منها لتَتَخَطّوها لأنَّ تَعَدِّيَها وتجاوزها يُوقعكم فيما هو مُحَرَّم عليكم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّكم وتتعسكم في دنياكم وأخراكم.. هذا، ولفظ "تَقْرَبُوها" يُفيد البُعْد التامّ عن كلّ المُحَرَّمات غاية ما أمكن وتَرْك أيّ سببٍ يُؤَدّي إليها لضمان الأمن من الوقوع فيها.. ".. كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ لكم الصيام وأحكامه، يُوَضِّح الله آياته للناس في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي يكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يمتنعون تماما عن أكل أموال الناس بغير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. وإذا كنتَ مِمَّن يمتنعون تماما عن الإدلاء بأيِّ شهادةِ زُورٍ أو دَفْع رشوةٍ إلي مَن يَحكم في أمرٍ ما ليَحكم لك ظلما لتحصل علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما رغم علمك بظلمك وإضرارك بصاحب الحقّ.. فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات
هذا، ومعني "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)" أيْ ولا يأكل بعضكم مال بعضٍ فيما بينكم أيها الناس بسببٍ باطلٍ غير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو مُغًالًطًةٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. ".. وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ.." أيْ هذا بيانٌ لنوعٍ شائعٍ شنيعٍ مِن أنواع أكل الأموال بالباطل.. أيْ ولا تُلْقُوا ببعض هذه الأموال علي سبيل الرشوة إلي الحكام السَّيِّئِين الظالمين الذين يحكمون بين الناس بالظلم لكي تأكلوا بأحكامهم الظالمة لصالحكم فريقاً أيْ جزءاً من أموال الناس بالإثم أيْ بالظلم والتَّعَدِّي من خلال الرشوة أو الإدلاء بالشهادة الزُّوُر أو الحلف الكاذب أو ما شابه هذا فإنكم بهذا الفِعْل تَمْتَزِجون وتختلطون حتماً بالإثم أيْ الذنب الذي ستُعَاقَبُون عليه بما يُناسِب في دنياكم وأخراكم.. ".. وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)" أيْ وأنتم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث أنتم تعلمون تمام العلم حُرْمَة ذلك وإثمه وأنكم تأكلون أموال الناس بالباطل وكذلك تعلمون الضَرَر الكبير الذي سيَقع عليهم، فأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالمٍ بالأمور مثلكم فإنه يدلّ علي مبالغتكم في الجرأة علي المعصية وتَعَمُّدكم لها.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيراً شديداً من هذا لأنه من أهم أسباب تعاسة البَشَر حيث تضيع الحقوق وتنتشر المَظالِم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حريصاً علي وقتك أشدّ الحرص لأنَّ الوقت هو الحياة فلا تضيع لحظة إلا في خيرٍ وسعادة لك ولغيرك في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يسألون أسئلة في غير مَحلّها أو لا فائدة ولا نفع منها أو مُوَجَّهَة لمَن لا يستطيع الإجابة عليها لأنها ليست تَخَصّصه أو ما شابه هذا مِمَّا يضيع الجهود والأوقات فيما لا يُفيد أو بما يُحقّق فقط الاهتمام بالشكل دون المضمون أو بالأقل أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف أو بما يؤدي إلي التعسير لا التيسير ونحو ذلك مِمَّا يُشْبِه مَن يَدْخُل بيتاً مِن غير مدْخَله الصحيح بل من مدْخَل خطأ فلا يَصِل لدخوله ولِمَا يريد.. وهذا بالقطع ليس مِن البِرّ الذي هو حُسْن الخُلُق كما قال الرسول الكريم (ص).. فكن دائما متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك والتي منها أن تَتَّقِي أيْ تَتَجَنّب فِعْل ذلك لتفلح وتسعد في دنياك وأخراك
هذا ، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)" أيْ يسألك بعض الناس يارسولنا الكريم ويا كل مسلم عن الحِكْمة مِن خَلْق الأهِلّة، جمع هِلال، حيث يبدأ ظهوره ليلا في السماء رفيعا مثل الخيط ثم يزيد تدريجيا حتى يكتمل فيكون قَمَرَاً ثم ينقص بالتدريج حتى يعود كما بدأ ولا يكون على حالةٍ واحدةٍ كالشمس فما وراء هذا التّغَيُّر حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة؟!.. ".. قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.." أيْ قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، هي أوقات للناس تُعينهم علي تحديد الساعات والأيام والأسابيع والشهور والأعوام والأعمار فيَنتفعون ويَسعدون بذلك في كل مُعاملاتهم وفي معرفة وقت الحجّ والصلاة والصيام والزكاة ونحو هذا.. ".. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.." أيْ هذا تعبيرٌ يُسْتَخْدَم لعِتَاب وإرشاد مَن لا يَضَع الأمور في موضعها الصحيح فيُقال عنه أنه أتَيَ الأمر وطَلَبه مِن غير وَجْهِه وبابِه بل مِن ظَهْرِه وخَلْفِه كأنْ يسألَ مثلا أسئلة في غير مَحلّها أو لا فائدة ولا نفع منها أو مُوَجَّهَة لمَن لا يستطيع الإجابة عليها لأنها ليست تَخَصّصه أو ما شابه هذا مِمَّا يضيع الجهود والأوقات فيما لا يُفيد أو بما يُحقّق فقط الاهتمام بالشكل دون المضمون – وكلاهما قطعا مطلوب – أو بالأقل أهمية عن المُهِمّ والأهمّ أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف أو بما يؤدي إلي التعسير لا التيسير ونحو ذلك مِمَّا يُشْبِه مَن يَدْخل بيتاً مِن غير مدْخَله الصحيح بل مِن مدْخَل خطأ فلا يَصِل لدخوله ولِمَا يريد.. كالذين مثلا سَألوا الرسول (ص) في زمنه عن الأهِلّة رغم أنَّ مهمَّة الرسل ليست أن يكونوا علماء فَلَكٍ أو مهندسين يَبْنون لهم مساكنهم أو أطباء يُعالِجون أمراضهم الجسدية أو نحو هذا! بل مهمّتهم أنْ يُوَجِّهوهم ويُرْشدوهم للأخلاق الحَسَنَة المُسْعِدَة والقواعِد العامّة لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ومِثْل هذا وما يُشْبِهه بالقطع ليس مِن البِرِّ الذي هو حُسْن الخُلُق كما قال الرسول الكريم (ص).. أيْ ليس البِرّ أنْ تَفعلوا ذلك، ولكنَّ البِرَّ يكون في فِعْل مَن اتّقَيَ الله وفي التقوي، وبالتالي فأتُوا الأمور من وَجْهِها الصحيح دائما في كلّ شئون حياتكم، مِن أيْسَرِ الطرُق لها وأصَحّها وأوضحها وأصْوَبها وأقْرَبها وأقصرها وأقْوَاها وأعمقها وأسعدها لا مِن أصعبها وأعسرها وأضعفها وأكثرها غموضا وسطحية وتعاسة، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين لعلكم بذلك تكون من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. والمُتّقون هم المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به، وذلك حتي ولو كانوا يُقاتِلون في المسجد الحرام أو في شهرٍ مِن الأشهر الحُرُم، ودون أن يشمل رَدّ اعتدائهم أيّ مُخَالَفةٍ لأخلاق الإسلام كقتل الأطفال والنساء والشيوخ ما داموا لم يشاركوا في القتال وكهَدْم البيوت وحرق الزروع وكالسَّبِّ والقَذف ونحو ذلك.. ورغم أنَّ قتل النفس أمرٌ حَرَّمه الإسلام بشدّة، إلا في هذا الموقف، لأنَّ تَرْكه سيؤدي إلي فتنة أشدّ وأعظم وهي فتنة القضاء علي دين الإسلام ومَنْع انتشاره وإهانة المسلمين وانتهاك حُرُماتهم وأعراضهم وذِلّتهم وإتعاسهم.. فهذا مِن باب المُعامَلَة بالمِثْل ومِن باب أنَّ الضرورات تُبيح المَحْظورات ومِن باب الأخْذ بأخَفّ الضَّرَرَيْن ليعود العدل وتعود السعادة وحتي يرتدع كلّ مَن حتي يفكر في أن يعتدي وليعود للإسلام عِزّه وينتشر ويَعُمّ العالَمين برحماته وسعاداته.. فإنْ انتهوا وعادت الحقوق لأصحابها فسينتهي المسلمون عن قتالهم لأنَّ القتال يكون علي قَدْر ما يَرْدعهم دون أيّ زيادة، ثم يعودون بعد ذلك للأصل وهو المعاملات الحسنة لعلهم يهتدون للإسلام حيث هدايتهم ستكون أصلح وأنفع وأسعد للبشرية من ضلالهم بكل تأكيد، إلا مَن ظلم منهم فيُعاقَب بقَدْر ظلمه
هذا، وما سَبَق ذِكْره يتعلق بعلاقات الأمم والدول بعضها ببعض، أمّا في حالات الأفراد، فمَن اعتدي عليك اعتداءً خفيفاً يُمكن رَدّه فوريا دون حدوث ضَرَرٍ أكبر كضربةٍ أو لَكْمَةٍ أو نحوها فيمكنك الرَّدّ مباشرة بالمِثْل تقريبا مع مراعاة تقوي الله وعدم الزيادة لأنَّ حب الانتقام في هذا الموقف قد يسيطر علي العقل، أمّا إنْ زاد أمر الاعتداء فأصبح جرحا ودماءً وأموالا وأعراضا ونحوها – أو كان سَبَّاً حيث لا يجوز مقابلته بمثله – فلا بُدّ من اللجوء إلي التحكيم بواسطة شخصيات عادلة أو القضاء من خلال القضاة لتحقيق القِصاص العادل
واعلم أنَّ الله تعالي مع المتقين الذين يلتزمون بهذا سيُعينهم وينصرهم ويردّ لهم حقوقهم.. ويسعدهم.. وإيّاك إياك أن تُخالِف تعاليم ربك وأخلاق إسلامك فتعتدي أو تكون ضعيفا جبانا وتبخل بتضحيتك وعطائك وإلا ستُعَرِّض ذاتك لكراهية ربك وعدم توفيقه ورزقه ورعايته وأمنه في الدنيا ثم عقابه وفقدان جنته في الآخرة.. فإمّا أن تعيش بأخلاق الإسلام عزيزا كريما سعيدا أو تموت شامخا شهيدا لا ذليلا
هذا، ومَن كان له عذر مقبول يمنعه عن القتال، يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)
هذا، ومعني "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)" أيْ وقاتلوا أيها المسلمون في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، قاتلوا كلّ الذين يقاتلونكم أيْ يبدأونكم بالقتال ويعتدون عليكم به، ولا تَعتدوا أبدا بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء مهما كانت بأن تبدأوهم أنتم بالقتال مثلا أو تقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ والمرضي ونحوهم ما داموا لم يشاركوا في القتال أو تهدموا البيوت وتحرقوا الزروع وما شابه ذلك، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب اعتداءه
ومعني "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)" أيْ واقتلوا أيها المسلمون هؤلاء المُعْتَدِين الذين قاتلوكم وقتلوا منكم حيث وجدتموهم وأخرجوهم من أيِّ مكانٍ أخرجوكم منه.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.." أيْ ولا تُقَصِّرُوا في ذلك ولا تَتَحَرَّجُوا منه، فالقتل مُحَرَّم أشدّ التحريم في الإسلام إلا مع أمثال هؤلاء القاتلين المُعتدين، لأنَّ الفتنة أيْ الشرّ والضرَر الذي يُحْدِثونه معكم ومع غيركم بقتلكم والأبرياء وبكفرهم ونَشْره ومَنْعكم وغيركم عن اتّباع الإسلام بكل وسيلةٍ مُمْكِنَة بما في ذلك تشويهه وإيذائكم وتعذيبكم وإخراجكم من أوطانكم ونحو هذا أشدّ شرَّاً وضَرَرَاً من القتل الذي تُحْدِثونه فيهم أو يُحْدِثونه هم فيكم إنْ قَتَلوكم فلا تُبَالوا إذَن بقتلهم ولو قتلوكم ستكونون شهداء أمّا الفتنة منهم لكم – ولأيِّ إنسانٍ عموما ولأيّ مسلم – والتي بها تعيشون بعيدين عن ربكم وإسلامكم فهي حتماً أشدّ ضَرَرَاً وسُوءَاً وتعاسة في الداريْن من القتل، فلا مُقَارَنَة، فمَن فَتَنَ إنساناً فكأنه قد جَنَيَ عليه بجِنَايَةٍ هي أشدّ مِن قَتْلِه!.. وبالجملة، فإنَّ تَرْك قَتْل أمثال هؤلاء سيُؤَدِّي إلي فتنةٍ أشدّ وأعظم وهي فتنة القضاء علي دين الإسلام ومَنْع انتشاره وإهانة المسلمين وانتهاك حُرُماتهم وأعراضهم وذِلّتهم وإتعاسهم فهذا القتل إذَن هو مِن باب المُعامَلَة بالمِثْل ومِن باب أنَّ الضرورات تُبيح المَحْظورات ومِن باب الأخْذ بأخَفّ الضَّرَرَيْن ليعود العدل وتعود السعادة وحتي يرتدع كلّ مَن حتي يفكر في أن يعتدي وليعود للإسلام عِزّه وينتشر ويَعُمّ العالَمين برحماته وسعاداته.. ".. وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.." أيْ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام – أيْ الكعبة المُشَرَّفَة – احتراماً وتعظيما له حتى يبدأوا هم بقتالكم فيه فإنْ بدءوا فاقتلوهم إذَن حينها، لأنَّ المُنْتَهِك لحُرْمَته هو قطعا البادِئ بالقتال ولستم أنتم أيها المسلمون لأنكم في موقف المُدافِع عنه وعن دينكم الإسلام وعن أنفسكم.. ".. كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)" أيْ بمِثْل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يُجَازِى الله الكافرين الذين قَتَلوا المسلمين والأبرياء وأخرجوهم من ديارهم، أيْ هكذا دائما يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للكافرين الذين يَعتدون ويَظلمون ويَقتلون بما يُناسب قَتْلهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)" أيْ فإنْ تَوَقّفوا وامْتَنَعُوا عن كفرهم وقتالكم وتَرَكوه وأسْلَمُوا فانتهوا حينها أنتم أيضا قطعا عن قتالهم، فإنَّ الإسلام يَمْحو ما قَبْله من سوء، لأنَّ الله حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)" أيْ واسْتَمِرّوا أيها المسلمون في قتال أمثال هؤلاء المُعتدين القاتِلِين حتي لا تكون فتنة أيْ حتي تمنعوا الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والمَظالِم والجرائم والتعاسات ونحوها، لأنَّ الهدف الأسمي للقتال وللجهاد في سبيل الله ليس كما يفعل المعتدون من أجل النهب والسَّطْو والاعتداء والتدمير ونحو ذلك وإنما لكي لا تكون فتنة ولكي يكون الدين لله أيْ تكون كلمة الله هي العليا أيْ يكون الخالق العظيم ورسوله الكريم (ص) وقرآنه المجيد وإسلامه الحنيف أي الذي لا يَميل عن الحقّ والعدل والخير هم دائما المَرْجِع لكل الناس في كل مواقف ولحظات حياتهم ليسعدوا بذلك السعادة التامّة فيها ثم يكون لهم في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، لا أنْ تكون أيّ أنظمة أو ديانات أخري مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة للبَشَر في الداريْن هي العليا.. ".. فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)" أيْ فإنْ تَوَقّفوا وامْتَنَعُوا عن كفرهم وقتالكم وتَرَكوه وأسْلَمُوا، وأمِنَ المسلمون علي إسلامهم وتمكّنوا من التمسّك والعمل بكل أخلاقه ونَشْره ودعوة غيرهم له من عموم الناس، فانتهوا حينها أنتم أيضا قطعا عن قتالهم، لأنَّ العقوبة لا تكون إلا فقط علي الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)" أيْ إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، في أيِّ شهرٍ مُحَرَّمٍ، والأشهر الحُرُم أربعة، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، وسُمِّيّت بذلك لأنَّ الله تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة، كما أنَّ الأشهر الثلاثة هي أشهر الحجّ والتي يحتاج مَن نَوَيَ الحجّ فيها للأمان لا الاقتتال، وشهر رجب هو أيضا يحتاج للأمن لكثرة أداء العُمْرة فيه.. إنَّ المُنْتَهِك لحُرْمَة الشهر الحرام هو قطعا البادِئ بالقتال ولستم أنتم أيها المسلمون لأنكم في موقف المُدافِع عن دينكم الإسلام وعن أنفسكم، فلا تَتَحَرّجوا من قتالهم إذَن في أيِّ زمانٍ ومكان.. ".. وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.." أيْ وكل حُرْمَةٍ يكون فيها قِصاص، فمَن اعْتَدَيَ علي أيَّةِ حُرْمَةٍ وهي ما يُحْفَظ ويُرْعَيَ ولا يُعْتَدَيَ عليه – والحُرُمات جَمْع حُرْمَة – يُقْتَصّ منه أيْ يُعْتَدَيَ علي حُرْمَة له مُسَاوِيَة تماما لها مع مراعاة أخلاق الإسلام، وبالتالي فمَن يُقاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه فيه ومَن يقاتلكم حتي في المسجد الحرام أو أثناء الحجّ فقاتلوه فيه، وهكذا، فلا إثم عليكم في ذلك بل لكم أجوركم في الداريْن.. وكذلك في أيِّ صورةٍ ودرجةٍ مِن صور ودرجات الاعتداء علي الحُرُمَات، لا إثم عليكم في أخذ القِصاص من خلال القضاء.. إنه لولا القِصاص في الأنفس والأعضاء والجروح وحتي في الضرب واللّطْم ونحوه لكان من المُمْكِن أن تغرق البشرية في الدماء والجرائم والمخاوف والتعاسات ولو تَرَكَته لغَرقت في كل ذلك بالفِعْل (برجاء مراجعة الآية (179) من سورة البقرة " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ الحُرُمات قِصاص ومزيدٌ من التفسير لها، أي فمَن تَعَدَّيَ عليكم بصورةٍ مَا مِن صور الاعتداء فجَازُوه وعاقِبُوه وقابِلُوه ورُدُّوه وادْفَعُوه بمِثْلِه، فلا إثم عليكم حينها، لكنْ بدون أيّ زيادةٍ علي مقدار اعتدائه وإلا كان ذلك أيضا اعتداءً منكم عليه – لأنَّ حبّ الانتقام في هذا الوقت قد يُسيطر علي العقل – فهذا هو العدل الذي يُريح العقول ويحفظ الحقوق ويمنع الثأر بما هو أكثر مِمَّا يَضرّ ويُتعس الجميع في الداريْن، كأنْ يعتدي مثلا أحدٌ علي أحدٍ اعتداءً خفيفا يمكن رَدّه فَوْرِيَّاً دون حدوث ضَرَرٍ أكبر كضربةٍ أو لَكْمَةٍ أو نحوها فيمكن الردّ مباشرة بالمِثْل تقريبا مع مراعاة تقوي الله وعدم الزيادة أمّا إنْ زادَ أمر الاعتداء فأصبح جروحاً ودماءً وأموالاً وأعراضاً ونحوها – أو كان سَبَّاً أو افتراءً وكذبا ونحوه مِمَّا يُخالِف أخلاق الإسلام – فلا يُقَابَل بمِثْله ولكن حينها يُلْجَأ إلي التحكيم بواسطة شخصياتٍ عادلة أو القضاء بواسطة القضاة لتحقيق القصاص العادل بما يُناسب كل اعتداء.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)" أيْ وخافوا الله وراقبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك عند رَدِّ الاعتداء فلا تزيدوا عن مِثْله ولا يسيطر علي عقولكم حب الانتقام فتزيدوا في الرَّدّ، وكذلك عند قتالكم المُعتدين عليكم بالقتال، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، واعْرَفُوا وتَأكَّدوا واطمَئِنّوا أنَّ الله ربكم الكريم القويّ العزيز دائما مع المتقين بعلمه وبقُدْرته يَنصرهم حتما ويُكرمهم ويعزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. وإذا كنتَ من المُحسنين وهم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)" أيْ وكونوا دائما من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ أنْفِقوا في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.." أيْ ولا تَقْذِفوا بأنفسكم إلي هلاككم بأنْ تَتّبِعوا أيَّ خُلُقٍ يُخَالِف أخلاق الإسلام حيث سيُؤَدِّي بكم ذلك إلي عذابكم وتعاستكم في دنياكم وأخراكم علي قَدْر مُخَالَفَتكم.. هذا، والتّهْلُكَة هي كلّ فِعْلٍ أو قولٍ تؤدي نتيجته إلي الهلاك والدمار والخراب والزوال والفناء والانتهاء والانهيار والضعف وعدم النفع المطلوب، ويشمل كل مُخَاطَرَة غير مشروعة بأنْ تكون مثلا نُصْرَة لباطلٍ لا لحقّ أو تكون غير محسوبة النتائج أو دون تخطيطٍ أو ضررها أكثر من نفعها أو الإقدام علي ما يَضُرّ دون أيِّ فائدةٍ تُذْكَر تعود علي المجتمع حتي ولو كانت معنوية، ويدخل فيها قطعا تَرْك الإنفاق في سبيل نشر الإسلام والدعوة له والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي سواء علي مستوي الفرد أو الدولة لأنَّ ذلك سيؤدي حتما لضياع الدين وهلاك المجتمع وذِلّته وتبعيته للآخرين وتَخَلّفه تَبْعَاً لهذا، لكن لا يدخل فيها الدعوة للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة وقول كلمة الحقّ للظالمين في التوقيت وبالأسلوب المناسب مع حُسن اتّخاذ أسباب ذلك لتحقيق أفضل النتائج بأقل الجهود أو حتي الأضرار والتي لها أعظم الثواب في الداريْن لتوصية الله تعالي ورسوله الكريم بذلك وإلا ضاع الحق والخير وذلّ الناس واسْتُعْبِدُوا وشقوا وتعسوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَأَحْسِنُوا .." أيْ وكونوا دوْمَاً من المُحسنين أيْ الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)" أيْ إنَّ الله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حاجَّاً أو مُعْتَمِرَاً.. فكلٌّ من الحجّ والعُمْرَة هو مؤتمر سنويّ أو دوريّ يجتمع فيه المسلمون من كل مكانٍ يتحاوَرون فيه في مناخٍ ربَّانِيٍّ أخَوَيٍّ وُدِّيٍّ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهو دورة تدريبية لفترةٍ لتقويةِ إرادة العقل فيمتنع بعدها عن فِعْل أيِّ شَرٍّ ويَنطَلِق بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير.. وهو زاد مُكَثّف مُرَكّز يَستزيده المخلوق بتواصُلِه المستمرّ مع خالقه دون انشغالٍ فيعود بعدها لحياته اليومية بطاقاتٍ خيريةٍ تُفَجِّر كل خيرٍ فيه ومَن حوله فينطلقون يكتشفون حياتهم ويُطَوِّرونها ويَنتفعون ويَسعدون بكل خيراتها ولحظاتها.. وهو تدريب علي تمام الالتزام بكل أخلاق الإسلام صغرت أم كبرت وسواء أكانت شعائر تُحَرِّك المَشاعِر الإنسانية بالعقول أم معاملات تَرْقَيَ بالحياة وتُصلحها وتُكملها وتُسعدها.. وهو تعليم وممارسة علي الحوار الأخَوَيّ الصادق الهاديء الهادف البَنَّاء الذي يبتغي بحقّ الوصول لكل خير وإصلاح وإسعاد بعيدا عن أيِّ جدالٍ والذي هو عكس ذلك.. وهو مُمَارَسَة عملية علي التواضع إذ الجميع متساوون، وعلي النظام والانضباط رغم الأعداد الهائلة، وعلي تبادل المنافع والعلوم والتجارات وغيرها بكل صدق وأمانة وإتقان
هذا، ومعني "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)" أيْ وأدُّوا الحجّ والعمرة تامَّيْن علي الوجه المطلوب كما فعلهما الرسول (ص) متي قَدَرْتم علي ذلك ماليا وجسديا، أدّوهما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوهما وأتقنوهما، لله أيْ طائعين مُخلصين مُحسنين لله وحده لا لغيره (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.." أيْ فإنْ مُنِعْتُم عن إتمامهما بعد البدء فيهما لأيِّ سببٍ مِن الأسباب فاذبحوا ما تَيَسَّرَ لكم وتستطيعونه من الهَدْي وهو ما يُهْدَيَ للمُحتاجين كغنمٍ أو بقرٍ أو نحوه ثم بعد ذلك تَتَحَلّلون من ملابس إحرام الحجّ وممنوعاته وتعودون لحياتكم الطبيعية ولكنْ لا تبدأوا بالتَّحَلّل من خلال حَلْق شَعر رؤوسكم أو تقصيره حتي يَذْبَح المُحْصَر هَدْيَه في المَحِلّ أيْ المكان الذي حُصِرَ فيه ثم يَتَحَلّل من إحرامه.. ".. فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض الحالات التى يجوز فيها للمُحْرِم أن يَحْلِق رأسه لسببٍ من الأسباب مع استمراره على إحرامه، أيْ فمَن كان منكم أيها الحُجَّاج المُحْرِمُون مريضاً بمرضٍ يضطر معه إلى حَلْق أو قَصِّ الشعر أو تغطية الرأس أو لبس الثياب العادية بدل ثياب الإحرام أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مُؤْذِيَة أو ما شابه هذا من أعذار، فعليه إنْ فَعَلَ شيئاً مِن هذا وتيسيراً من الإسلام تقديم فِدْيَة وهي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن شيءٍ ما وهذه الفدية هو مُخَيَّر فيها بين إمَّا صيام ثلاثة أيام أو التَّصَدُّق علي ستة مساكين أو إطعامهم أو ذبح شاةٍ وتوزيعها علي المحتاجين، علي قَدْر استطاعته وحسب اختياره، كما فَصَلّت ذلك أحاديث الرسول (ص)، والنّسُك جَمْع نَسِيكَة وهي ذَبِيحَة يذبحها المسلم يَتَنَسَّك أيْ يَتَعَبَّد بها لله أيْ يُطيعه بها.. ".. فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.." أيْ فإذا كنتم في أمنٍ وصحةٍ عند أدائكم للحج والعمرة، فمَن تَمَتّعَ منكم بالعمرة إلى الحج أيْ أحْرَمَ بها فى أشهر الحج ثم بعد الانتهاء من أعمالها تَحَلّلَ بأنْ حَلَقَ رأسه وفَعَلَ كل ما يفعله مَن ليس مُحْرِمَاً وانتظر مُتَحَلّلاً إلى وقت الإحرام بالحجّ فعليه فى هذه الحالة أن يذبح ما تَيَسَّرَ له مِن الهَدْى مِن غنمٍ أو بقرٍ أو إبلٍ ويُوَزّعه علي المحتاجين ليكون هذا الذبح شكراً لله حيث وَفّقه وسَمَحَ له للجَمْع بين العمرة والحجّ مع التَّمَتُّع بينهما بأفعال المُتَحَلّل الذي ليس في حالة إحرام.. ".. فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.." أيْ فمَن لم يَجِد الهَدْي أو لم يَقْدِر على ثمنه صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة أيام إذا رَجَع إلى بلده التي يقيم بها، وذلك لمَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أيْ مُقيمين فيه أيْ لم يكن مِن أهل مكة، لأنَّ المقيمين فى مكة في غِنَيً عن العمرة لأنَّ العمرة هي الزيارة للمسجد الحرام وهم بجواره دائما ويمكنهم زيارته في كل صلاة ويطوفون غالبا حول الكعبة كتحيةٍ للمسجد عند دخوله ولذا فهم لا يجمعون بين العمرة والحج وبالتالي لا يَتَمَتّعون بينهما وبالتالي فليس عليهم فِدْيَة ولا صيام كما هو حال المسلمين الذين يأتون لها من خارجها.. هذا، والتأكيد علي أن تكون الأيام عشرة كاملة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مثلاً أنَّ لفظ سبعة يدلّ علي كثرة العدد دون تحديد.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الحج والعمرة، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)" أي واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)" أيْ وقت الحجّ هو أشهر معروفات مشهورات لكم منذ عصر الرسول الكريم إبراهيم (ص)، وهي شَوَّال وذو القِعْدَة وذو الحِجَّة، فلا يُحْرَم من أجل الحج إلا فيها، فمَن نَوَىَ وأوْجَبَ على نفسه فيهنَّ الحج وأحْرَمَ به فعليه أن يجتنب الجماع مع زوجته ودواعيه وأن يبتعد عن كل قولٍ أو فِعْلٍ يكون خارجاً عن طاعة الله أيْ تاركاً لأخلاق الإسلام وأن يترك الجدال الذي يؤدي إلى الغضب والكراهية والتنازع بين المسلمين فالجميع قد اجتمع في أطهر مكان عند الرحمن سبحانه للتعاون علي البِرِّ والتقوي لا الإثم والعدوان، فتكون بذلك هذه الفترة كأنها دورة تدريبية لتقوية إرادة عقل الحاجّ ولتدريبه علي العمل بأخلاق الإسلام تساعده بعد عودته علي التمسّك بها كلها في كل شئون حياته ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت سواء في وقت الحج أو غيره، أيْ وما تفعلوا في دنياكم من أيِّ خيرٍ في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ يعلمه الله تعالي فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ.." أيْ وتَجَهَّزُوا وزَوِّدُوا أنفسكم وأمِدُّوها وأكْسِبُوها وأكْثِرُوها وزِيدُوها دائما بكل زادٍ أيْ تَجْهِيزٍ ومَدَدٍ مادِّيٍّ كأموالٍ ومُعِدَّاتٍ وغيرها ومعنويّ كتقوي ودعاء واستغفار وتوكّل ونحو هذا بما يُناسِب كل عملٍ تعملونه في كل شئون حياتكم ومنه الحج، أيْ أحسنوا الاستعداد والتخطيط والتجهيز بكل ما تستطيعونه، فهذا من باب اتّخاذ الأسباب التي يُوصِي بها الإسلام مع التوكّل علي الله قبلها وأثناءها وبعدها، وتَجَهَّزُوا كذلك حتما لآخرتكم بعمل كل خيرٍ من خلال استحضار نوايا خيرٍ بعقولكم أثناء كل أقوالكم وأفعالكم مع اصطحاب التقوي دائما أثناءها فإنها خير زادٍ تَتَجَهَّزُون به أيْ أنْ تكونوا من المُتَّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي، أيْ وخافونِ وراقِبونِ وأطيعونِ واجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن يا أولي الألباب أيْ يا أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها
ومعني "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)" أيْ ليس عليكم أيّ إثمٍ أو حَرَجٍ فى أن تطلبوا عطاءً ورزقاً حلالا ومالا طيبا وفيراً من ربكم عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب الحلال فى موسم الحج.. فإذا أفضتم أيْ سِرْتُم مُنْصَرِفِين مُنْدَفِعِين مُتَكَاثِرين مُتَزَاحِمين يا أيها الحُجّاج من جبل عرفات بعد انتهاء وقوفكم في منطقته – ومن أسباب تسميته عرفات أنَّ الناس يتعارفون ويتحابّون ويتعاونون عنده – مُتَّجِهين إلى المَشْعَر الحرام وهو مكان المُزْدَلِفَة وسُمِّيَت كذلك لأنَّ الحُجّاج يَزدلفون أيْ يَتَقَرّبون فيها إلي الله تعالي، وسُمِّيَ المشعر الحرام من الشّعار وهو العَلامَة لأنه مَعْلَم للحجّ ووُصِفَ بالحرام لأنَّ المرور به والبقاء فيه أمر له حرمته واحترامه وقدسيته، فأكثروا عنده من ذِكْر الله تعالى بالتلبية والتهليل والدعاء بعقولٍ ومشاعر بداخلها حاضِرَة مُتَدَبِّرَة لأنَّ الذكر فى تلك الأماكن المقدسة والأوقات الفاضلة يُحَرِّك المشاعر فتنطلق لفِعْل كلّ خيرٍ مُسْعِدٍ في الدنيا والآخرة في الحج وتُدَرِّب علي الاستمرار علي ذلك في كل شئون الحياة بعد العودة منه.. ".. وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي دوام ذِكْره تعالي في كل لحظة، أيْ واذكروه بكل أشكال الذكر واشكروه في مقابل أن هداكم، اذكروه واشكروه علي هدايته إيّاكم إلي القرآن وأخلاق الإسلام فيه بأنْ وَفّقكم إلى اتِّباعه ويَسَّرَ لكم ذلك بعد أنْ اخترتموه أنتم بكامل حرية إرادة عقولكم، واجتهدوا ما استطعتم في أن تجعلوا الذكر حَسَنَاً كما هداكم هداية حَسَنَة (برجاء مراجعة صُوَر الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن في الآية (152) من سورة البقرة، لتكتمل المعاني)، وتَذَكّروا دوْماً لكي تستشعروا قيمة الهداية التي لا تُوصَف والتي أنتم فيها أنكم كنتم من قبل هذا الهُدَيَ بكل تأكيدٍ من الضَّالّين أيْ الحائرين الجاهِلين بالإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بكل أخلاقه
ومعني "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)" أيْ ولا تَتَفَرَّقوا ولا يَتَمَايَز بعضكم عن بعضٍ أو يَتَعَالَيَ عليه أو يَنْفر منه لسببٍ من الأسباب ولكن اجتمعوا جميعا أيها الناس الحجّاج المسلمون أثناء الوقوف بمنطقة عرفات وانصرفوا جميعا معاً منه ففي اجتماعكم وتساويكم واندماجكم قوة ووَحْدَة وعَوْن وخيرات وسعادات كثيرات في الدنيا والآخرة.. ".. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)" أيْ واسألوا الله مَغْفِرَة ذنوبكم وتوبوا إليه مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)"، "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي دوام ذِكْره تعالي في كل لحظة (برجاء مراجعة الآية (198) لتكتمل المعاني)، أيْ فإذا أتْمَمْتُم وأدَّيْتُم عباداتكم أيْ طاعاتكم، فاذكروا الله تعالي كما تذكرون آباءكم وأشدّ ذِكْرَاً مِن ذِكْرِهم لأنَّ الإنسان السَّوِيِّ لا يَنْسَيَ أبواه وفضلهما عليه حيث هما سبب وجوده فكذلك يجب أن يكون الحال بل أعظم مع الله تعالي – لأنهما أحيانا قد يُنْسَيَان – خالقهم وسبب وجودهم جميعا ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. ".. فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)" أيْ هذا بيانٌ لأهداف الناس في حياتهم الدنيا، فمنهم مَن يُقَدِّمها ويُفَضِّلها ويختار مُتَعَها الزائلة فقط دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فأمثال هؤلاء لا يريدونها ولا يعملون لها سواء أكانوا كفاراً أيْ غير مُصَدِّقين بها أصلا أم مسلمين لكنهم ناسِين لها بسبب ترْكهم لأخلاق إسلامهم بعضها أو كلها ولم يُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربهم الكريم الرحيم والإسلام منهم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن) بل قد استمتعوا بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واختاروا معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلوها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة لأنهم قد نَسوها مُطْلَقَاً – أو لا يُصَدِّقون بها مِن الأصل – ولهذا تَجِد أحدهم في دعائه وسؤاله لله تعالي يقول ربنا أعطنا في الدنيا مِمَّا نريد، فيها فقط، ناسِيَاً آخرته، وما لِمِثْل هذا من الناس قطعا في الآخرة أيّ خَلاَق أيْ نصيب في الجنة ونعيمها التام الخالد، إضافة قطعا إلي ما له من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِه عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن أحدٌ حتي لا يَتعس مِثْلهم في الداريْن.. "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الفريق الآخر من الناس، السعداء فيهما، فريق المسلمين المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم، فإنهم يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فيطلبون خَيْرَيْهِما وسعادَتَيْهِما إذ يقول أحدهم ربنا أعطنا في الدنيا حالة حسنة حيث كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في كل شئون حياتنا في كل لحظاتها وأعطنا في الآخرة أيضا حالة حسنة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر من النعيم الخالد في أعلي درجات الجنات، بأنْ تُيَسِّرَ لنا فِعْل كلّ خيرٍ وتُقَوِّنا عليه عند فِعْله، ونَجِّنا برحمتك من عذاب النار المُؤْلِم المُهِين بأنْ تُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم.. هذا، والوقاية من عذاب النار نعمة عظيمة مستقلة بذاتها قبل نعمة دخول الجنة والاستقرار الخالد فيها، من عظيم فضله وكرمه ورحمته سبحانه، ولذا تَمَّ التركيز عليها رغم أنها من ضمن حسنة الآخرة قطعا، كما أنَّ دخول الجنة قد يكون بعد عذابٍ مَا مُسْتَحَقّ فكان التصريح في الدعاء بطَلَب الوقاية من النار
ومعني "أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)" أيْ هذا تشجيعٌ علي مزيدٍ مِن فِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وعلي مزيدٍ من الدعاء بمِثْل هذه الأدعية الجامِعَة لطَلَب حَسَنَتَيّ الدنيا والآخرة، أيْ هؤلاء المَوْصُوفون سابقا بهذه الصفات الطيبة الكريمة حتما سيكون لهم مقدارٌ مِن ثوابٍ عظيمٍ بسبب ما كسبوه من الأعمال الصالحة في دنياهم، وفي هذا طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد لهم بوعد الله باستجابته لدعائهم وهو الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقا (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.." ، لمزيد من الشرح والتفصيل عن إجابة الدعاء وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)" أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
ومعني "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)" أيْ وأكثروا ذِكْر الله تعالى بالتلبية والتهليل والدعاء بعقولٍ ومشاعر بداخلها حاضِرَة مُتَدَبِّرَة لأنَّ الذكر فى تلك الأماكن المقدسة والأوقات الفاضلة يُحَرِّك المشاعر فتنطلق لفِعْل كلّ خيرٍ مُسْعِدٍ في الدنيا والآخرة في الحج وتُدَرِّب علي الاستمرار علي ذلك في كل شئون الحياة بعد العودة منه.. في أيامٍ قليلاتٍ يُمكن عَدَّها لا كثيرات، هي أيام الحج، فاغْتَنِمُوا هذه الفُرْصَة ولا تَدَعُوها تَفوتكم.. ".. فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من تيسيرات الإسلام، أيْ لا يَلْزَم بعد الانتهاء من الوقوف بعرفة أن يبقى الحاجّ الأيام الثلاثة بمنطقة مِنَيَ والتي المَبِيت فيها من أجل رَمْي الجَمَرَات هو من أعمال الحجّ ولكنْ مَن تَعَجَّل في يومين أيْ غادَرَ في اليومين الأوّلَيْن فلا ذنب عليه في التعجيل ومَن تأخَّر فلا ذنب عليه أيْ مَن بَقِيَ إلى تمام اليوم الثالث فلا ذنب عليه، أيْ الأمر علي التخيير، فلا يُلاَم مَن يفعل هذا أو ذاك، وهو في الحالتين قد غُفِرَ له بسبب حجّه.. ".. لِمَنِ اتَّقَىٰ.." أيْ ذلك التخيير والتيسير المذكور، أو ذلك كله الذي ذُكِرَ سابقا من أحكامٍ مُفيدة مُسْعِدَة، هو مَخْتَصّ بالمُتَّقِى – أيْ الخائف من الله المُرَاقِب المُطِيع له الجَاعِل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خير وتَرْك كلّ شرٍّ – لأنه أكثر المُنتفعين السعداء في دنياه وأخراه بكل ما ذُكِر من تشريعاتٍ وتيسيراتٍ ومغفرات، والتذكرة بالتقوي هو للتنبيه علي أنَّ أساس الخير دائما هو تَقْوَىَ الله تعالي لا مقدار العدد، وكل هذه الأعمال إذا لم تكن مَصْحُوبَة بتَقْواه سبحانه ولم تُؤَدِّ إليها فلا نَفْع لها في الداريْن، وهذه التقوي الدائمة في الحجّ وغيره هي سبب المغفرة والسعادة التامّة فيهما.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الحج والعمرة، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)" أيْ واعرفوا وتذكّروا دائما أنكم إلي الله وحده لا لغيره تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتخفي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ولم تكن مُزَوِّرَاً تُشْهِد حتي ربك علي ما تعلم مُؤكّداً أنه ليس حقيقيا.. ولم تكن كثير التخاصُم مع غيرك صَلْبَاً صَعْبَاً لمُصالَحَتهم ولإحسان مُعاملتهم.. ولم تكن مُفْسِدَاً في الأرض بكلّ شرٍّ مُهْلِكَاً مَاحِيَاً لكل خير.. ولم تكن مُتَكَبِّراً مُتَعَالِيَاً علي النصيحة ومَن ينصحك غير مستجيب لها ولهم
إنه بمِثْل صفات السوء هذه، بالنفاق والكذب والتزوير والخصام والفساد والكِبْر، ينتشر الشرّ وتَعُمّ الضغائن والأحقاد ويَتعس الجميع.. بينما بصفات الإسلام التي كلها خير، بالصدق والوضوح وموافقة قول الخير مع العمل به وتَجَنّب الغِشّ والخداع والغدر والفساد، وبالتسامح والتواضع والتعاون ونحو ذلك، يَسعد الجميع حتما بكل تأكيدٍ في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)" أيْ هذه بعض الصفات السيئة للمنافقين حتي لا يَتَشَبَّهَ بها أبداً أحدٌ من المسلمين ولا يَنْخدع بهم ليسعد ولا يتعس مثلهم في دنياهم وأخراهم.. أي وفي دنياك أيها المسلم هناك بعض الناس مِن المنافقين مَن يَرُوق لك وتَسْتَحْسِن قوله الذي يُظْهِر فيه الخير ويُخْفِي الشرَّ وأنت فى هذه الحياة الدنيا مطلوب منك أن تأخذ فقط من الناس ظَوَاهِرهم لا أن تُفَتّش عَمَّا بدَوَاخِلهم فإنَّ هذا لا يعلمه إلا خالقهم سبحانه والذي سيُحاسِبهم علي ما يعلمه من سُوئهم بما يُناسب في دنياهم ثم في حياتهم الآخرة وهو الذي لا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة مِن خَلْقه ولا كلّ كوْنه.. ".. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ.." أيْ ومن صِفات المُنافق الشديدة السوء أنه يَتَجَرَّأ علي الله تعالي ويَحْلِف به كذباً ويجعله شاهداً لصالحه علي أنَّ ما يقوله هو مُوافِق لِمَا في داخل عقله رغم كذبه!! وهذه غالبا هي عادة المنافق لأنه دوْماً يستشعر تَشَكّك غيره في قوله حيث كثيرا ما يَخرج من فَلَتَات لسانه ما يدلّ على ما هو مَخْفِيّ بداخله مِن سوء فيقوم بمحاولة توثيق كلامه بالقَسَم الكاذب!!.. ".. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)" أيْ ومن صفاته السيئة أيضا أنه عند الخصام يكون أشدّ المُخَاصِمين خِصَامَاً وعَدَاءً، والألَدّ هو الأعْوَج الشديد الخُصُومَة والعداء والعوَج، ففي خصومته يَكذب ويُزَوِّر ويَفتري ويُجادل بغير حقّ ويُفْسِد وما شابه هذا من سوء، فهو ليس كالمسلم العامِل بأخلاق إسلامه لا يُخَاصِم وإذا خَاصَمَ كان لَيِّنَاً يعود سريعا عن خصامه لتمتنع التعاسة وتعود السعادة له ولمَن حوله كما يُوصِي بذلك الإسلام
ومعني "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)" أيْ ومن الصفات السيئة كذلك لهذا المنافق أنه إذا تَوَلّيَ أي انصرف لأيِّ مكانٍ أو إذا تَوَلّىَ أيّ ولايةٍ يكون له فيها سلطان ونفوذ مَشَيَ وجَدَّ ونَشِط في الأرض ليُفسد فيها ويُتْلِف ويُخَرِّب الزرع والنسل وكل ما تقوم به الحياة للبَشَر – وحتي للدَوَابّ – ويؤذيهم إيذاءً شديداً ويُوقِع الفِتَن والخِلافات بينهم بفعله لكل أنواع الجرائم والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)" أيْ والله تعالي بالقطع يحب الصلاح المُفيد المُسْعِد ولا يحب مُطلقا الفساد أيْ كل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس، ومَن يفعله فهو حتما من المُفسدين في الأرض الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم والذين لا يحبهم سبحانه، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب فساده.. وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)" أيْ ومن الصفات السيئة أيضا لهذا المنافق أنه حينما يقول المسلمون ناصحين له خاف الله وراقِبه وأطِعْه واجعل بينك وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعد في الداريْن، استولت عليه الأَنَفَة – أيْ الرِّفْعَة والحَمَاسَة في الباطل لا في الحقّ والتأفف والتّقَزّز والإباء والرفض باستكبار – مصحوبة بالإثم أيْ بالشرّ ودَفَعَته إلي ارتكابه بل والزيادة منه عناداً وتَكَبُّرَاً وتَجَاهُلاً لأيِّ نُصْحٍ واستهتاراً واستهزاءً به وعدم استجابةٍ له.. ".. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)" أيْ إذا كانت هذه هي حالته فيَكْفِيه إذَن جزاءً علي ذلك عذاب جهنم حيث يَحترق ويُشْوَيَ بلَهِيبها جلده ولحمه وأحشاؤه بعذابها المُؤْلِم المُوجِع المُهِين، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي يَفترشه ويَستقرّ فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء به وتَحْقِير وإهانة له لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصير إليه وهو النار يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، إضافة حتما إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يناسب أفعاله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة .. وفي هذا تهديد وتحذير لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وبعض الناس يبيع نفسه طَلَباً وشراءً برغبةٍ قويةٍ شديدةٍ لرضا الله عنه بإنفاقها في طاعته أيْ بإنفاق كلّ فكره وجهده وجسده ووقته وماله وكل ما يَملك وحتي روحه إن احتاج الأمر في هذه الطاعة بأنْ يتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاق إسلامهم وينشروها ويدافعوا عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا رضاه عنهم أيْ حبه لهم وقبول أعمالهم ورَعَايتهم وتأمينهم وتوفيقهم وتيسير أحوالهم وتقويتهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة ترضيتهم وإسعادهم في الداريْن.. إنَّ مَن أَحَبَّه تعالي كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما لهم.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُشَجِّع ويُرَغّب كلّ مسلمٍ أنْ يشارك في هذه الصفقة التجارية الأعظم والأَرْقَيَ علي وجه الأرض، لأنَّ المشتري هو الخالق الكريم ويشتري بذاته العَلِيَّة سبحانه، والبائع هو الإنسان وهو أكرم مخلوق خَلَقه تعالي وسَخَّرَ له الكوْن كله لينتفع وليسعد به، والسلعة هي أغلي ما يُمْتَلَك وهي النفس والتي هي نفخة من روحه عَزّ وجَلّ، والثمن هو أعلي سعر علي الإطلاق وهو أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا.. ".. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)" أيْ والله سبحانه كثير الرأفة والرحمة بجميع خَلْقه، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، فما بالكم بكم أنتم يا مَن تَبيعون أنفسكم ابتغاء مَرْضاته؟! إنه سيُحَقّق لكم حتما ما تبتغونه من رضاه الدنيويّ والأخرويّ.. والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ومن مظاهر هذه الرأفة أنه تعالي لم يُوصِهِم في الإسلام إلا بما يستطيعونه ولا يُتعبهم بل يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، وأنه أضْفَيَ عليهم نِعَمه فيهما التي لا تُحْصَيَ رغم بعض تقصيرهم، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – ادخلوا في الإسلام كله، أيْ تَمَسَّكُوا واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم واثبتوا دائما عليها، فكلّ خُلُقٍ منه يعطيكم سعادة مَا، فإذا عملتم بأخلاقه كلها، تَمَّت عليكم السعادة الغامِرَة كلها والسلام والأمن والاستقرار العقليّ النفسيّ الجسديّ كله، فإذا دعوتم الناس جميعا له ونشرتموه بينهم بالقدوة والحكمة والموعظة الحَسَنة وبما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ودياناتهم، دخل الجميع كافّتهم في السلام والاطمئنان الغامِر وسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. كذلك من معاني ادخلوا في السلم كافة أن ادخلوا فى الإسلام كلكم جميعاً وانقادوا لأخلاقه مُجتمعين غير مُتَفَرِّقين، وأيضا كونوا جميعاً أيها المؤمنون مُسالِمِين فيما بينكم مُتَصَالِحِين غير مُتَعَادِين مُتَحَابِّين غير مُتَبَاغِضِين ومع كلّ الذين حولكم مِن غيركم المُسَالِمِين لكم ولا تُثيروا أيّ سببٍ من أسباب النزاع والخلاف والتعاسة إلا مَن اعتدي عليكم ليُوقِعَ شَرَّاً بكم فرُدُّوا اعتداءه لتحافظوا علي خيركم وسعادتكم.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.." أيْ ولا تَسِيروا خَلْف طُرُقات الشيطان الذي يأخذكم حتما للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات التامَّات في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)" أيْ لأنه عدو مُبين أيْ واضِح لكم، أيْ ضِدَّكم يريد إضلالكم أيْ إبعادكم عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه
ومعني "فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)" أيْ فلو حَدَثَ وزَلّت أقدامكم وزَلَقْتم وسَقطتم وانْحَدَرْتم وانْحَرَفتم بإرادة عقولكم لأيِّ شرٍّ فأسرعوا بالتوبة أي بالاستغفار باللسان علي ما فَعَلتموه مِن شرورٍ وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وإيّاكم ثم إياكم أن تُصِرُّوا علي شَرِّكم وتكونوا مُعانِدين أو مُكَابِرين أو تارِكين للإسلام مُكَذّبين به مُخَالِفين له أو ناسِين لأخلاقه كلها أو بعضها أو نحو هذا من صور التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة والمُخَالَفَة.. ".. مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ.." أي من بعد ما وَصَلَتكم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لكم تماما فلا تحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في الزَّلَل، ومَن لم يكن يعلم فعليه أن يتوب مِمَّا فَعَله مِن شَرٍّ ويتعلّم ويسأل ليتخلّص مِن جَهْله وشَرِّه، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. ".. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)" أيْ فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنكم مُؤَاخَذون بهذا الزّلَل والإصرار عليه لأنَّ الله عزيز أي غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)" أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات أن يأتيهم ويَجيئهم في دنياهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات في سُحُبٍ كالمظلّات غائِمة مُخيفة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو أن يأتيهم الله تعالي يوم القيامة بهيبته وعظمته حضوراً يَليق به سبحانه فهو ليس كمثله شيء لحساب الناس والحُكْم بينهم بحُكْمه وقضائه العادل وجزائهم علي أعمالهم في دنياهم، يأتيهم في غمامٍ مع الملائكة، وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)" أيْ كلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وأموركم أيها المسلمون المتمسكون العاملون بأخلاق إسلامكم وأمور غيركم، فاطمئنّوا واستبشروا دوْما.. ففي الدنيا سيكون لهؤلاء المُكذبين درجةٌ ما من درجات العذاب علي قدْر ما عملوا من شرور ومَفاسد وأضرار يَتمَثّل في قلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين أو حتي إهلاكٍ بريح أو سَيْلِ أو زلزال أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، وبالجملة سيكون لهم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيُنَبَّأون بالنتائج السيئة لسوء أعمالهم وسيَذوقون حتما في مُقابلها ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. أمّا أنتم أيها المسلمون فلكم حتما النصر وكل خيرٍ وسعادة في دنياكم واخراكم (برجاء مراجعة أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم، وذلك في الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران.. ومراجعة أيضا أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة أيضا تهديد وتحذير شديد لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُبَدِّلون نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ، بل يحفظونها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم : 7).. وأفضل النّعَم وأعلاهما وأولها والتي يَتَفَرَّع عنها كل النعم هي نعمة الإسلام الذي يُنَظّم كل شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فيُسْعِد كل لحظاتها لأنه من عند الخالق الكريم الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء العالِم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثال هؤلاء الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وذلك بتذكرتهم بسوء حال السابقين المُعْرِضِين عنهما.. أي اسأل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بني إسرائيل، وهم أبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم عليهم السلام جميعا، وهم اليهود، ومَن يَتَشَبَّه بهم، المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الذين لا يَتّبعون الإسلام، كم أعطيناهم كثيرا من آيةٍ بَيِّنَةٍ أيْ من دلالاتٍ واضِحَاتٍ فلم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم.. إنَّ المشكلة إذَن ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وسؤالهم مِثْل هذه الأسئلة هو ليس لمعرفة إجابتهم لأنَّ الإجابة معروفة وإنما لذَمِّهم ولَوْمِهم وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء ولكي يُقِرُّوا هم بها ولمحاولة إيقاظهم لعلهم يستيقظون.. ".. وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)" أيْ ومن يُغَيِّر نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ عليه وعلي كل خَلْقِه وكوْنه من بعد ما وَصَلَته واتّضَحَت له وعَرَفها، أيْ يُبَدِّلها عن علمٍ وقَصْدٍ لا عن جهلٍ أو خطأ، وأولها وأعظمها وأعلاها وأهمها نعمة الإسلام فيُفَرِّط فيها بأن يستبدلها بأخلاقٍ مُخَالِفَة له بدلاً أن يعمل بها ليسعد في الداريْن، ونعمة العقل فيَستبدل حُسن التفكير بسُوئِه، ونِعَم الصحة والقوة والوقت والفكر والمال والعلاقات الجيدة ونحو ذلك فيُغَيِّرها فبَدَلاً أن يستخدمها في كل خيرٍ ليحصل علي كل خيرٍ إذا به يستبدل ذلك بأن يستخدمها فيما هو شرّ فيحصل علي كل شرّ! وهذا نوعٌ آخر من الكفر غير الكفر بالله تعالي أيْ عدم التصديق بوجوده والعمل بإسلامه وهو كفر النعمة أيْ سوء استخدامها وإنكار أنها من المُنْعِم وهو الخالق الكريم ونِسْبتها لغيره وعدم شكره عليها بحُسن استخدامها.. مَن يَفعل ذلك يستحقّ حتما العقاب لأنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَستمتعون بمُتَع الحياة علي أيّ صورةٍ سواء أكانت ضارَّة أم نافعة شرّاً أم خيراً، والذين لا يُفْرِطُون ويُبالِغون في التّمَتّع دون تَوَازُنٍ وتَوَسُّطٍ واعتدالٍ بل بكلِّ نَهَمٍ لأنهم يَنْسون آخرتهم أو يتشكّكون فيها فليس لهم إلا دنياهم وليس لهم نوايا خيرٍ أثناء تَمَتّعهم طَلَبَاً لآخرتهم ونعيمها الخالد، والذين لا يَتَمَتّعون دون مراعاةٍ للمشاعر الإنسانية للذين حولهم ولا يجدون مثل هذا التّمتّع ويَتَرَفّعون عليهم ولا يُعينوهم حتي ولو بجزءٍ منه بل قد يَسخرون منهم لضعف مستواهم أو لامتناعهم عن التّمتّع بما هو ضارّ!! إلي غير ذلك من مِثْل هذه الصور المُضِرَّة لزينةِ ومَفَاتِن الحياة والتي يُحَذّرنا أشدّ التحذير منها ربنا لِمَا فيها من ضغائن ومَرَارات ومُشاحَنات وانتقامات وتعاسات.. ولكنْ كُن عكس ذلك، كن مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك كما أوْصَاك ربك لتسعد، فكن من الذين يستمتعون بمُتَع الحياة نافعها وخيرها فقط وهو الحلال المُسْعِد – وهو الأكثر كثيرا – لا الحرام وهو المُضِرّ المُتْعِس، والذين يَتَوَازَنُون ويَتَوَسَّطون ويَعْتَدِلون في تَمَتّعهم، والذين يَستصحبون ما أمكنهم من نوايا خيرٍ في عقولهم أثناء تَمَتّعهم كما أوصاهم ربهم ورسولهم (ص) طَلَبَاً لحبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة، والذين يُرَاعُون المشاعر الإنسانية فيمَن حولهم عند تمتّعهم فيَحترمونهم ويَتواضعون لهم ويُعينوهم.. فهذه هي زينة الحياة الحقيقية ومَحَاسنها ومُتَعها التي تُسْعِد في الداريْن دون أيّ تعاسةٍ والتي أوصانا بها ربنا بقوله "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.." (الأعراف:32).. فإنْ فَعَلْتَ ذلك فتأكّد أنَّ الله تعالي سيزيدك رزقا وتَمَتّعاً وفيراً بلا حسابٍ ولا حدّ له وسيَرفع من شأنك ويعزّك في دنياك ثم لك العِزّة والرِّفْعَة التامّة في أخراك
هذا، ومعني "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)" أيْ هذا هو أهم الأسباب لتبديل نِعَم الله تعالي الذي ذُكِرَ في الآية السابقة.. أيْ حَسَّنَ الشيطان للذين كفروا الحياة الدنيا وهُم الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا يُسْلِمون، أيْ حَسَّنَها لهم تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم – والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه) – بحيث يَستمتعون بمُتَع الحياة علي أيّ صورةٍ سواء أكانت ضارَّة أم نافعة شرّاً أم خيراً، ويُفْرِطُون ويُبالِغون في التّمَتّع دون تَوَازُنٍ وتَوَسُّطٍ واعتدالٍ بل بكلِّ نَهَمٍ لأنهم يَنْسون آخرتهم أو يتشكّكون فيها فليس لهم إلا دنياهم وليس لهم نوايا خيرٍ أثناء تَمَتّعهم طَلَبَاً لآخرتهم ونعيمها الخالد، ويَتَمَتّعون دون مراعاةٍ للمشاعر الإنسانية للذين حولهم ولا يجدون مثل هذا التّمتّع ويَتَرَفّعون عليهم ولا يُعينوهم حتي ولو بجزءٍ منه بل قد يَسخرون منهم لضعف مستواهم أو لامتناعهم عن التّمتّع بما هو ضارّ!! إلي غير ذلك من مِثْل هذه الصور المُضِرَّة لزينةِ ومَفَاتِن الحياة والتي يُحَذّر الله المسلمين منها أشدّ التحذير لِمَا فيها من ضغائن ومَرَارات ومُشاحَنات وانتقامات وتعاسات.. وما كلّ ذلك إلا لتعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ وأخذوا بسبب ذلك يسخرون من الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وعملوا بأخلاق إسلامهم ويستهزؤن بهم ويضحكون منهم لأنهم يَهتمّون وينشغلون بشيءٍ اسمه الآخرة ويُجَهِّزُون لها ويُحْسِنون طَلَبَها مع طَلَب الدنيا والتي هي بالنسبة لهم وَهْم وخيال لن يَحدث ولا يُصَدِّقونه!!.. ".. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ والذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء حتما سيكونون فوق هؤلاء الذين كفروا مَكَانَة ومَكَاناً يوم القيامة في أعلي عِلّيين مُكَرَّمِين مُنَعَّمِين سعيدين بينما هم في أسفل سافِلين مُهَانِين مُعَذّبين تَعِيسين فيما يُناسبهم من عذاب جهنم، فهم فوقهم عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم في جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالي كما أنه هو وحده الخالِق للكوْن وللخَلْق فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به، ويُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه، إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات، فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم حيث هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيد من الشرح والتفصيل)، فالرزق ليس مالا فقط، وإنما إضافة للمال الصحة والعافية والأمن والأمان وراحة البال والمَأكل والمَشرب والمَلْبَس والمَرْكَب والمَسْكَن الطيِّب الهنيء والأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء الأمناء الصالحين الخَيِّرِين وبالجملة كل ما يُسْعِد الإنسان ومَن حوله في الداريْن.. ".. بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)" أيْ هذه الأرزاق، في الدنيا، وفي الآخرة بما لا يُوصَف ولا يُقَارَن لمَن يؤمنون بها، تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا مَن أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب، فهو يُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبه أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكه فهو مالك المُلك كله
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)" أيْ كان الناس جماعة واحدة مُجتمعين جميعهم علي الإيمان بالله تعالي مُتّبِعين للإسلام منذ خَلْق آدم ولعِدَّة قرون بَعده مِن ذِرِّيَّته، حيث الإسلام هو فطرة الله، أي خِلْقَته التي خَلَقَ الناس جميعا عليها، فكلهم مَفطورون أيْ مَخلوقون علي أخلاق الإسلام وكلّ مولودٍ يُولَد حديثا في كل لحظة هو مولود عليها كما يُؤَكّد ذلك الرسول (ص) بقوله "كلّ مَوْلودٍ يُولَد علي الفِطْرَة.." (جزء من حديث رواه ابن حبان)، فاختلفوا بعد ذلك بمرور الأزمنة، فمنهم مَن استمرّ علي الالتزام بالإسلام مُستجيباً لنداء الفطرة التي هي مسلمة أصلا وموجودة في داخل عقله وحينها سيَجد أمر اتّباعه أمرا سهلا سَلِسَاً مَيْسُورا مُسْعِدَاً، ومنهم من عانَدَ هذه الفطرة وخالَفَها فظلت تُصَارِعه لمُحَاوَلَة رَدَّه إلي ربه ودينه ليسعد في الداريْن واتّبع نظاما مُخالِفا للإسلام فكان الأمر عليه صعبا عسيرا مُعَقّدا مُتْعِسَاً وسيَظلّ في شقاءٍ وتعاسةٍ بسبب الصراع الدائم معها حتي يستفيق ويعود لما تُذَكّره به دائما، لربه ولدينه الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وسبب بُعْدِه عنهما أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ.." أيْ فرَحِمهم الله تعالى بإرسال الأنبياء إليهم، أيْ فلذلك وبسبب هذا الاختلاف فهو مِن عظيم رحمته وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم لم يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة فأرسل الأنبياء إليهم كمَبْعُوثين من عنده ليُبَلّغوهم بالإسلام ليعودوا إلي فطرتهم ليسعدوا في الداريْن، بَعَثَهم مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أيْ يأتون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ ويُحَذّرون بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.." أيْ وأنزل مع كلّ نبيٍّ منهم الكتاب الذي فيه الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ ليُبَلّغوه للناس وآخرها القرآن العظيم علي رسوله الكريم محمد (ص) بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.." أيْ لكي يحكم هذا الكتاب بحُكْم الله تعالي العدل بين الناس جميعا فيما اختلفوا فيه من كل شئون حياتهم حيث سيكون المَرْجِع الذي فيه الأصول والقواعد التي يرجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ.." أيْ فآمَنَ الناس أيْ صَدَّقوا بهذا الكتاب الهادِي المُنَزَّل في زمنه واتّخذوه حَكَمَاً ومَرْجِعَاً لهم ولكن ما اختلف فيه وهو الذي مِن المُفْتَرَض أن يكون سَبَبَاً لإزالة الخلاف ويُؤْمِن به الجميع – والاختلاف فيه يعني أن يُصَدِّقه البعض ولا يُصَدِّقه البعض الآخر أو يُصَدِّقوا ببعض آياته لا بكُلّها أو يكَتَمُوها أو يُفَسِّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الاختلاف علي الحقّ والابتعاد عنه – إلا البعض منهم الذين أوتوه أيْ أعطوه أيْ عقلوه وعلموه وفهموا تفاصيله، كاليهود والنصاري مثلا الذين لم يَتّبعوا القرآن ويُسْلِموا ومَن تَشَبَّه بهم، ولم يكن اختلافهم لالتباسٍ عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما جاءتهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بهذا الكتاب أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجه وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أمروا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض، وهذا هو معني ".. بَغْيًا بَيْنَهُمْ .." أيْ وما دَفَعَهم إلي هذا الاختلاف إلا البَغْي الذي حَدَث بينهم أيْ الظلم والفساد ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.." أيْ إذا كان ما سَبَقَ ذِكْره هو حال المُخْتَلِفين في الحقّ البعيدين عن ربهم وإسلامهم، فقد هَدَىَ الله الذين آمنوا للحقّ الذى اختلف فيه أهل الضلال هؤلاء وكذَبوه وعانَدوه ولم يَتّبعوه، وذلك الهُدَىَ حتما بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسبابه لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده، فهم قد آمنوا أولا أيْ اختاروا الإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم أيْ اختاروا التصديق بوجود الله والعمل بأخلاق إسلامه فعاوَنهم سبحانه في المقابِل بالاستمرار عليه والسعادة التامّة به (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (17) من سورة محمد "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ").. ".. وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)" أيْ مَن يشاء مِن الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أيِّ وقتٍ ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه).. إنك إذا كنتَ مُسْتَعِدَّاً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألاّ يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم.. فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)" أيْ هل تظنون أنكم بمُجرَّد أن تقولوا أنكم مسلمون تُتْرَكون دون فتنةٍ أي اختبار لهذا القول هل هو صِدْق أم كذب؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حسبانكم فهو حسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يحدث لكم بين الحين والحين اختبار ما وبما يُناسب كلاًّ منكم لكي يَظهَر لكم مَن هو الصادق ومَن هو الكاذب، تماما كالذي يُعلن أنه قد تعلّم علما ما أو مهنة ما فإنه لا يُؤْخَذ بكلامه حتي يتمّ اختباره ومعرفة صِدْقه مِن كذبه ودرجته ومستواه وتطبيقه العمليّ الواقعيّ ونحو هذا، ويتمّ هذا كل فترة وبما يُناسبه للإطمئنان علي أنه مُستمرّ علي ذلك، وهذه هي طريقة الله تعالي مع كل الناس السابقين منذ آدم عليه السلام، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، وهو يُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم، وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم.. إنَّها اختبارات مُتَنَوِّعَة لكي يعلم كلٌّ مِنكم ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا وعَمَلاً به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ومعني ".. وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ.." أيْ ولم يَصِلْ بَعْدُ إلي عِلْمِكم أمثلة المسلمين الذين ذَهَبوا وانتهوا من قبلكم والذين أصابتهم البأساء أيْ حالة البؤس بسبب فقرٍ وغيره والضَّرَّاء أيْ الضرَر كمرضٍ ونحوه وزلزلوا أيْ واضطربوا اضطراباً شديداً بمَخاوِف مُتَعَدِّدَة حتى بَلَغَ بهم الأمر من وصول أقصي درجات الشدّة أن قال رسولهم نفسه الذي أرسل إليهم في زمنهم والذي هو أعظمهم صبراً ويُعَلّمهم الصبر وقالوا معه متى يأتي نصر الله استبطاءً لهذا النصر والذي هم متأكّدون منه؟! والمقصود هل حسبتم أن تدخلوا الجنة بدون أن تُصابوا بمِثْل ما أصاب الذين مِن قبلكم؟! ولفظ "لمَّا" يُفيد أنه لم يَحدث الأمر حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا.. لكنهم تَمَاسَكُوا وصَبَرُوا وثَبَتُوا مهما اشْتَدَّت بهم الشدائد واستمرّت بلا أيِّ يأسٍ بل بكل صبرٍ جميل أي خالٍ من أيِّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخط داخليّ أو شكوي لأحدٍ غير الله تعالي وإنما كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه والاستعانة به ودعائه فهو المُسْتَعَان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد مع العمل قَدْر الاستطاعة علي محاولة التَّغَلّب علي الصعاب بكل إيجابية دون أيِّ سلبية بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة، وذلك بسبب تمام توكّلهم علي ربهم وتمسّكهم به وبإسلامهم ولجوئهم إليه، فخرجوا من هذه الأمور مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ معرفتكم أيها المسلمون الحالِيُّون بأحوالهم سيُخَفّف عنكم وسيُشجعكم لتَصِلُوا إلي ما وَصَلُوا إليه فتكونون ناجحين مستفيدين مثلهم، فإيّاكم أن تظنوا مثل هذا الظنّ الخاطيء وعليكم أن تتأكّدوا وتتذكّروا دائما أن نَيْل الجنة وأعلي درجاتها يتطلّب منكم أن تَتّخِذوا الصالحين السابقين قدوة لكم في صبرهم وثباتهم إذا مَرَّت بهم الشدائد.. ".. أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)" أيْ فَيُوَفّي الله تعالي حتما بوَعْدِه فيُجيبهم حينها بكلِّ تبشيرٍ وطَمْأنَةٍ وتَسْلِيَةٍ وتثبيتٍ بأنَّ نصر الله قريبٌ جداً منكم أيها المسلمون العاملون بكل أخلاق إسلامكم الصابرون الثابتون عليها علي كل حالٍ هكذا، فلا تستعجلون، فتأكَّدوا واعلموا بالتالي إذَن أنه حتماً ودائماً وأبداً وفي كل زمانٍ ومكانٍ مع أيِّ صورةٍ من صور الشِّدَّة لا بُدّ سهولة كثيرة قريبة مُصَاحِبَة لها ومع أيِّ ضيقٍ فرج كبير قريب مُصَاحِب له، كما وَعَدَ تعالي "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح:5،6).. إنَّ هذه بشارة عظيمة ووَعْد أكيد من الله تعالي لا يُخْلَف قطعاً مُطلقا للمُعْسِرين الذين يعملون بأخلاق إسلامهم ويُحسنون اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة في كل شئون حياتهم مع حُسن التوكّل علي ربهم أنه حتما سيزيل عنهم أيّ شدّة في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم ولغيرهم عاجلا أم آجلا، وسيُيَسِّر لهم بالقطع كل أمورههم وأرزاقهم وتعاملاتهم مع جميع الخَلْق فتكون حياتهم كلها سَهْلَة سَلِسَة سعيدة تماما في دنياهم، ثم أخراهم.. هذا، واليُسْر الوفير ليس بعد العُسْر بزمنٍ طويل وإنما هو يُصَاحِبه وسيَأتى معه سريعا أو قريبا بعده بفترةٍ قصيرةٍ كما أنَّ لفظ ألَاَ في اللغة العربية هو للاستفتاح أيْ ليُفيد التنبيه علي تحقيق مضمون الكلام وتقريره ولفظ إنَّ يُفيد التأكيد ثم إضافة النصر إلي الله تعالي تُفيد حَتْمِيَّة حصوله لأنه علي كل شيء قدير، وكل ذلك زيادة في طمأنة المسلمين وتبشيرهم وإسعادهم وعوْنهم علي الصبر لفترةٍ قليلة علي هذا العُسْر للخروج منه باستفاداتٍ كثيرة فاليُسْر والنصر قادم قريباً جداً لا مَحَالَة بكل تأكيد.. وخلاصة القول أنه حين تَصِل الشدّة بالمسلم إلي حدِّ كأنها زلزال وأحَسَّ أنَّ طاقة التَّحَمُّل البَشَرِيّ قد تنتهي وتَمَنَّيَ لو حَلّ الفَرَج والنصر فوراً وصَبَرَ وثَبَتَ رغم كل ذلك ما استطاع فليتأكّد حينها وحتما وقطعا أنَّ نصر الله أقرب من القريب وأنه قد حانَت لحظة الجوائز والسعادات علي النجاح في الامتحانات من ربّ رحيمٍ ودودٍ كريمٍ لا يريد بخَلْقِه إلا كل مصلحةٍ وخيرٍ وسعادةٍ لهم في الدنيا ثم دخول أعلي درجات الجنات في الآخرة.. إنَّ النصر مُدَّخَر مُجَهَّز لمَن يستحِقّه ولا يستحقه إلا الذي يثبت حتى النهاية
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام من بعده (ص) عن ماذا ينفقون مِمَّا يملكون من أصناف أموالهم، قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم أنفقوا أيَّ خيرٍ يَتَيَسَّر لكم من أصناف المال الحلال الطيّب واجعلوا نفقتكم للوالدين ليكون برَّاً بهما وأداءً لبعض حقوقهما، وللأقارب عند احتياجهم ولكم أجران أجر الصدقة وصلة الأرحام، ولليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ مِمَّن يحتاجون للمعونة، وللمساكين أيْ المُحتاجين لكلّ أشكال العوْن، ولابن السبيل أي الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه.. اعطوهم من الإحسان والبِرّ والتواصُل والتزاوُر والسؤال والدعاء والتعاون والتآلف والتآخِي والتهادِي والإنفاق بكل صوره من المال والجهد والصحة والوقت والفكر ونحوه مِن نِعَم الله التي لا تُحصَيَ، إلي غير ذلك من صور الرحمة والحب والألفة والعوْن والتسامُح والتقارُب، وكلها صفات مُسْعِدَة، والتي هي حجر الأساس للمجتمع، ولو تمسَّكَ بها الجميع لتَرَابَطوا ولازدادوا قوة وتطوّروا وارتقوا وسَعِدوا في دنياهم سعادة تامَّة ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. ".. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)" أيْ وأيّ خيرٍ تفعلونه إمّا مع هؤلاء المذكورين أو مع غيرهم بأيِّ صورةٍ ومقدارٍ وفي أيِّ زمانٍ ومكانٍ طَلَبَاً لثواب الله وحبه وعوْنه وتوفيقه وعطائه وإسعاده الذي لا يُحْصَيَ في الدنيا والآخرة فإنَّ الله حتماً به عليم حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به، وذلك حتي ولو كانوا يُقاتِلون في المسجد الحرام أو في شهرٍ مِن الأشهر الحُرُم، ودون أن يشمل رَدّ اعتدائهم أيّ مُخَالَفةٍ لأخلاق الإسلام كقتل الأطفال والنساء والشيوخ ما داموا لم يشاركوا في القتال وكهَدْم البيوت وحرق الزروع وكالسَّبِّ والقَذف ونحو ذلك.. ورغم أنَّ قتل النفس أمرٌ حَرَّمه الإسلام بشدّة، إلا في هذا الموقف، لأنَّ تَرْكه سيؤدي إلي فتنة أشدّ وأعظم وهي فتنة القضاء علي دين الإسلام ومَنْع انتشاره وإهانة المسلمين وانتهاك حُرُماتهم وأعراضهم وذِلّتهم وإتعاسهم.. فهذا مِن باب المُعامَلَة بالمِثْل ومِن باب أنَّ الضرورات تُبيح المَحْظورات ومِن باب الأخْذ بأخَفّ الضَّرَرَيْن ليعود العدل وتعود السعادة وحتي يرتدع كلّ مَن حتي يفكر في أن يعتدي وليعود للإسلام عِزّه وينتشر ويَعُمّ العالَمين برحماته وسعاداته.. فإنْ انتهوا وعادت الحقوق لأصحابها فسينتهي المسلمون عن قتالهم لأنَّ القتال يكون علي قَدْر ما يَرْدعهم دون أيّ زيادة، ثم يعودون بعد ذلك للأصل وهو المعاملات الحسنة لعلهم يهتدون للإسلام حيث هدايتهم ستكون أصلح وأنفع وأسعد للبشرية من ضلالهم بكل تأكيد، إلا مَن ظلم منهم فيُعاقَب بقَدْر ظلمه
هذا، وما سَبَق ذِكْره يتعلق بعلاقات الأمم والدول بعضها ببعض، أمّا في حالات الأفراد، فمَن اعتدي عليك اعتداءً خفيفاً يُمكن رَدّه فوريا دون حدوث ضَرَرٍ أكبر كضربةٍ أو لَكْمَةٍ أو نحوها فيمكنك الرَّدّ مباشرة بالمِثْل تقريبا مع مراعاة تقوي الله وعدم الزيادة لأنَّ حب الانتقام في هذا الموقف قد يسيطر علي العقل، أمّا إنْ زاد أمر الاعتداء فأصبح جرحا ودماءً وأموالا وأعراضا ونحوها – أو كان سَبَّاً حيث لا يجوز مقابلته بمثله – فلا بُدّ من اللجوء إلي التحكيم بواسطة شخصيات عادلة أو القضاء من خلال القضاة لتحقيق القِصاص العادل
واعلم أنَّ الله تعالي مع المتقين الذين يلتزمون بهذا سيُعينهم وينصرهم ويردّ لهم حقوقهم.. ويسعدهم.. وإيّاك إياك أن تُخالِف تعاليم ربك وأخلاق إسلامك فتعتدي أو تكون ضعيفا جبانا وتبخل بتضحيتك وعطائك وإلا ستُعَرِّض ذاتك لكراهية ربك وعدم توفيقه ورزقه ورعايته وأمنه في الدنيا ثم عقابه وفقدان جنته في الآخرة.. فإمّا أن تعيش بأخلاق الإسلام عزيزا كريما سعيدا أو تموت شامخا شهيدا لا ذليلا
هذا، ومَن كان له عذر مقبول يمنعه عن القتال، يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)
هذا، ومعني "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)" أيْ فُرِضَ عليكم أيها المسلمون القتال ضدّ مَن يعتدي عليكم بالقتال لحماية أنفسكم والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة، وهو أمر مكروه غير مَحبوب لكم بالفطرة لمَشَقّاته ومَخاطره ولإزهاقه للأرواح ولإرهاقه للحياة كلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، كما أنَّ الفطرة تحب الحياة والله قد غَرَسَ فيها الرّقّة والرحمة والحب والسلام لجميع الناس بل والخَلْق كلهم والكوْن كله، وهذه المعانى الخيرية وغيرها قد زادها الإسلام وجعل المسلمين يحبون حُسن التعامُل حتي مع أعدائهم ويكرهون قتالهم أملاً فى إسلامهم فهذا أنفع وأسعد للجميع في الداريْن، ولكنَّ الله تعالى كَتَبَ على المسلمين قتال المعتدين عليهم بالقتال لأنه يعلم أنَّ المصلحة والأمن والخير والسعادة لكلّ خَلْقه فى ذلك وإلا سادَت المَظَالِم والمَخَاوِف والمَهَانَات والتعاسات، ولذا قال مُنَبِّهَاً للحِكَم التي تُسَهِّل صعوبته وتُحَقّق به خيراً قد يَخْفَيَ علي كثيرين ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)" أيْ وقد تكرهون شيئاً مَا في شئون حياتكم كلها – ومنه القتال – وهو في حقيقته خيرٌ لكم في دنياكم وأخراكم، وقد تحبون شيئاً مَا وهو شَرٌّ لكم فيهما، والله يعلم ما غاب عنكم من مصالحكم وما هو خير أو شرّ لكم حاليا ومستقبلا وأنتم لا تعلمون كل ذلك ونتائج الأمور في المستقبل فسارعوا بالتالي إذَن إلي الاستجابة لكل ما فُرِضَ عليكم وتَمّ توصيتكم به من أخلاق الإسلام لتسعدوا في الدنيا والآخرة لأنه تعالي لا يأمركم إلا بما هو خير أيْ مُفيد مُسْعِد لكم فيهما ولا يمنعكم إلا عمَّا هو شرّ أيْ مُضِرّ مُتْعِس لكم فيهما وهو أرحم بكم وأحرص علي مصلحتكم وسعادتكم وأقْدَر عليها من أنفسكم (برجاء أيضا لتكتمل المعاني مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم مراجعة الآية (143) ثم الآيات (155)، (156)، (157) منها، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته فيهما)
ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن القتال في أيِّ شهرٍ حرامٍ حيث قد كرهوا أن يُقاتِلوا فيه مَن يعتدي عليهم بالقتال، أو يسألك غير المسلمين الذين يَتَصَيَّدون الأخطاء للمسلمين ليُشَكّكوا في الإسلام ويُشَوِّهُوا صورته أنَّ فيه تُنَاقضَاً حيث يُحَرِّم شيئاً ويُخَالِفه فلا يَتّبعه بهذا التشكيك بالتالي أحدٌ وذلك إذا قاتل المسلمون مَن يَعتدي عليهم بالقتال في شهرٍ من الأشهر الحرم، والتي هي أربعة، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، وسُمِّيّت بذلك لأنَّ الله تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة، كما أنَّ الأشهر الثلاثة هي أشهر الحجّ والتي يحتاج مَن نَوَيَ الحجّ فيها للأمان لا الاقتتال، وشهر رجب هو أيضا يحتاج للأمن لكثرة أداء العُمْرة فيه.. فالجواب إنْ كان السؤال من المسلمين يكون بياناً للحُكْم وطَمْأَنَة لهم أنَّ المُنْتَهِك لحُرْمَة الشهر الحرام هو قطعا البادِئ بالقتال وليس هم لأنهم في موقف المُدافِع عن دينهم الإسلام وعن أنفسهم، فلا يَتَحَرَّجُون من قتالهم إذَن في أيِّ زمانٍ ومكان، ويكون الجواب ذَمَّاً لغير المسلمين وإخْرَاسَاً لألسنتهم لأنهم تَوَقّعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإِسلام والمسلمين فلمّا أجابهم بأنَّ القتال فيه هو إثم كبير فعلا لكن ما فعلوه من جرائم فى حقّ الإسلام والمسلمين أكبر وأعظم صُدِمُوا وتَوَقّفوا.. ".. قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ.." أيْ قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم حُكْم القتال فى الشهر الحرام، قل لهم أنَّ القتال فيه بالفِعْل هو إثمٌ كبيرٌ لأنه اعتداءٌ على ما حَرَّمَ الله تعالي، لكنَّ الذي يَفعله أعداء الإسلام مِن الصَّدِّ عن سبيل الله أيْ عن طريق الله أيْ المَنْع عن الدخول للناس في دين الله الإسلام وإيذائهم ومحاولة رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، ومِن الكفر به تعالى أيْ التكذيب بوجوده، ومِن الصَّدِّ عن دخول المسجد الحرام، ومن إخراج أهل المسجد منه وهم أهل مكة وهم أهله وهي بلدهم، وما شابه ذلك من جرائم، هو حتماً أكبر إثماً عند الله تعالى أيْ في حُكْمِه من القتال في الشهر الحرام.. ".. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.." (برجاء مراجعة ".. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.." في الآية (191) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فهي مُشَابِهَة لها مع مراعاة استخدام لفظ "أشدّ" لأنَّ الحديث كان عن قتال المُعتدين فيُناسبه الشدّة معهم ليَكُفّوا عن اعتدائهم، بينما لفظ "أكبر" هنا لأنَّ الحديث عن كبائر يفعلها المعتدون فيناسبه توضيح أنَّ أفعالهم أكبر إثماً وفظاعة من القتال في شهرٍ حرامٍ.. ".. وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا.." أيْ ومن جرائمهم الكبيرة الشنيعة أيضا والتي تدلّ علي شدّة عداوتهم ودَوَامها أنهم يستمرّون يقاتلونكم ويُؤذونكم كلما أتيحت لهم الفرصة لكي وإلي أنْ يرجعوكم عن إسلامكم فتتركوه وأخلاقه ونظامه فتكونون غير مسلمين إن استطاعوا تحقيق ذلك، ليظلّوا يستعبدوكم ويخدعوكم وينهبوا جهودكم وثرواتكم وخيراتكم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعكم لأخذ حقوقكم، فعليكم أن تنتبهوا لهذا وتحذروه تماما عند التعامل معهم.. هذا، ولفظ "إنْ" يُفيد الشكّ في استطاعتهم والاسْتِبْعاد لمَقدرتهم عليه لأنَّ لهذا الدين ربا يَحميه ويَحمي ويُعين المسلمين والذين هم يُفضلّون الموت على الرجوع عنه كما يُثبت الواقع ذلك، إلا في حالاتٍ نادرة تكون من مسلمٍ يبيع إسلامه ويرتدّ عنه ويتركه من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.." أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الرِّدَّة عن دين الإسلام ونتائجها الشديدة السوء والتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ ومَن يَرْجِع عن دينه منكم أيها المسلمون بعدما ذاق سعاداته ويصير كافرا ويستمرّ علي ذلك دون توبة وعودة لربه ولدينه ويموت علي هذا الحال وهو كافر أيْ مُكَذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعل لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره، فهؤلاء ستَحْبط أعمالهم، أيْ ستَفسد فسادا تامّا، حيث خلطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيح بأيِّ حسناتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ مهما ثَقلَت وكثرَت في الميزان يوم القيامة وهو الكفر، وسيُحْرَمون بعد كفرهم جزاء ما كانوا يعملونه مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياهم كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصابون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. ".. وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)" أيْ وهؤلاء هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. هذا، وإنْ تابَ المُرْتَدّ ورجع للإسلام لا يحبط عمله وعادت له سعادته فيما هو قادِم وتَرْجِع إليه وتُحْسَب له يوم الحساب أعماله الصالحة التي عملها قبل أن يَرْتَدّ، وذلك من عظيم رحمته وكرمه سبحانه الغفور الحليم الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ ودائما تَسْبِق غضبه
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجِرين المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة منه وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير
ولذا، فمِن الجهاد، مع النوايا الحَسَنة بالعقل، بذل الجهد في العمل والتخصّص والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والعلم والفكر والتخطيط والتطوير والابتكار وما شابه هذا، في كل المجالات الأسَرِيَّة والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والصناعية والزراعية والرياضية والإعلامية والفنية وغيرها، وبكل الأشكال المالية والصحية والوقتية والذهنية وغيرها، ومع عموم الناس مسلميهم وغير مسلميهم علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأعرافهم ودياناتهم وأماكنهم بدءاً بالأقْرَب والأسْهَل والأنْسَب ثم الأبْعَد والأصْعَب
كذلك من الجهاد، نشر دعوة الإسلام بالقدوة والقول والعمل بالحكمة والموعظة الحسنة وبذل الوقت والصحة والفكر والمال وغيره في ذلك.. تنشره في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسب، وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبة، وأثناء العمل والعلم والإنتاج والكسب وغيره، ومع كل فردٍ مُمكن مناسب من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء والجميع بما يناسب ظروفهم وأحوالهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم.. كذلك من الجهاد تَحَمُّل أيّ أذَيَ قد يحدث أثناء ذلك، سواء أكان معنويا أم جسديا، بالسَّبِّ أو الضرب أو السجن أو التشريد أو حتي القتل، مع الصبر والثبات والصمود والاستعانة بقوة الله أولا ثم بقوة تَجَمُّع الصالحين حولك خاصة عند مقاومة الشرّ وأثناء حَمْل الحقّ وقوله والدفاع عنه ضدّ الظالمين أيَّاً كان مواقعهم ومسئولياتهم
ثم تأتي أعلي صور الجهاد وأعظمها، الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد بالقتال وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. يقول (ص) في توسيع معني الجهاد "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" (رواه أبو داود)
كذلك ستسعد في حياتك كثيرا، إذا كنتَ من المهاجرين، والهجرة عموما هي المُفَارَقَة، وفي سبيل الله أيضا تعني في كل خير، والهجرة أيضا صور ودرجات علي حسب النوايا الحَسَنَة بالعقل، فمُفَارَقة أيّ شرٍّ تُعْتَبر هجرة، ومفارقة أصحاب السوء وأهل الشرّ هجرة، ومفارقة حتي الفكر الشَّرِّيّ بالعقل هجرة، وما شابه هذا، ثم أعلي صور الهجرة وأعظمها، الهجرة بمفارقة الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها، من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها، في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها
فإنْ كنتَ مِن هؤلاء، فأَبْشِر، فأنت مِمَّن يرجون رحمة الله، ويتّخِذون أسبابها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ والاستغفار عن أيِّ خطأ، ويتمنّونها وكلهم أمل واستبشار وتفاؤل ويقين في تحصيلها لأنّ ربهم خالقهم هو الكريم الرؤوف الغفور الرحيم.. أمّا مَن لم يفعل ذلك، فلا حَصَادَ لزرعٍ دون بَذرٍ لبذوره! فسيَعيش سابحاً في الأوهام والأماني!.. لكنَّ رحمة الله تَسَع كلّ شيءٍ وكلّ مُقَصِّرٍ بمجرّد أن ينوي بعقله خيراً ويَهِمّ ويبدأ به
هذا، ومَن كان له عذر مقبول يمنعه عن الجهاد أو الهجرة أو القتال عند الاحتياج لكل ذلك، يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا.." أيْ وفَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَجَاهَدُوا.." أيْ وبَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا في بدء تفسير هذه الآية تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة"، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتما بكل تأكيدٍ يَطلبون ويَنتظرون ويَتوقّعون ويَتَرَقّبون بكل أملٍ وتفاؤلٍ واستبشارٍ رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ والتي تَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. إنهم هم المُؤَهّلُون حقا لأنْ يَرْجُوها ولأنْ يُعْطَوْهَا لأنهم اتّخذوا أسبابها ما استطاعوا واستغفروا من كل ذنبٍ وَقَعُوا فيه أثناءها فهم يَرْجُونها رجاءً حقيقياً لا مُزَيَّفَاً شَكْلِيَّاً بلا أسباب، وهو سبحانه حتما لن يضيع جهودهم مطلقا، لأنَّ الله غفورٌ أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، ولفظ "يَرْجُون" يُفيد ضِمْنَاً أنه لا أحد أبداً يَضْمَن تماما دخوله الجنة باستمراره علي إسلامه حتي موته وأنَّ علي المسلم أن يجتهد في ذلك تمام الاجتهاد ويحرص عليه تمام الحرص وأن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ تماما الخمر والمُخَدِّرَات وما شابهها، والقِمَار وما شابهه، فكلها أمور تؤدي إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّراجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي إلي كل ما هو كئيب تعيس في الدنيا والآخرة.. وما قد يحدث منها من بعض النفع فهو أمر وَهْمِيّ مُؤَقّت مَغشوش قليل أو نادر، كالشعور مثلا ببعض النشوة أو كسب بعض مالٍ أو نحو ذلك، يَتْبَعه سريعا مرارات وتعاسات يُثْبِتها الواقع كثيرا.. فإيّاك إياك أن تقربها لتسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما.. كذلك ستَسعد كثيرا في دنياك وأخراك إذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن حُكْم تَعَاطِي الخمر وما يشبهها كالمُخَدِّرات ونحوها شُرْبَاً وأكلاً وبيعاً وشراءً وتصنيعاً ونحوه، ويسألونك عن حُكْم القِمَار وهو كلّ لَعِبٍ فيه مُرَاهَنَة أيْ يشترط أن يأخذ الغالِب من المَغْلُوب شيئًا من المال سواء أكان بالوَرَق أم بغيره من الألعاب وهو عموما كل ما يَتَخَاطَر فيه الناس من مُعَامَلَة فيها خطر الكسب المُطْلَق أو الخسارة المُطْلَقَة، ويُسَمَّيَ المَيْسِر من التيسير لأنَّ المال يَصِل للكاسِب له بكلّ يُسْرٍ دون أيّ جهدٍ حقيقيٍّ نافع.. ".. قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم فيهما شرٌّ وضَرَرٌ وفسادٌ عظيمٌ في الدنيا وذَنْبٌ كبيرٌ في الآخرة لأنهما وما يشبههما يُؤَدِّيَان إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّرَاجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي كلها إلي كل ما هو كئيبٍ تعيسٍ في الدنيا والآخرة.. وما قد يحدث منها من بعض النفع فهو أمرٌ وَهْمِيٌّ مُؤَقّتٌ مَغْشُوشٌ قليلٌ أو نادر، كالشعور مثلا ببعض النّشْوَة أو كسب بعض مالٍ أو نحو ذلك، يَتْبَعه سريعا مرارات وتعاسات يُثْبِتها الواقع كثيرا.. فشرورها وأضرارها ومَفاسدها إذَن أكبر كثيرا من نفعها بلا مُقَارَنَة.. فلا يَقْرَبها أبداً بالتالي كلُّ عاقلٍ ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما.. ".. وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.." أيْ ويسألونك أيضا عن ماذا ينفقون مِمَّا يملكون من أصناف أموالهم، قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم أنفقوا العفو، وهو ما تَيَسَّر وخارج زائد مَتْرُوك عن احتياجات المُنْفِق وضروراته ولا يَصْعب عليه إنفاقه، والأمر يختلف من فردٍ لآخر حسب تقديره، وإلا كان الإنفاق مُضِرَّاً له شَاقّاً مُتْعِسَا! فليس من المعقول أو المقبول أن يُسْعِد الآخرين ويُتْعِس ذاته! فذلك مِن تَوَازُن الإسلام ليَسعد الجميع.. ".. كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سألتم عنه، يُوَضِّح الله لكم الآيات في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي تكونوا بذلك من المُتفكرين أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيستفيدون منها ويسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتفكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم الذين يُخالِطونهم كإخوانهم الباحِثين عن كل سببٍ مُمْكِنٍ لخيرهم وسعادتهم.. إنك ستكون بهذا من مُرَافِقِي الرسول (ص) في أعلي درجات الجنات كما وَعَدَ بذلك.. وإيّاك إيّاك أن تكون مُفْسِدَاً لهم لا مُصْلِحَاً فتَضرّهم بضَرَرٍ مَا أو تستضعفهم فتستغِلّهم بصورةٍ ما من صور الاستغلال أو تخلط أموالهم إنْ كان لهم أموال بأموالك لتأكلها كأنك لا تعلم لكنَّ الله يعلم إفسادك ونحو ذلك مِمَّا يزرع الأحقاد والثأر والانتقام بينكم مستقبلا عندما يكبرون ويَقْوُون فيتعس الجميع.. إلا إذا كانت المُخالَطَة المالية وغيرها فيما لا يَضَرّ اليتيم بل ينفعه وبنوايا حسنة بالعقل في أثناء المُعَايَشَة والطعام وبعض المعاملات وما شابه هذا فذلك مِمَّا يَعْفِي عنه الله والإسلام لِمَا قد يكون فيه من العَنَت أي المَشَقّة والتي قد تمنع فاعل الخير عن فِعْله نحوهم، لأنه سبحانه الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها بكل دقة دون عَبَث، وهو العزيز الذي لا يُعجزه شيء ويعلم كل شيءٍ ويَنصر المظلوم علي الظالم ويَرُدّ له حقوقه في التوقيت وبالأسلوب المُناسب المُسْعِد له ولمَن حوله، بحكمته تعالي
هذا، ومعني "فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)" أيْ لعلكم تَتَفكّرون في الدنيا والآخرة، أيْ لكي تُحسنوا استخدام عقولكم وتَتَدَبَّروا فيما ينفعكم ويسعدكم تمام السعادة فيهما، في إطار نظام ربكم وتشريعاته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها ووَضَّحَها لكم في دينكم الإسلام الذي يُنَظّم لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وجهٍ فيُسْعِد كل لحظاتها، وذلك بأن تعملوا في الدنيا العمل الصالح الذي يجعلكم تنالون أعلي الدرجات في الآخرة، فأنتم في دنياكم تُحَقّقون أعلي المستويات في العلم والعمل والإنتاج والكسب والبناء والفكر والتخطيط والابتكار والعلاقات الطيبة وما شابه هذا، وفي أخراكم لا تنسونها ولو للحظة بل تُحسنون الاستعداد لها باستحضار نوايا خيرٍ في عقولكم أثناء كل أقوالكم وأعمال حياتكم اليومية وأنتم دائِمِي التّوَاصُل مع خالقكم دائِمِي طَلَب حبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، فتسعدون بذلك تمام السعادة في الداريْن، وبالجملة أنتم تُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ.." أيْ ويَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك المسلمون أيضا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن شئون اليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ وما يَطلبه الإسلام نحوهم وكيف يتصرّفون معهم في أمور حياتهم وأموالهم.. ".. قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ.." أيْ قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً : إصلاحٌ لهم بالتربية علي أخلاق الإسلام وبحُسن مُعاملتهم به وبإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وتنميتها ونحو هذا من صُوَرِ الإصلاح خيرٌ من عدم مُخَالَطتهم وتَرْكهم وخيرٌ لكم ولهم في الداريْن حيث تثابون جميعا أعظم الثواب والعطاء فيهما في مُقِابل ذلك.. ".. وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ.." أيْ وإنْ تُشارِكوهم في أموالهم وتَخلطوها بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وكل شئون حياتكم فهُمْ إخوانكم في الإسلام والإخْوان من شأنهم أنْ يُخَالِط ويُعين بعضهم بعضاً ويُصيب بعضهم من أموالِ بعضٍ على وجهِ الإصلاح والرضا وبمُرَاعَاةِ قطعاً ما تَتَطَلّبه الأخُوَّة الإسلامية من التّرَاحُم والتعاطف والتقوي والأمانة ونحو ذلك.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.." أيْ والله يعلم حتما المُفْسِد لشئون هؤلاء اليتامى من المُصْلِح لها، ويعلم بالقطع المفسد في الأرض عموما من المصلح فيها، فهو يعلم كل ما يُسِرّ وما يُعلن كبيره وصغيره من أعماله وأقواله بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ.." أيْ ولو أراد الله لضَيَّقَ وشَدَّدَ وعَسَّرَ عليكم في التعامُل مع اليتامي وفي أيِّ تشريعٍ من تشريعات الإسلام، ولكنه تعالي الرؤوف الرحيم لم يشأ حتما ذلك، ولن يشاؤه مطلقا، لكنَّ ذِكْره هو مِن باب التّذْكِرَة بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ من خلال تَصَوُّر غيابها واستبدالها بما هو عكسها، والمقصود التنبيه علي أنَّ الله يريد بكم قطعا اليُسْر والسعادة في الداريْن لا العُسْر والتعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)" أيْ إنَّ الله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، ويُمكنه حتما أن يعْنِتَكم ولكنه حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون وَصَايَا ربهم وينتفعون بها ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم التي تُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ فيسعدون بكل لحظاتها.. فمَن أحسن اختيار زوجه عاش حياته ولا شكّ سعيدا.. وأول أسباب السعادة الزوجية وأصلها والتي ينبعث منها بقية الأسباب أن تكون للزوجين مَرْجِعِيَّة واحدة ثابتة مُسْعِدَة تجعلهما مُتَوَافِقَيْن مُتَنَاغِمَيْن مُتَوَادَيْن مُتَرَاحِمَيْن، وهي مرجعية الإسلام، والتي تدعوهما فيما بينهما إلي الحب والحوار والتفاهُم والتقارُب والتسامُح والتعاون والتّوَسُّط والاعتدال والتخطيط والابتكار والعمل والإنجاز والإنتاج ونحو ذلك ثم تربية أبنائهما علي هذه الصفات وفي هذا المناخ المُسْعِد ثم أولا وأخيرا دوام حُسن التواصُل مع ربهم خالقهم طَلَبَاً لحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم باستحضار نوايا خيرٍ بعقولهم أثناء كل هذا يَطلبون أعظم ثواب ربهم وأعلي درجات جناته في الآخرة
وبناءً علي ما سَبَق، فمَن يُسِيء اختيار زوجه فيفتقد لبعض الصفات السابقة فسيتعس بالتأكيد بقَدْر الصفات المفقودة.. أمّا مَن اشتدَّت إساءته فاختار زوجا لا تَوَافُق مطلقا معه في الأصل، كأن يختار مُشْرِكَاً، أي يُشرك مع الله في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، فهذا ولا شكّ وحتما سيَتعس التعاسة كلها!! وحتي لو تَوَهَّمَ بعض السعادات كجمالٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، فهي سعادة وَهْمِيَّة سَطْحِيَّة قِشْرِيَّة مُؤَقّتة سريعة الزوال يعقبها مرارات وتعاسات دائمات يثبتها واقع الحياة، ثم النيران في الآخرة لمَن لم يَتُبْ ويَرْجِع للصواب والخير.. فاحْذَر ذلك أشدّ الحَذَر لتسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما
هذا، ومعني"وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)" أيْ ولا تَتَزَوّجوا أيها المسلمون المُشْرِكات وهُنَّ اللّاتِي يُشْرِكْنَ مع الله في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، حتي يَدْخُلْن في الإسلام، وبالتأكيد امرأة مملوكة عَبْدَة – إنْ كانت في زمنٍ فيه عبيد – مؤمنة بالله عاملة بأخلاق الإسلام لا مال لها ولا حَسَب ولا نَسَب، لَهِيَ خير حتما من امرأة مشركة حتي ولو أعجبتكم هذه المشركة الحُرَّة لجمالها أو مالها أو نَسَبها أو غيره.. وكذلك قطعا لا تُزَوِّجُوا نساءكم المؤمنات سواء كُنَّ حرائرَ أم إمَاءً المشركين حتي يُسْلِموا، وبالتأكيد عَبْد مملوك مسلم لا مال له ولا حسب ولا نَسَب لَهُو خير حتما مِن مُشْرِكٍ حتي ولو أعجبكم هذا المشرك الحُرّ لمَالِه أو مَكَانَته أو نَسَبه أو غيره.. ".. أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ .." أيْ والسبب في مَنْعِكم مِن هذا هو مصلحتكم وسعادتكم في دنياكم وأخراكم لأنَّ هؤلاء المَذكورين المَوْصُوفِين بصفة الشّرْك السيئة هذه ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا رجالا أم نساءً يَدْعون مَن يَقْتَرِن بهم ويُعَايِشهم كثيراً إلي الأقوال والأفعال الشَّرِّيَّة الفاسِدَة الضّارَّة التي تُؤَدِّي بقائلها وفاعلها إلي دخول النار في الآخرة.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ.." أيْ وفي المُقَابِل الله خالقكم الكريم الرحيم يَدعو في تشريعه الإسلام إلي الأقوال والأفعال التي تُؤَدِّي بقائلها وفاعلها إلي دخول الجنة ونَيْل المغفرة منه لذنوبهم بتوبتهم منها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنةٍ كلها أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. بِإِذْنِهِ.." أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسبابه لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. ".. وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)" أيْ وهو تعالي يُوَضِّح آياته للناس في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين أيْ لعلهم يتذكّرون ذلك، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما عليهم فقط إلاّ أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصدق، وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُلْتَزِمَاً بأخلاق الإسلام عند العلاقات الجنسية بين الأزواج والزوجات، فهي من مُتَع الحياة ونِعَمها وسعاداتها، ولكي يتحقّق تمام التمتع والسعادة بها عليك الحَذَر الشديد من إدخال العضو الذكَرِيّ في فَرْج الزوجة أثناء الحيض لما فيه من الضرَر الصحي والألم والنفور الجِنْسِيّ ونحو ذلك من الأذي والمرض والتعاسة، وكذلك الحال بالنسبة للدخول الشاذّ في الدُّبُر وهو مكان التّبَرُّز، وإنْ كان من المُمْكِن بعض الاستمتاع الجنسيّ بالنظرات والمُلامَسَات والقُبْلات ونحوها دون الدخول قطعا، فإذا انتهي وقت الحيض وجاء وقت الطُهْر يتمّ التمتع الكامل كيفما شاءَا ووقتما شاءَا وبالأسلوب الذي يريدانه حسبما يتفاهمان ويتقاربان ويتفقان فيما بينهما ومن الأمام والخلف وكل الأوضاع لكن بالقطع دون الدخول في الدُّبُر فيَتِمّ لهما بذلك أمتع وأسعد علاقة جنسية ويُرْزَقون ذُرِّيَّة صالحة تُسعدهم ويَسعدون بها ما داموا يبدأون بذكر ربهم ويستحضرون أثناءها بعقولهم نوايا خير أنهم يتمتعون بمُتَع الحياة النافعة المُسْعِدَة كما طَلَب منهم خالقهم وينتظرون مستبشرين أعظم مُتَعَه وسعاداته في الآخرة عند ملاقاته سبحانه
هذا، ومعني "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)" أيْ ويَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويسألك المسلمون أيضا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن الحَيْض وهو الدم الذي يَسِيل من أرحام النساء من خلال فروجهنّ خِلْقَةً في أوقاتٍ مُحَدَّدَةٍ تختلف من امرأةٍ لأخري، قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم : هو ضَرَر مُضِرّ مُسْتَقْذَر مُنْتِن مُؤْذٍ يتأذّي به الرجل تأذياً شديداً لو جامع زوجته أثناء نزوله مُتَمَثّلاً في الضرر الصحيّ والألم والنفور الجنسيّ ونحو ذلك من الأذي والمرض والتعاسة، ولذلك وبالتالي ولمصلحتكم ولعدم ضَرَركم وتعاستكم ولسعادتكم فتَجَنّبوا جماع النساء زوجاتكم في أثنائه ولا تقربوهنّ بالجماع إلي أن يتطهرنَ بأن ينتهي حيضهنّ، والمراد بعدم القُرْب عدم جِمَاعِهِنّ لا عدم الاقتراب منهنّ أو مُخَالَطتهنّ أو الأكل والشرب معهنّ.. هذا، ومن المُمْكِن أثناءه بعض الاستمتاع الجنسيّ بالنظرات والمُلامَسات والقُبْلات ونحوها دون الدخول بالعضو الذكريّ في فَرْج المرأة قطعا.. ".. فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ.." أيْ فإذا انتهي حَيْضهنّ واغتسلنَ فجَامِعُوهنّ من مكان ما أمركم الله بالجماع منه وهو الفَرْج لا الدُّبُر.. هذا، ويلاحظ أنَّ القرآن الكريم يُعَلّم المسلمين التّأدُّب ودِقّة استخدام الألفاظ في أحاديثهم عند تناولهم مثل هذه الأمور وما يُشبهها.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)" أيْ إنَّ الله يحب حتما الكثيري التوبة أي الذين هم دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لهم سعادتهم التامّة بإسلامهم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ويحب أيضا المُتَطَهِّرين أيْ الكثيري التَّطَهُّر أيْ الذين هم دوْمَاً يَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك.. ومَن أَحَبَّه الله كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاءً عظيماً للتّوَّابِين وللمُتَطَهِّرين
ومعني "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)" أيْ زوجاتكم هُنَّ أماكن حَرْث أيْ زَرْع لكم أعَدَّهُنَّ الله تعالي لإنبات الأبناء في أرحامهنَّ من بذور نُطَفِكم كما أعَدَّ الأرض الزراعية الطيبة الخِصْبة لإنبات الزروع من بَذْر البذور فيها، وما دام الأمر كذلك فأتوا حرثكم أيْ فاحضروا ازرعوا رزعكم أيْ فجَامِعُوهُنّ أنَّيَ شِئْتم أيْ كيفما تريدون ووقتما تريدون وبالأسلوب الذي تريدونه حسبما تتفاهَمون وتتقارَبون وتتّفِقُون فيما بينكم ومن الأمام والخَلْف وكل الأوضاع لكن بالقطع دون الدخول في الدُّبُر وإنما في الفَرْج فيَتِمّ لكم بذلك أمتع وأسعد علاقة جنسية وتُرْزَقون ذُرِّيَّة صالحة تُسعدكم وتَسعدون بها ما دمتم تَبدأون بذِكْر ربكم وتَستحضرون أثناءها بعقولكم نوايا خيرٍ أنكم تتمتّعون بمُتَع الحياة النافعة المُسْعِدَة كما طَلَب منكم خالقكم وتنتظرون مُسْتَبْشِرين أعظم مُتَعَه وسعاداته في الآخرة عند مُلاقاته سبحانه.. ".. وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ.." أيْ وافعلوا الخير بكل أنواعه – والذي منه جِماع زوجاتكم وحُسْن تربية أبنائكم بنوايا حَسَنَة – في الدنيا حاليا تجهيزاً لنَيْل أعظم منه في الآخرة مستقبلا عندما تُلاقون خالقكم الكريم الغفور الرحيم في جناتِ إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمكم الله بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانكم به وتوكّلكم عليه وشكركم له وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم.. إنَّ علي كلّ إنسانٍ سليمِ العقل أن يُحَاسِب نفسه قبل أن يُحَاسَب يوم القيامة فيَنظر ويَتَدَبَّر في أحواله وما قَدَّمَه واسْتَعَدَّ به وعَمِلَه لِغَدِهِ، فيُقَيِّم ذاته ويُصَوِّبها أولا بأوَّل فإنْ رأيَ خيراً مُسْعِدَاً حَمِدَ الله وازداد منه وإنْ رأي شرَّاً مُتْعِسَاً اجتهدَ في التخلّص منه في أسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وتَجَنَّبه تماما بعد ذلك، وعليه أن يَنظر لمستقبله، لحياته المُقْبِلَة، الدنيوية ثم حتما الأخروية، فيُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، ثم الآية (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها جِماع زوجاتكم وتربية أبنائكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ.." أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّكم مُقَابِلُون الله حتما يوم القيامة الذي يعلم كل ما كنتم في دنياكم تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائما المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المؤمنون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحفظون أيْمانهم فلا يُقْسِمون بالله إلا عند الاحتياج للقَسَم حتي لا يَصِل الأمر إلي الاستهانة بهذا القَسَم من كثرة استخدامه دون مُبَرِّرٍ أو احتياج، ثم الأصل أنك مُصَدَّق دون قَسَم فكثرته قد تَدْفع للتّشَكُّك فيما تقول فتنتشر الشكوك والظنون السيئة بين الناس فيتعسون
هذا، ومعني "وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)" أيْ ولا تجعلوا أيها المسلمون اسم الله مُعَرَّضاً لأيْمانكم أيْ لكثرة الحَلِف به وذلك من أجل أن تَتَمَكّنوا من أن تَبَرّوا أيْ تفعلوا البِرّ وتَتّقوا الشرّ وتصلحوا بين الناس لأحوالهم وفيما بينهم ولإسعادهم، لأنَّ هذا سيؤدي غالبا إلي عكس ما تريدون، لأنَّ من شأن الذى يُكثر الحَلِف أن تَقِلّ ثقة الناس به وبأيْمانه في الغالب كما يُثبت الواقع ذلك فلا يُمكنه أن يَبَرّ ويَتّقِي ويُصْلِح كما يريد، بينما الامتناع عن كثرة الحَلِف باسم الله يؤدى إلى القُدرة علي البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس حيث يكون المُمْتَنِع له مَكَانَة وقَدْر في أعينهم موثوقاً به بينهم فيُقْبَل قوله وفِعْله لهم.. كذلك من معاني الآية الكريمة لا تجعلوا الله حاجزاً، لأجل حَلِفكم به، عن البرّ والتقوى والاصلاح، أيْ لا تَتّخِذوا من قَسَم الله سبباً للامتناع عن فِعْل الخير فتجعلوا لأيْمانكم التي تَحْلِفُونها بالله عُرْضَة للعودة للخير أيْ مُعْتَرِضَة ومانِعَة لأنْ تَبَرُّوا وتَتّقوا وتُصلحوا بين الناس، وذلك بأن تُدْعَوْا مثلا إلى فِعْل خيرٍ مَا فتَحْتَجّوا بأنكم أقسمتم بالله ألاّ تفعلوه أو تُقْسِموا علي شيءٍ مَا فيتبيّن لكم الخطأ فيه أو ضَرَره عليكم أو غيركم فلا يمكنكم العودة عنه لقَسَمِكم أو ما شابه هذا من أيْمانٍ تُقْسِمُون بها، بل على الحالِف منكم بمِثْل هذا أن يَعْدِل عن حَلِفه ويفعل البرّ ويُكَفّر عن يَمِينه ولا يَعتاد ذلك (برجاء النظر للآية (89) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية كفّارة اليَمِين).. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)" أيْ وهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)" أيْ لا يُحاسبكم ويُعاقبكم الله ولا يُلْزِمكم بكفّارة يَمينٍ بسبب أيْمانكم اللّاغِيَة أيْ التي لا تَقصدونها أنها أيْمان والتي قد يَعتاد بعضكم عليها أثناء كلامه كقوله مثلا "لا والله" أو قَسَمه على شيءٍ يعتقد حصوله وهو لم يَحصل ونحو هذا.. ".. وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.." أيْ ولكن يُعاقِبكم فى الدنيا والآخرة بما قَصَدَت عقولكم عند قولكم وفِعْلكم، يُعاقِبكم بما يُناسب، بما تَعَمّدتم فيه الكذب فى اليمين بأنْ تَحْلِفوا على شىءٍ كَذِبٍ ليُصَدِّقكم مَن يَسمعكم.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)" أيْ والله غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وهو تعالي حليم أي كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَصِلُون في خِلافهم مع زوجاتهم إلي مرحلة عقوبتها بالإيلاء، وهو القَسَم بالله أن يمتنع عن العلاقة الجنسية معها، بل كنتَ من الذين يسعدون بالحياة الزوجية بإحسان اتّخاذ أسباب سعادتها من الحب والحوار والتفاهم والتقارب والتسامح والتعاون والعلم والعمل والإنجاز والإنتاج والربح والكسب والتخطيط والابتكار والفكر والعلاقات الاجتماعية المُسْعِدَة مع الآخرين وحُسن تربية الأبناء بالقدوة الحسنة وعلي مِثْل تلك الأخلاقيَّات الإسلامية التي تُسْعِد كل لحظات حياتكم.. وإنْ حَدَثَ خِلافٌ مَا، وهو أمرٌ طبيعيٌّ بسبب اختلاف الظروف والأحوال والبيئات وأساليب مُعَالَجَة الأمور وما شابه هذا، فسارِعوا بالعودة إلي مرجعيتكم جميعا، إلي الله والإسلام، بالاحتكام إليهما، بالدعاء والاستغفار ثم بمعرفة أسباب الخلاف ومحاولة حلّها بالبدء بالأسهل ثم الأصعب ثم بالحوار الهاديء والتقارُب وتنازُل كلُّ طَرَفٍ وتسامحه وتراجعه خطوة أو خطوتين للالتقاء ما أمكن علي حَلٍّ وَسَطٍ يُرْضِي كلّ الأطراف المختلفة في ظل مناخ من الودّ والتراحُم وتَذَكّر كلّ طَرَفٍ لفضل الآخر وعدم نسيانه مع الصدق والوضوح والرغبة الصادقة في الإصلاح كما علّمنا ربنا وديننا الإسلام فسَتُحَلّ بإذن الله معظم أو حتي كل المشكلات.. وإنْ تَعَثّر أمرٌ خلافِيٌّ أو عِدّة أمور فلا مانع من اللجوء لأهل الخبرة والتخصّص الموثوق بهم للتحكيم بينكما.. وإنْ ظل بعض الخلاف، وهذا قليل أو نادر لمَن أحسن اتّخاذ الأسباب السابق ذكرها، ووَصَلْتَ لمرحلة العقوبة، فابدأ بالأخفّ، فإنْ زالَ السوء فَبِها ونِعْمَت ولله الحمد، وإنْ لم يَزَل، فزِدْ في بعض العقوبات، فإنْ وَصَلَ الأمر إلي حدِّ الإيلاء، وهو أمرٌّ شاقٌّ قاس عليكما خاصة الزوجة لشدّة عاطفتها المفطورة عليها، فلا تَزِدْ أبداً عن أربعة أشهر، وهي الفترة القُصْوَيَ التي سَمَحَ بها الإسلام ليُراجِع كلٌّ منكما ذاته بما يحقّق المصلحة والسعادة لكما وعودة الأمور لطبيعتها وأفضل بينكما.. فإنْ عُدْتَ للخير والصواب خلال هذه الفترة، وكلما رَجَعْتَ سريعا كلما تَجَنَّبْتَ التعاسة وعادت السعادة أسرع، فكَفّر عن يَمينك، والله غفور رحيم، وإنْ أصْرَرْتَ علي موقفك فمِن حقّها بعد الأشهر الأربعة الطلاق منك، إنهاءً لهذا الخلاف أو الظلم الذي قد يقع علي أحدكما خاصة هي، والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة
هذا، ومعني "لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226)" أيْ للذين يَحْلِفون بالله أن لا يُجامعوا زوجاتهم انتظار أربعة أشهر كحدٍّ أقْصَيَ، وهى مُدَّة كافية لأنْ يُرَاجِع الإنسان فيها نفسه، فإنْ رَجَعوا خلال هذه المدة وقبل انتهائها فجَامَعُوهُنّ وكَفّروا عن يَمينهم بكَفّارة اليَمِين (برجاء النظر للآية (89) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية كفّارة اليَمِين) فإنَّ الله غفور لِمَا وَقَعَ منهم مِن الحَلِف بسبب رجوعهم رحيم بهم، فهو حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)" أيْ وإنْ أرادوا الطلاق ونَوُوُه وصَمَّمُوا عليه بأن استمرّوا في اليمين ولم يَرْجِعوا عمَّا حَلَفوا عليه من تَرْك الجِماع والذي سيكون دليلا قاطعا علي رغبتهم الجادة في الطلاق، كان ذلك إضرارا بالزوجة وبالتالي فليس هناك بالفِعْل إلا الطلاق إنهاءً لهذا الخِلاف والضرَر والذي سيكون حينها هو أخفّ الأضرار للطرفين بل سيكون بفضل الله وتوفيقه أنفع وأسعد لهما حيث يكون لكلٍّ منهما حرية بدء حياة زوجية جديدة مع شخصٍ آخر يَحدث بينما التوافق والسرور الذي لم يكن موجودا ولم يستطيعا تحقيقه معا.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة.. أيْ إنه هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للذين يؤلون من نسائهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار وليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَصِل إلي مرحلة الطلاق (برجاء مراجعة الآيتين السابقتين (226)، (227) لمعرفة أسباب السعادة الزوجية لكي تَتَجَنّب الطلاق)، فإذا وَصَلَ الأمر للطلاق، فإنَّ الإسلام يكرهه أشدّ الكراهية لما فيه من أضرارٍ وتعاساتٍ تُصيب الزوجين والأبناء والأهل والأقارب وحتي المجتمع كله، ولذا يحاول أن يُقَلّل من أضراره ويأخذ بالأخَفّ منها دون الأشَدّ ويضع من الضوابط والقواعد والأسباب ما يُعين علي إنهائه وتجاوزه وعودة الحياة لطبيعتها وأفضل ليعود الاستقرار وتعود السعادة بعد الاستفادة من خبراته ومراجعة أحداثه، أو إذا استحَالَت الحياة الزوجية السعيدة بين الطرفين فليكن الطلاق سَهْلاً سَلِسَاً بأقل خسارة مُمْكِنَة
من هذه الضوابط، أن تَبْقَيَ المُطَلّقة في بيت الزوجية لمدة ثلاثة قروء، أيْ ثلاثة حيضات، حتي يُعْلَم خلال هذه الفترة أنه لا يُوجَد حَمْل فلا يُنْسَب مولود إلي غير والده وما في ذلك من أضرار وتعاسات مجتمعية يثبتها الواقع، كما أنَّ خلالها يمكن لكل طَرَفٍ مراجعة ذاته بهدوء وتسهل العودة بحُسن التعامل فيما بينهما وعدم نسيان فضل كل منهما والحب والسعادة السابقة بينهما، وأنَّ سبب الطلاق هو من التفاهة بحيث لا يَصِحّ لعاقلٍ أن يضيع الخير السابق كله ويتعرَّض للضرَر القادم كله من أجله! ونحو ذلك من منافع بقائها في بيتها مِمَّا يُسَهِّل ويُعَجِّل بإنهاء الطلاق ومراجعتها خلال هذه الفترة دون عقدٍ جديد أو مَهْر، وإنْ جامَعها خلالها فقد عادت، أمّا إنْ انقضت فترة الحَيْضَات الثلاثة وأراد إعادتها فلا بُدَّ من عَقْدٍ ومَهْرٍ جديدين، وكل ذلك من أجل تشديد الطلاق لا تسهيله والحذر أشدّ الحذر من الإقدام عليه إلا للضرورة القُصْوَيَ
كذلك ستسعد كثيرا في الداريْن، إذا تأكّدتَ أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون، فهذا يجعل الزوج لا يَتَعَالَيَ علي زوجته أو ينتقص من شأنها – وكذلك القريب مع قريبته والزميل في العمل مع زميلته ونحو هذا – وما يَتْبَع ذلك حتماً من صراعاتٍ ظاهرة وخَفِيَّة وتعاسات، فكلٍّ من الرجل والمرأة هم مِن خَلْق الله، وكلاهما فيه نفخة من روح ربه تعالي، وكلاهما له ذات العقل، وكلاهما مطلوب منه الإعمار والعلم والعمل والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والتخطيط والفكر ونحو ذلك من شئون الحياة، وكلاهما له ذات الحساب العادل يوم القيامة علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة، وكلاهما له ذات الدرجات في الجنات إنْ أحسن وذات الدرَكَات في النيران إنْ أساء، وهذا هو المعروف الذي عَرَّفه لنا ربنا ورسولنا الأمين الكريم (ص)
لكنَّ الله تعالي بعلمه وحكمته وتمام عدله جعل للرجل درجة زائدة عن المرأة في مقابل درجة زائدة لها عليه، ليُكْمِل أحدهما الآخر ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه إذ قد أصبح جزءاً منه، وذلك عند زواجهما، لينطلقا في الحياة بكل اكتمالٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وهذه الدرجة للرجل هي قوة التَّحَمُّل والصبر ليُوَفّر لها الحماية والرعاية والأمن ويقوم علي خدمتها وأبنائهما وإدارة شئونهم، والدرجة التي للمرأة هي العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه له ولأسرتها بل وللكوْن كله، كما يقول تعالي عن هذا التّسَاوِي ".. بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهَمْ عَلَيَ بَعْضٍ.." (النساء:34) ولم يَقُل مثلا "بما فَضَّلَهم عليهنّ"!! إذ لو كان الكوْن يَصْلُح بالرجال فقط لَخَلَقه خالِقه كذلك! لكنه سيكون كوْنَاً غير مُتَوَازِن قد يَغْلِب عليه الصَّلاَبَة والقَسَاوَة!! ولو كان الكوْن يَصلح بالنساء فقط لَخَلَقه خالقه كذلك! لكنه سيكون أيضا كوْنَاً غير مُتوازن قد يغلب عليه العاطفة والطراوة!! لكنه سبحانه أراده كوْنَاً مُتوازناً مُسْعِدَاً فوَضَع هذا التّنَوّع المحدود العادل بينهما، إضافة بالقطع إلي الاختلافات الجسدية المعروفة، ليُكْمِل بعضهم بعضا فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)" أيْ والمطلقات اللاتي يَحِضْنَ ينتظرنَ مُتَحَكّماتٍ بأنفسهنّ دون زواجٍ بعد الطلاق مدة ثلاثة حَيْضَات – وهذه المدة تُسَمَّيَ العِدَّة – للتأكّد التامّ خلال هذه الفترة أنه لا يوجد حَمْل حتي لا يُنْسَب مولود إلي غير والده وما في ذلك من أضرارٍ وتعاساتٍ مجتمعية يُثبتها الواقع، كما أنَّ خلالها يمكن لكلّ طَرَفٍ مراجعة ذاته بهدوءٍ فتَسْهُل العودة بحُسن التعامُل فيما بينهما.. ".. وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ.." أيْ ويَحْرُم عليهنّ – أيْ يَرْتَكِبْنَ ذنباً يُحَاسَبْنَ ويُعَاقَبْنَ عليه في الدنيا قبل الآخرة بما يُناسب وإذا لم يَفْعَلْنَه يَنَلْنَ ثوابهنّ – أنْ يُخْفِينَ ما خَلَقَ الله في رَحِمِ كلٍّ منهنّ سواء أكان جَنِيناً أم حَيْضَاً، لأنَّ بعض المطلقات يَكْتُمْنَ الحمل حتي لا تطول مدة العِدَّة والتي ستكون حينها حتي ولادة الجنين وهي تريد سرعة التّخَلّص من مُطَلّقها، كذلك بعضهنّ يُخفينَ حَيْضَهُنَّ وطُهْرَهُنَّ فتَدَّعِي مثلا أنها ما حاضَت إلا حَيْضتيْن وهي قد حاضت الحَيْضات الثلاث حتي تُطيل مدة بقائها علي ذِمَّة مُطلّقها ليُنفق عليها ولعله يُعيدها إليه، أو تَدَّعي أنها قد حاضتهنّ وهي لم تَحِضْ إلا حَيْضَتَيْن فقط لكي تُسَرِّع التخلّص منه, وما شابه هذا من احتيالاتٍ وتَلاَعُباتٍ مُخَالِفاتٍ لأخلاق الإسلام مُضِرَّاتٍ مُتْعِسَاتٍ في الداريْن.. ".. إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ إنْ كُنَّ يُصَدِّقن بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، ويَتَمَسّكْنَ ويَعْمَلْنَ بحقّ وبالفِعْل بأخلاق إسلامهنّ، فلا يَحِلّ لهنّ فِعْل ذلك ولا يُمْكِن لهنّ أنْ يَتَجَرَّأْنَ علي فِعْله حتما, وهل هناك مؤمنة ترضى لنفسها أن تُعانِد أحكام الله وتَخون أمانته عندها خاصة وقد وَثَقَ بها واستأمنها وأرْجَع الأمر لها وحدها؟! إنَّ هذا بالقطع ليس حال المؤمنات فإيمانهنّ قطعا يَمْنَعهنّ من ذلك!!.. وفي هذا إلهاب للمَشَاعِر وتَحفيز ليَكُنَّ كلهنّ كذلك وليَتنافسنَ في سرعة الاستجابة ليَسعدنَ، ولمزيدٍ من التأكيد عليهنّ لعدم فِعْله، كما أنه تهديدٌ شديدٌ لمَن تُخَالِف حيث عليها أن تنتظر عقوبة الله بما يُناسب مُخالَفتها في الدنيا ثم في اليوم الآخر.. ".. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ.." أيْ وأزواجهنَ هم أحَقّ بإرْجَاعِهِنّ للزوجية في ذلك الوقت المُحَدَّد وهو وقت العِدَّة فإنْ انْقَضَيَ هذا الوقت ولم يَرُدّ المُطَلّق زوجته فقد أصبحت هي أحَقّ بنفسها تتزوج مَن تشاء.. ".. إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا.." أيْ إنْ قَصَدُوا بذلك الإرجاع الإصلاح والإسعاد واستعادة الحياة الزوجية السعيدة بإصلاح الأخطاء السابقة، لا الإضرار والإتعاس، فإنْ لم يريدوا ذلك فليسوا بأحقّ برَدِّهِنّ ولا يَحِلّ لهم أن يُرَاجِعُوهُنّ، كأنْ يَقصدوا مثلا بإرجاعهنّ أن يُطيلوا عليهن فترة العِدَّة ولا يُعاملوهنّ كزوجاتٍ لإيقاع الضرَر بهنّ حيث يجعلوهنّ لا هُنَّ زوجات ولا هن مطلقات يتزوجنَ بمَن شِئْنَ بعد انقضاء عِدَّتهن.. هذا، وعلى المطلقات أن يقصدنَ هُنَّ أيضا برجوعهنَّ إلي أزواجهنّ الإصلاح والإسعاد.. وفي هذا تهديدٌ ضِمْنيّ لمَن يُخالِف أنه سيُحاسَب حتما علي مُخالَفته بما يُناسب في دنياه قبل أخراه.. ".. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ وللزوجات حقوق على الأزواج مِثْل التي عليهنّ لهم بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة، وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، فَلْيُؤَدِّ كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر ما يجب عليه، أىْ أنَّ الحقوق والواجبات بينهما مُتَبَادَلَة بما يُناسب كلٍّ منهما، وأنَّ الرجال والنساء مُتَسَاوُون فى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عليه أن يُؤَدِّىَ نحو الآخر ما يجب عليه بالمعروف.. إنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون، فهذا يجعل الزوج لا يَتَعَالَيَ علي زوجته أو ينتقص من شأنها – وكذلك القريب مع قريبته والزميل في العمل مع زميلته ونحو هذا – وما يَتْبَع ذلك حتماً من صراعاتٍ ظاهرة وخَفِيَّة وتعاسات، فكلٍّ من الرجل والمرأة هم مِن خَلْق الله، وكلاهما فيه نفخة من روح ربه تعالي، وكلاهما له ذات العقل، وكلاهما مطلوب منه الإعمار والعلم والعمل والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والتخطيط والفكر ونحو ذلك من شئون الحياة، وكلاهما له ذات الحساب العادل يوم القيامة علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة، وكلاهما له ذات الدرجات في الجنات إنْ أحسن وذات الدرَكَات في النيران إنْ أساء، وهذا هو المعروف الذي عَرَّفه لنا ربنا ورسولنا الأمين الكريم (ص).. ".. وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.." أيْ ولكنَّ الله تعالي بعلمه وحكمته وتمام عدله جعل للرجل درجة زائدة عن المرأة في مقابل درجة زائدة لها عليه، ليُكْمِل أحدهما الآخر ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه إذ قد أصبح جزءاً منه، وذلك عند زواجهما، لينطلقا في الحياة بكل اكتمالٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وهذه الدرجة للرجل هي قوة التَّحَمُّل والصبر ليُوَفّر لها الحماية والرعاية والأمن ويقوم علي خدمتها وأبنائهما وإدارة شئونهم، والدرجة التي للمرأة هي العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه له ولأسرتها بل وللكوْن كله، كما يقول تعالي عن هذا التّسَاوِي ".. بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهَمْ عَلَيَ بَعْضٍ.." (النساء:34) ولم يَقُل مثلا "بما فَضَّلَهم عليهنّ"!! إذ لو كان الكوْن يَصْلُح بالرجال فقط لَخَلَقه خالِقه كذلك! لكنه سيكون كوْنَاً غير مُتَوَازِنٍ قد يَغْلِب عليه الصَّلاَبَة والقَسَاوَة!! ولو كان الكوْن يَصلح بالنساء فقط لَخَلَقه خالقه كذلك! لكنه سيكون أيضا كوْنَاً غير مُتوازن قد يغلب عليه العاطفة والطراوة!! لكنه سبحانه أراده كوْنَاً مُتوازناً مُسْعِدَاً فوَضَع هذا التّنَوّع المحدود العادل بينهما، إضافة بالقطع إلي الاختلافات الجسدية المعروفة، ليُكْمِل بعضهم بعضا فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَصِل إلي مرحلة الطلاق للمرة الثانية (برجاء مراجعة الآيتين (226)، (227) لمعرفة أسباب السعادة الزوجية لكي تَتَجَنّب الطلاق الأول، ثم مراجعة الآية (228) لمعرفة كيفية التعامل معه).. فإذا وَصَلَ الأمر للطلاق الثاني فاعلم أنك أصبحت علي مَشَارِف خطر عظيم، لأنّ هذه هي آخر فرصة لك، فالأمر ليس مفتوحا دون تحديدٍ لعدد مرات الطلاق، حفاظا علي الأسرة التي هي أساس المجتمع والتي بتماسكها وقوّتها وسعادتها يتماسك ويَقْوَيَ ويسعد المجتمع كله، والعكس صحيح قطعا.. فإمّا أن تجتهدا في علاج الأمور والعودة لأسباب الحياة السعيدة بعد رَدِّها وإمّا أن تتركها تذهب لحالها بكل خيرٍ وسَلاَسَةٍ وسيرزقكما الله بكرمه وفضله مَن هو أفضل لكل منكما فلستما مُناسِبَيْن لبعضكما ولم تستطيعا التقارُب والتكيّف معا.. وإيّاك إياك أن تَرُدَّها إليك ونواياك بعقلك إضرارها بإيذائها بسوء خُلُقك أو بمنعها من الزواج بغيرك، وإلا فقد ظلمت نفسك إذ ستتعس في الدنيا بمقابلتك بالسوء منها أو من أهلها ثم في الآخرة بسوء العذاب لمَن يَتَجَرَّأ علي أوامر ووصايا الله تعالي أو يستهين باتّباعها.. فكن من المتقين أيْ المُتَجَنِّبين لكل ذلك، فهو سبحانه بكل شيءٍ عليم، وما أوصانا به من نعمة أخلاق الإسلام كله حكمة وسعادة لنا في الداريْن.. وإيّاك إيّاك أن تأخذ منها شيئا مِمَّا أنفقته عليها مقابل تسريحها فهذا كان حقها كزوجة، إلا إذا كَرِهَتْ هي البقاء معك لسببٍ من الأسباب وخافَت ألاّ تُطيع الله والإسلام فيك ولم يكن طَلَب الانفصال منك، فحينئذ من المُمكن أن تفتدي نفسها بمبلغٍ من المال تتراضَيَان عليه يكون تَرْضِيَة لك وهذا هو ما يُسَمَّي الخُلْع.. فهذه هي حدود ما أمر به سبحانه في هذا الأمر، وهي كلها مصلحة وسعادة لنا، للعقلاء الذين يعلمون قيمتها، فلا تَتَعَدَّاها وإلا كنتَ من الظالمين لذاتك ولمَن حولك فتتعس بذلك الظلم في الداريْن
بَقِيَ أن تَحْذَر أشدّ الحَذَر من أن تُطَلّقها الطلْقَة الثالثة، لأنّ عقابها شديد، إذ أصبح واضحا أنّ الحياة بينكما أصبحت شِبْه مُستحيلة، فحينئذٍ لا يُمكن رَدَّها إلا بعد زواجها بآخر زواجاً تامّاً ثم إذا حَدَثَ وطلّقها دون أيّ ضغوط أو مات فحينها يمكن رَدّها إنْ غَلَبَ علي ظَنّكما الجدِّيَّة والصدق والعودة لأخلاق الإسلام وتَلَافِي الأخطاء السابقة، وإلا فلا، مع مراعاة أنّ الرَّدّ سيكون بعد انقضاء عِدَّتها وبعقدٍ ومَهْرٍ جديديْن
ثم أخيرا، توصية وموعظة من الله العليم بمصلحتنا وسعادتنا أكثر حتما من علمنا نحن بها، إلي المؤمنين به المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم ويُزَكّون عقولهم ويُطَهِّرونها ويَسْمُون بها عن كلّ شرّ، خاصة أهل المُطَلّقة، ألاّ يَقِفُوا عائقاً ومانِعَاً من تزويجها مَمَّن طَلّقها إذا تَرَاضَيَا فيما بينهما واتّفقا علي طَيِّ صفحة الماضي السيئة التعيسة وبدء صفحة جديدة حسنة سعيدة، وكأنهم يُعاقبونه علي ما فَعَل سابقا من تطليقها.. فليحرصوا أن يكونوا مَصْدَر التئامٍ وخيرٍ وسعادةٍ لا مصدر تَفْرِقَة وشرّ وتعاسة حتي يسعد الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)" أيْ الطلاق الذي يَحصل به رَدّ الزوجة هو مرَّتان، مرة بعد الأخري، يكون للزوج بعد كل واحدةٍ منها الحقّ في أن يَرُدَّ زوجته بإعادتها في فترة العِدَّة أو إذا انتهت الفترة دون إعادتها فلو أراد الإعادة تكون حينها بعقدٍ ومَهْرٍ جديديْن.. ".. فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.." أيْ فحُكْم الله بعد كلّ طَلْقَةٍ هو أنكم بالخيار فإمّا إمساك بمعروفٍ أيْ أن تتمسّكوا بهنَّ كزوجاتٍ وتتراجَعوا عن هذا الطلاق ويكون هذا الإمساك والتراجُع بمعروفٍ أيْ بحُسنِ مُعامَلةٍ كما يُوصيكم الإسلام وليس لمجرد إيذائهنّ بعدم تركهنّ لحالهنّ، وإمّا تسريح بإحسانٍ أيْ إرسالٌ وإطلاقٌ للسَّرَاح بحُسْنِ مُعامَلَةٍ أيضا أيْ أنْ تفارقوهنّ من غير سبٍّ ولا سوءِ تَصَرّفٍ ولا إكراهٍ لهنّ على أخذ شيءٍ من مالهنّ بل بكل خيرٍ وسَلاسَة وإعطاءٍ لحقوقهنّ إذا كان لهنّ باقِ مهرٍ وإعطائهنّ إن استطعتم مبلغا من المال يُسَمَّي في الإسلام المُتْعَة التي يعطيها الزوج لمُطَلّقته التي تعايَشَا معا في خيرٍ سابقا لفتراتٍ لكي تتمتع به ويكون تَرْضِيَة وتسلية لمشاعرها بعد انكسارها بالطلاق علي حسب الاستطاعة بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما هو مُتَعَارَف عليه في العُرْف الصحيح بين الصالحين فذلك من الإحسان وحُسن الخُلُق، وسيَرزقكما الله بفضله وكرمه مَن هو أفضل لكلٍّ منكما فلستما مُناسِبَيْن لبعضكما ولم تستطيعا التقارُب والتَّكَيّف معا.. ".. وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.." أيْ ولا يجوز لكم أيها المُطَلّقون أن تأخذوا من زوجاتكم فى مُقَابَلَة الطلاق شيئاً مِمَّا أعطيتموهنّ مِن مَهْرٍ أو من غيره من أموال، لأنّ هذا الأخذ ليس عدلا بل ظلم تأثمون عليه لأنه كان حقّها كزوجة، إلاّ فى حالة أن يخاف الزوجان كلاهما أو أحدهما ألاّ يقيما حدود الله أي عدم إقامة وتنفيذ واجبات الله ووصاياه في الإسلام مِمَّا للزوج علي زوجته ومِمَّا لها عليه خلال حياتهم الزوجية لتكون حياة سعيدة وذلك لعدم التوافق بينهما لسببٍ من الأسباب ففي هذه الحالة يجوز الأخْذ فلا جناح أيْ حَرَج أو إثم على الزوج فى أخذ ما أعطته له الزوجة من مالٍ مُقابِل انفصالها عنه كتعويضٍ عَمَّا أنفقه عليها أثناء زواجهما ما دام هذا بطَلَبها، ولا إثم عليها كذلك فى هذا الإعطاء، لأنهما ما داما قد وَصَلا إلى هذه الحالة من التنافر، وما دامت الزوجة قد أصبحت تُفَضّل أن تعطيه من المال ما تفدى به نفسها علي البقاء زوجة له، فالفراق بينهما إذَن سيكون أوْلَىَ وأنْفَع وأصْلَح لهما.. ".. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا.." أيْ هذه التشريعات والأخلاقِيَّات والنّظُم والوصايا التي نُوصِيكم بها هي حدود الله تعالي أيْ الحَوَاجِز التي عليكم ألاّ تعتدوا عليها بأنْ تَتَعَدُّوها وتتجاوزوها لأنَّ تَعَدِّيَها وتَجَاوُزها يُوقعكم فيما هو مُحَرَّم عليكم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّكم وتتعسكم في دنياكم وأخراكم.. فلا تَعْتَدُوها إذَن.. ".. وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)" أيْ ومَن يتجاوَز حواجِز الله تعالي ولم يَقِف عندها فهؤلاء بحقّ وبكل تأكيدٍ هم الظالمون لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم قطعا فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن حيث أكْسَبُوها إثما وعَرَّضُوها لعقوبة الله بما يُناسب شرورها ومَفاسدها وأضرارها إذ في دنياهم سيَنالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني "فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)" أيْ فإنْ طَلَّق الرجل زوجته الطلْقَة الثالثة، فلا تَحِلُّ هي له أيْ لا يُمْكِنه رَدّها كزوجةٍ له مِن بَعْد هذا الطلاق الثالث إلا إذا تزوّجت رجلا غيره زواجاً صحيحاً وجامَعَها فيه ويكون الزواج عن رغبةٍ لا بِنِيَّة تحليل المرأة لزوجها الأول، فإنْ طَلّقها الزوج الآخر أو مات عنها وانتهت عِدّتها فلا إثم على المرأة وزوجها الأول أن يتزوجا بعقدٍ ومَهْرٍ جديدين، وذلك إنْ غَلَب على ظنهما أن يقيما أحكام الله التي شرعها للزوجين وذلك بأن يَعْزِما أن يجتهدا في إصلاح ما كان سَيِّئَاً بينهما سابقا، فإنْ لم يَغْلِب علي ظنهما هذا كان عليهما جناحٌ بسبب زواجهما إنْ كانا سيعودان لذات الحياة الزوجية التعيسة البعيدة عن ربهما وإسلامهما والتي وَصَلَت بهما إلي الطلاق ثلاث مرات!.. ".. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.." أيْ وهذه التشريعات والأخلاقِيَّات والنّظُم والوصايا التي نُوصِيكم بها هي حدود الله تعالي أيْ الحَوَاجِز التي عليكم ألاّ تعتدوا عليها بأنْ تَتَعَدُّوها وتتجاوزوها لأنَّ تَعَدِّيَها وتَجَاوُزها يُوقعكم فيما هو مُحَرَّم عليكم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّكم وتتعسكم في دنياكم وأخراكم.. ".. يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)" أيْ يُوَضِّحها لهم هم فقط بمعني أنه لا يُدْرِك أهميتها وفوائدها وسعاداتها ويَنتفع ويَسعد بها في دنياه وأخراه إلا فقط الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حُسْن التعامُل عند الطلاق وأثناء فترته وبعده وعدم الإضرار والذي قد ذُكِرَ سابقا في الآية (229) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. أيْ وإذا قارَبَت المُطَلّقات طَلْقَة واحدة أو اثنتين علي انتهاء عِدَّتهن – وليس إذا انتهت العِدَّة بالفِعْل لأنه بنهايتها لم يكن الزوج مُخَيَّراً بين الإمساك والفراق وإنما أصبحت مُطَلّقَة ويَفْتَرِقا – فحينئذ عليكم تحديد موقفكم من أمر الطلاق وأنتم بالخيار فإمّا أن تمسكوهنّ بمعروفٍ أيْ تتمسّكوا بهنَّ كزوجاتٍ وتتراجَعوا عن هذا الطلاق ويكون هذا الإمساك والتراجُع بمعروفٍ أيْ بحُسنِ مُعامَلةٍ كما يُوصيكم الإسلام وليس لمجرد إيذائهنّ بعدم تركهنّ لحالهنّ، وإمّا أن تفارقوهنّ بمعروفٍ أيْ من غير سبٍّ ولا سوءِ تَصَرّفٍ ولا إكراهٍ لهنّ على أخذ شيءٍ من مالهنّ بل بكل خيرٍ وسَلاسَة وإعطاءٍ لحقوقهنّ إذا كان لهنّ باقِ مهرٍ وإعطائهنّ إن استطعتم مبلغا من المال يُسَمَّي في الإسلام المُتْعَة التي يعطيها الزوج لمُطَلّقته التي تعايَشَا معا في خيرٍ سابقا لفتراتٍ لكي تتمتع به ويكون تَرْضِيَة وتسلية لمشاعرها بعد انكسارها بالطلاق علي حسب الاستطاعة بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما هو مُتَعَارَف عليه في العُرْف الصحيح بين الصالحين فذلك من الإحسان وحُسن الخُلُق، وسيَرزقكما الله بفضله وكرمه مَن هو أفضل لكلٍّ منكما فلستما مُناسِبَيْن لبعضكما ولم تستطيعا التقارُب والتَّكَيّف معا.. ".. وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا.." أيْ وإيّاكم واحْذَروا أشدّ الحَذَر أن تتمسّكوا بهنّ وتَرُدّوهنّ كزوجاتٍ مُضِرِّينَ لهنّ قاصِدين إيقاع الضرَر والإيذاء بهنّ بكل أشكاله لأجل الاعتداء عليهنّ بالظلم وتكون نهاية أمركم ونتيجته أن تعتدوا علي أحكام الله ووَصَاياه بمُخَالَفَتها والتّجَرُّؤ عليها فلا تَقْصِدون بإعادتها إعادة الحياة الزوجية السعيدة ولكن تقصدوا مثلا إطالة حَبْسها ومَنْعها من الزواج أو أن تفتدى نفسها بمالٍ أو إذلالها وإهانتها والانتقام منها أو ما شابه هذا من صور الاعتداء والظلم والضرَر الذي يمنعه الإسلام ويُعاقِب عليه في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.." أيْ ومَن يَفعل ذلك الإضرار ويَتجاوَز حواجِز الله تعالي ولم يَقِف عندها فقد ظلم نفسه قطعا أيْ أضاع نصيبها من الخير وأتْعَسها في الداريْن حيث أكْسَبَها إثما وعَرَّضَها لعقوبة الله بما يناسب شروره ومَفاسده وأضراره حيث في دنياه سيَنال درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه سيكون له حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. ".. وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التحذير الشديد للمُخَالِفِين للإسلام ومزيدٌ من التأكيد علي عدم مُخالَفته وعلي أن يتّبعوه ليسعدوا ولا يتعسوا في الداريْن.. أيْ ولا تتّخذوا أحكام الله ووَصَايَاه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقه التي في آيات الله التي في القرآن العظيم والتي تُنَظّم لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ سُخْرِيَة ولَهْوَاً وعَبَثاً بعدم تمسّككم وعملكم بها والاستهانة بقيمتها والتّجَرُّؤ علي مُخَالَفتها والعمل بغيرها والمُرَاوَغَة في تطبيقها والاستخفاف بتفاصيلها واللامبالاة بعقوباتها وما شابه هذا من صور الاستهزاء.. ".. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ.." أيْ وتَذَكَّروا دَوْمَاً نِعَم الله عليكم والتي لا تُحْصَيَ، واشكروها دائما بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7)، ومنها نعمته سبحانه تنظيم العلاقات الزوجية والأُسَرِيَّة والاجتماعية، وأعظمها بلا أيِّ مُقَارَنَة نعمة ما أنزل عليكم من الكتاب أيْ القرآن العظيم الذي فيه الإسلام والذي أوحيناه إلي رسولنا الكريم الأمين محمد (ص) فبَيَّنَ لكم كل مَعانيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتكم لتسعدوا بها، وكذلك الحِكْمَة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في كتابنا، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، والتي بها تتعظون أيْ تَنْتَصِحُون لأنَّ كل ذلك الذي أنزله عليكم هو لكي يَعِظُكم أيْ يَنصحكم به لكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الأُسَرِيَّة والاجتماعية، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)" أي واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم (ص) وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)" أيْ واذا طلَّقتم نساءكم طَلْقَة أو طَلْقَتَيْن فوَصَلْنَ لنهاية مُدَّتِهِنَّ أيْ انتهت عِدَّتهنّ من غير مُرَاجَعَةٍ لهنّ، فلا تمنعونهنّ وتُضَيِّقوا وتُعَسِّرُوا عليهنّ أيها الأولياء الذين يُزَوِّجُونهُنَّ أو أيها المُطَلّقون لهنّ أن يَنْكِحْنَ أزواجهنّ أيْ يَتَزَوَّجْنَ زواجاً جديداً سواء أكان من مُطَلّقِها أو من رجل آخر غيره – لمجرد الغضب أو الانتقام مِمَّا حَدَثَ من الطلاق أو ما شابه هذا من أسباب – إذا تَرَاضَوْا بينهم بالمعروف أيْ بالذي هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة، وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، أيْ إذا تَرَاضَىَ الطرَفان على عَقْدٍ جديدٍ وإرادةِ حياةٍ زوجيةٍ كريمةٍ سعيدةٍ بينهما، فإنَّ مَنْعَهُنَّ مُخَالِفٌ للإسلام لِمَا فيه من ضَرَرٍ كبير وتعاسة علي الطرفين والمجتمع كله، ويُعَاقَب مَن يَفعل ذلك في الداريْن.. ".. ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ ذلك كله الذي نُشَرِّعه لكم ونُوصِيكم به هو من أجل أن تَتَّعِظوا به وتتدبَّروا فيه وتستفيدوا بدروسه فلا تفعلوا شراً يضرّكم ويُتعسكم بل كلَّ خيرٍ فتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا في دنياكم وأخراكم .. لكنْ فقط الذين سيَتَّعِظون بذلك وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون به هم الذين يؤمنون منكم أيها الناس بصِدْقٍ وبِحَقٍّ وبجدِّيَّة وبِعُمْقٍ والذين أنتم منهم بالقطع أيها المسلمون أيْ يُصَدِّقون بوجوده سبحانه وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُتَرْجِمون هذا الإيمان بالعمل بكل أخلاق الإسلام – وفي هذا إلهاب للمَشَاعِر وتَحفيز ليكونوا كلهم كذلك وليَتنافسوا في سرعة الاستجابة ليسعدوا – وذلك لأنهم هم الذين قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فإنهم قطعا لا يَتَّعِظون!!.. ".. ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ.." أيْ ذلك كله الذي نُشَرِّعه لكم ونُوصِيكم به أيها المسلمون جميعا هو أرْقَيَ وأسْمَيَ وأعْظَم بَرَكَة ونفعاً وسعادة لكم، لعقولكم ولمشاعركم – والتزكية هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات – وهو أيضا أطهر لكم أيْ أنْظَف وأنْقَيَ وأعَفّ وأسْلَم وأبْعَد عن التلوُّث بأيّ سوءٍ وأكثر راحة واطمئنانا للعقول، فتسعدون به جميعا، في كل شئون حياتكم، والتي منها ألاّ تَعْضُلُوا أيْ تَمنعوا مَن أراد الزواج لأنَّ هذا المَنْع غالبا ما يؤدي لانتشار الفواحش والتعاسات بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات.. هذا، ولفظ "ذلكم" بصيغة الجَمْع للفظ "ذلك" يُنَبِّه أنَّ أخلاقيّات الإسلام هي للجميع ومطلوبة منهم جميعا وسعاداتها التامّة في دنياهم وأخراهم هي أيضا لهم كلهم.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)" أيْ والله تعالى وحده، لا البَشَر، الذي يعلم أيها الناس كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ويعلم مستقبل أحوالكم كلها، وأنتم لا تعلمون كل ذلك حتما، فتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا ولا تتعسوا فيهما، حيث هي تُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَهتمّون بحُسن تربية أبنائهم منذ صغرهم، بل قبل ولادتهم، بحُسن اختيار زوجتك، أمّهم المستقبلية، فتكون مُتمسّكة عامِلَة مثلك بأخلاق إسلامها كلها، فتكونا قُدْوة حَسَنَة لهم في القول والعمل، فينشأون في مناخٍ من الحب بينكما والحوار والتفاهم والتقارُب والتراضِي في كل الأمور كبيرها وصغيرها حتي ولو فترة الرضاعة وأسلوب الفطام، ونحو ذلك من مُتَغَيّرات الحياة ومُتَطَلّباتها، إضافة لإشعارهم بالأمان والاستقرار وتدريبهم التدريجيّ علي حُسن استكشاف ما حولهم وحُسن استخدام عقولهم والتخطيط والعمل والإنتاج والإنجاز والربح والكسب والنظام والتعاون والعلاقات الاجتماعية الطيبة والارتباط بربهم حسبما يُناسب سِنّهم وظروفهم دون تَعَجُّلٍ أو ضغطٍ مُكْرِهٍ مُتْعِسٍ مُعَوِّقٍ، إضافة بالقطع للإنفاق الماديّ علي المَأكَل والمَشْرَب والمَلْبَس والتعليم والصحة والترويح وما شابه هذا، فإنْ فَعَلْتَ ذلك عاشوا حياتهم سعداء وسَعِدْتَ بسعادتهم ونفعهم.. كذلك ستسعد إذا كنتَ مُتَوَازِنَاً مُتَوَسِّطَاً مُعْتَدِلاً من غير إفراطٍ ومُبَالَغَة أو تفريطٍ وتقصيرٍ في كلّ ما سَبَقَ ذِكْره، أيْ لا تَتَكَلَّف إلاّ قَدْر الوُسْع كما يَسَّرَ علينا ربنا وإسلامنا، والوسع هو ما تستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي لك من طاقتك بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن تستهلك ما أمكنك مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيرا.. كذلك ستسعد إذا كنتَ عادلا تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تظلمه، فما بالك بزوجك أمّ أولادك! أو المُرْضِعَة التي ترضعهم إن اتفقتما علي ذلك! فأعطِ كلّ صاحب حقّ حقه، فالله تعالي بصير بكل ما نقول ونعمل وسيُحاسبنا عليه بما يُناسب في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شرَّاً وتعاسة
هذا، ومعني "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)" أيْ وعلى الأمهات أنْ يَقُمْنَ بإرضاع موالديهنّ مدة عاميْن تامَّيْن مراعاة لمصلحة الطفل الجسدية والنفسية، وذلك سواء كُنَّ في ذِمَّة أزواجهنّ أو مُطَلّقات.. ".. لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.." أيْ هذا الحُكْم هو لمَن أرادَ إتمام مدة الرضاعة للمولود بمعني أنَّ هذا الإلزام لمدة عامين هو من حيث الأصل وهو أقصي مدة ليس عليهنّ بعدها إلزام لكنَّ الأمر تقديريّ حسبما تقتضيه مصلحة المولود أيْ من المُمْكِن أنْ تَقِلّ هذه المدة بأيِّ زمنٍ ما دام المولود أمكن فِطامه عن لبن الأم قبلها وبدأ يأكل الطعام لكنْ إنْ رَأَيَ الأب والأم والمُخْتَصُّون أنَّ الأفضل لمولودٍ مَا أن يُتِمَّ الرضاعة وأرادوا ذلك فليكن الإتمام إذَن حتي عامين.. ".. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ.." أيْ ويجب علي الآباء أن يُقَدِّموا إلى الوالدات ما يَلْزَمهُنّ من نفقةٍ وكِسْوَةٍ وكل ما يَحْتَجنه هُنَّ والمولود سواء كُنَّ في ذِمَّتهم أم مُطَلّقات.. ".. بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا.." أيْ لا يُلْزَم أحدٌ بفِعْلٍ إلاّ بمَا في وُسْعِه، والوُسْع هو ما يستطيعه الإنسان بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يَبْقَيَ له من طاقته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..").. والمقصود أن يكون إنفاق كلّ والدٍ علي قَدْر استطاعته وعلي حسب حاله بتَوَازُنٍ وتَوَسُّطٍ واعْتِدَالٍ من غير إفراطٍ ومُبَالَغَة أو تفريطٍ وتقصيرٍ، فإنْ كان مُتَيَسِّرَاً أنْفَقَ على حسب يُسْره وإنْ كان مُتَعَسِّرَاً أنفق على حسب عُسْره.. ".. لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ.." أيْ لا يَجوز أن يُحْدَث ضَرَرٌ بالأم بسبب ولدها، بأن يَسْتَغِلّ الأب حنانها علي مولودها فيمنعها مثلا شيئاً من نفقتها أو يأخذه منها ويعطيه لمُرْضِعَةٍ بدلا أن تُرْضِعه هي ليُؤلمها ويُؤذيها أو ما شابه هذا من أضرار، ولا يجوز كذلك إحداث ضَرَرٍ بالأب بسبب ولده، أيضا استغلالا لحنانه علي مولوده ولرغبته في حُسن تربيته بأن تُكَلّفه الأم أو غيرها بما لا يستطيعه، وبالجملة لا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن يكون هذا المولود الذي هو رزق الله لهما والذي من المُفْتَرَض أن يكون مَصْدَر نَفْعٍ وسعادة لهما ولمَن حولهما هو مصدر ضَرَر وتعاسة لهم!! فلْيَقُم إذَن بالتالي كلٌّ من الأب والأم والجميع بواجبه نحو الآخر ولْيُحْسِنَوا التعامُل فيما بينهم كما يُوصِي الإسلام ليَسْعَدوا ويُسْعِدوا أبناءهم في الداريْن ولا يكونوا مصدر تعاسة لهم فيهما.. ".. وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ.." أيْ هذا بيانٌ لمَن تجب عليه نفقة المولود إذا فَقَدَ أباه أو كان أبوه موجوداً ولكنه عاجزٌ عن الإِنفاق عليه، أيْ ويجب على القريب الذي له حقّ في ميراث والد المولود عند موته مثل ما يجب على هذا الوالد قبل موته من النفقة والكِسْوَة وعدم الإضرار، وفي هذا إرشادٌ لمعاني التكافل والتراحُم والإخاء والحب بين أفراد الأسرة والعائلة بل والمجتمع كله التي يُوصِي بها الإسلام حيث القادر يُعين العاجز وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون ويَقْوَيَ ويَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.." أيْ وإنْ أراد الأبوان فَصْلاً وإبْعَادَاً لولدهما عن لبن الأم أيْ فِطَامَاً له قبل انتهاء العامين الكاملين، وكانت هذه الإرادة ناتجة عن تراضٍ منهما وتحاوُر وتفاهُم فى أمر ابنهما وتَدَبُّر لأحواله ولِمَا يُصلحه، ورَأَيَا معاً أنَّ هذا الفطام قبل بلوغه السنتين لن يَضرّه، فلا إثم عليهما فى ذلك، وكذلك إذا فطماه بعد الحَوْلَيْن لو رَأَيَا المصلحة فى ذلك، ولا بُدّ من تَرَاضِيهما سوياً لأنَّ رضا أحدهما فقط قد يضرّه حيث أحيانا يَحْدُث أنْ تَمَلّ الأم الإرضاع أو يبخل الأب بالإنفاق أو ما شابه هذا مِمَّا قد يُؤَثّر علي صحته تأثيراً سيئا.. وفي هذا دعوة ضِمْنِيَّة للتحاور الودود البَنّاء بين الزوجين في كل الأمور حتي بأبسطها كالفِطام لتَسعد حياتهما ثم آخرتهما.. ".. وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ وإنْ أردتم ورَغبْتُم أيها الآباء أن تطلبوا رضاعة أولادكم من خلال تأجير مُرْضِعَاتٍ لهم ورَضِيَت الأمهات بذلك من أجل مصلحة المولود ولسببٍ من الأسباب كضعف صحة الأم مثلا ونحو هذا فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دُمْتُم تقصدون المصلحة، وإذا سَلّمتم أيْ أعطيتم للمُرضعات ما آتيتم أيْ ما أرَدْتُم إيتاءه أيْ إعطاءه لهنّ من الأجرة، بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام، فلا تنتقصون مثلا من أجْرِهِنَّ أو تُماطِلون فيه أو ما شابه ذلك مِمَّا يُخَالِف المَعروف.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الأُسَرِيَّة والاجتماعية وتربية الأبناء، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)" أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم بصيرٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)" أيْ والذين يموتون منكم ويَتركون زوجاتٍ بعدهم يَنتظرنَ مُتَحَكّماتٍ بأنفسهنّ دون زواجٍ ويَكُنَّ في حالةِ حِدَادٍ فيَتْرُكْنَ زينة الثياب والعِطر ونحو ذلك تعبيراً عن الحزن واحتراما للعلاقة الزوجية السابقة والتي عَظّمها الإسلام وتنبيها للغير بعظيم أهميتها لكي يُحافظ بشدّةٍ عليها، وذلك لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام – وهذه المدة تُسَمَّيَ العِدَّة – للتأكّد التامّ خلال هذه الفترة أنه لا يوجد حَمْل حتي لا يُنْسَب مولود إلي غير والده وما في ذلك من أضرارٍ وتعاساتٍ مجتمعية يُثبتها الواقع، لأنَّ الروح تُنْفَخ في الجنين بعد أربعة أشهر فتَظهر حركته وتكون الأيام العشرة للاحتياط لاختلاف حركة كل جنينٍ عن غيره كما أنَّ بهذه الفترة يَظهر الحمل للجميع ولا يُمكن لمَن أرادت إخفاءه لتتزوج أن تُخْفِيه لأنَّ في حالة الحَمْل هذه تستمرّ العِدَّة بعد الوفاة حتي تتمّ الولادة وليست فقط للأربعة أشهر وعشرا – كما أنَّ هذه المدة هي التي يعلم خالق الخَلْق أنه بعد انتهائها تَخِفّ مَرَارَة الفِراق بين زوجين رَبَطَ الله بينهما برابطة المَوَدّة والرحمة والتي يُمكن بعدها للزوجة الارتباط بحبٍّ وتَرَاحُمٍ آخر مع زوجٍ غير زوجها المُتَوَفّي.. ".. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ فإذا وَصَلْنَ لنهاية مُدَّتِهِنَّ أيْ انتهت عِدَّتهنّ، فلا إثم عليكم أيها المسلمون أو أيها الأولياء الذين يُزَوِّجُونهُنَّ فيما فَعَلْنَ في أنفسهنّ من الخروج والعمل والزواج والتّزَيُّن المُعْتَدِل الذي لا يَلْفِت الأنظار ويؤدي للأضرار وغير ذلك من شئون الحياة علي أن يكون كل هذا الذي يَفْعَلْنَه بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)" أيْ ولا إثم عليكم أيها الرجال فيما ألْمَحْتُم به مِن طَلَب الزواج بالنساء المُتَوَفَّى عنهنَّ أزواجهنّ أو المُطلّقات ثلاث طَلْقات – أيْ لَسْنَ علي ذِمّة زوجٍ يمكنه رَدّها – في أثناء عِدَّتِهنّ، كأنْ يقول الرجل لإحداهنّ مثلا إني راغب في الزواج أو إذا انتهت عِدَّتك فشاوِريني في زواجك ونحو هذا من التعريض بلا تصريح، ولا ذنب عليكم أيضا فيما أخفيتموه في أنفسكم من نِيَّة الزواج بهنّ بعد انتهاء عِدَّتهنّ.. وهذا يدلّ علي أنَّ الإسلام يُراعِي ويَحترم تماما المشاعر الإنسانية بالعقول للرجال وللنساء ويُحسن توجيهها وضبطها بحيث تؤدي إلي أفضل وأتمّ السعادات دون أيّ تعاساتٍ إذ بالحب والحنان والتراحُم والتسامُح ونحوه تسعد الحياة وبدونها تتعس، فلقد سَمَحَ بالتلميح ومَنَعَ التصريح المباشر لأنَّ التلميح يعني احتمالية الأمر بينما التصريح يعني التأكيد والذي قد يؤدي إلي ضررٍ وتعاسةٍ مَا كأنْ تُخْفِي حَمْلاً برَحِمِها مثلا أو تُقَلّل في حساب فترة العِدّة استعجالا للزواج أو ما شابه ذلك من مُخالَفات وتَحَايُلات قد تُحْدِث أضراراً شديدة وتعاساتٍ في الداريْن، فلا تواعدوهن في السر علي شيء محرم ولكن تواعدهن بالمعروف.. ".. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا.." أيْ يَعلم الله بالقطع أنكم أيها الرجال ستُفَكّرونَ فيهنّ، في الزواج منهنّ وحُسن عِشْرَتِهِنَّ ونحو هذا من شئونهنّ، وذلك لمَيْل كل طرفٍ للآخر بالفطرة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وقد سَمَحَ لكم بفضله وكرمه ومعرفته بخَلْقه بأنْ تذكرونهنّ بداخل فِكْركم أو بالتلميح ولكن يَمنعكم مِمَّا يَضرّكم ويُتعسكم في الداريْن وهو أن تُوَاعِدُوهُنَّ وَعْدَاً سِرِّيَّاً بأنْ تقولوا لهم فى السِّرِّ ما تستحيون من قوله فى العَلَن لقُبْحِه ومُخَالَفته للإسلام، إلا مُوَاعَدَة معروفة غير مُخالِفة له، فلا تُعطوهنّ وعداً بالزواج إلا أن يكون بطريق التلميح لا التصريح، وبالجملة لا تُواعدوهنّ في السِّرِّ علي شيءٍ مُحَرَّمٍ ولكن تُواعدوهنّ بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام وذلك عند كل أقوالكم وأفعالكم معهنّ ومع الجميع.. ".. وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.." أيْ ولا تُريدوا وتَنْوُوُا وتُصَمِّمُوا على عَقْد الزواج وتَعْقِدُوه في فترة العِدَّة حتى يبلغ أيْ يَصِلَ الكتاب أيْ الأمر المكتوب أيْ المفروض وهو العِدَّة التى حَدَّدَ الله لها وقتاً مُعَيَّنَاً إلي أجله أيْ نهايته أيْ حتي تنتهي مدّتها.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ.." أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله يعلم ما في عقولكم تُفَكّرون فيه من خيرٍ أو شرّ، فبالتالي إذَن خافوه وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، فهو تعالي علي الدوام بها كلها بصيرٌ عليمٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)" أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائما أيضا في ذات الوقت أنَّ الله غفورٌ أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وهو تعالي حليم أيْ كثير الحِلْم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)" أيْ لا إثْمَ عليكم أيها الأزواج إنْ طلقتم النساء بعد العَقْد عليهنّ لسببٍ من الأسباب قبل أن تُجَامِعُوهُنَّ وقبل أن تَلْتَزِمُوا وتُحَدِّدوا لهنّ قيمة مالية مُحَدَّدَة مُفْروضَة عليكم وهي المَهْر، لكن عليكم أنْ تُمَتِّعُوهُنَّ بأنْ تُعطوهنّ المُتْعَة وهي مبلغ من المال يَتَمَتّعْنَ ويَنْتَفِعْنَ به ويكون تَرْضِيَة لهنّ بعد أن انكَسَرَت مشاعِرهنّ بالفراق، وفي هذا مزيدٌ من مراعاة الإسلام للمشاعر الإنسانية، وهي علي قَدْر الاستطاعة، فهي على الغنيّ قَدْر إمكانه وسَعَة رزقه، وعلى الفقير قَدْر إمكانه وما يملكه، فمَن كان مُتَيَسِّر الحال فلْيزِد ومَن كان مُتَعَسِّرَاً فلْيُقَلّل، وذلك المتاع الذي تُمَتِّعُونهنّ به صفته أن يكون متاعاً بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام، وهو حقّ ثابِت مؤكَّد مُسْتَقِرّ علي المُحسنين وهم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام، وهم الذين سيُحْسِن الله إليهم حتما في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده الصِّدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن:60)
ومعني "وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)" أيْ وإنْ طلّقتم النساء بعد العَقْد عليهنّ لسببٍ من الأسباب قبل أن تُجَامِعُوهُنَّ أيها الرجال ولكنكم قد ألْزَمْتُم أنفسكم بمَهْرٍ مُحَدَّدٍ لهنّ، فيجب عليكم أن تُعطوهنّ نصف المَهْر الذي فرضتموه لهنّ والمُتّفَق عليه، ولكم نصفه، قِسْمَة بالعَدْل بينكم، وتَرْضِيَة لهنّ بعد أن انكَسَرَت مشاعِرهنّ بالفراق، وفي هذا أيضا كما في الآيات السابقة مزيدٌ من مراعاة الإسلام للمشاعر الإنسانية، إلا أنْ تُسامِح المطلقات، فيَتْرُكْنَ نصف المَهْر المُسْتَحَقّ لهنّ بسماحة نفسٍ بلا أيِّ إكراهٍ تَكَرُّمَاً من المُطَلّقة لأنها مثلا كانت هي الرَّاغِبَة في الطلاق والفراق، أو يُسامح الذي بيده عَقْد الزواج وهو الزوج بأن يترك للمُطلقة المَهْر كله أو ما هو أكثر من النصف لأنه هو الذي كان راغِباً فيه.. ".. وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي العَفْو والتسامُح في كل شئون الحياة خاصة عند الطلاق لأنه يُضْفِى على الظروف التي حَدَثَ فيها نوعاً من المودة والتقارُب بين الذين أصابهم الألم والضرَر بسببه، والتسامح عموما يؤدي دائما إلي تَيْسِير الحياة ويَمْنَع تَعْسِيرها، وفي التّيْسِير سهولة ويُسْر وسَلاَسَة وإنجاز ورِبْح وتشجيع ورضا وأمل وتفاؤل وطموح وصفاء وحب وصدق وتعاون وانطلاق واستمرار في كل خير، بينما في التّعْسِير والمُرَاوَغَة والعِناد والإصرار علي الباطل والكِبْر صعوبة وإعاقة وحَوَاجَز وفشل وخسارة ويأس وإحباط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة، وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة للجميع والتعسير تعاسة لهم، في الداريْن.. ولذلك فالعفو حتما هو أقرب لصِفَة التقوي، أيْ وأنْ تَعْفُوا أيها الرجال والنساء تكونون أقرب لهذه الصفة، لأنَّ الذي يَعفو يدلّ علي أنه يخاف أن يَظلم بأخذ أيِّ حقّ من حقوق غيره وخوف الظلم هذا هو من أهم معاني التقوي ولذا فهو بالتالي حتماً أقرب لها لأنَّ التقوي هي تَجَنّب كلّ شرّ يُبعد ولو للحظة عن حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وعدم الوصول أبدا لمرحلة إغضابه بل المسارعة لفِعْل كل خيرٍ يُسْعِد النفس والغير.. كذلك فإنَّ التمسّك بالحقِّ رغم أنه لا يُخالِف التقوى لكنه يدلّ غالبا علي تَصَلّب وشِدَّة فاعله بينما العفو يدلّ في الغالب علي سماحَة ورِقّة ورحمة فاعله ولا شكّ أنَّ السماحة والرِّقّة أقرب إلي التقوي من الصَّلاَبَة والشّدَّة، إلا في بعض المواقف التي قد تحتاج إلي الشدّة حسبما يتطلّبه الموقف وتُقَدّر كل حالةٍ بتقديرها.. ".. وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.." أيْ واذكروا دائما ولا تنسوا ولا تَتركوا أيها الناس الفضل بينكم في كل مُعاملاتكم بكل شئون حياتكم وهو إعطاء ما ليس بإلزامٍ والتسامُح في الحقوق ونحو هذا مع حُسن المعاملة عموما، أيْ كونوا دوْمَاً من أهل الفضل أيْ الزيادة في كلّ خيرٍ أيْ لا تلتزموا بالعدل فقط وإنما تَسَامَحُوا فيما زاد عنه قَدْر استطاعتكم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبطيبِ خاطرٍ وبحبٍّ وسعادة، فإنَّ ذلك هو الأكثر والأعظم خيراً وهو الذي يزيد الحب والتعاون بينكم ويُيَسِّر حياتكم جميعا ويُعظم أجركم في دنياكم وأخراكم فتسعدون تماما فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)" أيْ إنَّ الله علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم بصيرٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن
ومعني "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)" أيْ هذا بَيانٌ لِمَا يُسَهِّل تنفيذ ما سَبَقَ ذِكْره وما سيأتي من أخلاق الإسلام، وهو المحافظة التامّة علي الصلاة والذكر (برجاء مراجعة صُوَر الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن في الآية (152) من سورة البقرة، لتكتمل المعاني).. أيْ احْرِصُوا ووَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة واحرصوا علي أن تكون صلاتكم هي الصلاة الوُسْطَيَ أيْ المُثْلَيَ الفُضْلَيَ بأن تُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وحافظوا أيضا بصورةٍ خاصةٍ على الصلاة المتوسطة بينها وهي صلاة العصر أو الفجر لأنه قد يَنشغل عنها البعض بعملٍ أو نومٍ أو نحوه، وذلك لأنَّ لفظ "الوسطي" قد يعني المُثْلَيَ أيْ المِثالِيَّة الفاضِلَة كما قال تعالي " قَالَ أَوْسُطُهُمْ" أي أمْثَلهم وأفضلهم، وقد يعني المتوسطة بين شَيْئَيْن.. ".. وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)" أيْ وكونوا لله طائعين، كونوا دوْمَاً قائمين بأخلاق الإسلام في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم مُوَاظِبين علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبه منكم ووَصَّاكم به في إسلامكم باختياركم وبرضاكم وبكل حب لربكم ولطاعته متمسّكين عامِلين بأخلاقه مُتَوَاصِلين علي الدوام معه بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ مُتَدَبِّرين مُطْمَئِنّين ساكِنين به.. وكذلك قطعا أثناء صلاتكم قوموا لله فيها قانتين أيْ خاشِعين أيْ في سُكُونٍ وتَدَبُّر.. "فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)" أيْ وإنْ حَصَلَ لكم خوفٌ ما، من عدو مثلا أو سيول أو نيران أو أوبئة وأمراض أو ما شابه هذا، فلا تتمكّنون من أداء الصلاة بصورةٍ طبيعيةٍ على الوجه المطلوب، فلا تتركوها ولا تتركوا ذِكْر الله أبدا مهما كانت الأسباب، لمنافع ذلك ولسعاداته، فصَلّوا رجالا أيْ راجِلِين أىْ ماشِين على أرجلكم أو رُكْبَانَاً أيْ راكِبين على ركائبكم أيْ كيفما استطعتم سواء اتجهتم للقبلة أم لا.. فإذا صِرْتُم آمِنين وزالَ خوفكم فصلُّوا الصلاة كاملة تامّة كما عُلّمْتُمُوها ذاكرين شاكرين الله فيها وخارجها في كل وقتٍ وحَالٍ علي ما علَّمكم إيّاه مِمَّا لم تكونوا تعلمون مِن قَبْل إرسال الرسول الكريم محمد (ص) إليكم ومعه القرآن العظيم أيْ ما كنتم تجهلونه من علومٍ غيبية كالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار وكيفية الاستعداد لذلك بحُسن العمل، ومِن كيفية استنباط الأحكام من النصوص، ومن عبرٍ في أخبار وقصص وتصرّفات الرسل السابقين والأمم السابقة، وما شابه هذا من أصول العلوم التي تنتفعون وتَرْقُون وتَقْوُون وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم.. تَذْكُرون وتَشكرون كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ عليكم بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِها وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)
ومعني "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)" أيْ والذين يموتون منكم ويَتركون زوجاتٍ بعدهم، فهناك وصية من الله لزوجاتهم هؤلاء أن يَتَمَتّعْنَ ويَنتفِعْنَ بأن يُقِمْنَ في بيت الزوجية ويُنْفَق عليهنّ عاماً كاملاً لمُواسَاتهنّ من غير إخراج لهنّ منه بواسطة أيّ أحدٍ فليس من حقه أن يخرجهنّ، وهذا حقّ اختياريّ لهنّ إنْ شِئْنَ استخدمنه وإنْ شئن تَرَكْنَه، حيث في الآية (234) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) هُنَّ مُلْزَمَات أن يُقِمْنَ في بيت الزوجية لمدة العِدَّة وهي أربعة أشهر وعشرا احتراما للعلاقة الزوجية السابقة، وما زاد عن ذلك حتي عام هو مزيدٌ منهنّ لاحترامها.. إنَّ هذه وصية من الإسلام لزوجة الميت إكراما له ومراعاة لمشاعرها لمدة سنة مع الاعتناء بها في أيِّ مكانٍ كانت بصُوَر العناية المُمْكِنَة.. ".. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ.." أيْ فإنْ خَرَجَت إحداهنّ باختيارها بعد نهاية عِدَّتها المُلْزِمَة لها لكن قبل نهاية العام المُخَيَّرَة فيه أثناءه بالبقاء أو الخروج، فلا إثم عليكم حتما أيها المسلمون أو أيها الأولياء الذين يُزَوِّجُونهُنَّ فيما فَعَلْنَ في أنفسهنّ من الخروج والعمل والزواج والتّزَيُّن المُعْتَدِل الذي لا يَلْفِت الأنظار ويؤدي للأضرار وغير ذلك من شئون الحياة علي أن يكون كل هذا الذي يَفْعَلْنَه بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، ولكنه حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)" أيْ وللمطلقات اللاتي تَمّ جِمَاعهنّ، أو للمطلقات عموما سواء تَمّ جماعهن أم لا كمزيدٍ من التأكيد علي ما جاء في الآية (236) والتي هي للمطلقات اللاتي لم يتمّ الجِمَاع معهنّ ولم يكن قد حُدَّدَ لهنّ مَهْرٌ مُعَيَّن، متاعٌ يَتمتّعْنَ به عليكم أن تُعطوهنّ إيّاه يُسمي المُتْعَة وهي مبلغ من المال يَتَمَتّعْنَ ويَنْتَفِعْنَ به ويكون تَرْضِيَة لهنّ بعد أن انكَسَرَت مشاعِرهنّ بالفراق، وفي هذا مزيدٌ من مراعاة الإسلام للمشاعر الإنسانية، وهي علي قَدْر الاستطاعة، فهي على الغنيّ قَدْر إمكانه وسَعَة رزقه، وعلى الفقير قَدْر إمكانه وما يملكه، فمَن كان مُتَيَسِّر الحال فلْيزِد ومَن كان مُتَعَسِّرَاً فلْيُقَلّل، وذلك المتاع الذي تُمَتِّعُونهنّ به صفته أن يكون متاعاً بالمعروف أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام، وهو حقّ ثابِت مؤكَّد مُسْتَقِرّ علي المُتّقِين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ أحكام الطلاق وغيرها، يُوَضِّح الله لكم آياته في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي تكونوا بذلك من المُتَعَقّلِين العقلاء أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيستفيدون منها ويسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عاقِلين عامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنت قويا شجاعا مِقْدَامَاً (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)، متأكّداً تماما أنَّ الجُبْنَ ما أطال أجل أحدٍ أبداً! لأنَّ الآجال علمها عند الله تعالي ومُحَدَّدَة الموعد، لكنَّ الجبان يعيش حياته دائم الخوف والفزع والتخاذل والتراجُع والذلّة والمَهَانَة لحرصه الشديد علي الحياة، أيّ حياة، حتي ولو كانت ذليلة مَهِينَة هو فيها عَبْد ذليل مَهِين لأسياده، إنه حينئذ كالمَيِّت!! وقد يُصيبه مرض مُقْعِد أو يأتيه الموت فجأة!! ولن يشعر بقيمة الحياة ويكون حَيَّاً إلا إذا انتفض وتَغَيَّر تدريجيا ليصبح قويا عزيزاً شجاعاً مِقْدَامَاً، فحينئذ سيساعده ربه ويُقَوِّيه ويُعِزّه ويَضَع الهيبة منه في عقول غيره، فكأنه سبحانه قد أحياه بعد موته!! وهو بعد ذلك إمّا أنْ يعيش عزيزاً كريماً سعيداً أو يموت شهيداً أكثر عِزَّة وكرامة وسعادة، مثلما كان حال الأمم السابقة التي ماتت بذُلّها وجُبْنِها بسبب بُعْدها عن ربها وإسلامها ثم أحياها سبحانه بعِزِّها وإقْدَامِها لَمَّا عادَت لهما وأحْسَنَتْ اتّخاذ أسباب ذلك
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن القوم الذين خَرَجُوا من بيوتهم فرَارَاً من قتال الأعداء الذين يعتدون عليهم بالقتال خشية الموت فيه رغم أنهم كانوا ألوفا كثيرة لكنهم جُبَنَاء فحَكَمَ الله عليهم بالموت والهَوَان من أعدائهم، ثم لَمَّا تَشَجَّعَ بَقِيّتهم ودافعوا عن أنفسهم وإسلامهم وأحسنوا اتّخاذ أسباب القوة والنصر أحياهم الله بهذا، وذلك ليعلموا وليتأكّدوا أنَّ الجُبْنَ ما أطالَ أجلَ أحدٍ أبداً! لأنَّ الآجال عِلْمها عند الله ومُحَدَّدَة الموعد، لكنَّ الجَبَان يعيش حياته دائم الخوف والفزع والتخاذل والتراجُع والذلّة والمَهَانَة لحرصه الشديد علي الحياة، أيّ حياة، حتي ولو كانت ذليلة مَهِينَة هو فيها عَبْد ذليل مَهِين لأسياده، إنه حينئذ كالمَيِّت!! وقد يُصيبه مرض مُقْعِد أو يأتيه الموت فجأة!! ولن يشعر بقيمة الحياة ويكون حَيَّاً إلا إذا انتفض وتَغَيَّر تدريجيا ليصبح قويا عزيزا شجاعا مِقْدَامَاً، فحينئذ سيساعده ربه ويُقَوِّيه ويُعِزّه ويَضَع الهيبة منه في عقول غيره، فكأنه سبحانه قد أحياه بعد موته!! وهو بعد ذلك إمّا أن يعيش عزيزاً كريماً سعيداً أو يموت شهيداً أكثر عِزَّة وكرامة وسعادة.. هذا، وقد يكون موت هؤلاء القوم وإحياؤهم بعدها علي الحقيقة – إضافة للمعني الذي سَبَقَ ذِكْره وهو الموت المعنويّ بمعني الذلّة، والحياة المعنوية بمعني العِزَّة والمَكَانَة – فالله تعالي قادر علي كل شيءٍ ليتأكّدوا أنَّ أمر حياتهم وموتهم بيده سبحانه وليس بجُبْنٍ وهروبٍ من الموت والذي لا بُدّ أن يأتي إذ لا مَفَرّ منه! ثم هذا إثبات عمليّ علي أنه حتما قادر علي بَعْثهم يوم القيامة من قبورهم بعد كوْنهم تراباً بأجسادهم وأرواحهم لحسابهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة، فليتوبوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم إذَن ليسعدوا في الداريْن.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)" أيْ إنَّ الله تعالى حتماً بالتأكيد بلا أيّ شكّ صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا، ولكنَّ كثيرا من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كل كاذِب ناكِر، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذّبون وجود الله أصلا، أم مُشركين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، أم مَن شابههم.. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه عليهم وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، ولو فعلوا ذلك لوجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه، بما استطاعوا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)" أيْ وبالتالي وبناءً علي ما سَبَقَ ذِكْرُه في الآية السابقة قاتلوا أيها المسلمون في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، قاتلوا كلّ الذين يقاتلونكم أيْ يبدأونكم بالقتال ويعتدون عليكم به، ولا تَعتدوا أبدا بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء مهما كانت بأن تبدأوهم أنتم بالقتال مثلا أو تقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ والمرضي ونحوهم ما داموا لم يشاركوا في القتال أو تهدموا البيوت وتحرقوا الزروع وما شابه ذلك، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب اعتداءه (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة).. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)" أيْ واعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)" أيْ هذا تشجيعٌ علي الإنفاق في كلّ وجوه الخير.. وهذا الاستفهام يُفيد الحَثَّ على الكرم والعطاء مع التذكرة بالتَّحَلِّي بحُسْن الخُلُق.. أيْ مَن هذا المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه الذي يُعطي مِمَّا يَملكه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن يُنفقه في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة له ولغيره، حرصاً ورَجَاءً أنْ يُعَوِّضه بأكثر مِمَّا أنفقه، فكأنه يُقْرِضه سبحانه ويَنتظر منه أن يَرُدَّ له ما أقرضه إيّاه! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالا أيْ نافعا مُسْعِدَاً لا حراما أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام.. هذا ، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه.. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه.. إنه تعالي يَرُدّه له أضعافا كثيرة لا يُمكن حصرها، وهذا العطاء المُضَاعَف هو كريمٌ أيْ نَفِيس طيِّب عظيمُ الشأنِ فَخْمٌ هائلٌ لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بمقدار بما يُناسِب كَرَمه وعظمته تعالي، وعلي قَدْر جَوْدَة القَرْض الحَسَن وإتقانه والصدق فيه ومنافعه ودَوَامه ونحو ذلك، ويكون له في دنياه حيث يَنَال كل خيرٍ وسعادة، ثم في أخراه بنَيْلِه أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ.." أيْ والله يُضَيِّق ويُوَسِّع في الأرزاق حسبما يراه في مصلحة خَلْقه وسعادتهم، وما دام الأمر كذلك فلا تَمنعوا الإنفاق مِمَّا وَسَّعَ به عليكم حتي لا تُعَاقَبُوا بتبديل أحوالكم من السّعَة إلى الضّيِق.. إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْبِض أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، فليس الأمر إذَن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذَن المؤمنون بربهم المتمسّكون العامِلُون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات.. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصْلِحَ خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله.. ثم هو تعالي إنْ ضَيَّقَ في رزقٍ مَا فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل).. ".. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره تكونون دائما في كل أحوالكم في كل شئون حياتكم راجِعين إليه أيْ تجعلون دوْما مَرْجِعِيَّتكم هي الله ورسوله الكريم (ص) وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وتكونون دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل عنكم سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتكم بتعاسة هذا الخطأ.. ثم جميعكم أيها الناس ستُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، وهو أعلم بكم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنت قويا شجاعا مِقْدَامَاً (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)، متأكّداً تماما أنَّ الجُبْنَ ما أطال أجل أحدٍ أبداً! لأنَّ الآجال علمها عند الله تعالي ومُحَدَّدَة الموعد، لكنَّ الجبان يعيش حياته دائم الخوف والفزع والتخاذل والتراجُع والذلّة والمَهَانَة لحرصه الشديد علي الحياة، أيّ حياة، حتي ولو كانت ذليلة مَهِينَة هو فيها عَبْد ذليل مَهِين لأسياده، إنه حينئذ كالمَيِّت!! وقد يُصيبه مرض مُقْعِد أو يأتيه الموت فجأة!! ولن يشعر بقيمة الحياة ويكون حَيَّاً إلا إذا انتفض وتَغَيَّر تدريجيا ليصبح قويا عزيزاً شجاعاً مِقْدَامَاً، فحينئذ سيساعده ربه ويُقَوِّيه ويُعِزّه ويَضَع الهيبة منه في عقول غيره، فكأنه سبحانه قد أحياه بعد موته!! وهو بعد ذلك إمّا أنْ يعيش عزيزاً كريماً سعيداً أو يموت شهيداً أكثر عِزَّة وكرامة وسعادة، مثلما كان حال الأمم السابقة التي ماتت بذُلّها وجُبْنِها بسبب بُعْدها عن ربها وإسلامها ثم أحياها سبحانه بعِزِّها وإقْدَامِها لَمَّا عادَت لهما وأحْسَنَتْ اتّخاذ أسباب ذلك.. وستسعد كذلك إذا علمتَ وتأكّدتَ أنَّ المَكَانَة في الحياة لا تُوَرَّث وإنما تكون بالاجتهاد، أيْ بإحسان اتّخاذ أسبابها، لتكون قائداً لا مَقُودَاً مَتْبُوعَاً لا تابِعَاً تَقُود لكلّ خيرٍ فتَرْبَح وتَكسب وتسعد أنت والآخرين في الداريْن، وأهم الأسباب هي الفكرية والمادِّيَّة، فالفكرية كالعلم والتخطيط والابتكار والتنظيم والتّجَمُّع والتعاون ونحوه، والمادية كقوة الأجسام والأموال والمُعِدَّات والأدوات ونحوها، فإنْ أحسنتَ في كل ذلك وغيره فتأكّد أنَّ الله تعالي سيُعينك وسيُوَفّقك وسيزيدك ما دامت نواياك بعقلك كلها خير أثناءها، فهو يُعطي ملكه مَن يشاء ويَرْغب فيه ويجتهد في اتّخاذ أسبابه ويُحْسِن استخدام ما يُعْطَيَ في كل الخير فيشاء بعد ذلك سبحانه ويُحَقّق له ما يريده هذا الذي اجتهد وصَبَرَ وصَمَدَ فيُعطيه مِن وسْعه وبعلمه فهو الواسع العليم.. وستَسعد كذلك إذا كنتَ من الذين يُحسنون الإعداد والتدريب الجادّ المُنَظّم المُنْضَبِط في كل أعمالك.. ويختلف الإعداد باختلاف درجة العمل وأهميته وعظمته وأثره بحيث يكون مناسبا له.. فإنْ كان عملا عادِيَّاً احتاج لإعداد وتدريب عاديّ، وإنْ كان عملا مُهِمَّاً احتاج لإعداد وتدريب مُهِمّ، وإنْ كان عملا شاقّاً كقتال المعتدين وما شابه هذا احتاج لِمَا هو أشقّ، وهكذا.. فإنْ فعلتَ ذلك، واستعنتَ بربك خالقك أقوي الأقوياء ثم بالأقوياء الأمناء المُتَخَصِّصِين من الصالحين حولك، ثم اجتهدتَ وصبرتَ وصمدتَ وفعلتَ ما استطعت، فأبْشِر بأنه تعالي ناصرك ومُحَقّقٌ لك ولأمثالك ما تريدون ما دمتم قد اجتهدتم في الإعداد والتدريب وفرزتم مَن يصلح فيما بينكم مِمَّن لا يصلح لكل عملٍ ما أمكن خاصة لأعمال قتال المعتدين ونحوه، حتي ولو كان هناك بعض تقصيرٍ غير مقصودٍ لقِلّة جهدٍ أو إمكاناتٍ فإنه سبحانه سيَجْبُر هذا التقصير ويُعَوِّضه بفضله وكرمه ورحمته من أجل نصرة أهل الخير علي أهل الشرِّ حتي ولو كانوا أقلّ عَدَدَاً وعُدَّة، فكثيرا ما يَحدث هذا، لأنه لا يعلم جنود ربك إلا هو تعالي، فقد يُلْقِي الرعب أو الخلاف بين الظالمين أو يُفْسِد عَتادهم وخِططهم أو يُظْهِر قوة الصالحين أكثر كثيراً من حقيقتها بسبب قوة إرادتهم وصِلَتهم بربهم أو نحو هذا من أسباب النصر.. مع عدم نسيان أنَّ الأصل قطعا أن تكون قوّتك ومُعِدَّاتك قريبة أو أكبر من عدوك لكي تنتصر، فهذا هو قانون الأسباب والنتائج، مَنْ جَدَّ وَجَد، كما يقول تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن القوم من بني إسرائيل، أيْ من اليهود، بعد زمن موسي (ص)، حين قالوا طَالِبين من أحدِ أنبيائهم ارْسِل وأَقِمْ وعَيِّن لنا ملكا حاكماً قائداً نجتمع تحت قيادته لكي نقاتل في سبيل الله أعداءنا الذين يعتدون علينا بالقتال.. ".. قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.." أيْ قال لهم نبيهم مُتَخَوِّفَاً من جُبْنِهم ومُتَوَقّعَاً عدم إقدامهم بسبب بُعْد بعضهم عن ربهم وإسلامهم ومُحَذّرَاً لهم من ذلك حتي يُحسنوا الاستعداد ويكونوا أهْلاً لِمَا هم مُقْبِلُون عليه بالعمل بكل أخلاق الإسلام وبإعداد ما استطاعوا من كل أنواع القوَيَ المُمْكِنَة: هل يُتَوَقّع منكم وقَارَبْتُم إنْ فُرِضَ عليكم القتال أن تَجْبُنُوا ولا تُقاتلوا؟! هل تَوَقّعْتُم إنْ كُتِبَ عليكم القتال ألاّ تُقاتلوا وبالتالي فعليكم الانتباه لعلاج تَقصيركم بإحسان استعدادكم؟! لعلكم إنْ كُتِبَ عليكم القتال ألاّ تقاتلوا؟!.. ".. قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.." أيْ قالوا رافِضين أن يَقَعَ ويَحْدُث ذلك منهم: وكيف لا نُقاتل في سبيل الله لاسترداد حقوقنا وقد وُجِدَ السبب والدافِع له حيث حالنا أننا قد أَخْرَجَنَا عدوُّنا من بيوتنا وأرضنا وأملاكنا وأبْعَدَنا عن أولادنا بالقتل والأسْر؟! إننا لا بُدَّ حتماً أن نُقاتِل!.. ".. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ.." أيْ فلمَّا فُرِضَ عليهم القتال أيْ أصبح فرضاً ولِزَامَاً عليهم يَأثمون إذا لم يفعلوه ويُثابون بفعله، بسبب اعتداء المعتدين عليهم بالقتال، فرُّوا جُبْنَاً إلا قليلا منهم ثَبَتُوا ووَفّوا بعهدهم مع ربِّهم ونَبِيِّهم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)" أيْ والله يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل الظالمين وهم كلّ مَن ظَلَمَ نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتما بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لعله يُوقِظ بعضهم فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)" أيْ وقال لهم نَبِيُّهم إنَّ الله قد استجاب لطَلَبكم وأرسلَ وعَيَّنَ واختار لكم طالوت مَلِكاً حاكماً قائداً تَجتمعون تحت قيادته لكي تقاتلوا في سبيل الله أعداءكم الذين يعتدون عليكم بالقتال، فأطيعوه وساعدوه علي القيادة، فاعْتَرَضُوا علي اختيار الله لهم قائلين كيف يكون مَلِكَاً علينا والحال أننا نحن أحقّ بالمُلْكِ منه فلا بُدّ أن يكون المَلِكُ مِن بيننا لأننا أشرف منه نسباً لأنَّ مِنَّا مَن هو مِن نَسْل الملوك أمّا طالوت فلا يستحِقّه لأنه ليس مِن نَسْلِهم إضافة إلي أنه لم يُعْطَ كثرةً من المال مِثْلما يَملك بعضنا؟! فهُم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم لبُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم يَتَوَهَّمون أنَّ المُؤَهِّلات الحقيقية لاستحقاق المُلْك والرئاسة والقيادة إنما تكون بالنّسَب وكثرة المال أمَّا الإمكانات العقلية والعلمية والمادِّيَّة بصورها المختلفة فلا قيمة لها عندهم!.. ".. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ.." أيْ قال لهم نَبِيُّهم مُصَحِّحَاً لهم مَفاهيمهم ومُدَلّلَاً علي أنه أحقّ بالمُلك منهم وعليهم ألاّ يعترضوا علي اختيار الله لهم لأنهم هم الذين طَلَبَوا ذلك بل يُطيعوه ويُعينوه علي قيادتهم ليَصْلُحوا ويَسعدوا: إنَّ الله تعالي اختاره حاكماً عليكم لتَوَافر صفات القيادة فيه حيث زاده سعَة في العلم وسعَة وقوة في الجسم، فهو يمتلك من الإمكانات العقلية والعلمية والخبرات العملية مع القوي المادِّيَّة بصورها المختلفة ما يُناسِب ويُعِين علي قيادتكم، إذ بالقوة العلمية وحدها دون قوة علي التنفيد لا يمكن تحقيق الأهداف وكذلك بالقوة وحدها جسدية أو مالية أو غيرها دون فكرٍ مُتّزِنٍ عميقٍ وعلمٍ مُناسبٍ مُفيدٍ يَحْدُث الخَلَل لكنْ بهما معا يَستقيم الحُكْم ويَتَوَازَن ويَرْقَيَ ويَسعد الجميع في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالي وحده هو مالِك المُلك كله وهو الذي يُعطي بعض مُلْكِه لمَن يشاء مِمَّن يستحِقّه حيث يُيَسِّر له الوصول إليه ويُعينه عليه بما يُحقّق مصلحة وسعادة خلقه، ولا يَمنعه في ذلك أيّ مانِع، كما أنه يأخذه مِمَّن يشاء ويُعطيه لغيره لحِكَمٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو وحده الذي يعلم أين المصلحة المستقبلية وأنتم لا تعلمون.. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)" أيْ وقال لهم نَبِيُّهم لمزيدٍ من التأكيد علي أنَّ طالوت مُخْتَارٌ من الله تعالي لتَثبيتهم علي الحقّ ولإزالة شُكُوكهم في قدْراته ليَتَّبِعوه ويَثِقوا في قيادته: إنَّ علامة مُلْكِه أيْ أمَارَة أنَّ الله قد مَلّكَه عليكم واستحقاقه لذلك أنْ يأتي لكم الصندوق حيث يُعيده هو إليكم فيكون في حضوره هذا طمأنينة من ربكم لكم علي صِدْقه وأهْلِيَّته لمهمّته وهذا الصندوق هو الذي فيه بَقيّة أيْ أثَر من آثار موسي وهارون وأهلهما كعصاه وبعض الملابس وبعض ألواح التوارة والذي كان قد ضاع منكم وكنتم تحتفظون به وتَستبشرون بوجوده وتَقْوَيَ به إراداتكم لأنه يُذكّركم بربكم وبإسلامكم، وستجدونه أمامكم حيث ستَحْمله لكم الملائكة دون أن تَرَوْنها، إمّا علي الحقيقة كمُعْجِزَةٍ فالله علي كل شيء قدير إذ ترون بأعينكم الصندوق قادماً طائراً حتي يُوضَعَ عند طالوت وإمّا بتسخير بَشَرٍ أو دَوَابّ ليَأتوا به بإلهامٍ من الملائكة بأمرٍ منه سبحانه.. ".. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ.." أيْ إنَّ فى ذلك الذي أتاكم به طالوت وهو التابوت لَدلالة عظيمة لكم تدلّ على اختيار الله له ليكون مَلِكَاً عليكم وعلى أحقيته بالمُلْك والقيادة وتَدفعكم لاتّباعه والثقة فيه والرضا به.. ".. إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، اجعلوه مَلِكَاً قائداً عليكم وساعدوه علي قيادته.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة
ومعني "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)" أيْ فلمَّا بَدَأَ طالوت – بعد أن أصبح مَلِكَاً قائداً عليهم – في الانفصال بالجنود عن مكان إقامتهم مُتَّجِهِين لقتال عدوهم قال لهم إنَّ الله مُمْتَحِنكم على الصبر بنهرٍ تَمُرُّون عليه في طريقكم ليَتَمَيَّز الصابر علي الشدائد الذي يَصلح للقتال وصِعَابه ويكون مُؤَهَّلَاً لأنْ يختاره الله شهيداً في أعلي الجنات مِن غيره مِمَّن لا يَصبر علي ذلك، فمَن شرب منكم من ماء النهر فليس من جيشي ولا من جَمْعِنا ولا يصلح للقتال معنا لخروجه عن طاعة الله، ومَن لم يَذُق الماء تماما فإنه مِنّي لأنه مطيع لأمري وصالح للقتال، إلا مَن اغترف أيْ أخَذَ من الماء غُرْفة وجرْعَة واحدة بكفِّ يده فلا لوْم عليه للحاجة لذلك لشدّة عَطَشه وسيُبارك الله فيها فتَكْفِيه وتَرْوِيه.. ".. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ.." أيْ فلم يصبروا علي هذا الامتحان فشربوا من النهر كثيرا حتى امتلأت بطونهم مُخَالِفين بذلك أمر قائدهم فى وقتٍ تكون فيه المُخَالَفَة جريمة عظيمة لأنه وقتُ إقدامٍ على قتال العدو، إلاّ عدداً قليلا منهم صبروا علي العطش والحرِّ والتزموا بالأمر فلم يَشربوا أو شَرِبوا الغُرْفَة التي سُمِحَ لهم بها.. لقد كان في عدم صبرهم عن الماء لفترةٍ بسيطةٍ دليل على صعوبة قُدْرتهم علي الصبر على القتال غالباً والذي قد يَطول وتَحْدُث فيه صعوبات كثيرة.. وهؤلاء العصاة للأمر تخلفوا وجبنوا ورجعوا ولم يقاتلوا عدوهم.. ".. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ.." أيْ فلَمَّا اجْتَازَ وتَخَطّيَ النهرَ طالوتُ والعددُ القليلُ الذين أطاعوا أمرَ الله وصبروا معه علي شدّة الحرارة والتَّعَب قال بعضهم لَمَّا رأوا كثرة عدد العدو لا قُدْرَة لنا اليوم علي قتال عدوّنا جالوت وجنوده لكثرتهم وقوّتهم وقِلّتنا وضعفنا.. ".. قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ قال الذين يَتَيَقّنُون أيْ يتأكّدون بلا أيِّ شكّ أنهم مُقَابِلُوا الله يوم القيامة فيُحاسِبهم على أعمالهم وأقوالهم مُشَجِّعِين لإخوانهم الذين أصابهم بعض الخوف من قتال أعدائهم مُثَبَّتِين لهم: كم مِن مرَّات كثيرة حَدَثَ واقِعِيَّاً أنَّ مجموعة قليلة مؤمنة صابرة مُتعاوِنة مُتَحَابّة مُسْتَعِينَة بربها مُسْتَقْوِيَة بأنَّ معها الحقّ وبإحسان اتّخاذ ما استطاعت من أسباب النصر غَلَبَت مجموعة كثيرة كافرة ظالمة بسبب جُبْنها وتَفَكّكها، وكان ذلك بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. هذا والمُرادُ بالظنّ اليَقِين لأنَّ كلّ مؤمنٍ مُتَيَقّنٌ حتماً بأنَّ مُلاقاة الله في الآخرة حقّ.. كما أنَّ استخدام لفظ "يَظنّون" سببه أنَّ حقيقة الظنّ في الأصل هي أنه عِلْمٌ لم يَتَحَقّق ويوم القيامة لم يقع بالفِعْل بَعْدُ ولم يَخْرُج إلى عالَم الحِسّ، وفي هذا تمام الدِّقّة.. كما أنَّ سببه أيضا أنهم يَتَوَقّعون لقاء ثواب ربهم ودخولهم جناته عند رجوعهم إليه وهذا التوقّع هو ظَنِّيّ لا يَقِينِيّ لأنَّ خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون إلا خالقهم سبحانه بما يدلّ علي خوفهم وعدم أمنهم علي كيفية نهاية حياتهم وهكذا المسلم دائما حياته كلها مُتَوَازِنَة بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه ولذلك فهو يحرص كل الحرص علي أن يفعل دائما كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه حتي آخر عمره ليَتَحَقّق له ما يَظنّه ويَتَوقَعه حينما يُلاقِي ربه من نَيْل أعلي درجات جناته (برجاء أيضا مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الخوف والرجاء).. ".. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)" أيْ وهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة والنصر في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)" أيْ ولَمَّا ظَهَروا لعدوهم جالوت وجنوده قالوا داعِين مُتَوَسِّلِين: ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – أَفِضْ واصْبُبْ علينا صبراً كثيراً غزيراً تامَّاً يَعُمّنا ويُحيطنا ويَملأنا تماماً ثقة بنصرك وصُمُودَاً وتَحَمُّلاً للشدائد، ورَسِّخْ أقدامنا فلا نَفِرّ، واجعل الغَلَبَة لنا بعَوْنك وتوفيقك وتأييدك وتيسيرك علي أعدائنا هؤلاء القوم الكافرين أيْ المُكَذّبين بك وبرسلك وبكتبك وبآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك الغير العاملين بالإسلام المُعادِين له الفاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات .. إنهم قد خَتَمُوا دعاءهم بما هو نتيجة حَتْمِيَّة للاستعانة بربهم خالقهم القادر علي كلّ شيءٍ ولحُسن الاستعداد وللصبر وللثبات وهو النصر على الأعداء
ومعني "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)" أيْ فبسبب طاعتهم لربهم وحُسْن استعانتهم به وتوكّلهم عليه وحده وصِدْق دعائهم وإحسان اتّخاذهم ما استطاعوا لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة انتصروا علي عدوهم وغَلَبوهم بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.." أيْ وقَتَلَ دواد (ص) – وكان من جنود طالوت ولم يكن بَعْدُ نَبِيَّا – جالوتَ قائد أعدائهم وبقتله تَمَزّقوا وانهزموا، وأعطاه الله الحُكْمَ بَعْدَ طالوت، والحِكْمَة أيْ النّبُوَّة والإصابة في الأمور كلها فأصبح نَبِيَّاً من أنبياء اليهود يدعوهم وغيرهم لطاعة الله والعمل بأخلاق الإسلام التي كانت في التوراة في زمنهم ويَحْكُمهم بها، كذلك عَلّمه سبحانه مِمَّا يشاء أن يُعَلّمه إيّاه ويَسَّره له من أنواع العلوم المختلفة المُفيدة المُسْعِدَة التي تُعين علي حُسن إدارة المُلْك والحياة.. ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ.." أيْ ولوْلَا تحريك الله بعضَ الناس وهم أهل الخير ضِدّ بعضٍ آخر وهم أهل الشرِّ لفسدت الأرض، أيْ امتنع فسادها بسبب وجود دفع الناس بعضهم ببعض، أيْ ولولا أنَّ أهل الخير – ومعهم الله دافِعَاً ومُعِينَاً وناصِرَاً – يَدْفعون الشرَّ ويُزيحونه عن حياتهم لأنه يُفسدها ويُتعسها، لفسدت الأرض كلها بل الكوْن كله لانقراض الخير وانزوائه وضياعه وانتهائه ولانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار في المُقابِل وبالتالي يَتعس الجميع في دنياهم وأخراهم، فهم يَدْفعونه بالتمسّك بالخير من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وتَرْك أيّ أنظمةٍ مُخَالِفةٍ له ونشره بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي سواء أكان اعتداء فِكْرِيَّاً أم اقتصادياً أم سياسياً أم عسكرياً أم غيره.. إنهم ينشرونه في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ وبكل أسلوبٍ مُمكن مناسبٍ ومع كل فردٍ مُمكن مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء وزملاء العمل والمجتمع كله، بحيث يَنْزَوِي الشرّ ولا يَجِد له مكاناً أبداً تدريجيا بين أهل الخير وعلي وجه الأرض ما أمكن (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وقد يَدْفعونه بالقتال إذا اعتدي أهل الشرّ به من باب المُعامَلَة بالمِثْل، وهكذا، مِمَّا سَمَحَ به الإسلام حفاظاً علي أمن عموم الناس – والخَلْق – ورحمة بهم علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وبيئاتهم ليسعد الجميع خاصّة المتمسّكون العامِلون بأخلاق الإسلام منهم والذين ستكون سعادتهم تامّة في الداريْن (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات وحِكَم تشريع القتال والجهاد في الإسلام كصورةٍ من صور دَفْع الشرّ بالخير عند الاحتياج إليه، برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) ثم الآية (218) من سورة البقرة).. وبدَفْع الله هذا للشرِّ بنشر الخير من خلال الناس أيْ من خلال أهل الخير ضِدّ أهل الشرّ ستَنتشر حتماً الحِكْمة وينتشر العلم ويزداد الناس خيراً علي خيرٍ وسعادة علي سعادة في دنياهم وأخراهم، وبدون ذلك سيَفسد ويَتعس الجميع حتما فيهما.. وفي الآية الكريمة دعوة لكل أهل الخير لأنْ يقوموا بهذا الدَّفْع لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. هذا، وقد يُنْصَر الخير أحيانا ببعض أهل الشرّ من فضل الله ومعجزاته في كوْنه حينما يختلفون فيما بينهم هم لتَعَارُض مصالحهم فيقف بعضهم في صَفِّ الخير دَفْعَاً لشَرٍّ مَا لمصلحةٍ مَا تتحقّق لهم!! ولذا فلفظ "الناس" يشمل أهل الخير وأهل الشرّ معاً.. ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)" أيْ ولكنَّ الله تعالى حتماً بالتأكيد بلا أيّ شكّ صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا لأنه وَضَعَ لهم هذا النظام الحكيم نظام الإسلام الذى أوْصَيَ وألْزَمَ فيه المُصلحين أن يُدافعوا المُفسدين ويَمنعوهم من فسادهم وإفسادهم للأرض وللكوْن بكل وسيلةٍ مُتَاحَةٍ مُبَاحَةٍ حتى ولو بالقتال إذا اعتدوا به، وسيُعاونهم حتما علي هذا بأسبابٍ قد يَرَوْنَ بعضها وقد لا يَرَوْنها حيث لا يَعلم جنوده إلا هو سبحانه وذلك لكي يَسعد الجميع في الدنيا والآخرة ولا يتعسون فيهما
ومعني "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)" أيْ هذه هي دَلائل الله تعالي علي وجوده ومُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه نَذكرها لك ونُخبرك ونُذَكِّرك بها ونُرشدك إليها بالصِّدْق لا بالكذب أيها الرسول الكريم وأيها المسلم والتي كلها صِدْق والتي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الحق والصدق وهو بحقٍّ الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل) .. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذه هي آيات القرآن العظيم نقرؤها عليك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)" أيْ وإنك حقاً وصِدْقَاً وحَتْمَاً لَمِنَ الرسل المرسلين مِنّا للناس ليُعلّموهم الإسلام الذي نُوحِيه إليهم ليسعدوا به في الداريْن وليس كما يَدَّعِي المُكذّبون أنك لَسْتَ رسولاً مُرْسَلاً لأنه لو لم تكن منهم يُوحَيَ إليك لَمَا عَلِمْتَ مثل هذه الأحاديث والقصص السابقة والعِبَر منها التي تَلَوْنَاها عليك وأوحيناها إليك والتي لا يعلمها إلا المرسلون.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) ومن التسلية له والتخفيف عنه مِمَّا يُلاقِيه من المُشَكّكِين المُعَانِدِين
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا علمتَ وتأكّدتَ أنَّ المَكَانَة في الحياة لا تُوَرَّث وإنما تكون بالاجتهاد، أيْ بإحسان اتّخاذ أسبابها، لتكون قائداً لا مَقُودَاً مَتْبُوعَاً لا تابِعَاً تَقُود لكلّ خيرٍ فتَرْبَح وتَكسب وتسعد أنت والآخرين في الداريْن، وأهم الأسباب هي الفكرية والمادِّيَّة، فالفكرية كالعلم والتخطيط والابتكار والتنظيم والتّجَمُّع والتعاون ونحوه، والمادية كقوة الأجسام والأموال والمُعِدَّات والأدوات ونحوها، فإنْ أحسنتَ في كل ذلك وغيره فتأكّد أنَّ الله تعالي سيُعينك وسيُوَفّقك وسيزيدك ما دامت نواياك بعقلك كلها خير أثناءها، فهو يُعطي ملكه مَن يشاء ويَرْغب فيه ويجتهد في اتّخاذ أسبابه ويُحْسِن استخدام ما يُعْطَيَ في كل الخير فيشاء بعد ذلك سبحانه ويُحَقّق له ما يريده هذا الذي اجتهد وصَبَرَ وصَمَدَ فيُعطيه مِن وسْعه وبعلمه فهو الواسع العليم.. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِن المُتَحَاوِرِين مع مَن حولك لا المُتَقَاتِلين معهم، فبالحوار الهاديء الأخويّ الودود الهادِف الصادِق الذي يهدف بصدقٍ للوصول للحقّ وللخير وللعدل والمُؤَيَّد بالأدِلّة القوية الواضحة يَسعد الجميع، بينما بعكس ذلك تضيع الحقوق وتنتشر المُشاحنات والشرور ويَتعسون، ويزداد الأمر سوءا إذا لم يُسارعوا بتَدَارُك حالهم وانْزَلَقوا إلي القتال فيما بينهم وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح فحينئذ تَشتدّ تعاساتهم في الداريْن
هذا، ومعني "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)" أيْ هذه المجموعة من الرسل الكرام التي أرسلناها للناس ومعهم كتبنا التي فيها الإسلام بما يُناسب كلّ عَصْرٍ ليعملوا بها ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، هؤلاء الرسل زِدْنَا ومَيَّزْنَا بعضهم علي بعضٍ أيْ جعلنا كلَّ رسولٍ منهم مُمَيَّزَاً بميزَة تُناسِب عصره الذي هو فيه حتي يمكنه إقناع الناس بصِدْقه فيَثِقوا به فيؤمنوا، وكلهم متساوون في النّبُوَّة وكمال الخُلُق ولكنَّ التمييز في أنَّ بعضهم كان له مُعجزات تُناسب الزمن الذي هو فيه بما ليس للآخر والذي هو أيضا كان له من المُعجزات ما ليس عند غيره، فالكل كان له تفضيل أيْ زيادة في بعض الأمور لم تكن لغيره من الرسل وكان لغيره تفضيل عليه في بعض الأمور الأخري بما يُناسب أزمانهم، فمثلا تكون النار بَرْدَاً وسلاماً علي إبراهيم فلا تؤذيه ويَفهم سليمان لغة الطيور والدَّوابّ ويُسَخّر الرياح ويَشقّ موسي بعصاه البحر فينجو وقومه من عدوهم وغير ذلك من الأمثلة الكثير من أجل تحقيق الغاية السامية التي يريدها الله تعالي من إرسال الرسل وتأييدهم بمعجزاته وهي إيمان الناس أيْ تصديقهم به وعملهم بالإسلام الذي أرسله إليهم مع رسله لكي يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة لأنهم خَلْقه ولا يمكن أن يَتركهم يَضيعون ويَتعسون فيهما وهو الحكيم الرحيم الودود.. ثم في الآخرة لهم جميعا أعظم الدرجات في أعلي الجنات علي حسب ما بذلوه من جهود.. ".. مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.." أيْ هذه بعض أمثلةٍ وصُوَرٍ لإعطاءِ كلٍّ منهم في الدنيا بعض المُمَيِّزات والدرجات والمَكَانات علي حسب ما يحتاجه لأداء مهمّته في زمنه بدعوةِ مَن حوله لله وللإسلام، فمنهم مثلاً مَن قد كَلّمه الله مباشرة بدون واسِطَةِ مَلَكٍ كالرسول الكريم موسي (ص) حين أوْحَيَ إليه التوراة عند جبل الطور بسيناء بأرض مصر، ومنهم مَن أعطاه الله المُلْك والسلطان والحُكْمَ والنفوذ كالرسل الكرام داود وسليمان ويوسف، ومنهم رسولنا الكريم محمد (ص) الذي أوْحَيَ إليه القرآن العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ".. وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ.." أي وكذلك أعطينا رسولنا الكريم عيسي ابن مريم (ص) الذي هو قَبْل الرسول الكريم محمد (ص) خاتم النّبِيِّين البَيِّنَات وهي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي يَثِقوا فيه ويَتّبِعوا الإسلام الذي يُوصِيهم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي يديه والتي منها مثلا إحياء الموتي وإشفاء المرضي وخَلْقه من الطين كهيئة الطير فيَنفخ فيها فتكون طيراً وكل ذلك وغيره هو بأمر الله تعالي وقدْرته، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا الإنجيل بما فيه من إسلامٍ كان يُناسب عَصْره ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن.. ".. وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.." أيْ وقَوَّيْناه ونَصَرْناه بالروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ والمقصود به جبريل عليه السلام الذي كان يُجْرِي علي يدِ عيسي (ص) مُعْجِزاته بأمر الله أو يُقْصَد به الإسم الأعظم لله تعالي الذي كان يَذْكُره عيسي عند إحياء الموتي وفِعْل المُعجزات.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ.." أيْ ولو شاء الله ألاّ يَقْتَتِلَ الذين جاؤا مِن بَعْدِ كلِّ رسولٍ مِن الرسُل وبعد أن جاءتهم البَيِّنَات بواسطة هؤلاء الرسل أيْ الدلالات الدالّة على الحقّ أيْ وَصَلَ إليهم الإسلام، لَفَعَلَ ذلك حتماً، ولكنه لم يَشَأ، لأنه خَلَقَ الناس مُخْتَارِين لا مُجْبَرِين فتَرَتَّبَ علي هذا أن اختلفوا ولم يَتّفِقوا علي الإيمان وَوَصَلَ الأمر بهم إلي أن يقتتلوا فيما بينهم فالمؤمنون يدافعون عن الحقّ وهو إيمانهم والكافرون عن الباطل وهو كفرهم رغم أنَّ هذه البينات الدامِغَات القاطِعَات كان من المُفْتَرَض أن تجمعهم عليها فيؤمنوا جميعا لكنهم منهم مَن آمَنَ أيْ صَدَّقَ بهذا الحقّ واتّبَعه وعمل به فسَعِدَ في الدرايْن لأنه أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ومنهم مَن كَفَرَ أيْ لم يُصَدِّق ولم يَعمل به فتَعِسَ فيهما لأنه لم يُحْسِن استخدامه حيث قد عَطّله بالأغشية وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه.. إنَّ مَن يَشاء من البَشَر الهداية للإيمان والتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، يَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكْمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَق، وأيضا لو شاء الله ما اقتتل المؤمنون مع الكافرين ولكنه أمرهم في الإسلام بقتالهم دفاعاً عن الخير ليَبْقَيَ ويَقْوَيَ ويَضعف الشرّ ويَنْزَوِي ويَنْقَرِض، وكذلك لو شاء الله عدم اقتتال الناس عموما لأىِّ سببٍ من الأسباب لَمَا اقتتلوا، أيْ لأيِّ سببٍ آخر غير أن يكون بين المؤمنين والكافرين من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ لأجل مثلاً المال أو المُلْك أو المَنْصِب أو غيره مِمَّا يَحدث كثيرا في واقع الحياة حتي بين المسلمين فيما بينهم أو الكافرين فيما بينهم.. ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)" أيْ ولكنَّ الله علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دوْماً من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم التي لا تُحْصَيَ في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ.." أيْ سارِعوا بالإنفاق وفِعْل الأعمال الصالحة قبل أن يَحْضِرَ يوم – وهو يوم القيامة – حيث لا بَيْع وتجارة فيه فيكون رِبْح تُقَدِّمون عن طريقه ما تَفْتَدُون به أنفسكم من العذاب لمَن يَستَحِقّه، وحيث لا صَدَاقَة مِن صديقٍ يُنجيكم، ولا شفاعة مِن شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنكم ويُنقذكم مِمَّا أنتم فيه، إلاَّ أن يأذن الله بالشفاعة تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً.. إنه حينها لا يُمكن أبداً لأيّ قريبٍ أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يُفيد ويَنفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع كما كانوا يفعلون في الدنيا، ولا يُمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدَفْع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم، لأنّ أحداً من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكلّ إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)" أيْ والكافرون – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم – بحقّ وبكل تأكيدٍ هم الظالمون لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم قطعا فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن حيث أكْسَبُوها إثما وعَرَّضُوها لعقوبة الله بما يُناسب شرورها ومَفاسدها وأضرارها إذ في دنياهم سيَنالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد وأشدّ عذابا وتعاسة
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم.. وإذا كنتَ عابِدَاً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْحَيُّ.." أيْ هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه.. ".. الْقَيُّومُ.." أيْ الذي يقوم دائما وتماما علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْنه علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه.. ".. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.." أيْ لا تُصيبه ولا تُدركه ولا تَمُرّ به مطلقا سِنَة وهي نُعاسٌ يَسْبِق النوم، ولا نومٌ حتما، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه تعالي لا يَسْهُو أبداً عن شئون الخَلْق والكوْن.. ".. لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ كل ما فيهما هو خَلْقه سبحانه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. ".. مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.." أيْ مَن هذا الذي يَجْرُؤ علي أن يشفع عنده أيْ يَتَوَسَّل أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، أيْ لا أحد مُطلقا مهما كان يمكنه الشفاعة إلاَّ أن يأذن تعالي بها تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه.. ".. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال صفاته الحُسْنَيَ، أيْ يعلم ما هو أمامهم أيْ حاضرهم ومستقبلهم وما خلفهم أيْ ورائهم أي ماضيهم، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظرهم في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خير وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.." أيْ ولا يُدْرِكون ولا يَعلمون أيَّ شيءٍ مِن عِلْمه سبحانه إلا بالقَدْر الذى أرادَ أن يُعلمهم إيّاه على ألسنة رسله في كتبه التي أوحاها إليهم، فهم ليس لهم تَعَلّم وفهْم أيّ شيءٍ من أيِّ نوعٍ من أنواع العلوم إلاّ ما عَلّمهم تعالى وسَهَّله لعقولهم.. ".. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.." أيْ اتّسَعَ مُلْكُه وسُلْطانه ونفوذه وحُكْمه وتَدبيره وعِلْمه واقَتِدَاره ليَشمل كلّ السماوات والأرض وما فيهما مِن خَلْقٍ بما يُصلحهما علي أكمل وَجْهٍ دون أيِّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا.." أيْ ولا يَصْعُب عليه المُحافَظَة عليهما حتما.. ".. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)" أيْ وهو الأعْلَيَ والأعظم والأكبر من أيّ شيءٍ، وهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلْك والسلطان والنفوذ كله، قد غَلَبَ كلّ شيءٍ وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم وأعلي مِن أن يُخاطبهم مباشرة ولن يتحمّلوا ذلك، وهو العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كلّ صفات العَظَمَة.. فبالتالي وبَعدَ كل ما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل تدلّ علي تمام قُدْرته تعالي وكمال علمه وواسع رحمته وكرمه وفضله، فاعبدوه أيْ أطيعوه إذَن أيها الناس واسألوه واعتمدوا عليه وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وأخلِصوا وأحسِنوا له هذه العبادة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وتمسَّكوا واعمَلوا بكلّ أخلاق دينه الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، واحمدوه علي كلّ نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. فإن فَعَلْتم ذلك وارتبطتم بالحيّ الذي لا إله إلا هو شعرتم واستمتعتم بالحياة الحقيقية تامّة السعادة في دنياكم قبل الحياة الأتمّ سعادة والأعظم والأخلد في أخراكم
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتمسّكين العامِلين بالرُّشْد، وهو الصواب، وهو الخير، وهو كل أخلاق الإسلام وأنظمته التي تُنَظّم كلّ شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فتسعدها.. وإذا كنتَ دوْمَاً من الذين يَلْفِظون ويَتركون الغَيّ ويَكرهونه أشدّ الكراهية ويُقاومونه، وهو الضلال والخطأ والشَّرّ، وهو كلّ نظامٍ يُخالِف الإسلام، لأنه يُفسد الحياة ويَتعسها
هذا، ومعني "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)" أيْ لا إجبار لأحدٍ على الدخول في الدين، في دين الإسلام، فليس فيه إكراه علي شيءٍ بل يختاره مَن أراده بكامل حرية إرادة عقله بل سيَسعيَ إليه كلّ عاقلٍ لَمَّا يَرَيَ ويَعلم أنه يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه، فلا حاجة لهذا الإكراه ولا يُمكن أن يُتَصَوَّر، لأنه قد تَبَيَّنَ أيْ تَوَضَّحَ وتَمَيَّزَ تماما بالدلالات الباهِرَات القاطِعَات الحاسِمَات في كلِّ شيءٍ في الكوْن والتي تدلّ كلها علي الله وفي وَصَاياه تعالي في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أرسلها مع رسله وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص) لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أحْسَنَ استخدام عقله وتَدَبَّرَ فيها واستجابَ لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) طريقَ الرُّشْدِ أيْ الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن وهو طريق الإسلام من طريق الغَيِّ وهو الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة فيهما وهو كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ له، فالأمر إذَن واضحٌ وضوح النهار من الليل.. فإيّاك إيّاك أيها المسلم أن تُكْرِهَ أيَّ أحدٍ غير مسلمٍ علي الدخول في الإسلام أو مسلمٍ علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام إذا كان لا يعمل به، لأنَّ الإكراه عكس حرية الاختيار التي مَيَّزَ بها الخالق سبحانه بني آدم عن غيرهم من مخلوقاته، كما أنه مُخَالِفٌ لأصلٍ من أصول الحياة وهو الثواب والعقاب والجنة والنار والذي وضعه الله تعالي فيها ليكون أساسا عادلا لحساب البَشَر والذي يَنْبَنِي أصلاً علي اختيارهم إنْ أحسنوا فلهم كلّ الخير في الداريْن وإنْ أساءوا فلهم كل الشرّ فيهما علي قَدْر إساءاتهم، أمّا المُكْرَه علي شيءٍ فإنه لا يمكن تَبَيُّن اختياره وبالتالي ليس من العدل حسابه! ثم الإكراه يُؤَدِّي إلي أضرارٍ عظيمةٍ أهمها تَحَوُّل المُكْرَه إلي منافقٍ جبانٍ يَخشي مَن يُكرهه ويُجبره لا ربه ولا يستشعر قيمة الإسلام، ثم الإكراه إهانة لهذا الدين المَتين وكأنه سلعة راكِدَة تبحث عن مَن يأخذها!! ثم أولا وأخيرا الخالق الكريم الودود لا يريد للناس أن يؤمنوا إجباراً فيَتعسوا بل يريدهم أن يؤمنوا اختياراً وحُباً وشَوْقَاً ليسعدوا لأنّ الإكراه مُتْعِس لأنه مُخَالِفٌ للفطرة بينما الاختيار مُسْعِد مُوَافِق لها ويُثبته الواقع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (213) من سورة البقرة "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً.." ثم الآية (256) منها ".. فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ.." ثم الآية (13) من سورة السجدة " وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا.." ثم الآية (8) من سورة فاطر "..فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ.." ثم الآية (8) من سورة الشوري " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.." ثم الآية (31) من سورة الإنسان " يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ.." ثم الآية (29) من سورة الكهف "..فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ..").. فما عليك أيها المسلم إلا أنْ تُحْسِنَ عَرْضَه علي مَن تَدعوه، بكلّ قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، دون أيّ إكراه، في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسبٍ وبكل أسلوبٍ مُمكن مناسب، فقط بتَبْيِين الرُّشْد وسعاداته في الداريْن، وهو واضح بَيِّن، من الغَيِّ وتعاساته فيهما، وهو أيضا واضح بَيِّن، ليَسعد الجميع أتمّ السعادة كما سَعِدْتَ أنت في دنياهم وأخراهم.. ".. فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ.." أيْ فمَن يُكَذّب ولا يُصَدِّق بالطاغوت أيْ يَبتعد تماماً ويَمْتَنِع عن أن يَعبده أيْ يُطيعه والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، فمَن يَبتعد عن كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا.. ".. وَيُؤْمِن بِاللَّهِ.." أيْ ويُصَدِّق بوجوده وكتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويعمل بكل أخلاق إسلامه فتكون كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلَه تابَ منه سريعاً وأوَّلاً بأوَّل.. ".. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ.." أيْ فهذا بكل تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ قد تَمَسَّكَ وتَحَصَّنَ واعتصمَ بالحِصْن الحَصِين المَوْثُوق به الثابت الذي يَمنعه من أيّ انحرافٍ عن طريق تمام الخير والسعادة في الداريْن، لقد تَمَسَّكَ تَمَسُّكاً شديدا تامّا بالله وبالقرآن وبالإسلام.. لقد تمسّك بشدّة بالخالق الكريم القويّ المتين الرزّاق الوهاب القادر علي كل شيء وتمسّك بدينه.. لقد تمسَّكَ بالعُرْوَة الوُثْقَيَ – والوثقي مُؤَنّث الأَوْثَق – أيْ أحْكَمَ إدخال الزِّرّ في عُرْوَة الثوب وثبَّته ووَثّقه تثبيتاً وتوثيقاً شديداً بحيث لا يخرج ولا يتزحزح عنها مطلقا.. لقد أخذ بإيمانه ميثاقاً أيْ عهداً مُوَثّقا تمام التوثيق منه تعالي بأن يجعله دائما علي الطريق المستقيم المُسْعِد في دنياه المُؤَدِّي مُؤكَّدا إلي طريقِ أعلي درجات الجنات في أخراه.. ".. لَا انفِصَامَ لَهَا.." أيْ لا انْفِكَاكَ ولا انحلال ولا انقطاع لها – أيْ للعُرْوَة الوُثْقَيَ – أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)" أيْ وهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)" أيْ الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيّ أمر الذين آمنوا في كل شئون حياتهم – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بأخلاق إسلامهم – أيْ مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ فهو تعالي الذي برحماته وأفضاله وبسبب اختيارهم هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.." أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فنُصَرَاؤهم وحُلَفاؤهم ومُعِينوهم الطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا، فأمثال هؤلاء الأولياء يَأخذونهم ويُبعدونهم من نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِن المُتَحَاوِرِين مع مَن حولك، فبالحوار الهاديء الأخويّ الودود الهادِف الصادِق الذي يهدف بصدقٍ للوصول للحقّ وللخير وللعدل والمُؤَيَّد بالأدِلّة القوية الواضحة يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بعكس ذلك تضيع الحقوق وتنتشر المُشاحنات والشرور ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن هذا الذي حاجَّ أيْ جادَلَ بغير حقٍّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره إبراهيمَ في شأن ربه ووجوده وكوْنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة – أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام – بسبب أنْ أعطاه الله المُلْكَ أيْ السلطانَ والحُكْمَ والنفوذ والمال والجَاهَ ونحوه فبَدَلاً أن يستخدمه في الخير استخدمه في الشرِّ وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي الله وخَلْقه وذلك حين قال إبراهيم ربي هو الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحيي مخلوقاتٍ ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ويُميت أخري بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسبابٍ ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم أيها الناس بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه أيْ أطيعوه إذَن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.." أيْ قال هذا المُكَذّب المُسْتَكْبِر المُعَانِد المُستهزيء المُرَاوِغ المُتَطَاوِل علي انفراد الله تعالي بالإحْياء والإمَاتَة مُدَّعِيَاً مشاركته له سبحانه في ذلك: أنا أيضا أحيي وأمِيتُ أيْ أقتل مَن أردتُ قَتْله وأسْتَبْقِي حَيَّاً مَن أردت!! وبالتالي فأنا مُسْتَحِقّ لأنْ أكون ربَّاً للناس وعليهم عبادتي!! مُتَوَهِّمَاً أنه بذلك يُحيي ويُميت مُتَجَاهِلاً مُتَنَاسِيَاً أنه لا أحد يملك أصلا أيَّ سببٍ من أسباب إنشاء أصْل الحياة من أرواحٍ ومخلوقاتٍ وموادّ وإمكاناتٍ لها كماءٍ وهواءٍ وضوءٍ وغيره إلاّ خالِق الخَلْق سبحانه!! ثم مَن الذي أماتَ مَن ماتَ بغير قَتْلٍ بأنْ سَحَبَ منه روحه؟!! إنه حتما خالِقه وحده الذي أعطاه إيّاها.. ".. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.." أيْ قال إبراهيم ليَقطع مُجَادَلَته دليلاً آخر لا يَقْدِر أيّ بَشَرٍ على الإتْيان بمثله حيث هو قاطِع حاسِم مُبْهِر يُحَيِّر ويُسْكِت ولو كان صادقاً في الوصول للحقّ لاستجاب فوراً: إذا كنتَ تَدَّعِي أنك إلهٌ تُحيي وتُميت فإنَّ الله الذي أعبده يأتى بالشمس من جهة الشرق فأحْضِرها أنت من جهة الغرب لكي تُظْهِر علامات قُدْرتك وعلمك وسلطانك وسيطرتك على هذا الكوْن كله.. ".. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.." أيْ فتَحَيَّرَ واضطربَ وسَكَتَ وأخْرِسَ لسانه وانْقَطَعَ جداله وغُلِبَ هذا الكافر من قوة الدليل الذي كَشَف زَيْفه.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)" أيْ هذا دليلٌ آخر إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة علي انفراد الله تعالي بالإحياء والإمَاتَة بتمام قُدْرته وكمال علمه.. أيْ هل رأيتَ شيئاً عجيباً كالذي حاجَّ إبراهيم في ربه أو كالذي مَرَّ علي قرية خالية سقطت جدران بيوتها علي عروشها أيْ سُقُوفِها فهي مُدَمَّرَة مُهَدَّمَة خَرِبَة فارغة مَهْجُورة قد هَلَك أهلها فقال كيف يُحيى الله أهل هذه القرية بعد موتهم؟! فكأنه اسْتَكْثَرَ عليه تعالي أن يُحييهم!! فأماته الله وأبقاه على موته لمدة مائة عام ثم بَعَثه – بصورة شبيهة لأهل الكهف – أي أرسله للحياة مرة أخري ليظهر له سهولة البَعْث يوم القيامة بالأجساد والأرواح ويزول استبعاده، ثم سُئِلَ كم من الوقت بقيتَ مَيِّتَاً؟ قال دون شعورٍ بطولِ المدة مُتَوَهِّمَاً أنه نائمٌ لا مَيِّت بَقِيتُ هكذا يوماً أو جزءاً من يوم، قيل له ليس الأمر كذلك ولكنك مَكَثْتَ على هذه الحالة مائة عام!!.. ".. فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ.." أيْ فإنْ كنتَ في شكّ مِن تمام قُدْرة الله تعالي علي كل شيءٍ وعلي البَعْث ومِن بقائك مَيِّتَاً مائة عام فانظر حولك إلي طعامك وشرابك لتشاهد دليلا آخر من دلائل قدرتنا فإنَّ هذا الطعام والشراب كما تَرَىَ لم يَتَسَنّه أيْ لم يَتَغَيَّر بمرور السنين عليه بل بقى على حالته دون أن يفسد وانظر في المُقَابِل إلى حمارك كيف تَفَتَّتَت عظامه بما يشهد بأنه قد مَرَّت عليه سنوات طويلة.. وذلك ليستشعر عِظَم الآية التي حَدَثت لأنه عندما يري أولا طعامه طبيعيا وهو الذي كان من المُفْتَرَض فساده يَتَوَهَّم ظاهرياً أنَّ ظنّه بأنه نام يوما أو أقل هو مؤكّد ثم لَمَّا ينظر إلي هلاك حماره يَحدث الانبهار لعقله بالآية العظيمة أنَّ الله قد أحياه بعد موته كل هذه الأعوام فيزداد يَقِينه بالبعث.. ".. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ.." أيْ وفَعَلْنَا ذلك لكي تَرَيَ بنفسك مظاهر قُدْرة الله ولكي نجعلك مُعجزة ودلالَة للناس تؤكّد صِدْق البعث للآخرة بالأرواح والأجساد.. ".. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا.." أيْ والْتَفِتْ ناظِرَاً مُتَدَبِّرَاً، وأنت يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، إلي العظام كيف نَرْفعها ونُرَكّب بعضها على بعضٍ ثم نُغَطّيها لحماً مِن عضلاتٍ بعد ذلك.. ".. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)" أيْ فلَمَّا تَوَضَّحَ له بالأدِلّة القاطِعَة وبالنظر والتّعَقّل والتّعَمُّق والتّدَبُّر تمام قُدْرة الله تعالي على الإحياء والإمَاتَة والبَعْث قال مُعْتَرِفَاً مُسْتَسْلِمَاً أَسْتَيْقِن وأصَدِّق وأتَأَكّد تماماً أنَّ الله على كلّ شىءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلْك والرحمة والفضل فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة.. وما دام الأمر كذلك، ما دام هناك بَعْث للحساب يوم القيامة، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكروا حين قال إبراهيم ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اجعلني أشاهِد بعيني كيف تُحيي الموتي، كيفية البَعْث ليوم القيامة وطريقة الإحياء كيف تَتِمّ هل هي بطُرُقٍ مُعَيَّنَةٍ أم بقُدْرتك تقول للشيء كُن فيكون، وهذا قطعا ليس إنكاراً منه (ص) وهو رسول كريم من أصحاب العزائم لأنَّ سؤاله عن الكيفية لا عن أصل القضية وفيه شفاء لِنَهَمِ طَلَب العلم والوصول لأعماق الحقائق للاستفادة منها والسعادة بها وهو الأمر الذي يُوافِق العقل المَفْطُور أيْ المخلوق أصلا علي ذلك ليسعد في حياته والذي أحسنَ استخدامه سيدنا إبراهيم (ص).. فسأله الله تعالي – مع عِلْمه قطعا بكمال إيمانه ولكن لكي يُجيبه بما أجاب به ليعلم السامعون غَرَضَه وليَنتفعوا بما في ذلك مِن عِبَر – هل لم تُصَدِّق بتمام قُدْرتي علي إحياء الموتي قال (ص) أصَدِّقُ حتماً بلا أيِّ شكّ أنك علي كل شيءٍ قدير ولكنى طَلَبْتُ ذلك ليَزداد تأكّدِي تأكّدَاً وعلمي علماً ولكي أسْكُن وأهْدَأ مِن التطلّع والتَّشَوُّق إلى الكيفيّة.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي النفي لإيمانه أيْ نعم أنا مؤمن.. إنَّ في قوله تعالي ".. أَوَلَمْ تُؤْمِن.." إرشادٌ ضِمْنِيّ إلى ما ينبغي للإنسان أن يُوقِف عقله عنده وما عليه أن يَكتفي به في مثل هذه الأمور الغَيْبِيَّة والتي هي أصلا مُوَافِقَة للعقل وللفطرة والتي عليه أن يعتمد فيها أساسا علي ما جاء في القرآن العظيم فلا يَتَعَدَّاه إلى ما ليس من شأنه ولا ينشغل بالبحث فيه لأنه تعالي قد انفرد به ولا يَليق به البحث عنه حيث لن يَصِلَ لشيءٍ لأنه خارج إمكاناته فليُوَفّر إذَن جهده لِمَا هو أنْفَع وأسْعَد له في الداريْن.. ".. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.." أيْ قال الله تعالى له إذا أردتَ رؤية ما طَلَبْتَ ومعرفة ما سألتَ عنه فخُذْ أربعة من الطيور الحَيَّة المُتنوِّعَة فاضْمُمْهُنَّ إليك لتَتَأَمَّلهنّ وتَعْرِف أشكالهنَّ جيداً حتي لا يَختلط عليك الأمر بعد إحيائهنَّ ثم اذْبَحْهُنَّ واخْلِطْهُنَّ معاً وجَزِّئْهُنَّ أجزاءاً ثم اجعل على كل مكانٍ مرتفعٍ من الأرض حولك مِن هذا الخليط جزءاً ثم نادِهنَّ وقل لهنّ تَعَالَيْنَ بإذْن الله يَحْضرنَ إليك مُسْرِعاتٍ فيهنَّ الحياة كما كُنَّ قبل الذبح بعد أن انْضَمَّ كلّ جزءٍ إلى أصله.. ".. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)" أيْ واعْرف وتَأكَّد وتَذكّر تماما ولا تَنْسَ مُطلقاً أنَّ الله عزيزٌ أيْ غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. وإذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في كل إنفاقك وكل أقوالك وأفعالك لا تُريد سُمْعَة بين الناس ولا مَدْحَاً منهم ولا تَجَنّب ذَمّهم ولا غير ذلك بل تَطلب فقط ودائما وباستمرارٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياك أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراك حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تشجيعٌ شديدٌ مُشَوِّقٌ على الإنفاق فى كلّ خير.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، أيْ يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، هؤلاء حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقتهم التي ينالون عليها ثواب الله المُضاعَف أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة كحَالِ وشَبَهِ مَن يَبذر حَبَّة في أرض طيِّبَة تُسْقَيَ بماءٍ طيِّبٍ فتنبت ساقاً يَتَشَعَّب إلي سَبْع شُعَب في كل شُعْبَة مائة حَبَّة – والسُّنْبُلة هي الجزء الأعلي من النبات الذي يتكوّن فيه الحَبّ – فالحَبَّة الواحدة أنتجت سبعمائة، وهذا تصويرٌ لكثرة ما يُعطيه الله من عطاءٍ عظيم لا يُوصَف على الإنفاق، فهو يُضَاعف لسبعمائة ضِعْف ولأكثر من ذلك لأنه منه الخالق العظيم الكريم الوهّاب الذي يَرزق بغير حسابٍ كما يُؤكّد ".. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالى يزيد الثواب والعطاء أضعافاً وزيادات كثيرة هائلة فَخْمَة لا يُمكن حَصْرها ولا تُوصَف ولا تُقَدَّر بمقدارٍ بما يُناسِب كَرَمه وعظمته سبحانه، لمَن يشاء من المسلمين، فيُعطِى بعضهم سبعمائة ضِعْف، ويُعطى بعضهم أكثر من ذلك، علي قَدْر جَوْدَة إنفاقهم وإتقانه والصدق فيه ومَنَافعه ودَوَامه ونحو هذا، ويكون عطاؤه لهم أولاً في دنياهم حيث يَنَالون كل خيرٍ وسعادة، ثم في أخراهم بنَيْلِهم أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فعطاؤه ليس له حدود ولذا يقول ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)" أي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُنْفِقين مِن فِعْل صِفَتَيْن سَيِّئَتَيْن تكونان في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِمان من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. أيْ الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله وأثناء إنفاقهم وبَعْده ودائماً لا يفعلون أبداً مَنّاً ولا أذًي، والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل، هؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير الشديد من إتْباع الإنفاق بالأذي، أو أثناءه، وذلك لأضراره وتعاساته، الدنيوية حيث تنتشر المُشاحنات والصراعات، والأخروية حيث العقاب بما يُناسب الأضرار التي تَحْدُث.. أيْ كلامٌ طيِّبٌ دائماً بصورةٍ عامَّةٍ في كلّ خير، وللمُحتاج بصورةٍ خاصَّةٍ عند عدم إمكان عوْنه مِثْل قول الله يرزقنا وإيّاك أو نحو هذا مِمَّا يُخَفّف عنه ويُقَوِّيه ويُعِينه، ومَغفرة أيْ ومُسَامَحَة عَمَّا قد يَحدث أحيانا فيما بين الناس من أخطاء، وعَمَّا قد يَصْدُر من المُحتاج مِن إلحاحٍ في سؤاله للعوْن أو من بعض سوءِ خُلُقٍ قد يَمنع من مساعدته، أفضل حتما مِن إنفاقٍ بأيِّ نوعٍ من أنواع الإنفاق يَتْبَعه إيذاء بالقول أو الفعل، لأنَّ كلَّ طيِّبٍ هو مُسْعِد للنفس وللغير وله أجره من الله تعالي في الداريْن بينما كل أذي هو يُؤذي ويُتعس وله عقابه منه فيهما، فكلّ خيرٍ إذَن له قيمته حتي ولو كان بسيطا ككلمةٍ ولا يُسْتَصِغَر ولا يُسْتَهَان به وليس الإنفاق فقط والذي قد يكون أحيانا لا قيمة له بل عَدَمه أفضل إذا كان مَصْحُوبَاً ومَتْبُوعَاً بأذي وضرر وتعاسة في الدنيا والآخرة!!.. ".. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)" أيْ والله وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ وبَخلَ الناس جميعا بكل شيء! فهو لا يُشَجِّعهم على الإنفاق لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الإنفاق أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ بالتعاون فيما بينهم يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بعدم الإنفاق تَحدث الأحقاد والمنازعات فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ من المَنِّ والأذي لتركهما والابتعاد عنهما تماما، والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – انْتَبِهُوا واحْذَروا تماما عند إنفاقكم، لا تُبْطِلُوا أيْ لا تُضَيِّعُوا أجور وسعادات نفقاتكم في دنياكم وأخراكم بسبب المَنِّ والأذيَ فيكون مثلكم فى هذا الإبطال كمثل الذي لا يؤمن أيْ لا يُصَدِّق بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار الذى ينفق ماله فقط رئاء الناس أيْ رياءً للناس أي ليُريهم ذلك فيَمدحوه أو يمتنعوا عن ذمِّه ولا يريد به رضا الله وعوْنه وإسعاده له في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنه يكفر أيْ يُكَذّب بهما أصلا وبالتالي فهو ليس له أجر في الداريْن.. وفي هذا التشبيه أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن المَنِّ والأذيَ والرياء وما شابه هذا حتي لا يَتَشَبَّه بمثل ذلك الكافر الذي هذه من أبرز صفاته والذي لا سعادة له في دنياه وأخراه.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. ".. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا.." أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تَنْفِيرٌ شديدٌ مِن فِعْل ما سَبَقَ ذِكْرُه مِن سوء.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذي يُبْطِل نفقته بالمَنِّ والأذَيَ والرياء وما شابه هذا، أو هو لا يُؤمن بالله واليوم الآخر، حالُه وشَبَهُه وحالُ وشَبَهُ نفقته التي لا يَنال عليها خيراً وعطاءً من الله في دنياه وأخراه كحَالِ وشَبَهِ صفوان أيْ حَجَر أمْلَس لا يُنْبِت شيئاً ولكن عليه قليل من التراب الذي يُوهِم مَن يَنظر إليه أنه مِن المُمْكِن أن يُنْبِتَ نباتاً لو بُذِرَ فيه بُذور فنَزل مطر كثير فأزال ما عليه من تراب، فانكشفت حقيقته وتَبَيَّنَ للناظر إليه أنه حَجَر صَلْد أيْ صلْب أمْلَس لا يَصلح لإنبات أىّ شىءٍ منه، فكذلك حال أمثال هؤلاء ينكشفون سريعا وتظهر حقيقة أنهم لا يريدون خيرا حقيقيا كما يظهر أنَّ أعمالهم لا قيمة لها ولا ينفعهم الله بخيراتها الدنيوية والأخروية حيث تَزول بسبب مَنّهِم وإيذائهم ورِيائهم وكُفْر مَن كَفَرَ منهم كما يُزيل المطر التراب.. ".. لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا.." أيْ أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب مَنّهِم وإيذاهم وريائهم وكفر بعضهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. فتَجَنَّبوا ذلك تماما يا أيها الذين آمنوا لتسعدوا فيهما ولا تتعسوا.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلَ غير المسلمين خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المكذبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تشجيعٌ شديدٌ مُشَوِّقٌ على الإنفاق فى كلّ خير.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذين يُنفقون أموالهم وهم مُخْلِصُون مُحْسِنون لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرار رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكذلك يُنفقونها تَثْبِيتَاً من أنفسهم أيْ تثبيتاً لأنفسهم أيْ من أجل تَثبيت أنفسهم علي كل أخلاق الإسلام وعلي حِفْظ هذا العمل الصالح وعلي تَرْك ما يُفسده ويُبْطِله ويُضَيِّعه مِن المَنِّ والأذَيَ والرياء ونحوه، وتثبيتاً أيضا بمعني تحقيقاً لثواب الله وتصديقاً تامَّاً لوعْده، وتثبيتاً كذلك لمَكانتهم عنده تعالي في الدنيا والآخرة، فهم دائما ثابتون علي كلّ خيرٍ ويُثَبِّتُون ويُدَرِّبُون ذواتهم عليه دوْمَاً ويَطلبون من ربهم مزيداً من التثبيت لتستمرّ سعاداتهم الدنيوية والأخروية وتزداد وتَتِمّ وهم ثابتون مُتأكّدون مُتَحَقّقون تماماً أنَّ الله وعده صِدْق لا يُخْلَف مُطْلَقَاً فسيجزيهم أعظم الجزاء في الداريْن.. هؤلاء حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقتهم – وكل أقوالهم وأفعالهم المُخْلِصَة الحَسَنَة الأخري أيضا – التي ينالون عليها ثواب الله المُضاعَف أضعافاً كثيرة في دنياهم وأخراهم كحَالِ وشَبَهِ جَنّة أيْ حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة الزرع لأنها برَبْوَة أيْ في مكانٍ مرتفعٍ قليلا عن الأرض مُتَمَيِّز الهواء والضوء خَصْب فبالتالي شجرها وزرعها يكون أحسن مَنْظَرَاً وأفضل ثمراً، نَزَلَ عليها وابِلٌ أيْ مطرٌ كثيرٌ مُفيدٌ فأعْطَت ثمرها مُضَاعَفَاً.. هذا، ولفظ "ضِعْفين" قد يعني مقدار انتاجها مرتين أو ضِعْفَاً بعد ضِعْفٍ فتكون التثنية للتكثير.. ".. فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ.." أي وحتي إنْ لم يَنْزِل عليها ماء كثير، فطلّ يَكْفِيها أيْ ماء قليل ونَدَيَ، لكي تُؤْتِي أيضا أكُلَها مُضَاعَفَاً!! فهي تُعطي خيراً كثيراً دائماً وعلي أيِّ حالٍ لجودة وطِيب أصل أرضها سواء كَثُر المطر النازل عليها أم قَلّ، والمقصود أنَّ نفقات وأعمال المسلمين المُخْلِصِين المُحْسِنِين لا تَضيع أبداً بل تُقبل عند الله تعالي وتُضَاعَف سواء قَلّت أم كثُرت، وأنهم لا يَمنعون مُطلقاً خيرهم في كل أحوالهم فهم دوْمَاً في كلّ وقتٍ يُقَدِّمون كلّ خيرٍ قَلّ أو كَثُر .. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَراكم ومُطّلِع على كل أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
ومعني "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ ومثالٌ وتشبيهٌ آخر (إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية (264) والتي يُرْجَيَ مراجعتها لتكتمل المعاني) للتحذير من المَنِّ والأذَيَ والرياء وما شابه هذا لتَرْك كلّ ذلك والابتعاد عنه تماما، كما أنَّ فيه ضِمْنَاً تحذيراً من عمل الخير ثم عدم الاستمرار عليه حتي نهاية الحياة والانقطاع عنه وفِعْل الشرّ لفتراتٍ في نهاية العمر ومع كِبَر السِّنِّ، لأنَّ هذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من الحَسَناتِ وقد تَفوقها، فيَتَحَسَّر ويَتعس الذي يَفعل ذلك أشدَّ الحَسْرة والتعاسة علي خسارته وتعاسته الشديدة في دنياه وأخراه.. أي هل يُحِبّ أحدٌ منكم أيها المَنّانُون المُؤْذون المُرَاءُون الفاعِلون للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات أن تكون له حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة مُثْمِرَة من نخيلٍ وأعنابٍ وهما صِنْفان مُتَمَيِّزان نافعان مُرْبِحان لمَن يمتلكهما تطلّ علي الأنهار من المياه التي تجري خلالها فسَقْيها سَهْلٌ مَيْسُورٌ ومناظرها مُسْعِدَة وأرباحها وفيرة وله فيها من كل الثمرات التي يريدها والتي أثْمَرَتْها له من التمر والعنب وغيرهما وحاله أنه قد أصابه ونَزَلَ به الكِبَر في سِنّه والذى أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة وله إضافة لشيخوخته وعجزه ذرِّيَّة ضعفاء صغار لا يَقدرون على العمل وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة والتي هي مصدر مَعِيشته وأولاده يَنْزِل عليها إعصار أيْ ريح عاصف فيه نار فيَحرقها ويُدمّرها فيَفقدها فكيف يكون حاله وحسرته وألمه وتعاسته حينها؟! لا أحدَ عاقل يحب ذلك أبداً قطعاً!!.. إنكم إنْ فَعَلْتم المَنَّ والأذَيَ والرياء والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات والتي هي كالإعصار الذي فيه نار والذي أصاب الجنة التي هي أعمالكم من الخير كان مثلكم فى الحسرة والألم والتعاسة في الدنيا والآخرة كمثل هذا الشيخ الكبير الذى احترقت جنته أيْ ضاعت ثمار أعماله الخيرية وهو في أشدّ الحاجة إليها في مُقابِل كثرة أعماله الشَّرِّيَّة.. ".. كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم الآيات في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي تكونوا بذلك من المُتفكرين أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيستفيدون منها ويسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتفكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أنفقوا دائماً عندما تُنفقون أيّ نوعٍ مِن نَفَقَةٍ، مِن طَيِّبات، جَمْع طَيِّب، ما كسبتم بأعمالكم، والطيِّب هو كلّ جَيِّدٍ مُيَسَّرٍ مُعْتَدِلٍ مُتَوَسِّطٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وهو قطعاً حلال أيْ سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته ولم يُحْصَل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة.. وكذلك أنفقوا من طيِّبات ما أخرجناه لكم من الأرض وعاوَنَّاكم علي إخراجه بقُدْرتنا وعِلْمنا وفضلنا وكَرَمنا ورحمتنا مِن زروعٍ ومعادن وغيرها.. فهذا هو ما يَنشر السعادة بين الجميع في الداريْن.. ".. وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي إنفاق الطيّب.. أيْ ولا تَقْصِدُوا الرَّدِيء مِن كَسْبِكُم بكلّ أنواعه لكي تُنفقوه، والخبيث أيضا هو ما كان ضارَّاً لا نافعاً وتَسْتَقْذره النفس السليمة ولا تَستطيبه، وكذلك ما كان حراماً أيْ لم يَسمح به الله أيْ مَنَعه لضَرَره ولتعاسته وتَمَّ الحصول عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة.. ".. وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ.." أيْ ولن تأخذوا هذا الخَبيث وتَقبلوه لأنفسكم بسبب رَدَاءَته وضَرَره إلاّ أن تُغْلِقُوا أعينكم عَمَّا فيه مِن خبث وتَتَغاضوا عنه.. إنَّ هذا ولا شكّ مِمَّا يَنشر الكآبة والتعاسة بين الناس.. إنه إذا كان هذا حالكم فى قبول ما هو ردىء فكيف تُقَدِّمونه لغيركم؟ إنَّ مِن شأن المسلم الذي يعمل بكل أخلاق الإسلام ألاّ يَفعل لغيره ولا يُعطيه إلا ما يحب أن يفعله لنفسه ويُعطَيَ له، فهذا هو العدل وحُسْن الخُلُق المُسْعِد للجميع في الدنيا والآخرة.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)" أيْ واعْرَفوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنَّ الله هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ وبَخلَ الناس جميعا بكل شيء! فهو لا يُشَجِّعهم على الإنفاق لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الإنفاق أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ بالتعاون فيما بينهم يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بعدم الإنفاق تَحدث الأحقاد والمنازعات فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حميد أي محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
ومعني "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)" أيْ الشيطان وهو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. هذا الشيطان يُعْطِيكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً زائفاً كاذباً بالفقر أيْ الاحتياج – أيْ يُخَوِّفكم منه – بسبب ضياع الأموال والجهود والأوقات وغيرها مِمَّا تمتلكون إذا أنفقتموها في أيِّ خيرٍ لكي تَبْخَلوا ولا تُنفقوا، وهو أيضا يَطلب منكم الفحشاء ويَخدعكم بها أنها لمصلحتكم ولسعادتكم وهي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر، مِن كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، فلا تَسيروا أبداً خَلْف طُرُقاته التي تأخذكم حتما لهذا السوء في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين منه أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة.. ".. وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا.." أيْ والله تعالي خالقكم ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم في المُقابِل يُعطيكم بفضله وكرمه وطَمْأَنته لكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيء في مُقابِل عملكم بكل أخلاق إسلامكم والتي منها إنفاقكم في كل خير هو مغفرة لكلّ ذنوبكم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها وهي لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وَكذلك يعدكم فضلاً أيْ عطاءً واسعا عظيما هائلاً زائداً مُتَزَايِدَاً حيث سيُحَقِّق لكم تمام الخير والسعادة في دنياكم وأخراكم فتكونون بهذه المغفرة وبهذا الفضل أي الزيادة والتنمية والبركة مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فكونوا أيها المسلمون حريصين دوْما علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خير مُجتهدين في ألاّ تخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فعلتموه فعودوا سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)" أيْ يُعطي الله تعالي صِفَة الحِكْمَة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع ووَزْن كلّ أمرٍ بميزانه الصحيح ووَضْعه في مَوْضِعه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ عَبَث مع التخطيط والتدريب والتقييم والتعليم وتبادل الخبرات ونحو ذلك من صُوَر الحكمة والرَّزَانَة والتي هي بسبب العقل الرَّاجِح الرَّزِين والفهم والعلم والوعي والتدبّر والتّعَمُّق، يُعطيها لمَن يشاء من الناس، أي مَن يَشاء منهم الحكمة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، وسَعْيه واجتهاده في هذا، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واستعان بربه ثم بالحكماء الصالحين حوله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269)من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.." أيْ والذي يُعْطَيَ الحِكْمَة فهو حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد أُعْطِيَ خيراً كثيراً حيث بها يكون له تمام الأمن والرضا والاستقرار والسعادة في دنياه وأخراه، وهل هناك خير أكثر وأعظم من هذا؟!! مِن فضله وكرمه وَوُدِّه ورحمته سبحانه.. ".. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)" أيْ ولكنْ لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها
ومعني "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)" أيْ وما أعطيتم وصَرَفْتم من أيِّ عطاءٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. ".. أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ.. " أيْ أو وَعَدْتُم وألْزَمْتُم أنفسكم بإعطاء نَذْرٍ قليلٍ أو كثيرٍ مِن أيِّ نوعٍ مِن مالٍ أو جهدٍ أو فكرٍ أو غيره، والنذر هو وَعْدٌ مستقبليّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ يشترطه المسلم علي ذاته كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق يجتهد في أدائه في موعده ولا يُقَصِّر ولا يُخْلِف وَعْده مع ربه بعدم أدائه.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تفعلوا في دنياكم من أيِّ خيرٍ في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ فإنَّ الله تعالي يعلمه فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. هذا، وإنْ كان الإنفاق والنّذْر في الشرّ سواء في السِّرِّ أو في العَلَن فإنَّ الله حتماً أيضا يعلمه وسيُحاسبكم عليه بما يُناسب من شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7)، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)" أيْ إنْ تُظْهِروا النفقات التي تنفقونها أيها المسلمون بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي وبلا رياء – أيْ ليَرَاكم الناس فيَمدحوكم أو لا يذِمّوكم – فنِعْمَ مَا هِيَ هذه النفقات، فنِعْمَ شيئاً هي يستحقّ التقدير، فنِعْم تلك النفقة، أيْ ما أعظم وأطيب وأجمل أجرها منه سبحانه حيث يُعطيكم مقدارها ومقدار نتائجها وفوائدها للغير سعادة في دنياكم وأخراكم، لأنَّ في إظهارها بهذا الصدق قُدْوَة حَسَنة للآخرين وتشجيعاً لهم علي فِعْل ما يُشبهها وفي ذلك نَشْرٌ لكلّ ما هو خير مُسْعِد للناس في الداريْن، وإنْ تُسِرُّوا ولا تُعْلِنوا نفقاتكم إنْ أمْكَنَ إخفاؤها وتُعطوها للمحتاجين لها فهو أيضا خير لكم فيهما لأنَّ ذلك أبْعَد عن الرياء وأكثر راحة لكم من مقاومته إنْ حَدَثَ ومَنْعَاً لأيِّ إحراجٍ لهم أو لغيرهم مِمَّن لا يستطيعون الإنفاق مثلكم ونحو هذا من خيرٍ ومصلحةٍ وسعادة.. فكُلّاً مِن الأمريْن إذَن خير في الدنيا والآخرة، الإظهار بلا رياء والإخفاء، وبالتالي فعليكم أن تكونوا من الذين يُحسنون تَقْدير المَوَاقِف وتَنظرون أين أكثر الخير والمصلحة والسعادة في الداريْن عند إنفاقكم لأيِّ نوعٍ من أنواع النفقات فإمّا تُخفونها لعدم إيذاءِ أحدٍ أو للبُعْد عن طَلَب الشهرة والسُّمْعَة والمَنْصِب والجَاهِ والمدح الكاذب وغيره من صُوَر الرياء أو لنحو هذا من خيرٍ ومصلحةٍ وإمّا تُبْدُونها تَقصدون انتشارَ خيرٍ مَا.. ".. وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ وإضافة لعظيم أجركم الدنيويّ والأخرويّ فهو تعالي أيضا بسبب نفقاتكم المُخْلِصَة الحَسَنَة يُكَفّر عنكم بمقدارها وأكثر من سَيِّئاتكم أيْ ذنوبكم أيْ يَسترها ويَمحوها ويزيلها ولا يُحاسبكم ويُعاقبكم عليها لأنه كما وَعَدَ قائلاً ووَعْده صِدْق لا يُخْلَف مُطلقا ".. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.." (هود:114).. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)" أيْ ليس عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده (ص) هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآيات من سورة البقرة (75) حتي (78) والآيات (159) حتي (162) عن كيفية نشر الدعوة، والآية (251) عن دَفْع الخير للشرّ، والآية (218) عن صور الجهاد وسعاداته، ثم الآية (109) عن مقابلة الإساءة بالحسنة، والآية (136)، (137) عن الإيمان بجميع الرسل والذي يؤدي لإحسان معاملة كل إنسان من أجل إنسانيته، والآية (139) عن تَرْك الجدال، ثم الآية (207) عن بيع الذات لله وللإسلام، ثم النظر للآية (63) من سورة النساء عن كيفية دعوة المنافقين والمُعاندين، ثم أخيرا الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.." أيْ وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خيرٍ وسعادة لأنفسكم أولا ثم لكلّ مَن حولكم بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياتكم وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادكم في دوام ارتباطكم بربكم وتمسّككم بكلّ أخلاق إسلامكم ونَشْرها ليَسعد بخيرها الجميع، ثم في آخرتكم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر (لمزيد من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..").. " .. وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.." أيْ وهذا إذا كنتم لا تَقْصِدون بالإنفاق إلا ابتغاء وَجْه الله أيْ وجوده وذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. وفي هذا توجيهٌ وإرشادٌ وتنبيهٌ وتذكيرٌ للمسلمين ألاّ يُنفقوا أبداً إلاّ وهم مُخْلِصُون مُحْسِنون أي لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. كما أنَّ الآية الكريمة أيضا تُفيد ضِمْنَاً أنَّ المُتَوَقّع دوْمَاً من المسلم الذي يعمل بأخلاق إسلامه أنه لا يُنفق إلا لابتغاء وجه الله لا لشيءٍ آخر ليكون من المنفقين الذين ينالون هذا الأجر العظيم، فتكون الآية تشجيعاً له علي هذا ومدحاً إذا فَعَله وعوْناً علي الاستمرار فيه.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً يُوَفّ إليكم أيْ ستَأخذون أجوركم عليه وافِيَة غير مَنْقوصَة ودون أيّ ظلمٍ من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ:39) أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته
ومعني "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)" أيْ عليكم أيها المسلمون أن تُحسنوا اختيار صورة الإنفاق الذي ستُنفقونه والمكان والوقت الذي ستُنفقون فيه والأوْلَوِيَّة لمَن تُنفقون ونحو هذا بحيث يمكنكم استحضار أكثر وأعظم نوايا خيرٍ مُمْكِنَةٍ بعقولكم وبحيث تُحقّقون أكبر نفعٍ مُمكنٍ وأكثر نشرٍ مُمكنٍ للخير وأعلي سعادةٍ مُمكنة، كأنْ تجعلوا بعض نفقاتكم مثلا لمَن أُحْصِرَ في سبيل الله أيْ مُنِعَ لله، أي انقطعَ له وللإسلام، فلا يستطيع ضَرْبَاً في الأرض أيْ سَيْرَاً وتَنَقّلاً فيها للعمل والكسب وغيره، كالذي يحمي حدود الوطن، أو ينقطع للعلم نفعا للناس، أو لا يجد عملا مناسبا أو لا يستطيعه فيضعف حاله ويكون من الفقراء أيْ المحتاجين لِكِبَرِ سِنٍّ أو مرضٍ أو نحوه، أو ما شابه هذا من صور الذين أُحْصِرُوا في سبيل الله، ففقرهم لم يكن بسبب تَكَاسُلٍ وإهمالٍ فى اتّخاذ أسباب الغِنَي وإنما كان لأسبابٍ خارجةٍ عن إرادتهم.. ".. يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا.." أيْ ومن صفاتهم أنهم يظنّهم الجاهل بهم الذي لا يعرف ظروفهم أغنياء من التّعَفّف أيْ بسبب التّجَنّب والامتناع والتّرَفّع التامّ الشديد عن سؤال الآخرين ومَدِّ اليَدِ لهم طَلَبَاً لعوْنهم رغم احتياجهم ولكنك تعرفهم أيها الناظر إليهم يا صاحب الخبرة والتّدَبّر القريب منهم بسيماهم أيْ بسِماتِ ومَلامِح وعلاماتِ وتعبيراتِ وجوههم ومَظهرهم وتصرّفاتهم حيث يظهر احتياجهم فهم مُتَعَفّفون تماماً لا يسألون الناس إلحاحَاً وإنْ سألوا فاضطراراً شديداً.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً عليم به فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا ومعني "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)" أيْ هذا أيضا مزيدٌ من التشجيع والمَدْح علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ الذين يعطون من أموالهم ومن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر في جميع الأوقات والأحوال سواء بالليل أو النهار سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فهؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من المُرَابِين أي الذين يتعاملون بالربا وما شابهها من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين يَتعامَلون بالربا وهي طَلَب الزيادة على المال وأشهر صورها الإقراض لمدّةٍ زَمَنِيَّةٍ مُحَدَّدةٍ ثم السَّدَاد بزيادةٍ يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز المواعيد المُحَدَّدَة، فيأخذونها ويتصرّفون فيها بالأكل في بطونهم وبغيره من صور التّصَرُّف.. ".. لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.." أيْ لا يكونون في سَعْيِهِم وتَصَرِّفهم وكل أحوالهم في دنياهم إلا كالذي جعله الشيطان يَتَخَبَّط من الجنون أيْ يتصرَّف كالمجنون بعشوائية وفوضَي وحيرة وتَرَدُّد واضطراب وبلا عقلٍ ولا ضابط، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، فالذين يتعامَلون بالربا والمعاملات الخبيثة كثيراً ما تجدهم أيها المُتَعَامِل معهم والناظِر إليهم مَهْووسِين وكأنَّ عقولهم قد أصابتها لَوْثَة أو مَسَّهم جنون بسبب كثرة قلقهم وتوَتّرهم واضطرابهم وشدّة حرصهم علي أموالهم ورعبهم من انتقام مَن استغلّوهم لسوء معاملاتهم ولكثرة مشاحناتهم وصراعاتهم وبالتالي لا يستمتعون بها ولا يذوقون حلاوتها وسعاداتها وكثيرا ما ينفقونها في أمراضٍ وغيرها، وكذلك حالهم في أخراهم حيث لا يقومون من قبورهم للقاء الله تعالي لحسابهم إلا قياماً كقيام المُتَخَبِّط المَجنون وذلك لشدّة رُعْبِهم من عذابه بسبب أكلهم الربا الذى حَرَّمه سبحانه.. ".. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.." أيْ ذلك الحال السَّيِّء التّعِيس الذي يكونون فيه في دنياهم وأخراهم سببه أنهم قالوا كاذِبين مُزَوِّرِين خَالِطِين الحقَّ بالباطل إنَّ البيع والشراء والتجارة ونحو هذا مِمَّا أحَلّه الله يُشبه الربا الذى نتعامَل به فى أنَّ كلاًّ منهما يُؤدّي إلي زيادة المال!!.. ".. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.." أيْ هذا فَضْحٌ وكَشْفٌ لادَّعائهم الكاذب، أيْ ادَّعَوْا كذباً ما ادَّعُوُه مع عِلْمهم بتفريق الله بين هذا وذاك، فالحقّ والحال الصحيح أنَّ الله قد سَمَحَ بالبيع ومَنَعَ الربا، وما كان لهم أن يعترضوا على وَصَايا ربهم لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، والحِكْمة واضحة لكلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ البيع يُنْعِش العمل والإنتاج والتجارة والصناعة وغيرها فتَنْعَدِم البطالة ويَقْوَيَ الاقتصاد ويرتفع المستوي الاجتماعي والثقافي والعلمي والسياسي وغيره فيسعد الجميع في الدنيا والآخرة، بينما الربا مُحَرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله لأنها كَسْبٌ بغير عملٍ وإنتاجٍ فتنتشر البطالة ويَضعف الاقتصاد ثم هي تَنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيَفقد الجميع تَجَانُسَهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيَتعسون في الداريْن.. ".. فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ.." أيْ فمَن وَصَلَهُ تَذْكِرَةٌ وتَوْصِيَة مِن ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – عن حُرْمَةِ الربا وعَلِمَ بها من خلال مَن يُيَسِّره الله له لِوَعْظِه فامتنعَ عن التعامُل بها فله ما سَلَف أيْ ما سَبَقَ من المعاملات الربوية قبل أن تَصِلَه الموعظة أيْ فله ما كان قد أكل وأخذ من الربا قبل معرفته وعِلْمه بالتحريم لا إثم عليه فيه ولا يُسْتَرَدّ منه، جزاءً لقبوله للنصيحة وتشجيعاً له علي التوبة حتي لا يَسْتَثقلها كما أنه من المُحْتَمَل أن يكون هذا المُرابِي قد رَتّبَ حياته ترتيباً على ما كان يأخذه من ربا قبل علمه بالتحريم فإذا كان الأمر كذلك فإنه تعالى يَعفو عَمَّا سَلَفَ برحمته ومراعاة لحاله رغم ما فَعَلَه ولأنَّ في حساب كلّ ما سَبَقَ أكله وإخراجه مَشَقّة شديدة عليه ثم هو سبحانه يُعَوِّض ويُرْضِي بكرمه وفضله في الداريْن الذين قد تَضَرَّروا مِمَّا أخذه منهم هذا المُرابِي من زياداتٍ علي ديونهم التي أقرضهم إيّاها، فالإسلام يَمحو السابق من أيِّ سوءٍ لمَن يَتوب وقانونه لا يُطَبَّق على الماضي قبله، لكن ليس للتائب أيّ حقّ رِبَوِيّ بعد علمه بالتحريم، وإنْ أكلَ الربا بعد التحريم فإنه لا تَمْحُوه توبة حتى يُعطِي المال لصاحبه، لأنه أكلٌ لمالِ الناس بغير حقّ، وقد أكَلَ بعد العلم بالتحريم، فإنْ لم يَعْرِف له صاحب فإنَّ عليه أنْ يَتَصَدَّقَ به في المصالح العامة للمسلمين كالطرق والمدارس والمستشفيات ونحو هذا، ولعلّ الله سبحانه وتعالى يقبل توبته وهو الغفور الرحيم.. ".. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.." أيْ وأمر تحريم الربا هو إلي الله لا إلي غيره، وكذلك أمر هذا المُرَابِي التائب بمجرّد عِلْمه بالتحريم مُفَوَّض مَتْرُوك إلى عَفْو الله تعالى فهو الذى يُعامله بما يناسب فضله وكرمه ورحمته، وأيضا أمره كله مَوْكُول إليه سبحانه، كلّ شئون حياته بعد توبته، فهو وَكِيله، فهو الذي سيَرحمه علي تَعَامُله بالربا قبل التوبة وهو الذي سيُثَبِّته علي تَوْبته وعلي أخلاق الإسلام بعدها فلا يَتراجَع وهو الذي سيُعَوِّضه أضعافاً كثيرة بالبركة في الحلال الذي سيَعمل فيه بدلاً عن الربا المُحَرَّمَة وسيَجعله يعيش في إطار هذه الرحمات والبركات والسعادات في دنياه ثم أخراه وهو الذي سيُرْضِي ويُعَوِّض في الداريْن الذين تَضَرَّروا من معاملاته، وبالجملة سيَجد حتما كلّ مَن يُوُكِلُ أمره إلي الله بعد توبته وعموما ودوْمَاً الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَنْ عَادَ.." أيْ ومَن عاد إلى تحليل الربا بعد علمه بحُرْمَتِها، فهو مُحَلّلٌ لِمَا حَرَّمَ الله مُكَذّبٌ به مُعانِدٌ له مُسْتَكْبِرٌ عليه وقد حَكَمَ تعالي أنه خالدٌ في النار ولا يُخَلّد فيها مؤمن ولذا فهو كافر، وهذا هو معني ".. فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)" أيْ فهؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفة السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ومَن عادَ مِن المسلمين للتعامُل بالربا وهو لا يُحَلّلها فقد ارتكبَ ذنباً كبيراً يُحاسَب علي قَدْره بما يُناسِب في الداريْن من الله تعالي لكنْ لا يُخَلّد بالقطع في النار، ويكون لفظ "خالدون" بالنسبة للمسلم يعني المُبَالَغَة في البقاء فيها لمدة طويلة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره لكن ليس بلا نهاية كالكافر
ومعني "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)" أيْ يزيل الله تدريجيا شيئا فشيئا الزيادة المأخوذة من الربا بأن يَنْزِع منها البركة أيْ لا يستمتع بها مَن يتعامَل بالربا استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدها بعضها أو كلها فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهي إذن قليلة دنيئة زائلة يوما ما، بل مِن كثرة شروره هو غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هو في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا، فبالجملة هو كما جاء في الآية (275) والتي يُرْجَيَ مراجعتها لتكتمل المعاني لا يَتَصَرَّف في حياته ".. إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..".. ثم في آخرته له حتماً ما يَنتظره من عذابٍ يُناسب ما فَعَلَ مِن شرور ومفاسد وأضرار.. ".. وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.." أيْ ويُرَبِّي أيْ يُنَمِّي ويُبارِك أيْ يزيد سبحانه في المُقابِل الصدقات وهي كل ما يُنفقه المُنفقون مِن أيِّ خيرٍ بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي في أيِّ وجهٍ مِن وجوهه، فيَجدون أثر هذا النماء لهم مِن كلّ خيرٍ في دنياهم أولا مُتَمَثّلاً في كل رعايةٍ وأمنٍ وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وفي هذا تبشيرٌ تامٌّ للمُنفقين المُبْتَعِدين عن التعامُل بالربا وتحذيرٌ شديدٌ للمُتعامِلِين بها لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العقاب لهم فيهما.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)" أيْ والله بالقطع لا يحب مُطلقا كل كفّار أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها الذي قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَستكبر ويَستهزيء ويُبالِغ في ذلك ويُصِرّ عليه ويَتَمَادَيَ فيه والذي هو أثيم أيْ كثير الفِعْل للآثام، أيْ للذنوب، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكلّ أنواعها، سواء أكانت كفرا أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب كفره وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ.." أيْ ووَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَآتَوُا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال.. ".. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)" أيْ هؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوا الله وراقبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.." أيْ واتركوا طَلَبَ ما تَبَقّيَ لكم من زيادةٍ على رؤوس أموالكم التي لكم عند الآخرين الذين تَتَعامَلون معهم بالربا بعد عِلْمكم بتحريمها، فما أخذتم قبل العلم بذلك فهو يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة معني ".. فَلَهُ مَا سَلَفَ.." في الآية (275) لتكتمل المعاني)، أمّا ما يُؤخَذ من بعد ذلك حتي ولو كان باتفاقٍ سابقٍ للعلم بالتحريم فإنه حرام فاتركوه.. ".. إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)" أيْ فإنْ لم تفعلوا ما أمركم الله به من تَرْك الربا فاعْلَموا واسْتَيْقِنوا، أيْ كونوا علي علمٍ ويقينٍ بحربٍ قاسيةٍ واقِعَةٍ حتماً من الله ورسوله لعدم تنفيذكم أمره.. ومَن هو هذا المخلوق الذي لا شيء بالنسبة لخالِقه يُمكنه محاربته وهو القادر علي كل شيءٍ وعلي عذابه وإهلاكه بكل الأشكال؟!.. إنها حربٌ ستكون في دنياكم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراكم سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ..إنَّ حرب الله تعالي تكون بجنودٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه أمّا حرب رسول الله (ص) فجنودها هم المسلمون الذين عليهم أنْ يَتَنَاصَحُوا فيما بينهم لمَنْع الربا بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مُتَاحَةٍ مُبَاحَة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء المُخَالِفِين، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)" أيْ وإنْ تُبْتُم عن التَّعامُل بالربا أيْ رَجعتم إلى ربكم وإسلامكم وتركتموها فلكم أَخْذُ أصول أموالكم كاملة غير مَنْقُوصَة لكن بلا أيِّ زيادةٍ قَلّت أو كَثُرَت وبذلك لا تَظْلِمون أحدًا فتُعَاقَبُون في الداريْن بأن تأخذوا ما زاد على رؤوس أموالكم ولا تُظْلَمون من أحدٍ بأنْ يُنْقِصَكم ما أقرضتموه إيّاه عند رَدِّه إليكم أو يُمَاطِلكم في الرَّدِّ وهو قادر عليه حيث قد يفكر البعض في ذلك أو يفعله انتقاما مِمَّن أقرضهم بالربا واسْتَغَلَّ حاجتهم فيكون هو أيضا ظالماً يُعَاقَب علي فِعْله الظالم في دنياه وأخراه بما يُناسِب
ومعني "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)" أيْ وإنْ كان الذي عليه الدَّيْن لكم صاحب عُسْرَة أيْ شدّة وضائقة مالية لا يستطيع سداد رؤوس أموالكم فانتظارٌ وتأجيلٌ منكم هو الواجب عليكم إلي حين مَيْسَرَة أيْ يُسْر أيْ تَيَسُّر الحال بحيث يمكنه أداء ما عليه بيُسْرٍ وسهولةٍ دون مَشَقّة.. ".. وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ.." أيْ وإنْ تَتَصَدَّقوا علي المُعْسِر بأنْ تَتَنَازَلوا له عن بعض أو كلّ ما لكم من دَيْنٍ عليه حسب حاله وحالكم فهو حتماً خير لكم في الأجر الدنيويّ والأخرويّ من أجر الانتظار والتأجيل حتي يُسَدِّده حيث ستَأخذون أجوركم العظيمة التي لا تُوصَف من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ:39) أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته.. وفي هذا تشجيعٌ علي أخلاق التكافل والتسامح والتراحُم والإخاء والحب بين أفراد المجتمع كله التي يُوصِي بها الإسلام حيث القادر يُعين العاجز وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون ويَقْوَيَ ويَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بغير هذه الأخلاقيات الطيبة يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)" أيْ وخافوا يوماً شديداً واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن هو يوم الحساب يوم القيامة الذي تعودون فيه إلي الله خالقكم حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً حيث تُوَفّيَ أيْ تُعْطَيَ حتما كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يَحفظون الحقوق، لذاتك وللآخرين، في كل المعاملات، لا تَظْلِم ولا تُظْلَم، فأنت دوْمَاً عادل في كل أقوالك وأفعالك، لأنه بالعدل يُحْفَظ لكل صاحب حقّ حقّه ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.." أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا دَايَنَ بعضكم بعضا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ إلى أجلٍ مُحَدَّدٍ معلومٍ فاكتبوا هذا الدَّيْن حِفْظَاً لحقوق الجميع ومَنْعاً للنزاع بينهم، فيُكْتَب ويُسَجَّل تفاصيله ونوعيته وكيفية أدائه وتوقيته ومكانه ونحو ذلك، إلا إذا كان شيئاً بسيطاً تَعَارَفَ واعتادَ الناس علي عدم كتابته فلا يُكْتَب للتَّيْسِير عليهم.. ".. وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.." أيْ ولْيَقُمْ بالكتابة فيما بينكم وبحضور الأطراف كلها كاتبٌ خبيرٌ مُتَخَصِّصٌ تَقِيٌّ عادلٌ مُتَوَافَق عليه منهم يَكتب بالعدل والحقّ والصدْق ولا يُخْفِي شيئاً ولا يَظْلِم أحداً ولا يزيد ولا ينقص ولا يَغِشّ ولا يَحْتال ولا يَتَلاَعَب ونحو هذا من صور مُخَالَفَة العدل.. ".. وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.." أيْ ولا يَمتنع ويَرفض كاتبٌ ما دام كان قادراً علي الكتابة خبيراً بها ودُعِيَ إليها مِن أنْ يكتب الدَّيْن بين المُتَدَايِنِيِن، فَلْيَكْتُب كتابة مِثْلَمَا عَلّمه الله إيّاها بمعنى أن تكون بطريقةٍ يلتزم فيها الحقّ والعدل ولا يُخالِف أخلاق الإسلام وقوانينه، وأيضا لأنه كما عَلّمه الله إيّاها ويَسَّرَها له ونَفَعه بها وجعله مُتَخَصِّصَاً فيها فعليه ألاّ يَمتنع أن ينفع كذلك ما استطاع غيره بها ليكون ذلك شكراً له سبحانه علي هذا العلم وحُسْنَاً لاستخدامه في الخير كما طَلَبَ منه، ولفظ "فَلْيَكْتُب" يُفيد مزيداً من التأكيد عليه ألاّ يَأْبَيَ الكتابة..".. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.." أيْ ولْيَقُمْ الذي عليه الدَّيْن بإملاء دَيْنه للكاتب الذي سيَكتب، ولْيَخَف الله ربَّه ويُراقِبه ويُطيعه ويجعل بينه وبين عذابه وقاية فلا ينقص من الدَّيْن أيَّ شيء – وكذلك الكاتب بالقطع – ليكون هذا الإملاء بنفسه اعترافاً منه وإقراراً بالذي عليه وتكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره فلا يُظْلَم بشيءٍ لأنَّ موقفه غالبا هو الأضعف فيُقَوِّيه الله تعالي بهذا حتي لا يَظلمه الدَّائِن وقد يَضعف عن الشكوي كما قد يحدث أحيانا، وهو أيضا لا يَظلم الدائن له بأن يَتّقِي الله ولا يَبْخَسه شيئا.. هذا، والله تعالي يُذَكّر كلّاً من الدَّائِن والمَدِين بأنه ربّه أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وذلك لإلهاب مشاعره ليكون أسرع استجابة لِمَا يُوصِيه به.. ".. فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.." أيْ فإنْ كان الذي عليه الدَّيْن سفيها أي ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور، أو ضعيفاً أيْ صغيراً أو مريضاً أو مُسِنَّاً أو نحو هذا، أو لا يستطيع أنْ يُمِلَّ هو بنفسه لعدم خبرته بمِثْل هذه الأمور أو لأنه أخْرَس لا يتكلم أو به مرض يمنع الكلام أو ما شابه هذا، فحينها فلْيَقُم بالإملاء وليّ أمره الذي يتولّيَ شئونه لعَجْزه أو وكيل عنه يَرْضاه أو مَن يهمّه شأنه ولا يَرْضَىَ له أن يضيع حقه علي أن يلتزم قطعا بالعدل بلا ظلمٍ لأيّ طرف.. ".. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ.." أيْ واطلبوا شاهِدَيْن عادِلَيْن من رجالكم المسلمين ليشهدوا على ما يكون بينكم من مُعاملاتٍ مُؤَجَّلَة، فهذا بعد كتابتها يُعطيها مزيداً من التوثيق والتأكيد فيزداد حفظ الحقوق ومَنْع الصراع.. والتعاسة..".. فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ.." أيْ فإنْ لم يَتَيَسَّر وجود رجلين فاطلبوا شهادة رجل وامرأتين مسلمتين – وكل الشهود لا بُدّ أن يكونوا مِمَّن ترضون شهادتهم أيْ من الذين تعلمون وتتأكدون أنهم عادلون موثوقون مُحْسِنون لضبط الأحداث وتَذَكّرها لا ينسونها ولا يخافون قول الحقّ أتقياء حُكَماء مُتّزنون يَتَرَاضَيَ ويَتَوَافَق عليهم الأطراف كلها – بحيث إنْ ضَلّت أيْ نَسِيَتْ أو أخطأت إحداهما بسبب تغليبِ عاطفةٍ أو خوفٍ أو غيره كما يحدث أحيانا مع النساء ذكَّرتها الأخرى، وذلك إذا حَدَثَ خلافٌ وطُلِبَ منهما الشهادة علي ما شَهِدَا عليه.. ".. وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا.." أيْ ولا يَرفض ويَمتنع الشهود إذا طُلِبُوا للشهادة علي المُعامَلات المُؤَجَّلَة وغيرها من أنواع الشهادات المختلفة في كل شئون الحياة ما داموا يستطيعون وليس هناك عذر مَقبول يَمنعهم من أدائها لأنَّ الامتناع عنها قد يُؤَدِّي إلي ضياع الحقوق وغياب العدالة وانتشار الظلم فيَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن.. ".. وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ.." أيْ ولا تَمَلُّوا وتَتَضَايَقُوا أن تكتبوا الدَّيْن قليلاً أو كثيراً إلى وقته المُحَدَّد المَعلوم حتي إذا تَكَرَّر ذلك لأنَّ الصغير عند الفقير يكون كبيراً والكبير عند الغَنِيّ يكون صغيراً ولأنَّ الاعتياد علي التَّهَاوُن فيما هو صغير قد يُؤدّي إلي ضياع ما هو كبير، إلا إذا كان شيئا بسيطاً تَعَارَف واعتادَ الناس علي عدم كتابته فلا يُكْتَب للتيسير عليهم.. ".. ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا.." أيْ ذلك كله الذي نُوصِيكم به هو أعدل عند الله في شَرْعه أيْ الإسلام، وأكثر استقامة للشهادة أيْ أثْبَت لها وأَعْوَن علي إقامتها وأدائها عند طَلَبها فتكون سليمة مستقيمة دون اعْوِجاجٍ وأقوي للدلالة علي صِحَّتها لأنَّ الكتابة لا تُنْسَيَ بينما الشهادة الشفويَّة قد تُنْسَيَ أو يَغيب الشَّاهِد أو يُمْنَع أو يموت أو نحو هذا، وأدني أيْ وأقْرَب أن لا تَشُكّوا فيما بينكم بأيِّ صورةٍ من صور الشَّكِّ بخلاف الشهادة بدون كتابة، فإذا كُتِبَ نوع الدَّيْن ومقداره ومدّته وغير ذلك مِمَّا يُحْتَاج إليه لم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيُّ شَكّ.. إنه بهذه الوَصَايَا يُحْفَظ لكلِّ صاحبِ حقّ حقّه ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا.." أيْ إذا تَدَايَنْتُم فتَكَاتَبُوا وأشْهِدُوا لكن إذا كان هناك تجارة السلعة فيها حاضِرَة مع البائع والثمن مع المشتري تَتَعَاطُونها وتُكْثِرون إدارتها والتّعامُل فيها وتُدَار فيما بينكم بأنْ يَتِمَّ التسليم والتّسَلّم فورياً بلا دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فليس عليكم حَرَج ألاّ تكتبوها لأنه لا ديون أصلا.. ".. وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.." أيْ ويُفَضَّل وجود شهودٍ ونصوص عقودٍ مُفَصَّلَة مَا أمكن إذا بِعْتُم واشْتَرَيْتُم لمَنْع أيّ خِلافٍ مستقبليّ خاصة في السلع الكبيرة والمُعَمِّرَة كالعقارات والأراضي ونحوها، لكن ليس فيما هو بسيط ويحدث يوميا وسريع الاستهلاك كالطعام والشراب ونحوه، وكل ذلك منعاً للمَشَقّة علي الناس وتيسيراً لحياتهم مع حفظ حقوقهم وإسعادهم في الداريْن.. ".. وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.." أيْ ولا يُضَرّ مُطلقاً مَن يَكتب ويُسَجِّل الديون والعقود وكذلك مَن يَشهد عليها، بواسطة صاحب حقّ أو مَن عليه حقّ، مِن خلال تهديدٍ مثلا أو دفع رشوةٍ أو ما شابه هذا من أجل تغيير الحقائق وأكل الحقوق بغير الحقّ، أو حتي إضرارهم بمجرد حجزهم لأوقاتٍ طويلة أو أخذهم لمسافاتٍ بعيدة أو وقت انشغالهم من أجل الكتابة أو الشهادة أو نحو ذلك من أشكال الإضرار صغرت أم كبرت.. والعكس أيضا صحيح، أي لا يُضَرّ مُطلقاً مَن له أو عليه حقّ بواسطة كاتبٍ أو شهيدٍ بزيادةٍ أو نقصانٍ أو تَلاعُبٍ أو غيره من صور عدم العدل والظلم.. ".. وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.." أيْ وإنْ تفعلوا ذلك الإضرار وما يُخالِف أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام فإنه خروجٌ بكم عن طاعة الله ولاَحِقٌ بكم عقابه في الداريْن بما يُناسب.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.." أيْ والله تعالي يُعَلّمكم كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فاستجيبوا له إذَن واعملوا بكل أخلاق إسلامكم ليَتحقّق لكم ذلك.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)" أيْ والله تعالي عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)" أيْ وإذا كنتم في سفرٍ ولم تجدوا مَن يَكتب لكم الدَّيْن، أيْ إنْ تَعَذّرَت كتابة الدَّيْن المُؤَجَّل لوقتٍ ما لسببٍ من الأسباب كسفرٍ أو غيره، فليكن ضَمَان الدَّيْن رهناً يَقبضه أيْ يأخذه الدَّائِن من المَدِين، أيْ فلْيُقَدِّم الذي عليه الدَّيْن شيئا مقبولا للدائن قد يُقَارِب دَيْنَه يُسَمَّيَ رَهْنَاً – والجمع رِهَان – يَرهنه أيْ يَحبسه ويُبقيه عنده ضماناً لحقّه حتي يَرُدَّ له ما عليه مِن ديْن، وذلك عند عدم الكتابة للدَّيْن سواء كنتم مسافرين أم مُقِيمين في بلادكم.. ".. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ.." أيْ هذا تذكيرٌ بالأمانة والوفاء والتقوي وتشجيعٌ علي العمل بها وبكل أخلاق الإسلام في كل شئون الحياة ليسعد الجميع بذلك في الداريْن.. أيْ فإنْ اطْمَأَنَّ بعضكم لبعضٍ ووَثَقَ به، فلا حَرَجَ في تَرْك الكتابة والإشهاد والرَّهْن، ويَبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المَدِين، وعليه أن يكون عند حُسْن ظنِّ الدائِن وهو الذي أعطاه بلا شروطٍ حيث لا يتوقع منه شرّاً وخيانة فيُعامله بإحسانٍ مُمَاثِلٍ فيُؤَدِّي هذا الذي اؤْتُمِنَ أيْ المَدِين ما اؤْتُمِنَ عليه من أمانةٍ عنده وهو الديْنٍ فى الموعد المُحَدَّد بلا تأجيلٍ دون عذرٍ مقبولٍ أو مُمَاطَلَة أو نحو هذا بل مع شكره علي حُسْن ظنّه به وعوْنه، وعليه أثناء ذلك ومِمَّا يُعينه علي الوفاء الحَسَن أنْ يَتّقِى الله ربّه فى رعاية حقوق غيره أيْ يَخافه ويُراقِبه ويُطيعه ويجعل بينه وبين عذابه وقاية فلا يَخون الأمانة التي عنده ويُنْكرها ويَتَلاَعَب بها وما شابه ذلك من صور الخيانة.. هذا، والله تعالي يُذَكّر المَدِين – وكلّ إنسانٍ قطعا – بأنه ربّه أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وذلك لإلهاب مشاعره ليكون أسرع استجابة لِمَا يُوصِيه به.. ".. وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ.." أيْ ولا تُخْفوا الشهادة مُطلقاً عند طَلَبها منكم، في أيِّ شأنٍ شاهَدْتموه، فقوموا بأدائها علي أكمل وجهٍ كما شاهدتم تماماً بكل عدلٍ وصدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا.. فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما، ولذلك ".. وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.." أيْ ومَن يُخْفِيها فإنه حتماً يأثم عقله وهو آثمٌ فاجِرٌ شُعُورُه، أيْ يَرْتَكِب إثماً فظيعاً أيْ شَرَّاً شَنِيعَاً يُتعسه في دنياه وأخراه مِن أثر ما فَعَل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْرُه مِن عدم كتمانها وإلا حَدَثَ الضرر والإثم الشديد الذي يُوجِب العقاب لكاتِمها بما يُناسب في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله بكل تأكيد عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
تفسير الآية (284)
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُحَوِّلون ما يَدور في عقولهم أحيانا من أفكارٍ في الشرّ إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئة شَرِّيَّة علي أرض الواقع، بل يُقاومونها ويَتناسونها ويَفعلون عكسها، أيْ يقولون كلّ خيرٍ ويعملون كل خير، فحينئذ يكون لهم أعظم الثواب والسعادة في الداريْن علي مقاومتهم وفِعْلهم الخير، وما يَمُرّ بالعقل وقتها من خواطر سيئة فهي يُعْفَيَ عنها بكل تأكيدٍ كما يقول الرسول (ص) مؤكّداً ذلك " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" (أخرجه البخاري ومسلم).. لكنْ مَن يستمرّ في التفكير الشَّرِّيِّ بعقله ويُخَطّط ويُدَبِّر للشرّ استعداداً لتنفيذه، فهذا ولا شكّ قد دَخَلَ في أوُلَيَ مراحل فِعْل الشَّرِّ وعليه إثمه ويحاسبه ربه عليه سواء نَفّذَ تفكيره السَّيِّء هذا واقعيا وفِعْلِيَّاً أم لا، فإنْ نَفّذه زادَ ذنبه واشتدّ حسابه علي قَدْر جريمته وما حَقّقت من أضرار وتعاسات.. وهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه بداخل خَلْقه فهو له ما في السماوات وما في الأرض وهو علي كل شيءٍ قدير.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
هذا، ومعني "للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)" أيْ له سبحانه كل ما فيهما فهو خَلْقه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. ".. وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ.." أيْ وبالتالي إنْ تُظْهِروا ما بداخل عقولكم من فكرٍ في الخير أو الشرّ أو لا تُظهروه فهو بكل تأكيدٍ عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم (برجاء لاكتمال المعاني ومعرفة كيفية الحساب علي الخَواطِر بالعقل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة).. ".. فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ وبناءً عليه فهو يغفرُ للذي يَتُوب من ذنوبه أيْ يُسقطها عنه ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر : 53)، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ.." أيْ وأمَّا مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. " .. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
تفسير الآية (285)، (286)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)" أيْ صَدَّقَ الرسول الكريم محمد (ص) تصديقاً تامَّاً بلا أيِّ شكّ أو تَرَدّد بما أوحي إليه من ربه وهو القرآن العظيم، وكذلك المؤمنون أيْ المُصَدِّقون، كلٌّ من الرسول والمؤمنون صَدَّقَ بوجود الله وبأنه الرَّبّ والإله، والربّ هو خالِق جميع الخَلْق ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال قرآنه وما به من أخلاق إسلامه، والإله هو المَعْبُود أيْ هو وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، وذِكْر إيمان المؤمنين مع إيمان الرسول (ص) يُفيد عظيم التشريف والتكريم والرِّفْعَة لهم والطّمْأَنَة إلي أنهم ما داموا صادقين في إيمانهم مستمرّين عليه من خلال تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم كانت منزلتهم عند الله تعالى في دنياهم وأخراهم قريبة من منازل الرسل الكرام.. وكذلك كلٌّ منهم آمَنَ بوجود ملائكته جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه غير مَرْئِيّ خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه وهي لا تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كلّ ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير.. وآمَنوا أيضا بكتب الله كلها وآخرها القرآن الكريم والتى أنزلها مُرْشِدَة ومُوَجِّهَة للخير وللسعادة لكلّ البَشَر منذ خلقهم بما تحتويه من أخلاق الإسلام التي تُناسب كل عصرٍ من أجل إصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في الداريْن، وآمنوا بكل رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) الذين أرسلهم مُوحِيَاً إليهم هذه الكتب ليُبَلّغوا ويُعَلّموا ما فيها للناس وهم بَشَر مثلهم من بينهم يتّصِفون بكمال أخلاقهم ليَثقوا فيهم فيَتّبعوهم.. ".. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة كذلك أنهم لا يُفَرِّقون ولا يُمَيِّزون بين أحدٍ من هؤلاء الرسل الكرام فيُكَذّبون ببعضهم ويصدقون بالبعض الآخر، فهم حريصون كل الحرص ألاّ يَنْحَرِفوا فيَتعسوا في الداريْن بأنْ يَتَشَبَّهوا ببعض المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين الذين آمنوا ببعض الرسل كموسي (ص) وكتابه التوراة وعيسي (ص) وكتابه الإنجيل وكَذّبوا بغيرهم وببعض ما في كتبهم مثلما حَدَث وكَذّبوا بالرسول الكريم محمد (ص) وبالقرآن الذي أُوحِيَ إليه كله أو بعضه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم لأنَّ الكتب كلها التي حَمَلَها كلّ الرسل أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد والإيمان بذلك – وبالملائكة – هو استكمالٌ للإيمان بالله تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَد ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة كذلك ومن مظاهر وعلامات صَدْقِ إيمانهم تأكيدهم علي ما استقرّ في عقولهم ومشاعرهم من الإيمان بتطبيقهم العمليّ له في واقع حياتهم باتّباعهم لكل أخلاق إسلامهم قائلين سمعنا قولك يا ربنا في قرآنك الكريم وأطعنا كل ما فيه واستجبنا له وعملنا به، سمعنا أخلاقيَّاته وتشريعاته وأنظمته سَمَاعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالنا وأعمالنا في كلّ شئون حياتنا لنَصْلُح ونَكْمُل ونَسْعَد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. ".. غُفْرَانَكَ رَبَّنَا.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة أيضا أنهم مُحِبِّين دَوْماً لمغفرة الله تعالي دائِمي التواصُل معه والدعاء له والاستعانة به والطلب للغفران منه قائلين اغفر لنا تقصيرنا بفضلك وكرمك ورحمتك فأنت ربنا أيْ خالِقنا ومُرَبِّينا وراعِينا ورازقنا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة العالِم تمام العلم بنا وبأحوالنا وضعفنا، وأنت الغفور أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، وأنت الرحيم أيْ كثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ".. وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)" أيْ ومن صفاتهم الحسنة أيضا تأكّدهم بلا أيِّ شكّ ببَعْث الله لهم في الآخرة بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا لحسابهم.. أيْ ومصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليك وحدك لا إلي غيرك، وأنت أعلم بهم تمام العلم، فتُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه إليك وحدك لا إلي غيرك المصير أيْ المَرْجِع في الدنيا فأنت سبحانك الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاتك وأنظمتك وأخلاقياتك التي بَيَّنْتَها وفَصَّلْتَها للبَشَر في الإسلام الذي أرسلته إليهم عن طريق رسلك
ومعني "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)" أيْ الله تعالى العادل الكريم الرحيم الودود العالم بتمام العلم بكلّ شيءٍ في كوْنه وعن خَلْقه لا يُكَلِّف نفساً أيْ لا يُوصِي ويُلْزِم أحداً من الناس في الإسلام إلا بما في وُسْعه، والوُسْع هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقاته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..").. ".. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.." أيْ ولذلك فلها ثواب وجزاء وعطاء ما كسَبَت من حسناتٍ بسبب أعمالها الصالحة في الدنيا تناله بما يُناسبها من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياها ثم أخراها، وعليها أيضا فيهما عقاب ما اكتسبت من سيئاتٍ بسبب أعمالها السَّيِّئة فيها بما يناسبها من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.." أيْ فادعوا ربكم إذَن دائما لتنالوا الرحمة والخير والسعادة أيها المسلمون مُتَوَسِّلِين قائلين ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تُعاقِبنا إنْ نَسِينا شيئاً مِمَّا وَصَّيْتنا به في الإسلام فلم نعمل به أو أخطأنا بفِعْل شيءٍ مَنَعْتَنا عن فِعْله فيه.. إننا يا ربنا نُعَظّمك ونُقَدّرك حقّ التعظيم والتقدير ولا نَجْرُؤ على عصيانك عَمْداً وإنْ عصينا فإنما يكون العِصْيان نسياناً أوْ خطأ، فاغفر لنا برحمتك وكرمك وفضلك الأسباب التي فَعَلْناها وأَدَّت لهما كالتفريط وعدم المُبَالاة والانشغال وما شابه هذا.. ".. رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا.." أيْ وندعوك أيضا يا ربنا أن لا تُلْقِي وتَضَع علينا وتُحَمِّلنا إصْرَاً – والإصْر هو الشيء والعِبْء الثقيل الذي يثقل على الإنسان ويُتْعبه ويجعله في شقاءٍ وتعاسة – كما ألقيته علي أممٍ سابقة وحَمَّلْتهم إيَّاه، والمقصود أن تُعيننا دائما علي كلّ خيرٍ وألاّ نَقَعَ في شَرٍّ ونستمرّ ونُصِرّ عليه دون توبةٍ ورجوعٍ إليك وإلي إسلامنا فيُصيبنا بسبب أفعالنا وكنتائج لها عقابا منك مناسبا لها شاقاً تَعيسَاً علينا في دنيانا وأخرانا كما أوقعت مثل ذلك العقاب الشاقّ المُتْعِس علي فاعِلِي الشرور والمَفاسد والأضرار من السابقين قبلنا المُخالِفين لدينك الإسلام.. ".. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التّوَسُّل لعدم التّحْمِيل بالإصْر مع إضافة وتعميم أيّ مصائب واختبارات أخري سواء أكانت بسبب ذنوب الناس أم من الله تعالي لاختبارهم ليخرجوا منها مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، بحيث لا تكون فوق طاقتهم وإمكاناتهم فلا يستطيعون الصبر عليها فيقعون في الشرور فيتعسون في دنياهم وأخراهم، وكأنهم يقولون وندعوك أيضا يا ربنا أن لا تُحَمِّلنا ما فوق طاقتنا ونحن على استعدادٍ بعَوْنك لما هو قَدْر الطاقة – وقَدْر الطاقة يعني أن يستهلك الإنسان ما أمكنه من قُدْرة بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل بينما الوُسْع والذي هو الأصل كما قال تعالي " لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاّ وُسْعَهَا.." هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقته بعده الشيء الكثير – وهذا يدلّ علي استعدادهم التامّ للعمل بكل أخلاق الإسلام حتي وإنْ حَدَثَ أحيانا بعض مَشَاقّ تستهلك معظم طاقتهم، والله تعالي برحمته وفضله وكرمه حتماً لن يُحَمِّل أحداً ولن يختبره إلا بما يستطيعه وبما في وُسْعه كما وَعَد، وهو ما يختلف من شخصٍ لآخر، ليستفيق وليستفيد من هذا الاختبار في حياته ولينال أجره العظيم في آخرته.. ".. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.." أيْ وندعوك أيضا يا ربنا أنْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وأحْيِنَا دائما في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. أَنْتَ مَوْلانَا.." أيْ أنت وحدك مُتَوَلّي أمورنا في كل شئون حياتنا ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لنا، أيْ مُحِبّنا وراعينا وناصرنا ومُعِيننا وحَلِيفنا وحافظنا ومانِعنا من الضرَر ومُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينك الإسلام، ومَن كنتَ يا الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث ستُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)" أيْ فإنَّ مِن شأن المَوْلَىَ أنْ يَنصر مَوَالِيه على أعدائهم، فنحن نطلب عوْنك ونتوكّل عليك وحدك، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين أيْ الذين كذّبوا بوجودك وكتبك ورسلك وآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فانصرنا عليهم واهزمهم بعَوْننا علي نشر إسلامك والدفاع عنه ضدّهم بكل الوسائل ليَسُوُدَ الأرض كلها ويعمل بأخلاقه جميع الناس ليسعدوا كما سعدنا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم وأخراهم
الم (1)
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم
هذا، ومعني "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْحَيُّ.." أيْ هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه.. ".. الْقَيُّومُ.." أيْ الذي يقوم دائما وتماما علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْنه علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3)"، "مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)" أيْ أنَّ الله تعالي الذى لا إله إلا هو والذى هو الحىّ القَيُّوم هو الذى نَزَّلَ عليك أيها الرسول الكريم محمد (ص) الكتاب الذي فيه الإسلام لتُبَلّغه للناس وهو القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ وهو الذى جَعَلَ هذا الكتاب المُنَزَّل عليك مُصَدِّقا لما بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد (ص) فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3)" أيْ وكذلك أنزلَ التوراة علي موسي (ص) والإنجيل علي عيسي (ص) وغيرهما من الكتب علي رسلٍ كرامٍ قبل هذا القرآن وكلها أيضا فيها الإسلام بما يُناسب كل عصر.. "مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)" أيْ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل القرآن لهداية الناس في تلك العصور لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ".. وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ.." أيْ وأنزل الفرقان في كل كُتُبِه التي أنزلها والتي آخرها القرآن العظيم، والفرقان هو كلّ ما يُعين مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك.. ".. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.." أيْ إنَّ الذين لا يُصَدِّقون بها ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، أمثال هؤلاء حتما لهم عذاب شديد عظيم مؤلم لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)" أيْ فإنَّ الله المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال بكل تأكيدٍ عزيزٌ صاحبُ انتقامٍ من الذين كفروا ومِن كلّ مُكذبٍ مُعانِدٍ مُستكبر مُستهزيء أيْ غالِب لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ وينتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم.. فلْيَحذر إذن مثل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان، وليَطمئنّ أهل الخير ولا يخافوا شيئا وليَستبشروا وليَصبروا وليَنتظروا كلّ الخير والسعادة في دنياهم قبل أخراهم
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)" أيْ إنَّ الله تعالي بكل تأكيدٍ حتماً عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، لأنه هو الخالق، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)" أيْ ومِن دلالات كمال عِلْمه وتمام قُدْرته أنه هو وحده الذي يَخلقكم بعقولكم وأجسادكم وأنتم أجِنَّة تتكوّن مِن مَنِيِّ الرجل وبُوَيْضَة المرأة تتطوَّر في الأرحام لأمهاتكم بصورٍ مختلفةٍ كما يريد من ذكرٍ وأنثي وأبيض وأسود وطويلٍ وقصيرٍ وبصمات أصابع وأشكال وجوهٍ لا يشبه بعضها بعضا علي أحسن وأنفع وأنسب صورة مَضبوطة مُتَنَاسِقَة تُعينكم علي تمام الانتفاع والسعادة بكلّ الخيرات حولكم والتي هي كلها أرزاق منه لكم.. ".. لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.." أيْ وبالتالي إذَن فلا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)" أيْ هو الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم في كلّ أموره الذي يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)" أيْ الله الذى لا إله إلا هو الحَىّ القَيُّوم، والذى نَزّلَ الكتب السماوية بالحقّ وفيها الإسلام لهداية الناس لكل ما يُسعدهم في الداريْن وبرحمته لم يتركهم بغير إرشادٍ فيتعسوا فيهما، والذى صَوَّرهم فى الأرحام كيف يشاء، هو أيضا مِن دلالات تمام عِلْمه وقُدْرته واتّصافه بصفات الكمال وأنه القَيُّوم أنزلَ عليك وأوْحَيَ إليك أيها الرسول الكريم محمد (ص) الكتاب لتُبَلّغه للناس وهو القرآن العظيم وجعل بحكمته منه أيْ بعضه آيات تُتْلَيَ عليهم مُحْكَمَات – من الإحكام والدِّقّة والوضوح، وكل آياته حتماً كذلك – والمقصود أنها التي لا تَحْتَمِل إلا معنيً واحداً وهي الآيات التي يأتي فيها صراحة ذِكْر الحلال والحرام كقوله تعالي مثلا ".. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.." (البقرة:275) وهذه الآيات هي أمّ الكتاب أيْ أصله التي يُرْجَع إليها عند إرادة معرفة الرأي والتفسير لبقية الآيات الأخري والتي تُسَمَّيَ مُتَشَابِهَات أيْ التي كلها يُشبه بعضها بعضاً في الصدق والحِكْمَة وقوة الأدِلّة والبراهين والتوازُن والحُسْن والبلاغة والفصاحة والائتلاف وعدم الاختلاف والصواب والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ والمقصود أنها التي تَحتمل أكثر من معني ورأيٍ بحيث يأخذ كل فرد ما يُناسبه من الآراء في تفسيرها وفهمها وفِقْقها بما يُيَسِّر حاله ويُسعده هو ومَن حوله مِن رحمة الله وكرمه وتيسيره وإسعاده للبَشَر ما دام هذا الرأي الذي يأخذه لا يخرج عن إطار الحلال والحرام الذي جاء في الآيات المُحْكَمَات الأمّهات وفي إطار أقوال العلماء المُتَخَصِّصِين الثّقَات الذين يقومون بتفسيرها.. هذا، وقد يأخذ مسلمٌ برأيٍ مَا مِن آراء العلماء ويأخذ غيره برأيٍ آخرٍ يُناسبه ويُيَسِّر حاله ويُسعده ويأخذ ثالثٌ برأيٍ ثالثٍ مُناسبٍ مُسْعِد، وهكذا.. وهذا هو سِرّ صلاحية القرآن العظيم والإسلام الذي فيه لكلّ زمانٍ ومكانٍ ولكلّ الناس رغم اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم حيث يضع القواعد والأصول المُسْعِدَة ويترك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكانٍ وَضْعَ تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه الأصول كما يُفْهَم من قول الرسول (ص) " أنتم أعلم بأمور دنياكم" (رواه مسلم).. ".. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.." أيْ فانْقَسَمَ الناس عند التعامُل مع القرآن الكريم، فأمّا الذين في عقولهم زَوَغَانٌ ومَيْلٌ وانحرافٌ وابتعادٌ عن الحقّ مع علمهم به وإصرارٌ واستمرارٌ علي تَرْك وإهمال أخلاقه وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا لها، فهؤلاء يَتَتَبَّعون ويَسِيرون خَلْفَ ما يَتَشَابَهَ من القرآن ابتغاءَ الفتنة أيْ طَلَبَاً وقَصْدَاً باجتهادٍ وحرصٍ لنَشْر الشرّ بين الناس والتشكيك في الإسلام حتي لا يَتَّبعوه بأنَّ فيه تَنَاقضاً وتَعَارُضَاً وتَضَارُبَاً فيما بينه وبين بعضه وأيضا ابتغاءَ تأويله أيْ طلباً لتفسيره وتوضيحه بصورةٍ مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة تُخَالِف ما أراده الله تعالي لإصلاح ولإسعاد خَلْقه من أجل إضلالهم ولتَبْرير شرِّهم وفسادهم مُسْتَغِلّين أنَّ الكثير من الآيات مُتَشَابِهٌ يَحتمل أكثر من معني دون أن يَرجعوا إلي الآيات المُحْكَمَات التي هُنَّ أمّ الكتاب والتي من المُفْتَرَض الرجوع إليها لمعرفة التأويل الصحيح للمُتَشابِه، وكلّ ذلك يفعلونه بكامل حرية إرادة اختيار عقولهم بلا أيِّ إجبارٍ عليه من أيِّ أحدٍ لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.." أيْ ولا يعلم حقيقة معاني وتفسير القرآن العظيم بصورةٍ تامَّةٍ كاملةٍ إلا الله تعالي وحده حتماً حيث هو كلامه وشَرْعه سبحانه، لكنَّ بعض آياته تفسيرها لا يصعب علي أحد، وبعضها تفسيرها يُفْهَم من المعرفة باللغة العربية، وبعضها يَعْلَمه الراسخون في العلم أيْ الثابتون المُتَمَكّنون منه في مجال علم التفسير ونحوه بتوفيقه وتيسيره لهم فيسألهم الناس فيه وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم به في معرفتهم بتأويله، وبعضها لا يَعلمه إلا هو سبحانه وحده لا غيره مثل حقائق صفاته وكيفيتها وحقائق أوصاف ما يكون يوم القيامة وموعده وحقيقة الروح ونحو ذلك، فهذه لا يُحَاوَل البحث فيها لأنه تَعَرُّضٌ لِمَا لا يمكن معرفته لأنَّ العالِم بها تعالي لم يُعَرِّف تفاصيلها لخَلْقِه فيكون التّعَمُّق فيها خارج قُدْرات عقولهم وتضييع لأوقاتهم وجهودهم ولو كان فيها مصلحة وإسعاد لهم لعَرَّفهم بها قطعا ولكنْ لكي يتبين المُصَدِّق مِن المُكَذّب منهم، فالإيمان بذلك هو استكمالٌ للإيمان به تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَدٌ ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا.." أيْ وهؤلاء الثابتون المُتَمَكّنون في العلم الذين لا يَتَزَحْزَحُون أبداً عن الحقّ والصواب – وهذا هو القسم الثاني من الناس الذي يُحسن التعامُل مع القرآن الكريم ولا يَتَشَبَّه مطلقا بالذين في قلوبهم زَيْغ – يقولون بما يُفيد قوة إيمانهم وصِدْق تأكّدهم بلا أيِّ شكّ عندما يَقرءون ما تَشَابَه من آيات القرآن آمَنّا أيْ صَدَّقنا بهذا القرآن العظيم كله واستسلمنا له وأطعناه فنحن لا نشكّ مطلقا فى أيِّ حرفٍ منه فكلٌّ من الآيات المُتشابهات والآيات المُحْكَمَات هي من عند ربنا وحده – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – فهو الذى أنزلها على رسولنا الكريم محمد (ص) بحكمته وإرادته وأمره وعلمه وفضله وكرمه ورحمته، وما كان من عنده فلا يمكن أن يكون فيه أبداً أيّ تَعَارُض أو تَنَاقُض بل كله مُتَّفِقٌ يُصَدِّقُ بعضه بعضا.. ".. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)" أيْ ولكنْ لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها.. وفي هذا مدحٌ وتكريمٌ للراسخين في العلم وتشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه والمزيد منه
ومعني "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8)" أيْ ندعوك نحن الذين آمنوا ونسألك يا ربنا ونتوسَّل إليك لا تمِيل وتحْرِف وتبْعِد عقولنا عن الحقّ بعد إذ أرشدتنا لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنيانا وأخرانا من خلال دينك الإسلام، وذلك بأن نُعَطّل عقولنا ونختار الشرّ بكامل حرية إرادة عقولنا لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا الرخيصة فتَتْركنا ولا تُذَكّرنا ولا تُعِيننا علي الامتناع والابتعاد عنه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (5) من سورة الصفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ..")، وأعْطِ وامْنَح لنا من عندك ومن جهتك رحمة واسعة تَتَمَثّل في أن تُيَسِّر لنا أسباب الثبات علي إسلامنا والعَوْن علي مقاومة أيّ زَيْغٍ عنه لنحيا بذلك في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فإنك أنت وحدك لا غيرك الوَهَّاب أي الكثير العطايا والمِنَح والهِبَات لكل خَلْقك مالِك المُلك كله تُعطي بلا حسابٍ ولا حدود
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)" أيْ يا ربنا، أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، إننا متأكّدون تماما أنك ستَجمع الناس جميعا إلي يومٍ لا شَكَّ فيه، هو يوم القيامة، حيث ستَبعثهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم لتُحاسبهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلذلك نحن نعمل كل خيرٍ ونترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام فندعوك ونسألك ونتوسّل إليك يا ربنا أن تُدخلنا يومها أعلي درجات جناتك وتُنْجينا برحمتك وغفرانك نيرانك.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)" أي إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، يوم يريد الله تعالي أن ينزل بهم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعهم حتما وتمنع عنهم أموالهم بكل أنواعها ولا أولادهم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ مُعين لهم من عذاب الله أيّ شيء، فكل هذه الإمكانات وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)" أيْ وهؤلاء حتما في الآخرة هم بأجسامهم بلحومهم وعظامهم وقود اشتعال النار الشديدة الفظيعة غير المُتَصَوَّرَة التي لا يعلم شدّتها وفظاعتها وعذابها إلا خالقها سبحانه، فهي ليست مِثْل نَارِ الدنيا حيث وقود اشتعالها من لحوم وعظام الناس الذين يستحِقّونها ومن الحجارة المُلتهبة الشديدة السخونة والاشتعال ومن غير ذلك مِمَّا لا يعلمه إلا الله تعالي، وهي لا تَنْطَفِيء لأنَّ لها وقوداً يُلْقَىَ فيها يزيدها اشتعالا أوَّلاً بأَوَّل علي الدوام
ومعني "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)" أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي الكفر واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كذّبوا بآياتنا أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أن أخذهم الله أيْ عذّبهم وأهلكهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من كفرٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وكان عذابهم بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجاته في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، فالله تعالي حتماً شديد العقاب في الداريْن لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ستُهْزَمون في الدنيا، ولن تَنفعكم أموالكم وأولادكم وقوَّاتكم، بإذن الله وبقوّته وبعَوْنه للمؤمنين، بلا أيّ شكّ، فإنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ.." أيْ وتُجْمَعون وتُسَاقون وتُدْفَعون في الآخرة يوم القيامة إلى نار جهنم لتنالوا فيها ما تستحِقّونه من عذابٍ مُؤلمٍ مُهينٍ لا يُوصَف.. ".. وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)" أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي تَفترشونه وتَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب!
ومعني "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (13)" أيْ هذا مثالٌ عَمَلِيٌّ واقِعِيٌّ حَدَثَ بالفِعْل ويَحدث وسيَحدث علي مَرّ العصور يُثْبِت ويُؤَكّد أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم.. أيْ لقد كان لكم أيها الناس جميعاً من المسلمين وغيرهم دلالة وعَبْرَةٌ واضحة عظيمة في مجموعتين تَقَابَلَتَا في قتالٍ يوم غزوة بدرٍ المعروفة أيام الرسول الكريم محمد (ص)، مجموعة تُقاتِل في سبيل الله – وهم المسلمون وكانوا أقلّ عَدَدَاً وعُدَّة – أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره، ومجموعة أخري كافرة غير مسلمة أكثر عَدَدَاً وعُدَّة تُقاتِل في سبيل الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.." أيْ فكان من تأييد الله وآياته للمسلمين أنْ جَعَل الكافرين يَرَوْنَ المسلمين ضِعْف عددهم وعتادهم الحقيقى رأي تَحَقّق وتأكُّد ومُشَاهَدَة ومُعَايَنَة بأعينهم وليس تقديراً أو تَخَيُّلاً فوَقَع الرعب فيهم فانهزموا، أو جَعَلَ المسلمين يَرَوْنَ الكافرين ضِعْفهم فقط وقد كانوا واقعيا ثلاثة أمثالهم فقَلّلهم الله في أعين المسلمين ليَقْوُوا ولا يَضعفوا وقد كانوا أُعْلِمُوا أنَّ المائة منهم تَغْلِب المائتين من الكُفّار كما في الآية (66) من سورة الأنفال "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. وخلاصة القول أنَّ الله تعالي في بعض الأحوال قد يُرِي المسلمين عدوهم قليلا ليكون ذلك تشجيعا لهم علي الإقدام والقضاء عليهم وقد يُريهم إيّاهم أحيانا كثيراً ليزدادوا إعداداً وحَمَاسَة، وقد يُرِي عدوهم أنهم قليل ضعفاء فيَتَوَهَّم أنه يَسهل القضاء عليهم فيُفَاجَيء بكثرتهم فيَرْتَبِك ويَنهزم وقد يَتَوَهَّم كثرتهم وهم قليلٌ فيَنْزَعِج ويَخاف ويَنهزم، وهكذا، وكل ذلك بتدبيره وعلمه وقُدْرته ومن آياته المُعْجِزَة سبحانه بما يُحَقّق النصر للمسلمين علي أيِّ حال.. وفي هذا تثبيتٌ لهم في كل زمانٍ ومكانٍ وتشجيعٌ وتبشيرٌ حتى يُقْدِمُوا على الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ضِدّ المُعْتَدِين ولا يَتَرَاجَعُوا، ولهم أجرهم العظيم في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ حتماً يُقَوِّي بعَوْنه مَن يريد أن ينصره من خلال جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، والذي يَنصره هو المسلم الذي أحسنَ اتّخاذ أسباب النصر بما يُناسب في كل شأنٍ من شئون الحياة يريد أن يَنتصر فيه وتَوَكَّل عليه تعالي وحده لا غيره ونَصَرَ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ولم يَخْذلهم ويَتركهم، فهو وحده سبحانه قطعا القادر على أن يجعل القليل كثيراً والضعيف قوياً فيَنهزم مَن يَتَوَهَّمَ النصر لقُوَّته من حيث لا يَدري، ولا يُمكن بالقطع لأيِّ أحدٍ أن يَرُدّ إرادته أو يُغَيِّرها أو يَعترض عليها لأنه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. وفي هذا طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (13)" أيْ إنَّ في ذلك الحديث الذي ذَكَرْناه بكل تأكيدٍ عِظَة عظيمة ودروس مُسْتَفَادَة كثيرة لأصحاب الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أيْ إدراك العقل أيْ الذين يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون بعقولهم، فهؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَهتدون ويَسعدون به تمام السعادة في الداريْن، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره فهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ استخدام عقلك فاستمتعتَ بنِعَم ربنا علينا في الحياة الدنيا والتي فَطَرَ عقول الناس وبَرْمَجَهم عليها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ليَشْتَهُوها ويَرْغَبوا فيها ويحبوها وليسعدوا بها أتمّ السعادة هم ومَن حولهم حين يستخدمونها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ نافعٍ لهم وللخَلْق جميعا وللكوْن كله.. وإذا أحسنتَ استحضار كل نوايا الخير المُمْكِنَة عند التعامُل بين الرجال والنساء والأبناء والأقارب والجميع وعند المعاملات المالية المختلفة في كل المجالات الاقتصادية والصناعية والزراعية والاجتماعية والفكرية والفنية والرياضية والجهادية وغيرها.. فإنْ فعلتَ هذا فقد حقّقتَ هدف الحياة وخَلْق الخَلْق وهو أن ينتفعوا وينعموا ويسعدوا بزينتها، وقد فُزْتَ في دنياك ثم لك في أخراك عند ربك ما هو أعظم وأتمّ وأخلد عندما تَؤُوب أيْ تَرْجع إليه حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وحيث الرضا والأمان كله.. وإيّاك إياك أن تُعَطّل عقلك فتُسِيء استخدام هذه النّعَم فتستخدمها فيما هو شرّ مُضِرّ مُتْعِس لك ولمَن حولك، فحينئذٍ تكون قد وقعتَ في المحظور، وتكون الزينة لك نِقْمَة أيْ شَرّ لا نِعْمَة، كما يفعل الظالمون والفاسدون والكافرون ومَن يَتَشَبَّه بهم، وستَتحمَّل أضرار وتعاسات ذلك في الدنيا وأشدّ في الحياة الآخرة
هذا، ومعني "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)" أيْ هذا تنبيهٌ وإرشادٌ للناس أن يُحْسِنُوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة ما كُتِبَ سابقاً تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، ثم مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ حُسِّنَ للناس، أيْ حَسَّنَ الله تعالي خالِقهم لهم في فِطْرَتِهم، حبّ الشهوات جَمْع شَهْوَة وهي ما يُشْتَهَيَ فِطْرِيَّاً أيْ يُرْغَب فيه ويُتَمَنَّيَ ويُطْلَب ويُحْرَص عليه ويُحَبّ، مُتَمَثّلَة في النساء – وقد خُصَّت هذه الأمور المَذْكُورَة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تابِع لها – حيث جَعَلَ سبحانه الحُبّ والتعاطُف وحُسْن التّعامُل فيما بينهنّ والرجال مُتَبَادَلاً (برجاء مراجعة الآية (187) من سورة البقرة ".. هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ.."، والآية (21) من سورة الروم "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وكذلك حب الأبناء من الذكور والإناث فهم ثمرة الحب الأول الذي أدَّيَ للتزاوُج بين الرجال والنساء وإنجابهم وحُسْن تربيتهم والانتفاع والسعادة بهم، وحب القناطير المُقنطرة من الذهب والفضة أيْ الكثير من كل أنواع الأموال والأملاك والتي بها من المُمكن امتلاك كثيرٍ من مُتَع الدنيا والقَناطِير جمع قِنْطار وهو مال كثير والمُقَنْطَرَة أي المُتَكَاثَرَة المُتَضَاعَفَة المَجموعَة بعضها فوق بعض قنطاراً بعد قنطار، وحب الخيل المُسَوَّمَة أيْ ذات السِّمات والعَلامات الحِسَان أي المُعَلّمة المُتَّصِفَة بالصفات الحَسَنة من الشكل والقوة والنشاط حيث مُتعة ركوبها والتّنَقّل والتجارة بها وكذلك كلّ وسيلةٍ تُسْتَحْدَث وتُمْتَلَك وتُحَقّق من الأغراض والمُتَع ما تُحَقّقه الخيول، وحب الأنعام وهى الإبل والبقر والغنم لمنافعها الكثيرة كأكل لحومها وشرب ألبانها واستخدام جلودها مع التجارة فيها والربح منها، وحب الحَرْث وهو الزرع بكل أنواعه المختلفة والذي يُتَّخَذ منه المَطْعم والمَلْبَس والزينة والدواء وبعض التجارة والصناعة وما شابه هذا من منافع وخيرات.. ".. ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ كل ذلك الذي ذُكِرَ سابقا وما يَتَفَرَّعَ عنه ويُشْبِهه ما هو إلاّ مُجَرَّد متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس والذي هو زائل حتما غير دائم حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة والذي هو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد المُتَنَوِّع المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر والمُجَهَّز للمُحسنين في دنياهم العاملين بأخلاق إسلامهم.. ".. وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)" أيْ والله تعالي بالقطع يوجد عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه المآب الحَسَن أيْ المَرْجِع والثواب والعطاء الطيِّب الجميل وهو الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف.. فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم لتكونوا بذلك قد أحسنتم طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فتسعدوا تمام السعادة فيهما
ومعني "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تُحبون وتُريدون أن أخبركم بما هو أعظم وأكثر خيراً من كلّ ذلك الذي ذُكِرَ سابقا من الخيرات الدنيوية الزائلة؟ والسؤال يُفيد التنبيه والاهتمام والتشويق والتّطَلّع للإجابة للتشجيع علي التّدَبُّر فيها والعمل بها، والجواب هو أنه للذين خافوا الله وراقَبُوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء لهم حتما عند ربهم في الآخرة مُجَهَّز لهم في أمانه ورعايته وحبه عطاء كبير مُتَضَاعِف مُتَزَايِد – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم بسبب تقواهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم – هو جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها.. ".. وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ.." أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ لا يُمكن وَصْفه، لهم في الجنة كذلك مُتعة وسعادة الحياة الزوجية بكل ما فيها من مُتَع الحب والعاطفة والألفة والأمن والجنس ونحو هذا بلا أيِّ مشكلاتٍ مثلما كان أحيانا في الدنيا حيث أهل الجنة جمعيهم من الرجال والنساء في حالة طهارةٍ تامّةٍ أيْ نظافة من كل أشكال السوء المَعْنَوِيّ كسوء الخُلُق بكل صوره والحِسِّي كالبول والعرق وغيره، فهم في أجمل وأكمل وأسعد صورة.. هذا، والأزواج جَمْع زوج ذكراً كان أو أنثى فهي كلمة تُطلق على المرأة المتزوجة كما تطلق على الرجل المتزوج ولذا فهذا النعيم هو لهما معا أيْ تكون المرأة مُتعة زوجها ويكون هو متعتها.. ".. وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ.." أيْ ولهم أعظم من كل ذلك، جزاء معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له، رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة.. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَرَيَ الناس جميعا ومُطّلِع على كل أعمالهم وأقوالهم من خيرٍ وشَرٍّ ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. فلْيُحْسِنُوا إذَن العمل دائما ولْيَفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا فيهما ولا يتعسوا
ومعني "الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)"، "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)" أيْ هذه بعض أوصاف الذين اسْتَحَقّوا الجزاء العظيم في الداريْن الذي ذُكِرَ في الآية السابقة والتي يَمتدحهم عليها خالقهم حتي يجتهد كل مسلم في الاتّصاف بها ليَنال جزاءها.. أي هم الذين امْتَلَؤُا وتَشَبَّعُوا بالإيمان بربهم فظَهَرَ ذلك علي ألسنتهم وفي تَصَرُّفاتهم بدَوَام تَوَاصُلِهم معه سبحانه والتوكّل عليه ودعائه قائلين مُتَوَسِّلِين إليه بإيمانهم يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إننا قد آمَنّا أيْ صَدَّقنا بوجودك وبرسلك وبكتبك وبحسابك وعقابك وجنتك ونارك وعملنا بكل أخلاق إسلامك فكانت كل أقوالنا وأعمالنا ما استطعنا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلْناه تُبْنا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فلذلك فاغْفِر لنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وقِنَا عذاب النار أيْ ونَجِّنا برحمتك يوم القيامة من عذابها المُؤْلِم المُهِين بأنْ تُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم.. هذا، والوقاية من عذاب النار نِعْمَة عظيمة مُسْتَقِلّة بذاتها قبل نعمة دخول الجنة والاستقرار الخالد فيها، من عظيم فضله وكرمه ورحمته سبحانه، ولذا تَمَّ التركيز عليها رغم أنها من ضِمْن سؤال المغفرة قطعا، كما أنَّ دخول الجنة قد يكون بعد عذابٍ مَا مُسْتَحَقّ فكان التصريح في الدعاء بطَلَب الوقاية من النار.. إنهم مِن كمال تَقْواهم ما استطاعوا تَكْبُر في نَظَرِهم أخطاؤهم حتي ولو كانت بسيطة بالنسبة لغيرهم وتَصْغُر حسناتهم حتي لو كانت كبيرة للآخرين بما يَدْفعهم للاستزداة دائما من الاستغفار وفِعْل كلّ خير.. "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن) ويصبرون خصوصا في البَأْساء أيْ في حالة البُؤْس بسبب فقرٍ وغيره والضَّرَّاء أيْ عند الضرَر كمرضٍ ونحوه وحين البأس أيْ عند القتال في سبيل الله أيْ دفاعا عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. وَالصَّادِقِينَ" أي الذين يُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق إسلامهم ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. ".. وَالْقَانِتِينَ.." أي الذين يُوَاظِبون علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبَه منهم في وصاياه في الإسلام باختيارهم وبرضاهم وبكلّ حبٍّ له ولطاعته الآمنين الساكنين المُطْمَئِنّين برعايته لهم وأنه معهم علي الدوام بعِلْمه وقُدْرته.. ".. وَالْمُنْفِقِينَ.." أي الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)" أيْ الذين هم دائمي الحرص والاجتهاد علي التواصُل مع ربهم ونَيْل خيره وعطائه الفيَّاض وسعادته الغامِرة طوال يومهم وحياتهم، فهم مِن شِدَّة حرصهم واجتهادهم لا يُفَوِّتون فُرْصَة وعَرْضَاً منه سبحانه بمزيدٍ من الخير والعطاء الدنيويّ والثواب الأخرويّ إلا سارَعوا واجتهدوا للسعي له والحصول عليه، ومن هذه العروض أوقات الأسحار جَمْع سَحَر وهو وقت الثلث الأخير من الليل قبل طلوع الفجر والذي يحتاج إلي همةٍ وقوةِ إرادةٍ للوصول إليه والذي هو تدريب لهم علي أن يكونوا دوْما أصحاب هِمَمٍ عالية وإراداتٍ قوية في كل شئون حياتهم فيسعدوا بذلك تمام السعادة في الداريْن، حيث وَعَدَهم سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا في حديث رسوله الكريم (ص) "يَنْزِل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول : " مَن يدعوني فأستجيبَ له ؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له ؟ مَن يسألني فأعْطِيَه؟" (رواه البخاري ومسلم)، وذلك حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم فيَطلبون منه ما يُريدون ويَستغفرون مِمَّا قد يكون حَدَث منهم من تقصيرٍ أثناء يومهم ويَدعون من أجل التجهيز لليوم التالي وحُسْن الاستعداد له وطَلَب التيسير والتوفيق والرعاية والأمن والرزق والسعادة فيه فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)" أيْ أخْبَرَ وأَعْلَمَ الله تعالي الناس وبَيَّنَ وقالَ لهم – كما يُقال شَهِدَ فُلَانٌ عند القاضى إذا بَيَّنَ له وأعْلَمه وأخْبَره أين الحقّ – من خلال آياته القاطِعَة والتي لا يَرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سواء أكانت آيات أي دلالات ومعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزات علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، أنه لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويَكْفِي المسلمون كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبدا لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشاهِد الذي يشهد أنه لا إله إلا هو فشهادته حتما هي الكاملة الصادقة العادلة لأنه هو الكامل الذي له كل الصفات الحُسْنَيَ، ثم لو فُرِضَ وكان هناك إله غيره تعالي لعَارَضَه وكذّبه فيما يقول وبما أنه لا تُوجَد – ولن تكون – أيّ مُعَارَضَة فهذا هو الصِّدْق حتما!! سبحانه وتعالي عَمَّا يقوله عليه السفهاء عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَالْمَلَائِكَةُ.." أيْ وشَهِدَت الملائكة أيضا بذلك أيْ أقَرَّت واعْتَرَفَت بأنه لا إله إلا الله فعَبَدَتْه أيْ أطاعته فلم تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أوامره وفَعَلَت كل ما يأمرها به سبحانه في كل كوْنه لنفع ولخدمة ولسعادة خَلْقه بلا أيِّ تَرَدُّدٍ أو تأخيرٍ أو تغيير.. ".. وَأُولُو الْعِلْمِ.." أيْ وشَهِدَ كذلك بهذا أصحاب العلم الثابتون فيه المُتَمَكّنون منه بأن عَبَدوه تعالي أيْ أطاعوه وحده وصَدَّقوا بكتبه وآخرها القرآن العظيم وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودَعوا غيرهم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم به وبملائكته في الإخبار والتّبْيِين أنه لا إله إلا هو سبحانه حيث هم الذين أحسنوا استخدام عقولهم فتَدَبَّروا وتَعَمَّقوا في الأمور حولهم فوَصَلوا لهذا الذي يَقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق فطرتهم التي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنَّ أمر أنه لا إله إلا الله قد ثَبَتَ وتَقَرَّرَ بشهادة أكمل وأعظم الشهود وهو الخالق سبحانه ثم بشهادة كل المُعْتَبَرِين المُنْصِفِين العقلاء من خَلْقه فلا مجال إذَن لأنْ يَختلف أو يَشكّ الناس فيه وأنَّ الذي يُشَكّك به ويُخالِفه هو حتماً مَن كان سفيهاً جاهلاً قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قَائِمًا بِالْقِسْطِ.." أيْ هذا بَيَانٌ لكماله سبحانه فى أفعاله بعد بيانِ أنه لا إله إلا هو، أيْ وشَهِدَ وشَهِدُوا أيضا كوْنه قائماً بالقِسْط أيْ بالعدل أيْ مُقِيماً للعدل في كل شأنٍ من شئونه وفى تدبير أمور كوْنِه وخَلْقه علي أعدل وأكمل وأسعد وجهٍ وفيما يُشَرِّعه للناس في الإسلام مِمَّا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتقرير علي أنه لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، ومزيدٌ من التوجيه والإرشاد للبحث في أدِلّة ذلك في الكوْن والخَلْق المُعْجِز وفي القرآن العظيم.. ".. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)" أيْ هو الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وفي كلّ أموره هو الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)" أيْ إنَّ الدين الحقّ المَرْضِيّ المُعْتَرَف به عند الله والذي ارتضاه ووافَقَ عليه ووَضَعَه وشَرَعَه لخَلْقه وأحبه لهم وأرسل به رسله الكرام إليهم منذ بدء الخَلْق وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) في كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم ولا يَقْبَل غيره فلا يَجْزِي بالخير في الداريْن إلا عليه هو الإسلام لأنه هو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (85) من سورة آل عمران "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.." أيْ فآمَنَ الناس أيْ صَدَّقوا بالإسلام الذي في الكتاب الهادِي المُنَزَّل في زمنه واتّخذوه حَكَمَاً ومَرْجِعَاً لهم ولكن ما اختلف فيه وهو الذي مِن المُفْتَرَض أن يكون سَبَبَاً لإزالة الخلاف ويُؤْمِن به الجميع – والاختلاف فيه يعني أن يُصَدِّقه البعض ولا يُصَدِّقه البعض الآخر أو يُصَدِّقوا ببعض آياته لا بكُلّها أو يكَتَمُوها أو يُفَسِّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الاختلاف علي الحقّ والابتعاد عنه – إلا البعض منهم الذين أوتوه أيْ أعطوه أيْ عقلوه وعلموه وفهموا تفاصيله، كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أوحي للرسول الكريم موسي (ص) وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي (ص) الذين لم يَتّبعوا القرآن ويُسْلِموا ومَن تَشَبَّه بهم، ولم يكن اختلافهم لالتباسٍ عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما جاءهم العلم أي جاءتهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بهذا الكتاب أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ حيث فُصِّلَ لهم فيها كلَّ الحلال والحرام والنافع والضارّ والحَسَن والقبيح والخطأ والصواب والحقّ والباطل والمُسْعِد والمُتْعِس، فصاروا بذلك على علمٍ تامٍّ بشريعتهم بحيث لا يَخْفَىَ عليهم أيّ شيءٍ مِمَّا اشتملت عليه، أيْ أنه تعالى قد أعطاهم شريعة سهلة واضحة لا غموض فيها ولا التباس ولا انحراف بحيث يعلمها الجميع مهما تَعَدَّدَت إدراكاتهم ولا يمكن أن يَختلف أيّ أحدٍ عليها لوضوحها التامّ والعلم الكامل للجميع بها، فهم بالتالي إذَن لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع في أيِّ شَرٍّ للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض، وهذا هو معني ".. بَغْيًا بَيْنَهُمْ .." أيْ وما دَفَعَهم إلي هذا الاختلاف إلا البَغْي الذي حَدَث بينهم أيْ الظلم والفساد ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)" أيْ ومَن يَكفر بآياتِ الله المُنَزّلَة في كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم فلا يُصَدِّق بأنها من عنده أو يُحَرِّف فيها أو يَكْتُم شيئا منها أو يستهزيء بها أو يَستكبر عليها، أو بآياتٍ في الكوْن تَدُلّ علي وجوده سبحانه، أو بمُعجِزاتٍ تُؤَيِّد صِدْق رسله الذين أُوُحِيَ إليهم هذه الكتب، أو بما شابه هذا من صور الكفر، فإنَّ الله حتما سريع الحساب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" أيْ فإنْ جَادَلوكَ في الله يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، أي في دين الله، في الإسلام، بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، كأنْ يُجادلوك مثلا في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحداً بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحُدُوث البَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال الذي يُريدون به التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، فقُل لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن لقد أسلمتُ وجهي لله، وكذلك فَعَلَ مَن اتّبَعَنِي من المسلمين، أيْ سَلّمنا أنفسنا بالكامل بوجوهنا أيْ بكُلّنا أي بعقولنا وأفكارنا وأقوالنا وأفعالنا لرعاية الله وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده باتّباع نظامه الذي أرْشَدنا إليه وأوْصانا به وهو الإسلام الذي يُنَظّم لنا كل شئون حياتنا علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرتنا تمام السعادة.. كذلك من معاني أن يُسْلِم المسلم وجهه لله أيْ يُخْلِص له سبحانه فلا يقول قولاً ولا يَفعل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. وأيضا يكون مع إسلام وجهه لله وإخلاصه له مُحْسِنَاً، أيْ يُحْسِن كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. ".. وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.." أيْ وقل كذلك للذين أُعْطُوا الكتاب أيْ عَقلوه وعَلموه وفَهموا تفاصيله كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أُوُحِيَ للرسول الكريم موسي (ص) وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي (ص) وكذلك قل للأُمِّيِّين وهم الجَهَلَة الذين يَجهلون القراءة والكتابة أو لا يَعرفون شيئا عن الكُتُب التي أنزلناها للناس مع رسلنا وفيها الإسلام فهُم لا دين لهم، وقل لكل الذين لم يَتّبعوا القرآن العظيم ولم يُسْلِموا، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، قل لهم أأسلمتهم أيْ هل أسلمتم كما أسلمنا بعدما وَضَحَت الدلائل والبراهين التي لا يُرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أم أنتم مستمرّون علي عدم إسلامكم بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره؟!.. إنَّ مثل هذا النوع من الاستفهام يُفيد التشجيع علي الإسلام لمَن كان صادقاً في الوصول للحقّ ويُفيد أيضا الذمّ لمَن لا يَصْدُق في ذلك.. ".. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا.." أيْ فإن أسلموا وجوههم لله فقد وَجَدوا الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ.." أيْ وأمّا إنْ أعْرَضوا أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدوا عن الإسلام وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، فاعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنما عليك البلاغ أيْ ليس عليك ولا علي المسلمين إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ مَا (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَرَيَ الناس جميعا ومُطّلِع على كل أعمالهم وأقوالهم من خيرٍ وشَرٍّ ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. فلْيُحْسِنُوا إذَن العمل دائما ولْيَفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا فيهما ولا يتعسوا
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن من القَتَلَة الظلَمَة الفَسَدَة الذين يُحاولون واهِمِين القضاء علي الحقّ والعدل والخير والسعادة، وعلي الدعاة لذلك، ولن يَتمكّنوا حتما ما دام أهل الخير يَدْفَعون شَرَّهم حتي يَنْزَوِيَ ويَتَلاَشَيَ وربهم ناصرهم قطعا ما داموا يُحسنون اتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا (برجاء مراجعة الآية (251) من سورة البقرة ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)" أيْ إنَّ الذين لا يُصَدِّقون بآيات الله ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون النّبِيِّين الذين أرسلهم الله تعالي لِيُنَبِّؤُهم أيْ يُخْبِروهم بالإسلام الذي يُسعدهم في الداريْن بغير حقٍّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقٍّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فعلوا ما فعلوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. ".. وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.." أي ولم يَكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون الذين يأمرون بالعدل من الناس ويَنشرون بينهم أخلاق الإسلام التي حَمَلوها وعملوا بها بعد رُسُلِهم بالقُدْوة والحِكْمة والموعظة الحَسَنة ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم، فهم يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي ذِكْر الدعاة من الناس للإسلام مع النّبِيِّين تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم بهم سبحانه في حُسن دعوتهم لمَن حولهم وصبرهم علي أذاهم وتنبيهٌ أنهم سيُؤْجَرُون في الداريْن بما يُقارِب أجرهم.. ".. فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)" أيْ فإذا كان حالهم هكذا كما ذُكِرَ سابقا فأخبرهم إذَن في مُقابِل ذلك بصورةٍ مناسبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنَّ لهم عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وفي لفظ "فبَشّرْهم" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22)" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. ".. وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22)" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين تَتِمّ دعوتهم من خلال المسلمين إلي القرآن الكريم ليَحْكُم بينهم أيْ ليَحْتَكِمُوا إليه ويَرْجِعُوا له أيْ ليَعملوا بحُكْمِ الله الذي فيه أيْ حُكْم ونظام وأخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياهم وأخراهم، ثم حينها وبعدها يَتَوَلّي فريقٌ منهم أيْ بعضهم وليس كلهم – حيث البعض يُؤمن عند عِلمه به وتَدَبُّره فيه فيَحْتَكِم إليه – وهم مُعْرِضُون أيْ يُعْطُون ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبتعدون عن أخلاق الإسلام ويتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاومون نَشْرها ويُؤذون مَن يَتّبعها.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)" أيْ ذلك التَّوَلّي والإعْراض بسبب أنهم قالوا ويقولون مُكَذّبين مُفْتَرِين مُخَرِّفِين مُتَمَنّين وَاهِمِين مُسْتَخِفّين بعذاب الله أنه لن تَلْمسنا النار في الآخرة مهما فعلنا من شرور ومَفاسد وأضرار إلا أياما قليلة يُمكن عَدَّها ويُمكننا تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها!!.. ".. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)" أيْ وخَدَعَهم ما كانوا يَفترونه في دينهم أيْ يقولونه كذباً فيه من تحريفٍ وتخريفٍ وليس من الدين في شيءٍ مِثْل أنَّ النار لن تَمَسَّهم إلا أياماً معدودات وما شابه ذلك من افتراءات وأكاذيب وتخاريف حيث سَهَّلَ عليهم هذا الافتراء مُخَالَفَة الدين بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار إذ العقاب خفيف بسيط يمكن تَحَمُّله وتَجَاوُزه!! فانخدعوا بذلك واستمرّوا عليه دون عودةٍ لربهم ولدينهم الإسلام.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء في استهانتهم بعذاب الله تعالي واستصغارهم له سواء أكان دنيوياً أم أخروياً فتَتْرُكون مِثْلهم دينكم كله أو بعضه وإلا تعستم مثل تعاساتهم في دنياكم وأخراكم علي قَدْر ما تَتْرُكون منه
ومعني "فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)" أيْ فكيف يكون حال أمثال هؤلاء إذا جمعناهم والناس جميعا إلي يومٍ لا شَكَّ فيه، هو يوم القيامة، وبعثناهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم، وأُعْطِيَت حينها حتما كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه.. لا شكّ أنّ حالهم سيكون أسوأ وأقبح حال!! إذ ليس لهم إلا العذاب الذي لا يُوصَف بما يُناسب ما فعلوه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا أحسنتَ اتّخاذ أسباب العِزَّة والقوّة والقيادة والرئاسة ونواياك بعقلك أن تقود الناس جميعا لكل خيرٍ وسعادةٍ مثلك في دنياهم وأخراهم.. فسيُعطيك حينئذٍ مالِك المُلك سبحانه جزءاً من مُلْكِه وعِزَّاً مِن عِزّهِ علي قَدْر أسبابك المُتْقَنَة ما أمكن التي اتّخذتها، فتحيا بفضل ربك وبأخلاق إسلامك عزيزاً كريماً في الداريْن، فهو تعالي بيده الخير كله، وهو علي كل شيءٍ قدير.. إنها أسباب سَهْلَة مَيْسُورَة لكل مَن وضعها هدفاً له وصَمَّمَ بإرادته علي الوصول إليها مُستعيناً بربه ثم بالصالحين المُخلصين المُتَخَصِّصِين حوله، كالعلم والعمل والإنجاز والفكر والتخطيط والتطوير والابتكار وحُسن الإدارة والعلاقات والمُعاملات مع الآخرين وما شابه ذلك.. هذا، وعكس ما سَبَق هو صحيح تماما، فمَن أساء وقَصَّرَ وتَرَكَ أخلاق الإسلام ونَسِيَ ربه أو خَالَفَه عاش ذليلاً مهيناً ونُزِعَ مِمَّا يَملكه البركة فلا تَمَتُّع ولا سَعادة به بل القلق والتَّوَتُّر والصراع وقد يَفقده بالفِعْل بسرقةٍ أو غَصْبٍ أو إنفاقٍ علي مرضٍ أو غيره، عاجلاً أو آجلاً، فهو تعيس في دنياه ثم أشدّ تعاسة في أخراه
هذا، ومعني "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُتَوَسِّلاً داعياً إلى الله مُقِرَّاً مُعْتَرِفَاً بسلطانه وعظمته وقُدْرته وعلمه عابداً أيْ طائعاً له وحده شاكراً له مُتَوَكّلاً عليه وحده قل يا الله يا مالك المُلك الذي يَملك هذا المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعْجِزَة الذي له وحده كل ما فيه ومالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادة، ليس معك أيّ شريكٍ ولا يمنعك أيّ مانع مِمّا تريد ولذا فأنت وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ومَن يَفعل ذلك يَسعد في دنياه وأخراه.. ".. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ.." أيْ أنت وحدك تُعْطِي وتَمْنَح المُلك والمال والتمْكِين والحُكْم والسلطان والنفوذ والتّصَرُّف في الأرض مَن تشاء مِن خَلْقك إذا أحسنَ اتّخاذ أسبابه واستخدمه في كل خيرٍ وسعادةٍ فتُوَفّقه له وتُعِينه وتُسَهِّله عليه، وتأخذه وتَسْلبه وتَقْتَلعه بقوّة مِمَّن تشاء منهم الذي استخدمه في شرٍّ وتعاسة، في توقيتٍ وبأسلوبٍ حسبما تقتضيه حِكْمتك لمصلحتهم ولنفعهم، فما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا تُمَلّكه أنت لهم ولك أن تأخذه منهم في أيّ وقتٍ تشاء.. ".. وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ.." أيْ وكذلك أنت وحدك تُعْطِي العِزَّة أيْ العَظَمَة والكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة والغَلَبَة والنّصْرَة في الداريْن كاملة لا ناقصة حقيقية لا وَهْمِيَّة مستمرّة لا مُتَقَطّعة لمَن تَشاء مِن خَلْقك، الذي يَستحِقّها قطعا واتّخذ أسباب الحصول عليها وهي العمل بكل أخلاق الإسلام، وهم رسلك الكرام، والذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بك وبهم وبكتبك وآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك ما داموا متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم، وتُذِلّ مَن تَشاء مِمَّن لا يَستحِقّ العِزّة مطلقا كالمنافقين مثلا ومَن يَتَشَبَّهَ بهم من المسلمين وغيرهم الذين هم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم وإظهارهم الخير وإخفائهم الشرّ أذِلّة أخِسَّاء مُتَلَوِّنين مُنْحَطّين وَضيعين كذوبين تابعين قَلِقين متوتّرين مضطربين مُهْتَزين مُرتعشين خائفين مَرْعُوبين مُنْزَعِجين مُتشكِّكين في كل ما حولهم مُتَوَقّعين أنه سيُهلكهم وبالجملة هم مَرْضَيَ مُعَذّبين تَعساء في دنياهم ثم أخراهم حيث العقاب المُناسب لكل ذلك بالقطع.. وفي هذا الدعاء الذي يُوصِي الإسلامُ به المسلمين أنْ يدعوه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)" أيْ أنت وحدك لا غيرك الذى تَمْلك الخير كله في الدنيا والآخرة وتَتَصَرَّف فيه كَيْفَما تُريد تُعطيه مَن تشاء وتَمنعه عَمَّن تشاء لأنك حتما علي ذلك وعلى كل شىءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن تقول لشيءٍ كن فيكون كما تريد لا يمنعك مانِع ولا يصعب عليك شيء.. فأعْطِنا يا كريم يا وَهَّاب يا وَدُود يا رحيم كما عَوَّدْتنا من خيرك العظيم الوفير الذي لا يُحْصَيَ
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)" أيْ ومِن بعض مُعجزاتك سبحانك ومن الآيات والنِعَم التي علينا أن نتذكّرها ونشكرها ومن تمام قدْرتك علي كلّ شيءٍ أنك وحدك الذي تُولِج الليل في النهار أي تُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا وتزيد أحيانا في أحدهما ما تنقصه من الآخر والعكس، وهكذا.. وأنت الخالق سبحانك القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِك إذا أحسنوا استخدامه، فأنت تخلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِن ما هو ميت بلا روح كماء الشرب، وتخلق بيضا مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وهكذا إعجاز في كل مخلوق مهما صغر، ولذا فأنت وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة، ومَن يعبدك ويتوكّل عليك وحدك فقد سَعِد السعادة التامّة في دنياه وأخراه.. ثم القادر مثلك علي كل ذلك هو قادر قطعا علي بَعْث البَشَر بعد موتهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لما فعلوه فيُجازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وقادر كذلك علي أن يُؤْتِي الملك مَن يشاء ويَنْزِعه مِمَّن يشاء ويُعِزّ مَن يشاء ويُذِلّ مَن يشاء.. ".. وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)" أيْ وكما أنك أنت وحدك الخالِق للكوْن وللخَلْق فأنت أيضا وحدك الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، إنك تُعِين بكل العَوْن مَن يستعين بك، وتُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقك يُعينوه علي ما يريد تحقيقه، إنك تعالي تَبْسط الرزق أي تُوَسِّعه وتكثره لِمَن تشاء، وتَقْدِر أي تُضَيِّق وتُقَلّل لمَن تشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات، فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم حيث هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيد من الشرح والتفصيل)، فالرزق ليس مالا فقط، وإنما إضافة للمال الصحة والعافية والأمن والأمان وراحة البال والمَأكل والمَشرب والمَلْبَس والمَرْكَب والمَسْكَن الطيِّب الهنيء والأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء الأمناء الصالحين الخَيِّرِين وبالجملة كل ما يُسْعِد الإنسان ومَن حوله في الداريْن.. ".. بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)" أيْ هذه الأرزاق، في الدنيا، وفي الآخرة بما لا يُوصَف ولا يُقَارَن لمَن يؤمنون بها، تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا أنت الذي أعطيتها سبحانك الكريم الوَهَّاب، فأنت تُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبك أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكك فأنت مالك المُلك كله
لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)" أيْ لا يَجْعَل أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن يَتّخِذ، المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – وهم المُتَأَكّدون تماما كما في الآية السابقة أنَّ الله هو مالِك المُلك كله وبيده الخير كله، الكافرين – أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء – أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأمورهم وليس المؤمنين يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم فيها ويتحابّون ويَتناصرون فيما بينهم ويُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لهم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونهم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أمورهم ويَقودنهم ويُوَجِّهونهم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.." أيْ ومَن يَفعل ذلك الاتّخاذ للكافرين من دون المؤمنين فليس مِن ولاية الله في شيء، لأنه لا تَجتمع حتماً ولاية الله مع ولاية الكافرين والمُتَشَبِّهِين بهم، وليس مِن الصِّلَة بالله أبداً في أيِّ شيء، أيْ تَبَرَّأَ الله منه، فهو ليس مُطلقاً من حزبه ومن أوليائه في شيء، فقد ابْتَعَدَ عنه تماما، أيْ قَطَعَ كلَّ صِلَةٍ بينه وبين الله والإسلام والمسلمين، فلا حُبّ ولا تَوَاصُل ولا رعاية ولا أمن ولا عوْن ولا توفيق ولا سداد ولا رزق ولا بركة ولا تيسير ولا قوة ولا نصر وبالجملة لا سعادة بل كل كآبة وتعاسة في دنياه وأخراه.. إنَّ علي المؤمنين أن يَتّخذ بعضهم بعضاً أولياء ليَقْوُوا ويَرْقُوا ويَسعدوا في الداريْن.. ".. إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً.." أيْ إلا في حالة أن تَتَجَنّبوا منهم ضَرَرَاً يجب الاتّقاء منه، أيْ إلا أن تخافوا منهم مَخَافَةً مَا، والتقاة هي الخشية والخوف، أيْ إلا في حالات الضعف الشديد وأن يَغْلِب علي ظنّ الصالحين حُدُوث ضَرَرٍ شديد، سواء بالنسبة للأفراد المسلمين أو للمجموعات والدول المسلمة، فحينذٍ وبسبب هذه الضرورة القُصْوَيَ يُمكن مُوالاتهم اتقاءً لهذا الضرر الشديد وتكون في أضيق الحدود وظاهريا باللسان لا بالعمل ما أمكن وفي أقل الأوقات المُمْكِنَة وبكراهية ذلك بالعقل كراهية شديدة وبالعزم الأكيد بالنوايا به علي سرعة التخلّص من هذا الوضع في أقرب وقتٍ مُمْكِنٍ من خلال زيادة قوة المسلم والمسلمين ودولهم تدريجيا بكل أنواع القوي الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية والاجتماعية وغيرها ليَعْتَدِل الوضع ويعود لطبيعته الأصلية وهي أن تقود أخلاق الإسلام ويقود المسلمين بعدلهم وتَقَدّمهم البشرية كلها نحو الخير والسعادة في دنياها وأخراها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (106) من سورة النحل "مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ").. ".. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)" أيْ ويُخَوِّفكم الله لكي تكونوا حَذِرِين يَقِظِين فلا تَقَعُوا في مخالفةٍ للإسلام، يُحَذّركم نفسه أيْ مِن نفسه أيْ مِن عقابه بما يُناسب في الدنيا والآخرة إذا خَالَفتم، وأنتم متأكّدون تماما أنه إلي الله المصير أيْ مصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه إليه وحده لا إلي غيره المصير أيْ المَرْجِع في الدنيا فهو سبحانه الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنها وفَصَّلَها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله إليهم عن طريق رسله.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ حيث يُحَذّر سبحانه من ذاته العَلِيَّة وعذابه وغضبه فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار
قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُحَوِّلون ما يَدور في عقولهم أحيانا من أفكارٍ في الشرّ إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئة شَرِّيَّة علي أرض الواقع، بل يُقاومونها ويَتناسونها ويَفعلون عكسها، أيْ يقولون كلّ خيرٍ ويعملون كل خير، فحينئذ يكون لهم أعظم الثواب والسعادة في الداريْن علي مقاومتهم وفِعْلهم الخير، وما يَمُرّ بالعقل وقتها من خواطر سيئة فهي يُعْفَيَ عنها بكل تأكيدٍ كما يقول الرسول (ص) مؤكّداً ذلك " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" (أخرجه البخاري ومسلم).. لكنْ مَن يستمرّ في التفكير الشَّرِّيِّ بعقله ويُخَطّط ويُدَبِّر للشرّ استعداداً لتنفيذه، فهذا ولا شكّ قد دَخَلَ في أوُلَيَ مراحل فِعْل الشَّرِّ وعليه إثمه ويحاسبه ربه عليه سواء نَفّذَ تفكيره السَّيِّء هذا واقعيا وفِعْلِيَّاً أم لا، فإنْ نَفّذه زادَ ذنبه واشتدّ حسابه علي قَدْر جريمته وما حَقّقت من أضرار وتعاسات.. وهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه بداخل خَلْقه فهو له ما في السماوات وما في الأرض ويعلم كل ما فيهما وهو علي كل شيءٍ قدير.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
هذا، ومعني "قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ لم تُظْهِروا ما بداخل عقولكم من فكرٍ في الخير أو الشرّ أو تُظهروه يعلمه الله بكل تأكيدٍ فهو عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم (برجاء لاكتمال المعاني ومعرفة كيفية الحساب علي الخَواطِر بالعقل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة).. ".. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ وقطعاً لا يَخْفَىَ عليه أيّ شيءٍ من أحوال كل مخلوقاته فيهما بل هو بكلّ شيءٍ في كوْنه عليم تمام العلم.. ".. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم تجد فيه كل نفسٍ إنسانيةٍ ما عملت في دنياها مِن خيرٍ قَلّ أو كَثُر حاضراً معها ظاهراً ثابتاً واضحاً كأنه قد أٌحْضِرَ من الدنيا إلى الآخرة فتراه بعينها مُسَجَّلاً في كتابها وسِجِلّها المُسَجَّل فيه كل أقوالها وأفعالها الخيرية والشَّرِّيَّة لحظة بلحظةٍ صغيرها وكبيرها سِرَّها وعلانيتها بكل دِقّةٍ وعدلٍ دون أيِّ ذرّة خطأٍ أو ظلمٍ حيث ستُعْطَيَ أجرها العظيم في مقابل الخير بكل خيرٍ وسعادةٍ خالدةٍ في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وأمّا ما عملته وقالته من سوءٍ أيّ شَرٍّ فإنها يومها حينها تتمنّي وتحب بشدّة لو كان بينها وبينه زمنا طويلا ومسافة بعيدة خوفا مِمَّا يَتَرَتّب عليه من فَضْحٍ وعقابٍ وعذابٍ لا يُوصَف، ولكن لن يتحقق لها حتماً هذا التّمَنّي بل ستَندم علي عملها لهذا السوء في وقتٍ لا ينفع فيه الندم حيث يومها يوم حسابها لا يوم عملٍ وتصويب لأخطائها.. ".. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.." أيْ ويُخَوِّفكم الله لكي تكونوا حَذِرِين يَقِظِين فلا تَقَعُوا في مخالفةٍ للإسلام، يُحَذّركم نفسه أيْ مِن نفسه أيْ مِن عقابه بما يُناسب في الدنيا والآخرة إذا خَالَفتم، فهو أعلم بكم تمام العلم، فيُجَازِي يومها كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ حيث يُحَذّر سبحانه من ذاته العَلِيَّة وعذابه وغضبه فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولْيَفْعَل كلّ خيرٍ ولْيَتْرُك كلّ شَرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ في تحذير الله تعالي من نفسه كما في الآية (28) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ رؤوف رحيم بالناس جميعا وبالخَلْق كله فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو مِن رأفته بهم حَذّرهم نفسه ليَنتبهوا وليُحْسِنوا كلّ قولٍ وعملٍ ليَسعدوا ولا يَتعسوا في الداريْن
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا جعلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك الكريم (ص) وإسلامك هي علاقة حُبّ، إضافة بالتأكيد لعلاقة الاستبشار والتّشَوُّق لأفضل جزاءٍ لأعلي جِنان الآخرة علي فِعْل كلّ خيرٍ وعلاقة الحَذَر والابتعاد عن النيران بتَرْك كلّ شَرّ.. إنَّ علاقة الحُبّ الصادق الصافي بين المُحِبّ ومَحْبُوبِه تجعلهما دائمي التواصُل حَرِيصَيْن علي عدم الافتراق أبدا، فتَصَوَّر مَدَيَ مشاعر السعادة والارتياح والرضا والأمان التي ستَغْمُرك عقلاً وجسداً وأنت علي هذا الحال، إنها ستَدْفَعك حتماً أشدّ الدَّفْع للحرص عليها دائما بعدما ذُقْتَ حلاوتها بفِعْل كلّ الخير والبُعْد عن أيِّ شَرٍّ يفقدك سعادتها ومُتعتها.. ولله تعالي المثل الأعلي.. وستَسعد كذلك إذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كنتم تُحِبّون الله بحقٍّ كما تقولون، فلا يَكفي القول فقط وإنما لا بُدَّ من العمل الذي يُصَدِّقه ويَتَوَافَقَ معه لإثبات ذلك، بأنْ تتّبعوني، أيْ تَتّبعوا كل أخلاق الإسلام التي في القرآن العظيم في كل شئون حياتكم.. إنَّ الحب يُعين علي الاتّباع ويُسَهِّله ويُمَهِّد له الطريق.. إنه بالتأكيد كل مَن يحب الله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوَصَاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المُحِبّ له فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالحب إلْهَابٌ لمَشاعِرهم للعَوْن علي سرعة الاستجابة.. إنَّ المسلم المُحِبّ لربه لو فَارَقَه للحظة، لشَرٍّ مَا فَعَلَه، فإنه يعود فوراً تائباً له لتعود له سعادة مُلاَزَمَتِه الغامِرَة بعدما ذاقَ تعاسة ومرارة الشَّرّ بالقَدْر الذي فَعَلَه.. ".. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.." أيْ فإنْ اتّبَعْتُموني فإنَّ ذلك حتماً سيُؤَدِّي إلي أنْ يُحِبَّكم الله، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وحَبَّبَ خَلْقَه فيه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، كما وَعَدَ سبحانه في أحاديث الرسول (ص) المعروفة، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما لكم.. ".. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)" أيْ وكذلك يؤدي إلي أن يُسامحكم فلا يُعاقبكم علي ذنوبكم ويزيلها كأن لم تكن ويَمْحُو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن ويَسْترها ويُخْفيها فلا يُعَذّبكم بفَضْحكم بها فيهما، ويُنجيكم برحمته يوم القيامة من عذاب النار المُؤْلِم المُهِين بأنْ يُعينكم علي ما تقومون به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ يشملكم بعفوه وبمغفرته لِمَا قد تقعون فيه من ذنوبٍ ويُيَسِّر لكم التوبة منها أوَّلاً بأوّل، فإنه غفور رحيم أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباع الرسول (ص) كما جاء في الآية السابقة، أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أطيعوا أي استجيبوا ونَفِّذوا أيها الناس ما وَصَّاكم به الله ورسوله (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)" أيْ فإن استجابوا فلهم كل الخير والسعادة فيهما وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فإنَّ الله حتما لا يُحِبّ مُطلقاً الكافرين أي المُكَذّبين بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول (ص) وللإسلام كما في الآية السابقة، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب كفره وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك.. وإذا وَرَّثْتَ ذُرِّيَّتك من الأبناء والأحفاد والأقارب وغيرهم مِثْل ذلك، فهذا هو الضمان لاستمرار البَشَرِيَّة علي الخير والسعادة فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)" أيْ إنَّ الله قد اصطفي أفضل البَشَر هؤلاء علي جميعهم في زَمَنِهم وبَعْده حتي قيام الساعة، أي اختارهم، لحُسْن أخلاقهم وكمالهم، واصطفي لهم الدين، الإسلام، ليُنَظّم لهم كل شئون حياتهم ليُسعدها، وقد خَصَّهم تعالي بالذكْر لأنَّ كلّ الرسل مِن نَسْلِهم، فاقتدوا بهم وافعلوا مثلهم أيها الناس، فإنْ اقْتَدَيْتَ بهم أيها المسلم، قَارَبْتَ أن تَصِلَ إلي الكمال مثلهم، كما يُشَجِّعنا علي ذلك الرسول (ص) بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، وسيَختارك ربك مِثْلما اختارهم، لتكون داعيا له وللإسلام هاديا لخَلْقه مُنيراً لهم طريقهم في حياتهم قائداً لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وسيُعطيك مثلما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن.. لقد ذَكَرَ آدم عليه السلام لأنه أول إنسانٍ خَلَقه بيده تعالي وبقية الإنسانية من نَسْلِه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعَلّمه أسماء كل شيء في الحياة ليتعلّموا منه كلهم بعده جيلا بعد جيل أصولها وكيفية ضبطها بأخلاق الإسلام، وذَكَرَ نوحا (ص) لأنه أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لَمَّا ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم ليُعيدهم إليه ونَصَرَه علي مَن عادوه بأنْ أغرقهم جميعا بالطوفان وأنجاه والمسلمين معه في السفينة، وذَكَرَ آل إبراهيم أيْ هو وأهله وهم إسماعيل وإسحاق والرسل من أولادهما لأنه خليله أيْ حبيبه وأنجاه من النار حينما ألقاه فيها أعداؤه وجعل في ذِرِّيَّته كلّ الرسل والكتب وخاتمهم سيد الخَلْق الرسول الكريم محمد (ص) الذي أُوحيَ إليه آخر كتبه وهو القرآن العظيم، وذَكَرَ آل عمران أيْ هو وأهله وهو إمّا عمران أبو موسي (ص) لأنه الذي كَلّمه الله وأنجاه وقومه من فرعون بأنْ شَقَّ له البحر وهو ما لم يَحدث لأحدٍ من العالمين أو عمران أبو مريم التي وَلَدت عيسى (ص) بغير أبٍ وهي المعجزة التي لم ولن تَحدث مثلها.. إنَّ الله تعالي يُبَيِّن ضِمْنَاً في هذه الآية الكريمة أنه لا يَترك الناس يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويَفْسَدون فيَتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل هو معهم دائما حتما بعِلْمه وبقُدْرته منذ خلق آدم وحتي يوم القيامة بسبب عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وذلك بأن يعطيهم هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وهو دين الإسلام
ومعني "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)" أيْ أولئك المُصْطَفين الأخْيار بعضهم أبناء من بعض، فنوح من ذُرِّيَّة آدم وآل إبراهيم من ذرية نوح وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهم مُتَّصِلُون في النّسَب وأيضا في كمال الأخلاق والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وحُسن الدعوة له حيث هم متساوون في ذلك يَتَوَارَثونه فيما بينهم ويُحافظون تماما عليه بعوْن الله وتيسيره لهم بتوكّلهم الدائم عليه وشكرهم له.. إنَّ الله تعالي يُوصي المسلمين ضِمْنَاً في هذه الآية الكريمة أن يُوَرِّثُوا ذُرِّيَّتهم من الأبناء والأحفاد والأقارب وغيرهم ذُكُورَاً وإناثاً مِثْل ذلك، فهذا هو الضمان لاستمرار البَشَرِيَّة علي الخير والسعادة علي الأرض وفي الكوْن، فلولا أنَّ الرسل والصالحين والدعاة السابقين قد قاموا بتوصيل هذه الأمانة من ربهم، أي الإسلام، علي أكمل وجهٍ، لَمَاَ وَصَلَتْ للمسلمين الحالِيِّين وسَعِدُوا بها، وإذا لم يقوموا هم وذُرِّيَّاتهم بتوصيلها لمَن بعدهم لَحُرِمُوا سعادتها وأَثِمُوا علي هذا إنْ لم يكن لهم عذر مقبول، وإنْ قاموا بها فلهم أجرهم العظيم في الداريْن كما وَعَدَ الرسول (ص) ووعده الصدق بقوله " إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. فأحْسِنوا اتّخاذ أسباب كل ذلك أيها المسلمون وأتْقِنُوه ما أمكن، وأبْشِروا، فالله سميع عليم أيْ فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
تفسير الآية (35)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ حياتك مُحَرَّرَاً، أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاق أخري مُخَاِلَفة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها.. إنك إنْ خَالَطْتها بما يُخَالِفها عِشْتَ مُتَقَلّبَاً بين الخير والشرّ مُضطرباً قَلِقَاً مُتَوَتّراً كئيباً تَعيسا.. بينما لو خَلّصْتَها من هذه الشوائب والشرور والمَفاسد والأضرار عِشْتَ مُخْلصاً نَقِيَّاً صادِقَاً شَفّافَاً ساكناً مُطمئناً آمِنَا، وبالجملة سعيدا.. فانْذر نَذْرَاً أن تعيش دَوْمَاً مُحَرَّرَاً واجتهد ما استطعت في الوفاء به لتسعد في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قالت امرأة عمران والدة مريم أم عيسي (ص) عندما حَمَلت بها – وعمران هو أبوها وليس عمران أبو موسي (ص) – داعية سائلة الله تعالي ربّ إني قد نَذَرْتُ من أجلك ما في بطني من جنينٍ سيُولَد مُحَرَّرَاً أيْ خالصاً لك وللإسلام، أي وَعَدْتُ وأَلْزَمْتُ نفسي بذلك – والنذر هو وَعْدٌ مستقبليّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ يشترطه المسلم علي ذاته كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق يجتهد في أدائه في موعده ولا يُقَصِّر ولا يُخْلِف وَعْده مع ربه بعدم أدائه – فاقْبَل مِنّي أيْ أعطني عليه من عطائك الذي لا يُحْصَيَ خيراً وسعادة في دنياي وأخراي فإنك أنت السميع العليم أيْ فأنت وحدك بالتأكيد الذي لك كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنك السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وأنت العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقك، وبالتالي ستُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنَّ الآية الكريمة تُفِيد ضِمْنَاً أن يعيش المسلم دائما حياته مُحَرَّرَاً، أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتَّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاق أخري مُخَالِفَة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها، فهو إنْ خالَطَها بما يُخَالِفها عاش مُتَقَلّبَاً بين الخير والشرّ مُضطرباً قَلِقَاً مُتَوَتّرَاً كئيباً تعيسا علي قَدْر ما فَعَلَ مِن شَرّ، بينما لو خَلّصها وحَرَّرها من هذه الشوائب والشرور والمَفاسد والأضرار عاش مُخلصَاً نَقِيَّاً صادقا شَفّافاً ساكناً مُطمئناً آمِنَاً وبالجملة سعيدا.. كذلك تُوصِي الآية الكريمة المسلم لكي يسعد أن يكون دائم السؤال والدعاء لربه أنْ يُثَبِّته علي هذا التحرير، أيْ علي هذا الإخلاص، لِتَثْبُت وتستمرّ سعادته، ولا بُدَّ حتماً سيَستجيب سبحانه كما وَعَدَ ووَعْده الصدق " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.." (البقرة:186) والإجابة من معانيها التّقَبّل، فسيَتَقَبَّل منه مؤكّداً لأنه أخلصَ وأحسنَ أقواله وأعماله له وحده أيْ يَفعل ما يَفعل مِن خيرٍ ويَقول ما يَقوله منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، النظر لتفسير الآية (125)، (126) من سورة النساء )، فهو سبحانه السميع لكلّ شيءٍ العليم بكلّ شيء
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماماً بلا أيِّ شكّ أنَّ تقدير وتدبير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا ما دُمْتَ كنتَ مُتَمَسِّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهر أمرٍ مَا بعض مَا لم تكن تريده لفترةٍ مَا فستَجد فيه كل الخير مع الوقت تدريجيا إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه (برجاء مراجعة الآية (216) من سورة البقرة ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)" أيْ فلمَّا وَلَدَت مَوْلودتها، قالت ربّ إنّي وَلَدْتُ أنثي، والله حتما أعلم بما وَلَدَت لأنها خَلْقه هو الذي خلقها ويعلم كل ذرّة فيها والمستقبل العظيم لحياتها!!.. ".. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ.." أي هذا إمّا من كلام الله تعالي أو كلامها، أيْ ليس الذكر كالأنثي في قوة التّحَمُّل والحماية في مُقابِل الحنان والعاطفة لديها، لأنها كانت تَتَمَنّيَ ذكراً يحمل الإسلام ويدافع عنه وهو ما لم يتوفر للأنثي من وجهة نظرها ولذا قالت لَمَّا وَضَعَتْها إني وَضَعْتُها أنثي كأنها تتحدّث بحبٍّ لخالقها مُعْتَذِرَة إليه أنَّ المولود ليس ذكراً يمكنه القيام بما كانت تتمنّاه وهي مع هذا راضية حتما بإرادته الخالق الحكيم الكريم لتأكّدها التامّ أنه لا يَصْدُر عنه إلا كلّ خيرٍ ومصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه جميعا، وبالفِعْل كان مع الوقت لمولودتها هذه شأن عظيم وصِلَة تامّة بالله تعالي إلي الحَدّ الذي كَرَّمها وشَرَّفها بمعجزةٍ لم ولن تحدث قبلها ولا بعدها وهي أن تَلِدَ الرسول الكريم عيسي (ص) بغير أبٍ بقُدْرته تعالي وتنشر معه الإسلام وتدافع عنه وتصبر علي الأذي من أجله بما يجعل كلّ عاقلٍ يتأكّد تماما أنَّ الخير حتما دائما في تقدير وتدبير الله حتي وإنْ ظهر أحيانا غير ذلك لفترةٍ مَا وأنَّ لكلٍّ من الذكر والأنثي دوره الدعويّ لله وللإسلام حسب إمكاناته واستطاعاته وظروفه وأحواله بل وأنَّ كثيرا من الإناث قد يَكُنَّ خيراً مِن كثيرٍ مِن رجالٍ ضعفاء أو سفهاء أو ظَلَمَة أو فَسَدَة أو كَفَرَة أو نحوهم.. هذا، والرجال والنساء في الأصل متساوون، فهذا يجعل الزوج لا يَتَعَالَيَ علي زوجته أو ينتقص من شأنها – وكذلك القريب مع قريبته والزميل في العمل مع زميلته ونحو هذا – وما يَتْبَع ذلك حتماً من صراعاتٍ ظاهرة وخَفِيَّة وتعاسات، فكلٍّ من الرجل والمرأة هم مِن خَلْق الله، وكلاهما فيه نفخة من روح ربه تعالي، وكلاهما له ذات العقل، وكلاهما مطلوب منه الإعمار والعلم والعمل والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والتخطيط والفكر ونحو ذلك من شئون الحياة، وكلاهما له ذات الحساب العادل يوم القيامة علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة، وكلاهما له ذات الدرجات في الجنات إنْ أحسن وذات الدرَكَات في النيران إنْ أساء، وهذا هو المعروف الذي عَرَّفه لنا ربنا ورسولنا الأمين الكريم (ص)، لكنَّ الله تعالي بعلمه وحكمته وتمام عدله جعل للرجل درجة زائدة عن المرأة في مقابل درجة زائدة لها عليه، ليُكْمِل أحدهما الآخر ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه إذ قد أصبح جزءاً منه، وذلك عند زواجهما، لينطلقا في الحياة بكل اكتمالٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وهذه الدرجة للرجل هي قوة التَّحَمُّل والصبر ليُوَفّر لها الحماية والرعاية والأمن ويقوم علي خدمتها وأبنائهما وإدارة شئونهم، والدرجة التي للمرأة هي العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه له ولأسرتها بل وللكوْن كله، كما يقول تعالي عن هذا التّسَاوِي ".. بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهَمْ عَلَيَ بَعْضٍ.." (النساء:34) ولم يَقُل مثلا "بما فَضَّلَهم عليهنّ"!! إذ لو كان الكوْن يَصْلُح بالرجال فقط لَخَلَقه خالِقه كذلك! لكنه سيكون كوْنَاً غير مُتَوَازِن قد يَغْلِب عليه الصَّلاَبَة والقَسَاوَة!! ولو كان الكوْن يَصلح بالنساء فقط لَخَلَقه خالقه كذلك! لكنه سيكون أيضا كوْنَاً غير مُتوازن قد يغلب عليه العاطفة والطراوة!! لكنه سبحانه أراده كوْنَاً مُتوازناً مُسْعِدَاً فوَضَع هذا التّنَوّع المحدود العادل بينهما، إضافة بالقطع إلي الاختلافات الجسدية المعروفة، ليُكْمِل بعضهم بعضا فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ.." أيْ وقد رَضِيتُ يا ربّ قطعاً بما رَزَقْتَنِي وسَمّيتها مريم، وهي تعني بلغتهم وقتها عابِدَة لله، ليكون اسمها تذكيراً دائما لها لأنْ تكون كذلك.. ".. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)" أيْ وإني أسألك وأدعوك طالِبَة أن أُحَصِّنها وأحْمِيها هي وأبناءها وأحفادها بقُدْرتك وبكَفَالتك لهم من الشيطان المُوَسْوِس بالشرّ الرجيم أي المطرود من رحمتك إلي يوم القيامة أي المَرْجُوم أي الذي يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوء، والرجيم كذلك هو الراجِم لأنه يَرْجم ويَقْذِف الناس بالوساوس والشرور، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، فاحْفظهم يا خير مُجِيب بأنْ تجعلهم يعملون بإسلامهم ليَنجوا من وساوسه ومن كل شرٍّ ليسعدوا في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ تربية أبنائك علي كل أخلاق الإسلام ليسعدوا بها هم أيضا في الداريْن كما سَعِدْتَ أنت، ولِيَكون مجتمعك الصغير في أسرتك حولك سعيداً فيعود ذلك عليك، ثم لتَنْشروا هذه السعادة بنشر دعوة الإسلام بكلّ قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة لمَن حولكم الأقْرَب ثم الأبْعَد من الأقارب والجيران والمَعَارِف والأصدقاء والزملاء، فتنتشر السعادة تدريجيا وتَنْزَوِي وتَزول التعاسة بالتدريج في المُقابِل ولا يوجد لها مكان، فيَسعد الجميع في دنياه وأخراه.. إنَّ التربية علي الإسلام سَهْلَة مَيْسُورَة، لأنها كالنّبْتِ لا بُدَّ أن يَنْبت ويَنمو! لكنْ مع حُسن الرعاية والاعتناء! لأنَّ فِطْرة العقل مَفْطُورَة ومُبَرْمَجَة من الخالق الكريم علي تَقَبُّل هذه الأخلاق الإسلامية والسَّيْر والتّطَوّر معها لأنها تُوافِقها بينما غيرها من الأخلاق تُعارِضها فتَتَصَارَع معها وتَرفضها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما علي المُرَبِّي إلا أن يُنَمِّيَ بذور الأخلاق الحَسَنة هذه التي في الفطرة من خلال الحب والحوار والتفاهم والتعاون والتسامح والتدريب التدريجيّ والارتباط بالله تعالي والرسول (ص) والإسلام وبالقُدْوَة الحَسَنة في الأقوال والأفعال وما شابه هذا من وسائل التربية الصالحة، والتي لا بُدَّ حتماً سيُعين الله عليها ويُيَسِّرها لمَن يسألها منه سبحانه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويَجزيه أجره في الدنيا سعادة وفي الآخرة سعادة أتمّ وأخْلَد.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيراً إذا عَلِمْتَ أنَّ الله يرزقك وأبناءك وأهلك والناس والخَلْق جميعا بكل أنواع الرزق، علي قَدْر ما تُقَدِّمون من أسبابٍ مُتْقَنَة ما أمْكَن، من مالٍ وصحةٍ وعافيةٍ وأمنٍ وراحةِ بَالٍ ومَأْكَلٍ ومَشْرَبٍ ومَلْبَسٍ ومَرْكَبٍ ومَسْكَنٍ طيِّبٍ هَنِيء، وأسرة وأقارب وجيران وزملاء وأصدقاء أمناء صالحين خَيِّرِيِن، وحُسن علاقاتٍ مع الله والآخرين، ونوايا حَسَنة بالعقل أثناء كل ذلك، وبالجملة كل ما يُسعدكم في دنياكم وأخراكم.. إنه رزق الله الذي لا حدود له، ولا يُحاسِب سبحانه أحداً عليه فيَدفع ثمنه! ولا يُحاسِبه أحدٌ عليه.. إنه رزق الرَّزّاق بلا حِساب
هذا، ومعني "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لصِدْقها وإخلاصها وإحسانها ودعائها أن استجاب لها ربها فتَقَبَّلَ منها وليدتها مريم قَبُولاً حسناً جميلاً بأعلي درجات القبول أيْ قَبِلَ ورضِيَ منها عملها الصالح هذا وهو أن تكون مريم مُحَرَّرَة أيْ خالصة لله وللإسلام لا تَتّبِع غيرهما وقد ظَهَرَ هذا القبول في أنه تعالي ربَّاها في خَيْره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حَسَنة شاملة للعقل وللجسد علي كل أخلاق الإسلام في بيئة من الصالحين وأعطاها من عطائه الذي لا يُحْصَيَ أعظم الخير والسعادة في دنياها وأخراها ..وهذا هو ما يفعله دائما سبحانه مع كل من يَصْدُق في أن يكون مُحَرَّرَاً أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتَّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها، حيث يُيَسِّر له كل أسباب ذلك فيَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا.." أيْ وجعلها في كفالة الرسول الكريم زكريا (ص) أيْ كافِلاً لها يَتَكَفّل بكل شئون حياتها علي أكمل وأسعد وجهٍ وتتعلم منه كل أخلاق الإسلام، وقد كان زوج خالتها.. ".. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)" أيْ وكان زكريا (ص) كلَّما دخل عليها في أيَّ وقتٍ المكان الذي تُصَلّي فيه لله تعالي وَجَدَ عندها رزقًاً هنيئاً مُتَنَوِّعَاً مُجَهَّزَاً فيقول لها مُتَعَجِّبَاً يا مريم كيف ومِن أين لكِ هذا الرزق الطيب؟! قالت بما يستشعره كلّ مؤمنٍ هو رزق من عند الله، يُيَسِّره لخَلْقِه كيفما ووقتما ومع مَن شاء، إنَّ الله يرزق مَن يشاء بغير حسابٍ أي بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِساب كل أرزاقه وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا الذي أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب، فهو يُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبه أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكه فهو مالك المُلك كله
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يَصْعب عليه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. كذلك ستسعد إذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)" أيْ عند ذلك الوقت والمكان الطاهر الذى كان يلتقى فيه زكريا (ص) بمريم ويَرَيَ صلاحها وخيرها تَحَرَّكَت فى نفسه عاطفة الأبُوَّة وهو الشيخ الكبير فدعاه سبحانه مُتَوَسِّلاً مُتَأَمِّلاً في رحمته وكرمه ورزقه وقُدْرته وعِلْمه أن يستجيب له لأنه يزرق مَن يشاء بما شاء بغير حسابٍ فهو علي كل شيءٍ قدير لا يمنعه أيّ مانعٍ قائلاً يا ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اعْطِ لي من عندك، أيْ السبب يكون منك لا مِنّي لأنَّ الأسباب عندي قد زالت وانقطعت لِكِبَر سِنّي ولم يَعُد إلا سبب منك، ذُرِّيَّة تكون حَسَنة صالحة من أبناء وأحفاد تُصْلِح في الأرض ولا تُفْسِد فتُسعدها ومَن عليها بدينك الإسلام في دنياهم وأخراهم، فإنك سميع الدعاء لمَن يدعوك الذي يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، فأنت قريب الإجابة لمَن يدعوك، فلا يأس مُطلقا ما دُمْتَ معنا بعلمك وبقدرتك فأنت القادر علي كل شيء، فإنْ أجَبْتَ لى سؤالى رغم كِبَر سِنّي فبفضلك ورحمتك وإنْ لم تُجِبْه فلِحِكْمَةٍ ولمَصلحةٍ لنا ولغيرنا تعلمها ولا نعلمها نحن (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه)
ومعني "فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لصِدْقه وإخلاصه وإحسانه ودعائه أن استجاب الله له فكَلّمته الملائكة وهو واقف يُصَلّي في المكان الذي يُصَلّي فيه لله تعالي قائلة أنَّ الله يُخْبِرك بخَبَرٍ يَسُرُّك وهو أنك ستُرْزَق بولدٍ اسمه يحيى.. ".. مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ.." أيْ سيكون مؤمنا مُصَدِّقاً تمام التصديق بعيسي (ص) حيث يُسَمَّي كلمة من الله لأنه كان بكلمةِ كُنْ منه سبحانه فكانَ مِن غيرِ أبٍ، وكذلك يُصَدِّق بكلمةٍ من الله أيْ بكتابه الذي فيه كلمته وكلامه للناس وهو الإنجيل الذي أوحِيَ لعيسي (ص) والذي فيه الإسلام الذي يُناسب عصرهم حيث كان يَحْيَ في زمنه مؤمنا به وعلي دينه، وهو في الأصل قريبٌ له لأنَّ أمه زوجة زكريا هي أخت أمّ مريم أمّ عيسي.. ".. وَسَيِّدًا.." أيْ وله مَكَانته ومَنْزِلته العالية بين الناس قائداً مَرْجِعَاً لهم يقودهم نحو كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم بأخلاق وتشريعات الإسلام وبإمكاناته وقُدْراته وعوْن الله وتوفيقه وتيسيره له.. ".. وَحَصُورًا.." أيْ وهو كثير شديد الحَصْر لذاته أيْ الحَبْس والمَنْع لها عن كلّ سوءٍ وشرّ.. ".. وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)" أيْ وسيكون من الأنبياء وهم الذين لا يختارهم الله إلا من الصالحين الذين وصلوا أعلي درجات الصلاح لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به في الدرايْن، أيْ سيَصِل إلي أعلي درجات التكريم فيهما، وهذا مزيدٌ من التبشير والإسعاد لزكريا (ص) بأنَّ ابنه المُنْتَظَر سيكون بهذه الصفات الطيبة وأيضا نَبِيَّاً كامل الصلاح.. هذا، وعلي كل مسلم أن يجتهد ما استطاع في التَّشَبُّه بمِثْل صفاته الكريمة هذه وغيرها من أخلاق الإسلام لهؤلاء الرسل الكرام ليقترب من مَكَانتهم في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)" أيْ ولمَّا بَشّرَته الملائكة بتلك البُشْرَيَ السعيدة اتّجه إلى ربه مُسْتَفْهِمَاً مُتَشَوِّقاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها هذا الغلام مع عدم توافر الأسباب العادية لِكَبَر سِنّه وعُقْم زوجه ومُقَدِّرَاً ومُعَظّمَاً لقُدْرته علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَاً ومُتَأَكّدَاً منها ومُحِبَّاً فيها ومَسْرُوراً بها ومُنْتَظِرَاً لها، وليس حتماً مُسْتَبْعِدَاً مُنْكِرَاً لها مُتَشَكّكَاً فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا بنَبِيٍّ كريم!!.. أىْ قال يا ربّ كيف يكون لي غلام وحالي أننى قد أدركنى الكِبَر الكامل الذى أضعفنى وفوق ذلك امرأتى عاقر أىْ عقيم لا تَلِد؟!.. ".. قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)" أيْ رَدَّ الله تعالي عليه لتوضيح الأمر له ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَفعل الله ما يشاء أن يَفعله مِن الأفعال الخارِقَة للعادة فحينما يريد أمراً مَا يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)" أيْ قال زكريا (ص) داعِيَاً سائلاً الله تعالي معرفة وقت بدء هذه البُشْرَيَ السعيدة يا رب اجعل لي علامة ودلالة أسْتَدِلّ بها علي حدوثها وحصول الحمل ووجود الولد، قال له علامتك ألا تستطيع تكليم الناس لمدة ثلاثة أيام إلا إشارة إليهم بيديك ورأسك رغم عدم وجود مرض بك يمنعك من كلامهم فيما عدا ذِكْرك لي فإنك ستستطيعه وهذا من علامات قُدْرتي علي كلّ شيءٍ حيث لا يمكنك الكلام إلا بالذكر.. ".. وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا.." أيْ واذكر كثيرا مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، أثناء هذه الفترة وعلي الدوام.. هذا، والذكر يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)" أيْ وسبح ربك أيْ نَزّهْهُ وابْعِدْهُ عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ، بالعشي والإبكار أيْ في آخر النهار وأوله، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم، أي اذكره وصَلّي له واعبده أي أطِعْه وافْعَل كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتك، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت، لتَسعد تمام السعادة بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة
ومعني "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قالت الملائكة لمريم يا مريم إنَّ الله قد اختارك بسبب حُسْن خُلُقك وكمالك واصطفي لكِ الدين، الإسلام، ليُنَظّم لكِ كل شئون حياتك ليُسعدها، واختارك لتكوني داعية له وللإسلام هادية لخَلْقه مُنيرة لهم طريقهم في حياتهم مُرْشِدَة لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وأعطاك مثلما أعطي رسله من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن.. هذا ومَن تَشَبَّه بأخلاقها من المسلمين نالَ حتماً ما يُقارِب مَكَانتها فيهما.. ".. وَطَهَّرَكِ.." أيْ وعاوَنَكِ علي ما تقومين به من التّطَهُّر والتّعَفّف بالامتناع عن فِعْل أيِّ خُلُقٍ سَيِّءٍ ويَسَّرَ لكِ ذلك.. ".. وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)" أيْ وكذلك اختارَكِ وفَضَّلكِ وكَرَّمَكِ علي كل النساء بأنْ أحْدَثَ لكِ مُعْجِزَة لم ولن تَحدث وهي أن تَلِدِي مولوداً بغير أبٍ وزادَك تكريماً وتشريفاً بأنْ جَعَله رسولا كريما وهو عيسي (ص) تشتركين معه في إرشاد الناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)" أيْ وقالت لها الملائكة أيضا يا مريم في مُقابِل كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ اشْكُرِي الله بأنْ تكوني دَوْمَاً من القانِتِين لربك أيْ الذين يُوَاظِبون علي طاعته تعالي في كل ما طَلَبَه منهم في وصاياه في الإسلام باختيارهم وبرضاهم وبكلّ حبٍّ له ولطاعته الآمنين الساكنين المُطْمَئِنّين برعايته لهم وأنه معهم علي الدوام بعِلْمه وقُدْرته.. ".. وَاسْجُدِي.." أيْ واخْضَعِي لخالقك ورازقك ولتوجيهاته وإرشاداته واستجيبي واستسلمي لها وقُوُمِي بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتك بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا اسجدي لله مُتَوَاضِعَة خاشِعَة ساكِنَة علي جبهتك في صلاتك أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، واكتسبي من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا تَسْتَعْلي عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد بعد السجود والاستسلام لله علي طاعة الله تعالي تمام الطاعة عموماً وبصورةٍ شاملةٍ في كل الأمور وليس في بعضها دون بعض أو بالسجود والصلاة فقط والإخلاص له وحده تمام الإخلاص والإحسان وعدم الإشراك معه في عبادته أيْ طاعته أيَّ شيءٍ آخر (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، حيث الركوع مثل السجود يُفيد كذلك الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو الركوع له بتواضُعٍ وخشوع وسكون في الصلاة.. أيْ واعبدي الله تعالي مع العابدين أيْ وأطيعيه مع الطائعين واتّبِعي كل أخلاق الإسلام مع المُتَّبِعين ويُعين بعضكم بعضاً علي ذلك.. إنَّ مِن معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أيضا التوجيه لكل المسلمين أن صَلّوا مع المُصَلّين لتنالوا ثواب الصلاة وثواب الجماعة الذي هو أضعاف صلاة المُنْفَرِد وحده لِمَا في التّجَمُّع من منافع وسعادات
ومعني "ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)" أيْ ذلك الذي قَصَّه القرآن العظيم عليك من قصص السابقين الذين اصطفاهم الله ومن القصص الحكيم عموما هو من أخبار الغيب الذي نُوحِيه إليك عن طريق المَلَك جبريل والذي لم يكن يعلمه أحد غيرنا وقد أخبرناك به ليكون دليلا على صِدْقك فيما تُبَلّغه عنا وليكون عِبْرة لمَن أراد الاعتبار والعمل به ليسعد في دنياه وأخراه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. والغيب هو كلّ ما غابَ عن الناس من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث لهم فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)" أيْ وأيضا مِمَّا يُؤَكّد صِدْقك وأنَّ هذا القصص وهذا القرآن هو وَحْي من عند الله لا مِن عندك أنك تُخبر بأخبار لم تَحضر زمنها فأنت ما كنت قطعا عندهم حاضراً معهم حين كانوا يَقذفون أقلامهم كوسيلةٍ من وسائل الاقتراع لبيان أيُّهُم سيقوم بكفالة مريم وهو الذي سيفوز بالقُرْعة وبالتالي تُتْرَك المسألة لتقدير الله تعالي وما كنت عندهم ومعهم حينما كانوا يُخَاصِم بعضهم بعضا لكي ينال هذا الشرف والتكريم والخير والرخاء والسرور في الدنيا ثم أعظم الثواب والسعادة في الآخرة لأنه سيقوم بتربية وليدة يتيمة هي مريم ابنة عمران بعد وفاته وهو كان إمامهم في الصلاح وأعلمهم بالإسلام ويُرشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ولقد فاز بالقرعة الرسول الكريم زكريا (ص) زوج خالتها فكانت في كفالته بتقدير الله تعالي وفضله لتتعلّم منه كل أخلاق الإسلام وتَتَرَبّي عليها عنده.. هذا، والآية الكريمة تُفيد ضِمْنَاً أنه علي المسلم أن يجتهد في أن يكون دَوْمَاً من المُسارِعِين للخير المُتَهَافِتِين المُتنافسين علي فِعْله، كما فَعَل أهل الخير عند تسابقهم لكفالة مريم حتي وَصَلَ الأمر للاقتراع علي ذلك، فهذا ينشر كلّ خيرٍ ويزيده بين الناس ويزيح الشرَّ ويجعله مُنْزَوِيَاً حتي يَنْقَرِضَ تدريجيا فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قالت الملائكة لمريم يا مريم إنَّ الله يُخْبِركِ بخَبَرٍ يَسُرُّكِ وهو أنك ستُرْزَقين بولدٍ خَلَقَه بكلمةٍ منه أيْ بقولِ كُنْ فيكون كما يريد مِن غيرِ أبٍ كما هي الطريقة المعتادة في التَّوَالُد فهو مُعجزة بقُدْرته وعلمه خارجة عن الأسباب الدنيوية المعروفة لتحقيق النتائج اسمه المسيح عيسي ابن مريم – والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي (ص) سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة – من صفاته الطيّبة كَوْنه وجيهاً في الدنيا والآخرة أيْ له جاه عظيم فيهما أيْ قَدْر وشرف كبير ومَكانَة عالية بين الناس بسبب ما اتّخذَ من أسبابٍ حَسَنَةٍ لذلك من حُسْن خُلُقٍ في كل أقواله وأفعاله ينشره بينهم ويدعوهم إليه وبسبب رعاية ربه وعوْنه وتوفيقه وسداده له، وأيضا من المُقَرَّبين له تعالي فيهما حيث في دنياه هو دائم التّوَاصُل معه والاستعانة به قريب المَكَانَة منه – كما للناس – مُحَبَّب إليه دائم الأمن والسعادة بذلك وفي أخراه هو قريب منه حتما في أعلي درجات جناته.. إنَّ هذا بالقطع سيكون حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه بالرسل الكرام ما استطاع في تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم حيث يكون له من الله تعالى جاه عظيم ويعيش في كل رضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن وخير وسعادة، في دنياه وأخراه
ومعني "وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)" أيْ وسيُعطيه الله تعالي بقُدْرته مُعجزة خارِقَة للعادة وهي أن يُكَلّم الناس وهو رضيع في المَهْد أيْ الفراش الذي يُمَهَّد أيْ يُجَهَّز ليَنام فيه الرضيع، وكذلك وهو كَهْل أي في سِنٍّ بين الشباب والشيخوخة، فهو سيتكلم بكلام الله تعالي وهَدْيِه الذي يُوحِيهِ إليه فيَهتدي به الناس ويَقتدون بأخلاقه حيث سيكون رسولا كريما من الله داعيا له وللإسلام يتكلم بكلام الرسل الكرام سواء أكان صغير السِّنِّ أم كبيرا، وسيكون من الصالحين أيْ مِن أصحاب الخُلُق الحَسَن الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون في الأرض ولا يُفسدون ويُتعسون فيها الذين يَصْلُحون لحَمْل الإسلام وتبليغه للناس، والصالح لا يكون كذلك إلا إذا كان مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله في كل شئون حياته، فيَسعد بذلك في الداريْن.. وهذا من أعظم البِشَارات لمريم
ومعني "قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)" أيْ ولمَّا بَشّرَتها الملائكة بتلك البُشْرَيَات اتّجهت إلى ربها مُسْتَفْهِمَة عن الكيفية التي يكون بها هذا الولد مع عدم توافر الأسباب العادية وهي الجماع بين الرجل والمرأة ومُقَدِّرَة ومُعَظّمَة لقُدْرته علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَة ومُتَأَكّدَة منها، وليست حتماً مُسْتَبْعِدَة مُنْكِرَة لها مُتَشَكّكَة فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا بالطاهرة مريم أم الرسول الكريم عيسي (ص)!!.. أىْ قالت يا ربّ كيف يكون لي ولد وحالي أننى لم يُجَامِعْنِي زوج لي فأنا لست متزوجة ولست بفاسدة؟!!.. ".. قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)" أيْ رَدَّ الله تعالي عليها لتوضيح الأمر لها ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَخْلق الله ما يشاء أن يَخلقه ويَفعل مِن الأفعال الخارِقَة للعادة ما يشاء أن يَفعله فحينما يَقْضِي أمراً مَا أيْ يُريده يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة بمجرّد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48)" أيْ وسيُعَلّمه الكتاب الذي سيُرْشِده لاتّباعه بأنْ يُبَيِّن له معانيه وأخلاقياته وكيفية تطبيقها في حياته هو والناس حوله الذين سيَدعوهم للإسلام الذي فيه ليسعدوا به في الداريْن، ويُعَلّمه أيضا الكتاب بمعني الكتابة والخط حيث سيكون في بيئة مُتَعَلّمة فيكون أعلمهم، ويُعَلّمه كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب الذي سيُعَلّمه إيّاه، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ثم يُحَدِّد تعالي الكتاب الذي سيُرْشِده لاتّباعه وهو التوراة التي أنزلت علي موسي (ص) قبله ومعها يُعَلّمه الإنجيل الذي سيُوحِيه إليه بعدها وفيه من الإسلام ما يُناسب عصره
ومعني "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)" أيْ وسيُكرمه ويُشَرِّفه ويُعْلِيه بأن يجعله رسولا أيْ مبعوثاً منه إلي بني إسرائيل أيْ اليهود والناس حولهم ليُعلّمهم الإسلام قائلاً لهم أني قد أحضرت لكم آية من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسول منه، وهي أني أصنع وأُصَوِّر لكم من الطين مثل شكل الطير فأنفخ فيه فتَحِلّ به الحياة فيكون طيراً حقيقياً مُتَحَرِّكَاً بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ وأيضا أَشْفِي مَن وُلِد أعمى، ومِن باب أولي مَن كان مُبْصِرَاً وفَقَدَ بصره فذلك أخفّ، ومَن به بَرَص، وهو مرض جلديّ مُزْمِن مُنَفّر يَصعب شفاؤه، وأُحيي مَن كان ميتاً، كل ذلك حتماً بإذن الله.. ".. وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.." أيْ وكذلك أخبركم بالشيء الذى تأكلونه وبالشىء الذى تقومون بتخزينه فى بيوتكم لوقت حاجتكم إليه، بإعلام الله تعالي لي.. ".. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)" أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ من مُعجزاتٍ بكل تأكيدٍ دلالة عظيمة لكم تدلّ علي صِدْقي أني رسول الله إليكم، لو كنتم مؤمنين بحقٍّ يا بني إسرائيل أي يا يهود كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فآمنوا بي إذَن كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله وصَدَّقَ بموسي (ص) في زمنه وهم اليهود فإنه حتما سيُؤْمِن بعيسي (ص) إنْ كان حاضراً زَمَنه وبما جاء به من إنجيلٍ وسيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. إنَّ هذه المعجزات وغيرها تدلّ دلالة قاطعة كلَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنَّ الله تعالي يَخْلق ما يشاء أن يَخلقه ويَفعل مِن الأفعال الخارِقَة للعادة ما يشاء أن يَفعله فحينما يَقْضِي أمراً مَا أيْ يُريده يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة بمجرّد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)" أيْ وأرسلني الله إليكم مُصَدِّقا لما بين يَدَيّ أيْ لِمَا قَبْلِي نَزَلَ سابقاً لي من التوراة التي أُنْزِلَت علي موسي (ص) وتؤمنون بها، أيْ مُوَافِقا ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق ما جئتكم به وهو الإنجيل إذ لو كنت كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله تعالي وكليهما يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يَرْفض الخير إذا جاءه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بما جئت به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم.. ".. وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.." أي وأرسلني أيضا إليكم لكي أُبِيحَ لكم بأمرٍ ووَحْيٍ منه في الانجيل بعض الذي حَرَّمه عليكم بعض علمائكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة ولم يُحَرِّمه تعالي في التوراة، أو بعض ما كنتم تختلفون في كوْنه حلالاً أم حراماً فحَرَّمه بعضكم علي نفسه خطأ منهم، لتعودوا لأصلها الأول الرَّبَّانِيّ الحلال لتَنْعَموا وتَسعدوا بها.. ".. وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ.." أيْ وقد أحضرتُ لكم آية من ربكم أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسول منه، والمقصود كل الآيات السابق ذِكْرها.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في بداية الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَطِيعُونِ (50)" أيْ ونَفِّذوا أيها الناس ما أوصيكم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فإن طاعة رسول الله هي طاعة له تعالي
ومعني "إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)" أيْ إنَّ الله تعالي الذي أدعوكم إليه هو وحده لا غيره حتما ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. هذا، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا.. ".. هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)" أي هذا الذي أدعوكم إليه هو حتما طريقٌ مُعْتَدِل صحيح صواب مُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن.. إنه طريق الله والإسلام
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُدَاوِمَاً مُدَاوَمَة تامَّة ومُوَاظِبَاً ومستمرَّاً وثابتاً على أن تكون من أنصار الله تعالي في كل حالٍ ووقتٍ وزمانٍ ومكانٍ – وهو القويّ العزيز الغَنِيّ عن العالمين – أيْ تَنصر دين الله ورسوله بالتمسّك والعمل التامّ بكل أخلاقه وبنشره بالدعوة له بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) وبالدفاع عنه بكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ ضدّ مَن يعتدي عليه حتي بالقتال وبذل الدماء إذا كان الاعتداء عسكريا (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن صور الهجرة والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)
هذا، ومعني "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" أيْ فلمَّا اسْتَشْعَرَ وعَلِمَ ووَجَدَ وتَأكَّدَ بلا أيِّ شكّ عيسي منهم أيْ مِن بني إسرائيل أيْ اليهود وغيرهم مِمَّن كان يدعوهم تصميمهم علي الكفر أيْ عدم التصديق بسبب ما كانوا يُظهرونه مِن أقوالٍ وأفعالٍ تدلّ علي ذلك رغم أنه قد جاءهم بالآيات أيْ المُعجزات القاطِعَات التي سَبَقَ ذِكْرها، نادَيَ الذين آمنوا به أيْ صَدَّقوه وما معه مِن إسلامٍ قائلاً مَنْ أَنصاري إلى اللَّه أيْ مَن أنصاري مع الله ناصِري؟ ومَن يكون معي إلي جانب نَصْر الله لي؟ أيْ مَن يقوم منكم بنصري وإعانتي فيما يُقرِّب إلى الله؟ أيْ مَن الناصرون المُخلصون الذين أعْتَمِد عليهم بعد الله تعالى ويُنصرونني ونحن مُتَّجِهِين إلي الله لعبادته أيْ طاعته والدعوة إليه وإلي دينه الإسلام ونصرته والدفاع عنه؟ والسؤال هو للحَثَّ والتهييج من أجل الاستجابة، فسَارَع الحوارِيُّون – والحواريون هم أصحاب وأنصار ومُؤَيِّدُوا بكل إخلاصٍ وصفاءٍ الرسل الكرام – لإجابته بقولهم ".. نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ.." أيْ نحن أنصار دين الله ونحن الذين بكل تأكيدٍ على استعداد تامٍّ أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته ونصر دينه الإسلام.. ".. آمَنَّا بِاللَّهِ.." أيْ قد صَدَّقنا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكنا وعملنا بكل أخلاق إسلامه.. ".. وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" أيْ ونريدك أن تشهد لنا يوم القيامة عند الله تعالي بأننا كنا في الدنيا مسلمين أيْ مستسلمين لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامنا في كل شئون حياتنا ثابتين دائما عليها، لنَضْمَن أن ننال بشهادتك هذه أعلي درجات جناته.. كما أنَّ في طَلَبهم هذا من عيسي (ص) مزيداً من التأكيد والتبشير له أنهم مسلمون ينصرونه وإسلامهم طوال حياتهم الدنيا بكل ما يَملكون
ومعني "رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)" أيْ يا ربنا أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، صَدَّقنا بما أنزلتَ من إسلامٍ في الإنجيل وفي كل كتبك السابقة مع كل رسلك السابقين، وسِرْنا خَلْف وأطعنا الرسول الكريم عيسي (ص) في كل ما جاء به من الإسلام، فلذلك نَتَوَسَّل إليك ونرجو منك طامِعين في كرمك وفضلك وعطائك ورحمتك أن تكتبنا مع الشاهدين أيْ تجعلنا وتُيَسِّر لنا أسباب أن نكون في أعلي الدرجات في الداريْن من خلال أن نكون دائما طوال حياتنا مع الشاهدين أيْ من الشاهدين بأنه لا إله إلا أنت وأنك وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة العاملين بكل أخلاق إسلامك المُسْتَحِقّين لأعلي درجات جناتك وأيضا من الشاهدين بمعني شهداء علي الناس أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة نكون شهداء على الأمم الأخري نَشهد أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرتنا به يا ربنا في كتبك ويُزَكّينا رسولنا عندك أننا صادقون في شهادتنا عليهم لا نحكم إلا بالعدل التامّ.. كذلك من معاني الشاهدين أن يَصِلُوا إلي درجةٍ من التّوَاصُل مع ربهم كأنهم يشاهدونه بأعينهم فيُحسنون بالتالي كل أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة.. وفي هذا دعاء منهم لله تعالي طَلَبَاً لعظيم التكريم والتشريف والأجر منه لهم في دنياهم وأخراهم.. فليجتهد كل مسلم في أن يَتَشَبَّه بهم ليَنال ما نالوه
ومعني "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)" أيْ ودَبَّرُوا المَكَائِد في الخَفَاء وخادَعُوا، وهم كُفّار اليهود الذين أحَسَّ عيسي منهم الكفر، من أجل إيقاع الشرّ به ومحاولة قتله، ودَبَّرَ الله تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..").. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!
ومعني "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر قُدْرته وعلمه تعالي ورعايته ورحمته وتكريمه لرسوله الكريم عيسي (ص) وللمسلمين معه ونصره ونصرهم علي أعدائهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قال الله مُطَمْئِنَاً له وللمسلمين يا عيسي إني مُسْتَوْفٍ أجَلَك ناهِيَاً إيَّاه علي الأرض ورافِعك إليَّ بجسدك وروحك لتكون في جنات السماء حيث مكان كرامتي التامّة لك وإنعامي الكامل عليك ومُخَلّصُك من الذين كفروا أيْ كذّبوا بك ومُنَجِّيكَ من أعدائك الذين يريدون قتلك وأيضا مُبَرِّؤك مِمَّا أشاعوه عنك وعن أمك من أكاذيب، مثل أنها ولدتك من زنا أو أنك ابن الله أو أنك ادَّعَيْتَ أنكما إلاهَيْن من دونه تعالي أو ما شابه هذا من تخاريف.. إنَّ هذه هي معجزة أخري لعيسي (ص) يَتّعِظ بها كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُعينه علي أن يُصَدِّق بوجود خالقٍ يَرْعَيَ خَلْقه، أن تكون نهاية حياته علي الأرض هكذا، فبدايتها معجزة حيث خُلِقَ من غير أبٍ وأثناءها معجزات متتابعات ونهايتها معجزة رفعه بالجسد والروح.. ".. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ هذا وَعْدٌ من الله تعالي ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا للذين يَتّبعون الرسل وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص) أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم أنْ يجعلهم دائما في حياتهم الدنيا فوق الذين كذّبوا بالإسلام ولم يَتّبعوا أخلاقه وذلك إلي نهاية الحياة وقيام يوم القيامة، وهذه الفَوْقِيَّة هي معنويّة ومادِّيَّة، فأمّا المعنويّة فهي أنَّ المسلمين بحُسن أخلاقهم وتمامها وكمالها ما أمكن وسعادتهم التامّة بذلك هم فوق غيرهم قطعا الذين لا أخلاق لهم مُطلقا أو يعملون ببعضها دون بعض والذين هم بالقطع تُعَساء أشقياء بقَدْر ما يتركون منها، وأمّا الماديّة فهي أن يكونوا قادة لا مَقُودِين رؤساء لا مَرْؤوسين سادَة لا مَسُودِين يَرْجِع الناس دائما إليهم ليعلموا الخير كله فيسعد الجميع في الداريْن، لكنْ إنْ أحسنوا اتّخاذ أسباب ذلك، فذلك هو قانون الحياة، قانون الأسباب والنتائج، مَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان غير مسلمٍ ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما قال تعالي موضحا هذا "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فهذا هو تمام العدل، عدل الله العادل، الذي يُوَفّي لكلٍّ حقّه كاملاً دون أيّ ظلم.. إنَّ المسلمين أهل الحقّ والخير هم حتما فوق غير المسلمين لأنهم علي تَوَاصُلٍ دائمٍ بربهم يَطلبون منه حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسَدَاده ورزقه وقوَّته ونصره، وغيرهم ليسوا كذلك، ولأنهم يَطلبون دوْماً أعلي وأغلي شيءٍ وهو أعلي درجات الجنة بينما هم قد لا يعرفونها أصلا وكلّ أهدافهم في حياتهم أثمان دنيوية رخيصة دنيئة زائلة يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولأنَّ معهم كلّ الحقّ والعدل والحِكْمَة والهُدَيَ في القرآن والإسلام وهم يَفتقدون كلّ هذا، وفوقَ كلّ ذلك وقبله وبعده فإنّ الله خالِق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك كله القاهِر الناصر الذي يقول للشيء كن فيكون، معهم بعوْنه وتأييده وتوفيقه وتيسيره ونصره، ومَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في نهاية الأمر حتي ولو حَدَثَ له أحيانا واستثنائيَّاً بعضُ هزيمةٍ بسبب ترْك بعض أسباب النصر فسَيَسْتَدْركها سريعا بعوْن الله، ثم هو تعالي لن ينقصهم شيئا ولا ذرَّة أو أقلّ من أجور أعمالهم وما يستحِقّونه من خيرٍ في مُقابِلها لا في دنياهم ولا في أخراهم بل سيُضاعفها لهم أضعافا كثيرة لينالوا تمام الخير والنصر والسعادة فيهما.. إنهم بكلّ ذلك بحقٍّ الأعلون الأسْعَد في دنياهم وأخراهم وهم بحقٍّ الأَدْنَوْن الأتْعَس فيهما.. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره من حوافز يَدْفَع المسلمين بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ للانطلاق في الحياة بكلّ قوّة وعِزَّة لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة (برجاء أيضا مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. ".. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم كلكم سيَرْجِع إليَّ لا إلي غيري يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وأنا وحدي الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سأَحْكُم أيْ سأَقْضِي وأفْصِل بينكم جميعا يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فأبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، وأُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56)"، "َوَأَمَّاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)" أيْ هذا تفصيلٌ لحُكْم الله تعالي بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فأعذّبهم عذاباً شديداً علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56)" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة.. "وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – فيُعطيهم خالقهم سبحانه أجورهم علي ذلك والتي وعدهم بها وافية أي كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، وذلك في الدنيا قبل الآخرة، حيث يتمّ لهم كل الخير والسعادة فيهما، وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ، وهذا هو تمام العدل، وهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله فلا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)" أيْ والله حتما لا يُحِبّ مُطلقاً الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول (ص) وللإسلام، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ظُلْمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)" أيْ ذلك القصص الحكيم الذي ذَكَرْناه وذلك القرآن العظيم كله الذي نتلوه عليك أيْ نَقُصّه ونَذْكُره لك ونُخبرك ونُذَكّرك به ونُرشدك إليه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، هو من الآيات أي الدلائل من الله تعالي التي تدلّ علي وجوده – إضافة لمُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه – وعلى صِدْقك فيما تُبَلّغه عنه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبارٍ لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها، وهو أيضا من الذكر الحكيم، والذكر يعني أنَّ فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة، والحكيم يعني الذي كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّةٍ دون أيّ عَبَث، والذي هو مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين العامِلين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل، والذي هو الحاكِم أي المَرْجِع الشامل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ إنَّ حالَ وشَبَهَ خَلْق عيسي من غير أبٍ العجيب لكم هو عند الله أي في تقديره وحُكْمه وعِلْمه وفِعْله كحَالِ وشَبَهِ خَلْق آدم العجيب أيضا حيث خُلِقَ من غير أبٍ ولا أم!! فقد خَلَقه أيْ أوْجَده علي غير مثالٍ سابقٍ من ترابٍ ثم قال له كُنْ فكان بَشَرَاً إنساناً بجسدٍ وروحٍ كما أراد بمجرّد أن قال له ذلك، فهو القادر علي كلّ شيء.. إنَّ في هذا التشبيه رَدَّاً عقلياً مَنْطِقِيَّاً حَكيماً يُخْرِس ألْسِنَة كلّ مَن قال أنَّ عيسي ابن الله أو إلاه، لأنه إذا كان خَلْقه من غير أبٍ يَدْفع غير العاقل لاعتباره إلاهاً أو ابن إلاهٍ فأوْلَىَ بذلك آدم لأنه خُلِقَ من غير أبٍ ولا أمٍ فهو أشدَّ مُعجزة منه!! وما دام لم يَتَجَرَّأ أحدٌ علي ادِّعاء أنَّ آدمَ إلاهٌ لهذا السبب فثَبَت بالتالي إذَن تخريف مَن قال إنَّ عيسي إلاهٌ لانهيار الأساس الذى قام عليه قوله هذا وهو خَلْقه من غير أب! ولأنه إذا كان الله تعالى قادراً على أنْ يَخْلق إنساناً بدون أبٍ ولا أمٍ ومن مادَّةٍ لا يُتَصَوَّر عقلاً أن تُنْتِج بَشَرَاً وهي التراب فأوْلَىَ أن يكون قادراً على خَلْق إنسانٍ من غير أبٍ فقط ومن أمٍ هي إنسان مثله – وليست تراباً – مُجَهَّزَة لأنْ تَلِد!
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)" أي هذا الذي ذَكَرْناه في شأن عيسي (ص)، وفي غيره من كل شئون الحياة، وكل دين الإسلام الذي أنت عليه أيها المسلم هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد (ص)، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ومِمَّن يعرفون بدِقّةٍ متي قد يتوقّفون عنها أحيانا، أو متي قد يستخدمون المُناظَرات والمُبَارَزات المعنوية أحيانا أخري بما يحقّق استجابة المَدْعُو، حسبما يراه ويُقَدِّره الداعي بالنسبة لمَن يدعوه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام وهو يدعو غيره لهما بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مِن كثرة جدال المَدْعُو له بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، وعندما يَغْلِب علي ظنه أنه لا يريد التّوَصُّل إلي الحقّ والخير بل لإضاعة الأوقات وتشتيت الجهود ونحو ذلك، وحين يستشعر أنه لم يَعُدْ للحوار أيّ فائدة، قد يَصِل به الحال أحيانا إلي المُبَاهَلَة، أي الابتهال، أي الدعاء والتّوَسُّل لله تعالي أن يصيب الذي علي الباطل باللعنة والضرر والهلاك ونحوه، لأنه يعلم تماما بلا أيّ شكّ أين الحقّ والعدل والخير والصواب ولا يَتّبعه رغم توضيح كل الأمور له بكل الوسائل المُمْكِنَة حيث قد أغْلَق عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ فمَن جادَلَك في الحقّ أيْ الصدق الذي ذُكِرَ في الآية السابقة يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم أيْ في شأن عيسي (ص) أنه إلاهٌ أو ابن إلاهٍ أو ما شابه هذا من تخاريف، أو في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحداً بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحُدُوث البَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال مِمَّن يريدون التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم، مِن بعد ما وَصَلَكَ من العلم الحقّ الصدق الثابت الذي ليس فيه أيّ شكّ عن كلّ هذا من خلال القرآن العظيم، فحينها لا تُبادلهم الحوار لأنهم مُعانِدون لا يُقنعهم الدليل مهما كان واضحاً قاطعاً حاسماً ولكن قل لهم تعالوا نُحْضِر أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ونجتمع جميعا في مكانٍ ما، ثم نجتهد في الدعاء والتّوَسُّل لله أن يُنزل عاجلاً أو آجِلاً عقوبته ولعنته أيْ عذابه وعدم رحمته على الكاذبين في أقوالهم المُصِرِّين علي كذبهم وعنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم.. إنَّ أصحاب الحقّ دوْمَاً علي ثقةٍ وتأكّدٍ تامٍّ بأنهم سيَنتصرون، ولذا فهم لا يَتَخوَّفون من حضورهم بأنفسهم ومن إحضار معهم أحب الناس إليهم كالأبناء والزوجات والأخوات والقريبات والمسلمين عموما من باب التعاون علي البرِّ والتقوي لتأكّدهم أنهم لن يهلكهم خالقهم لأنهم علي الحقّ وهو الذي أوْصاهم بهذه المُبَاهَلَة عند الاحتياج إليها، أمّا أهل الباطل فهم في الغالب لا يَستجيبون ولا يَحضرون خوفا مِمَّا قد يصيبهم، وهذا في ذاته سيكون أكبر دليلٍ علي أنهم كاذبون وأنهم قد أعلنوا هزيمتهم وانتصار دعاة الخير والحقّ والصدق.. إنهم دوْمَاً لا يَثِقون في باطلهم!!
ومعني "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)" أيْ إنَّ هذا القرآن العظيم بما فيه من قصصٍ تُقَصّ عليكم وتُذْكَر لكم لتَتّعِظوا بها وأخلاقِيَّاتٍ وتشريعاتٍ ونُظُمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ القصص الصِّدْق الذي ليس فيه ذرّة شكّ لأنه من الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ.. " أيْ وليس في الكوْن إله أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلا الله وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)" أيْ وإنَّ الله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ هو وحده لا غيره العزيز أيْ الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره الحكيم أيْ الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)" أيْ فإن استجابَ هؤلاء المُجادِلون المُعَانِدون المُكَذّبون المُستكبرون المُستهزؤن الذين سَبَقَ ذِكْرهم بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فإنَّ الله حتما عليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بالمفسدين، بكل أقوالهم وأفعالهم ومَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم بكلّ صورها المختلفة، الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم لأنهم فاسدون في أنفسهم مُتْعِسُون لها مُفْسِدون مُتعسون لغيرهم، وبالتالي سيُجازِيهم في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر فسادهم.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون التّوَافُق والتحاوُر مع الآخرين، علي اختلاف ثقافاتهم وعلومهم ودياناتهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، والوصول إلي كلمةٍ سواءٍ فيما بينكم، أي كلمة تتساوون عندها، أي يتّفق عليها الجميع ويشتركون فيها ويلتقون حولها، إنها المساحة المشتركة التي تجمعكم جميعا بعد إبعاد التَّعَصُّب والأغراض الرخيصة الدنيئة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إنها كلمة الحقّ والعدل والإنصاف والتّوَسُّط والاعتدال، إنها الكلمة التي تُوَافِق فطرة العقل التي فطرها أيْ خَلَقَها وبَرْمَجها عليها خالقها لتعرف الحقّ والخير والصواب فتسير دائما عليه لتسعد والتي هي موجودة في كل عقول البَشَر علي السواء وبالتساوي ويشترك فيها الجميع ويتّفقون عليها.. وهذا يكون في كل مجالات الحياة المختلفة العلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. إنك إنْ فعلتَ ذلك وأحسنته وأتقنته، لم يكن لك عدوّ غالبا! بل الجميع لك أصدقاء ومُحِبُّون ومُعاوِنون بدرجةٍ من الدرجات! وعِشْتَ بذلك آمِنَاً سعيداً في حياتك، ثم بنوايا الخير بعقلك المُصَاحِبَة لكل هذا سيكون لك أتمّ وأعظم وأخلد الأمن والسعادة في آخرتك.. وإنْ فَعَل غيرك مثل فِعْلك، سَعِدُوا هم أيضا علي قَدْر ما قَدَّموا، وإنْ لم يفعلوا وتَرَكوا أخلاق إسلامهم فقد خسروا وتَعِسُوا في الداريْن.. فاسْتَمِرّ أنت علي كل أخلاق إسلامك فأنت الفائز السعيد حتما فيهما
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم تعالوا وأَقْبِلُوا إلي كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم أيْ كلمةٍ مُسْتَوِيَةٍ لا الْتِواءَ ولا اعْوِجَاج فيها مستقيمة عادلة مُنْصِفَة ليس فيها أيّ مَيْلٍ أو انحرافٍ عن الحقّ والعدل والخير والسعادة يَقبلها كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا تَرفضها الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ونَتَسَاوَىَ عندها جميعا وفيها إنْصاف لنا ولكم ونلتقي فيها معكم وتلتقون عندها معنا ونتّفق عليها ونشترك فيها وهي المساحة المشتركة التي تجمعنا جميعا بعد إبعاد التَّعَصُّب والأغراض الرخيصة الدنيئة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهذه الكلمة السواء هي ".. أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ.." أي هذه هي أعلي وأعظم كلمةٍ سواءٍ في الوجود كله والتي يَتَفَرَّع عنها كل الكلمات السَّوَاء الأخري وهي كلمة السعادة في الداريْن، كلمة لا إلاه إلا الله ولا نعبد إلاّ إيّاه أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلا الله وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه لا إلهَ إلا الله ومزيدٌ من التفصيل والتوضيح لمعناها، أيْ ولا نُشَارِك معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو بَشَرٍ ضعيفٍ مثلنا نطلب منه رزقاً أو صحة أو قوة أو غيره بل ونَتَذلّل له ونُطيعه حيث سَار وإنْ كان شرَّاً وكأنه إلاهٌ لنا!!.. ".. وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي أنه لا إله إلا الله وزيادةٌ في التفصيل والتوضيح لمعناها، أيْ ولا يُطيع بعضنا بعضا فيما يُخالف وَصَايَا الله في الإسلام ولا نَتّبِع أحداً في تحليل شيءٍ أو تحريمه إلا فيما أحَلّه أو حَرَّمه سبحانه، أيْ ولا يجعل مُطلقا أحدٌ مِنّا أحداً آخر من البَشَر رَبَّاً له غير الله تعالي – وجَمْع رَبّ أرباب – فمَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)" أيْ فإن استجابوا بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فلا تُحاوروهم بعدها وأوقفوا الحوار معهم لأنهم مُعانِدون يعلمون الحقّ ولا يَتّبعونه من أجل أثمان الدنيا الرخيصة وقولوا اشهدوا بأنا مسلمون أيْ اعترفوا بأننا علي الصواب وأنكم علي الخطأ حيث لم تأتوا للكلمة السواء ولم تستطيعوا مُقَابَلَة الحوار والدليل الحاسم بحوارٍ ودليلٍ قاطعٍ مثله مُقَابِلٍ وهذا وحده دليل كاف علي انتصارنا وهزيمتكم بما أظْهَرَ للناس أين الحقّ والعدل والخير والسعادة وأين الباطل والظلم والشرّ والتعاسة، ثم اعترافكم بأنا مسلمون يعني ضِمْنَاً اعترافكم علي أنفسكم أمام الجميع بأنكم كافرون! وأننا لم نُوقِف الحوار معكم لعدم قُدْرتنا علي إقناعكم أو لأنكم علي صوابٍ وإنما لأنه لم يَعُدْ له فائدة وأنه أصبح مَضْيَعَة للأوقات والجهود حيث قد وَضَحَ الحقّ بكل صور الوضوح، كذلك في طَلَبنا منكم الشهادة بأنا مسلمون إثبات تامّ أننا ثابتون تماما علي الإسلام والدعوة له والدفاع عنه بكل ما نملك طوال حياتنا شاكرون لله علي ذلك ولا نُخفيه بل نُعْلِنه للجميع وهو أيضا تَيْئِيس لكل من يحاول إبعادنا عنه من أمثالكم ولإشعارهم بصورةٍ غير مباشرةٍ أنهم كافرون فلعلهم بهذا وبإيقاف الحوار معهم وإهمالهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الدارين بدلا أن يتعسوا فيهما
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات وفي كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ صاحب حجّة، أيْ لا تقول قولاً ولا تفعل فِعْلاً إلاّ بناءً علي علمٍ ودليل، فذلك – وبعد توفيق الله وتيسيره لك وطَلَب عوْنه وسَداده – يجعلك دائما علي صوابٍ، علي خيرٍ، لا تبتعد عنه، ويزيد ثقة مَن حولك بك، ويُحسنون ويُكثرون تعاملاتهم معك، فتَربح وتَسعد، في دنياك وأخراك.. وإيّاك إياك أن تتكلم كلاماً أو تعمل عملاً بغير علمٍ أو دليل، فإنّ ذلك يُفْقِدك ثقة الآخرين ويَسْتَقِلّونك ويَبتعدون عنك، فتَخسر وتَتعس فيهما
هذا، ومعني " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لأهل الكتاب ومَن يَتَشَبَّه بهم وتَعَجُّبٌ من سوء حالهم وفِكْرهم حيث يتكلمون كلاماً سفيهاً يدعو للسخرية لا يَقبله أيّ عقلٍ ولا مَنْطِق! أيْ يا أهل الكتاب أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، لماذا تُجادلون بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره في شأن دين الرسول الكريم إبراهيم (ص) فيَدَّعِى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية ويَدَّعِى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية ولم تنزل التوراة والإنجيل أصلاً إلا مِن بعده بأزمان طويلة؟!! فكيف يكون إذَن يهودياً يدين بالتوراة أو نصرانياً يدين بالإنجيل؟!!.. إنهم يقولون ذلك حتي يظلّوا علي ضلالهم مُتَهَرِّبين من دعوة الرسول الكريم محمد (ص) التي تَدعوهم لدين إبراهيم وهو الإسلام فيَدَّعُون كذباً وزُوُرَاً مَفْضُوحاً أنهم هم أيضا علي دينه فلماذا إذَن يُغَيِّرون دينهم بل المسلمون هم الذين ليسوا علي دينه لأنّ القرآن أضاف لصُحُفِ إبراهيم ما يُناسب الأزمنة حتي يوم القيامة وعليهم أن يكونوا مثلهم من اليهود أو النصاري الأقْرَب لهذه الصحف؟!.. إنه نوعٌ من أنواع الجدال الذي يريدون به التشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك وتَتَجَنَّبونه تماما وتعودون لربكم ولإسلامكم وتفعلون كل خيرٍ وتَتركون كل شرٍّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!
ومعني "هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)" أيْ أنتم يا هؤلاء – ولفظ "ها" في اللغة العربية يستخدم للتنبيه لِمَا سيُقال – من أهل الكتاب ومِمَّن يَتَشَبَّه بكم قد جادلتم الرسول الكريم محمد (ص) والمسلمين لكي تُعاندوهم وتُكذّبوهم وتُرَاوِغوهم حتي لا تُسلموا ولا يُسلم غيركم في أمورٍ من المُمْكِنِ أن تُجادلوا وتُحاوروا فيها لأنَّ لكم بها علم أو بعض علمٍ لأنها في كتبكم مِثْل أنَّ الرسول محمد سيُبْعَث وعليكم أن تؤمنوا به وبالقرآن الذي سيُوحَيَ إليه ومِثْل بعض التشريعات فيه التي صَحَّحَت ما حاولتم تحريفه في دينكم وما شابه هذا، وبَقِيتم علي عنادكم وتكذيبكم، لكن لماذا تُجادلون في أمورٍ ليس لكم بها أيّ علمٍ أصلاً والتي منها أنّ إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ونحو ذلك؟! إنَّ السَّفَه والجهل لا يُمكن أنْ يَصِلَ بكم إلي مثل هذا الحَدّ!! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وفي هذا توجيهٌ لكلّ مسلمٍ أن يكون صاحب حجّة، أيْ لا يقول قولاً ولا يفعل فِعْلاً إلاّ بناءً علي علمٍ ودليل، فذلك – وبعد توفيق الله وتيسيره له وطَلَب عوْنه وسَداده – يجعله دائما علي صوابٍ، علي خيرٍ، لا يبتعد عنه، ويزيد ثقة مَن حوله به، ويُحسنون ويُكثرون تعاملاتهم معه، فيَربح ويَسعد، في دنياه وأخراه، أمَّا لو تكلّم كلاماً أو عمل عملاً بغير علمٍ أو دليل، فإنّ ذلك يُفْقِده ثقة الآخرين ويَسْتَقِلّونه ويَبتعدون عنه، فيَخسر ويَتعس فيهما.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)" أيْ والله يعلم حال إبراهيم ودينه، ويعلم ما تجادلون فيه بعلمٍ وبغير علمٍ، بالعَلَن وبالسِّرّ، وما بدَوَاخِل الأفكار والعقول، ومَن هم أهل الخير وأهل الشرّ وسيُجازي كُلّاً بما يستحِقّه في الداريْن، ويعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في هذا الكوْن، وبالجملة يعلم ما غاب عنكم من مصالحكم يا هؤلاء ويا أيها الناس وما هو خير أو شرّ لكم حاليا ومستقبلا وأنتم لا تعلمون كل ذلك ونتائج الأمور في المستقبل فسَارِعوا بالتالي إذَن إلي الاستجابة لكل ما فُرِضَ عليكم وتَمّ توصيتكم به من أخلاق الإسلام لتسعدوا في الدنيا والآخرة لأنه تعالي لا يأمركم إلا بما هو خير أيْ مُفيد مُسْعِد لكم فيهما ولا يمنعكم إلا عمَّا هو شرّ أيْ مُضِرّ مُتْعِس لكم فيهما وهو أرحم بكم وأحرص علي مصلحتكم وسعادتكم وأقْدَر عليها من أنفسكم
ومعني "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)" أيْ ما كان إبراهيم (ص) مُطلقاً يوماً مَا يهودياً علي دين اليهود كما ادَّعَيَ بعضهم كذباً وزُورَاً ولا نصرانياً علي دين النصاري كما ادَّعَيَ أيضا بعضهم بالكذب والزُّوُر لأنه بالعقل والمَنْطِق لم تكن اليهودية ولا النصرانية إلا مِن بَعْده بأزمنة طويلة، ولكنه كان حتماً حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام، وكان مسلماً أيْ مستسلما لوصايا وتشريعات الله تعالي متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته ثابتا دائما عليها حتي مَمَاته، وما كان أبداً من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. وفي هذا تلميحٌ بكذبهم وافترائهم لعلهم يستفيقون ويعودون لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات وفي كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) وخليل الرحمن إبراهيم قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)" أي ليس مُطلقا اليهود والنصاري الذين حَرَّفوا في دينهم عن الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والذي يُحبه كل أهل الأديان من بعده لمَكَانَته العالية بين الرسل في الداريْن لِمَا قَدَّمَ لله وللإسلام، ليس مُطلقا أمثال هؤلاء أقْرَب لدين إبراهيم، وإنما أوْلَيَ الناس به وبدينه أيْ أقربهم منه ومن صفاته ومن دينه وأشدّهم وَلَاءً له واختصاصاً وصِلَة به وحباً ونصرة له وللإسلام وأحقّهم وأجدرهم بالانتساب إليه وبأن يقولوا أننا علي دينه وبأن يَعْتَزّوا بهذا ويُمْتَدَحُوا به وبمُوَافَقَته في أقواله وأفعاله وبمُقَارَبَته في مَكَانته الدنيوية والأخروية هم فقط بالتأكيد الذين اتّبعوه أيْ سارُوا خَلْف ما جاء به مِن إسلامٍ في زمنه وبعد مَمَاته، وأيضا حتما هذا الرسول الكريم محمد (ص) خاتم الرسل وإمامهم حيث القرآن العظيم الذي أُوُحِيَ إليه والصالح لإكمال ولإسعاد البشرية حتي يوم القيامة هو مُطَابِق ومُكَمِّل لِمَا جاء به إبراهيم من إسلامٍ والذي كان مناسباً لزمنه، وكذلك بالقطع الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا به (ص) واتّبعوا كل أخلاق الإسلام الذي جاءهم به.. ".. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)" أيْ والله خالق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك الذي له كل صفات الكمال الحُسني هو وليُّ المؤمنين أيْ وَلِيّ أمرهم يديره لهم علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويرعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم.. إنَّ في الآية الكريمة توجيهاً ضِمْنِيَّاً للمسلمين بأن يُوَالِي أيْ يُحِبّ ويَنصر ويَرْعَيَ ويُعين ويُقَوِّي بعضهم بعضاً مهما تَبَاعَدَت بيوتهم وأوطانهم والأزمان بينهم حتي يَتَوَلّاهم الله تعالي فينالوا تمام سعادة الداريْن، وكذلك فيها طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)" أيْ هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ أحَبَّت وتَمَنَّت مجموعة من أهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، ومَن تَشَبَّهَ بهم، لو تَمَكّنوا بكل ما يستطيعون من وسائل أن يُضِلّوكم أيْ يُضيعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها.. وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها إذ هم لم يُؤْمَرُوا بذلك حتماً فى كتبهم بل هي تَمنعهم من هذا الخُلُق القَبِيح.. والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد (ص) والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)" أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية (54) من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ (69)" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)" أيْ يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – لماذا تُكَذّبون بآيات الله سواء أكانت آياتٍ أيْ معجزات في كل مخلوقات الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، وأنتم تشهدون أيْ تعلمون تماما بداخل عقولكم علماً مُؤَكّداً كعلم المُشاهَدَة بالعين أنها الصدق فهي يَقْبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)؟! بل أنتم تَشهدون بصِدْقِها فيما بينكم ويُسِرّ بذلك بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات ولكنكم تُخْفون ذلك!!.. إنَّ هذا العلم المُؤَكّد بأنَّ هذه الآيات هي الحقّ من المُفْتَرَض أنْ يَقود أيّ عاقلٍ لأنْ يُسارِع بأنْ يؤمن بها لا أن يكفر!! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بدلا أن يتعس فيهما
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)" أيْ وبعد أنْ ذمَّهم وحَذّرَهم تعالي علي كفرهم بآيات بالله ذمّهم وحَذّرهم أن يعملوا لإضلال غيرهم.. أيْ يا أهل الكتاب لماذا تَخْلِطون الحقّ الذي هو في القرآن والإسلام المُنَزّل من عند الله تعالي بالكذب الذي تَدَّعُونه من تحريفٍ وتزييفٍ للحقائق فتقولون بعض الحقيقة ليست كاملة وتخلطونها بكثير من الأكاذيب كأنْ تَدَّعُوا مثلا كذباً وزُورَاً أنَّ بعض آيات القرآن ليست من عند الله أو أنَّ الرسول محمد (ص) ليس صادقاً في كل ما يقول أو خَالَف بعض ما في التوراة والإنجيل أو ما شابه هذا من تخاريف لا يقبلها العقل المُنْصِف العادل.. وكذلك لماذا تكتمون الصدق فتُخفونه تماما وليس مجرّد خَلْطه بكذب.. فالسؤال الأول هو عن التغيير والخَلْط، والسؤال الثانى عن الكِتْمان والإخفاء.. ".. وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71)" أيْ وأنتم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث أنتم تعلمون تمام العلم أنكم كاذبون مُدَّعُون تقومون بتلبيس الحقّ بالباطل أو بكتمانه، وكذلك تعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب إضلالهم وإبعادهم عن الإسلام وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلكم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابكم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموما تحذيرا شديدا من خَلْط الصدق بالكذب والخير بالشرّ أو كتمانه رغم وضوحه والعلم به في كل شأنٍ من شئون الحياة المختلفة لأنه من أهم أسباب تعاسة البَشَر حيث تختلط الأمور ولا يُعْلَم أين الصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة فتضيع الحقوق وتنتشر المظالم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
ومعني "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الوسائل الخَبيثة يَفْضَحها ويَكشفها الله تعالي في هذه الآية الكريمة ليَتَنَبَّه إليها المسلمون والتي يقوم بها أهل الكتاب وغيرهم ومَن تَشَبَّه بهم لمحاولة الإساءة للإسلام والمسلمين، وهي أنَّ بعضهم كان يُظْهِر الإيمان لفترةٍ من الزمن ليُحْسِنَ الظنّ بهم ويَثِق فيهم مَن ليس خبيراً بأساليب خِدَاعهم حتى إذا اطمأنّ الناس إليهم أظهروا كفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه ليُوهِمُوا بذلك الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم أنهم لم يرجعوا عن الإسلام إلا بعد أن دَخلوه وبَحثوا بكل أمانةٍ عن الحقيقة فوجدوه واقعياً عملياً وليس نظرياً عن بُعْدٍ لا يَصْلُح – في ادِّعائهم – أن يكون دِينَاً يُلْتَزَم بأخلاقه ويُدير كل شئون الحياة ليُسعدها فعادوا لدينهم الصحيح!! إنهم يريدون بذلك التشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. أيْ وقالت مجموعة من أهل الكتاب فيما بينهم أظْهِرُوا تصديقكم بالقرآن والإسلام الذي أُنْزِلَ علي الذين صَدَّقُوا به وأَعْلِنُوا اتّباعكم له أول النهار لفترةٍ ثم كَذّبوا به في آخره لعلهم يَتَشَكّكون في إسلامهم فيَرْجِعُون عنه إلي ديننا أو إلي غير دينٍ لأنه لو كان صحيحاً لَمَا خرجنا منه ونحن أهل كتابٍ وعلمٍ وثِقَة!!.. هذا، وقولهم "لعَلّهم" يُفيد تَشَكّكهم هم في إمكان أنْ يترك مسلمٌ إسلامه، حتي ولو ابتعد عن بعض أخلاقه أحيانا، لأنَّ مَن ذاقَ طَعْم الحقّ واطمأنّ وسَعِدَ به تمام الاطمئنان والسعادة الحقيقية من الصعب والنادر أن يُفَرَّط فيه ويتركه للتعاسة، وسيُعينه ربه علي ذلك حتما، إلا إذا فَقَدَ عقله!!
ومعني "وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)" أيْ وأيضا يقول بعضهم لبعض ويَتَوَاصون فيما بينهم لا تُصَدِّقوا أحداً وتَستجيبوا له وتُطيعوه وتَتّبعوه علي دينه إلا مَن كان اتّبَعَ ووَافَقَ دينكم مِن اليهود، وهذا محاولة منهم لإبعاد أنفسهم وغيرهم عن الإسلام وقبوله واتّباعه، أيْ لا تُصَدِّقوا المسلمين فيما يقولونه لكم داعِين إيّاكم لله وللإسلام.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنْ لا تَعترفوا بأيِّ حقّ يُوجَد في الإسلام إلا سِرَّاً فيما بينكم لمَن اتّبَع دينكم، ولا تؤمنوا إيماناً بحَقّ وبصِدْقٍ وبجدٍّ وعن تصديقِ عقلٍ إلا لأهل دينكم لكنَّ محمداً والمسلمين الذين لم يَتّبِعوا دينكم فلا تُؤمنوا لهم وتَتّبعوا إسلامهم، ولا تُصَدِّقوا أحداً وتَأْمَنُوه وتَكْشِفوا له سِرَّ خدْعَتنا – التي ذُكِرَت في الآية السابقة من الإيمان وَجْه النهار والكفر آخره – إلا لمَن هو مِثْلكم.. ".. قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إنَّ الإرشاد الحقيقي الذي ليس بعده أيّ إرشادٍ أكمل وأعظم وأفضل وأصْوَب وأصْلَح منه حيث يُرْشِد لكل ما يُصلح ويُكمل ويُسعد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وكلَّ مَن يَعمل به كله سيُحَقّق قطعاً ذلك، هو حتما بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ إرشاد الله في دينه الإسلام، وليس ما يَدَّعِيه أمثال هؤلاء المُكَذّبين من تعاليم مَكْذُوبَة مُحَرَّفَة مُخَالِفَة لهُدَيَ الله تعالي يَسترشدون بها هي الهُدَيَ بالقطع بل هي الهَوَيَ المُؤَكّد أيْ الشرّ والفساد والضرَر والتعاسة في الداريْن!!.. ".. أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.." أيْ ولا تُؤمنوا إلا لمَن تَبِعَ دينكم ولا تُؤمنوا أيْ لا تُصَدِّقوا أيها اليهود أن يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أُعْطِيتم من العلم والكتاب وهو التوراة والحِكْمة والمُعجزات كشَقّ البحر ونجاتكم من فرعون وغرقه وجنوده فيه وغير ذلك من تكريم الله لكم، ولا تُصَدِّقوا أيضا أنَّ المسلمين بإمكانهم أنْ يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم عند ربكم في الآخرة – ولا في الدنيا – علي أنكم كنتم خاطئين فيَغلبوكم، لأنكم أصَحّ وأفضل ديناً منهم!!.. وكذلك من المعاني ولا تُؤمنوا إلا لمَن تَبِع دينكم فلا تُصَدِّقوا المسلمين وتَعترفوا بأنهم علي حقّ أنْ يُؤْتَيَ وتعني حتي لا يُؤْتَيَ أيْ لا يُعْطَيَ أحدٌ من الناس – أيْ المسلمين – مثلما أُعْطِيتم من العلم لأنه باعترافكم هذا قد خسرتم مكانتكم أنكم أعلم وأعلي منهم ومنافعكم بسببها وكذلك سيُمْكِنهم أن يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم فيَغلبوكم عند ربكم يوم القيامة وفي الدنيا حتماً أمام الناس فيُسْلِمون لأنكم اعترفتم بأنهم هم الذين علي الحقّ.. وفي هذا استعلاءٌ لهم علي المسلمين وأنَّ دين اليهودية رغم تحريفاتهم وتخريفاتهم فيه أفضل من الإسلام فلا تَتركوه أيها اليهود وتُسلموا بل استمرّوا وأَصِرُّوا علي ما أنتم عليه فأنتم الأعلي في الداريْن!!.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ الهُدَيَ هُدَيَ الله فلا تُنْكِروا أيها اليهود أنْ يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أُعْطِيتُم فقد أُعْطِيتُم التوراة التي كانت فيها إسلام يُناسب عصرها ثم أُعْطِي المسلمون الإسلام المناسب لِمَا بعدها مِن أزمنةٍ حتي يوم القيامة في القرآن فأسْلِموا إذَن.. وأيضا من المعاني أنْ قل لهم كذلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم على سبيل الذمّ والتّسْفِيه لعقولهم هل الخوف من أن يُؤْتَىَ أحدٌ مثل ما أوتيتم من الكتاب أو أن يُحاوركم المسلمون عند ربكم يوم القيامة فيَغلبوكم حيث آمنوا بالحقّ وأنتم كفرتم به يَدْفعكم لأنْ تقولوا هذه الأقوال السيئة وتفعلوا هذه الأفعال الخبيثة؟!.. إنَّ هذا لن يحميكم بالقطع من عذابه تعالي في الداريْن!! لا شَكّ أنَّ الذي دَفَعكم لهذا هو أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وكذلك من المعاني قل إنَّ الهُدي هُدي الله ولن يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أعطيتم أيها المسلمون من القرآن العظيم وما فيه من دينِ الإسلام الذي يُناسب كلّ عصرٍ حتي نهاية الحياة لِمَا فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حيث ينظمها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وكذلك ما أُعْطِيَ أحدٌ غيركم مثل ما أعطيتم يا مسلمين من الدين والحجّة حتى يُمكنهم أنْ يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم ويَغلبوكم عند ربكم يوم القيامة – ولا في الدنيا حتما – أنكم لستم علي صوابٍ في كل شئون حياتكم لأنكم علي أَصَحّ وأكملِ دين، دين الإسلام.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة من المُمْكِن أن يكون خاصَّاً بأهل الكتاب أو للمسلمين تثبيتاً وتشجيعاً لهم علي إسلامهم أو لهما معا.. ".. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ كل الفضل من خيرٍ وعطاءٍ بيَدِ الله يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعطي نِعَمه مَن يشاؤها ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها.. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد للآية السابقة.. أي هو وحده سبحانه يَختصّ برحمته أيْ يَخصّ بصفةٍ خاصَّةٍ وعلي وجه الخصوص دون الآخرين ويُعطِي ويُفْرِد ويُقْصِر خيره بكل أنواعه علي مَن يشاء مِن خَلْقه وليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أىّ تأثيرٍ فى ذلك، فهو لا يَقدر علي مَنْع أيّ شيءٍ أراد إعطاءه لخَلْقه وله ولغيره ولا علي إعطاء أيّ شيءٍ أراد مَنْعه، وكل خيرٍ وعطاءٍ بيده يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعْطِي نِعَمه مَن يشاؤها مِن خَلْقه ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها.. ".. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)" أيْ وهذا الذي يَتَفَضَّل به علي خَلْقه هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم أي العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك.. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ علي خلقه من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وفي الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الصفات السَّيِّئة لبعض أهل الكتاب – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة – لكي يَحْذرها المسلمون عند التعامُل معهم في شئون حياتهم.. أيْ وأيضا مِن أهل الكتاب فريقٌ إنْ تَأتمنه على قنطارٍ أيْ كثيرٍ مِن مالٍ أو غيره أيْ وَضَعته عنده كأمَانَةٍ في أمَانِهِ ليَحفظه ولا يُضيعه يَرُدّه ويُعطيه إليك عند طَلَبه كاملاً وافِيَاً غير منقوصٍ بلا خِيانةٍ فهو في غاية الأمانة، ومنهم فريق آخر في غاية الخيانة إنْ تأتمنه على قليلٍ وحقيرٍ من مالٍ أو أيِّ شيءٍ لا يُعطيك إيَّاه إلا إذا دَاوَمْتَ على القيام بالمُطالَبَة به واستعملتَ كل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة للحصول عليه.. إنّ في الآية الكريمة تذكرة للمسلمين بأداء الأمانات إلي أصحابها، صغرت أم كبرت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. إنه بانتشار الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة أيْ عدم الوفاء والغَدْر في أيِّ شيءٍ مادِّيٍّ أو مَعْنَوِيٍّ يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.." أيْ ذلك الامتناع عن أداء الأمانات من الفريق الخائن منهم سببه أنهم يقولون كذباً وزُورَاً أنه في ديننا الذي أوْصانا الله به ليس علينا في الأُمِّيِّين سبيل أيْ لا لَوْم وعِتَاب وتَبِعَة وذنب علينا في اسْتِحْلال ونَهْب حقوق وخيانة الأمّيين ويَقصدون بهم كل مَن ليس علي دينهم حيث يعتبرونه أمِّيَّاً جاهلاً مُتَخَلّفاً ليس له حقّ مثل حقوقهم تَعَالِيَاً وتَكَبُّرَاً علي الناس وظلماً لهم.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين بخُلُق التّوَاضُع بأن يحترموا الآخرين ولا يَتَعَالوا عليهم ويعلموا أنَّ لهم من العقول والمشاعر والخبرات ما هو مثلهم أو يفوقهم، فهذا سيجعلهم يستمعون لهم ويستفيدون بخبراتهم ويُؤَدّون حقوقهم إليهم، وبانتشار التواضع والاحترام المُتَبَادَل سيَرْبَح الجميع ويَسعدون في الداريْن بينما بغيابه سيخسرون ويتعسون فيهما حيث ستنتشر بينهم بكل تأكيد الأحقاد والمُشاحَنات والخلافات والانتقامات وغيرها.. ".. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.." أيْ ويَدَّعُون علي الله الكذب أنه هو الذي أوْصَاهم في كُتبهم بوَحْيٍ منه بأنه ليس عليهم في الأُمِّيِّين سبيل!!.. إنه كذبٌ صريحٌ لأنه مخالفٌ لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حيث الله تعالي حتماً لا يَأمر مُطلقا في كتبه بخيانةٍ أو ظلمٍ وإنما بأخلاق الإسلام التي تُصْلِح الناس وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها.. ".. وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)" أيْ وهم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث هم يعلمون تمام العلم أنهم كاذبون مُدَّعُون يقولون علي الله تعالي الكذب، وكذلك يعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب عدم أداء الأمانات وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فهم مِن ذوى العلم ليسوا جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلهم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلهم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابهم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموما تحذيراً شديداً من خيانة الأمانة حيث تضيع الحقوق وتنتشر المَظالِم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
ومعني "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)" أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما يَدَّعِي أمثال هؤلاء كذباً وزُورَاً أنه ليس عليهم في الأُمِّيِّين سبيل، بل عليهم فيهم سبيل، وأنهم مُعَذّبون بسبب عدم إسلامهم واسْتِحْلالهم لممتلكات غيرهم بغير حقّ، وأنّه مَن أوْفَيَ بعهده واتّقَيَ فإنَّ الله يحبّ المُتّقين أيْ مَن التزم بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فنَفّذها تامَّة ولم يُخْلفها، مع الله ومع رسله الكرام وآخرهم محمد (ص) بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم – وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما – واتَّقَيَ أيْ وخافَ الله ورَاقَبَه وأطاعه وجَعَلَ بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دَوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، فإنَّ الله حتماً يحب هؤلاء المتقين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس والخَلْق، فقد اسْتَحَقّوا بوفائهم وبتقواهم حُبَّه، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)" أيْ إنَّ الذين يَتركون ويَبيعون عَهْد الله وأيْمَانهم ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فالذين يَفعلون ذلك هم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. والمقصود بأنهم يَبيعون عهد الله أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. والمقصود بكلمة ".. وَأَيْمَانِهِمْ.." أيْ ويَتركون ويَبيعون أيْمَانهم التي أقسموا بها على الوفاء بما وَعَدُوا به فلا يُوفون بهذه الأيْمَان بل وأحيانا يَحْلِفون كذباً ليُؤَكّدوا ما يريدون تأكيده من أقوالٍ أو أفعال.. ".. أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين ليس لهم في الآخرة أيّ خَلَاق أيْ نصيب في الجنة ونعيمها الذي لا يُوصَف.. إضافة قطعا إلي ما لهم من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِهم عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ.." أيْ ويُهْمِلهم فلا يُكَلّمهم بأيِّ كلامٍ يوم القيامة بما يدلّ علي شدّة غضبه تعالي عليهم، أو لا يُكَلّمهم كلاماً مُطَمْئِنَاً مُسْعِدَاً بل يُكَلّمهم بما يُخِيفهم ويُهِينهم ويتعسهم.. ".. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وكذلك لا ينظر إليهم يومها نظرة رحمةٍ وعطفٍ ورعايةٍ وإحسانٍ وإنعامٍ بل يُعْرِض عنهم فلا يَلْتَفِت إليهم غَضَبَاً عليهم وإهانة لهم.. ".. وَلا يُزَكِّيهِمْ.." أيْ ومن شدة غضبه عليهم أيضا أنه لا يُطَهِّرهم من ذنوبهم بمغفرتها، فهو لا يَرحمهم.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)" أيْ وسيكون لهم في انتظارهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)" أيْ وإنَّ مِن هؤلاء المَذكورين المَوْصُوفين بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم فريقاً يُحَرِّفون بألسنتهم في الكتاب، في كلام الله، أيْ يُغَيِّرون ويَتَلاَعَبون في ألفاظه ومعانيه وتفسيره وتطبيقه مِن بعد ما عَقَلوه أيْ فَهِموه وعَلِموه تماما فهم لم يُحَرِّفوه لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُحَرِّفونه عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم وهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ كتبه المُنَزَّلَة لا يجوز تغيير أيّ حرفٍ منها وأنه حافظها بحِفْظه وبالمؤمنين المتمسّكين العامِلين بها وأنهم مُحَرِّفون مُجْرِمُون كاذِبون مُزَوِّرُون وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم؟!.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَتَشَبَّه بهم حتما أحدٌ من المسلمين.. ".. لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ.." أيْ لتَتَوَهَّمُوا أيها السامعون أنَّ هذا اللّيّ والتحريف في المعاني هو من الكتاب المُنَزَّل إليكم وما هو منه في شيءٍ فهو ليس مُطلقاً من كلامه سبحانه وما يُريده.. ".. وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.." أيْ ولا يَكتفون بهذا التحريف بل وَصَلُوا إلي درجةٍ من الجرأة علي الله تعالي والسوء والوَقاحَة أنهم يقولون ويَدَّعُون أنَّ هذا المُحَرَّف هو نَزَلَ من عند الله هكذا لم نَزِد فيه أو ننْقص منه حرفاً واحداً، والحقّ أنه ليس من عند الله أبداً ولكنهم يقولون على الله الكذب التامّ الصريح الواضح المَفْضُوح.. ".. وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)" أيْ وهم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث هم يعلمون تمام العلم أنهم كاذبون مُدَّعُون يقولون علي الله تعالي الكذب، وكذلك يعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب هذا الفِعْل الشنيع وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فهم مِن ذوى العلم ليسوا جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلهم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلهم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابهم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموماً تحذيراً شديداً من مِثْل ذلك وإلا تَعِسُوا في الدنيا والآخرة
ومعني "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)" أيْ هذا رَدٌّ على بعض الجُهَلاء الذين يَدَّعُون جَهْلاً وسَفَهَاً أو كذباً وزُورَاً أنَّ بعض النَّبِيِّين قد طَلَبَ من الناس أن يعبدوه هو من غير الله تعالي كما ادَّعَيَ البعض علي عيسي (ص)!!.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لإنسانٍ أن يُعْطيه الله ويُوحِي إليه الكتاب الذي فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسِبَة لعَصْرِه لكي تُصلح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه، ويُعطيه أيضا الحُكْم أيْ المُلْك والفقه والفهم والعلم للأحكام حتى يتمكّن من القضاء العادل الصائب بين الناس وإدارة كل شئونهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ويُعطيه كذلك النّبُوَّة ويُكرمه بها بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إليهم لينال شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو كونوا عباداً لي من دون الله!!.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مؤمنٍ لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا السَّفَه والتخريف فهل من المُمْكِن أن يقوله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. ".. وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ.." أيْ ولكنْ الذى يُعْقَل أن يَطْلب منهم ويقول لهم كونوا ربَّانِيِّين أيْ مُنْتَسِبين لربكم مُرْتَبِطِين به متمسّكين عامِلِين بكل ما وَصَّاكم به من أخلاق إسلامكم مُرَبِّين لذواتكم ولغيركم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك لتسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)" أيْ بسبب أنكم كنتم تُعَلّمون غيركم الكتاب الذي بَلّغه رسلكم إليكم وبسبب أنكم كنتم تَدْرُسُون إيَّاه وتَتَعَلّمونه وتعملون بأخلاقه كلها، أيْ بهذا تكونوا ربَّانِيِّين
ومعني "وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، أيْ ولا يُمكن أبداً أن يقول لكم كونوا عباداً لي من دون الله وأيضا لا يُمكن مُطلقا أن يأمركم ويطلب منكم أن تجعلوا الملائكة والنبيين وغيرهم أربابا – جَمْع ربّ – تعبدونهم غير الله تعالي أيْ تطيعونهم فيما يُخالِف وَصَايَاه في الإسلام أو أن تَتّبعوا أحداً في تحليل شيءٍ أو تحريمه إلا فيما أحَلّه أو حَرَّمه سبحانه، لأنه مَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)" أيْ هل يُعْقَل أو يُتَصَوَّر أن يأمركم بالكفر أيْ بالتكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبالعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، وذلك بعد أنْ صِرْتُم مسلمين أيْ مُسْتَسْلِمِين لوَصَايَا الله وتشريعاته أيْ متمسّكين عاملين بكلّ أخلاق إسلامكم في كل شئون حياتكم ثابتين دائما عليها؟!!.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مؤمنٍ لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا السَّفَه والتخريف فهل من المُمْكِن أن يقوله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. والاستفهام هو لنَفْي ذلك نَفْيَاً قطعيَّاً بأيِّ صورةٍ من الصور ولتأكيد استحالة حدوثه
ومعني "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذ الله ميثاق النبيين الذين أرسلهم للناس وأوْحَيَ إليهم كتبه التي فيها الإسلام ليُعَلّموه لهم، أيْ أخذ منهم عَهْدهم ووَعْدهم المُؤَكَّد، أنه مَهْمَا أعطيتكم وأوْحَيْت إليكم من كتابٍ فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسِبَة لعَصْرِكم لكي تُصلح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها كلها، ومهما أعطيتكم أيضا مِن حِكْمَةٍ أيْ إصابةٍ في الأمور كلها وعلمٍ نافعٍ مصحوبٍ بعملٍ علي أرض الواقع وحِكَمٍ مُسْعِدَةٍ تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، ثم حَضَر إليكم أثناء حياتكم – وحتي بعد مَمَاتكم فأوْصُوا بذلك المسلمين المُتّبِعين لكم – رسولٌ من عندي مُصَدِّقٌ لِمَا معكم من كتبكم أيْ مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرها واحد وهو الله تعالي وكلها تدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فعليكم حتما أيها الأنبياء ومَن اتّبَعكم مِن المسلمين أن تؤمنوا به أيْ تُصَدِّقوه وأن تنصروه بعوْنه علي نشر دعوته بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبالدفاع عنه وعنها بكل ما تملكون.. وفي هذا إرشادٌ للرسل في كل زمنٍ أن يؤمن بعضهم ببعضٍ وينصره سواء أدركه في عصره أم لم يدركه وأن يُوصُوا بذلك أتْبَاعهم المسلمين الذين أسلموا معهم بأن يؤمنوا بكل رسولٍ يأتيهم من عند الله وأن يستمرّوا علي ذلك ويُسَلّم بعضهم بعضاً هذا الميثاق العظيم إلي أنْ يُؤمنوا بخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ويُسْلِمُوا معه حتي نهاية الحياة وبذلك لا يَتيهون ويَتعسون في الداريْن بل يسعدون فيهما تمام السعادة، فإنْ لم يؤمنوا، كاليهود والنصاري مثلا الذين حَضَروا الرسول (ص) ولم يُسلموا، فقد تَعِسُوا فيهما.. إنَّ الله تعالي يُبَيِّن ضِمْنَاً في هذا الجزء من الآية الكريمة أنه لا يَترك الناس يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويَفْسَدون فيَتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل هو معهم دائما حتما بعِلْمه وبقُدْرته منذ خلق آدم وحتي يوم القيامة بسبب عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وذلك بأن يعطيهم هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وهو دين الإسلام.. ".. قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ.." أيْ قال لهم الله تعالي هل وافقتم علي ذلك وقَرَّرتم بتصميمٍ وإصرارٍ الالتزام به وتنفيذه؟!.. ".. وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي.." أي وهل قَبِلْتم إصْرِي أيْ عَهْدِي ووَعْدِي الشديد العظيم الهامّ بيني وبينكم علي كل ذلك الذي ذُكِرَ لكم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للتأكيد عليهم.. ".. قَالُوا أَقْرَرْنَا.." أيْ قالوا وافَقْنا علي ذلك وقَبِلْنا ورضينا والتزمنا وأطعنا ياربنا, فالأمر لسعادتنا.. ".. قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)" أيْ قال لهم الله تعالي فَلْيَشْهَد إذَن بعضكم على بعض بهذا الإقرار، وأنا معكم من الشاهدين المُشاهِدِين الحاضرين بعلمي وقُدْرتي على إقراركم وإشهاد بعضكم على بعض.. وأيّ شهادةٍ وحضورٍ أعظم وأوْثَق وأصْدَق من شهادة الخالق العظيم الرحيم الحكيم العليم سبحانه؟!!.. وفي هذا مزيدٌ من التوكيد والتوثيق التامّ عليهم والتحذير الشديد من الإخلاف وعدم الوفاء والتنفيذ ومزيدٌ من التنبيه علي عِظَم الأمر للاهتمام بهذه الأمانة، بهذه النعمة العظيمة، بهذا الإسلام، وحفظها وتسليمها جيلاً بعد جِيلٍ حتي قيام الساعة وأنْ يشهد بعضهم علي بعض بتَسَلّمها ويُقِرّ ويَعترف بهذا، وذلك للسعادة بها في الداريْن، وعدم التفريط فيها، والا كانت التعاسة للجميع فيهما بدونها
ومعني "فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82)" أيْ فمَن تَوَلّيَ عن طاعة الله بعد ذلك الميثاق المُؤَكَّد أيْ العهد والوعد المُوَثّق بأشدّ التوثيق والشهود أيْ أعْرَضَ أيْ أعطيَ ظهره والتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ عن أخلاق الإسلام وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوم نشرها وآذَيَ مَن يَتّبعها، فهؤلاء المُتَوَلّوُن حتما هم الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. فكونوا إذَن جميعا أيها الناس من المُهْتَدِين الصالحين المتمسّكين بالميثاق لا من الضالّين الفاسقين المُخَالِفين له المُفَرِّطِين فيه لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)" أيْ هل يُريدون ويَطلبون هؤلاء الفاسقون دِينَاً غير دين الله وهو الإسلام والذي هو أحسن نظامٍ يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد الناس جميعا علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وفكرهم وبيئاتهم بكل مُتَغَيِّراتهم إلي يوم القيامة تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه؟!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بدلا أن يتعس فيهما.. ".. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)" أيْ مع أنَّ جميع مَن في الكوْن قد اسْتَسْلَمَ وانْقادَ وخَضَعَ لإرادة الله تعالي وحده لا لغيره في مُلْكِه سواء أكان راضياً أم كارها، وكل المخلوقات راضية بأن يكون الله سبحانه الذي هو خالقها ومُرَبِّيها ورازقها ومُعِينها وراعيها ومُرْشدها لكلّ خيرٍ ونفعٍ الغفور الرحيم الودود الكريم المُجيب هو المَلَك عليها يُدير شئونها علي أكمل وجه، إلا فقط وحدهم الكافرون والمشركون ومَن شابههم، يَكرهون ذلك ويَسيرون مُتَخَبِّطِين مُتْعَبِين تُعَسَاء عَكْسه، لأنهم يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ومع ذلك فهم أيضا في كثير من أمورهم مسلمون كَرْهَاً أيْ مُسْتَسْلِمُون مُنْقادون خاضِعون لحُكْمه ولأمره رغم أنوفهم!! في طول الأجل أو قِصَره وفي نوعيتهم وذُرِّيَّاتهم كذكرٍ أو أنثي وفي قانون الأسباب والنتائج حيث قد يتّخذون أحيانا أسبابا ويمنع خالقهم عنهم نتائجها وفي أسباب الرزق من مطرٍ وضوءٍ وهواء وإخراجٍ لزروعٍ وثمارٍ وغيرها وفي حركة الأرض وتناوُب الليل والنهار والشتاء والصيف ونمو خلايا أجسامهم ودَوَابّهم وصحتهم ومرضهم وموت أحبابهم وما شابه هذا من شئون الحياة المختلفة.. لقد رضي المسلمون بربهم وبإسلامهم وتمسّكوا بكل أخلاقه لتأكّدهم التامّ بأنَّ كل هذا هو مصدر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم وهم قد اختاروا هذا طَوْعَاً أيْ اختيارياً بلا أيِّ إكراهٍ أيْ راضِين بكامل حرية إرادة عقولهم وقد شاء الله لهم هذا الاختيار الحرّ حين خلقهم، وبالتالي فالكارهون لله وللإسلام ولا يتّبعونه من الكافرين والمشركين وأشباههم، هم أيضا بصورةٍ غير مباشرةٍ رغم أنفهم تحت مشيئة الله وإرادته في مُلْكِه والتي شاءت أن يكون الإنسان بعقله حُرَّاً في اختيار ما يريد وشاءت أن تكون فطرته بداخل عقله مسلمة!! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنْ اختار الخير فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإنْ اختار الشرّ فله كل الشرّ والتعاسة فيهما (للمزيد من الشرح والتفصيل عن علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام، برجاء مراجعة الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران).. وكذلك هو حال المنافق حيث يُظْهِر أنه أسْلَمَ له سبحانه رغم عدم رغبته في الإسلام وكفره به فهذا مِمَّن أسلمَ كرْهَاً أيْ وهو كارِه لكي يتمكّن من التعامُل مع المسلمين أو العيش بينهم فينتفع بخيراتهم أو يحاول الكَيْد لهم لإضعافهم.. هذا، ومن معاني " طَوْعَاً وكَرْهَاً" أيضا أنَّ فيها تَنْبيهاً ضِمْنِيَّاً من الله تعالي للبَشَر، حتي المسلمين منهم، أنهم سَتَمُرّ عليهم أحيانا مواقف يكرهونها ولا يُحبونها فعليهم أن يُحسنوا التعامُل معها كما عَلّمهم إسلامهم ليَخرجوا مُستفيدين من خبراتها، أمّا غير المسلم فسيكون غالبا في غَفْلة ولا يُحسن التّصَرُّف والاستفادة!.. ".. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره يكون المسلمون دائما في كل أحوالهم في كل شئون حياتهم راجِعين إليه أيْ يجعلون دوْما مَرْجِعِيَّتهم هي الله ورسوله الكريم (ص) وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويكونون دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل عنهم سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتهم بتعاسة هذا الخطأ.. ثم جميع الناس سيُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يبعثهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم، وهو أعلم بهم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنَّ اتّباعكم للإسلام طَوْعَاً أيْ اختياريَّاً سيجعلكم تحيون حياتكم بكل سَلاسَة وسعادة لأنها ستكون مُتَوَافِقَة مُنْسَجِمَة مع فطرتكم بداخل عقولكم والتي هي مسلمة أصلا ومع كل الكوْن حولكم والذي هو أيضا مسلم أيْ مُسْتَسْلِم لنظام الله والذي لا يمكن الانتفاع والسعادة به إلا بنظام الله الذي هو الإسلام بينما إذا لم تَختروه واخترتم نُظُمَاً أخري مُخَالِفَة له اصطدمتم بفطرتكم وأُصِبْتُم بالقلق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع واصطدمتم مع الكوْن وأسأتم التعامُل معه ولم تَنتفعوا به وستَسِير عليكم قوانينه رَغْمَاً عنكم مُكْرَهِين فتتعسون بكل ذلك في دنياكم ثم أخراكم
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)" أيْ اعْمَلُوا أيها المسلمون بخُلُقٍ هامٍّ من أخلاق الإسلام وهو خُلُقِ الإنصاف والعدل بحيث أنه عندما يُحاوِركم أهل الكتاب وهم اليهود والنصاري أو غيرهم من غير المسلمين عموماً ويَذكرون لكم ما يُوافِق الإسلام فاقبلوه وما ينحرف عنه فارفضوه، وقولوا لهم وذَكّروهم علي سبيل الدعوة والإرشاد لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن أنكم تؤمنون أيْ تُصَدِّقون بالله وحده خالِق الخَلْق كله وبكل ما أُنْزِلَ إليكم في القرآن العظيم وبكل ما في الكتب السماوية التي أُنْزِلَت قبله مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد مثل ما أُوحِيَ إلى الرسل الكرام إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم الأحفاد ليعقوب – جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – والتوراة غير المُحَرَّفة التي آتاها أيْ أعطاها الله موسى (ص) بوَحْيِها إليه والإنجيل غير المُحَرَّف الذي آتاه عيسي (ص)، وما أُعْطِيَ جميع الرسل من ربهم، لا تُفَرِّقون بين أحدٍ منهم فتُكَذّبون ببعضهم وتُصَدِّقون بالبعض الآخر كما يفعلون هم حيث كَذّبوا بالرسول الكريم محمد (ص) والقرآن الذي أُوحِيَ إليه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة، وأنكم له مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمُون لربكم ولنظام الإسلام والذي هو من عنده، لأنَّ ذلك هو مصدر سعادتكم، ولقد كان من المُفْتَرَض أن يكونوا هم أيضا كذلك فيؤمنوا بالله وبرسوله (ص) وبالقرآن لأنَّ أهل الكتاب يعلمون بوجود الله ويعلمون الرسل والكتب السماوية ولا يُشركون مع الله آلهة أخري فيَعبدون مثلا حَجَراً أو صَنَمَاً أو نِجْمَاً أو غيره، وحتي ما يقوله البعض عن أنَّ المسيح ابن الله أو حتي هو الله يُمكِن تصحيحه لأصحاب العقول المُنْصفة العادِلَة! وقد عادَ بالفعل كثيرون منهم عن ذلك بالمناقشة بالتي هي أحسن وأسْلَموا كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا، فلماذا إذَن لا يُؤمن كثير منهم بالرسول محمد (ص) وهو الذي قد نَبَّأَت به كُتُبهم وبالقرآن وبالإسلام ليَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟! وعلي ماذا الخلاف إذَن؟!! ولماذا لا يؤمن غير المسلمين عموماً سواء أكانوا أهل كتابٍ أم لا بالقرآن والإسلام الذي يقبله كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا؟! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم إنْ يَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، للحقّ وللخير وللسعادة، سيَسعدوا تمام السعادة في الداريْن، وإن استمرّوا علي ماهم فيه تعِسوا تمام التعاسة فيهما
ومعني "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)" أيْ وكل مَن يَطلب ويَتّبِع في حياته دِينَاً – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون – غير دين الإسلام أيْ مُخَالِف لأخلاقه وتشريعاته وأنظمته ففَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات له ولغيره، فحتماً لن يَرْضَيَ الله منه ذلك أيْ لن يُعطيه من عطائه العظيم الذي لا يُحْصَيَ خيراً وسعادة في دنياه وأخراه لأنه لا يُعْطِي هذا إلا لمَن كان مسلماً أيْ اسْتَسْلِم لوَصَايَاه وتشريعاته تعالي أيْ تَمَسَّك وعمل بكلّ أخلاق إسلامه في كل شئون حياته وثَبَتَ دائما عليها فسَعِدَ وأسْعَدَ مَن حوله والكوَن كله كما يريد سبحانه لخَلْقه الذين ما خَلَقهم إلا ليسعدهم ولن يسعدوا تمام السعادة في الداريْن إلا بالإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم.. ثم هو في الآخرة من الخاسرين قطعاً بسبب ما فَعَلَه خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة بالقطع إلي خسران وفقدان دنياه فيتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة بسبب وعلي قَدْر بُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين
ومعني "كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)" أيْ كيف يُمْكِن – بل يُسْتَبْعَد – أن يُعين ويُوَفّق ويُيَسِّر ويُرْشِد الله للهداية له وللإسلام أُنَاسَاً كذّبوا بعد تصديقهم؟! كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، وذلك بعد أن شهدوا أيْ اعترفوا أنَّ الرسول وما جاءهم به من الإسلام في زمنهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وكتابه الذي أُوُحِيَ إليه وآخر هذه الكتب وهو القرآن العظيم هو صِدْق من عند الله، أي ارتَدّوا عن الإسلام بعد إيمانهم به وعملهم بأخلاقه بعدما ذاقوا سعاداته، أو شهدوا واعترفوا بداخل عقولهم بأنه حقّ لأنه يوافق فطرتهم المسلمة أصلا ولكنهم لم يسلموا كبعض اليهود والنصاري ومَن لا دين لهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، وأيضا كفروا بعد إيمانهم أو لم يؤمنوا بعد أن جاءهم البَيِّنات أيْ وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بهذا الكتاب أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يكفروا بعد إيمانهم أو لم يؤمنوا أصلا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يكفرون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوا الإسلام ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية، بما يدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه تعالي لا يُمْكِن ويُسْتَبْعَد أن يهديهم وهم مستمرّين علي هذه الحالة، فهو لا يهديهم إلا إذا استفاقوا وبدأوا بالعودة لعقولهم ولفطرتهم فحينها سيَهديهم، وذلك لأنَّ الحال والواقع أنه سبحانه ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم عقابهم أنَّ عليهم حتما لعنة الله أيْ طَرْد وإبْعاد الله لهم من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ومِن شِدَّة غضب الله عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، يجعل الله اللعنة مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيّ مكانٍ إذ تلعنهم الملائكة والتي ستقوم في الآخرة بلَعْنِهم أيضا وبتعذيبهم في النار، ويلعنهم الناس بل الخَلْق جميعا وذلك كلما أصابهم ضَرَرٌ مَا بسبب سوئهم، أيْ يَدْعُون عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله في الداريْن، فاجتمعت عليهم لعنات الخالِق وكل خَلْقه
ومعني "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88)" أيْ ماكِثين مُستمرّين في هذه اللعنة ثم في عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. ".. وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88)" أيْ وحين يَحلّ وقت العذاب الدنيويّ ثم الأخرويّ لا يُمْهَلون أيْ لا يُتْرَكون ولو للحظة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يشبههم لكي يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَانِ ونزول العذاب.. وفيه أيضا – إذا ماتوا مُصِرِّين علي ما هم عليه – قطعٌ لهم لأيِّ أملٍ في تخفيفِ العذاب أو حتي بقاءه كما هو بغير زيادةٍ في مقداره أو تغييرٍ في نوعه، وهذا من علامات شِدّة غضب الله تعالي علي أمثالهم
ومعني "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم مِن بعد ذلك الظلم الذي فعلوه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وأصلحوا أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)" أيْ فإنَّ الله بذلك يَقْبَل توبتهم ويعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيسْتُرهم ويُعِينهم ويُسعدهم، لأنَّ الله حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بعد تصديقهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، وذلك بعد إيمانهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، ثم لم يكتفوا بذلك بل ازدادوا كفرا بهذه الرِّدَّة والرجوع عن الإسلام والتّحَلّل من أخلاقه تَمَثّلَ في مزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفساد والمُعاداة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والمقاومة لمَنْع نَشْره والإيذاء لمَن يَتّبعه والتشجيع له علي الارتداد عنه وما شابه هذا من علامات ازدياد سُوُئِهم.. ".. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.." أيْ لن يَقْبَلَ الله توبتهم حتماً وذلك إذا كانت التوبة غير صادقة أيْ كلاماً باللسان فقط لا يُصَدِّقها عَمَلٌ بأخلاق الإسلام أو كانت عند موتهم وخروج روحهم حيث قد ماتوا مُصِرِّين علي كفرهم، وما دامت غير مقبولة فهم بالتالي لن يُرْحَمُوا بل يُعَذّبوا ويُخَلّدوا في النار بما يُناسب شرورهم.. أمّا إنْ تابوا توبة صادقة وأَصْلَحوا أثناء حياتهم فإنها تكون مَقْبُولَة بالقطع كما ذُكِرَ في الآية السابقة.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90)" أيْ وهؤلاء حتما هم الضَّالّون أيْ المُنْغَمِسُون الغارِقون فى الضلال أي الضائعون البالِغون أعلي درجات الضياع السائرون في طريق التعاسة المُسْتَحِقّون لعذاب الله في الداريْن، لأنهم ابتعدوا عن طريق الإسلام فتعسوا تمام التعاسة فيهما بسبب اختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الطريق الذي هم فيه لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)" أيْ إنَّ المُصِرِّين علي كُفرهم من الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يتوبوا ويعودوا لربهم ويُسْلِموا واستمرّوا علي ذلك حتي ماتوا وهم كُفّار، فهؤلاء حتماً لن يَرْضَيَ ويَقْبَل ويَأخذ الله تعالي من أيِّ أحدٍ منهم يوم القيامة فِدْيَة ولو افْتَدَىَ بما يَملأ الأرض ذهباً، والفِدْيَة هي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما، فحتي ولو فُرِضَ واستطاع أحدهم يومها بالفِعْل أن يأتي بمِثْل هذا الفداء الهائل ليَفتدي به نفسه من عذاب الله فلن يُقْبَل منه، ولن يستطيع قطعاً لأنه لا مالَ وقتها، وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم في النجاة مِمَّا هم فيه.. ".. أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.." أيْ هؤلاء بالقطع سيكون لهم في انتظارهم حينها عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بالتأكيد بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)" أيْ لا يُمكِن مُطلقا أيها المسلمون أن تَحصلوا علي البرّ أيْ الخير والسعادة من الله تعالي في الدنيا والآخرة، ولن تَحصلوا كذلك علي البرّ بمعني حُسن الخُلُق كما قال (ص) "البِرّ حُسن الخُلُق.." (جزء من حديث رواه مسلم) – والإنفاق جزء من الأخلاق الحَسَنَة – وتكونوا أبراراً أيْ صالحين أصحاب أخلاقٍ حسنة، إلا إذا أنفقتم أيْ أعطيتم مِمَّا تحبّون، أيْ مع حُبّكم لهذا الذي تنفقونه وحاجتكم إليه ومع حبكم لله تعالي تريدون حبه وعَوْنه وتوفيقه وإسعاده لكم في الداريْن، مِمَّا رزقكم الله إياه، بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ، علي ذاتكم ومَن حولكم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق، مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم، في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. هذا، والإنفاق يكون بعضاً مِن مَا تُحِبّون وليس كله لأنه لفظ "مِن" يُفيد التبْعِيض أيْ البعض منه لا الكلّ، لأنَّ فطرة العقل فَطَرَها أيْ خَلَقَها خالِقها سبحانه علي حبّ كلّ نِعَم الحياة الحلال النافعة المُسْعِدَة من أموالٍ وأزواجٍ وبنين وعلومٍ وأعمالٍ وأطعمةٍ وأشْرِبَةٍ وألْبِسَةٍ وغيرها، فأيّ شيءٍ تنفقونه هو مِمَّا تُحِبُّون (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وكلّما ازددتم إنفاقاً كلما ازداد خيركم وخُلُقكم الحَسَن وكلما ازداد تعويض الله لكم بأعظم مِمَّا انفقتم وكلما أفاض عليكم نعيماً وخيراً وسعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، وكذلك إزالة للوَهْم الذي قد يَتَوَهَّمه أحدٌ مُخْطِئَاً يائِسَاً أنَّ الإنفاق لا بُدَّ أن يكون شيئا مَحْبُوبَاً نَفِيسَاً قد لا يستطيعه.. أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ شيءٍ من أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً مُحَبَّبَاً للنفس أم لا في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً عليم به فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء علي حسب نواياكم ومنافعه حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم ما أحَلَّ الله لخَلْقِه.. فهو سبحانه أحَلَّ لهم كلّ طيِّب، وقد بَيَّنه لهم، أنه كل نافعٍ مُفيدٍ غير ضارٍّ مُسْعِدٍ.. لينعموا وليسعدوا به.. وهو أعلم بخَلْقه وما يُصلحهم ويُسعدهم وما يَضرّهم ويتعسهم.. فكيف تَتَجَرَّأ عليه وتُحَرِّم ما أحَلّه؟!!.. يقول مُحَذّرَاً من ذلك "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.." (الأعراف:32).. إلا في بعض حالاتٍ فرديةٍ قد يمتنع أحدٌ عن طعامٍ مَا لأنه يؤذيه أو لا يستسيغه ويحبه لكن لا يُحَرِّمه علي غيره أو يَدَّعِيَ كذباً أنَّ التحريم أيْ المَنْع من الله تعالي
هذا، ومعني "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)" أيْ كل الأطعمة الطيِّبة كانت حَلالاً لأبناء يعقوب (ص)، لليهود، إلا ما حرَّم يعقوب على نفسه بسبب مرضٍ مَا نَزَلَ به، وذلك مِن قبل أن تُنَزَّل التوراة، فلمَّا نُزّلَت التوراة بعده بزمنٍ علي موسي (ص) اتّضَحَ لهم فيها أنَّ الله لم يُحَرِّم عليهم ما حَرَّمه أبوهم الرسول الكريم يعقوب علي نفسه وإنما كان التحريم أمراً فردياً منه خاصاً به لا لغيره.. وفي هذا إخْراسٌ لألسنةِ بعض اليهود ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يريدون تكذيب الرسول الكريم محمد (ص) والقرآن العظيم أنه ليس من عند الله لأنه لو كان من عنده لَكَانَ مُصَدِّقَاً للأديان السابقة لأنها كلها هي الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ فيها حيث يَدَّعُون كذباً وزُورَاً أنَّ القرآن قد حَلّلَ بعض الأطعمة التي كانت مُحَرَّمَة علي مَن أسلموا سابقا ويَذْكُرون لذلك مثالاً لبعضِ طعامٍ كان مُحَرَّمَاً في فترة يعقوب (ص) وهو حلال في القرآن فبَيَّنَ لهم أنه كان أمراً فردياً من نفسه ولسببٍ من الأسباب وليس تحريماً منه سبحانه كتشريعٍ للناس في هذا الزمن.. وهم بهذا الادِّعاء الكاذب المَفْضُوح وما يُشبهه من ادِّعاءاتٍ يُريدون التشويش علي الناس وتشويه الإسلام ومنع انتشاره بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)" أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُتَحَدِّيَاً لهم لفَضْح كذبهم فأحضروا التوراة إذَن فاقرأوها علي الجميع إنْ كنتم صادقين في ادِّعاءاتكم هذه.. ولن يَفعلوا حتماً لأنهم كاذبون فهي ليست فيها ما يَدَّعون
ومعني "فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)" أيْ فأيّ أحدٍ يَفْتَرِي أيْ يَخْتَلِق علي الله كذباً ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، من بعد ذلك الظهور للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذباً وزُوُرَاً وتخريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو أنَّ شيئا حلالا وهو حرام أو أنه حرام وهو حلال، أو يُغَيِّر في تفسيرات ومعاني الآيات ليُبْعِد الناس عن أخلاق إسلامهم، أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخريفات.. وكل ذلك لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)" أيْ فهؤلاء الذين يَفعلون ذلك حتماً هم الظالمون أيْ الغارِقون فى الظلم البالِغون أعلي درجاته السائرون في طريق التعاسة المُسْتَحِقّون لعذاب الله في دنياهم وأخراهم علي قَدْر ظلمهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك ولمَن يسأل عَمَّا يقوله الله تعالي، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم صَدَقَ الله تعالي حتماً في كلّ ما يقول ويُشَرِّع للناس في كتبه وعلي ألسنة رسله من تشريعاتٍ وأخلاقياتٍ وأنظمةٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وإذا كنتم تريدون حقا أيها الناس الوصول إلى الطريق المستقيم السعيد في الداريْن فاتّبِعوا إذَن بالتالي أيْ سِيِرُوا خَلْفَ وأطيعوا مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفا أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رَمْزاً لأن يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم
هذا، ومعني "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)" أيْ إنَّ أوَّل وأسْبَقَ وأعظمَ بيتٍ – أيْ مكانٍ وبناءٍ – في القِدَم والعَظَمَة والمَكَانَة والشرف والعِزّة والكرامة، بُنِيَ وأُسِّسَ وأُعِدَّ للناس في الأرض يجتمعون فيه علي كل خيرٍ، لَهُو بيت الله الحرام الذي في مكة.. ".. مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)" أيْ جعله الله مُبَارَكَاً أيْ كثيرَ دائمَ الخيرِ أيْ مَكَانَاً كله بَرَكَة أيْ زيادة دائمة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ من كل الأنواع، وجعله كذلك مكاناً يكون هداية للعالمين أيْ إرشاداً للخير كله في الداريْن للناس جميعا فهو المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ لهم كلهم فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم، ومَن جاءه حاجَّاً أو مُعْتَمِرَاً استفادَ خيراً كثيراً، فكلٌّ من الحجّ والعُمْرَة هو مؤتمر سنويّ أو دوريّ يجتمع فيه المسلمون من كل مكانٍ يتحاوَرون فيه في مناخٍ ربَّانِيٍّ أخَوَيٍّ وُدِّيٍّ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهو دورة تدريبية لفترةٍ لتقويةِ إرادة العقل فيمتنع بعدها عن فِعْل أيِّ شَرٍّ ويَنطَلِق بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير.. وهو زاد مُكَثّف مُرَكّز يَستزيده المخلوق بتواصُلِه المستمرّ مع خالقه دون انشغالٍ فيعود بعدها لحياته اليومية بطاقاتٍ خيريةٍ تُفَجِّر كل خيرٍ فيه ومَن حوله فينطلقون يكتشفون حياتهم ويُطَوِّرونها ويَنتفعون ويَسعدون بكل خيراتها ولحظاتها.. وهو تدريب علي تمام الالتزام بكل أخلاق الإسلام صغرت أم كبرت وسواء أكانت شعائر تُحَرِّك المَشاعِر الإنسانية بالعقول أم معاملات تَرْقَيَ بالحياة وتُصلحها وتُكملها وتُسعدها.. وهو تعليم وممارسة علي الحوار الأخَوَيّ الصادق الهاديء الهادف البَنَّاء الذي يبتغي بحقّ الوصول لكل خير وإصلاح وإسعاد بعيدا عن أيِّ جدالٍ والذي هو عكس ذلك.. وهو مُمَارَسَة عملية علي التواضع إذ الجميع متساوون، وعلي النظام والانضباط رغم الأعداد الهائلة، وعلي تبادل المنافع والعلوم والتجارات وغيرها بكل صدقٍ وأمانةٍ وإتقان
ومعني "فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)" أيْ في هذا البيت الحرام دلالات وعلامات واضِحات قاطِعات دامِغات تُبَيِّن كوْنه أعظمَ بيتٍ وُضِعَ للناس وكوْنه مباركاً وهُدَيً للعالمين والتي منها مقام إبراهيم بمعني الصخرة التي قام ووَقَف عليها أثناء بنائه وظهر فيها أثر قَدَمِه وحفظها الله تعالي بقُدْرته كل هذه السنين كآيةٍ أيْ معجزةٍ للتدبّر في أنه علي كل شيءٍ قديرٌ وبمعني أيضا أنه يُذَكّركم بمقامه أيْ بمكانه الذي قام به وصَلّيَ ودَعَا وكذلك مقامه أيْ تَصَرّفه وحاله فيه – وكذلك أحوال رسولنا الكريم محمد (ص) – وكيفية تطبيقاته العملية لأخلاق الإسلام فتتعلّمون منه كل خيرٍ حين تَتّخِذونه قُدْوَة أيْ تَتَشَبَّهون به في طاعته لربه وأخلاقه في كل شئون حياتكم لتسعدوا في الداريْن.. ".. وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.." أيْ ومن الآيات البَيِّنات التي فيه أيضا أنَّ مَن دَخَلَه كان آمِنَاً أيْ جعله الله تعالي مكاناً آمِنَاً مِن أيِّ اعتداءٍ يأمَن فيه كلّ مَن دخله علي نفسه وماله وأهله بينما خارجه قد يُعْتَدَيَ عليه.. ".. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.." أيْ وفَرَضَ الله علي الناس – والفَرْض هو ما يُثاب ويَنتفع فاعِلُه بفِعْله في الداريْن ويَأثم ويَخسر فيهما بتَرْكِه دون عذر مقبول – أنْ يَحجّوا البيت علي الوجه المطلوب كما فَعَلَه الرسول (ص) متى كان فى استطاعتهم ذلك ماليا وجسديا، وأن يكون الحجّ لله أيْ طائعين مُخلصين مُحسنين له وحده سبحانه لا لغيره (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وذلك لينتفعوا وليسعدوا بالمنافع والسعادات الدنيوية والأخروية التي سَبَقَ ذِكْرها في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)" أيْ ومَن لم يشكر هذه النِعَم بعد هذا كله ولم يعمل بالإسلام بل كَفَرَ بالله أي لم يُصَدِّق بوجوده ولا برسوله (ص) ولا بقرآنه ولا بآخرته ولا بحسابه وعقابه وجنته وناره، وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار، فإنَّ كفره حتماً عليه هو لا علي غيره، أيْ هو الذي سيُعَاقَب في دنياه وأخراه علي قَدْر فِعْله، أيْ هو الذي في الدنيا سيكون له قطعا درجةٌ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة له كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم سينتظره بالقطع في الآخرة ما هو أتمّ تعاسة وأعظم وأشدّ وأخلد، فالله تعالي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ غَنِيّ عنه وعن حجِّه وعمله، وعن الناس والخَلْق جميعا، فهو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ الناس جميعا! فهو لا يُشَجِّعهم على الحجّ وأيّ خيرٍ لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الحجّ وهذا الخير أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ به يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بالشر يحدث الفساد والضرَر فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – لماذا تُكَذّبون بآيات الله سواء أكانت آياتٍ أيْ معجزات في كل مخلوقات الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، والحال والواقع أنَّ الله شهيدٌ علي ما تعملون أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أعمالكم وأقوالكم ومن كلّ خَلْقه مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله؟! فانتبهوا لذلك إذَن وأَسْلِمُوا يا أهل الكتاب ويا أيها الناس جميعا وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما
ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)" أيْ قل لهم كذلك لماذا تَمنعون عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مَن آمَنَ أيْ صَدَّقَ بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه؟!.. تَصُدُّونه قَدْر استطاعتكم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. والاستفهام والسؤال هو لمزيدٍ – إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة – من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما.. إنكم ".. تَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ تُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي تريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، وكذلك تريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن تستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ.." أيْ وأنتم علماء أيْ وحالكم وواقعكم أنكم عالِمُون تعلمون تماما بداخل عقولكم علماً مُؤَكّداً كعلم المُشاهَدَة بالعين أنها – أيْ شريعة الله – الصدق فهي يَقْبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، بل أنتم تَشهدون بصِدْقِها فيما بينكم ويُسِرّ بذلك بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات ولكنكم تُخْفون ذلك!!.. إنَّ هذا العلم المُؤَكّد بأنَّها هي الحقّ من المُفْتَرَض أنْ يَقود أيّ عاقلٍ لأنْ يُسارِع بأنْ يؤمن بها لا أن يكفر!!.. لكنْ كل ذلك هو بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)" أيْ وليس الله تعالي حتماً بغافلٍ عن أعمالكم وأقوالكم أنتم يا أمثال هؤلاء ويا كل المسلمين ويا كل الناس أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته أبداً ولو لِلَحْظَة لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه دائما أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين وللمُخَالِفِين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحُدُوث العذاب
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تطيعوا بعضاً من الذين أُعْطُوا الكتاب قبل القرآن الكريم كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) والنصاري الذين أعطوا الإنجيل من خلال عيسي (ص)، ومَن يَتَشَبَّه بهم، تُطيعوهم فيما يريدون منكم أن تفعلوه من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام لكي يَصُدُّوكم عن سبيل الله كما ذُكِرَ في الآية السابقة، أيْ إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، يَتَدَرَّجُوا معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يرجعوكم بعد إيمانكم كافرين أيْ مُكَذّبين بربكم ودينكم فاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث ينشرون ذلك بينكم ويُيَسِّرونه لكم ويُعينوكم عليه فتتعسون تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ولفظ "فريقاً" يُفيد أنَّ بعضهم فقط لا كلهم يفعلون ذلك، وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُعْتَصِمَاً دائما بالله أيْ مُتَحَصِّنَاً به لاجِئاً دوْماً إليه، وبرسوله الكريم (ص) وبدينك الإسلام
هذا، ومعني "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)" أيْ وكيف يا أيها الذين يكفرون بعد إيمانهم تكفرون أيْ تُكَذّبون بعد تصديقكم، تكذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظركم وذلك بعد إيمانكم وعملكم بأخلاق إسلامكم؟! وحالكم وواقعكم أنكم تُقْرَأ عليكم آيات الله في كل وقتٍ سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ، وفيكم أيْ بينكم وعندكم سُنَّة رسوله (ص) أيْ طريقته وأسلوبه في التعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله؟! إنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق أن يحدث هذا من أمثالكم الذين اجتمع لهم كل أسباب الإيمان والسعادة في دنياهم وأخراهم والبُعْد عن الكفر والتعاسة فيهما!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما.. ".. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ.." أيْ ومَن يَتَحَصَّن بالله دائما ويلجأ إليه ويتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ويعتصم برسوله الكريم (ص)، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظارِ باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله (ص) يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)" أيْ ومَن يفعل ذلك فحتماً قد أُرْشِدَ ووُفّقَ ووُصِّلَ إلي طريقٍ مستقيم، أيْ أَرْشَده ووَفّقه وأَوْصَله الله تعالي إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وحَصَّنه مِن تَرْك الإسلام بعضه أو كله بل ومن الكفر، وذلك لأنه هو أولا قد أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واجتهد في اتّباع أخلاق الإسلام فشاء الله له حتماً هدايته وعاوَنه عليها ووَفّقه لها ويَسَّر له أسبابها وسَدَّدَ خُطاه نحوها ونحو التمسّك والعمل بها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله حَقَّ تُقاته ما استطعتم، أيْ كونوا من المتقين أيْ الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. كونوا من المتقين لله حقّ تُقاته أيْ بما يُناسب ويَسْتَحِقّه جلاله وعظمته تعالي، فتفعلوا كل خير وتتركوا كل شرّ، أيْ تتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم وتُدَاوِموا علي ذلك مُسْتَصْحِبين نوايا خيرٍ بعقولكم في كل قول وعمل أنكم تطلبون حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتم وأخلد في الآخرة ولا تطلبوا أيّ سُمْعَة أو جاهٍ أو ليراكم الناس فيقولون عنكم كذا وكذا من المدح الكاذب المُضِرّ أو ما شابه هذا من صور الرياء، وإنْ فعلتم شرَّاً بصورةٍ استثنائية فعودوا لفطرة عقولكم الخيرية سريعا لتعود لكم سعادتكم التامّة ولا تتعكّر كثيرا بالاستمرار علي هذا الشرّ، فأنتم بهذا تكونون من المتقين لله حقّ تُقاته.. لكن كونوا كذلك ما استطعتم، أيْ قَدْر طاقتكم وإمكاناتكم، أيْ بما تستطيعون فِعْله من خيرٍ لأنَّ الخير ليس له حدود – أمّا الشرّ فيُتْرَك قطعا بالكامل تماما ولا تَجْزِئة فيه لأنَّ أيّ جزء منه هو شرّ كما قال (ص) "ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم) – لأنه تعالي من رحمته وحبه لخَلْقه وتيسيره لهم لإسعادهم فَسَّرَ وحَدَّدَ حَقَّ تُقاته الذي ذَكَرَه في هذه الآية الكريمة بما قاله في الآية (16) من سورة التّغابُن "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.." والمُسْتَطَاع هو الذي لا مَشَقَّة عند أدائه بل يُؤَدَّيَ بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وابتهاج وسعادة، وهذا هو ما يُوصِي به الإسلام لأنه يُعين علي الاستمرارية والمُدَاوَمَة كما يُفهم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أَدْوَمَها وإنْ قَلّ" (رواه مسلم)، وهذا هو أيضا ما يُوافق تعريف الوُسْع في قوله تعالي "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." (البقرة:286) والذي يعني أن تعمل كلَّ عملِ خيرٍ بصورةٍ متوسطةٍ مُعْتَدِلَةٍ بحيث يبقَيَ لك بعده جزءاً مَوفوراً ومُتَّسَعَاً من الجهد ، ولا يكون استفراغ واستخدام كل الجهد إلا في حالاتٍ استثنائية مثل حالات الاعتداء علي الإسلام والمسلمين وما شابهها فإذا انتهت عادت حالة الوُسْع أيْ التَّوَسُّط والاعتدال.. ".. وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)" أيْ ولا تُفارقوا دين الإسلام طوال حياتكم إلي نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له يَضرّكم ويُتعسكم فيها ولا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه فهو حتما وحده لا غيره الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكا عاملاً بخُلُقِ الاتّحاد، وخُلُق الأُخُوَّة في الله وفي الإسلام وفي الإنسانية.. وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة، فالاتحاد قوّة، فَبِهِ يَتَكَاتَف جميع البَشَر ويَتَوافقون علي المساحات المشتركة فيما بينهم بما يحقّق مصالحهم وسعاداتهم رغم اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وحتي دياناتهم، وبالأخُوَّة الإنسانية يَتَحَابّ الإنسان مع أخيه الإنسان لأنه إنسان مثله له من العقل والمشاعر بداخله ما يجعله يحب التعامل معه وتبادل المنافع والخبرات بينهم لتحقيق المصلحة والسعادة لهم كما وَصَّانا ربنا بذلك في قوله تعالي ".. وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.." (الحجرات:13)، وبالأُخُوَّة في الله يَتَواصون فيما بينهم بدوام التّوَاصُل مع ربهم، كالحبل الذي يَصِل بين طرفين، ليَرْعاهم ويُؤَمِّنهم ويُحبّهم ويُوَفّقهم ويُسَدِّد خُطاهم ويَرزقهم ويَنصرهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، ثم بالأُخُوَّة في الإسلام تزداد الروابط ومشاعر الحب الدافئة ويتلاحَمون ويتعاونون ويتحرّكون في كل مجالات الحياة كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تَدَاعَيَ – أيْ دَعَا بعضه بعضاً للتجمّع للعوْن – له سائر الجَسَد بالسَّهَر والحُمَّيَ كما قال الرسول (ص)، فتَتِمّ لهم السعادة الكاملة في الداريْن
هذا، ومعني "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)" أيْ وتَمَسَّكُوا جميعا أيها المسلمون بكتاب الله كله وهو القرآن العظيم وبِدِين الله كله الذي فيه وهو الإسلام وكونوا مُجتمعين علي الاعتصام به، وسُمِّيَ القرآن والإسلام حَبْلاً لأنه يَصِل ويَربط بين طرفين هما المسلم وخالِقه القويّ الكريم سبحانه وبسبب هذا الاتصال والارتباط يَرْعاه ويُؤَمِّنه ويُحبّه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويرزقه ويُقَوِّيه وينصره ويُسعده في دنياه وأخراه، ويُنجيه كذلك من كل سوءٍ فيهما مثل المُتَمَسِّك بحبلٍ ثابتٍ من أحدِ طَرَفَيْهِ في مكانٍ مُنْحَدِرٍ يَضْمَن النجاة من الانزلاق.. ".. وَلا تَفَرَّقُوا.." أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أنْ تَتفرّقوا في شأنه وفي قواعده وأصوله وأنتم في إطاره وداخله مسلمين، أن تختلفوا إلي فِرَقٍ يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا، أو حتي تختلفوا كما اختلف السابقين قبلكم فتَصِلُوا إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه! وإلا لو فعلتم ذلك لضعفتم وتَخلّفتم وانحططتم وذللتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم، بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتّحاد والتعاون والإخاء والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاقه والتي هي أسباب القوة والرِّفْعَة والسعادة في الداريْن.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا.." أيْ وتَذَكَّروا دائما ولا تَنْسوا أبداً أيها المسلمون نِعَمَ الله العظيمة عليكم والتي لا تُحْصَيَ، واشكروها دوْماً بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي يحفظها ويزيدها لكم والتي منها ومن أعظمها حين كنتم أعداءً يُعادِي ويُؤذِي ويَضُرّ ويُتْعِس بعضكم بعضا بسبب بُعْدكم عن القرآن والإسلام، فجَعَلَ الأُلْفَة والمَحَبَّة بين عقولكم ومشاعركم بسببه حينما اجتهدتم في العمل بأخلاقه فيَسَّرَ لكم ووَفّقَكم لذلك فصِرْتُم بهذه النعمة إخوانا يُؤَاخِي ويحب ويُعين ويَرْعَيَ ويُسْعِد بعضكم بعضا، واذكروا أيضا حين كنتم علي حافّة حُفْرَة من حُفَرِ النار في الآخرة ستَقعون وتُعَذّبون فيها بما لا يُوصَف بسبب بُعْدكم عن ربكم وإسلامكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار فنَجَّاكم منها بتيسير الإسلام لكم، وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كنتم فيه بسبب بُعْدِكم عن ربكم وإسلامكم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فحافظوا علي هذه النِّعَم إذَن بالاعتصام بالله جميعا وعدم التَّفَرُّق.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم آياته في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لعلكم تهتدون أي لكي تكونوا بذلك من المهتدين أيْ لكي تهتدوا، أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)" أيْ ولتكونوا أيها المسلمون جميعا ولتجعلوا من أنفسكم كلكم أمة أيْ مجموعة مُجْتَمِعَة كلهم وكلّ واحدٍ منهم علي قَدْر استطاعته وبما يُمْكِنه – وكذلك ليكن منكم بعضكم وليس كلكم يتَأَهَّلون ويَتَخَصَّصون في تفاصيل الإسلام وعلومه وأحكامه وقوانينه وتشريعاته ليُسْأَلوا عَمَّا لا يَعلمه الناس منه مِمَّا لا يُعْلَم إلا بالتَّخَصُّص – يَدْعون إلي الخير عموماً أيْ يُشَجِّعون عليه ويَطلبون من أنفسهم وغيرهم فِعْله وهو كل ما يَنفع ويُسْعِد ويُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. هذا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما جزء من الخير وتخصيصهما بالذكْر هو لمزيدٍ من الاهتمام بهما والتأكيد عليهما والتنبيه لفَضْلهما وأَثَرهما الكبير في إسعاد الخَلْق وأجرهما العظيم لفاعِلهما.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما
هذا، ومعني "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)" أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أيها المسلمون أن تكونوا مثل اليهود والنصاري وغيرهم الذين تَفَرَّقوا وتَشَتّتوا ولم يجتمعوا واختلفوا فتَنازَعوا ولم يَتّفِقوا، إيّاكم أنْ تَتفرّقوا في شأن الإسلام وفي قواعده وأصوله وأنتم في إطاره وداخله مسلمين، أنْ تختلفوا إلي فِرَقٍ وطوائف وطبقات يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا، أو حتي تختلفوا فتَصِلُوا مثلهم إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه! بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتّحاد والتعاون والإخاء والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاقه والتي هي أسباب القوة والرِّفْعَة والسعادة في الداريْن.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ.." أيْ ولم يكن اختلافهم لالتباسٍ عليهم من جهة الإسلام وإنما كان خِلافهم وتَفرّقهم مِن بعد ما جاءهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بكتابهم أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. لقد اختلفوا في الإسلام وهو الذي مِن المُفْتَرَض أن يكون سَبَبَاً لإزالة الخِلاف ويجتمع علي أخلاقه الجميع!!.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا وعقوبة لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض، ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)" أيْ وأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً لهم عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسب شرورهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في الدنيا أولا حيث التّشَاحُن فيما بينهم والتّباغُض والتقاطع والتصارُع وحتي التقاتُل بسبب الطائفية والطَبَقِيَّة والحزبية والعنصرية والعَصَبِيَّة بما يُؤَدِّي إلي ضعفهم وتَخَلّفهم وانحطاطهم وانهزامهم وذِلّتهم وبالجملة إلي كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة لهم وقد يَصِل الأمر إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. وليَحْذَر المسلمون تمام الحَذَر أنْ يَسعوا للتفرقة بين المسلمين أو حتي بين عموم الناس والإنسانية وإلا تَعِسوا تماما كتعاستهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)" أيْ يوم القيامة سَتَبْيَضّ وجوهٌ أي ستكون بيضاء مستنيرة مِمَّا عليها من نور السعادة مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة من ربها الكريم وهي وجوه السعداء وهم المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. وكذلك يومها سَتَسْوَدّ وجوهٌ أخري أيْ ستكون مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة بسبب ما فعلوه في حياتهم الدنيا من سوء، وهي وجوه الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)" أيْ هذا تفصيلٌ لحال الناس يومها، فأمَّا الذين اسْوَدَّتْ وجوههم فيُقال لهم علي سبيل العذاب النفسيّ قبل الجسديّ هل كذّبتم بعد تَصديقكم؟! هل كفرتم بعد أن كانت فِطْرتكم مؤمنة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أو بعد أن كنتم مؤمنين بالفِعْل فارْتَدَدْتُم عن الإيمان وقد جاءتكم كل الدلائل التي تَدلّكم عليه وترشدكم إليه في كتبكم ومع رسلكم وفي مُعجزات الكوْن حولكم لكنكم اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم التكذيب؟! كيف فضَّلتم الكفر وتعاساته علي الإيمان وسعاداته؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فأنتم لذلك لا عُذْر لكم، وبالتالي ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)" أيْ فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين ابْيَضَّت وجوههم أيْ كانت بيضاء مُستنيرة مِمَّا عليها من نور السعادة مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة من ربها الكريم وهي وجوه السعداء وهم المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهؤلاء في رحمة الله أيْ في جنته التي فيها رحماته وخيراته وأنْعُمه التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وهم في هذه الرحمات والخيرات والجنات بنعيمها التامّ خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ (108)" أيْ هذه هي دَلائل الله تعالي علي وجوده ومُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه نَذكرها لك ونُخبرك ونُذَكِّرك بها ونُرشدك إليها بالصِّدْق لا بالكذب أيها الرسول الكريم وأيها المسلم والتي كلها صِدْق والتي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الحق والصدق وهو بحقٍّ الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل) .. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذه هي آيات القرآن العظيم نقرؤها عليك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ (108)" أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيُريد ويَشاء ويُحبّ أصلا ظلم أيّ أحدٍ بل أيّ مخلوقٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يحدث حتما مثل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، ومَن كان لا يُريد أصلاً ظلما فإنه مِن باب أوْلَيَ لا يظلم مُطلقا! وكذلك سبحانه لا يُريد للناس والخَلْق ظلماً لبعضهم بعضا.. لكنَّ الذين يُعَذّبون كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وكانوا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)" أيْ وهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)" أيْ وكلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وهو وحده الذي له الحُكم، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)" أيْ هذا مَدْحٌ وتشجيعٌ وتَحْفِيزٌ وتَبْشِيرٌ وإسعادٌ للمسلمين لكي يكون ذلك دافعاً لهم حتي يستمروا طوال حياتهم علي العمل بأخلاق إسلامهم ودعوة غيرهم له ليسعد الجميع بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ أنتم يا مَن تُسْلِمُون صِرْتُم بإسلامكم أفضل أمّة أيْ مجموعة وُجِدَت وخَلَقَها الله مِن بين كل الناس، لأنها للناس أيْ لنفعهم، وهذه الأفضلية هي ما دُمْتُم وطَالَمَا تَحَقّق فيكم وبسبب أنكم تَطلبون من أنفسكم وغيركم وتُوصُون دَوْمَاً بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف، أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة والذي هو بالجملة كلّ أخلاق الإسلام، وأيضا بسبب أنكم تَمنعون ذواتكم ومَن حولكم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. إضافة حتماً إلي أنكم أوّلاً وأخيراً تؤمنون بالله أيْ تصدقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وتعملون بكل أخلاق إسلامكم فكانت كل أقوالكم وأعمالكم ما استطعتم في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلتموه تُبْتُم منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. فإيمانكم هو الذي دَفَعَكم لهذا الخير.. وأنتم مستمرّون علي ذلك طوال حياتكم.. فإنْ فَرَّطَ أحدٌ منكم في صفةٍ من هذه الصفات فقد افْتَقَدَ حتماً هذه الخَيْرِيَّة وتَعِسَ في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْدِه عن ربه وإسلامه.. هذا، وتقديم ذِكْر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان للتنبيه علي عظيم أهميتهما للناس حيث بهما – وبالإيمان وأخلاقه قطعا – يسعدون في الداريْن وبدون كل ذلك يَتعسون فيهما.. ".. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.." أيْ ولو صَدَّقَ أهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) وكغيرهم، لو آمنوا بالقرآن العظيم الذي أُوحِيَ إلي خاتم الرسل محمد (ص) وأَسْلَمُوا وأَمَرُوا بالمعروف ونَهوا عن المنكر مثلكم لكان خيراً لهم حتماً مِمَّا هم عليه لأنهم سيسعدون تماما مثل سعادتكم في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تَحْفِيزٌ لهم علي الإيمان وذمٌّ إنْ لم يؤمنوا.. ".. مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)" أي ليسوا كلهم لم يؤمنوا بل البعض منهم قد آمَنَ وحَسُنَ إيمانه فسَعِدَ في الداريْن، ولكنَّ كثيراً منهم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام قد اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للكفر أم ما شابه هذا.. وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متأكّدا تماماً بلا أيِّ شكّ أنك لو تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك فلن يتمكّن أحدٌ من الإضرار بك، إلا ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا
هذا، ومعني "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111)" أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ لا يُمكن أبداً حاليا أو مستقبلا للفاسقين الذين سَبَقَ ذِكْرهم في الآية السابقة أن يُصيبوكم بضَرَرٍ أيْ بسوءٍ مَا إلا أذَيً أيْ ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً، فلا تَتَوَهَّمُوا أنهم أقوياء فتخافوهم، وذلك لأنه ما دُمْتُم دائِمِي التَّوَاصُل مع ربكم دائمي الاستعانة به ودعائه، وما دمتم دائمي التواصُل مع الآخرين بحُسن العلاقات معهم، وما دمتم حُكماء رَزِينِين مُتَوَازِنِين مِقْدَامِين مُنَظّمِين مُنْضَبِطين صالحين مُثَقّفِين مُتَعَلّمِين مُسْتَقِرِّين هادئين صادقين أمينين أقوياء وبالجملة فيكم كل الصفات التي تُعينكم علي حياةٍ صحيحةٍ صالحةٍ مُتَطَوِّرَةٍ سَلِسَةٍ سعيدة، فأنتم حينئذ قد أحسنتم تَحْصِين ذواتكم من الإصابة بأيّ ضَرَر! وإنْ أصابكم فسَتُحْسِنون قطعا التعامُل معه والخروج منه بأسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وبأكثر خبراتٍ مُتَاحَةٍ وأقلّ خساراتٍ مُمْكِنَة ومُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وذلك لأنكم قد تَحَصَّنْتم بالله أولا مالِك المُلْك أقوي الأقوياء ثم بالصحبة الصالحة حولكم من كل أهل الخير إضافة لذواتكم وأخلاقكم المَتِينة وتناصَحْتُم فيما بينكم وأَمَرْتُم بالمعروف ونَهيتهم عن المنكر، فكيف لمَن تَحَصَّن بهؤلاء أن يتأثّر بضَرَرٍ مَا؟! إنه ولا شكّ هو الأقوي والأعلي وما سيُصيبه مِمَّن يَكْرهه لنْ يَزِنَ عنده إلا جناح بعوضة!.. إنه إذا كان المسلمون بهذه الصفات، وهم كذلك بإذن الله لو تَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، فلن يَقِفَ قطعاً أمامهم أيُّ عدو يريد الاعتداء عليهم بقتالٍ أو غيره من صور العدوان صَغُرَ أم كَبُر، إنهم حتماً مُنتصرون بنصر ربهم ثم بقوة إرادتهم وحُسن إعدادهم، وعدوهم بالقطع سَيَفِرّ مُنْهَزِمَاً، وهذا هو معني ".. وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111)" أيْ إنهم لا يستطيعون مواجهتكم حتما ما دُمْتُم كذلك ولو حَدَثَ وقاتلوكم بالسلاح فإنهم يُعطونكم ظهورهم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين من شدّة جُبْنِهم ثم لا يُنْصَرون عليكم بأيِّ حالٍ من الأحوال وبأيِّ مُعينٍ يستعينون به وفي أيِّ وقتٍ لا في قتالٍ ولا غيره من كل شئون الحياة لأنَّ الله القويّ المَتِين معكم وناصركم يَنصر دوْمَاً وحتماً أهل الحقّ والخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً للمسلمين مُتْعِسَاً مُهِينا لهم.. أمَّا إنْ فَرَّطْتُم في التمسّك والعمل بأخلاق إسلامكم فانتظروا إذّن أن يضرّوكم بكل ضَرَرٍ بأيِّ شكلٍ وبأيِّ درجةٍ وأن ينتصروا عليكم ويهزموكم ويذِلّوكم ويتعسوكم!!
ومعني "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)" أيْ هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وُضِعَت عليهم وأحاطَت بهم ولازَمَتهم صِفَةُ الذلّة أيْ الحَقَارَة والمَهَانَة والضعف، أين مَا وُجِدُوا في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أفراداً أو مجموعات.. ".. إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ.." أيْ لا يَنْجُون مُطلقاً من هذه الذلّة أيْ لا يشعرون أبداً بالاستقرار والأمان علي أنفسهم وأموالهم وبالتالي يُمكنهم التّنَقّل والتَّحَرُّك إلا بحبلٍ من الله أيْ بعهدٍ منه – من معاني الحبل في اللغة العربية العهد لأنه يربط بين طرفين أو أطراف كما يفعل الحبل – أيْ بأنْ يُعطيهم المسلمون عهداً من الله لهم بتأمينهم ولا يخلفونه قطعاً لأنه شَرْعٌ منه سبحانه شَرَعَه في الإسلام لأمثال هؤلاء يلتزمون به نحوهم وهو تأمين المُسالِمين من غير المسلمين الذين يعيشون معهم كمواطنين في أوطانهم فيكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وكذلك للذين يتعاملون معهم ويحضرون إليهم من خارج الوطن لتجارةٍ أو علمٍ أو غيره.. ومن المعاني أيضا أنهم لا يَنْجُون من هذه الذلّة إلا أن يعتصموا بحبلٍ مِن الله أيْ بكتابه القرآن العظيم وبدينه الإسلام أيْ إلا أن يُسْلِموا وبالتالي يَعِزّوُن ولا تُصيبهم أيّ ذِلّة، وسُمِّيَ القرآن والإسلام حَبْلاً لأنه يَصِل ويَربط بين طرفين هما المَخْلوق وخالِقه.. أو إلا أن يعطيهم عموم الناس غير المسلمين مِثْل هذا العهد وهذه الحماية لمنافع مَا فيما بينهم.. وعندما يفتقدون حَبْل الله وحَبْل الناس لسببٍ من الأسباب يعودون للأصل وهو الذلّة أين ما ثُقِفُوا.. ".. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ.." أيْ وانْصَرَفوا ورَجَعُوا مُحَمَّلِين بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً لهم فلا يُحِبّهم ولا يُوفّقهم ولا يُيَسِّر لهم أمورهم فكانوا في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك )، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ.." أيْ وكذلك وُضِعَت عليهم وأحاطَت بهم ولازَمَتهم صِفَةُ المَسْكَنَة أيْ السكون لمَن يُذِلّها والخضوع والاستسلام له والقبول بإذلاله وإهانته لضعف نفوسهم فليس لهم هِمَم عالية.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)" أيْ ذلك الذي يُصيبهم لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله أيْ لا يُصَدِّقون بها ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ولأنهم لم يكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالي لِيُنَبِّؤُوهم أيْ يُخْبِروهم بالإسلام الذي يُسعدهم في الداريْن بغير حقّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقٍّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فَعَلُوا ما فَعَلُوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. ".. ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)" أيْ ذلك الذي تَجَرَّأُوا علي فِعْله من الكفر بآيات الله وقَتْل الأنبياء بغير حقّ كان بسبب أنهم كانوا قَبْل هذا الفِعْل الشّنِيع قد عَصَوْا ربهم بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وكانوا يعتدون علي حدوده وضوابطه بفِعْلهم الكبائر ويعتدون علي الأنبياء بعدم طاعتهم وبإيذائهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم فهُم لم يُطيعوا كل أخلاق الإسلام واعتادوا علي ذلك وأسْرَفوا وبَالَغُوا وزَادُوا فيه فازدادوا في مَعاصِيهم شيئا فشيئا تدريجيا حتي وَصَلُوا إلي مرحلة الكفر والقتل.. كذلك من معاني لفظ "ذلك" هو مزيد من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره والتذكير به واستكماله بإضافة سببيْن آخرين – إضافة إلي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء – للذي يُصيبهم من الذلّة والمَسْكَنَة والغَضَب من الله وهما أنهم عَصَوْا أيْ لم يُطيعوا أخلاق الإسلام وكانوا يعتدون علي حدود الله وعلي الأنبياء وغيرهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكل مسلمٍ من الاعتياد علي فِعْل المَعاصِي الصغيرة لأنها ستَتَدَرَّجَ به غالبا إلي فِعْل المعاصي الكبيرة كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا فيَصِلَ إلي ما وَصَلُوا إليه من الكفر والقتل وكل سوء، وكل تعاسة في دنياهم وأخراهم
۞ لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)" أيْ ليس أهل الكتاب مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، فليس كلهم أشراراً بل منهم أخيار علي خيرٍ عظيم، فمنهم مجموعة قائمة أيْ مستقيمة قد أسْلَمَت بالفِعْل وهي قائمة أيْ مُلاَزِمَة ثابِتَة مُدَاوِمَة علي دين الله وهو الإسلام الذي كان يناسب عصرهم والذي أُنْزِلَ إليهم في التوراة التي فيها اليهودية وفي الإنجيل الذي فيه النصرانية اللتين آمنوا بهما بلا تحريفٍ ولَمَّا عاصَرُوا نزول الإسلام الذي يناسب كل العصور بعد زمنهم حتي يوم القيامة في القرآن العظيم آمنوا أيضا به وبالرسول الكريم محمد (ص) الذي أنزل عليه أيْ صَدَّقوه وأَسْلَموا.. إنهم مسلمون يقرأون آيات الله في القرآن الكريم في أوقات الليل وغيره.. وهم يَسجدون أيْ وحالهم أنهم يَخضعون لخالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته ويستجيبون ويستسلمون لها ويقومون بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا يسجدون لله مُتَوَاضِعين خاشِعين ساكِنين علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، ويكتسبون من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا يستعلون عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. إنَّ الآية الكريمة تُقَرِّر وتُذَكّر المسلمين أنَّ كثيرا من غير المسلمين صالحين ولو تَعَرَّفوا علي الإسلام بصورةٍ صحيحةٍ وأحسنَ المسلمون عَرْضَه عليهم ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالقُدْوَة الصالحة المُسْعِدَة لاستجابوا، لأنهم ملتزمون يقومون بالأخلاق الحسنة التي أمرهم بها ربهم في دينهم الأصليّ قبل تحريفه من بعضهم، ثم هم لم يَصِلْهم بَعْدُ الإسلام أو وَصَلَهم بصورةٍ مُشَوَّهَةٍ مَنْقُوصَة
ومعني "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)" أيْ إنهم يُصَدِّقون بوجود الله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر حيث حسابه وعقابه وجنته وناره ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. وهم لا يَكتفون بإصلاح وإكمال وإسعاد أنفسهم فقط بل ويأمرون بالمعروف أي يطلبون من غيرهم بَعْدَ ذواتهم ويُوصُون دَوْمَاً بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف، أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة والذي هو بالجملة كلّ أخلاق الإسلام، وأيضا ينهون عن المنكر أي يمنعون أنفسهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. وهم يسارعون في الخيرات أيْ دائما في كل أحوالهم أصحاب هِمَمٍ عاليةٍ يَنطلقون مُسرعين مُسابِقين في فِعْل أيّ خيرٍ مُسْعِدٍ حسبما يستطيعون في كل شأنٍ من شئون حياتهم بلا أيّ تَرَدُّدٍ مُنْتَهِزين فرصته حريصين مُجتهدين ألاّ يَفوتهم ينتقلون من خيرٍ لغيره فهم في خيرٍ مستمِرٍّ دائمٍ وذلك لشدّة رغبتهم في تحصيل فوائده من سعادات دنياهم وأخراهم.. ".. وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)" أيْ هذا تشجيعٌ علي مزيدٍ مِن الخير، أيْ وهؤلاء المَوْصُوفون سابقا بهذه الصفات الطيبة الكريمة حتما سيكونون مِن جُمْلَة وعِدَاد الصالحين الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة مع الصالحين أيْ مع النبيين والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)" أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما يفعلوا في دنياهم من أيِّ خيرٍ قَلّ أو كَثُر في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ، والخير هو كلّ نافعٍ مُسْعِدٍ للنفس وللغير، فلن يُحْرَمُوا أجره أبدا ولن يُنْكَرُوه بل يُعْتَرَف لهم به فلا يُمكن قطعا لله تعالي العدل الذي لا يَظلم مثقال ذرة والذي يُحب لخَلْقه أن يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ أن يضيع أو يخْفِي عمل أيّ فاعلِ خيرٍ بل يكتبه ويُسَجِّله ويَحفظه له، وسيُعطيهم عليه أعظم العطاء حيث سيَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ بالقطع أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلوه وقَدَّموه في الدنيا ولا يُقارَن به، سيجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لهم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي سيَجدونها وسيُكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم إلا مَن كان مثلهم وذلك بسبب فِعْلهم للخير نتيجة لإيمانهم به وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)" أيْ والله عليمٌ بكل شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه فهو عليم بالمتقين ولن يضيع بالقطع أجورهم وسيُجازيهم بما يَسْتَحِقّون وسيُجازي المُسِيئين أيضا بما يستحقّون من عذابٍ في الداريْن يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والمتقون هم المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (13)، من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، يوم يريد الله تعالي أن ينزل بهم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعهم حتما وتمنع عنهم أموالهم بكل أنواعها ولا أولادهم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ مُعين لهم من عذاب الله أيّ شيء، فكل هذه الإمكانات وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) " أيْ وهؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ليَنجو ويَسعد ولا يَتعس في دنياه وأخراه
ومعني "مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ حالُ وشَبَهُ ما يُنفق هؤلاء الذين كفروا في هذه الحياة الدنيا حيث يُبْطِلون نفقاتهم أي يُضيعون أجور وسعادات ما يُنفقون في دنياهم ثم أخراهم بسبب أنهم يكفرون أي لا يُصَدِّقون بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار فيُنفقون أموالهم وغيرها مِن أيِّ نفقاتٍ فقط رياءً للناس أي لكي يَروا منهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بها رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون به وبها أصلا، أو ينفقونها في محاربة ومُعَاداة الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وفي الشرور والمَفاسد والأضرار، وبالتالي فليس لهم أجر في الداريْن بل لهم عقاب، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقاتهم التي لا يَنالون عليها خيراً وعطاءً من الله في حياتهم ثم آخرتهم بل لهم عذاب كحَالِ وشَبَهِ ريح فيها صرٌّ أيْ بَرْدٌ شديدٌ هَبَّتْ على زرعِ قومٍ كانوا يرجون خيره ونفعه فلم تُبْقِ منه شيئا ولم ينتفعوا ويسعدوا به ولم يَحصدوا إلا التّعَب والحَسْرَة والتعاسة، عقوبة لهم، وذلك لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فعَاقبهم الله بعقابٍ يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. وفي هذا التشبيه أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن الرياء أو المَنِّ والأذيَ أو غيره من السوء – والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل – حتي لا يَتَشَبَّه بمثل هؤلاء الكافرين الذين هذه من أبرز صفاتهم والذين لا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات للمؤمن فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. إنَّ أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب مَنّهِم وإيذاهم وريائهم وكفرهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. وكل ما ينفقونه لمَنْع انتشار الإسلام سيَذهب هَبَاءً بلا تأثيرٍ بتمسُّك المسلمين بإسلامهم مع عوْنِ الله وقوّته التي ستُهلكهم كما أهلكت زروعهم وأموالهم.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلَ غير المسلمين خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. ".. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)" أيْ وما ظلمهم الله بذلك حَتْمَاً، أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتّخِذ من غير المسلمين ومن غير الثقات الأمناء الأقوياء مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ تُقَرِّبهم إليك وتُسِرّ إليهم بأسرارك وأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، لأنهم قد يفْشُون الأسرار ويكيدون المكائد لك وللإسلام وللمسلمين بناءً علي ذلك كما يُثبت الواقع هذا كثيرا، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا لكم بطانة أيْ مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ تُقَرِّبُونهم إليكم وتُسِرُّون إليهم بأسراركم وأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، والبطانة في الأصل هي ما يُبَطّن به الثوب من الداخل وسُمِّيَ هؤلاء بطانة لأنهم يَطّلِعون علي بَوَاطِن وخَفَايا الأمور، وهم من دونكم أيْ من غيركم أيْ غير مسلمين غير ثقاتٍ ولا أُمَنَاء، وذلك لأنَّهم وأمثالهم ".. لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.." أيْ هذه هي أهم أسباب المَنْع والتحذير الشديد منهم أنهم لا يَأْلُون أيَّ جهدٍ أيْ لا يُقَصِّرون فيه ويَبذلون أقصاه في إيقاع الخَبَل بكم وهو الاضطراب والفَوْضَيَ والفساد، وأنهم يَتمنّون لكم العَنَتَ وهو الضرَرَ والشدَّة والتعاسة، وأنهم قد ظهرت الكراهية الشديدة في بعض فَلتات أقوالهم من أفواههم وفي بعض أفعالهم السيئة وما تُخْفِيه مشاعرهم داخل عقولهم من كفرٍ وكُرْهٍ وعداءٍ نحوكم أكثر بكثيرٍ مِمَّا يُظهرونه.. إنهم قد يفْشون الأسرار ويكيدون المَكَائد لكم وللإسلام وللمسلمين بناءً علي ذلك كما يُثبت الواقع هذا كثيرا، فكونوا حَذِرين أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونكم ويَكرهون أيّ خيرٍ لكم، فعَامِلوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع الحذر، وإلا أبعدوكم عنها تدريجيا إن استجبتم لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولكم، فتَتعسون بالتالي في دنياكم وأخراكم.. ".. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)" أيْ قد وَضَّحْنا لكم الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس، لتَتّعِظوا، فإنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم فيتعمَّقون ويتدبَّرون فيما يسمعون فينتفعون ويسعدون به في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ علي تَعَقّلكم واتّعاظكم.. وفي هذا التعبير والتذكير بالعقل مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتّنْفِير للمسلمين مِن أن يَتّخذوا بِطانَة من غير المسلمين وبيانٌ لعدمِ صِحَّة ومَنْطِقِيَّة بل وغَرَابَة ذلك والتَّعَجُّب من حدوثه حيث هناك صعوبة في التّلاقِي فيما بينهم وهم علي هذه الصفات السيئة لأنَّ الفرق شاسع بين صفاتهم الخَيْرِيَّة وصفات غيرهم الشَّرِّيَّة، فها أنتم يا هؤلاء يا أيها المسلمون، وخاصة الذين قد يَتّخِذون منكم بِطانَة منهم – ولفظ "ها" في اللغة العربية للتنبيه لِمَا سيُقال – تُحِبُّونهم أيْ تحبون وتريدون لهم الرحمة والهداية للإسلام ليسعدوا في الداريْن وقد تُحِبّون مَن له علاقة معكم كزمالةٍ أو صَدَاقةٍ أو جِيرَةٍ أو غيرها مِن مُنْطَلَق الإنسانية وحُسْن المعاملة التي يطلبها منكم إسلامكم ولعلهم بها يُسْلِمون بينما هم لا يُحبّونكم حيث لا يُحبّون لكم الخير بل يُحبّون ويريدون لكم الكفر والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ.." أيْ وكذلك أنتم تُصَدِّقون بكل الكتب التى أنزلها الله على رسله الكرام ومنها كتابهم لأنها كلها من عنده وهم لا يؤمنون بكتابكم وهو القرآن العظيم ولا برسولكم الكريم محمد (ص) الذي أنزله عليه.. ".. وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.. " أيْ وأيضا هم مُنافقون يُظهرون الإيمان ويخفون الكفر مُحاولين خِداعكم فهُم إذا قابلوكم في مكانٍ مَا قالوا آمَنَّا أيْ صَدَّقنا مثلكم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق الإسلام، وذلك لكي ينتفعوا بما عندكم وبوجودهم بينكم ويعلمون أسراركم ويفشونها وينشرون الشرّ والفساد والضَّرَرَ فيكم وما شابه هذا مِمَّا يحاولون به أن يَضرّوكم ويُضْعِفوكم، وإذا خَلَوْا أيْ ذَهَبوا وانْفَرَدوا ببعضهم البعض عَضُّوا أيْ أمْسَكوا وضَغَطوا وجَرَحُوا بأسنانهم الأنامِل أيْ أطراف الأصابع لأيديهم من الغيظ عليكم أيْ شدّة الغضب والغِلّ والألم منكم بسبب ما أنتم فيه مِن أمنٍ وتَآلُفٍ وتعاونٍ ونصرٍ وعِزّ وخيرٍ وسعادةٍ بإسلامكم وما هم فيه من عكس ذلك، وهذا مظهر لأعلى درجات الغيظ يفعله البعض عندما ينزل به ما لا يقدر على تغييره.. فكيف إذَن بعد كل هذا تَثِقون بهم وتتّخِذونهم بطانة لكم؟!!.. ".. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.." أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم دُوُمُوا علي غَيْظكم حتي موتكم، والمقصود أنه ما دُمْتُم مستمرِّين علي شَرِّكم وكَيْدكم للإسلام والمسلمين وغَيْظكم منهم بلا توبة وعودة لله وله لتسعدوا فستستمرّون حتما علي غيظكم حتي الموت وستُعَذّبون في الداريْن لأنَّ سبب هذا الغَيْظ عندكم مستمرٌّ ومُتَزَايِدٌ وهو انتشار الإسلام وتَزَايُد الحبّ والعَوْن بين المسلمين والعِزّ والنصر والخير والسعادة لهم إضافة إلي أنكم ترون أنَّ كراهيتكم ومكائدكم له ولهم لا فائدة منها حيث لم تنقص من قوّتهم وعُلُوّ كلمتهم وما ازددتم أنتم إلا غَيْظاً وألَمَاً وخسارة وتعاسة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العلنية والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)" أيْ ثم إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من صفاتٍ سيئةٍ لأمثال هؤلاء وشدّة عداوتهم وكراهيتهم لكم وعدم صلاحيتهم مطلقاً لأنْ تتّخِذونهم بطانة أنهم إنْ جاءتكم أيُّ نعمةٍ وسعادةٍ مَا قَلّت أو كَثُرَت تحزنهم وإنْ تَحْدُث لكم مصيبة مَا يسعدوا بها.. ".. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ هذا هو العلاج الذي يُنجيكم من الشرور عموماً ومن شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم، إنه الصبر والتقوي، أيْ إنْ تصبروا علي أيِّ أذَيً يُصيبكم، منهم أو مِن غيرهم، ستَخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ وخبراتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وتَتّقوا أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والتي منها ألاّ تَتّخذوا منهم بطانة وأن تحذروا وتَتَجَنّبوا ما يُؤذونكم به أصلا وأن تتخذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة ليحذروكم، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنه لا يَضرّكم كَيْدهم – وهو ما يُدَبّرونه لكم مِن شرٍّ – شيئاً يُذْكَر أيْ لن تُبَالوا وتتأثّروا به لأنَّ المُتَدَرِّب بالاتّقاء والصبر يكون غالباً ثابتاً مُتّزِنَاً قليل الانفعال جريئاً على الخصم مُستعداً لمقاومة الصعاب والتّغَلّب عليها ويكون له النصر في كل شئون حياته بإذن الله، ثم لو فُرِضَ وأصابكم شيءٌ مِن كَيْدهم فسيكون ضَرَره ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (111) من هذه السورة " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..").. لكنْ إنْ لم تصبروا وتتّقوا ضَرّكم كَيْدهم قطعاً بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات وهزموكم وأتعسوكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)" أيْ إنْ تصبروا وتتّقوا لا يَضرّكم كَيْدهم لأنَّ الله يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً مَنْع كيدهم عنكم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده، في كل مواقف الحياة بدءاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو القتال في سبيل الله دفاعا عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء، ثم أحسنتَ اتّخاذ الأسباب، وأهمها قوة التّواصُل مع مالِك المُلْك القويّ العزيز، ثم قوة الاتّحاد والأُخُوَّة والتّرابُط بلا أيِّ نزاعٍ أو خِلافٍ أو تَعَصُّب لطائفةٍ أو جِنْسٍ أو غيره مِمَّا يُفْشِل ويَضُرّ ويُتْعِس، ثم قوة الإعداد بكل صوره العلمية والعملية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والمجتمعية وغيرها، كما كان يفعل رسولنا الكريم (ص) وصحابته الكرام.. حينئذٍ لا بُدَّ حتماً سيَتَنَزّل نصر الله تعالي وستعمل جنوده التي لا يعلمها إلا هو مع المسلمين أصحاب الحقّ وسيَستبشرون وسيَسعدون بفضل ربهم العزيز الحكيم السميع العليم، وستَتَقَطّع أطراف ورَوَابِط المعتدين ويفقدون قواهم ويعودون مُنْهَزِمين مَكْبُوتين بغَيْظهم وحَسْرتهم تنتظرهم كل خَيْبَةٍ في دنياهم ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في أخراهم.. فأَبْشِر.. واشكر ربك علي هذا الفضل العظيم، بعقلك بتَدَبّره، وبلسانك بحمده، وبعملك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ، فسيزيدك نصراً كما وَعَدَ ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. واسْعَد بما ينتظرك من الخير الكثير في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين غَدَوْتَ يا رسولنا الكريم أيْ خرجتَ مبكراً أول النهار من عند بيت أهلك يوم غزوة أُحُد لكي تُبَوِّيُء أيْ تُنزل المسلمين في مراكز ومنازل ومواقع للقتال تكون الأصلح ليُقاتلوا منها أعداءهم المعتدين عليهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة.. أيْ هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الداريْن حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين عَزَمَت وقَصَدَت لكن لم تَفْعَل وتُنَفّذ مجموعتان منكم أيها المسلمون أن تَضْعُفَا وتَجْبُنَا وتَرْجِعَا عن قتال العدو يوم غزوة أُحُد.. ".. وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا.." أيْ والله خالق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك الذي له كل صفات الكمال الحُسني هو وليُّهما أيْ وَلِيّ أمرهما يُديره لهما علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم، فبالتالي حفظهم من الوقوع في هذا الفشل والخطأ الشنيع فثَبَتُوا وانطلقوا في القتال.. هذا، ونعمة الثبات علي الخير المُسْعِد في الداريْن وعدم الانزلاق إلي الشرّ المُتْعِس فيهما هي نعمة عظيمة يُذَكّرهم سبحانه بها ليُدَاوِمُوا علي المحافظة عليها وشكره والتوكّل عليه ليَعصمهم ويمنعهم دائما من كل شرّ.. كما يُذكّرهم بأنه من أسباب الفشل اتّخاذ غير المسلمين بطانة حيث كان في صفوفهم يومها بعض المنافقين الذين رجعوا عن القتال لزعزعتهم وإضعافهم، ومنها أيضا عدم الصبر والتقوي كما أوصاهم بهما في الآية (120) .. وهكذا دائما حال المسلم لا يَتّخذ بطانة من غير المسلمين ويصبر ويَتّقِي حتي يتحقّق له النصر في كل شئون حياته المختلفة، وإنْ وَرَدَ في خاطره تفكيرٌ شَرِّيٍّ مَا فحينها وفوراً يلْجَأ إلي الله ويتَحَصَّن به ويعتَمِد عليه ويدْعُوه أن يساعده علي مقاومة خواطر الشرّ بعقله حينما يفكر فيها ولا يُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة وهو وحده سبحانه سميع عليم يسمع تماما كلّ طلباته وأقواله وطلبات كل خَلْقه ويعلم بتمام العلم احتياجاتهم جميعا، وهو وحده القادر حتما علي إبعاد هذه الخواطر عنهم وحفظهم ورعايتهم وتلبية كلّ ما يحتاجونه، فليطمَئِنّوا إذن وليسْتَبْشِروا وليحْسِنوا وليسْعَدوا.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)" أيْ وعليه وحده فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن
ومعني "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حالهم في غزوة أُحُدٍ وما حَدَثَ لهم من سوءٍ لأنه كان منهم مَن تَخَاذَل وضَعُف يَذْكُرهم بحالهم في غزوة بَدْرٍ حيث لم يكونوا كذلك فانتصروا ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام واتّخاذ كل أسباب النصر والبُعْد عن كل أسباب الهزيمة ما استطاع ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ولقد نصركم الله أيْ جعلكم تفوزون في معركة بدرٍ أيها المسلمون علي عدوكم وهَزَمَهم وأعَزّكم وأذَلّهم رغم أنكم كنتم حينها أذِلّة أي قِلّة ضعفاء فقراء في العَدَد والعُدَّة، وليس المقصود حتماً بكوْنهم أذِلّة أنهم كانوا ضعاف النفوس أو كانوا راضين بالهَوَان بل كانوا كامِلِي العِزّة والقوة النفسية بربهم وبإسلامهم ولكنْ بالمُقَارَنَة بعدوهم وأعداده وتجهيزاته فإنَّ هذا يُوهِم الناظر إليهم من غيرهم أنّهم كأنّهم أذِلّة وأنّهم مهزومون.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وما دام الأمر كما ذُكِرَ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)" أيْ لعلكم بهذه التقوي تكونون قد قُمْتُم بواجب شكر ما أنْعَمنا به عليكم مِن نِعَمٍ يَصعب حَصْرها، فتقواكم هي شكركم لنا.. ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7) .. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده مُتَّقِين له متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين كان يقول رسولنا الكريم للمؤمنين يوم الغزوة لمزيدٍ من تثبيتهم وتقويتهم للقاء عدوهم وتبشيرهم بعوْن ربهم ونصره القريب، هل لا يكفيكم لكي تَطمئنّ نفوسكم وتَقْوَيَ أن يُزَوِّدكم ويُعِينكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة مُرْسَلِين من عنده للقتال معكم والدفاع عنكم وإضعاف عدوكم ونصركم؟
ومعني "بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)" أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما قد يَتَوَهَّم البعض منكم أنَّ هذا المَدَد بهذا العَدَد بهذا الجند من جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه لن يَكْفِي، بل سيَكْفِي حتما لتحقيق نصركم وهزيمة عدوكم، فأبْشِروا وابْذُلوا ما استطعتم في قتالهم.. بل لكم بُشْرَيَ أخري وهي إنْ تصبروا علي القتال أيْ تَثْبُتوا، وتَتّقوا أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتي منها أن تَتّخذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة وتَتّقوا أيْ تَتَجَنّبوا أيَّ سببٍ للهزيمة، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، إنْ فَعَلْتُم هذا، فعلتم هذين الشرطين، الصبر والتقوي، فإنَّ ربكم يَعِدُكُم – كمزيدٍ من التشجيع لكم عليهما – ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً أنه إنْ يأتوكم أيْ يحضر إليكم أعداؤكم من فَوْرهم هذا أيْ من وقتهم هذا أيْ من ساعتهم هذه أيْ في الحال فَوْرَاً مُسْرِعِين فلا تَنْزَعِجوا وتَتَوَهَّموا أنَّ المَدَدَ لن يُمكنه اللّحاق بكم من سرعة مفاجأتهم لكم فإنه سيزيدكم فَوْرِيَّاً مَدَدَاً آخر حيث يُمْدِدكم بألفين زيادة فيَصِل العدد إلي خمسة آلاف من الملائكة مُسَوِّمين أي مُعَلِّمِين ذواتهم بعلاماتٍ أيْ ستَجِدُون وستَظهر لكم علامات نزولهم وإرسالهم إليكم بتثبيتكم وتوفيقكم للنصر وتيسيره لكم، وذلك لمزيدٍ من طَمْأَنتكم وتبشيركم بحَتْمِيَّة تحقّق النصر إذ كلما ازْدَدْتُم صبراً وتقوي كلما ازداد حتما عوْن الله لكم بكل صور العوْن
ومعني "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)" أيْ هذا بيانٌ لِحُبِّه تعالي للمسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم ورضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم بما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد.. أيْ وما جَعَل الله هذا الوعد بالنصر وهذا الإمداد بالملائكة – وغيره من كل أنواع الجنود والقوَيَ التي لا يعلمها إلا هو سبحانه – إلا ليكون بُشْرَىَ لكم أيها المسلمون يُبَشّركم بها أيْ خَبَرَاً سَارَّاً مُفْرِحَاً يُخبركم به بأنكم ستنتصرون حتما علي أعدائكم ما دُمْتُم أهْلَاً للنصر حيث أحسنتم اتّخاذ أسبابه ما استطعتم ولكي تَسْكُن به عقولكم ومشاعركم بداخلها فيذهب الخوف والقلق عنها وتطيب وتَسعد وتطمئنّ بتحقّق وعد الله بنصركم فيكون ذلك تشجيعا لكم للإقدام بقوةٍ علي الصعاب مُستعينين بربكم لاجئين إليه طالِبين منه عوْنه ونصره.. ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ ليس الفوز في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة إلا من عند الله تعالي وحده، لا مِن عند أيِّ أحدٍ أو مَخلوقٍ غيره، ولا مِن عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ ولا بأيِّ سببٍ غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فهو بإذنه فقط، فبسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة يحدث الانتصار بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فلا تَنْخَدِعوا بأسبابكم التي تَتّخِذونها، فصحيحٌ أنَّ الإسلام قد أمر بإحسان اتّخاذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ لكنَّ الاعتماد عليها وحدها مهما كَثُرَت وعَظُمَت دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز وهو الله تعالي خالقها، والذي هو أيضا يجعل أسباب العَدُوّ الكارِه قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيّة والتأثير، لا قيمة له حتما، ومَن يَنْخَدِع بأسبابه ووسائله التي يَتّخذها ويَنْسَيَ قُدْرَة خالقه وخالقها ومُحَرِّكها لن يفوز بالتأكيد.. إنه مَن يَعتمد علي الله وحده فهو كافِيه قطعا فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانعٍ يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، ولذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)" أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)" أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم النصر وثماره الطيبة ونتائجه السعيدة وفوائده وأهدافه.. أيْ يَطلب منكم الإسلام العمل بكل أخلاقه لتسعدوا تماما في الداريْن ويَطلب منكم نَشْره بكلّ قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليسعد الجميع به مثلكم ويَطلب منكم الدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي ولو بالقتال إذا قاتلكم ويَنصركم الله عليهم بنصره وعوْنه إنْ كنتم أهْلَاً للنصر وكل ذلك ليَقطع طَرَفَاً من الذين كفروا أيْ لكي يَقتطع من أطرافهم أيْ يَنقص منهم، من أعدادهم بالقتل، ومن مُعِدَّاتهم وأملاكهم وسلطانهم ونفوذهم وأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، أو يَكْبِتهم إن لم يُقْتَلوا أيْ يَذلّهم ويهينهم ويغيظهم غيظاً شديداً بسبب ما يُنْزِل بهم من هزيمةٍ وعذاب، فتكون النتيجة أن ينقلبوا خائبين أيْ يعودوا خاسرين مُنْهَزِمِين لم يُحِقّقوا ما يَهدفون إليه من حربهم ضدّ الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ومحاولاتهم اليائسة في هذا بل يزداد قوة وانتشاراً ويزداد الناس سعادة بالعمل به ويزدادوا هم وكفرهم وشَرّهم وفسادهم وضَرَرهم انحساراً وتَرَاجُعَاً وانقراضاً وانهزاماً وتعاسة وحسرة وغيظاً وألما وخسراناً وقَطْعَاً ونقصاً وهلاكاً أو كَبْتَاً وكل ذلك في دنياهم قبل الكَبْت والهلاك والشقاء الأعظم والأتمّ والأخلد في أخراهم
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. هذا، وقد يَتَوَقّع الداعي استحالة استجابة بعض المَدْعُوين فإذا بهم يستجيبون! حتي ولو بعد حين! كما حَدَثَ مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما اللّذَيْن لم يُسْلِمَا إلا بعد حوالي عشرين عاما من بدء دعوة الإسلام لَمَّا استفاقا وعادا لفطرة عقلهما، بل وقد أساءا خلالها أشدّ الإساءة للإسلام والمسلمين، فليس لك من الأمر شيء أيها الداعي لله وللإسلام إلا أن تُحْسِن دعوتك وتحسن الاستعانة بربك، ولك أجرك علي كلّ حالٍ سواء استجابوا لك أم لا
هذا، ومعني "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)" أيْ ليس لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده مِن أمر الناس شيءٌ بل الأمر كله لله وحده خالِقهم العالِم تماما بهم أي ليس عليك إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك وهو أمر ليس لك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده (ص) هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآيات من سورة البقرة (75) حتي (78) والآيات (159) حتي (162) عن كيفية نشر الدعوة، والآية (251) عن دَفْع الخير للشرّ، والآية (218) عن صور الجهاد وسعاداته، ثم الآية (109) عن مقابلة الإساءة بالحسنة، والآية (136)، (137) عن الإيمان بجميع الرسل والذي يؤدي لإحسان معاملة كل إنسان من أجل إنسانيته، والآية (139) عن تَرْك الجدال، ثم الآية (207) عن بيع الذات لله وللإسلام، ثم النظر للآية (63) من سورة النساء عن كيفية دعوة المنافقين والمُعاندين، ثم أخيرا الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الأمر كله لله فهو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)" أيْ ليس لك من الأمر شيءٌ بل الأمر كله لله وحده فهو إمَّا يقطع طَرَفَاً من الذين كفروا أو يَكْبِتهم كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) أو يتوبَ عليهم إنْ تابوا ورجعوا لربهم وأسلموا فيسعدوا في الداريْن أو يُعَذّبهم فيهما بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم إنْ أصَرُّوا علي كفرهم، فاصبر علي ما أنت عليه من إسلامك ودعوة غيرك له حتي تري ما يسعدك إمّا بتوبتهم وإسلامهم وإمّا بعذابهم وهلاكهم والتّخَلّص منهم لأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم حينها بإصرارهم علي ما هم فيه ظالمون مُسْتَحِقّون للعذاب قطعا لم يظلمهم حتما ربهم بل هم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا ، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)" أيْ وهو تعالي وحده له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فليس لأحدٍ من الأمر شيء، وهذا تأكيدٌ لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة، ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ومَن يفعل ذلك يَسعد في الدنيا والآخرة.. ".. يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ الذي يتوب من ذنوبه يُسقطها عنه ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية (53) من سورة الزمر "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ.." أيْ وأمَّا مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، ومع أنَّ الآية الكريمة تتحدَّث عن المغفرة والعذاب إلاّ أنها تُخْتَم بالمغفرة والرحمة للدلالة علي أنهما حتما الأغْلَب والأقْرَب من العقاب لأنه تعالي الغفور الرحيم الودود الكريم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من المُرَابِين أي الذين يتعاملون بالربا وما شابهها من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)" (برجاء مراجعة الآيات (275) حتي (280) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الأضرار الاقتصادية والمجتمعية للربا وتعاساتها الدنيوية والأخروية).. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقِين – أي المُتَجَنّبِين – لعذاب نار جهنم يوم القيامة، بأن تكون من المؤمنين بربك، لأنها أُعِدَّت للكافرين
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)" أيْ وخافوا وتَجَنّبوا دخول عذاب النار يوم القيامة يا أيها الذين آمنوا واجعلوا بينكم وبين عذابها وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم لتسعدوا في الداريْن، فهكذا يجب أن يفعل كل عاقلٍ يُحسن استخدام عقله ولا يَخدع نفسه ويريد ضمان سلامته وسعادته في دنياه وأخراه، حيث هي نار لا تُوصَف ولا تُقارَن مُطلقا بأيٍّ من نيران الدنيا.. وأيضا تَجَنّبوا نار عذاب الدنيا إذا ابتعدتم عن ربكم وإسلامكم حيث ستَجدون كل شَرٍّ وتعاسةٍ بقَدْر بُعْدكم عنه.. ".. الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)" أيْ التي جُهِّزَت بعذاباتها المُتنوِّعَة المُتَزَايِدَة للكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم في سوء أقوالهم وأفعالهم، والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)" أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها الذين آمنوا – وأيها الناس – ما وَصَّاكم به الله ورسوله (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)" أيْ وسارِعوا مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدي بكم ويُؤَهِّلكم ويكون سببا إلي نَيْل مغفرته ورحمته فتعيشون في رحابها سعداء في دنياكم وإلي تحصيل في أخراكم جناتٍ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي هي واسعات شاسعات تَسَعكم جميعا بنعيمها حيث عرضها كعرض السماوات والأرض فما بالكم بطولها ومساحتها إذ معلوم أنَّ الطول أكبر من العَرْض!! وسارِعوا بالتوبة عند فِعْل أيِّ شَرٍّ سواء أكان صغيرا أم كبيرا دون إصرارٍ واستمرارٍ عليه مع علمكم أنه شَرّ، بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لكم في دنياكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ ولِتَنَالوا في أخراكم أعلي درجات هذه الجنات المُبْهِرَات التي لا تُوصَف والتي هي مُعَدَّة ومُجَهَّزَة للمُتّقِين أيْ للذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "سارِعوا" يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي الاستجابة حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يحرصون فيه متعاونين مُتَحَابِّين علي أن يسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بالجوائز العظيمة الموعود بها
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون من كل أنواع الإنفاق في أيِّ وجهٍ من وجوه الخير بما يستطيعون.. وإذا كنتَ قويّ الإرادة بعقلك فتَتَدَرَّب تدريجيا علي عدم الغضب، وإذا غضبتَ فتَدَرَّب علي كَظْمه وكِتْمانه وعدم إخراجه في صورةِ خطأٍ مَا قوليّ أو فِعْلِيّ أو غيره من صور الانتقام، بل وتَدَرَّب علي أن تعفو عَمَّن أساء إليك وتسامحه فإنَّ الذي يعفو ويسامح هو الأقوَيَ والأعَزّ والأعلي والأحسن والأصْفَيَ بَالَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي.. وإذا كنتَ من المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، فبذلك يَثِقون بك وتَزداد معاملاتك وأرباحك وسعاداتك في الداريْن
هذا، ومعني "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)" أيْ الذين من صفاتهم أنهم ينفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.." أيْ يُنفقون بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي في كل الأحوال والأوقات حسبما أمكن سواء في حال السرور أيْ اليُسْر والرخاء والغِنَي والقوة والصحة ونحوها أو في حال الضَّرَر أيْ الحُزْن والعُسْر والشدَّة والفقر والضعف والمرض وغيره، فهم لا يتوقّفون أبداً ولا يمنعهم مانِعٌ ما استطاعوا عن الإنفاق في كلّ خيرٍ والفِعْل له بما أمكنهم كَثُر أم قَلّ ما داموا قادرين عليه، فهم لا ينشغلون بأحوالهم عن غيرهم، لرغبتهم الأكيدة في تحصيل عطاء ربهم وخيره وإسعاده لهم والذي لا يُوصَف في دنياهم وأخراهم والذي يزداد كلما ازدادت شِدَّة حالهم لكي يُعَوِّضهم عَمَّا وجدوه من مَشَقّاتٍ أثناء إنفاقهم.. ".. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.." أيْ والكاتِمِين الحابِسِين المُمْسِكِين الغضب الشديد، أيْ ومِن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم أقوياء الإرادة يَتَحَكّمون بعقولهم في مشاعرهم بحيث إذا أغضبهم أحدٌ بقولٍ أو فِعْلٍ مَا مُسِيءٍ كَتَموا ذلك الغضب فلم يُخرجوه في صورةِ سوءٍ مثله رغم قُدْرتهم علي ذلك وقابَلوا هذا المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان الأمر الذي يُؤدّي إلي كثير من المصالح والسعادات ومَنْع كثير من المفاسد والتعاسات لهم ولمَن حولهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (34) من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)" أيْ والله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)" أيْ ومن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم متمسّكون عامِلون بكل أخلاق إسلامهم ولو فُرِضَ وفَعَلوا فاحشة مَا أيْ كبيرة من الكبائر أيْ شرَّاً فاحِشاً أيْ مُضِرّا ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر والتي يَكْبُر ويَعْظُم ويَشْتَدّ قُبْحها وعقابها في الدنيا والآخرة لضَرَرها الشديد البالغ علي النفس والغير كالقتل وشرب الخمر والزنا ونحو هذا، أو ظلموا أنفسهم بفِعْلِ ذنبٍ صغيرٍ هو أقل من الفاحشة.. هذا، وسواء أكان الذنب كبيراً أم صغيراً فهو حتماً ظلمٌ للنفس بدرجةٍ من الدرجات، وإذا كان الذنب الصغير ظلماً لها فالفاحشة حتماً أشدّ ظلماً لها لأنها أشدّ ضَرَرَاً وتعاسة عليها في الداريْن، فعلي المُتّقين تَرْك كلّ أنواع الذنوب صَغُرَت أم كَبُرَت لِمَا فيها من التعاسات لفاعلها ومَن حوله علي قَدْرها في دنياه وأخراه بينما تاركها له تمام السعادة فيهما.. ".. ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.." أيْ تَذَكّروا هيبة اللَّه خالقهم وعظمته ومراقبته لهم وأوامره ونَوَاهِيه وحسابه وعقابه وجنته وناره ورحمته وغضبه وفقدانهم لرضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم مع عقابه وعذابه وإتعاسه لهم فيهما بما يُناسب فِعْلهم السَّيِّء، أيْ ذَكَروا كل ذلك وغيره فاستغفروا لذنوبهم أىْ بمجرّد أن تَذَكّروه نَدموا وخَجلوا وسارَعوا بلا أيِّ انتظارٍ بعد معصيتهم لطَلَب المغفرة منه سبحانه لسيئاتهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التى ارتكبوها، وتابوا إليه توبة صادقة بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، لكي يَغفرها لهم أيْ يُسقطها عنهم ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويُسامحهم بل ويَدفع عنهم آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسترهم ويُعينهم ويُسعدهم.. ".. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.." أيْ هذا استفهامٌ للنّفْي القاطِع، أيْ ولا أحد أبداً يغفر ذنوب المُذْنِبين ويقبل توبتهم إلا الله الخالق الكريم الغفور الرحيم، فالمقصود بيان عظيم مغفرته ورحمته فهو كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة، كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53)، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)" أيْ ولم يَستمِرّوا ويُداوِمُوا ويُواظِبوا علي ما فَعَلوا من شَرٍّ ويُكَرِّروه ويَفعلوا غيره بلا توبةٍ وهم يعلمون أنَّ الإصرار علي الشرّ يَضُرّ بهم ويُتعسهم ويعلمون قُبْحه وسوءه وأضراره وتعاساته في دنياهم ثم أخراهم ويعلمون بكل تأكيدٍ واسع رحمة الله وتوبته علي مَن يتوب وعظيم غضبه علي مَن يُدَاوِم علي فِعْل السوء دون توبته منه.. والمقصود سرعة توبتهم أوَّلاً بأوَّل إذا فَعَلوا شَرَّاً مَا وعودتهم للخير مُسْرِعِين ليسعدوا في الداريْن وعدم استمرارهم علي الشَّرِّ فيتعسوا فيهما
ومعني "أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الحسنة السابقة أجرهم وثوابهم وعطاؤهم قطعا في مُقابِل ذلك من فضل ربهم وكرمه عليهم مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها، فيكونون بهذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ في جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، إنها جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، ويكونون خالدين فيها أبدا بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)" أيْ وما أعظم ثواب المُطِيعين لله العاملين بأخلاق الإسلام في حياتهم الدنيا، ما أطيب وأجمل وأفضل هذا الأجر، هذه الجنة، ليس هناك أجر أكبر من ذلك في مُقابِل العمل الصالح الذي يعمله العاملون ويجتهدون فيه في حياتهم الدنيا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)" أيْ قد مَضَت وذَهَبَت وثَبَتَت وتَقَرَّرَت من قَبْل زمانكم سابقا أيها المسلمون الحالِيُّون سُنَن الله أيْ طُرُقه وأساليبه وعاداته دائما في كلّ السابقين المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين مَضوا وذَهبوا وانتهوا وهَلكوا قبل ذلك، ولن تتبَدَّل أيْ تَتَغَيَّر مُطلقا إلي يوم القيامة، أنَّ أهل الحقّ لابُدَّ حتما وبلا أيّ شك سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة المُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)" أيْ فتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطعتم وانظروا وشاهِدوا بأبصاركم وتدبَّروا بعقولكم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلكم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفي المسلمون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ( 11 ) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)" أيْ هذا القرآن العظيم هو توضيحٌ للناس كاملٌ شاملٌ لكل أصول وقواعد تنظيم الحياة وإسعادها تمام السعادة، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وهو هُدَي أيْ هو هادِي أيْ مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وهو موعظة أي تَذْكِرَة لكلّ مَن يريد التّذَكّر والاتّعاظ ليستمرَّ علي الخير وليعودَ إليه مُسْرِعَاً إن ابتعد عنه.. وهذا البَيان والهُدَيَ والموعظة هو للمُتّقِين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه العِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المتقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادة قوية لا تنكسر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال والجراح، وحتي لو حَدَثَ وأصابك بعض الحزن فاعلم وتأكّد أنه من المشاعر الإنسانية العادية في العقل البشريّ والتي جعلها سبحانه لا لتكون مُقْعِدَة ومُحْبِطَة وإنما لتكون وقوداً لإعادة الانطلاق في الحياة بكل قوةٍ بعد تصحيح الأخطاء.. بهذا تكون كما أراد الله والإسلام لك ولكل مسلم يعمل بكل أخلاق إسلامه أن يكون هو الأعلي في هذه الدنيا، فيكون قائداً لا مَقُودَاً مَتْبُوعَاً لا تابعاً رئيساً لا مَرْؤُوساً يقود الناس لكل خيرٍ وسعادة في الداريْن
هذا، ومعني "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" أيْ ولا تضعفوا أبدا أيها المسلمون أيْ تضعف إرادة وعزيمة عقولكم في أيِّ شأنٍ من شئون حياتكم، ولا تحزنوا مطلقاً علي أيِّ شيءٍ يفوتكم فلا يمكنكم تحصيله لسببٍ ما حُزْنَاً يُقْعِدكم عن مواصلة الحياة والتغلّب علي بعض صعابها والاستفادة من التعامُل معها والصبر عليها والاستفادة منها خبرات واستفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن) أو يُقعدكم ويُبعدكم عن اللجوء إلي الله الخالق الكريم المُعين القادر علي كل شيء ودعائه والتوكّل عليه مع إحسان اتِّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا المُحَرَّمة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أو يُوقِعكم في شَرٍّ ما كسوءِ تَعَامُلٍ معه تعالي بنسيانِ فضله وعوْنه ودعائه ورفض تقديراته في كوْنه ويَجعلكم تُسِيئون لأنفسكم ومَن حولكم بالاستسلام للمصيبة وما شابه هذا مِمَّا يُتعسكم ويُتعسهم.. ".. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.." أيْ وخاصة وأنتم حالكم أنكم الأَعْلَوْن أيّها المسلمون أهل الحقّ والخير أيْ أنتم حتما أعليَ مِن أيِّ غيرِ مسلمٍ لأنكم علي تَوَاصُلٍ دائمٍ بربكم تَطلبون منه حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسَدَاده ورزقه وقوَّته ونصره، وهم ليسوا كذلك، وأنتم حتما أعلي منهم لأنكم تطلبون دوْماً أعلي وأغلي شيءٍ وهو أعلي درجات الجنة بينما هم قد لا يعرفونها أصلا وكلّ أهدافهم في حياتهم أثمان دنيوية رخيصة دنيئة زائلة يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وأنتم الأعلون إذ معكم كلّ الحقّ والعدل والحِكْمَة والهُدَيَ في القرآن والإسلام وهم يَفتقدون كلّ هذا، فأنتم بكلّ ذلك بحقٍّ الأعلون وهم بحقّ الأَدْنَوْن، أنتم حتما الأَسْعَد في الدنيا والآخرة وهم حتما الأَتْعَس فيهما، وفوقَ كلّ ذلك وقبله وبعده فإنّ الله خالِق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك كله القاهِر الناصر الذي يقول للشيء كن فيكون، معكم بعوْنه وتأييده وتوفيقه وتيسيره ونصره، ومَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في نهاية الأمر حتي ولو حَدَثَ له أحيانا واستثنائيَّاً بعضُ هزيمةٍ بسبب ترْك بعض أسباب النصر فسَيَسْتَدْركها سريعا بعوْن الله، وأيضا لن ينقصكم شيئا ولا ذرَّة أو أقلّ من أجور أعمالكم وما تستحِقّونه من خيرٍ في مُقابِلها لا في دنياكم ولا في أخراكم بل سيُضاعفها لكم أضعافا كثيرة لتنالوا تمام الخير والنصر والسعادة فيهما.. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره من حوافز تَدْفَع المسلمين بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ للانطلاق في الحياة بكلّ قوّة وعِزَّة لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا عَلِمْتَ وتأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الأيام دُوَل، أيْ مُتَدَاوَلَة بين الناس، أيْ مَن يَطلب العُلاَ والتّقَدُّم والرخاء والسعادة في هذه الحياة، ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك قَدْر استطاعته من كل أنواع القُوَيَ الاقتصادية والسياسية والإدارية والعلمية والإعلامية والمجتمعية والعسكرية وغيرها، فلابُدَّ حتماً سيَصِل، حتي ولو كان كافرا!! فهذا هو قانون الأسباب والنتائج في هذه الدنيا والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. لكنَّ المسلم الذي يعمل بكل أخلاق إسلامه وأحسنَ اتّخاذ مثل هذه الأسباب إحساناً تامَّاً مَا أمكن لابُدَّ حتماً وبكل تأكيدٍ سيُساعده ربه ويُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه، وهو ما لا يكون لغير المسلم قطعا، فيكون وصوله للريادة والعُلَا والهناء هو ومَن حوله أسرع وأفضل وأيسر من غير المسلم لأنه يأخذ بيد نفسه والآخرين لكل خير وسعادة كما طَلَبَ منه ربه وإسلامه ذلك، وسيستمرّ هكذا في الصَّدَارَة ما دام بقي مستمرّاً علي إحسان اتّخاذ الأسباب، فإنْ تَهَاوَن وأهْمَلَ وقَصَّرَ، ذَهَبَت لمَن يُحْسِن!.. وهكذا.. فكن مِمَّن يُحسن القيادة لكل خير فيَسْعَد ويُسْعِد غيره في دنياهم وأخراهم.. ولا تكن أبداً من المُسِيئين الذين يَتعسون ويُتعسونهم فيها
هذا، ومعني "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز للمسلمين لمزيدٍ من دَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة، كما أنَّ فيه تسلية وتخفيفاً عنهم وتثبيتاً وطَمْأَنَة وتبشيراً وإسعاداً لهم.. أيْ إنْ يُصبكم أيُّ جرحٍ وألمٍ مَا قَلّ أو كَثُرَ فقد أصاب غيركم من غير المسلمين مثله فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل وأنتم الأعْلَوْن أن تَهِنوا وتَحزنوا وبعضهم لم يفعلوا ذلك وهم الأدْنَيَ منكم فاصبروا وانطلقوا فأنتم حتماً أوْلَيَ منهم بهذا الصبر وهذا الانطلاق (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (104) من سورة النساء "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا").. ".. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.." أيْ هذا بيانٌ لسُنَّة الله أي طريقته الدائمة الجارية فى كوْنه، أنَّ مَن يُحْسِن اتّخاذ الأسباب يَصِل غالبا لنتائجها ومَن لم يُحسنها لا يَصِل حتماً، وهذا شَدٌّ لعزائم المسلمين وإرشادٌ لهم لإحسان اتّخاذ أسباب النصر والنجاح في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها وإلا إذا لم يُحسنوا اتّخاذها ذَهَبَت لمَن يُحْسِنها حتي ولو لم يكن مسلما! كما أنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عنهم والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ فلا تَحزنوا إنْ يَمْسَسكم قَرْحٌ مَا فهذه الأوقات والأزمان والأحوال التي فيها حزن أو فرح نُدَاوِلها بين الناس أيْ نجعلها مُتَدَاوَلَة أيْ مُتَنَاقَلَة بينهم علي حسب حُسْن اتّخاذهم للأسباب، فمَن يَطلب العُلاَ والتّقَدُّم والرخاء والسعادة في هذه الحياة، ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك قَدْر استطاعته من كل أنواع القُوَيَ الاقتصادية والسياسية والإدارية والعلمية والإعلامية والمجتمعية والعسكرية وغيرها، فلابُدَّ حتماً سيَصِل، حتي ولو كان كافرا!! فهذا هو قانون الأسباب والنتائج في هذه الدنيا والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. لكنَّ المسلم الذي يعمل بكل أخلاق إسلامه وأحسنَ اتّخاذ مثل هذه الأسباب إحساناً تامَّاً مَا أمكن لابُدَّ حتماً وبكل تأكيدٍ سيُساعده ربه ويُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه، وهو ما لا يكون لغير المسلم قطعاً، فيكون وصوله للريادة والعُلَا والهناء هو ومَن حوله أسْرَع وأفضل وأيْسَر من غير المسلم لأنه يأخذ بيَدِ نفسه والآخرين لكل خيرٍ وسعادةٍ كما طَلَبَ منه ربه وإسلامه ذلك، وسيستمرّ هكذا في الصَّدَارَة ما دام بقي مستمرّاً علي إحسان اتّخاذ الأسباب، فإنْ تَهَاوَن وأهْمَلَ وقَصَّرَ، ذَهَبَت لمَن يُحْسِن!.. ".. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التسلية والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ ولا تَحزنوا فإنَّ مِن حِكَم أنْ يصيبكم قَرْحٌ أحيانا بسبب عدم إحسان اتّخاذ الأسباب أو أحسنتم اتّخاذها ولكنْ لم تَصِلُوا لِمَا تُريدون من نتائج أو كاختبارٍ من ربكم بلا سببٍ منكم أو ما شابه هذا من أحداثٍ واختباراتٍ في دنياكم هو لِتَخرجوا منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن) ولِيَعلمَ الله الذين آمنوا، وهذا من باب التمثيل والتشبيه للتقريب للأذهان أيْ فَعَلْنا فِعْل مَن يُريد أن يعلم لأنه سبحانه عالمٌ بكلّ شيءٍ قَبْل حُدُوثه حتماً، والمقصود أنه بمِثْل هذه الأحداث والاختبارات ستَزدادون استفاداتٍ حيث سيَعْلم الله أيْ ستَعْلمون وسيُعْلِمكم وسيُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظْهِر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. ".. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ.." أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره وهي لكي يَجعل منكم كلكم شهداء تكريماً لكم لحُسن خُلُقكم حين تعملون بأخلاق إسلامكم وتُحسنون التعامُل مع ما يَمسّكم من قَرْحٍ فتصبرون عليه وتستفيدون منه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (143) من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..") فتكونون بذلك مُؤَهَّلِين لأنْ تكونوا شهداء علي الناس في كل شئون حياتهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة تكونون شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. كذلك من معاني شهداء أنهم يبذلون كل ما استطاعوا في سبيل القيام بمهمّة الشهادة المُسْعِدَة هذه إلي حَدِّ أنهم قد يبذلون دماءهم في سبيلها حبا في ربهم ودينهم واستجابة لطلبهما فيكون بعضهم من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يُرْزَقون قد نالوا أعظم درجات التشريف حيث أعلي درجات الجنات في تمام السعادة الخالدة التي لا تُوصَف مع النّبِيِّيِن والصِّدِّيقِين والصالحين.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)" أيْ والله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول (ص) وللإسلام، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ظُلْمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)" أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره – وأيضا مزيد من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم – وهي لكي يُمَحِّص الله الذين آمنوا أيْ يَختبرهم ويُخَلّصهم ويُنَقّيهم من كلّ سوءٍ لأنه يحبهم حيث بالاختبارات يَخرجون مستفيدين منها استفادات كثيرة إذ يُراجِعون ذواتهم ويَتَخَلّصون من عيوبهم ويُصَحِّحُون أخطاءهم فيَصلحون ويَكملون ويَرْقون ويَقوون ويَسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وبهذا الصلاح والكمال من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام يُصبحون مُؤَهَّلِين للنصر في كل شئون حياتهم وعلي أعدائهم وتأييد ربهم وعوْنه لهم ويستخدمهم تعالي من ضمن جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه لكي يَمْحَق الكافرين أو الظالمين أو الفاسدين أو غيرهم أيْ يَسْحقهم ويَمْحهم ويستأصلهم حتي تسعد البشرية بانزواء شَرِّهم وضعفه واختفائه تدريجيا
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)" أيْ هل ظننتم أيها المسلمون أن تدخلوا الجنة دون أن يعلم الله المجاهدين منكم والصابرين أيْ بدون أن تُجاهدوا وتَصبروا؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حُسْبانكم فهو حُسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يَعلم الله هذا منكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (214) من سورة البقرة " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم..")، والمقصود أن تَعلموا أنتم ويُعْلِمكم سبحانه ويُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – المجاهدين والصابرين والذين لا يُجاهدون ولا يَصبرون لأنَّ الله تعالي حتماً يعلم أحوال الجميع حتي قبل أن يقوموا بجهادهم وصبرهم أو كَسَلهم وتخاذلهم ولكنَّ الأمر هو لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه المُجاهِد الصابِر أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به وجهاداً وصبراً لتتمّ سعادته، ويعلم المُتَخَاذِل المُتَكاسِل المُتَرَاجِع غير الصَّبُور ومَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلاّ تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الأحداث الكاشِفَة في الدنيا، لا يكون للمُسِيئين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال المجاهدون الصابرون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ولفظ "لمَّا" يُفيد أنه لم يَحدث الأمر حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا.. هذا، ومعني الجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. والصابرون هم الثابِتُون الصَّامِدُون المُستمِرّون بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَتَمنّون إلا خيرا، وإذا حَدَثَ وحَانَ وقت فِعْله فَعَلوه، وإذا وَعدوا بشيءٍ أوفوا بوعودهم وعهودهم وعقودهم ومواثيقهم.. وإيّاك إياك أن تكون مثل بعض السابقين، وبعض الحالِيِّين، الذين يتمنّون مثلا الاستشهاد في سبيل الله بخيال عقولهم، فإذا ما حَدَثَ حقيقة علي أرض الواقع ورأوه أمام أعينهم ونظرهم، إذا هم يَجْبُنون ويَتَخاذلون ويَتَراجعون.. إنهم حتماً ستُصيبهم الذلّة والتعاسة في الداريْن.. فلا تكن مثلهم أبداً أسعدك الله وإلا تَعِسْتَ تعاساتهم.. وكن من الذين يَنظرون لكل ذلك بنظر المُستفيد المُعْتَبِر
هذا، ومعني "وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شجعانا مِقْدَامِين مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، وهو أيضا تذكيرٌ وتحفيزٌ لهم لكي يكونوا علي الدوام من الذين لا يَتَمنّون إلا خيرا، وإذا حَدَثَ وحَانَ وقت فِعْله فَعَلوه، وإذا وَعدوا بشيءٍ أوفوا بوعودهم وعهودهم وعقودهم ومواثيقهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ أو يَتَوَهَّم أنَّ فِعْل الخير يكون بالتمَنّي فقط دون تنفيذه واقعيا أو لا يُحسن الاستعداد لفِعْله بما يحتاجه من جهودٍ وأسبابٍ أو لا يصبر عليه حتي يستكمله أو ما شابه هذا مِمَّا يستحقّ اللّوْم والعِتاب.. أي ولقد كنتم دائما أيها المسلمون تتمنّون أيْ تَطلبون وتحبّون الموت في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ من أجل الدفاع عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مِن قَبْل أن تُلاقوه واقِعَاً حادِثَاً بالفِعْل، فها هو ذا الاستشهاد يَحْدُث فِعْلاً عند مُلاقاتكم لأعدائكم ويَقع ما كنتم تتمنّون، ورأيتموه أمامكم، وتنظرون إليه مشاهدين مُعاينين للموت بكل وضوحٍ بلا أيِّ تَشْويشٍ متأكّدين منه تماما مُتَأمِّلين مُتَفَكّرين فيه، فأين إذَن صبركم وثباتكم؟! فنَفّذوا بالتالي ما كنتم تتمنّون وما وَعَدْتم به بناءً علي هذا التّمَنّي وأثْبِتوا صِدْقكم في ذلك فقد جاءتكم الفُرْصَة فأَقْدِمُوا واصبروا واستعينوا بربكم ولا تتراجَعوا لتُحَقّقوا كل ما تتمنّوه من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. والمقصود بتَمَنّي الموت الرغبة فيه بداخل مشاعر العقل وإظهار ذلك بالقول بالحديث للغير وإظهاره بالعمل بمُلاقاته وعدم الارتعاش عند حدوثه أو الهروب منه عند رَدّ المعتدين مثلما يحدث مع الصالحين من المسلمين وشهدائهم الذين يُقْبِلون عليه لأنَّ مَن تأكَّدَ بلا أيِّ شكّ أنه بالاستشهاد سيكون من أهل الجنة اشتاق لها وأحَبَّ واستعجل الوصول إليها سريعاً مُجْتَازَاً أيَّ عائقٍ يَعوقه أو يُؤَخّر وصوله
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُفَرِّطون في إسلامهم ولا يَتَرَاجَعُون ولا يَرْتَدّون عنه كله أو بعضه لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وإنما يتمسّكون بكل أخلاقه وبكل ما أوصاهم به رسولهم الكريم (ص) أن يعملوا به من إسلامٍ بعد وفاته لأنه بَشَرٌ مثلهم وله أجله لكنه يُوحَيَ إليه، فمِن حُبّه والوفاء له حَمْل هذه الوَصِيَّة المُسْعِدَة والتمسّك والعمل بها ودعوة الآخرين لها ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنه رغم قُدْسِيَّة الرسول (ص) وعظيم شأنه إلا أنَّ الإسلام يُوصِي المسلمين بعدم الاعتماد علي الأفراد وإنما يعتمدون علي المجموع وعلي الشوري وعلي المؤسسات، بعد ربهم قطعا، فيَنطلق الجميع ويَقْوُون ويَسعدون، ولا يَضعفون أو يَتَرَاجَعون أو يَنهزمون بغياب فردٍ أو أفرادٍ مهما كانت مكانتهم عن إحسان اتّخاذ أسباب عِزّهم وتَقَدُّمهم وسعادتهم.. إنه مَن يَرْتَدّ عن دينه الإسلام أو يُفَرِّط في بعضه فهو الخاسِر حتماً لا الله تعالي، فهو الذي سيَتعس تعاسة جُزْئِيَّة أو كُلّيَّة في دنياه علي قَدْر مَا فَرَّط، ثم له التعاسة الأكبر والأتمّ في أخراه، وسيَستمرّ غالِب المسلمين علي تمسّكهم وعملهم بإسلامهم، بالأمانة التي أوْدَعها إيّاهم ربهم ورسولهم، سعداء به سعادة تامّة في دنياهم، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم، وهذا هو جزاء الله المُسْعِد للشاكرين من خَلْقه أمثالهم الذين يشكرون بعقولهم باستشعار نِعَمه سبحانه التي لا تُحْصَيَ، وبألسنتهم بحمده، وبأعمالهم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)" أيْ هذا تقريرٌ لحقيقةٍ ثابتةٍ مُؤَكّدةٍ وهي أن رسولكم الكريم محمد ما هو إلا رسول، أيْ مَبْعوث بالإسلام مِنّا للناس ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، فهو بَشَرٌ ككلّ البَشَر، قد خَلَت أيْ مَضَت وذَهَبت مِن قَبْله الرسل السابقين له، وبالتالي سيَخْلُوا كما خَلوا أيْ سيَمْضِي أيْ سيموت هو أيضا كما ماتوا هم ومَضوا وذهبوا وكما يموت جميع البَشَر، فهو ليس له صفة تُمَيِّزه عن كل البَشَر إلا الرسالة التى أوْحاها الله إليه وهي الإسلام في آخر كتبه وهو القرآن العظيم، وهي رسالة باقية محفوظة إلي يوم القيامة ولا تتطلّب بقاءه أو خلوده، كما حَدَث للرسل الذين سبقوه حيث قد أدّوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا فاستمرّ أتْباعهم بعدهم متمسّكين بإسلامهم بعد خُلُوِّهم، فعليكم أنتم أيضا أن تتمسّكوا وتعملوا به مثلهم بعد خُلُوِّه، لأنَّ هدف بَعْث الرسل تبليغ الرسالة للناس لا أن يَتَوَاجَدوا بينهم خالدين.. ".. أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.." أيْ فهل إنْ مات رسولكم الكريم بانتهاء أجله وقد علمتم أنه ككلّ البَشَر حتماً سيموت أو قُتِلَ بعدوٍّ أو غيره وهو ينشر الإسلام ويدافع عنه انقلبتم علي أعقابكم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ رَجَعْتم علي أقدامكم للخَلْف هارِبين مُبْتَعِدين والمقصود ارْتَدَدْتم عن إسلامكم؟! مع علمكم أنَّ خُلُوّ الرسل قبله وبقاء دينهم الإسلام بعدهم مُتَمَسَّكاً مَعْمُولَاً به بين الناس يجب أن يكون سَبَبَاً للتمسّك بدين محمد (ص) أيضا لا للانقلاب عليه!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا.." أيْ ومَن يَرْتَدّ ويَرْجِع عن إسلامه ويَتركه ويَكفر ولا يعمل بأخلاقه فحتما وبكل تأكيدٍ لن يضرّ الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين ينقلبون علي أعقابهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمخلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. ".. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)" أيْ وسيُعْطِي الله الشاكرين أعظم العطاء من كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، والشاكرون هم الذين يحمدون الله تعالي علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، وأعظمها عوْنهم علي اختيارهم الإسلام دينا وعملهم بأخلاقه وثباتهم عليه بلا أيِّ ارتدادٍ عن أيِّ خُلُقٍ منه تحت أيّ ظروفٍ أو مُتَغَيِّرات، يشكرون النِّعَم بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا علمتَ وتأكّدتَ تماما بلا أيّ شكّ أنك لن تموت إلا بإذن الله حين يقبض روحك حينما يأتي أجلك الذي قَدّره لك.. فإنَّ هذا لا بُدَّ سيَدفعك لأنْ تكون في حياتك مِقْدَامَاً شجاعا قويا مُنْطَلِقا حكيما رَزِينَاً مُحْسِنَاً لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة وغير ذلك من الصفات المُسْعِدَة في الداريْن، لأنك متأكّدٌ أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه لن يُقَصِّر عمرك وأنَّ الجُبْن والتخاذل لن يُطيله! فكَم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم من مِقْدَامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ من الذين يريدون الدنيا والآخرة معا، فهذا هو ما يريده الله تعالي لخَلْقه وهو الهدف الأساسي لخَلْقِهم، أن يسعدوا بخيرات أرضه وكوْنه والتي لا تُحْصَيَ، وما أنزل سبحانه الإسلام للبشرية إلا ليُنَظّم لها بأخلاقه وأنظمته الشاملة كل شئون حياتها فتَسعد بكل لحظاتها، ولذا امتدحهم تعالي بقوله "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (البقرة:201)، ووَعَدَهم بالاستجابة ووَعْده الحقّ فقال "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران:148) (برجاء مراجعة الآيتين لتكتمل المعاني).. إنَّ للسعادة في الدنيا أسبابها، وهي مجتمعة في العمل بكل أخلاق الإسلام، فتَفعل كلّ خيرٍ وتَترك أيَّ شرّ، وإنَّ للسعادة الأعظم في الآخرة أسبابها، فقط بأن تكون مُصَدِّقَاً بربك وبرسله وبتشريعاته وبها، وبأن تربط كل أقوالك وأفعالك في دنياك بنوايا خيرٍ بعقلك – كما طَلَب ذلك منك ربك ورسولك (ص) بقوله "إنما الأعمال بالنّيَّات" – أنك تَطلب بها حب ربك ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. إنَّ بعض أو أكثر أو حتي كل غير المسلمين يطلبون الدنيا فقط دون ربطها بالآخرة لأنهم لا يُصَدّقون بوجودها ولا بوجود ربهم أصلا!.. إنهم يطلبونها دون تمييزٍ بين خيرٍ وشَرٍّ ونافعٍ وضارٍّ وحقٍّ وباطل، ولذا فهم يُسيئون أكثر كثيراً مِمَّا يُصيبون ويُفسدون أكثر مِمَّا يُصْلِحون، وبالتالي سيَتعسون قطعا أكثر كثيراً مِمَّا يَسعدون.. إنَّ هذه الصورة السَّيِّئة من طَلَب الدنيا هي التي ذَمَّها ربنا وقرآننا وإسلامنا وحَذّرنا منها أشدّ التحذير، لأنها في هذه الحالة ستكون مصدر ذِلّةٍ وهَوَانٍ وضعفٍ وانكسارٍ وضَرَرٍ وشَرٍّ وكآبةٍ وتعاسةٍ علي طالبها وعلي مَن حوله بل وعلي البشرية كلها بل والكوْن كله، وسيكون هذا حتما هو اللعب واللهو المُضِرّ المُتْعِس والذي يُنهي عنه.. أمَّا الطلب الجميل للدنيا فيكون بأخلاق الإسلام كلها، بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ، وبنوايا حسنة بالعقل تربط بين الدنيا والآخرة، وبِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، وبتَوَاضُعٍ وتعاوُنٍ وتسامُحٍ وتحاوُرٍ وتفاهُمٍ وحُسْنِ تخطيطٍ وإعدادٍ واتّخاذِ أسباب، وحُسن علاقاتٍ إنسانيةٍ راقية، وما شابه ذلك، مع الاستعداد التامّ لتَرْك كل هذا والتضحية به بكل كَرَمٍ وعِزّةٍ وشُمُوخٍ حينما يحتاج الأمر كالدفاع عن الذات والعِرْض والخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء ونحو ذلك، فهذا هو ما يحبه ربنا ورسولنا (ص) وقرآننا وإسلامنا، فهُم لم يطلبوا مِنّا قطعا تَرْك الدنيا، وإلا لماذا خَلَقَها تعالي وأرسل لها الرسل ومعهم التشريعات التي تنظمها واسْتُشْهِد الشهداء دفاعا عنها وعن الحقّ والخَلْق فيها؟! ولماذا كان القرآن والإسلام بكل هذه التفصيلات التي تُنَظّم كلّ صغيرٍ وكبيرٍ بها فلقد كان يكفي آية واحدة مثلا تطلب أن اتركوا الدنيا واهجروها؟!!.. فالحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه كما يحب ربنا ويَرْضَيَ عنا علي هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ولا تُعَدّ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (14)، (15) من سورة آل عمران، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة)
هذا، ومعني " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ لأنه يَتَوَهَّم أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَه وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! فالواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. أيْ ولا يُمكن أبداً حتماً لأيِّ نفسٍ من النفوس أن تموت لأيِّ سببٍ من الأسباب إلا بإذن الله خالِقها ومالِكها أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فهو سبحانه الذى كَتَبَ لكل نفسٍ خَلَقَها عُمْرَها كتاباً مُؤَجَّلَاً، أىْ له أجل مُحَدَّد، أيْ مُؤَقّتَاً بوقتٍ معلومٍ مُؤَخَّرَاً إليه لا يتقدَّم عنه لحظة ولا يتأَخَّر، وهو آتٍ يوما ما بلا أيّ شكّ.. هذا، وطول الأعمار ونقصانها هي من حِكَم الله التي يَعْتَبِر بها مَن أراد الاعتبار ليَنتفع بما يَحدث حوله لمَن طال عمره أو بقِصَرِ عُمْر آخرين وموتهم مُبكّرا وما شابه هذا مِن عِبَرٍ مُفيدةٍ مُسْعِدَةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا.." أيْ ومَن يَطلب بعمله ثواب الدنيا أىْ جزاءها وعطاءها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق نُعْطِهِ منها ما نشاء أن نُؤتيه، والمقصود التنبيه علي أنَّ الذي يعمل فيها ولها وحدها فقط ولا يريد الآخرة معها ولا يعمل لها سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسٍ لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يشبههم، فمِثْل هذا سيَأخذ منها علي قَدْر جهوده وقد يأخذ أقلّ أو أكثر بقَدْر ما يشاء الله له برحمته ولمصلحته ولمَن حوله لعله يستفيق ويعود إليه ثم مع الوقت وضعفه الجسديّ والعقليّ يَقِلّ ما يأخذه ويتناقص ثم ينعدم تماما بموته ثم ليس له في الآخرة أيّ نصيبٍ أيْ قَدْرٍ مِن ثوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ لأنه لم يعمل لها أصلا بل ويُحَاسَب علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا.." أيْ ومَن يَطلب بعمله في الدنيا ثواب الآخرة أي الأجر فيها يوم القيامة الذي لا يُوصَف في جناتها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر، واجْتَهَدَ في ذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، فمِثْل هذا المُجْتَهِد وَعْدٌ علي الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مطلقا أن يزيد له في هذا العمل الذي يعمله أي يزيد في توفيقه وعوْنه وتسهيل طرق الخير له وفي ثماره ونتائجه المُسْعِدَة في دنياه ثم أيضا في أخراه إذ يزيد ويُضاعف له قطعا في أجره حيث الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة من أفضاله ورحماته وخيراته سبحانه، فمِثْله الذي يزرع في الدنيا للآخرة وهو دوْما مرتبط بها تجده بسبب ذلك دائما في ازديادٍ من كلّ هِمَّة ونشاط وقوة وعَزْم وخير وسعادة لتأكّده أنه كلما زاد من عمله الخيريّ كلما ازداد خيرا علي خير وسعادة علي سعادة في دنياه وكلما ازداد استبشارا بما ينتظره في أخراه، وكل ذلك النجاح الدنيويّ والأخرويّ الذي يحققّه هو بسبب أنه متأكّد تماما من وَعْد ربه في قوله "..نُؤْتِهِ مِنْهَا.." وقوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى.." (محمد:17).. فأيّ الاختياريْن إذَن أفضل؟! إنه لا مُقَارَنة بكل تأكيد!! إنَّ أيَّ صاحب عقل حتما سيُحسن الاختيار ويختار الأعظم والأدْوَم والأخلد بأنْ يُحسن طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد الله اللطيف سبحانه من عباده وكما يريده إسلامه منهم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة.. ثم مراجعة أيضا الآية (18)، (19) من سورة الإسراء "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا"، "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا").. ".. وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)" أيْ وسنُعْطِي الشاكرين أعظم العطاء من كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، والشاكرون هم الذين يحمدون الله تعالي علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، وأعظمها عوْنهم علي اختيارهم الإسلام دينا وعملهم بأخلاقه وثباتهم عليه بلا أيِّ ارتدادٍ عن أيِّ خُلُقٍ منه تحت أيّ ظروفٍ أو مُتَغَيِّرات، يشكرون النِّعَم بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. هذا، واستخدام ذات اللفظ "الشاكرين"، ولفظ الجزاء، كما في الآية السابقة، هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيه والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ لأنه يَتَوَهَّم أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَه وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! فالواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. أيْ كم مِن نَبِيّ، أيْ كثير منهم، في السابق، قاتَلَ معه رِبِّيُّون كثيرون (والرِّبِّيُّون والرَّبَّانِيُّون بمعني واحد عند كثير من العلماء) وهم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطِون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبّون لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فمَا وَهَنُوا أبداً أى مَا عَجَزوا أو جَبُنُوا نفسياً ومَا ضَعُفوا أىْ جسدياً وبكل أنواع القُوَيَ عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عَمَّا يؤمنون به وما استكانوا أيْ ما سَكَنوا لمَن يُذِلّهم وخضعوا واستسلموا له وقَبِلوا بإذلاله وإهانته لضعف نفوسهم حيث ليس لهم هِمَم عالية، بسبب ما أصابهم أو أنبياءهم مِن صِعَابٍ أو جراحٍ أو استشهادٍ أو غيره، لأنَّ الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة حيث كانوا يَنشرونه بكل قُدْوةٍ وحِكَمةٍ وموعظةٍ حسنة ويدافعون عنه بما استطاعوا بكل الوسائل المُمْكِنَة حتي قُتِلوا من أجل إعلاء كلمة الله ونُصْرة الإسلام والمسلمين.. إنه لو حَدَثَ منهم وَهنٌ أو ضعفٌ أو استكانة لَكَانَت الذلّة والتعاسة التامّة، ولكنهم صَبَروا وثبتوا واستمرّوا ففازوا وسعدوا في الداريْن.. فاتّخِذوهم قُدْوة لكم لتنالوا مثل مَكَانتهم وسعادتهم فيهما.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)" أيْ والله حتماً يحبّ الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للصابرين
ومعني "وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)" أيْ هذا بيانٌ للحال الطيّب الدائم لهؤلاء الربّانِيِّين أثناء تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم وحُسن دعوتهم له ودفاعهم عنه وثباتهم علي ذلك وعلي ما قد يصيبهم من ضَرَرٍ أثناءه بكل قوةٍ وهِمَّةٍ وبلا أيِّ ضعفٍ أو اضطرابٍ أو ضيقٍ مُستعينين دَوْمَاً بربهم متوكّلين مُعتمدين عليه.. أي ولم يكن لهم دائما قولٌ في مثل هذه المواقف الشديدة وغيرها عموماً إلا أن يُكثروا من أنْ يقولوا ويدعوا مُتَوسِّلين ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – اغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وكذلك اغفر إسرافنا في أمرنا أي إكثارنا ومُبَالَغَتنا في الأخطاء سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وأحْيِنَا دائما في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)" أيْ ورَسِّخْ أقدامنا فلا نَفِرّ، واجعل الغَلَبَة لنا بعَوْنك وتوفيقك وتأييدك وتيسيرك علي أعدائنا هؤلاء القوم الكافرين أيْ المُكَذّبين بك وبرسلك وبكتبك وبآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك الغير العاملين بالإسلام المُعادِين له الفاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. لقد خَتَم الرّبَّانيون دعاءهم بما هو نتيجة حَتْمِيَّة للاستعانة بربهم خالقهم القادر علي كلّ شيءٍ ولحُسن الاستعداد وللصبر وللثبات وهو النصر على الأعداء.. فلْيَتَشَبَّه بهم كل مسلم يريد أن يَنَالَ مثل مكانتهم وسعادتهم في الداريْن
ومعني "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهؤلاء الرَّبَّانِيِّين في مُقابِل صفاتهم وأفعالهم وأقوالهم الطيّبة هذه أنْ أعطاهم الله عطاءَ وجزاءَ الدنيا وهو كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم العطاء والجزاء والأجر الحَسَن الذي لا يُوصَف في الآخرة حيث ما هو أعظم خيرا وسعادة وأتمّ وأخْلد يتمثّل في تمام الرضا والغُفْران والجنان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)" أيْ والله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبْصِر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تُطيعوا الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، تُطيعوهم فيما يريدون منكم أن تفعلوه من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام، أيْ إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، يَتَدَرَّجُوا معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يَرُدُّوكم علي أعقابكم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ يَرْجِعوكم علي أقدامكم للخَلْف هارِبين مُبْتَعِدين والمقصود يجعلوكم تَرْتَدُّوا عن إسلامكم أي تكفروا بعد إيمانكم، فتَنْقَلِبوا خاسرين أيْ فتَعودوا وتَرْجِعوا بسبب ذلك حتماً خاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسرون وتَفقدون دنياكم فتتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدكم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسرون حتما أخراكم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآية (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)" أيْ ليس الكافرون الذين سَبَقَ ذِكْرهم في الآية السابقة ولا مَن يُشبههم ولا غيرهم ولا أيّ أحدٍ هو مولاكم أيها المؤمنون فتُطيعوه فيما يُخالِف الإسلام لكنَّ الله وحده هو مولاكم أيْ مُتَوَلّي أموركم في كل شئون حياتكم ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لكم، أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم وحافظكم ومانِعكم من الضرَر ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام، ومَن كان الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. فأطيعوه إذَن باتّباع كل أخلاق إسلامكم وتوكّلوا عليه واشكروه واطلبوا نصره هو وحده فهو الذي يستحقّ هذا.. ".. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)" أيْ لأنه هو خير الناصرين أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! فنَصْره سبحانه مُؤَكّد لمَن يتّخذ أسبابه لأنه هو مالِك الأسباب كلها ولا يصعب عليه شيء فى كوْنه
ومعني "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)" أيْ هذا طمْأَنَة وتَبْشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم، وهو دليل من الأدِلّة علي أنه مولاهم وهو خير الناصرين، وبأَهْوَن الأسباب!.. أيْ سنَقْذِف في عقول ومشاعر الذي كفروا الخوف الشديد فيكون ذلك سبباً في هروبهم وتَرْكهم لكل أسبابهم قوّتهم مهما عظمت وهزيمتهم.. فإلقاء الرعب فيهم وبينهم هو من ضِمْن جنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، وهو من الأسلحة البسيطة ذات التأثير الفَعَّال استهزاءً من القويّ العزيز بهم إذ لا داعي معهم لاستخدام قوة أكبر من ذلك!!.. ".. بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ.." أيْ هذا الرعب الذي هم فيه في دنياهم هو بسبب إشراكهم بالله آلهة غيره يعبدونها أي يطيعونها كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرة والعلم والرزق ونحو ذلك.. فكل المشركين يُوقِنون تمام اليقين بداخل عقولهم أنهم لا يَستندون إلي شيء، فآلهتم لا تنفع ولا تضرّ بشيء، ولذلك فهم في حياتهم في رُعْبٍ دائمٍ بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور من تَوَقّع المكروه والهزيمة علي الدوام لأنهم يُدْركون تماما أنه لا يقف بجوارهم إلهٌ قويّ متينٌ قادرٌ علي كل شيءٍ يَحميهم ويَرعاهم ويُعينهم، كما أنهم فيما بينهم يُفَرِّقهم التنازُع علي مصالحهم حتي وإنْ ظَهَروا مُجتمعين، بينما يُقابلهم المسلمون المتمسّكون بإسلامهم حقّ التمسّك العامِلون بكل أخلاقه يُحسنون اتّخاذ كل أسباب النجاح بكل قوةٍ ويتعاونون ويتكاتفون فيما بينهم ويُعينهم ربهم ويزيدهم قوة والتحاماً ويُحبّون الاستشهاد ويَحرصون عليه أشدّ الحرص كما يحبون هم ويحرصون علي حياتهم فلا بُدَّ سيَجعلهم سبحانه يخافون منهم وينهزمون حتماً أمامهم في دنياهم.. ".. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.." أيْ ما لم يُنَزّل الله بإشراكه دليلا، أيْ جعلوها واتّخذوها آلهة من عند أنفسهم دون أن يكون معهم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالهم وأفعالهم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليهم، ولا يوجد عندهم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ.." أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة.. ".. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)" أيْ وما أسوأ مكان إقامةِ واستقرارِ الظالمين حيث تمام العذاب والتعاسة الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي ينصر حتماً مَن يتّخذ أسباب النصر ويُحسنها كاملة قَدْر إمكانه، ومَن لم يتّخذها لا ينصره، لأنَّ هناك قانونا عاما للحياة يعلمه الجميع وهو قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان غير مسلمٍ ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما قال تعالي مُوَضِّحَاً هذا "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فهذا هو تمام العدل، عدل الله العادل، الذي يُوَفّي لكلٍّ حقّه كاملاً دون أيّ ظلم، فهو سبحانه يحب المسلمين ويَرْعاهم ويُرَاعي مشاعرهم ويَنصرهم ما داموا مسلمين حقّ الإسلام أيْ متمسّكين عامِلين بأخلاق إسلامهم، فإنْ قَصَّرُوا وفَرَّطُوا، فحينذ قد تَساووا مع غيرهم وحتي أعدائهم، فلينتصر حينها إذَن الأقوي والأكثر استعدادا، فلا خواطِر ولا عَشَم ولا مُحَابَاة ولا مُجَامَلَة وقتها!! وإلا اخْتَلّ العدل وانْكَسَرَت القواعد وانتشرَت الفوضَيَ وعَمَّت التعاسة.. أيْ ولقد حقّق الله لكم أيها المسلمون ما وَعَدَكم به من نصرٍ علي أعدائكم حين كنتم تَحَسّونهم أيْ تقتلونهم قتلاً شديداً يفقدون به حسّهم وحركتهم – وذلك في بداية غزوة أُحُد – بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ.." أيْ واستمرّ ذلك النصر والوَعْد به إلي أنْ أخْلَفتم أنتم شروطه ووَعْدكم مع ربكم، أيْ إلي أنْ فشلتم أيْ ضَعُفتم وجَبُنْتم وتَرَاجَعْتم عن قتال العدو نفسياً بانكسار إرادتكم أو جسدياً أو غيره، وتنازَعتم في الأمر أي اختلفتم في الأمر الذي أمركم به قائدكم وما اتفقتم عليه من خطَط وأهداف، وعصيتم أيْ خالَفتم وصايا الله ورسوله (ص) وأخلاق إسلامكم في بعض أقوالكم وأفعالكم، وكان كل ذلك من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، حينها حَلّت بكم الهزيمة من بعد ما أراكم ربكم ما تحبون من نصرٍ وعِزّة ومَكَانَة ونحو هذا في بداية المعركة حينما كنتم مُلْتَزِمين بأسباب النصر.. ".. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.." أيْ هذا ذمٌّ فلا يُفْعَل مثله، ومدحٌ يُقْتَدَي به.. أي منكم أيها المسلمون مَن يَطلب بعمله ثواب الدنيا أىْ جزاءها وعطاءها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق ويَنْسَيَ العمل معها للآخرة، فهو مسلمٌ مُصَدِّقٌ بها لكنه ينساها أحيانا أو كثيرا بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها، فلْيَستيقظ ولْيَعمل لهما معا ليَسعد فيهما معا.. ومنكم مَن يَطلب بعمله في الدنيا ثواب الآخرة أي الأجر فيها يوم القيامة الذي لا يُوصَف في جناتها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر، ويجْتَهِد في ذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ أنه يريد أيضا الآخرة من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، فلْيَستمرّ في ذلك وليَقْتَدِي به كل مَن أراد أن يكون مثله فائزاً بكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن (برجاء لتكتمل المعاني عن حُسن طَلَب المسلم للدنيا والآخرة معا مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ"، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. ".. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ.." أيْ ثم بسبب فَشَلِكم وتنازُعِكم وعِصيانكم، رَدَّكم عنهم، أيْ رَجَعتم عن أعدائكم بغير نصرٍ، أيْ لم يُحَقّق ربكم لكم تمام النصر عليهم استمراراً لِمَا كان في أول المعركة حينما كنتم مُتّخِذين أسبابه، لأنه لو نَصَرَكم وأنتم علي هذا الحال السيء لكان ضَرَرَاً شديداً عليكم حيث تعتادون علي عدم اتّخاذ الأسباب في كل شئون حياتكم لأنكم تنتصرون ما دمتم مسلمين حتي لو كنتم غير مُؤَهَّلِين للنصر!.. ".. لِيَبْتَلِيَكُمْ.." أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلّوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم الآيتين (140)، (141) من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ".. ثم مراجعة مرة أخري كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) منها، ثم الآية (14)، ( 15) منها أيضا، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. ".. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ.." أيْ ولقد سامَحَكم لَمَّا تُبْتُم ومَحَا عنكم آثار ذنوبكم المُتْعِسَة في الداريْن، وأحْياكم في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)" أيْ والله تعالى صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على المؤمنين، وعلي الناس وعلي الخَلْق جميعا، بما يُوَسِّعَ عليهم من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما يَعفو عنهم من أخطائهم وبما يُعينهم علي الخروج منها باستفاداتٍ كثيرة وبما يُعْطِي المُحسنين منهم في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ خالدٍ لا يُوصَف، فهو وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم الهائل الكامل الدائم الذي لا يُقارَن
ومعني "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)" أيْ هذا بيانٌ لحال المسلمين حينما يَتنازعون ويَعصون فإنهم ينهزمون حتما لأنهم يتركون أهم أسباب نصرهم من التَّوافُق والتلاحُم وطاعة الله والرسول والإسلام وتمام الاستعداد بكل أنواع القوي مع حُسن التوكّل عليه سبحانه والإخلاص له والإقدام والثبات والصبر.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين كنتم تُصْعِدون أي تَذهبون في صَعِيد الأرض أيْ علي وجهها وما ارتفع منها تَصْعَدون مرتفعاتها هاربين من أعدائكم، ولا تَلْوُون رؤوسكم علي أيِّ أحدٍ تَلْتَفِتُون إليه، والمقصود إظهار حالة شدّة وسرعة الهرب والتّشَتّت والعشوائية والخوف والذلّة التي حَدَثَت لهم في غزوة أحد لَمَّا تَنَازَعوا وعَصوا.. ".. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.." أيْ والحال والواقع أنَّ الرسول (ص) ثابتٌ يُناديكم في آخركم أيْ من ورائكم لتَرْجِعوا لتَثْبُتوا.. ".. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ.." أيْ فأعطاكم وجزاكم الله عقاباً مناسباً لعِصيانكم وكنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ له وبسببه – لتستفيقوا ولتعودوا لربكم ولأخلاق إسلامكم – ألَمَاً علي ألمٍ وحُزْنَاً علي حزنٍ وتعاسة فوق تعاسة، فهو ألم وحزن كثير مُتَرَاكِم.. ولكنه عقاب له ثوابه أي أجره وخيره في الداريْن ولذا اسْتُخْدِمَ لفظ "فأثابكم"! لأنَّ فيه الثواب العظيم للصبر ولتصويب الأخطاء.. ".. لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين وتخفيفٌ عنهم مِمَّا أصابهم.. أيْ رغم أنَّ ظاهر ما حَدَثَ سيء، ورغم أنه بسبب عصيانكم وكنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ له، إلا أنَّ في باطنه خيرٌ كثيرٌ ستُدْركونه مع الوقت حيث ستَخرجون منه مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ ما حَدَثَ هو تدريبٌ وإعدادٌ لكم وتجهيزٌ لمُجَابَهَة أيّ صعوبات قد تقابلونها في حياتكم فتنتصرون عليها بإرادتكم القوية التي خرجتم بها من هذه الدورة التدريبية المكثفة، وبالتالي فهو لكيلا تأسوا أيْ لا تحزنوا مستقبلا علي ما فاتكم من أرزاقٍ لا يمكنكم تحصيلها لسببٍ ما ولا تحزنوا علي ما أصابكم من مصائب وتكونوا أقوياء تنتصرون علي أيّ عَقَبَةٍ وتعيشون أعِزّة سعداء بذلك، إنه لكَي لا تحزنوا حُزْنَاً يُقْعِدكم عن مواصلة الحياة والتغلّب علي بعض صعابها والاستفادة من التعامُل معها والصبر عليها والاستفادة منها خبرات واستفادات كثيرة، أو يُقعدكم ويُبعدكم عن اللجوء إلي الله الخالق الكريم المُعين القادر علي كل شيء ودعائه والتوكّل عليه مع إحسان اتِّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا المُحَرَّمة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أو يُوقِعكم في شَرٍّ مَا كسوءِ تَعَامُلٍ معه تعالي بنسيانِ فضله وعوْنه ودعائه ورفض تقديراته في كوْنه ويَجعلكم تُسِيئون لأنفسكم ومَن حولكم بالاستسلام للمصيبة وما شابه هذا مِمَّا يُتعسكم ويُتعسهم.. إنه قد فاتكم هذا الرزق الذي كنتم تسعون إليه ولم تحصلوا عليه لأنَّ الله لم يكتبه لكم لحكمةٍ ما تستفيدون منها عاجلا أو آجلا سواء علمتموها وقتها أو بعد حين.. إنه بهذا الذي حَدَثَ لكم ستكونون دائما مستقبلا مُنْتَبِهين مُستعِدّين لمِثْل هذه الأمور وتَقْوَيَ إرادة عقولكم لمواجهتها والاستفادة منها والهداية بها وبنتائجها، فباستعدادكم لكل المُتغيّرات ستعيشون كل حياتكم مُتَوَازِنين حُكَماء تسعدون بالخير الكثير وتعالجون الشرّ القليل إذا حدث بما يُفيدكم ويُسعدكم أنتم ومن حولكم فتسعدون تمام السعادة في دنياكم ثم لكم أجوركم العظيمة في أخراكم علي حُسن التصرّف أثناء الخير أو الشرّ (برجاء أيضا لكي تكتمل المعاني مراجعة الجزء من الآية السابقة "..لِيَبْتَلِيَكُمْ.."، ثم الآية (51) من سورة التوبة "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ").. إنَّ مَن عَلِمَ ذلك بتَدَبّر وتعقّل وتعمّق، وهذا هو دائما حال المسلم الذي يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه، هَانَت عليه المصائب إذا حَدَثَت واطمأنّ تماما لكل تقديراته تعالى وكان دوْما بعوْنه صبورا عند الشدائد وشكورا عند المَسَرَّات فيَسعد بذلك في دنياه وأخراه، بينما مَن لم يَتَخَلّق بخُلُق الإسلام فإنه يتخبَّط في الخوف والقَلَق إذا أصابته أيّ مصيبة ويتكبّر ويتعالَيَ ويتفاخَر علي الآخرين إذا جاءه خيرٌ مَا فيَخرج عن الاتِّزان والحكمة في الحالتين ويَتعس في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)" أيْ واعلموا وتذكّروا دوْماً طوال حياتكم أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)" أي هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله بالمسلمين وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته لهم وتخفيفه عنهم بعض ما أصابهم وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ ثم أنزل عليكم أيها المسلمون مِن بَعد الغَمّ الذي أصابكم أَمْنَاً تامَّاً بلا أيِّ خوفٍ كان مظهره نعاساً وهو أول النوم واسترخائه الذي يُريح الجسم ويُقَوِّيه ولا يُرْخِيه تماما كالنوم العميق، وهو دلالة علي الأمن والاستقرار والاسترداد للقوة لأنَّ المهموم لا يستقرّ ولا ينام غالبا، وهو أيضا دليلٌ يُبَشّركم بأنَّ الله معكم بعلمه وقُدْرته وعوْنه ونصره وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، يَغْشَيَ طائفة منكم أيْ يُغَطّي كالغشاء مجموعة منكم وهي المجموعة الصابرة الثابتة المُتَوَكّلة علي ربها العامِلَة بكل أخلاق إسلامها التي لا تَفِرّ حتي تُنْصَر أو تُسْتَشْهَد.. ".. وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ.." أيْ وهناك مجموعة أخري معكم وبينكم قد كان هَمَّهُم أنفسهم فقط لا يَعْنِيهم غيرها، أهَمَّهم نجاتها وتحصيل مكاسبها الدنيوية لا يَهتمّون إلا بذلك، لا يَهمّها حال الإسلام والمسلمين انتشرَ وانتصرَ وانتصروا أم لا، وأيضا قد أَوْقَعَت نفسها فى الهَمّ والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها وخوفها المستمرّ وفقدانها ما كانت تأمله من غنائم وكل ذلك وغيره سببه عدم عملها بكل أخلاق إسلامها ونسيان توكّلها علي ربها وسؤاله عوْنه ونَصْره وحرصها علي دنياها ومكاسبها ونسيانها أخراها وما شابه ذلك من اهتماماتٍ جعلتها مُنْشَغِلَة بها إلي حدّ الهَمّ والحزن والأنانِية.. فأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً لا يُنَزّل الله عليهم أَمْنه وسَكِينته وتَبْشيره وعوْنه ونصره.. ".. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ.." أيْ ولم يَكتفوا بما سَبَقَ ذِكْره من سوءٍ، بل يُضيفون إليه سوءَ خُلُقٍ أشدّ وأفظع وهو أنهم يُسيئون الظنّ بالله تعالي حيث يظنون به ظنا ليس هو الحقّ الذي يجب أن يُظَنّ به سبحانه وهو العدل والعوْن والتأييد عند الثبات بتمام قُدْرته وعلمه، فهم يَتَوَهَّمون به تَوَهُّمَاً باطلا كاذبا غير حقيقيّ كظنّ أهل الجاهلية – وهم الجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ والذين يجهلون الإسلام وما فيه من مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم – بأنه لن ينصر الإسلام والمسلمين ولن يهزم أعداءهم وما شابه ذلك من ظنون باطلة كاذبة فاسدة يظنها الإنسان الذي يضعف اتصاله بربه وعمله بأخلاق إسلامه فيتركها جزئيا أو كُلّيَّاً ويَصير لا يَهمّه إلا نفسه.. ".. يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ هذا تفسيرٌ وتوضيحٌ لبعض ظنّ الجاهلية الذي يظنّه أمثال هؤلاء الذين قد أَهَمّتهم أنفسهم فقط حيث يقولون فيما بينهم ولغيرهم رافضين لِمَا حَدَثَ مُعترضين نادِمين علي تَوَاجُدهم مع المسلمين في أزمتهم ليس لنا شيء من الأمر أيْ من أمر التّوَاجُد في هذه الأزمة وإنما تَوَاجَدْنا فيها مُكْرَهِين بدون أخذ رأينا، ولو كان الأمر مَوْكُولاً إلينا ونحن الذي نُديره لم يَحْدُث ما حَدَث! وهل تحقّق لنا من الأمر أيْ أمر النصر وأخذ المكاسب مِمَّا وَعَدَنا به الإسلام أيّ شيء؟!.. وكل ما يقولونه هو من أجل التشكيك في نصر الله وعوْنه وتقديره للأمور لحِكَمٍ يعلمها وفي صِدْق الإسلام أنه سيَنتشر وسيَنتصر والتشكيك في القيادة بإظهار خطأ آرائها لنشر الضعف والهزيمة بين المسلمين.. ".. قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الأمر كله، أيْ أمر النصر أو الهزيمة أو أيّ شيءٍ أو أيّ حَدَث، كله بيَدِ الله تعالي الخالق الحكيم المُدَبِّر القادر علي كل شيءٍ حيث هو الذي يُدَبِّر كل شئون خَلْقه علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُحقّق مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم، وهم ليس عليهم إلا إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُسْتَطَاعَة، لكنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها متروك له وحده سبحانه، فقد يُحَقّق أمرا بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون أي يعتمدون عليه تمام الاعتماد ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الصبر علي اختبارٍ أو ضررٍ مَا له فوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ.." أيْ وهُم يُسِرُّون بداخل عقولهم ما لا يُظهرونه لك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة الكثيرة.. ".. يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.." أي هذا بيانٌ لبعض ما يُخفون وما يَقولونه فيما بينهم من سوءٍ حيث يقولون رافِضين لِرَدِّك عليهم "إنَّ الأمر كلّه لله" رَادِّين عليه بِرَدٍّ سَيءٍّ : لو كان لنا من الأمر المَسْمُوع المُطَاع في هذه الأزمة أيّ شيءٍ أيْ قد أُخِذَ برأينا ومَشُورتنا لَمَا خَرَجنا إلي هذا المكان ولَمَا قُتِلَ من المسلمين مَن قُتِل هنا فيه ولَمَا انهزمنا فلقد كان رأينا ألاّ نخرج، وكذلك لو كان لنا شيء من الأمر الذي تَعِدُون به أيها المسلمون وتَدَّعُونه أنَّ الأمر كله لله تعالى حيث يُعطيكم النصر لَمَا غُلِبْنَا!!.. وفي هذا أيضا – كما في قولهم الأول "هل لنا مِن الأمر مِن شيء" – مزيدٌ من التشكيك في نصر الله وعوْنه وتقديره للأمور لحِكَمٍ يعلمها وفي صِدْق الإسلام أنه سيَنتشر وسيَنتصر والتشكيك في القيادة بإظهار خطأ آرائها لنشر الضعف والهزيمة بين المسلمين.. ".. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُؤَكِّداً لهم ما سَبَقَ وقُلْته لهم إنَّ الأمر كله لله وليس إليهم ولا لأيِّ أحدٍ لو كنتم فى منازلكم في أكثر الأماكن أماناً لَخَرَجَ الذين قَدَّرَ الله عليهم الموت إلي أماكن قتلهم فالآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المحتوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. ".. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ وحَدَثَ ما حَدَث مِن غَمٍّ لكم لكي يَخْتَبِر الله ما في صدوركم فتخرجوا بهذا الاختبار مستفيدين استفادات كثيرة ولكي يُمَحِّص ما في قلوبكم أيْ يُخَلّصها ويُنَقّيها من كلّ سوءٍ إذ تُراجِعون ذواتكم وتَتَخَلّصون من عيوبكم وتُصَحِّحُون أخطاءكم فتَصلحون وتَكملون وتَرْقون وتَقْوون وتسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (140)، (141) من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)"، ثم مراجعة الآية (152) منها ".. ليبتليكم.."، والآية (153) منها أيضا ".. لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ..").. هذا، واستخدام لفظ "قلوبكم" يُفيد معني عقولكم وأفكاركم ولفظ "صدوركم" أَعَمّ منه حيث يُفيد معني العقول والأفكار أيضا مع إضافة أخلاقكم ومشاعركم كالغضب والاضطراب وغيره، وكلٌّ من اللفظيْن يُؤَكّد الآخر من أجل مزيدٍ من التأكيد علي التطهير والرُّقِيّ الكامل للإنسان بالاختبار إذا أحسنَ التعامُل معه والاستفادة منه.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)" أيْ وهو لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العلنية والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)" أيْ بيانٌ للسبب في عدم اكتمال النصر يوم غزوة أحد رغم حُدُوثه في بدايتها – وفي أيِّ هزيمةٍ للمسلم في أيِّ معركةٍ في أيِّ شأنٍ من شئون حياته سواء أكانت هزيمة فكرية أم علمية أم اقتصادية أم عسكرية أم غيرها – وهو ذنوبه أي شروره ومَفاسده وأضراره التي يرتكبها، فكلما ازدادت ذنوبه كلما ازدادت هزائمه وخسائره وتعاساته الدنيوية والأخروية.. وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ وإرشادٌ لكل مسلم ألاّ يَسْتَسْهِل أبداً فِعْل الشّرّ القليل الخفيف ومن باب أَوْلَيَ قطعاً الكبير، إذ شرّ صغير بجانب آخر صغير يصبح بالقطع شرَّاً كبيراً، ويصبح ثغرة في التفكير الخَيْرِيّ بالعقل بما يُهَدِّد باحتمالية الوقوع في شرٍّ أكبر يوماً مَا وعند حَدَثٍ مَا فيكون الضرَر حينئذٍ كبيرا والتعاسة كبيرة في الداريْن، وما ذلك إلا بسبب كثرة الاعتياد علي الشرّ القليل، لأنَّ الاعتياد علي فِعْل الشرّ يُضعف إرادة العقل وهي التي تمنع من الوقوع فيه فتصبح إرادته مع الوقت تدريجيا ضعيفة مُستعدة للوقوع في أيِّ شرٍّ آخر مستقبلا بينما لو قاوَمَته وامْتَنَعَت عنه وفَعَلَت الخير دائما من خلال عملها بأخلاق إسلامها كانت قوية علي الدوام يصعب وقوعها غالبا في الشرّ ويُعينها ربها علي ذلك حتماً.. أيْ إنَّ الذين فَرُّوا منكم أيها المسلمون في غزوة أحد يوم التقي الجَمْعان أيْ جَمْع المسلمين وجمع أعدائهم إنما أوقعهم الشيطان في هذا الزَّلَل أيْ الخطأ بسبب بعض ما عملوا من ذنوبٍ سابقا.. هذا، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل.. ".. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)" أيْ ولقد سامَحَهم الله لَمَّا تابوا ومَحَا عنهم آثار ذنوبهم المُتْعِسَة في الداريْن، وأحْياهم في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الحليم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تكونوا أبداً مثل الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وبأنَّ الأمر كله له وليس إليهم ولا لأيِّ أحدٍ كأمرِ النصر أو الهزيمة أو أيّ شيءٍ أو أيّ حَدَث حيث كله بيَدِه تعالي الخالق الحكيم المُدَبِّر القادر علي كل شيءٍ إذ هو الذي يُدَبِّر كل شئون خَلْقه علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُحقّق مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم، وهم ليس عليهم إلا إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُسْتَطَاعَة، لكنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها متروك له وحده سبحانه، فقد يُحَقّق أمرا بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون أي يعتمدون عليه تمام الاعتماد ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الصبر علي اختبارٍ أو ضررٍ مَا له فوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ الذين كفروا كذّبوا أيضا بأنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنهم يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. إنهم يَأسون أيْ يَحزنون علي ما فاتهم ولِمَا أصابهم حُزْنَاً شديداً يُقْعِدهم عن مُوَاصَلَة حياتهم بصورةٍ طبيعيةٍ فهم يتخبَّطون في الخوف والقَلَق إذا أصابتهم أيّ مصيبة ويخافون دوْماً مِمَّا قد يَحدث في المستقبل لأنهم لا يَستندون للقويّ المَتين المُعين مالِك المُلك القادر علي كل شيء لأنهم لا يؤمنون به أصلا.. ولذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره فهم يقولون بخوفٍ وجُبْنٍ وحَسْرَةٍ ونَدَمٍ لإخوانهم الأحياء في شأنِ مَن فَقَدوهم مِن إخوانهم في الكفر ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين إذا ضربوا في الأرض أيْ انتقلوا فيها للتجارة والعمل والعلم ونحوه فماتوا أو كانوا غُزَّاً أيْ غُزَاة في معارك فقُتِلُوا لو كانوا مُقِيمين عندنا في مكاننا وما فارقونا وبَقوا مُلازِمِين بيوتهم ولم يخرجوا ولم يقاتلوا ما ماتوا وما قتلوا!!.. إنهم يَقصدون أيضا نشر فَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بين المسلمين لتَثْبِيط وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم وعن السعى فى الأرض من أجل طَلَب الرزق الذى أحلّه الله تعالي لخَلْقه فلا يتفوَّقون عليهم.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين كفروا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المخالفة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ.." أيْ لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك القول الذي يقولونه والعمل الذي يعملونه حسرة أيْ نَدَمَاً وحُزْنَاً وألَمَاً وهَمَّاً وتَعَبَاً شديداً مُتَكَرِّرَاً في قلوبهم أيْ عقولهم ومشاعرهم هُمْ وحدهم ويحفظ منها عقولكم أنتم.. لقد جعل الله ذلك القول منهم والعمل به يزيدهم حسرة في قلوبهم ولا يُخَفّفها عنهم لأنهم يكفرون به سبحانه ولا يطلبون عوْنه لأنَّ الإنسان إذا لم يصبر وينشغل عن هَمِّه بما يُفيد ويستعن بربه ليُخَفّفه عنه ويَظلّ يتذكّر ألمه دوْماً يزداد هَمَّاً علي هَمٍّ وحسرة وألما ونَدَمَاً وضعفاً كما يُثبت الواقع ذلك، ثم هُمْ أيضا كانوا يَتَوَقّعون ويَتَوَهَّمون كنتيجة لأقوالهم وأفعالهم هذه نفع أنفسهم وإضرار المسلمين فلَمَّا رأوا فَشَل ذواتهم ورأوهم لا يلتفتون إليها وظلّوا متمسّكين عاملين بإسلامهم ازدادت حسرتهم، وكل ذلك في دنياهم، ثم سيَنتظرهم حتماً حسرة أشدّ وأتمّ وأخلد وأتعس في أخراهم لمَّا يروا عذابهم ويروا نعيم المسلمين الذي لا يُوصَف من فضل الله وكرمه عليهم.. ".. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ.." أيْ والله سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، وإنْ كانت مُسَافِرَة أو غَازِيَة أو مُتَحَرِّكَة، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها وإنْ كانت مُقِيمَة ساكِنَة، فلا يَمنع عن الموت قعود، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مما يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وانطلقوا بكل هِمَّةٍ واستبشارٍ للدفاع عن إسلامكم بكل صور الدفاع ضدّ المعتدين وللسعى فى طَلَب رزق ربكم الحلال بإحسانِ اتّخاذ أسبابِ ذلك لِتَتِمّ سعادتكم فيهما حيث الإقدام بحَذَرٍ وبحُسْنِ أسبابٍ لن يُقَصِّر عُمْرَاً والجُبْن والتخاذل لن يُطيله!.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَراكم ومُطّلِع على كل أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير والإرشاد والتحفيز والتشجيع للمسلمين – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره – ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين كفروا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المخالفة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. أيْ وإذا قُتِلْتُم أيها المسلمون شهداء في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وذلك بأنْ قَتَلَكم قاتِلٌ مُعْتَدٍ في ساحة قتالٍ ضدّ مُعتدين عليكم فاسْتشهدتم وأنتم تُدافعون عن الخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء في أيِّ مكانٍ، فستكونون ساعتها من الأحياء عند ربكم تُرْزَقُون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا، كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا بقوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران:169) (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال وأسبابه وفوائده وسعاداته).. وإنْ مُتّم بدون قَتْلٍ ميتة طبيعية بنهاية أجلكم أثناء هذا القتال أو عموما في أيِّ شأنٍ من شئون حياتكم، أيضا في سبيل الله، أيْ في سبيل أيِّ خيرٍ وحقّ، ما دامَت نواياكم بعقولكم أثناء كل أقوالكم وأفعالكم أنكم تقولونها وتفعلونها طَلَبَاً لحب الله ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في دنياكم ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في أخراكم، إذ هو تعالي الذي طَلَبَ منكم ذلك ويحبه، لأنه ما خَلَقَ الخَلْق أصلا وما أنزل عليهم الإسلام ليُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها وكل لحظاتها إلا ليسعدوا بها تمام السعادة ثم بآخرتهم، فإنْ مُتّم علي هذه الحالة، فاسعدوا وأبشروا عظيم البشارة أنكم قد مُتّم في سبيل الله، وثوابكم عظيم جدا يُقارِب ثواب الشهيد أو قد يُساويه من عظيم فضل الله وكرمه ومغفرته ورحمته والذي هو حتما لا يُقارن بكل ما جَمَعَه الناس – وأنتم – في كل دنياهم.. فمَن مات مثلا وهو يدعو إلي خيرٍ مَا، أو يتعلّم علما مَا أو يُعَلّمه، أو يُنتج مُنْتَجَاً مَا نافعاً مفيداً لعموم الخَلْق، أو يعمل عملاً طيباً ليكسب ويربح قُوُتَه ومَن يَعُول، أو ما شابه هذا من كل أنواع الخيرات في كل مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والفكرية والفنية والرياضية وغيرها، فالموت أثناء أيٍّ من ذلك هو موت في سبيل الله.. إنكم لئن قُتِلْتُم في سبيل الله أو مُتّم لَنِلْتُم حتماً بكل تأكيدٍ مغفرة من الله تعالى لكلّ ذنوبكم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها ولفُزْتُم برحمته الواسعة الغامِرَة التى تُسعدكم وتُؤَمّنكم تمام السعادة والأمن في جناتٍ فيها من النعيم الخالد التامّ المُسْعِد الذي هو بلا حسابٍ مَا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بشر، وهذا بالقطع بلا أيِّ مُقَارَنَة خيرٌ مِمَّا يجمعون هؤلاء الناس ومِمَّا تجمعون أنتم أيضا من كل نِعَم الدنيا طوال العُمْر
ومعني "وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)" أيْ ولئن مُتّم أيها الناس وأيها المسلمون وأنتم فى بيوتكم أو فى أىِّ مكانٍ أو قُتِلْتُم بأيدى أعدائكم وأنتم تجاهدون فى سبيل الله فعلى أىِّ وجهٍ من الوجوه كان موتكم فإنكم حتما إلي الله وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحشر أيْ يوم القيامة حين يبعثكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم حيث يُثاب أهل الخير بكل خير وسعادة وأهل الشرّ بكل شرٍّ وتعاسة بما يستحِقّون بكل عدل، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد للقائه تعالي بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فليس لأيِّ أحدٍ قطعاً بقاءٌ في الدنيا سواء سافَرَ أم جاهَدَ أم قَعَدَ في بيته، فلا تَفِرُّوا من الجهاد ولا من حُسْن الانطلاق في الحياة بحُسْنِ أسبابٍ لإسعاد أنفسكم وغيركم تَجَنّبَاً للموت فإنه قادمٌ حتماً علي أيِّ صورةٍ فأَحْسِنُوا إذَن خاتمتكم بأنْ تجتهدوا أنْ تكونوا دائما في خيرٍ حتي تموتوا عليه فإنَّ العاقل هو مَن يفعل ذلك والسَّفيه مَن لا يفعله، وبما أنَّ الموت بأيِّ شَكْلٍ هو النهاية الحَتْمِيَّة للحياة الدنيا والحَشْر هو النهاية الحَتْمِيَّة للموت أو الشهادة في سبيل الله فمَن استطاع أن يذهب إليه شهيداً فلْيَفعل لينال أعظم وأعلي الدرجات
ومعني "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)" أيْ فبسبب رحمةٍ عظيمةٍ من الله لكم أيها المسلمون رَقَقْتَ لهم ورَفَقْتَ بهم وكنتَ سَهْلَاً معهم يارسولنا الكريم ولم تُشَدِّد عليهم في القول والعمل رغم خطئهم الشديد ومُخَالَفاتهم في غزوة أُحُد مِمَّا أدَّيَ لعدم اكتمال النصر رغم حُدُوثه في أوَّلها، وذلك حينما رأيتَ ما أصابهم من أضرار وأحزان تابوا منها وندموا عليها، حيث تعامَلْتَ معهم كقائدٍ حكيمٍ بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ إذ لم تُكْثِر مِن لَوْمِهم لأنَّ كثرة اللّوْم والتأنيب قد تولد اليأس والضعف والانهزام وإنما أخذتم العِبْرَة مِمَّا حَدَث لتستفيدوا منه مستقبلاً فتُصَحِّحوا أخطاءكم ولا تُكَرِّروها لِتَقْووا وتَرْقوا وتَسعدوا في الداريْن.. ولقد شكَرَ الله تعالى لرسوله الكريم وامتدحَ ذلك اللّيِن الذي كان العلاج الشافي المُناسِب لحالهم ليَتَشَبَّه به كل مسلم، فالشدّة فى غير موضعها تُفَرِّق ولا تُجَمِّع وتُضْعِف ولا تُقَوِّى وتَضرّ ولا تنفع وتُتْعِس ولا تُسْعِد، ولذا قال تعالى ".. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.." أيْ ولو كنتَ سَيِّءَ الخُلُق شَرِسَاً خَشِنَاً قاسِيَ العقل والمشاعر في أقوالك وأفعالك لانْصَرَفَ ولَتَفَرَّقَ ولَنَفَرَ الناس مِن حولك ولَمَا استطعت أن تدعوهم للإسلام بل سيَكرهونه وقد يَتركونه فلا ينتشر بينهم وتَخسرون سعاداته الدنيوية والأخروية لأنهم يحتاجون لمَن يُحَبِّبهم في ربهم وإسلامهم ويُقَرِّبهم إليهما بكل حبٍّ واحتواءٍ وعطاءٍ وتَدَرُّجٍ وصبرٍ وعلاجٍ لتقصيرهم ومشكلاتهم ويكون قُدْوَة حسنة لهم يفعلون مثله في كل شئون حياتهم، لا العكس.. إنك لو كنتَ فَظّاً غليظاً لَخَسِرْتَ ولَتَعِسْتَ بسبب ذلك في دنياك وأخراك.. ولفظ "لو" يُفيد أنه (ص) ليس كذلك حتما، بل هو كامِل الخُلُق.. ".. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.." أيْ فبالتالي إذَن فتَجَاوَز عن خطئهم وسامحهم فلا تُعاقبهم واطلب من الله أن يغفر لهم ذنوبهم أيْ يزيلها كأن لم تكن ويُزيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ويَسْتُرْها ويُخْفيها فلا يُعَذّبهم بفضحهم بها فيهما.. ".. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.." أيْ وحاوِرْهم دوْمَاً ما أمكن في الأمر المُناسِب مُحَاوَرتهم فيه من كل شئون حياتكم وانْتَفِع بخبرات مَن حولك مِن أصحاب الخِبْرَة والتَّخَصُّص لأنَّ هذا التّشَاوُر حتما يُقَوِّي ويُسْعِد المُتشاوِرين المُتحاوِرين المُتبادِلين للخبرات في إطار الحبّ والتآلُف والتآخِي والتسامُح والتصافِي حيث يُصَوِّب آراءهم ويُقَلّل أخطاءهم ويُحَقّق أهدافهم ويُسَهِّل حياتهم.. ".. فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ فإذا أرَدْتَ ونَوَيْتَ وعَقَدْتَ العَزْم بجدِّيَّةٍ بداخل عقلك وصَمَّمْتَ علي تنفيذ أمرٍ مَا بعد حُسْن الاستشارة والدراسة له من خلال المُخْتَصِّين فيه فابدأ بالتنفيذ بلا تَرَدُّد لأنَّ التّرَدُّد يُضيع الأوقات ويُضْعِف الجهود وتَوَكّل علي الله تعالي وحده أثناء كل ذلك أي اعْتَمِد عليه ليُساعدك مباشرة أو مِن خلال جُنْدٍ مِن جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وإيّاك أن تعتمد علي أسبابك وحدها لأنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها مَتْرُوك له وحده تعالي، فقد يُحَقّق أمراً بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون عليه تماما ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال.. إنه حتماً سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة مزيد من الشرح والتفصيل عن معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة).. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)" أيْ إنَّ الله حتماً يحبّ المُعْتَمِدِين عليه في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتوكّلين
إنَّ الآية الكريمة إرشادٌ لكلّ مسلمٍ أن يكون رحيماً لَيِّنَاً هَيِّنَاً سَهْلاً وَدُودَاً رقيقَ الإحساس والمشاعر العقلية عفيف اللسان ينتقي الألفاظ الجيدة يُحسن التصرّف عَفُوَّاً مُتسامِحَاً مُستغفراً لمَن أساء مُتَآلِفًاً مُتًآخِيَاً مُتَشَاوِرَاً مُتَحَاوِرَاً مُنْتَفِعَاً بخبرات مَن حوله مُحْسِنَاً للتخطيط وللإدارة ولاتّخاذ الأسباب المُتَاحَة المُبَاحَة المُمْكِنَة لكل أمرٍ مع العَزْم والحَزْم وقوة الإرادة لتحقيق الأهداف وتقييم الأمور وتصويب الأخطاء ثم مِن قَبْل هذا كله وبعده حُسْن التوكّل علي الله تعالي بدوام التواصُل معه ودعائه وطلب عوْنه وتوفيقه وسداده ورعايته وأمنه.. إنه بمِثْل هذه الصفات وغيرها من كل أخلاق الإسلام، يَتَحَابّ الجميع فيما بينهم ويَتراحمون ويَتآلَفون ويتآخُون ويتسامَحون ويتحاوَرون ويُحسنون إدارة كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ فيَقْوُون ويَزدهرون.. ويحبهم ربهم ويحبونه.. ويكونون ربَّانِيِّين مُنْتَسِبِين له.. وتَسْهُل حياتهم وتَرْقَيَ.. ويَسعدون فيها، ثم ينالون أعظم وأتمّ وأخلد السعادة في آخرتهم
ومعني "إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)" أيْ إنْ يُمْدِدكم ويُؤَيِّدكم الله بنصره وعوْنه، إنْ يُرِدْ أنْ ينصركم أيْ يجعلكم تفوزون، في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة، بسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة، فلا غالِب أيْ فلا هازِم لكم حتماً أيْ فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يهزمكم ويفوز عليكم لأنَّ الله معكم ومَن كان الله معه فلن يغلبه أحدٌ من الخَلْق مهما كان حيث لا تُقارَن أبداً قوة الخالق بالمخلوق ولأنَّ النصر يَحدث بإذنه وحده أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ.." أيْ وإنْ يَترككم ويَتَخَلّيَ عنكم فلم يَهْتَمّ بكم ويُعِنْكم ويُؤَيِّدكم ويَنصركم، بسبب مُخالَفتكم إسلامكم وعدم توكّلكم عليه وإحسان اتّخاذ أسباب النصر، فمَن هذا القويّ المُعِين الذي يَنصركم مِن بعده تعالي ومن بعد خُذْلانه؟! لا أحد قطعاً لأنه لا يوجد أبداً مَن يمتلك قُدْرَة تَقِف أمام قُدْرته وإرادته سبحانه، فلا ناصر لكم غيره بكل تأكيد.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)" أيْ وبالتالي، ولذلك، على الله وحده لا على غيره، فَلْيَجعل المؤمنون تَوَكّلهم أيْ اعتمادهم عليه (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني التوكّل مراجعة الآية السابقة)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)" أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنبي كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم أن يَغُلّ أيْ أن يَسرق من الغنائم قبل تقسيمها علي الجميع، والغنائم هي المُكْتَسَبَات التي يَكتسبها المسلمون بعد انتصارهم علي عدوهم في معركةٍ مَا من أجل الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء وكلّ مظلومٍ في أيَّ مكان.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مسلم مُتَمَسِّكٍ عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه لا يمكن أبداً أن يَخُونَ الأمانة ويَفعل مِثْل هذا الفِعْل السَّيِّءِ الرَّدِيء فهل من المُمْكِن أن يفعله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. إنَّ هذا تَبْرِئَة من الله تعالي لأنبيائه حيث كان يَدَّعِي بعض المُكَذّبين المُعانِدِين المُستكبرين علي بعضهم ذلك، وكذلك هو تَنْزيهٌ أيْ إبعادٌ لهم أن يَغُلّوا بمعني أن يَخُونوا بأنْ يَتركوا أو يُخْفوا بعض ما أَنْزَلَ الله إليهم من تشريعاتِ وأخلاقِيَّاتِ الإسلام فلا يُبَلّغوه للناس.. ".. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وأيّ أحدٍ يَسرق من الغنائم أو يَخُون أيَّ أمانةٍ فلا يَرُدّها لأصحابها أو يَغْدر ويأخذ ما ليس له من مَكاسِب عامة لعموم المسلمين أو حتي يخْفِي خُلُقَاً من أخلاق الإسلام، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، يحضر يوم القيامة بإثمِ ما خانَ فيه، يحضر ومعه ما غَلّه حامِلاً إيّاه ليكون فضيحة له ويُعَاقَب عليه بما يُناسب.. ".. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)" أيْ ثم تُعْطَيَ حتماً كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يبحثون دوْماً عمَّا يحبه الله تعالي ويرضاه فيفعلونه ويواظبون عليه، وعمَّا يكرهه ويَسخط ويغضب منه فلا يفعلونه ولا يقتربون منه أصلا، أيْ كنتَ من الذين يفعلون كل خيرٍ من خلال تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم، فهذا هو ما يحبه ويرضاه سبحانه وبالتالي يُثيب أيْ يُعْطِي عليه كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، ويتركون كل شرّ وهو ما يُغضبه ويُعاقِب عليه بما يُناسب من شرّ وتعاسة فيهما
هذا، ومعني "أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)" أيْ هل مَن سَعَيَ في طَلَب رضا الله تعالي – أيْ حُبّه وقبول أعماله وتوفيقه وتيسيره ورعايته وأمْنه وقوّته ونصره وعطاءه – بتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، يكون مِثْل مَن انْصَرَفَ ورَجَعَ مُحَمَّلاً بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً له فلا يُحِبّه ولا يُوفّقه ولا يُيَسِّر له أموره بسبب فِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات؟! كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! فالأول حياته كلها خير في خيرٍ وسعادة في سعادةٍ ثم له في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. بينما الآخر حياته الدنيا كلها قَلَق أو توتّر أو ضيق أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلها ألم وكآبة وتعاسة بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور ثم له حتما في آخرته ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم كما بَيَّنَ تعالي ".. وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)" أيْ ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
ومعني "هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)" أيْ الناس، المُحْسِنُون منهم الذين يَتّبعون رضوان الله، والمُسِيئُون الذين يَبُوُءُوُنَ بسَخَطٍ من الله، درجاتٌ أيْ مَرَاتِب ومنازِل مختلفة، عند الله تعالي أيْ في عِلْمه وفي حسابه يوم القيامة، بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذَرَّة ظلم، درجاتٌ في دنياهم وأخراهم، فالمُحسنون في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب قُرْبهم منه وتوفيقه وتيسيره لهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وكلما ازدادوا قُرْبَاً وعملاً كلما ارتفعت درجات سعاداتهم – ولو ابتعدوا وتركوا دينهم قَلّت وتَعِسُوا بمِقْدار بُعْدهم عنه وتَرْكهم له – ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، والمُسِيئون في المُقابِل لهم في الداريْن كل شرّ وتعاسة بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم حيث هم في دار الدنيا بكل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كل ألم وكآبة وتعاسة بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور ثم لهم حتما في الدار الآخرة نار فيها ما هو أشدّ ألما وعذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم.. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)" أيْ والله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بعدله بما يستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة.. فليجتهد العاقل إذَن في رفع درجاته بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)" أيْ هذا تذكيرٌ للمؤمنين بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة القرآن والإسلام الذي أرسله إليهم بوحيه لرسوله الكريم محمد (ص) ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. أمَّا غير المؤمنين فلا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ لقد مَنَّ أيْ تَفَضَّلَ وأنْعَمَ الله بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي المؤمنين حين أرسل فيهم والناس جميعا رسولا أيْ مَبْعُوثَاً يكون منهم يعرفونه فيُصَدِّقونه ويَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه، يقرأ عليهم ويُبَلّغهم آياته ويُذَكِّرهم دوْمَاً بها، وآياته هي دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَيُزَكِّيهِمْ.." أيْ ويُطَهِّرهم من كل المُعتقدات والأخلاق الفاسدة المُضِرَّة المُتْعِسَة في الداريْن، ومن كل ما يَضُرّ أجسادهم ويُؤذيها ويُتعسها، بأنْ يُرَبِّيهم علي العمل بكل أخلاق الإسلام فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيسعدون، والتَزْكِيَة هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات.. ".. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.." أيْ ويُعَلّمهم الكتاب الذي أوْحَاه إليه وهو القرآن العظيم بأنْ يُبَيِّن لهم معانيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتهم ليسعدوا بها، ويُعَلّمهم كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ".. وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)" أيْ وإنَّ الناس كانوا قبل هذا البَعْث للرسل الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص) ومعهم الإسلام في كُتُبهم التي أُوُحِيَت إليهم وآخرها القرآن الكريم بكل تأكيدٍ في ضياعٍ واضحٍ حيث نَسوا مع الوقت ما تَرَكهم عليه أبوهم آدم من عبادة الله وحده ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم سواء أكانت كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْراً للشرّ أم ما شابه هذا
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون تصويب أخطائهم، فيبدأون بذواتهم لأنَّ معظم الأخطاء تبدأ من الذات كما نَبَّهنا لذلك ربنا وحَذّرنا بقوله تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فهذا هو قانون الحياة، القانون الإلاهِيّ العادل، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَع حَصَد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مؤمنا! ولا يُعَلّقون أخطاءهم دائما علي غيرهم هَرَبَاً مِن تَحَمُّل المسئولية، فمِثْل هؤلاء لن يَصِلُوا لحلولٍ لمشكلاتهم وستَظل عيوبهم وأخطاؤهم مستمرّة حتي يبدأوا بتغيير ذواتهم بالاعتراف أولا بوجود خطأٍ مَا، ثم حُسن تشخيص أسبابه بكل صِدْقٍ ووضوحٍ ودِقّة، ثم تحديد صور العلاج المُمْكِنَة مع مشاورة أهل الخبرة والتّخَصُّص في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، ثم وضع الخطط ومراحل التنفيذ، ثم البدء بالخطوات العملية، كلٌّ في تَخَصُّصه، مع حُسن الإدارة وتوزيع الأعمال وتقييم الأمور والإمكانات، ومِن قبل كل ذلك وبَعْده حُسن التواصُل مع الله تعالي وطَلَب رعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده وحبه ورضاه ورزقه وسعادته في الداريْن.. فإنْ لم تجد خطأ منك بعد بحثٍ صادقٍ ودقيق، فاحمد الله، وابحث فيمَن حولك حينئذٍ، فأحيانا أو كثيرا قد يكون الخطأ عندهم، فاشتركوا معاً في تصويبه بالأسباب التي سَبَقَ ذِكْر بعضها.. فإنْ لم تجد خطأ لا منك ولا من غيرك، وهذا أمر قليل أو نادر الحُدُوث، فاعلم وتأكّد أنَّ الأمر حينئذٍ ربَّانِيّ، أيْ مِن الله تعالي كاختبارٍ منه لك ولهم، ولا بُدَّ سيحمل لكم خيرا كثيرا سيَظْهَر حتي ولو بعد حين، فهو سبحانه علي كل شيء قدير، فلا تُسِيء الظنّ به، فهو قادر علي ألاّ يُوقِع ذلك بكم أصلا ولكنه أراد لكم المصلحة والسعادة وسترون صِدْق هذا حتماً حالاً أو مستقبلاً (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة تفسير الآية (143) ثم الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة، ثم الآيات (152)، (153)، (154) من سورة آل عمران)
هذا، ومعني "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)" أيْ هل حينما تُصيبكم مصيبة مَا تقولون مُتَعَجِّبين كيف يكون هذا ونحن مسلمون ومعنا ربنا يرعانا ويحفظنا ويُعيننا ويَنصرنا؟! والاستفهام والسؤال هو للإنكار عليهم أن يقولوا هذا وللتَّعَجُّب منه إذ كان علي أمثالهم أن يُدركوا بعقولهم سبب ما حَدَث.. ".. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لكي تُزيلوا تَعَجّبكم واسْتِغَرابكم وتَعرفوا السبب الحقيقي لِمَا حَدَث، هو بسبب أنفسكم، هو من عندكم لا من عند غيركم، بسبب مُخالفتكم لأخلاق إسلامكم، فرَاجِعُوا أخطاءكم وصَحِّحُوها بأنْ تعودوا لربكم ولدينكم، فمعظم الأخطاء تبدأ من ذواتكم كما نَبَّهنا لذلك ربنا وحَذّرنا بقوله تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فهذا هو قانون الحياة، القانون الإلاهِيّ العادل، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَع حَصَد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مؤمنا!.. هذا، ومعني ".. قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا.." هو تذكرة لهم بما حَدَث في غزوتَيّ بدرٍ وأُحُدٍ لتكون المُقَارَنَة واضحة ليستفيدوا استفاداتٍ كثيرة حيث بمصيبة غزوة أُحُدٍ حين خالَفتم أخلاق الإسلام بأنْ تنازعتم فيما بينكم لم يكتمل النصر الذي كان في بدايتها وقُتِلَ منكم يومها سبعون رجلا بينما في غزوة بدرٍ حيث أطعتم فقد أصبتم مِثْلَيْها أيْ ضعف هذه المُصيبة والحَصِيلَة أيْ قَتَلتم من أعدائكم سبعين رجلا مع إضافة أسْر سبعين آخرين، بفضل الله وكَرَمه وعَوْنه ونَصْره.. وفي هذا أيضا تسلية لهم وتخفيفٌ عنهم مِمَّا أصابهم يوم أُحُدٍ فإنْ كانوا أصابوا منكم حينها فأنتم قد أصبتم منهم الضعف في بدر فلا تَحزنوا ولكن صَوِّبُوا حالكم وعُودوا لاتّخاذ أسباب النصر وأهمها تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم وحُسن استعدادكم لِمَا تُقْدِمُون عليه مِن عملٍ حتي تكونوا دائما مُؤَهَّلِين للنصر فتُنْصَرُوا.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)" أيْ إنَّ الله حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء، فهو يَقْدِر على النصر ومَنْعِه
ومعني "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)" أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ وما حَدَثَ لكم من إصاباتٍ كجروحٍ وآلامٍ لبعضكم واستشهادٍ لآخرين ونحو ذلك أيها المسلمون يوم غزوة أُحُد حين تَقَابَل جَمْعُكم وتَجَمُّع أعدائكم فهو بإذن الله أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ولا رَادَّ لمُرَادِه.. لكي تخرجوا من ذلك مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة، لكي تُصَحِّحُوا أخطاءكم فتسعدوا في الداريْن (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة أيضا الآية (51) من سورة التوبة "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، ثم مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن فوائد الصبر وسعاداته في الدنيا والآخرة لمن يصبر علي اختبارٍ أو ضَرَرٍ ما أصابه، ثم مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..").. ".. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)" أيْ وكذلك لكي يَعلمَ الله المؤمنين، وهذا من باب التمثيل والتشبيه للتقريب للأذهان أيْ فَعَلْنا فِعْل مَن يُريد أن يعلم لأنه سبحانه عالمٌ بكلّ شيءٍ قَبْل حُدُوثه حتماً، والمقصود أنه بمِثْل هذه الأحداث والاختبارات ستَزدادون استفاداتٍ حيث سيَعْلم الله أيْ ستَعْلمون وسيُعْلِمكم وسيُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظْهِر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!
ومعني "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)" أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره وهي لكي يَعلم الله الذين نافقوا، كما يَعلم المؤمنين (برجاء مراجعة الآية السابقة لمعرفة كيف يعلم الله المؤمنين)، أيْ لكي يُظْهِر نفاق الذين نافقوا، أيْ لكي تَعلموا المنافقين، وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، سواء أكان هذا الشَّرّ المَخْفِيّ كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا بإظهار خيرٍ وإخفاء شَرٍّ رغم أنهم مسلمون أم ما شابه هذا، وهم الذين ظَهَروا وانكشفوا عندما قلتم لهم يوم غزوة أحد حينما لم يقاتلوا معكم تعالوا قاتلوا معنا في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، أو ادْفَعُوا أيْ إنْ لم تقاتلوا في سبيل الله وطَلَبَاً لثوابه وخيره في الداريْن فعَلَيَ الأقلّ ادفعوا عارَ ومرارةَ وألمَ وتعاسة الهزيمة بالقتال دفاعاً عن أنفسكم وأهلكم وأوطانكم وممتلكاتكم.. ".. قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ.." أيْ قالوا كاذبين لتَبْرير جُبْنهم وخوفهم من القتال ولنشر الفتنة بين المسلمين بمحاولة زعزعتهم وإضعافهم ومنع أكبر عددٍ مُمْكِنٍ منهم من مشاركتهم في دفاعهم عن إسلامهم والمسلمين واستهزاءً باستعداداتهم للقتال لو كنا نعلم أن قتالاً سيَتِمّ بالفِعْل بينكم وبينهم لسِرْنا خلفكم وذهبنا معكم، وهم كَذَبَة في هذا لأنهم قد علموا وتأكّدوا أنه من المستحيل أنَّ الأعداء قد حضروا بكل هذه التجهيزات مُمتلئين بالانتقام لهزيمتهم في غزوة بدر ثم يعودون بلا قتال!.. وكذلك لو كنا نُحْسِن قتالاً لاتّبعناكم، وكَذَبُوا أيضا لأنهم مُقاتلون يُقاتلون للقبيلة والعصبية.. ولكنهم يَتَوَهَّمون أنَّ هذا العُذْر السَّفِيه يُخْفِي نفاقهم وضعفهم ولعل بعض المسلمين ينخدعون به ويستجيبون لهم فيتراجعون مثلهم عن قتال أعدائهم فينهزم الإسلام والمسلمون.. ".. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ.." أيْ هذا فَضْحٌ من الله وكشفٌ لهم وتأكيدٌ لكذبهم وإظهارٌ لنفاقهم ليعلمهم المسلمون فيتجنّبوهم ويحتاطوا منهم ويُعاملوهم بما يُناسب ولا يتشبّهون مطلقا بهم حتي يسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما مِثْلهم.. أيْ هم بتَصَرُّفهم هذا يومها وحينها بخُذْلانهم للإسلام والمسلمين وجُبْنهم وكذبهم وخداعهم وإخفائهم للشرّ ونحو ذلك مِمَّا قالوه وفعلوه أظهروا وكشفوا عن أنفسهم أنهم أقرب لتصرّفات وأقوال وأفعال أهل الكفر من تصرّفات أهل الإيمان، وأنهم أقرب للكافرين ونَصْرِهم مِن قُرْبِهم للمؤمنين ونَصْرِهم لأنَّ تقليل عدد المؤمنين بعدم الاشتراك معهم في القتال ومحاولة نشر الفِتَن بينهم وزعزعتهم وإضعافهم كأنه بالفِعْل تقوية غير مباشرة للكافرين.. ".. يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.." أيْ ومن الصفات السيئة الدنيئة لهؤلاء المنافقين والتي عليكم أيها المسلمون ألاّ تَتَشَبَّهوا بها أبداً أنهم كاذبون في هذا الموقف وغيره يُظْهِرون خيراً ويُخفون شَرَّاً وما يقولونه مِن خيرٍ هو ظاهريّ ومجرّد كلام بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه ويعملون به.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)" أيْ والله حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بما يُخْفِي أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بدواخلهم من شرور، وقد كشف لكم أحوالهم لكى تحذروهم وتعاملوهم بما يناسب، لأنه عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس جميعا وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، وسيُجازِي حتماً بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)" أيْ هؤلاء المنافقون هم كذلك – إضافة لكل الصفات السيئة التي سَبَقَ ذِكْرها – الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أمثالهم وقَعَدوا مُمْتَنِعِين خائفين عن قتال أعداء الله والمسلمين فبَقوا أحياء لو أطاعونا هؤلاء الذين قاتلوا فقُتِلُوا وقَعَدُوا كما قَعَدْنا لنَجَوا من القتل كما نَجَونا!!.. إنهم لم يكتفوا بمحاولاتهم قبل القتال لزرع الفتن والخلافات والتشكيكات بين المسلمين لإضعافهم ومَنْعهم عن مقاتلة أعدائهم إذا اعتدوا عليهم بالقتال بل أيضا بعد انتهاء قتالهم يقومون بتأنيبهم علي دفاعهم عن إسلامهم وبلادهم وممتلكاتهم وحقوقهم كما يطلب منهم ربهم ودينهم!! وذلك لنشر جُبْنِهم وفَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بينهم لتَثْبِيطهم وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم بل وعن اتّباعه والعمل به بنشر أنه بطاعتهم للإسلام يَخسرون ويَنهزمون ويُقْتَلون وأنَّ الله يَتَخَلّي عن نُصرتهم وأنَّ الجُبْن والقُعُود هو عين الحِكْمة والعقل والمَنفعة والسعادة وأنَّ الإقدام تَهَوُّر ومَضَرَّة وتعاسة!! .. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين نافقوا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المُخَالِفَة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء السفهاء بما يُخْرِس ألسنتهم ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم فادْفعوا عن أنفسكم ورُدُّوا وامْنَعوا الموت عند حُدُوثه والذي يأتي حتماً لكلّ أحدٍ انتهي أجله كما ترون واقعيا وسيأتيكم من ربكم في موعده أينما كنتم فامنعوه عنكم إذَن فأنتم أوْلَيَ من غيركم! إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنَّ الحَذَر يمنع من القَدَر وأنكم تَقْدِرُون علي دَفْع القتل عمَّن كُتِبَ عليه ولو أطاعوكم ما قُتِلُوا وأنكم قد نجوتم منه بقعودكم عن القتال! ولا شك أنهم لن يستطيعوا دَفْعه فبالتالي ثَبَت كذبهم وافتراؤهم.. إنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت بأيِّ سببٍ إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنهم يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (156) من سورة آل عمران "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ")
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْمَاً مِن المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامك المُستعِدّين للدفاع عنها دائما لأنها مصدر سعادتك في حياتك وبدونها تَشْقَيَ وتَتْعَس ولا معني لها، المستعدين دائما للبذل والعطاء في سبيلها أفضل وقتٍ وقولٍ وعملٍ وفكرٍ وجهدٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وتواصُلٍ مع الآخرين ونحو ذلك من صور الجهاد وبذل الجهد في سبيل الله وفي سبيل المحافظة عليها ونشرها ودعوة الغَيْر لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فمَن ماتَ أثناء هذا فله درجة من درجات الشهداء، ومَن سَأَلَ ربه الشهادة في سبيل ذلك صادقا أيْ مُتَّخِذَاً ما أمكنه من أسبابها فسيَنالها وإنْ مات علي فراشه كما وَعَدَ الصادق الأمين رسولنا الكريم (ص)، ومَن دَفَعَ دَمَه وروحه بالفِعْل دفاعاً عنها عند الاعتداء عليها فهو شهيدٌ حيٌّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّيِن مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والصالحين
هذا، ومعني "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)" أيْ هذا تشريفٌ وتكريمٌ وتعظيمٌ للشهداء في الدنيا قبل الآخرة وتشجيعٌ لكل مسلم أن يكون قويا شجاعا مِقْدَامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمه وروحه وكل ما يملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامه والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينال العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف.. أيْ ولا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ الذين قُتِلُوا في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة حيث كانوا يَنشرونه بكل قُدْوة وحكمة وموعظة حسنة ويدافعون عنه بما استطاعوا بكل الوسائل المُمْكِنَة حتي قُتِلوا من أجل إعلاء كلمة الله ونُصْرة الإسلام والمسلمين، لا تَحْسَبَنَّ أبداً أمثال هؤلاء أمواتاً مثل أيّ مَيِّتٍ قد مات بمعنى أنهم قد تَلِفَت نفوسهم وانقطعت عنهم النِّعَم وأصبحوا كالجمادات وتحزن علي فقدانهم لحياتهم وفراقهم كما يُفْهَم من معنى المَيِّت فهم لم يخسروا الحياة المحبوبة لكل البَشَر بل حَصَلَ لهم وانتقلوا لحياةٍ أعظم وأكمل سعادة مِمَّا تَحسبون لأنهم وإن فَقَدوا حياتهم ظاهريا أمامكم لكنهم واقعيا أحياء عند ربهم الكريم الرحيم الرزّاق الوهّاب يُرْزَقون ويَتَنَعّمون ويَسعدون بأعظم أنواع النعيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولذا فهم شهداء يَشهدون تمام الخير والسعادة لا أموات، ولكن لا تشعر أنت أيها الحَيّ بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا ولا تُدْركها لأنها حياة لا يعلمها إلاّ علّام الغيوب سبحانه
ومعني "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)" أيْ هم في حالٍ مَسرورين سَعيدين بعد استشهادهم وانتقالهم من الدنيا للآخرة بما أعطاهم الله من أرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ في جناتٍ خالداتٍ بلا نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)" أيْ ولكي تَتِمّ سعادتهم بالكامل هم يفرحون ويسعدون بالبشارة التي ينتظرون تَحَقّقها التي يُبَشّرهم بها ربهم الكريم الرحيم الودود ذو الفضل العظيم بشأن مَن يُحِبّون أن يَطْمَئِنّوا عليهم – لأنَّ مِن فطرة الإنسان أنه تَتِمّ سعادته بسعادة مَن يحبهم وتنقص بنقصانها – من إخوانهم الذين كانوا يجاهدون معهم ولكنهم لم ينالوا الشهادة ولم يلحقوا بَعْدُ بهم من ورائهم وبَعْدهم في الزمن إلي الجنة وهم يَنتظرون مَجيئهم كشهداء لينالوا مِثْلَمَا نالوا لِعِلْمِهم أنهم عاملون بإسلامهم مجاهدون يُحبّون الجهاد والشهادة في سبيل ربهم ومُصَمِّمون علي الاستمرار علي ذلك حتي نهاية حياتهم، وكذلك ينتظرون باستبشارٍ مُسْعِدٍ الذين لم يلحقوا بهم أيْ لم يَموتوا بَعْدُ علي الإسلام مِن إخوانهم في الدين مِن أهلهم وأقاربهم وكل مَن يحبونهم ليلحقوا بهم في درجات الجنات علي حسب أعمالهم، يستبشرون – بهذه البِشَارَة الصادقة من الله لهم والتي حتماً ستَتَحَقّق لأنها وَعْد الله الذي لا يُخْلِف وَعْده مطلقاً ثم بما رأوه حقيقة في الجنة مِن صِدْق ما كان يَعِدهم به خالقهم وقرآنهم وإسلامهم في دنياهم من النعيم الهائل للشهداء بل ولكل مسلم يعمل بأخلاق إسلامه – بأنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهذه البُشْرَيَ بعدم الخوف والحزن هي لهم إذ هم في الجنة بالفِعْل، وكذلك هي لمَن سيَلحقون بهم من المسلمين إذا اسْتُشْهِدُوا أو ماتوا بصورةٍ طبيعيةٍ وهم متمسّكون عاملون بأخلاق إسلامهم حيث هم في كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم قبل استشهادهم أو موتهم بسبب ارتباطهم بربهم وعملهم بإسلامهم ثم سيُبْعَثون أحياء آمنين يوم القيامة في حياةٍ آمنةٍ سعيدةٍ بلا أيِّ خوفٍ مِن أيِّ سوءٍ مُتَوَقّعٍ مُستقبليّ أو أيّ حزنٍ علي فوات أيِّ شيءٍ محبوب، ولذلك فهم مُسْتَبْشِرُون تمام الاستبشار.. هذا، وفي الآية الكريمة توجيهٌ وإرشادٌ وتبشيرٌ لكلّ مسلمٍ لتشجيعه علي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه وأن يحبّ لغيره ما يحب لنفسه من كل خيرٍ وأن يجاهد لنشر دينه والدفاع عنه حتي ولو تَطَلّب الأمر الاستشهاد في سبيل هذا لينال أعلي درجات الجنات في الآخرة مثل مَن سبقوه في ذلك
ومعني "يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنهم في كل نعيمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ وتَبْشِيرٍ دائمٍ بما يَسُرّهم حيث هم في فرحةٍ غامِرَةٍ تامّةٍ بما أُعْطُوا من نِعَم الله وأرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ في جناتٍ خالداتٍ بلا نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهم يستبشرون ويسعدون كذلك من جُمْلَة سعاداتهم بيقينهم واطمئنانهم النفسيّ بجانب الماديّ الذي هم فيه بأنَّ الله لا يمكن أبداً أن يُضيع ويُذهب أجر المؤمنين به سواء أكانوا شهداء أم غير شهداء ولكنْ يُعطيه لهم كاملا علي قَدْر أعمالهم بل وينمِّيه ويزيده من فضله وكرمه ورحمته وحبه لهم، فهم متأكّدون بلا أيِّ شكّ أنَّ كل مؤمنٍ لا يضيع الله أجره مطلقا، لا في دنياه حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَته به وعمله بأخلاق إسلامه، ولا في أخراه حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد
ومعني "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)" أيْ هذا مدحٌ لمَن يَتّصِف من المسلمين بهذه الصفة العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنه تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم.. أيْ إنَّ الله لا يُضيع أجر المؤمنين أبداً الذين مِن صفاتهم أنهم يُلَبُّون ويُطيعون دعوة الله والرسول للعمل بكل أخلاق الإسلام ونَشْره بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء ولو ببذل الدماء والأرواح من أجل ذلك حتي مِن بعد مَا يُصيبهم القَرْح بأيِّ شَكْلٍ ودرجةٍ أيْ الجرْح والألم قَلّ أو كَثُرَ فهم لا يَتَرَاجَعون ولا يَضعفون رغم ما قد يُصيبهم ولكنهم يَستمرّون علي ما هم عليه بكل عَزْمٍ وصبر مُستعينين بربهم ثم بتعاونهم وتَآلُفهم فيما بينهم وإحسان اتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا صابرين مُحْتَسِبِين أجرهم عليه مُنتظرين دَوْمَاً عوْنه وتوفيقه مُستبشرين دائما بنصره وإسعاده.. ".. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)" أيْ للذين أتْقَنُوا وأجَادُوا من أمثال هؤلاء المسلمين في كل أقوالهم وأفعالهم فعملوا بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم واتّقوا الله فيها كلها أيْ خافوه وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، أمثال هؤلاء حتماً لهم من الله تعالي أجرٌ عظيمٌ أيْ عطاءٌ هائلٌ من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراهم
ومعني "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)" أيْ هذا مزيدٌ من المَدْح لمَن يَتّصِف من المسلمين بهذه الصفة العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثّروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا ثابتين شُجْعَانَاً مُتوكّلين تمام التوكّل علي ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين الذي هو معهم بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم ويَنصرهم ويُسعدهم.. أيْ هم الذين مِن صفاتهم أيضا أنهم حين يُخَوِّفهم الناس حولهم من الخائفين المُتَخَاذِلين المُثَبِّطِين وأشباههم قائلين لهم إنَّ الناس أعداءكم قد جَمَعُوا لكم قوَاهم البشرية والعلمية والعسكرية والمالية والفكرية والإعلامية وغيرها ليَقضوا عليكم فخافوهم فأنتم لا تَقْدِرون علي مواجهتهم.. ".. فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)" أيْ فأَدَّيَ هذا إلي أن زادهم تَمَسُّكَاً وصِلَة بربهم وعَمَلاً بكل أخلاق إسلامهم فلم يخافوا ولم يضعفوا ولم يتراجعوا عن مواجهتهم كما كان يَتَوَقّع الناس الذين كانوا يحاولون تخويفهم وإضعاف عزيمتهم بل أعَدُّوا ما استطاعوا من قوةٍ وأحْسَنُوا ما أمكنهم اتّخاذ الأسباب لهزيمتهم قائلين لهم أثناء ذلك كله بكل ثقةٍ واطمئنانٍ في عوْن الله ونصره حسبنا الله أيْ كافِينا الله ونِعْمَ أيْ وما أعظم وأفضل الوكيل النصير الذي تُوُكَل وتُفَوَّض إليه كل أمورنا ناصرنا سبحانه، فمَن يعتمد علي الله وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه المُتَكَفّل بما يحتاجه، يُوَفّره له إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل له هذا مِن خَلْقه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
ومعني "فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة المُنْتَظَرَة لذلك أن رَجَعُوا فائزين مَصْحُوبين في دنياهم بنعمةٍ عظيمةٍ من الله تَمَثّلَت في قُرْبهم منه وحبّهم له وحبّه ورعايته وتوفيقه لهم وتثبيتهم علي تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَفَضْلٍ.." أيْ وزيادةٍ في هذا الحبّ والقُرْب والتوكّل والفهم لدينهم والعلم والعمل به مع المَكَانَة العالية والنصر لهم والذلّة لأعدائهم بإلقاء الرعب في قلوبهم حيث لم يستطيعوا أن يُزَعْزِوُا إيمانهم ويَمنعوا نَشْر إسلامهم إضافة لكلِّ نعيمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ وتَبْشِيرٍ دائمٍ بما يَسُرّهم حيث هم في فرحةٍ غامِرَةٍ تامّةٍ بما أُعْطُوا من نِعَم الله وأرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حساب، وكل ذلك هو في دنياهم، ثم لهم في أخراهم الفوز بالثواب العظيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.." أيْ ولم يَلْمسهم ويُصِبهم جراحٌ وقتلٌ وكيدُ عدوٍّ ولا مَا يخافونه، وحتي لو أصابهم أذيً مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ").. ".. وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ.." أيْ ونالُوا أعظم نعمةٍ وهي رضا الله، وكل ذلك النعيم والخير الذي حَصَلوا عليه مِمَّا سَبَقَ ذِكْره سببه أنهم اتّبَعُوا أيْ سَعوا في طَلَب كل ما يُرْضِى الله ويُوصلهم إلى ثوابه ورحمته وساروا في طريق تحقيقه من خلال تمام تَوَاصُلهم معه وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم وصَبْرهم وثَباتهم وشجاعتهم وعدم تَرَاجُعهم أمام تخويف الناس حولهم وحُسن توكّلهم علي ربهم وحده واتّخاذهم لأسباب النصر والفوز والنجاح ما استطاعوا.. لقد اتّبَعُوا رضوان الله فرَضِي عنهم ورَضوا هم عنه، أيْ فأحبّهم وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن، وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم ما يستبشرون بانتظاره في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)" أيْ والله تعالى صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ علي أمثال هؤلاء، وكذلك علي المؤمنين عموما، بل وعلي الناس والخَلْق جميعا، بما يُوَسِّعَ عليهم من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما يُيَسِّر لهم العمل بكل أخلاق إسلامهم ويُسعدهم إذا عملوا بها وبما يَعفو عنهم من أخطائهم وبما يُعينهم علي الخروج منها باستفاداتٍ كثيرة وبما يُعْطِي المُحسنين منهم في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ خالدٍ لا يُوصَف، فهو وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم الهائل الكامل الدائم الذي لا يُقارَن.. وفى هذا زيادةُ تَبْشِيرٍ لأمثال هؤلاء المؤمنين لتَحْفِيز الجميع ليَتَشَبَّهوا بهم لينالوا مثل الذي ينالونه
ومعني "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)" أيْ ليس ذلكم المُثَبِّط لكم الذي يُثَبِّطكم أيْ يضعف عزيمتكم ويُقعدكم ويَعوقكم عن اتّباع أخلاق إسلامكم ولقاء أعدائكم ويُوهِمكم أنهم أقوياء لا تَقْدِرون علي مواجهتهم إلاّ الشيطان الذي يُخَوِّف المؤمنين من قوة أولياءه أيْ أتْباعه وأنصاره والذي هو أيضا يُخَوِّف أولياءه ذاتهم الذين يَتّبعونه ويستجيبون له ليكونوا جُبَنَاء بعيدين عن ربهم وإسلامهم ويُريدكم أن تكونوا مثلهم.. ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنتَ دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه).. ".. فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ.." أيْ فلا تخافوا أمثال هؤلاء أولياء الشيطان وأعْوَانهم والناس الذين قد جَمَعوا لكم قوَاهم المختلفة لأنهم ضِعَاف لا ناصِر لهم وكل أمورهم والخَلْق جميعا بإرادتي أتَحَكَّم فيها ولا يَثْبتون أمامكم أنتم أهل الحقّ، وخافونِ باتّباع كل أخلاق إسلامكم وعدم مُخَالَفتها واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أنْ أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كلّ شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خوف الله تعالي ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خوف الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والإسلام يرشد المسلمين إلي أن يكون خوفهم منه تعالي مَصحوباً بالحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)" أيْ ولا تَشعر بالحُزن من الذين يُسَابِق بعضهم بعضا مُنْطَلِقِين داخِلِين مُتَوَغّلِين في الكفر مُتَعَجِّلِين فى إظهاره وتأييده والعمل به عند أيِّ فرصة واقعين فيه سريعا من غير أيّ تَدَبُّر أو تَفَكّر – والكفر هو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظر من يكفر – ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم (ص) حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. " .. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا.." أيْ إنهم بذلك حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني أنهم لن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ").. وفي هذا تكريمٌ وتشريفٌ للمسلمين لأنه يُفيد ضِمْنَاً أنَّ ضَرَرهم بمنزلة ضَرَر الله تعالي.. ".. يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ.." أيْ يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في ثواب الآخرة، لأنهم ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم.. أيْ ليس لهم أيّ خيرٍ في آخرتهم حتماً بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم حيث هذه هي إرادة الله وطريقته مع أمثالهم.. إنَّ الذين يختارون بكامل حرية إرادة عقولهم الكفر فلا يَمنعهم الله ويشاؤه لهم أي يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرِّين تمام الإصرار حَرِيصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُريده لهم لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الكفّار هم الذين أرادوا واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الذي هم فيه، فكيف يَهْتَدون بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايتهم وإرشادهم وزَحْزَحتهم عن كفرهم؟! وبالتالي فلا تَحْزنوا فقد أَدَّيْتم ما عليكم نحوهم، وهذا مزيدٌ من تسلية الله تعالي لرسوله الكريم (ص) وللمسلمين للتخفيف عنهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)" أيْ وأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، إضافة إلي أنهم لا حَظّ لهم في الآخرة، لهم حتماً أيضا عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسب شرورهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في الدنيا أولا حيث التّشَاحُن فيما بينهم والتّباغُض والتقاطع والتصارُع وحتي التقاتُل بسبب الطائفية والطَبَقِيَّة والحزبية والعنصرية والعَصَبِيَّة بما يُؤَدِّي إلي ضعفهم وتَخَلّفهم وانحطاطهم وانهزامهم وذِلّتهم وبالجملة إلي كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة لهم وقد يَصِل الأمر إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من معانٍ لمزيدٍ من التنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ إنَّ الذين باعوا الإيمان – وهو التصديق بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والتمسُّك والعمل بأخلاق الإسلام – واشتروا بدلاً منه الكفر، وهو عكس الإيمان، أي دَفَعوا الإيمان وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الكفر، أي باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم، أيْ تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة والخسارة التي لا تُوصَف فيهما، وما كل ذلك السَّفَه والخَبَل الذي هم فيه إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)" أيْ أمثال هؤلاء السفهاء بذلك الذي يفعلونه حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي ولا دينه الإسلام في أيّ شيءٍ! بل هم قطعا الذين سيَتَضَرَّرون حيث سيُعَذّبون ويَتعسون في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية السابقة للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين كفروا مُخْطِئين، ولا تَظنّوا أنتم أيضا أيها المسلمون، أنمّا نُمْلِي لهم أيْ أنَّ إملاءنا أيْ إمهالنا لهم أيْ تَرْكَنا لهم لفترةٍ كافية – دون إهمالٍ حتماً – مُطِيلِين في أعمارهم مُهَيِّئِين لهم أسباب نعيمهم في حياتهم الدنيا غير مُسَارِعين بعقوبتهم بما يستحِقّونه علي فِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، لا يَحْسَبُوا ولا تَحسبوا أنَّ هذا الإملاء أيْ الإمهال بهذه الصورة خيرٌ لأنفسهم، لا بالقطع، بل هو شرٌّ لهم إنْ لم يستقيظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، فإنْ عادوا كان هذا الإملاء لهم خيرٌ ورحمة من ربهم الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليهم طويلا بلا تعجيلٍ بالعقوبة لهم حيث سيَسعدون في الداريْن، وإنْ لم يستفيقوا فحتماً كل الشرّ والتعاسة لهم فيهما إذ كلّما تأخّروا يوما كلما اكتسبوا إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياتهم تَكْثُر ذنوبهم وبالتالي عذابهم عليها.. ".. إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)" أيْ فإنْ لم يَستقيظوا وأَصَرُّوا علي ما هم فيه فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لهذا الإملاء أنه سيكون ليَزدادوا شَرَّاً وبالتالي يزدادوا عذاباً مُهِيناً في دنياهم وأخراهم، فهو سيكون للإسْتِدْرَاج، أي للتقريب من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجهة التي لا يعلمون أنَّ العذاب سيأتيهم منها، أيْ مِن حيث لا يشعرون أنه استدراج بل يَتَوَهَّمون أنّ ذلك تفضيل وتكريم لهم علي غيرهم مع أنه سبب هلاكهم، وذلك من خلال أننا نَمُدّهم بالنِّعَم وأسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمونها في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سَبَبَاً لعذابهم ولهلاكهم، وكذلك نُسَهِّل لهم أنْ يَتَصَرَّفوا تَصَرُّفاتٍ ويقولوا أقوالا يتوهّمون أنَّ فيها خيراً لهم فإذا بها تضرّهم وتُعذّبهم وتهلكهم، وهذا لون من ألوان كَيْدِي القويّ لهم والذى لا يَتَنَبَّه له أمثال هؤلاء، وذلك حتي لا يمكنهم الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حسرتهم وألمهم والاستهزاء بهم وبكل ما يملكون من قُوَيَ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام منهم أيها المسلمون فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. إنهم حتما سيكون لهم عذاب مُهين حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه).. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)" أيْ ليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته مع خَلْقه أن يترك المؤمنين، أي يترككم يا أمة المؤمنين، على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين ومَن يُشبههم بكم وعدم التمييز بينكم، وعلي ما أنتم عليه من اليُسْر المُستمرّ بلا عُسْر، بل الذى من شأنه وأسلوبه أن يختبركم ببعض الاختبارات كل فترة لمصلحتكم ولسعادتكم، حتى يُمَيِّزَ لكم الخبيث وهو المنافق الكاذب الذي يُظْهِر الخير ويُخفي الشرّ فيَسهل تَجَنّبه وضَرَره والتعامُل معه بما يُناسب من الطّيِّب وهو المؤمن الصادق العامِل بأخلاق إسلامه، وحتي لا يُؤَدِّي الرخاء الدائم إلي الاعتياد علي شدّة الاسترخاء وعدم القُدْرة علي الإنطلاق في الحياة لاستكشافها (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة).. ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.." أيْ وكذلك ليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته أن يُطلعكم أيها المؤمنون وأيها الخَلْق علي الغَيْب أيْ يُظْهِره لكم ويُعْلِمكم به وهو ما غابَ عن علمكم وإدراككم من ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل، فلا أحد يعلم ما سيَحدث في اللحظة القادمة، لمصلحتكم ولسعادتكم، لكي يَجِدّ الجميع ويجتهدوا ويعملوا (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة مرة أخري ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة).. ".. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ولكنَّ الله يختار مِن رسله مَن يريد اختياره منهم فيَسْتَثْنِيه ويُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغَيْب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند الناس فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي أرسل به إليهم من ربهم ليسعدوا في الداريْن، ويُطْلِعه كذلك علي كل ما يمكنه أن يحقّق مصلحتهم وسعادتهم كبعض أحوالٍ ستَحْدُث في الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم أيها الناس مِن تمام قُدْرة الله تعالي وكمال علمه والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب في الداريْن وتمام الخير والسعادة فيهما للمؤمنين والشرّ والتعاسة للكافرين، فآمِنوا إذَن بالله أيْ صَدِّقوا بوجوده وبرسله الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وبالنور الذي أنزله معهم أيْ الكتب التي فيها كل إرشاد للخير لكم وآخرها القرآن العظيم والذي هو نور يكون سَبَبَاً لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ تُؤْمِنُوا.." أيْ وإنْ تُصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَتَمَسَّكوا وتَعملوا بكلّ أخلاق إسلامكم.. "..وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطِيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)" أيْ فبالتالي سيكون لكم حتماً من الله تعالي أجرٌ عظيمٌ أيْ عطاءٌ هائلٌ من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراكم
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن بخيلا، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معك من نِعَم الله عليك والتي لا تُحْصَيَ فلا تُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيرك أو حتي لك! أو تُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد تأمر غيرك بهذا من شدّة شَرِّك!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ عليك وعلي مَن حولك، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين يَبخلون بما أعطاهم الله من فضله أيْ الذين يَحرصون حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل وقد يأمرون غيرهم بهذا من شدَّة شَرِّهم! لا يَحْسَبُون مُخْطِئين هذا البُخْل خيراً لهم، بل هو حتما شَرٌّ لهم، ولمَن حولهم، في دنياهم أولا حيث بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتشاحُن والحِقْد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في الداريْن، ثم هو بالقطع شر لهم في أخراهم، يوم القيامة، حيث سيُطَوَّقون أيْ سيُحَاطُون بما بَخِلُوا به ليكون حول رقابهم كطوقٍ من نارٍ يُعَذّبون به بما يُناسب أضرارهم التي فعلوها بسبب بُخْلهم وسيُلازِمهم هذا العذاب كما يُلازِم الطوق الرقبة.. ".. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.." أيْ هذا ضِمْنَاً ذمّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامّ وتّعَجُّبٌ من سوء حال الذين يَبْخلون بما آتاهم الله من فضله، كما أنه تذكيرٌ وتشجيعٌ ضِمْنِيّ علي الإنفاق لمَن يريد ثوابه العظيم ويَغتنم الفرصة قبل موته وتَرْكه ما يَملك.. أيْ ما حال وشأن هؤلاء الذين يبخلون ولا ينفقون في سبيل الله أيْ في كلّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة في الداريْن للنفس وللغير والحال والواقع أنه ليس لهم شيء بل لله مِيراث كل السماوات والأرض بكل ما فيهما فهو مالِك المُلك كله والذي منه جميع ممتلكاتهم وأموالهم والتي هو لا غيره قد مَلّكَها لهم والتي ستَنتقل من أيديهم إليه بعد موتهم ويَرِثها منهم ليُوَرِّثها ويُمَلّكها لغيرهم ثم يَرِث كلَّ شيءٍ في نهاية الحياة الدنيا، فكل الذي معهم هو في الأصل مِلْكه وهم مُجَرَّد مُسْتَخلفين أيْ وكلاء عنه فيه وقد طَلَبَ منهم الإنفاق منه فلم لا يُنْفِقون إذَن؟! فليس لهم بالتالي أيّ عُذْرٍ في البُخْل!! ثم كله عائد إليه فلْيُنفقوه في سبيله ليُعطيهم أجر ذلك خيرا في الداريْن وإلا فسيعود إليه بدون أجرٍ لهم! ولْيَغْتَنِموا الإنفاق ما دامت الأموال معهم ولْيَنْتَهِزوا هذه الفرصة ويُنفقوا ولا يَخشوا فقراً وإقلالا فإنَّ الذي يُنفقون في سبيله هو مالِك السماوات والأرض وبيده خزائنهما وهو الذي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا بقوله ".. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ:39).. هذا، ويُراعَيَ أنَّ حِرْصهم الشديد علي ما معهم لن يَحفظه! فالله تعالي هو الحافظ وهو الوَهَّاب وهو المَانِع، فقد يفقدونه كله أو بعضه فوراً أو تدريجيا، وقد يُسَلّط عليهم مَن يَسرقه أو يُتْلِفه، وقد يُصابون بمرضٍ يمنعهم من استخدامه والانتفاع به، وقد يأتيهم أجلهم فينتفع به غيرهم، ونحو هذا مِمَّا يُصيب بالحَسْرة والندم فلا هُم انتفعوا وسعدوا به حقّ السعادة في الدنيا، ولا قَدَّمُوا به خيراً يَلْقون به ربهم في الآخرة.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُتَطَاوِلَاً علي الله تعالي أو رسله أو إسلامه، قليل الأدب معهم، سواء أكان تَطَاوُلَاً لفظيا أم عمليا بالتّبَجُّح بفِعْل عكس ما يحبه ويَرْضَيَ به بأنْ تَفعل الشرّ وتترك الخير مُخَالِفَاً أخلاق الإسلام، تَعَالِيَاً واستكباراً وعِنَاداً لا عن جهلٍ أو تقصيرٍ أو سوءِ تقديرٍ.. إنَّ المُتَطَاوِل سَيِّءَ الخُلُقِ المُتَجَرِّيءَ المُتعالِيَ علي ربه ورسله ودينه الذي يرضي بقتل الدعاة لهم والصالحين لا بُدَّ سيحيا حياة تعيسة ثم أتعس حتماً في آخرته.. إنه ينتقل من شَرٍّ إلي شَرٍّ أشدّ.. إنَّ فطرة الخير في عقله تُؤَنّبه وتُعَنّفه وتُهِينه وتَحْقِره بين الحين والحين (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنه يفتقد الأمان والاستقرار النفسيّ الداخليّ، بل والخارجيّ، حيث يَتَوَقّع دائما انتقام ربه منه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وبالتالي يَفقد سعادته
هذا، ومعني "لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)" أيْ بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سَمِعَ الله وهو الذي له كلّ صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، سَمِعَ قول مَن قالوا كذباً وزُورَاً مُتَطاوِلين عليه مُسيئين الأدب معه واصِفين إيّاه بما لا يَليق ساخِرين من تشجيعه للإنسان علي الإنفاق ورَفْعه لشأنه كأنه يقترض منه حين يسمعون قوله "مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً.." (البقرة:245) قائلين إنَّ الله فقيرٌ مُحتاجٌ إلينا يَطلب مِنّا أن نقرضه بالإنفاق من الأموال والأشياء العَيْنِيَّة والجهود وغيرها، ونحن أغنياء نُنْفِق أو لا ننفق!!.. سبحانه وتعالي عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً.. إنهم يَقصدون بذلك التشكيك في صِدْق القرآن العظيم والرسول الكريم (ص) بمحاولةٍ يائسةٍ لإيهام الناس أنَّ في الإسلام تَنَاقُضَاً حتي يَكرهوه ولا يَتّبعوه حيث يَصِف الله بالغنيّ الكريم ثم هو يَطلب قَرْضَاً!!.. ".. سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ.." أيْ سنُسَجِّل عليهم فى صحائف أعمالهم كل ما قالوه، كما سنُسَجِّل قتلهم أنبياء الله ودُعَاته الذين يَدْعون الناس له ولدينه الإسلام ليسعدوا به في الداريْن، والتسجيل يعني التوثيق بحيث لا يُمكنهم إنكاره عند حسابهم يوم القيامة كما يُفيد ضِمْنَاً عقابهم فهو ليس مجرّد تدوين وفقط، أيْ سنُعاقبهم في دنياهم وأخراهم علي كل ذلك وغيره من شرور ومَفاسِد وأضرار بما يستحقّونه مِمَّا يناسب من عذابٍ أليمٍ مُهين.. إنهم يقتلونهم بغير حقّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فَعَلوا ما فَعَلوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله والدعاة الصالحين معهم الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. "..وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)" أيْ وسنُعاقبهم في الآخرة لكلِّ هذا بإلقائهم في نار جهنم ونقول لهم أثناء عذابهم في مُقابِل ما كانوا يقولونه – بما يُفيد تمام الغضب عليهم وكمزيدٍ من العذاب النفسيّ والتأنيب والتهديد والإهانة والتّيْئِيس من النجاة لهم – اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. وذلك قطعا بعد نار وحريق وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)" أيْ ذلك العذاب الشديد بسبب أقوالكم وأفعالكم السيئة الفاسدة الضارة المتعسة لكم ولغيركم بل وأحيانا للكوْن كله، ولم يكن الله أبداً، الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه علي قَدْر ما قَدّم في حياته.. وفي هذا تشجيعٌ وتذكيرٌ لكلِّ عاقلٍ أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
ومعني "الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)" أيْ هذا بيانٌ لبعض ما يقوله المُرَاوِغُون من اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يُصِرُّون علي ألاّ يُسْلِموا حيث يَدَّعون أنهم لكي يؤمنوا بأيِّ رسولٍ لا بُدّ أن يأتيهم بمعجزة مُحَدَّدة واحدة فإنْ لم يأتِ بها فلن يُصَدِّقوه، رغم أنهم يعلمون تماما أنه سبحانه قد أيَّدَ رسله بمعجزاتٍ كثيرةٍ مُتَعَدِّدَة بما يُناسب كل زمنٍ وبيئةٍ بحيث يُصَدِّقه الناس في هذا الزمن ويُسلموا.. أيْ إنهم هم الذين يقولون إنَّ الله قد أوْصَانا وآباءنا في كتبٍ سابقة قبل القرآن بأنْ لا نُصَدِّق لرسولٍ حتي يُحْضِر لنا آية أي معجزة مُعَيَّنَة تدلّ علي صِدْقه وهي قُرْبان أيْ صَدَقَة من غنمٍ أو غيره يتَقَرَّب بها إلى الله يُقَدِّمها لتُنْفَق في الخير فتَنْزِل نار من السماء تأكله أي تحرقه وتخفيه أمامنا فحينئذ نُصَدِّقه ونَتَّبعه ونُسلم، والرسول محمد لم يأتِ بمثل هذه الآية وبالتالي فلن نؤمن له ولو أَتَيَ بها لكنّا آمنا به!! فعدم إيماننا له يدلّ علي أننا مُطيعون لربنا فيما أوْصَانَا به مُلْتَزِمُون تماما بعهده إلينا!!.. ".. قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بما يَكشف ويَفضح مُرَاوَغاتهم وادِّعاءاتهم وعِنادهم قد أحْضَر لآبائكم رسلٌ كثيرون قَبْلي البَيِّناتِ أيْ الدلالات الواضحات والمُعجزات القاطعات الدالاّت علي صِدْقهم وأيضا جاؤوهم بالذي قلتم وهو القُرْبان الذي تأكله النار، فلم قتلتموهم أيْ فلم قَتَلَهم آباؤكم وأجدادكم رغم ذلك مثل زكريا ويحي وغيرهما إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعُونه أنكم تَتّبعون الرسل وتُسْلِمون عندما يأتوكم بما تَطلبون مِمَّا يدلّ علي صدقهم؟!.. إنَّ قتلكم لهم هو دليل قاطع علي عدم إيمانكم بما دَعوكم إليه!.. إنَّ هذا القتل يدلّ علي أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله والدعاة الصالحين معهم الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!
ومعني "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)" أيْ لا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)" أيْ ليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَر لهم الرسل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم زُبُرَاً أي صحفا مكتوبة فيها كل الأخلاقيّات والمَوَاعِظ والتشريعات أم كُتُبَاً أكبر من الصحف وختامها القرآن العظيم، أي أحضروا لهم كلّ أنواع الأدِلّة المختلفة، وكلها مُنيرة لهم، أي كالمصباح المُضِيء الذي يُضيء حياتهم حيث يُبَيِّن لهم أين النور من الظلام وأين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة في كلّ شئونهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تماما في دنياهم ثم ليكون لهم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. ولكنهم مع كلّ هذا لم يَستجيبوا وظَلّوا مُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)" أيْ كل إنسان سيَذوق حتما طَعْم الموت عند انتهاء مُدَّته التي حدَّدها الله له في حياته الدنيا، سيذوق طَعْمَاً طيّبا هانِئا مُمْتِعَاً مُفْرِحا مُسْعِدَا إذا كان من أهل الخير، وسيَذوق بالقطع طعما خبيثاً مُرَّاً دَنِيئاً مُؤلِمَاً مُزْعِجَاً مُرْعِبَاً مُتْعِسَاً إنْ كان من أهل الشرّ.. " .. وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وما تُعْطَوْنه أيها الناس في دنياكم من خيرٍ وسعادةٍ للمُحسنين أو شرٍّ وتعاسةٍ للمُسيئين في مُقابِل أعمالكم الخيرية أو الشَّرِّيَّة هو ليس وافِيَاً أيْ كاملاً بل هو بعض الحساب لكم وإنما تُعْطَوْن أجوركم التي وَعَدَكم بها خالقكم وافية أيْ كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان بكل عدلٍ بلا أيّ ظلم علي قدْر أعمالكم في الدنيا من خيرٍ أو شَرٍّ حيث كمال الخير والسعادة لأهل الخير وكمال الشرّ والتعاسة لأهل الشرّ في يوم القيامة أيْ الذي تقومون فيه ليُحاسبكم على أقوالكم وأفعالكم حين يبعثكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم.. ثم هو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله لا يَكتفِي بهذا لأهل الخير بل يزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.." أيْ فمَن أُبْعِدَ يومها عن عذاب النار وأُدْخِلَ نعيم الجنة فقد نَجَحَ وربح قطعا نجاحا ورِبْحَا هائلا مُبْهِرَاً لا يُقارَن ولا يُوصَف حيث تمام السعادة في جناتٍ خالداتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)" أيْ وليست مُتَع الحياة الدنيا لمَن عمل لها وحدها ناسيا الآخرة إلا متاع هو غُرور أيْ خِداع لأنه زائل غير دائم ولا يُقارَن مُطلقا بالآخرة الخالدة.. إنَّ مُتَعَها تَغُرّ الكافرين ومَن يتشبَّهَ بهم مِن الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم لكنَّ المؤمنين المُحسنين لاستخدامها لا يَتشبَّهون بهم أبدا ولا يَنخدعون بها أو يَنسون اتِّخاذها طريقا لآخرتهم الدائمة الأبدية.. إنها متاع الغرور تَغُرّ بحقٍّ إنْ أَنْسَتَ طَلَب الآخرة لكنّها إنْ أَدَّت إلى حُسْن طَلَبها فستكون أفضل متاع وأفضل وسيلة لتحصيلها.. ولهذا فعلي المسلم إذَن أن يُحْسِن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه).. إنك إذا كنت مستعدا دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألاّ يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم.. فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)" أيْ بالتأكيد سنَختبركم أيها المسلمون بين الحين والحين باختبارٍ مَا بما يُناسب كلاًّ منكم، فهذه هي طريقتنا مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيكم آدم، وذلك لمصلحتكم ولسعادتكم، لتستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، ونحن نُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم.. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – أعمالكم وأقوالكم وأحداثكم وتصرّفاتكم كلها فيَتَبَيَّنَ لكم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته في الداريْن)، فيَتَبَيَّنَ بذلك لكم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب ليَسعد حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون لأيّ أحدٍ حجّة أو جدال حينما يَنال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد!.. ".. فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.." أيْ لَتُبْلَوُنَّ في نقصِ بعض أنواع أموالكم بصعوبة الحصول عليها أو ذهابها، وفي نقصِ بعض أنفسكم بموتِ أحبابكم من أقاربكم وأصحابكم وبأنواعِ أمراضٍ مختلفة وبجراحٍ وآلامٍ وأَسْرٍ وقَتْلٍ وخوفٍ في شأنٍ مَا من شئون الحياة وجوعٍ بقِلّة طعامٍ وشرابٍ وما شابه هذا من أشكال الابتلاءات أيْ الاختبارات المُتَعَدِّدة.. ".. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا.." أيْ وكذلك ستُخْتَبَرُون بالتأكيد بما تَسمعون من الذين أعْطوا الكتاب مِن قبل إعطائكم القرآن من السابقين لكم كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة والنصاري الذين أُعْطُوا الإنجيل وكذلك بما تَسمعون من الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، حيث ستَسمعون منهم أذيً كثيراً كبيراً عظيماً مُؤْلِمَاً كسَبٍّ وتشويهٍ وكذبٍ وافتراءٍ وإساءةٍ مُتَنَوِّعَة لربكم ولرسولكم ولقرآنكم ولإسلامكم ولكم.. "..وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ هذا هو العلاج الذي يُنجيكم من كل أنواع البلاء، من الشرور عموماً ومن شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم، إنه الصبر والتقوي، أيْ إنْ تصبروا علي أيِّ أذَيً يُصيبكم، منهم أو مِن غيرهم، أي تكونوا من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وتَتّقوا أيْ وتَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والتي منها ألاّ تَتّخذوا منهم أنصارا وأعوانا وأن تحذروا وتَتَجَنّبوا ما يُؤذونكم به أصلا وأن تَتّخِذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة ليحذروكم، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنه لا يَضرّكم أذاهم وما يُدَبّرونه لكم مِن شرٍّ بأيِّ شيءٍ يُذْكَر أيْ لن تُبَالوا وتتأثّروا به لأنَّ المُتَدَرِّب بالاتّقاء والصبر يكون غالباً ثابتاً مُتّزِنَاً قليل الانفعال جريئاً على الخصم مُستعداً لمقاومة الصعاب والتّغَلّب عليها ويكون له النصر في كل شئون حياته بإذن الله، ثم لو فُرِضَ وأصابكم شيءٌ مِن أذاهم القوليّ أو حتي الفِعْلِيّ فسيكون ضَرَره ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (111) من هذه السورة " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..").. لكنْ إنْ لم تصبروا وتتّقوا ضَرّكم كَيْدهم قطعاً بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات وهزموكم وأتعسوكم.. ".. فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)" أيْ فإنَّ ذلك الذي ذُكِرَ مِن الصبر بكل صوره والتقوي هو بكل تأكيدٍ من الأمور الهامّة العظيمة الكريمة في الإسلام، هو من عَزْم أيْ جدّ وواجب الأمور أيْ المفروضة الإلْزَامِيَّة لا المُسْتَحَبَّة الاختياريَّة، هو من الأمور التي يُعْزَم لها أيْ تَحتاج إلي عقدِ وتجهيزِ عزيمةٍ أيْ إرادة عقلية قوية للقيام بها علي أكمل وجهٍ ولا يُوَفّق لها ويُيَسَّر له أسبابها من الله إلا أصحاب العَزْم أي الإرادة القوية الصادقة الذين يَبدأون بهذا الخير فيُسَاعَدون من ربهم عليه، وفي هذا تشجيع ودَفْع وتحفيز للجميع ليكونوا كلهم كذلك أصحاب إراداتٍ عقلية قويّة وهِمَّة عالية متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق الإسلام ما استطاعوا ليسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الدعاة إلي الله والإسلام، ووَفّيْتَ بميثاقك ووَعْدك مع ربك ورسولك (ص) ودينك بفِعْل ذلك ليَنتشر الخير وتَسعد أنت والخَلْق جميعا في الداريْن.. ولم تكن من الذين أَخْلَفوا عهودهم ولم يُبَيِّنُوا للناس ما جاءهم من خيرٍ مُسْعِدٍ من ربهم بل كَتَمُوه بعضه أو كله وألقوه وأهملوه من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَعِسُوا وتَعِس مَن حولهم في دنياهم وأخراهم.. فبِئْس أيْ ما أسوأ البيع، وبئس الثمن، وبئس المصير (برجاء مراجعة تفسير الآية (272) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن الدعوة لله وللإسلام وأساليبها وموانعها وثوابها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة، ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة تفسير الآية (113) من سورة آل عمران ثم الآية (176) منها أيضا، ثم الآية (63) من سورة النساء عن التجهيز للدعوة، ثم الآية (33) والآيات (35) حتي (39) والآية (52) وكلها من سورة الأنعام عن تصنيف المدعوين، ثم الآية (128)، (129) من سورة آل عمران عن مشيئة المدعوين للاستجابة)
هذا، ومعني "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذ الله ميثاق الذين أعْطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة والنصاري الذين أُعْطُوا الإنجيل، أيْ أخَذَ منهم عَهْدهم ووَعْدهم المُؤَكَّد، أن يُبَيِّنُوا أيْ يُوَضِّحوا ويُظْهِروا آيات ومعاني هذا الكتاب الذي أعطوه للناس حولهم ولا يكتموا منه أيَّ شيءٍ وذلك حتي يعملوا بأخلاق الإسلام التي فيه فيَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.." أيْ فتَرَكوا وأهْمَلوا هذا العهد – وهذا الكتاب أيضا – ونَقَضُوه ولم يُنَفّذوه وأخْلَفوه وألْقوه ورَموه خَلْف ظهورهم باستهانةٍ واحتقارٍ وعدم اعتناء.. ".. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)" أيْ وباعوه وأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره استبدلوه به، فبئس ما يشترون أي ما أسوأ هذا الشراء الذي يشترون حيث هذا الثمن المأخوذ مهما عَظم فهو مَهِين إذ يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فالذين يَفعلون ذلك هم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. والمقصود بأنهم – ومَن يَتَشَبَّه بهم – يَبيعون عهد الله أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَفرحون بما يفعلون من خيرٍ فَرَحَاً مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، بأن يكون مَصْحُوبَاً مثلا بفخرٍ وتَكَبُّرٍ وإيذاءٍ للآخرين ونحو هذا.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يُحبون أن يُحمدوا بما لم يَفعلوا لأنَّ الأصل ألاّ تحبّ المَدْح المُضِرّ الذي فيه كذب علي شيءٍ فَعَلته فما بالك لو طلبته لِمَا لم تفعله أصلا؟!.. إنَّ هذه بعض صفاتٍ سيئةٍ مُخَالِفَة للإسلام لو تركتها لَسَعِدْتَ
هذا، ومعني "لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)" أيْ لا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ الذين يَفرحون بما يأتون من أعمالِ خيرٍ فَرَحَاً مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، أي يكون فَرَحهم فيه افتخار بخيرهم الذي قَدَّموه، أو فيه استعلاء علي الآخرين وتقليل من فِعْلهم وشأنهم، أو فيه غرور بذواتهم وانخداع بأنْ لا أحد مِثْلهم رغم أنَّ أمثالهم كثير وأفضل، أو فيه إيذاء لمَن حولهم بقولٍ أو فِعْلٍ شَرِّيٍّ مَا، أو فيه طَلَب لسُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليراه الناس فيقولون عنه كذا وكذا من المدح الكاذب المُبَالَغ فيه والذي لا يُناسِب الفِعْل أو الذي يكون لشيءٍ لم يفعلوه أصلا.. بل هناك من هم أسوأ من ذلك، إنهم الذين يَفرحون بفِعْل الشرّ ويفتخرون به وينشرونه ويُقَلّلون مِن شأن مَن لا يستطيع فِعْله! وإذا كانوا في مَوْقِفٍ يُذْكَر فيه الخير إذا هم يَذْكُرون خيراً لم يفعلوه أصلا بل هم كاذبون ويطلبون مَدْح وحَمْد أيْ شُكْر مَن حولهم عليه!!.. ".. فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)" أيْ فلا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بمَنْجَاةٍ أيْ في مَأْمَنٍ وفوزٍ بنَجَاةٍ من العذاب في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة، وذلك علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم التي أَتَوْا بها.. هذا، وتكرار لفظ "تَحْسَب" ولفظ "عذاب" هو لمزيدٍ من التأكيد.. إنه عذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ المسلمين مطلوبٌ منهم أنْ يكونوا عكس ما سَبَقَ تماما، أي يكونوا مُتَّبِعين لكل أخلاق إسلامهم والذي يطلب منهم أن يفرحوا بفِعْل كل خيرٍ لأنَّ هذا هو السبب الأساسي لنشر السعادة بين البَشَر لكن يكون فَرَحُهم نافعاً مُسْعِدَاً، أيْ أن يبدأوا بحمد الله وباستشعار نعمته بعقولهم وأنه هو الذي عاوَنهم عليه ووَفّقهم له وسَدَّدَ خُطاهم نحوه، وأن يَتَوَاضَعُوا للآخرين ولا يتعالوا أو يفتخروا به عليهم، وأن يعاونوهم علي مِثْله وأكثر، وألاّ يَغْتَرُّوا وينخدعوا به أن لا أحد أتَيَ بمِثْل ما أَتَوْا به حيث مِثْلهم كثير وأفضل، وألاّ يطلبوا به سُمْعَة أو جَاهَاً أو ليراهم الناس فيمدحوهم أو نحو ذلك من صور الرياء، وإن امتدحهم أحدٌ فليشكروه وليطلبوا منه بأدبٍ أن يكون صادقا غير مُبَالِغٍ، وليعتبروه تشجيعا لهم إذ فطرة العقل تحب ذلك لتستمرّ وتزداد في كل خيرٍ كما كان يفعل رسولنا الكريم (ص) حيث يَمتدح بكل صدقٍ من لا يُخْشَيَ عليه الغرور والتّغَيُّر كوصفه مثلا للصحابيّ الجليل عُبَيْدَة ابن الجراح أنه "أمين هذه الأمة"، وألاّ يفعلوا شَرَّاً ولو فعلوه فلْيُسارِعوا بالتوبة ولا يَفتخروا به، ولا يطلبوا مَدْحَاً كاذباً علي خيرٍ لم يفعلوه، أو نحو ذلك من السوء المُضِرّ المُتْعِس الذي يُقعد عن فعل أيّ خيرٍ ويَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الداريْن
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)" أيْ وهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، خَلْق السماوات والأرض أيْ إيجادها من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بما فيهما مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء وتغيُّر الصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان.. ".. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.." أيْ وكذلك تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)" أيْ في كلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وغيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دلالات واضحات على تمام قدْرة الله وعلمه ولكنْ لا يُدْرِك أهمية هذه الآيات ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا أولوا الألباب أيْ أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة المُسْتَنِيرَة المُتَفَتّحَة التي لا يُخالِطها نَقْص، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها، فهم يتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" أيْ هم الذين من صفاتهم، أيْ أوُلُوُا الألباب، أنهم يَسْتَحْضِرون علي الدوام بداخل عقولهم ومشاعرهم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ ويذكرونه دائما في جميع أحوالهم قائمين واقفين وقاعدين جالسين ومُضطجعين على جنوبهم ومُسْتَلْقِين علي ظهورهم.. هذا، والذكر يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ.." أيْ وهم أيضا يَتَدَبَّرون بعقولهم بعمقٍ في خَلْقِ السموات والأرض وما فيهما من عجائب قائلين بألسنتهم كثمرةٍ من ثمراتِ تَفَكُّر عقولهم وتَحَرُّك مشاعرهم بداخلها يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – ما أوْجَدْتَ هذا الخَلْقَ عَبَثَاً مُطْلَقَاً بلا حِكْمَةٍ ولا مصلحة، سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن ذلك وعن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقْتَه لِحِكَمٍ كثيرةٍ منها أنْ يَتَعَرَّف الخَلْق علي نِعَمِك التي لا تُحْصَيَ ويَنتفعوا ويَسعدوا بها من كرمك وأفضالك ورحماتك عليهم.. إنهم بهذا التّفَكّر والتّدَبّر في كلّ خَلْق الله تعالي سيَزدادون حتماً يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. ".. فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" وبما أنك يا ربنا ما خَلَقْتَ كل هذا عَبَثَاً فإنه ليس من المعقول بالتالي إذَن أن تنتهي هذه الحياة وهذا الكوْن المُحْكَم وهذا الخَلْق الدقيق المُعْجِز وكلّ هذه المُعجزات وكل هذه الأحداث هكذا بصورةٍ عَبَثِيَّةٍ فَوْضَوِيَّة! وإنما مِمَّا يُوافِق العقل والمَنْطِق والفطرة (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) أن يَتَناسَب الختام مع بدء الحياة واستمرارها فيكون في مُنتهي الحِكمة والدقّة والعدل أيضا كما كان الكوْن والخَلْق كذلك دائما منك سبحانك، أيْ لا بد من آخرةٍ وحسابٍ ختامِيٍّ وجنةٍ ونارٍ لكي يتحقّق العدل والحقّ بأن يأخذ كلٌّ حقه، فإذا كان كل هذا فقِنَا حينها عذاب النار أيْ فاحفظنا ونَجِّنا برحمتك من عذاب النار المُؤْلِم المُهِين بأنْ تُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم.. هذا، والوقاية من عذاب النار نعمة عظيمة مستقلة بذاتها قبل نعمة دخول الجنة والاستقرار الخالد فيها، من عظيم فضله وكرمه ورحمته سبحانه، وذلك لأنَّ دخول الجنة قد يكون لبعض الناس هو بعد عذابٍ مَا يستحِقّونه
ومعني "رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)" أيْ يا ربنا نجِّنا من النار فإنك مَن تُدخِلْه النار بذنوبه فقد فَضَحْته وأَهَنْته وأَذْلَلته.. وفي هذا إلحاحٌ في طلب رحمته بالنجاة منها لشدّة سوئها وعذابها.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)" أيْ هذا مزيدٌ من الإلحاح والتّوَسُّل في طلب رحمات الله بالنجاة من عذاب النار ودخول نعيم الجنة مع بيان الأثر الطيّب لحُسن التّفَكّر في خَلْقِه المُعْجِز المُبْهِر في كلّ كوْنه حيث يؤدّي إلي سرعة إيمان كل عاقلٍ مُتَدَبِّر.. أيْ ربنا إننا سمعنا داعيا، وهو رسولك الكريم وكلّ داعٍ يدعو بعده مثله بكتابك العظيم الذي أنزلته إلينا، يدعو للإيمان أي إلي التصديق بوجود ربكم وبكتبه وبرسله وبحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بكل أخلاق إسلامه، قائلا أن آمنوا أيْ صَدِّقوا بربكم فآمنّا أيْ فصَدَّقنا مُجِيبِين دعوته وعملنا بالإسلام الذي دعانا إليه.. ".. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)" أيْ فلذلك، فبإيماننا، نَتَوَسَّل إليك ونسألك يا ربنا أن اغفر لنا ذنوبنا أيْ شرورنا الكبيرة التي فعلناها أيْ سَامِحنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وكذلك كَفّر عنا سيئاتنا أيْ شرورنا الصغيرة أيْ أيضا اسْتُرها وامْحُها وأَزِلْها ولا تُحاسبنا وتُعاقبنا عليها لكثرة توبتنا منها وعودتنا إليك.. هذا، والغُفْران والتكفير كلاهما فيه معنى السّتْر والتغطية إلاّ أنَّ الغفران يُفيد أكثر معنى عدم العقاب والتكفير يُفيد أكثر ذهاب آثار السيئة، والمقصود مزيد من التأكيد علي الدعاء وطَلَب العفو من كل الذنوب والسيئات والتي هي أيضا مُتَقَارِبَة في معانيها.. هذا، وتكرار لفظ "ربنا" هو لمزيدٍ من التّوَسُّل واللجوء للمُرَبِّي الخالِق الرَّاعِي الوَهَّاب الغفور الرحيم الودود الكريم.. ".. وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن تجعلنا بعد وفاتنا وقَبْض أرواحنا وانتهاء آجالنا في دنيانا مع الأبرار جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير أيْ مع المؤمنين الخَيِّرِين الصادِقين الطائعين الصالحين الشاكرين المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم.. والمقصود ضِمْنَاً طَلَب التوفيق والتيسير من ربهم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والاستمرار علي ذلك دون أيّ تراجعٍ حتي يُتَوَفّوا وهم علي ذلك فيكونوا من جملة الأبرار في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيَسعدوا مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن تُعطينا الذي وعدتنا به في دنيانا علي ألْسِنَة رسلك وعلي تصديق رسلك والإيمان بهم واتّباع أخلاق الإسلام التي جاءوا بها، مِن كل خيرٍ وأمنٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، ثم ولا تُخْزِنَا أيْ ولا تَفْضَحْنا وتُهِنَّا وتُذِلّنا بسبب ذنوبنا يوم القيامة حين نقوم لك وتَبْعثنا من قبورنا بأجسادنا وأرواحنا لتُحاسبنا.. ".. إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)" أيْ إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بك فإنك أكرم الأكرمين وأعظمهم الخالِق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنك سبحانك لا يُمكِن أن تُخْلِف وعْدك مُطلقا، ولماذا تُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تَعَالَيْتَ عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فأنت مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما.
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم الحديث معه والشكوي إليه عند الحاجة.. وإذا كنتَ من الذين يُهاجِرون في سبيل الله، ومن الذين قد يُؤْذَوْنَ من أجله ورسوله (ص) وإسلامهم.. وإذا كنتَ من الذين يُقاتِلون في سبيله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فيَقْتُلون ويُقْتَلون حين يَعتدِي مُعْتَدُون عليهم بالقتال
هذا، ومعني "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائهم وتَوَسّلهم الصادق أن استجاب لهم ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء واتّخاذ أسباب الاستجابة، وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة) مُبَيِّنَاً لهم أنه لا يُضيع مُطلقا على أيِّ عاملٍ منهم أجر عمله بما يَستحِقّه في دنياه من كل خيرٍ وسعادةٍ ثم ما هو أتمّ وأعظم من ذلك في أخراه بل ويزيده أضعافا مُضَاعَفَة بلا حسابٍ مِن كرمه وفضله ورحمته سواء أكان ذكراً أم أنثى حيث الأنثى من الذكر والذكر من الأنثى فكلكم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منكم الآخر وكل الناس بعضهم مُتَوَالِد من بعض وكلكم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه (برجاء مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن المساواة بين الرجال والنساء وفوائد ذلك وسعاداته في الداريْن).. ".. فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ.." أيْ هذا بيانٌ وإرشادٌ وتوجيهٌ لأعمالِ خيرٍ لها عظيم الأجر في الدنيا والآخرة.. أيْ فالذين فَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها وأُخْرِجُوا من ديارهم ومساكنهم مُكْرَهِين مُضطرّين من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي.." أيْ وأصابهم أيُّ أذيً أيْ شرّ وضَرَر مَا، قوليّ أو فِعْلِيّ، بأيِّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، في سبيلي أيْ في طريقي، أيْ مِن أجلي، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ آخر أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا.." أيْ وقاتَلوا في سبيلي المُعْتَدِين عليهم بالقتال وقُتِلُوا أي اسْتُشْهِدُوا وقَتَلَهم أعداؤهم في سبيلي أيضا سواء في المعارك أو خارجها.. ".. لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – وبتوبتهم من ذنوبهم أوَّلاً بأَوَّل سأَمْحُو عنهم ما فعلوه من سيِّئاتٍ أي شرور ومَفاسد وأضرار وأَسْترها عليهم ولا أعاقبهم عليها وأمْحُها كأن لم تكن وأمْحُ عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأسترها وأخفيها فلا أعذّبهم بفضحهم بها فيهما فبالتالي يعيشون حياتهم بسبب هذا العَفْو والستْر في استشعارٍ للرحمات واستبشارٍ بانتظار كلّ أنواع الخير والرعاية والأمن والرضا والعون والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر.. ".. وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.." أيْ وكذلك أُقْسِم وبالتأكيد سأُدْخِلهم في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)" أيْ وكان ذلك جزاءً وعَطَاءً عظيماً هائلاً كريماً علي ما يُقَدِّمُونه من عملِ خيرٍ في كل شئون حياتهم لأنه من عندي وأنا وحدي لا غيري الذي عنده العطاء الحَسَن الجميل الكثير حتي علي العمل القليل الكامِل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف، لمَن عمل بأخلاق الإسلام، فارْغَبُوا واطْمَعُوا فيه بالتالي واجتهدوا في الوصول إليه والحصول عليه بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَنْخَدِعون مُطلقاً بما يكون عليه أحيانا بعض الذين كفروا من تَحَكّمٍ في بعض البلاد من الأرض وسيطرةٍ عليها بنفوذه وقوّته بكل أشكالها واستغلاله لثرواتها وخيراتها وتَمتّعه بها فإنَّ تَحَكّمهم هذا لن يستمرّ طويلا بل سيكون لمدة قليلة يتمتعون فيها بما معهم ثم يزول عنهم كل شىءٍ ويعودون إلى خالقهم فيُعَذّبهم عذابا يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فاطمئنّ واستمرّ علي ما أنت عليه من تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك ولا يَرِد أبداً بخاطرك ولو للحظة أن تكفر فتتعس مِثْلهم تمام التعاسة في الداريْن فإنَّ ربك الكريم القويّ العزيز حتما ناصر المسلمين العاملين بإسلامهم المُتّخِذين لكل أسباب قوّتهم ورِفْعتهم ما استطاعوا ومُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196)" أيْ اصْبِر أيّها المسلم وإيّاك أنْ تَنْخَدِع بتَنَقّل الذين كفروا وتَغَيُّرهم بين البلدان يُتاجِرون ويَرْبَحون ويَتَنَزَّهون ويَتَرَقّون في المناصب والأموال وأنواع القوي المختلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها ونحو ذلك مِن مُتَع الحياة وتظنّ أنّ هذا مستمرٌّ لهم أو أنهم علي الحقّ مثلا أو ما شابه هذا من ظنون سيئة وانخداعات، فإنَّ الله تعالي يُمْهِلهم أيْ يتركهم لفترة ولا يُهْمِلهم حتما، أيْ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)" أيْ إنهم لهم متاعٌ قليل في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ثم في آخرتهم ".. مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم.. ".. وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)" أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي يَفترشونه ويَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يَصيرون إليه وهو النار يُعاقَبون فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. هذا، والمسلم بالقطع في دنياه عليه ألا يَتمنّي ويتطلّع أبدا أن يكون مثلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره هو جزاء الذين كفروا لكن الذين اتقوا ربهم أيْ خافوه وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم سواء في سِرِّهم أو علانيتهم، وكانوا دَوْمَاً من المُتّقِين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء لهم حتماً في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. وكل هذا العطاء هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" أيْ جعل الله تعالي الجنّات مكاناً رائعا ورزقا طيّبا كريما مُتَزَايِدَاً لهم يَنزلون ويَستقرّون فيه بلا نهاية، وحالهم فيها كحال مَن هو في نُزُلٍ، أيْ في المكان الذي يَنزل فيه الضيف كالفندق حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور، وكل هذا هو مِن عنده سبحانه الغفور الرحيم الودود الرَّزَّاق الوَهَّاب صاحب الفضل العظيم، فأيّ نعيمٍ أعظم من هذا؟!.. ".. وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)" أيْ والذي عند الله من نعيمٍ لا يُحْصَيَ ولا يُقَارَن ولا يُوصَف هو خيرٌ حتماً للأبرار مِمَّا يَتَقَلّب فيه الذين كفروا من متاع الدنيا القليل الزائل.. والأبرار جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير أيْ المؤمنون الخَيِّرِون الصادِقون الطائعون الصالحون الشاكرون المُخلصون المُحسنون (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكون العامِلون بأخلاق إسلامهم
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)" أيْ وبالتأكيد ليس كلّ أهل الكتاب وهُم اليهود والنصاري سَيِّئِين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (113)، (114)، (115) من سورة آل عمران " لَيْسُوا سَوَاءً..") بل إنَّ منهم مَن يؤمن بوجود الله وبما أُنْزِلَ إليكم أيها المسلمون وهو القرآن العظيم ويَتّبِع الإسلام، ويؤمن كذلك قطعا بما أنزل إليهم سابقا من التوراة والإنجيل، والناظِر إليهم المُتَابِع لهم يَرَاهُم خاشِعين لله أيْ خائفين منه مُراقِبين مُحِبِّين له مُسْتَشْعِرين عظمته وهيبته خاضِعين مُسْتَسْلِمِين لوصاياه وإرشاداته التي أوْصَيَ بها في الإسلام وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" أيْ ومن تمام خُشوعهم وبسببه ومن صفاتهم الكريمة أيضا أنهم لا يَتركون أبداً العمل بآيات الله ويَبيعون أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فإنْ فَعَلوا ذلك فهُم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. ".. أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيبة الحَسَنة هم حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)" أيْ إنَّ الله حتماً لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الصابرين في كل موقفٍ، المُصَابِرين أيْ المُلازِمِين للصبر دائماً الأشَدّ صبراً من أعدائهم، المُتّقين في كل شئون حياتك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَصَابِرُوا.." أيْ ولازِمُوا الصبر واستمرّوا عليه علي الدوام وكونوا أكثر صَبْراً من أعدائكم وغَالِبوهم أيْ اغلبوهم واهزموهم به ولازِمُوا الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء ضدّ أيِّ اعتداءٍ منهم بأيِّ صورة من الصور الفكرية أو الاقتصادية أو العلمية أو العسكرية القتالية أو غيرها.. فالمُصَابَرَة درجةٌ أشدّ من الصبر وتكون عند مواجهة عدوٍّ مَا فهي صبرٌ في مُقابِل صابرٍ آخر.. ".. وَرَابِطُوا.." أيْ وهذا أيضا شكل من أشكال الصبر يُنَبَّه عليه لمزيدٍ من الاهتمام به.. أيْ ولازِمُوا حدود بلادكم بمُعِدَّاتكم المطلوبة وكونوا مُرْتَبِطِين بهذه الحدود لحمايتها ضدّ أيِّ مُعْتَدِين يَعتدون عليها بالقتال ولازِموا أيضا الجهاد وارْتَبِطوا به بكل صُوَرِه ضدّ أعدائكم (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن) وبالجملة لازِموا وارْتَبِطوا دائما بلا أيِّ فَكّ لهذا الارتباط بكل صور العبادة أي الطاعة لله تعالي ولازموا سبيله أيْ طريقه، أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولازِمُوا الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، ولا تُلازِمُوا أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الصابرين المُصَابِرين المُرَابِطين المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات (103) حتي (110) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا تأكّدتَ أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون (برجاء مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات (187)، (221)، (226)، (227) منها أيضا، ثم الآية (195) من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية).. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بخُلُق صِلَة الأرحام، أي الأقارب، بالسؤال والدعاء والتواصل والتّزَاوُر والتعاون والتآلف والتآخِي والتّهَادِي ونحو ذلك من صور الرحمة والحب والأُلْفَة والعَوْن والتسامُح والتقارُب، وكلها صفات مُسْعِدَة، ولو عَمِلَتْ بها كل أسرة وعائلة، والتي هي حجر الأساس للمجتمع، بل ولو عَمِلَت بها الإنسانية كلها، لَتَرَابَط الجميع وازدادت قوّتهم وتَطوَّروا وارْتَقوا، وسعدوا في دنياهم سعادة تامّة، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ من المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وبالجملة ستَسعد إذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)" أيْ يا جميع البَشَر، مسلمين وغير مسلمين، خافوا ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وراقِبُوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبين لكل شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وإيّاكم أن تَصِلوا أبدا لمرحلة إغضابه بل سارعوا لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً.." أيْ لأنه هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وكلكم عنده متساوون فلا يتكَبَّرَ أحدٌ علي غيره ولا يَفْضُل أحدٌ أحداً إلا بعمل الخير، وخَلَقَ مِن هذه النفس زوجها حواء من جنسها ونوعها وصنفها ليحدث التآلُف والتحابّ والالتئام والسرور التامّ بينهما لأنهما من بعضهما، وهذه معجزة عظيمة أيضا لأنها هي المرأة الوحيدة التي خُلِقَت من رجلٍ بينما بقية الأنفس يخلقها سبحانه بعد ذلك من التزاوُج بين الرجال والنساء والذي به بَثّ منهما أيْ نَشَرَ في الأرض رجالاً كثيرين ونساءً كثيرات.. وكل هذا هو من بعض دلائل تمام قُدْرته وكمال علمه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ واتّقوا الله الذى تتساءلون به أيْ يَسأل بعضكم بعضاً به بأن يقول له على سبيل الاسْتِعْطَاف والطلَب أسألك بالله أن تفعل كذا أو أن تترك كذا فيما تحتاجونه وما تتبادلونه من شئون حياتكم لعِلْمكم بما في فِطْرتكم من تعظيم الله الذي يُؤَدّي إلي ألاّ تَرُدُّوا مَن سَأَلَكم به، فكما عظّمتموه بذلك فلْتُعَظّموه بعبادته وتَقَواه إذَن.. ".. وَالْأَرْحَامَ.." أيْ وكذلك اتّقُوا أيْ تَجَنّبُوا الأرحام فلا تَقطعوها قريبها وبعيدها، أي عليكم العمل بخُلُق صِلَة الأرحام، أي الأقارب، بالسؤال والدعاء والتواصُل والتّزَاوُر والتعاون والتآلف والتآخِي والتّهَادِي ونحو ذلك من صور الرحمة والحب والأُلْفَة والعَوْن والتسامُح والتقارُب، وكلها صفات مُسْعِدَة، ولو عَمِلَتْ بها كل أسرة وعائلة، والتي هي حَجَر الأساس للمجتمع، بل ولو عَمِلَت بها الإنسانية كلها، لَتَرَابَط الجميع وازدادت قوّتهم وتَطوَّروا وارْتَقوا، وسعدوا في دنياهم سعادة تامّة، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي مُرَاقِبَاً مُطّلِعَاً على كلّ شيءٍ من أحوالكم أيها الناس حافظاً له تمام الحِفْظ وسيُحاسبكم عليه فاحذروا أن تتجاوزوا ما شَرَعَه لكم في الإسلام من وصايا وضوابط مُسْعِدَة، لأنّ هذا التجاوُز يُؤدِّى إلى عدم رضاه عنكم وبالتالي عدم عوْنكم وتوفيقكم فتتعسون حتماً في الداريْن
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلِي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم، الذين يَرُدُّون لهم كل أموالهم كاملة إذا كان لهم مال عندما يَبْلُغون عُمْرَاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها، ولا يُرَاوِغُون أو يُخادِعُون من أجل أكلها بعضها أو كلها، فإنَّ هذا من الأعمال الخبيثة الدنيئة التي تَنشر الشرّ والغِلّ والثأر في المجتمع فيَتْعَس الجميع بأثر ذلك في دنياهم، ثم في الآخرة الإثم العظيم والتعاسة الشديدة.. بينما بحُسن الكفالة والأمانة تَتَرَقّق المَشَاعِر بالعقول وينتشر التّآلُف والتّآخِي ويَقْوَيَ المجتمع بقوة التكافل وحُسن التربية للأيتام ولكلّ مُحتاجٍ فيَسعد الجميع.. في الداريْن (برجاء مراجعة تفسير الآية (220) من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإيّاك إيّاك أن تكون من الذين يَستبدلون الطيّب بالخَبيث في كل شئون حياتهم، فيتركون خيراً ويفعلون شرّاً، وإلا تَعِسْتَ علي قَدْر شَرِّك.. في الداريْن
هذا، ومعني "وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)" أيْ وأَعْطُوا الأيتام، وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ، وكنتم أَوْصِيَاء عليهم، أموالهم إذا وَصَلُوا سِنَّاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها ورأيتم منهم قُدْرَة على حفظها بعد تجربتهم واختبارهم في بعض الأمور التي تُمكّنكم من معرفة ذلك.. ".. وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.." أيْ ولا تُغَيِّرُوا الرَّدِيء من أموالكم بالجَيِّد من أموالهم فتأخذوا الجيّد وتُعطوهم بَدَلاً منه الخبيث، وعموماً لا تَستبدلوا الخبيث أي الحرام وهو أكل مال اليتامى وأموال الناس بالحلال وهو مالكم الذي حصلتم عليه من طُرُقٍ حلالٍ فتأخذوا الحرام وتتركوا الحلال.. ".. وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ.." أيْ ولا تأخذوا أموالهم وتُضِيفوها إلى أموالكم.. ".. إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)" أيْ إنَّ ذلك الفِعْل كان إثماً كبيراً عظيماً يُعَاقَب عليه فاعله بما يُناسِب في الداريْن فلا تفعلوه إذَن.. إنَّ الآية الكريمة تَمنع مَنْعَاً تامَّاً صارِمَاً علي كلّ مَن يَتَكَفّل بأمر اليتيم أىَّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّى إلى الإضرار بأمواله وممتلكاته بل عليه أن يحفظها له بل ويجتهد في تنميتها ما استطاع حتي يُسَلّمها له تامّة نامِيَة عند بلوغه السِّنَّ الراشِد الذي فيه يمكنه استردادها وحُسن استخدامها
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عادلا مع زوجك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (1) السابقة).. إنه تعالي يُوصِيِ بها وبحُبِّها وبحُسن التعامُل والعدل معها كما وَصَّيَ علي اليتيم تماما، لأنَّ كليهما يَظنّ به سَيِّء الخُلُق ضعفاً قد يُشَجِّع علي استغلاله وظلمه بما يؤدّي إلي التشاحُن والتباغُض والانتقام.. وبالتالي التعاسة.. في الدنيا أولا.. ثم في الآخرة تعاسة وعذاب أشدّ إذ الظلم ظلمات يوم القيامة
هذا، ومعني "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3)" أيْ وكما أنكم تخافون عظيم الخوف أن لا تَعْدِلوا في تعاملكم مع اليتامي لأنه كان حُوبَاً أيْ ذَنْبَاً كبيراً فخافوا مثله مع النساء واعدلوا تمام العدل معهنّ، وعند بعض العلماء خافوا أيضا إذا تَخَلّفَت العدالة عندما تريدون تَعَدُّد الزوجات فلا تُعَدِّدُوا.. وكذلك من المعاني وإنْ خِفْتم ألاّ تَعْدِلُوا في اليتامى من النساء اللاتي أنتم أوْصِياء عليهنّ بأن لا تُعْطوهنّ مُهُورَهُنَّ التي تُمَاثِل غيرهنّ إذا أردتم الزواج منهنّ علي اعتبار أنكم مَن قُمتم برعايتهنّ، أو تتزوجوهنّ لمجرّد الحصول علي أموالهنّ ثم تظلموهنّ بعد ذلك لأنكم لا رغبة حقيقية لكم فيهنّ والزواج منهنّ، فاتركوهنّ إذَن حتي لا تظلموهنّ وانكحوا أيْ تَزَوَّجوا ما يَطيب لكم وتستحسنونه من النساء من غيرهنّ – ومن معاني ما طابَ لكم من النساء أن تكون الزوجة طيّبة الخُلُق والخِلْقَة والمَكَانَة والأسرة والبيئة والفكر والعلم ونحو ذلك لتسعد الدنيا والآخرة، ثم هي من حقّها من باب عدل الإسلام اختيار زوجها وقبوله أو رفضه علي مِثْل هذه الصفات الطيّبة وغيرها أيضا – بعَدَدِ اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ولا تزيدون علي ذلك، وهذا هو معني ".. فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ.." أيْ فإذا غَلَبَ علي ظَنّكم تَوَفّر تمام العدل فحينها من الممكن أن تُعَدِّدُوا أما إذا لم يَغلب علي ظنّكم تَوَفّر تمام العدل فلا تُعَدِّدُوا واكتفوا بزوجةٍ واحدة وهذا هو معني ".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.."، ومعني ".. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.." أيْ أو اكْتَفُوا بما تملكونه بأيديكم أيْ بما هو عندكم من عَبْدَاتٍ تُجَامِعُوهنّ، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب وبالتالي فقد انتهت هذه الرخْصَة، ولقد كان الإسلام سَمَحَ بجِمَاعِهِنَّ كنوعٍ من التّعامُل مع واقعهم قبل مَجِيئِهِ حيث كانوا يفعلون ذلك حتي استطاع تغييره مع الوقت ومَنْعه، بما يُشْبِه ما فَعَلَه معهم عند تحريم الخمر عليهم حيث لم يمنعهم منها مرة واحدة وإلا صَعُبَت عليهم الاستجابة لأنها كانت جزءاً أصيلاً من حياتهم وإنما مَنَعَهم بالتدريج.. ".. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3)" أيْ ذلك الاكتفاء بالزوجة الواحدة أَقْرَب إلي أنْ لا تَجُورُوا وتَتَعَدُّوا وتَظلموا.. هذا، ومن العدل عدم الزواج بزوجةٍ ثانيةٍ أو ثالثةٍ أو رابعةٍ إلا بسبب، كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله تعالي ".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.."، وقوله ".. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3)" ،ثم قوله " وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ.." (النساء:129) (برجاء النظر لتفسيرها لتكتمل المعاني) والتي كلها تُفيد ضِمْنَاً صعوبة العدل بين الزوجات في كل شئون الحياة بكل تفاصيلها، ولهذا يكون تَعَدُّد الزوجات عند الضرورة أو الحاجة الشديدة كمرض الزوجة أو شدّة احتياج الجماع للزوج أو كثرة سفره وتَنَقّله لفتراتٍ طويلةٍ فيحتاج لزوجةٍ في كل مكانٍ حتي أربعة أو كثرة عدد النساء علي الرجال بسبب استشهادهم في الحروب وما شابه هذا من أسبابٍ لا تَكْسِر مشاعر الزوجة الأولي وتُؤْلِمها وتُؤْذِيها بل قد تُرَحِّب به وتساعد عليه وتُثاب من أجله
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التعامُل مع النساء بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية (1) السابقة، للشرح والتفصيل).. ومن الذين يَحفظون لزوجاتهم حقوقهنّ، وأوّلها مَهْرها، إذ هو من العلامات الأولي علي ما سيَكون بينهم من حُسن المُعامَلَة بالحب والحوار والتفاهُم والتسامُح والتقارُب والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة ونحو ذلك من أسباب السعادة الزوجية
هذا، ومعني "وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)" أيْ وأعطوا أيها الرجال النساءَ اللاتي ستَتَزَوَّجُونَهنّ صَدُقَاتِهِنَّ أيْ مُهُورَهُنَّ – جَمْع صَدُقَة وهي ما يُعْطَيَ للمرأة مِن مَهْرٍ عند زواجها – نِحْلَة أيْ عَطِيَّة بلا انتظارِ تعويضٍ وبتمام طِيبِ خاطرٍ وموافقةٍ والتزامٍ وصِدْقِ نِيَّةٍ في طَلَب زواجهنّ.. وليس لكم حقّ في هذه المُهُور.. لكنْ إنْ طَابَتَ نفوسُهُنَّ أيْ سَمَحَت ورَضِيَت وتَكَرَّمَت بالتّنَازُل لكم عن شيءٍ من المَهْر قليلاً أو كثيراً أو بالتأخير لبعضه بلا أيِّ إكراهٍ من أيِّ أحدٍ لأيِّ سببٍ من الأسباب فخذوه وانتفعوا به انتفاعاً هنيئاً أيْ حلالاً طيّباً يُؤَدِّي بكم إلي الهناء الكثير أيْ السرور مَريئَاً أيْ بلا مَشَقّة ولا ضَرَر ولا تَنْغِيص ولا إثم بل بنتائج مَحْمُودَة مُسْعِدَة في الداريْن
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التّصَرُّف في الأموال والممتلكات، لأنها هي قوام الحياة، هي أساسها والتي بها تَقوم وتَصْلُح وبدونها تَتَعَطّل.. بل ويُحسنون التَّصَرُّف في كل أمور حياتهم فيُحسنون تقدير الظروف والأفراد ووزنها ووضعها موضعها المناسب الذي يُؤْتِي أفضل النتائج المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)" أيْ ولا تُعْطوا أيها المسلمون وأيها الناس جميعا السفهاء – جَمْع سَفِيه وهو ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور – أموالكم التي جعلها الله لكم قياما أيْ جعل عليها قيام كل شئون حياتكم أيْ صلاحها وهي أساسها وبدونها تَتَعَطّل، وذلك حتي لا تضيع هذه الأموال والممتلكات والخيرات بإنفاقها فيما لا خير فيه ولا نفع منه وإفسادها وإتلافها فتتعس الحياة وتتعسون في دنياكم وأخراكم.. ".. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)" أيْ فلا تُعطوا السفهاء ما لا يُناسبهم من مالٍ أو مَنْصِبٍ أو مسئوليةٍ أو نحو ذلك لأنهم لا يُحْسِنون التّصَرُّف وثَبَتَ عليهم ذلك تِكْرَارَاً ولكن اعطوهم ما يناسبهم ويناسب ظروفهم وأحوالهم من أموالٍ وأعمالٍ وأرزاقٍ وغيرها مع القول الطيِّب وحُسن الإعداد والتدريب بما يُشَجِّعهم علي التّطَوُّر والنمو وتَجاوُز ما هم فيه ليسعد الجميع في الداريْن
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلِي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم، الذين يَرُدُّون لهم كل أموالهم كاملة إذا كان لهم مال عندما يَبْلُغون عُمْرَاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها، ولا يُرَاوِغُون أو يُخادِعُون من أجل أكلها بعضها أو كلها، فإنَّ هذا من الأعمال الخبيثة الدنيئة التي تَنشر الشرّ والغِلّ والثأر في المجتمع فيَتْعَس الجميع بأثر ذلك في دنياهم، ثم في الآخرة الإثم العظيم والتعاسة الشديدة.. بينما بحُسن الكفالة والأمانة تَتَرَقّق المَشَاعِر بالعقول وينتشر التّآلُف والتّآخِي ويَقْوَيَ المجتمع بقوة التكافل وحُسن التربية للأيتام ولكلّ مُحتاجٍ فيَسعد الجميع.. في الداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة تفسير الآية (220) من سورة البقرة ثم الآية (2) من سورة آل عمران)
هذا، ومعني "وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)" أيْ واخْتَبِرُوا الأيتام، وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ، وكنتم أَوْصِيَاء عليهم، باختبارهم وتجربتهم في بعض الأمور إذا قَارَبُوا الوصول لسِنٍّ راشدٍ بما يُمَكّنكم من معرفة أنهم يستطيعون حُسن التّصَرُّف وإدارة شئونهم وأموالهم، واستمرّوا في ذلك حتي إذا وَصَلُوا النكاح أيْ سِنَّ البلوغ والزواج، فإنْ تَبَيَّنْتم ورأيتم واستشعرتم منهم رُشْدَاً أي اتّزَانَاً وصَلاَحَاً وحُسنَ وصوابَ تَصَرُّفٍ، فأَدّوُا وسَلّموا وادْفَعوا إليهم أموالهم كاملة حينها والتي كانت أمانة عندكم لهم، وإنْ لم تستشعروا منهم رُشْدَاً فلا تُعطوهم ممتلكاتهم حتي يَرْشُدُوا.. هذا، ويُرَاعَيَ حُسن إعدادهم وتدريبهم مُبَكّراً بما يُناسبهم وبما يُشَجِّعهم علي التّطَوُّر والنّمُوّ وسرعة الوصول للرشْد والصواب.. ".. وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا.." أيْ ولا تأكلوا أموالهم فإنه يكون إسرافاً منكم أيْ تَجَاوُزَاً للحَدِّ الحلال والدخول في الحرام الذي تُعَاقَبُون عليه في الداريْن.. وكذلك لا تأكلوها بِدَارَاً أيْ مُبَادِرِين أيْ مُسَارِعِين مُسْتَعْجِلِين الانتفاع بها وهم صغار خوفاً أن يَكبروا وتُرَدُّ إليهم ويُمكنهم أخْذَها.. ".. وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ ومَن كان مِن الأوْصِيَاء عليهم غَنِيَّاً فعليه أنْ يَتَعَفّف أيْ يَمتنع أن يأخذ من مال اليتيم شيئاً لكن مَن كان فقيرا فليأخذ منه بقَدْر احتياجاته الضرورية وما يَكفيه بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن.. ".. فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ.." أيْ فإذا سَلّمتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم شاهِدَيْن عند دفعها إليهم بأنهم قد تَسَلّموها، فهذا الإشهاد يُبْعِد عن أيِّ اتّهام ويَمنع أيَّ تَنَازُع مستقبليّ فيَسعد الجميع ولا يَتعسون.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)" أيْ ويَكفِي اليتامي وكل مظلوم والناس جميعا كفاية تامّة ويُطَمْئِنُهم اطمِئْناناً كاملا، ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه، أنه سبحانه بكرمه ورحمته وفضله وإحسانه وعدله هو الذي سيكون مُحَاسِباً حافِظَاً لكل حقوقهم، سيكون المُحَاسِب المُرَاقِب المُشاهِد الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه، المُحاسِب لهم علي أعمالهم، والتي سيُجازيهم علي خيرها بكل تأكيدٍ بما هو أعظم منها، في دنياهم أولا حيث تمام السعادة والخير والكفاية التامّة بالنصر والعوْن والرعاية والرضا والحب والأمن ثم في أخراهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر، ويُجَازِيهم بالقطع علي شَرِّها بما يستحِقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم لهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)" أيْ هذا بَيَانٌ لقاعدةٍ عامّةٍ للتوريث فى الإسلام وهى أنَّ الرجال لا يَنْفَرِدُون وحدهم بالميراث من أقاربهم الموتي بل للنساء أيضا جزء منه سواء أكان هذا الشيء المَوْرُوث قليلا أم كثيرا، ثم ستأتي آيات المواريث بعد ذلك لتوضيح نصيب كل وارِث.. أيْ للرجال جزءٌ ومِقْدارٌ من الأموال والممتلكات التي تركها الوالدان والأقربون بعد موتهم وللنساء أيضاً جزءٌ ومِقْدارٌ مِمَّا تَرَك هؤلاء دون مَنْعٍ أو ظلمٍ أو نقصان.. ".. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ.." أيْ مِن الذي قَلّ أو كَثُر من هذا المال المَتْرُوك، أيْ سواء قلَّ أو كَثُر الميراث فلكلٍّ نصيبه، فليس نصيب النساء والأطفال يكون فيما هو كثير فقط فإنْ كان قليلا أخذه الرجال وحدهم!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ بالنسبة للرجال وللنساء هو للتنبيه وللتأكيد علي أنَّ لكلٍّ منهم نصيبه المُحَدَّد المُنْفَصِل المُسْتَقِلّ عن الآخر وليس للرجال أيّ سلطانٍ علي نصيب النساء في ميراثهنّ.. ".. نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حقّ النساء وكلّ وارِث في نصيبه لأنَّ الله هو الذي جعله لهم نصيباً مفروضاً أي مِقْدَارَاً مُلْزِمَاً من عنده تعالي وبالتالي فليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أنْ يُغَيِّر فيه أو لا يَلتزم به أو يَتَهاوَن فيه أو يَتحايَل عليه فلا يُعطيه لمُسْتَحِقّه وإلا عُوقِبَ بما يُناسب في الداريْن
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من أصحاب المشاعر الإنسانية الطيّبة الرقيقة الراقية، فإنَّ هذا ينشر الحب والتآلف والتعاون ويَمنع الأنانية والكُرْه والتنازُع فيَسعد الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)" أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ للتعاطُف والتراحُم والتّحَابّ بين الناس جميعا وإدخال السرور عليهم ليسعدوا بذلك.. أي وإذا تَوَاجَدَ أثناء القِسْمَة للميراث أو حتي عَلِمَ بتقسيمه أصحابُ القرابة الذين ليس لهم في الميراث، أو اليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ أو المساكينُ أيْ المُحتاجون لكلّ أشكال العوْن والذين ليس لهم أيضا في الميراث، فأعطوهم منه أيْ من هذا الميراث قبل تقسيمه شيئاً مَا مِمَّا تَيَسَّرَ مناسباً لا يَضُرّكم ويُسعدهم ويَمنع عنهم مشاعر السوء كالحقد والحسد وغيره مع القول الطيّب الحَسَن الجميل فإن لم تستطيعوا إعطاءهم لقِلّة الميراث مثلا أو لأنه لِصِغارِ سِنٍّ وأنتم فقط كفلاء لهم أو ما شابه ذلك من الموانع فلا أقَلَّ من أن تقولوا لهم قولاً معروفاً أيْ حَسَنَاً وتَرُدُّوهم وتَعتذروا لهم بأدبٍ رَدَّاً جميلاً طيّباً مَقْبُولَاً بلا تَأَفّفٍ ولا إذلال
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن الذين يَحفظون للضعفاء حقوقهم ويُحسنون معاملتهم، تماما كما يحبون أن يحفظ الآخرون لذُرِّيتهم إذا كانت ضعيفة من بعدهم حقوقهم ويُحسنون معاملتهم بكل أخلاق الإسلام، ومن الذين يَتّقون الله في ذلك ما استطاعوا، بل ويقولون هذا القول السديد الصحيح العادل الحقّ المُسْعِد للآخرين ويدعونهم إليه ليعملوا به.. بهذا يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)" أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ لعموم الناس أن يَتعامَلوا مع اليتامى بما يُحبّون أن يَتعامَل به غيرهم مع أولادهم الصغار الضعاف الذين سيكونون يتامَيَ هم أيضا مِن بعد موتهم.. أي وعلي الناس جميعا ألاّ يَظلموا اليتامي ولْيَخَفِ الذين لو ماتوا وتركوا مِن خلفهم أبناءً صغاراً ضعافًاً لَخَافوا عليهم أن يَنالهم من الظلم والضياع لغياب كافلهم مثلما فعلوه مِن ظلمٍ مع اليتامي فلْيَتَّقوا الله بالتالي إذَن أيْ عليهم أن يَخافوه ويُراعوه ويَتّبِعوا الإسلام في كل شئونهم وفي أمر كل اليتامي ويَفعلوا معهم ما يُحبّون أن يُفْعَل مع ذُرِّيَّتهم اليتامي مِن بعدهم وذلك بحفظ أموالهم وحُسن تربيتهم ومنع الأذى عنهم، فجَعَلَ سبحانه من خوفهم علي ذُرِّيَّاتهم وحبهم لهم وحنانهم عليهم دافِعَاً لهم على الخوف والحنان على كل اليتامي.. ".. وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)" أيْ وعليهم أيضا أن يقولوا دائما قولا سديدا أيْ قولا صائبا، أي مُصِيبَاً للهدف، أي الذي يُحَقق دوْما الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة للجميع، أي الذي هو علي الدوام من أخلاق الإسلام، ليسعدوا تمام السعادة بهذا في دنياهم وأخراهم.. بينما القول الغير السَّديد أي الخاطِيء الباطل الضلال الضياع الكاذب الظالم الشَّرِّيّ المُخَالِف للإسلام حتما يؤدي إلي تعاسة الجميع فيهما.. وهذا القول السديد يقولونه لكل مَن حولهم ينصحونه به لنشر الخير والسعادة ومَنْع الشرّ والتعاسة عموماً ولإحسان معاملة كل اليتامي ويقولونه لكل مَن يُوصِي وصية فيها ظلم لهم عندما يتركهم يتامي ويقولونه لكل يتيمٍ يُسعدونه ويُرَبّونه به كما يقولون دائما خيراً مُسْعِدَاً مُرَبِّيَاً لأبنائهم، وهكذا
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)" (برجاء مراجعة الآية (2)، والآية (6) للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ الذين يَظلمون اليتامي بأخذ أموالهم، هم في حقيقة الأمر لا يأكلون أكلاً مُفِيدَاً مُسْعِدَاً بل ما يأكلون إلا ما يؤدّي بهم في الآخرة إلي النار وعذابها المُهِين الذي لا يُوصَف!.. وذلك قطعا مع نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وقد خَصَّ سبحانه بالذكر الأكل فى بطونهم من بين صور انتفاعهم بما يأخذونه من مالٍ حرامٍ لإظهار حقارتهم حتى إنهم يسرقون أموال اليتامي ويظلمونهم لمجرّد ملء البَطْن!.. ".. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)" أيْ وسيَحترقون وتُشْوَيَ أجسادهم يوم القيامة بسعيرٍ أي بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّبون بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُلْتَزِمِين بكل دِقّةٍ بنظام المواريث في الإسلام وكيفية توزيعه علي الوَرَثَة حيث هو أعدل نظام يمنع أيّ تَشَاحُنٍ أو تَبَاغُضٍ أو تَقَاطُعٍ وبالتالي يأمن الجميع ويطمئنون بانتشار العدل ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإذا كنتَ من الذين يَستوصون بأبنائهم خيراً فيُحسنون تربيتهم وتوجيههم (برجاء مراجعة تفسير الآية (233)، (234) من سورة البقرة، والآية (37) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن وسائل الإسلام في تربية الأبناء ليسعدوا وليسعد آباؤهم ومُرَبِّيهم بهم في الداريْن).. هذا، ويُرْجَيَ مراجعة أهل التَّخَصُّص في علم المواريث عند توزيع ميراث المُتَوَفّي بعد أداء ما عليه مِن دَيْنٍ أو تنفيذ وَصِيَّة له في مجالٍ خَيْرِيّ بما لا يَضُرّ وَرَثَته أو غيرهم
هذا، ومعني "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)" أيْ يأمركم الله في شأن توريث أولادكم وأبويكم إذا مُتُّم بما يحقق العدل والإصلاح وذلك بأن يكون للذكر مثل نصيب الأنثيين إذا كان الأبناء ذكوراً وإناثاً لأنَّ التكليفات المالية على الأنثى تَقِلّ كثيراً عنها على الذكر حيث هو مُكَلّف بالنفقة على نفسه وأولاده وزوجته وكل مَن يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه أحد، فإنْ تَرَكَ بناتٍ فقط فللبنتَيْن فأكثر ثُلُثَا ما تَرَك والباقي للعَصَبَة – وهم أقارب الميّت الذين لم يُذْكَر لهم نصيب في آيات المواريث بل يأخذون ما تبقي حسب درجة قُرْبهم وحسبما يحقّق المصالح والتي يُحَدِّدها أهل العلم والخِبْرَة في توزيع الميراث – وإنْ تَرَكَ بنتاً واحدة فلها نصف ما تَرَك والباقي للعَصَبَة، وإنْ تَرَك أباً وأماً فلكلِّ واحدٍ منهما السدس إنْ كان له ولد معهما – والولد يعني مولود سواء أكان ذكراً أم أنثي – فإن لم يكن له ولد ووَرِثه أبواه فقط فلأمه الثلث والباقى للأب، فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقى للأب ولا شيء للأخوة.. تُعْطَىَ هذه الأنصبة لمُسْتَحِقّيها بعد تنفيذ ما وصَّى به في حدود ما أجازه الإسلام وبما لا يزيد عن ثلث أمواله وممتلكاته وبعد أداء ما قد يكون عليه من ديون.. آباؤكم وأبناؤكم الذين فُرِض لهم هذا الميرات لا تعرفون أيهم أقرب لكم نفعاً في دنياكم وأخراكم فلا تُفِضّلوا واحداً منهم على الآخر.. هذا الذي تُؤْمَرُون به مَفْروضٌ عليكم من الله فلا مجال لعدم تنفيذه وإلاّ عُوقِبَ وتَعِسَ بما يُناسب في دنياه وأخراه مَن لم يعمل به.. إنَّ الله كان عليماً تمام العلم بخَلْقه وبكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، حكيماً فيما وَصَّاهم بهم من أخلاقيَّات الإسلام ووصاياه وتشريعاته حيث يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ دِقّةٍ بلا أيّ عَبَث
ومعني "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)" أيْ ولكم أيها الرجال نصف ما تَرَك أزواجكم بعد وفاتهنّ إنْ لم يكن لهنّ ولد ذكراً كان أو أنثى، فإنْ كان لهنّ ولد فلكم الربع مِمَّا تَرَكْن، ويكون الباقي في الحالتين لبقية الوَرَثة، وهذا النصيب ترثونه من بعد إنفاذ وصيتهنّ في حدود ما أجازه الإسلام وبما لا يزيد عن ثلث أموالهنّ وممتلكاتهنّ أو ما يكون عليهنّ من دَيْن لمُسْتَحِقّيه.. ولأزواجكم أيها الرجال الربع مِمَّا تركتم، إن لم يكن لكم ابن أو ابنة منهنّ أو من غيرهنّ، فإنْ كان لكم ابن أو ابنة فلهنّ الثّمُنُ مِمَّا تركتم، وإنْ كُنَّ عِدَّة زوجات حتي أربع يُقَسَّم الربع أو الثمُنُ بينهنّ بالتساوِي، فإنْ كانت زوجة واحدة كان هذا ميراثًا لها، ويكون الباقي لبقية الورثة، وذلك من بعد إنفاذ ما كنتم أوصيتم به من الوصايا الجائزة في الإسلام أو قضاء ما يكون عليكم من دَيْن.. وإنْ مات رجل أو امراة وليس له أو لها ولد ولا والد، وله أو لها أخ أو أخت من أم – وهذا هو معني الكلالة أن يموت مَيّت ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته من أمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كم في آية الكلالة في آخر هذه السورة – فلكل واحدٍ منهما السدس، فإنْ كان الإخوة أو الأخوات لأمٍ أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يُقَسَّم بينهم بالتساوِي لا فرق بين الذكر والأنثى، وهذا الذي فرضه الله للإخوة والأخوات لأمٍ يأخذونه ميراثًا لهم من بعد قضاء ديون الميّت وإنفاذ وَصِيّته إنْ كان قد أوْصَىَ بشيءٍ لا ضَرَر فيه على الوَرَثَة.. بهذا أوصاكم ربكم وصية نافعة مسعدة لكم.. والله عليم تمام العلم بما يُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه وبمَن عَدَلَ منهم ومَن ظلم حليم لا يُعاجلهم بالعقوبة.. فلْيَعمل كلّ عاقلٍ إذَن بهذه الفروض في المواريث وبكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يُخَالِفها فيتعس فيهما.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ في الآيتين الكريمتين عن الوَصِيَّة والدَّيْن هو لمزيدٍ من التأكيد علي الاهتمام بهما والتنبيه لهما وتثبيتهما وعدم نسيانهما
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)" أيْ هذه التشريعات والأخلاقِيَّات والنّظُم والوَصَايَا التي نُوصِيكم بها هي حدود الله تعالي أيْ الحواجز التي عليكم ألاّ تقتربوا منها لتَتَخَطّوها لأنَّ تَعَدِّيَها وتجاوزها يُوقِعكم فيما هو مُحَرَّم عليكم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّكم وتتعسكم في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.." أيْ والذي يُنَفِّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي ورسوله (ص) من أخلاق الإسلام – بما فيها تشريعات المواريث – والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتما سيُدخلهم سبحانه في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)" أيْ وذلك كله الذي نُعطيهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأيّ أحدٍ يُخالِف أوامر الله تعالي ورسوله الكريم (ص) في الإسلام ويَتَجَاوَز حَواجِزه ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنَّ يدخله يوم القيامة نارا يُعَذّب فيها علي قَدْر ما فَعَل ولمُدَّةٍ تُناسِبه، وذلك إضافة إلي نار التعاسة التي كان فيها في دنياه بسبب سُوُئِه.. ".. خَالِدًا فِيهَا.." أيْ باقٍ فيها لا يخرج منها أبداً إلي ما شاء الله وذلك إذا كانت معصيته كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أو كتبه أو رسله أو آخرته، أو كانت شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه، أو كانت نفاقاً أي إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ وكان هذا الشرّ المَخْفِيّ كفراً أو شركا.. ".. وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)" أيْ وسيكون له في دنياه كلّ عذاب يُهينه ويحطّ مِن شأنه ليكون مُقابِلا لاستهزائه بالله ورسله وقرآنه وإسلامه وحدوده، ثم قطعا سيكون له في أخراه من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَقْرَب الزنا (وهو جِمَاع رجلٍ مع امرأةٍ ليست زوجته) أو اللواط (وهو جماع رجلٍ مع رجلٍ، بينما امرأة مع امرأة يُسَمَّيَ السُّحَاق)، لشِدَّة أضرار ذلك وتعاساته، لأنه يُفَكّك الأسرة والتي هي أساس تَمَاسُك المجتمع وتَرَابُطه وقوّته، وينشر اللّقَطَاء وهم أطفال بلا أبٍ ولا أمٍ ولا مأويً فيكونون بذور الجريمة والانتقام من الجميع عند الكِبَر فتنتشر الأحقاد والمشاحنات والثأر وعدم الأمان، بل والأمراض الصحية، فيتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)" أيْ واللاتي يَزْنِين من نسائكم فاطلبوا الشهادة أيها المسئولون والقضاة من أربعة رجالٍ منكم أيْ من المسلمين يكونون صالحين عادلين أمناء ثِقَات يشهدون عليهنّ بالزنا من خلال أن يُقْسِموا أنهم رأوا هذا الفِعْل بأعينهم ودخول ذَكَر الرجل في فَرْج المرأة وليس نقلاً عن أحد، وهو أمر شديد الصعوبة أو شبه مستحيل!! إلاّ إذا حَدَثَ في طريقٍ عامٍ أمام كل مَن يسير فيه!! مِمَّا يعني رحمة الله تعالي بخَلْقه وسَتْره عليهم وحبّه لهم وإتاحة الفرصة إليهم ليتوبوا وليعودوا للخير ليَنْجُوا ويَسْلَم الجميع وليجتهدوا في العلاج لذواتهم ولغيرهم، والعلاج يكون بالاستعانة به سبحانه ودعائه بصِدْقٍ وبالاستغفار وبالندم وبالعزم علي عدم العودة وباتّخاذ إجراءٍ عَمَلِيٍّ هامٍّ وهو حَبْس ومَنْع الذات عن أماكن الفساد ومُقَدّماته كالنظر والسمع والكلام الفاسد ونحو ذلك مع التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في الداريْن لضمان عدم العودة لأيِّ شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما.. ".. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)" أيْ فإنْ شهد هؤلاء الشهود وتأكد الزنا علي امرأةٍ مَا فتُبْقَيَ في البيت لحفظها وصيانتها عن كل ما أدَّي بها وقد يُؤَدِّي مستقبلاً للوقوع في الفاحشة مع حُسن معاملتها ودعوتها لربها ولإسلامها حيث كلّ خيرٍ وسعادةٍ وذلك حتي يُوَفّي الموتُ أَجَلَها وهي علي هذا الخير من الحِفْظ والإرشاد أو يجعل الله لها سبيلاً أيْ طريقاً للخروج من هذا الوضع لحياةٍ مستقيمةٍ سعيدةٍ بتيسير التوبة لها فتتوب توبة صادقة ويُرَيَ ذلك منها في أقوالها وأفعالها وبتيسير عملها بأخلاق الإسلام وبتيسير زواجها مِن رجلٍ صالحٍ يحفظها إن لم تكن متزوجة، أو بإقامة الحَدّ عليها إذا وَصَل أمرها للحاكم أو القاضي وهو الرجْم حتي الموت إذا كانت متزوجة أو الجَلْد مائة جَلْدة إذا كانت غير متزوجة، وبهذا تَضْمَن تماما قبول توبتها وتكفير ذنبها
ومعني "وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)" أيْ وكذلك الصنْفان اللذان يأتيان الفاحشة أيْ الزنا منكم أيها الرجال وهما الصنف الذي تَزَوَّج والآخر الذي لم يَتَزَوَّج – أو الرجلان اللذان يُمارسان فاحشة الشذود معا أيْ اللّوَاط أيْ يُجامِع أحدهما الآخر بإدخال الذكر في فتحة الشَّرَج – فلا تَحبسوا أمثال هؤلاء كالنساء لأنهم مُطَالَبُون بالإنفاق علي مَن يَعولون وإنما الذي يُناسبهم من علاجٍ بعد التذكرة بالتوبة والعودة لله ولأخلاق الإسلام هو الإيذاء بما يُناسب من اللّوْم والعِتاب وبعض الضرب وما شابه هذا مِن ذواتهم ومِن الآخرين مِمَّن عَلِمَ وتأكّدَ بفِعْلهم الفاحشة بعد شهادة الشهود الأربعة ليكون ذلك دافعا للعودة للخير للتّخَلّص مِن مَرَارَة وتعاسة هذا الفِعْل، مع إقامة الحَدّ عند وصول الأمر للحاكم أو القاضي وهو الرَّجْم بالحجارة للمُتَزَوِّج والجَلْد مائة جَلْدَة لغير المتزوج.. ".. فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا.." أيْ فإنْ قاما بالتوبة من ذنوبهما مِن بعد ذلك الظلم الذي فَعَلاه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ، وأصلحا أيْ وعملا الصالحات من الأعمال وقاما بإصلاح كلّ ما أفسداه قَدْر استطاعتهما بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا.." أيْ فحينها اعفوا عنهما وأوقفوا أذاهما ولا تُذَكّروهما بما ارتكبا ولا تعيِّروهما به وعاملوهما مُعامَلَة الأطهار الصالحين بكل تقديرٍ واحترامٍ لأنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له ولأنَّ دوام تذكرة النفس بجرائمها يجعلها غالبا تَهون أي تشعر بالذلّة والحقارة والضعف والخِفّة وإذا هانَت يَسْهُل عليها مزيد من الهَوَان بفِعْل مزيدٍ من الجرائم والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)" أيْ لأنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ كثير عظيم التوبة علي مَن يتوب حيث يعفو عن ذنوبه ولا يُعاقِبه عليها، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)" أيْ ما يكون قبول التوبة حقّاً على الله – وهو سبحانه خالِق الخَلْق ومالِكهم فلا يُوصَف بوجوب شيءٍ عليه تعالى عن ذلك لكنه لتأكيد تنفيذ وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقاً ولتكريم التائبين وتشجيعهم علي التوبة برفع شأنهم ومَكَانتهم بأنَّ لهم حقّاً عنده لا بُدَّ أن يأخذوه منه من رحمته وكرمه وحبه لخَلْقه وفي هذا مزيد من إظهار تمام الطمْأنَة والحب والتكريم والعوْن والنصر لهم فلْيَسْتبشروا ولْيَطمئنّوا ولْيَسعدوا إذَن بذلك – إلا للذين يعملون ما هو سيّء أيْ شرّ أي معصية أي ذنب بجهالةٍ أيْ يعملونه بسبب جَهْلٍ منهم بنتائجه الضَّارَّة المُتْعِسَة لهم ولمَن حولهم حيث يفقدون حب ربهم ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه وسعاداته في دنياهم وأخراهم، وبالتالي فكلّ عاصٍ لله مُخْطِئَاً أو مُتعمِّداً فهو جاهل حتي وإن كان عالماً بالتحريم، لأنه قد عَطّلَ عقله وقت فِعْلها فكان كالجاهل السَّفِيه الذي لا عِلْم له، وبالتالي فكلّ شرٍّ يُفْعَل لا بُدَّ وأن يكون مَصْحُوبَاً بجَهَالَة! وبناءً علي ذلك فالذنوب جميعا يَقْبَل الله التوبة منها!.. والتوبة هي الرجوع لله ولطاعته من خلال العمل بأخلاق الإسلام وتكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للمُسِيء سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ.. ".. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.." أيْ إنما التوبة علي الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون مِن زمنٍ قريبٍ مِن وقتِ عملِ السوءِ ولا يستمرّون فيه بلا مُبَالَاةٍ ويُكَرِّرُونه ويَعتادون عليه وإلا صَعُبَت عليهم التوبة، أيْ يسارعون بها قبل حضور الموت أيْ يتوبون أوَّلَاً بأوَّل من كل ذنبٍ ولا يُؤَخّرون توبتهم لأنهم يتوقّعون انتهاء أجلهم في كل لحظةٍ إذ لا أحد يعلم وقت موته.. هذا، ومن أخَّرَ توبته – وهو أمرٌ مُقِلَقٌ غيرُ مَضْمُونٍ – ثم تابَ قبل أن تأتيه سَكَرَات الموت، فإنها مَقْبُولَة، لأنَّ أجَلَ الإنسان كله يُعْتَبَر مِن زمنٍ قريب.. ".. فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.." أيْ فأمثال هؤلاء حتماً يَقبل الله توبتهم ويَعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويُزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتُرهم ويُعِينهم ويُسعدهم.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)" أيْ وليست التوبة مَقْبُولَة عند الله تعالي بالنسبة للذين يعملون السَّيِّئات أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ويَستمرّون ويُصِرّون عليها طوال حياتهم ولا يُسارعون بالتوبة منها إلي أن يَجيء أحدَهم سكراتُ الموت بأن يشاهد الأحوال التى لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا فيقول فى هذا الوقت الذى لا فائدة من التوبة فيه إنى تُبْت الآن.. إنَّ مِثْل هؤلاء بالقطع لا ينفعهم هذا النوع من التوبة ولا يُنجيهم من العذاب لأنه لم يكن إلا محاولة يائسة أخيرة للنجاة منه وليس توبة حقيقية صادقة وهو ما لا يَخْفَيَ علي صاحب أقلّ عقل ويعلمه قطعا علاّم الغيوب الذي يعلم أسرار ودواخل عقول البَشَر سبحانه، فهو توبة الاضطرار وليس الاختيار، والتي تُشْبِه تَصَرُّف فرعون حينما أدْرَكه الغَرَق فلم ينفعه ما قاله بأيّ شيء.. ".. وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.." أيْ وكذلك لا تُقْبَل التوبة من الذين يموتون على الكفر أيْ علي التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويموتون وهم مُصِرُّون علي امتداد عُمْرِهم علي فِعْل السوء بكل أشكاله حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم أعْدَدنا وجَهَّزنا لهم في الآخرة عذاباً مُوجِعاً مُهيناً مُتْعِساً لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الكُفّار خالدون في النار إلي ما شاء الله أمّا عُصَاة المؤمنين فبَعْد قضاء فترة عقوبتهم فيها يخرجون منها ويدخلون أقلّ درجات الجنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَظلم امرأة أبداً أيَّاً كانت، استضعافاً لها واستكباراً وظلماً، سواء أكانت زوجتك أم بنتك أم أختك أم غيرهن، لأنَّ الظلم ظلمات، في الدنيا حيث يؤدّي إلي التشاحُن والتباغُض والتباعُد والثأر والانتقام وفقدان الأمان وكلّ التعاسات، ثم في الآخرة أعظم من ذلك وأتمّ
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا يجوز لكم أن تجعلوا نساء آبائكم من جُمْلَة مِيراثهم بعد وفاة هؤلاء الآباء، تتصرّفون فيهنّ بالزواج منهنّ، أو المَنْع لهنّ من الزواج، أو تزويجهنّ للآخرين، أو تتصرفون في أموالهنّ، وهُنّ كارهات لذلك كله.. ".. وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.." أيْ وكذلك لا يجوز لكم أن تعضلوهنّ أي تُضَيِّقوا وتُعَسِّرُوا عليهنّ في حياتهنّ ظلما لكي تَضطروهنّ أن يتنازلنَ لكم عن بعض ما أعطيتموهنّ من مهورٍ أو نحوها ويكون هذا التنازُل الإجباريّ في مُقابِل أن لا تعضلوهنّ.. ".. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.." أيْ إلاّ إذا فَعَلْنَ فِعْلَة مُنْكَرَة ظاهِرَة مُبَيِّنَة أىْ مُوَضِّحَة لمَن تَبْلغه أنها فاحشة لشدّة قُبْحها كالزنا مثلا أو استخدام الفاحِش البَذيء من القول أو الفِعْل الذي لا يُمكن تَحَمّله أو ما شابه هذا فيُمْكِن حينها ويكون لكم عذر لأنَّ الظلم مِن جِهتها لا من جهتكم أن تعضلوهن بكلّ عدلٍ بلا أيِّ ظلمٍ حيث فِعْلهن هذا هو دلالة علي استحالة الحياة معهنّ فيكون العَضْل كنوعٍ من العقوبة ببعض التشديد عليها بما يناسب فِعْلها وبقَدْره، وإنْ كانت التي أتَتْ بالفاحشة هي الزوجة فلزوجها أن يأخذ من بعض ما أعطاها من مهرها أو كله في مُقَابِل أن تفتدي ذاتها منه بأن يُطَلّقها.. ".. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ وصاحبوهن وعاملوهن يا أيها الذين آمنوا بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة، وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. أيْ ومع كل ما سَبَقَ ذِكْره فالمطلوب العدل التامّ وعدم الظلم مُطلقاً وحُسن المعاملة مع الزوجات حتي تتحقّق سعادة البيت والأبناء وحتي لا يصلوا إلي هذا الحَدّ من العَضْل وغيره من أسباب الكراهية (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (228) من سورة من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء ثم الآيات (187)، (221)، (226)، (227) منها، ثم الآية (195) من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية).. ".. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)" أيْ فإنْ وَصَلْتم إلي حَدِّ كراهيتهنّ لسببٍ من الأسباب، فاجتهدوا معاً في الصبر والعلاج ومحاولة إعادة الأمور لِمَا كانت عليه سابقا فقد يكون في ذلك خيراً كثيراً مُتَمَثّلاً في حفظ الأبناء وإصلاح الحال وإعادة السعادة ونحو هذا مِمَّا يختلف من بيتٍ لآخر، فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً في دنياكم وأخراكم.. وعلي المسلم أن يتذكّر هذا دائما في كل شئون حياته وليس في حياته الزوجية فقط ليسعد تمام السعادة في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآية (216) من سورة البقرة ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)" أيْ وإنْ أردتم أيها الأزواج أن تُبَدِّلوا زوجة مكان أخري بأن تُطَلّقوا الأولى لسببٍ من الأسباب وتتزوّجوا غيرها وكنتم قد أعطيتم مَن تريدون طلاقها مالاً كثيراً كمَهْرٍ لزواجها فلا يجوز لكم أن تأخذوا منه أيَّ شيءٍ حتي ولو كان يسيراً بل اتركوه لها كاملاً.. ".. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)" أيْ هل تأخذونه كَذِبَاً وذَنْبَاً واضحاً لا يَخْفَيَ سُوؤُه علي أحدٍ تُعَاقَبون عليه بما يُناسِب في دنياكم وأخراكم؟!.. والبُهْتان هو الكذب الفظيع غير المعقول الذي يُبْهِت العقل أيْ يُحَيِّره لأنه لا مُبَرِّر ولا أصل له ولشِدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للذين يفعلون هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)" أيْ هذا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للذين يفعلون هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. أيْ وكيف تَستبيحونه وبأىِّ حقّ ووجهٍ تأخذونه والحال والواقع أنه قد أفضى بعضكم إلى بعض أيْ قد امتزج واختلط بعضكم ببعض واستمتع بعضكم ببعض بالجماع، إذ ما اسْتَحَلّ الزوج فَرْج زوجته الا بذلك المَهر فكيف يستردّه وقد أخذ ما يُقابله؟!.. لقد وَصَلَ وانتهي بعضكم إلي بعض إلي أوسع فضاء، إلي أوسع مَدَيَ ومَجَال، لقد تزوجتكم واخْتَلَيَ كل منكم بالآخر وتكاشفتم وتصارَحْتم وتحرّكتم في الحياة كجسدٍ واحدٍ وسعدتم معا، وكان المهر مقابل كل ذلك، وقد أخذتم حقوقكم منهنّ، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟! فالمهر إذَن حقّهنّ تماما!!.. ".. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)" أيْ وكذلك الحال والواقع أنهنّ قد أخذنَ منكم عهداً ووعداً وعقداً مُوَثّقَاً غليظاً أيْ عظيم الشأن هامّا بالغ الخطورة شديداً قويّاً مَتيناً مُؤَكَّداً لازِم الاحترام والتنفيذ لا يحلّ لكم أن تنقضوه أو تُخالفوه وهو عقد الزواج والذي يُلزمكم بحُسن مُعاملتهنّ بأخلاق الإسلام أو مُفارَقتهنّ بإحسانٍ بهذه الأخلاق أيضا فإنْ أخذتم شيئاً مِمَّا أعطيتموه لهنّ من مهورهنّ فلا يُعَدّ هذا مُفَارَقَة بإحسانٍ بل بظلمٍ وإساءة
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. إذا أحسنتَ اختيار زوجتك فتكون طيِّبة الخُلُق والخِلْقَة والمَكَانَة والأسرة والبيئة والفكر والعلم ونحو ذلك (برجاء مراجعة الآية (1)، (3) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فالحياة الزوجية السعيدة سببٌ هامٌّ من أسباب الحياة السعيدة، في الداريْن.. وأول المواصفات ألا تكون من النساء اللاتي تَنْفر فطرة العقل التي فَطَرَها أيْ خَلَقَها وبَرْمَجها عليها خالقها سبحانه من الزواج منها، كزوجة الأب ومَن سيأتي ذِكْرهن في الآية القادمة.. إنَّ سبب التحريم للزواج منهنّ هو ولا شكّ الأضرار الاجتماعية الشديدة والتَّفَكُّك في المجتمع والتشاحُن والتباغُض والانتقام واختلاط الأنساب واختلال المواريث وما شابه ذلك مِمَّا يُؤَدّي لتعاستيّ الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)" أيْ ولا تَتَزَوَّجُوا أيها الأبناء مَن تَزَوَّجه آباؤكم – وأجدادكم – مِن النساء إلا ما قد سَبَقَ منكم وحَدَثَ وانتهيَ في جاهليتكم قبل معرفتكم بالإسلام فلا مُؤَاخَذَة فيه لكنْ الآن تَجَنَّبوه تماما واتركوه، وذلك تكريماً وتعظيماً وتقديراً لمَكَانَة الآباء وبَرَّاً بهم واحتراماً لزوجاتهم اللاتي من المُفْتَرَض أن يَكُنَّ في مقام الأمهات بالنسبة للأبناء، وكذلك لأنه بالقطع كان في دين الله الذي هو الإسلام فاحشة أيْ شرَّاً عظيمَ الضرَرِ علي الذات والغير شديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، ومَقْتَاً أيْ يَكرهه الله والعقلاء من الناس كُرْهَاً شديداً لأنه يُخالِف العقل والفطرة بداخله وغالبا ما يُحْدِث مَقْتَاً أيْ كراهية شديدة بين الأب وابنه وغيرهم، وساء سبيلاً وطريقاً سَيِّئَاً حيث يُؤَدِّي لأضرارٍ اجتماعية شديدة مُتْعِسَةٍ في الدنيا والآخرة كتفككٍ في المجتمع وتَشاحُنٍ وتَباغُضٍ وانتقامٍ واختلاطٍ للأنساب واختلالٍ للمواريث وما شابه ذلك
ومعني "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)" أيْ حرَّم الله عليكم زواج أمهاتكم ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب أو الأم، وبناتكم ويشمل بنات الأبناء وإنْ نَزَلْنَ، وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم، وعماتكم أيْ أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم، وخالاتكم أيْ أخوات أمهاتكم وأخوات وجداتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت ويدخل في ذلك أولادهن، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة – وقد حرَّم الرسول (ص) من الرِّضَاع ما يَحرم من النَّسَب – وأمهات نسائكم، سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهنّ، وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربَّيْنَ غالباً في بيوتكم وتحت رعايتكم، وهُنَّ مُحرَّمَات فإن لم يكنَّ في حجوركم، ولكن بشرط الدخول بأمهاتهنّ، فإنْ لم تكونوا دخلتم بأمهاتهنّ وطلقتموهنّ أو متْنَ قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ، كما حرَّم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم، ومَن أُلحق بهم مِن أبنائكم من الرضاع، وهذا التحريم يكون بالعقد عليها، دخل الابن بها أم لم يدخل، وحرَّم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنَسَبٍ أو رضاعٍ إلا ما قد سَبَقَ ومَضَىَ وانتهيَ منكم في الجاهلية قبل معرفتكم بالإسلام فلا تفعلوه الآن، ولا يجوز كذلك الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها كما جاء في سُنَّة الرسول (ص).. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
التفسير السعيد للقرآن المجيد
الجزء الخامس
ومعني "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)" أيْ وكذلك يَحرم عليكم زواج المتزوجات إلا بعد مُفَارَقَة الزوج بطلاقٍ أو وفاةٍ وبعد انقضاء عِدَّتِهِنّ.. ومن معاني المُحْصَنات عموماً أنهنّ اللاتي يُحَصِّنَّ ويَحفظنَ أنفسهنّ من الوقوع في الزنا، وبالتالي فالمقصود هو تحريم الزنا.. إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكم أيْ إلاّ ما تملكونه بأيديكم أيْ بما هو عندكم من عَبْدَاتٍ فلا يَحرم عليكم أنْ تُجَامِعُوهنّ، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب وبالتالي فقد انتهت هذه الرخْصَة، ولقد كان الإسلام سَمَحَ بجِمَاعِهِنَّ كنوعٍ من التّعامُل مع واقعهم قبل مَجِيئِهِ حيث كانوا يفعلون ذلك حتي استطاع تغييره مع الوقت ومَنْعه، بما يُشْبِه ما فَعَلَه معهم عند تحريم الخمر عليهم حيث لم يمنعهم منها مرة واحدة وإلا صَعُبَت عليهم الاستجابة لأنها كانت جزءاً أصيلاً من حياتهم وإنما مَنَعَهم بالتدريج.. هذا، وقد يَحدث في بعض حروب الإسلام ضدّ المُعتدين عليه وعلي بلاد المسلمين أن يتمَّ أَسْر بعض النساء ويرفضنَ العودة لبلادهنّ لسببٍ من الأسباب فأمثال هؤلاء مَن أرادَت منهنّ الزواج تُزَوَّج بعقدٍ ومَهْر.. ".. كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.." أيْ فَرْضَ الله عليكم، أيْ كَتَبَ الله عليكم تحريم هذه الأنواع التى سَبَقَ ذِكْرها كتاباً وفَرَضَه فَرْضَاً، فتَجَنّبوا كل ما حَرَّم عليكم، وإلا عُوقِبْتم وتَعِسْتُم بما يُناسِب في الداريْن، والْزَمُوا كل أخلاق الإسلام التي كَتَبَها عليكم في القرآن العظيم لتسعدوا فيهما.. ".. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ.." أيْ بَيَّنَ لكم ما حَرَّم عليكم من النساء وأباح لكم ما عَدَا هؤلاء أن تطلبوا بأموالكم نساءً مُتَزَوِّجِين بِهِنَّ لا زَانِين.. ".. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.." أيْ فما انتفعتم وتَلَذّذتم به من النساء عن طريق الزواج فأعطوهنّ أجورهنَ عليه أيْ مُهُورَهُنّ في مُقابِله والتي هي فريضة فرضها الله عليكم لهنّ لا بُدّ من أدائها.. ".. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ.." أيْ ولا إثم ولا تَحَرُّج ولا عقوبة عليكم في الداريْن في الذي تَرَاضَيْتم به فيما بينكم مِن تَنَازُلِ زوجةٍ عن بعض مَهْرها أو تأجيلٍ له أو لبعضه أو زيادةِ زوجٍ فيه برضاً وطِيب نفسٍ منكما أو ما شابه هذا من بعد ثُبُوت الفريضة وتحديدها وهي المَهْر.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليما أيْ هو عليم دائما بكلّ شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو يعلم كلّ ما يُصلح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويعلم كل ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرا.. وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)" أيْ ومَن لم يَجِدْ ويَمْلِك منكم أيها المسلمون قُدْرَة وسَعَة علي أن يتزوَّج من المُحْصَنات الحَرَائِر – أيْ ليست من العَبِيد – المؤمنات فله في هذه الحالة أن يتزوج مِمَّا مَلَكَت أيْمانكم أيْ اللاتي تَملكونهنّ بأيديكم من عبيداتكم المؤمنات لا الكافرات، إنْ كنتم في زمنٍ فيه عَبِيد، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.." أي هذا تكريمٌ للعبيد ورفعٌ لشأنهم واحترامٌ لإنسانيتهم ومَنْعٌ للتَّأَفّف والعار منهم والتَّرَفّع عليهم عند التعامُل معهم كما أنه تَطْيِيبٌ لنفوس الذين سيتزوّجون منهم حيث يُبَيِّن سبحانه أنَّ المقياس هو درجة تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وليس حَسَبهم ونَسَبهم ونحو هذا فالله تعالي هو وحده حتما الأعلم بحقيقة ودرجة إسلامكم أيها الناس جميعا ومنهم أنتم أيها المُقْبِلُون علي الزواج مِن عَبْدَاتٍ وكذلك هُنَّ اللاتي ستتزوّجوهنّ فقد تكون عبدة أكثر عَمَلاً بأخلاق الإسلام من حُرَّةٍ ومن حُرٍّ سيتزوّجها ثم أنتم في الأصل بعضكم من بعضٍ أيْ جنسكم واحد وهو الإنسان متساوون في الإنسانية ودينكم واحد وهو الإسلام والذي يُذْهِب الفَوَارِق بين الجميع فكلكم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منكم الآخر وكل الناس بعضهم مُتَوَالِد من بعض وكلكم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه.. ".. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ بعد أن عرفتم ما سَبَقَ ذِكْره فتزوجوهنّ بموافقة أهلهنّ – والمقصود بأهلهنّ أيْ المَالِكِين لهؤلاء العَبْدَات وعَبَّرَ سبحانه عنهم بالأهل للتنبيه علي أنَّ العلاقة بين العبد ومالكه يجب أن تكون علاقة أهل لا علاقة استعلاء – والذين بالتالي سيأخذون موافقتهنّ ورضاهنّ، وأعطوهنّ مُهُورَهُنَّ بالمعروف أيْ بالقَدْر المُتَعَارَف المُعْتَاد عليه بين الصالحين في مثل هذا النوع من الزواج عن طِيِبِ نفسٍ منكم بلا مُمَاطَلَةٍ أو انتقاصٍ لأنه ليس من الإسلام أن تستغلوا أنهنّ عَبْدَاتٍ ضعيفاتٍ لأكل حقوقهنّ.. ".. مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ.." أي واختاروهنّ مُحْصَناتٍ ولا تتزوجوهنّ إلا إذا كُنّ كذلك أيْ عفيفاتٍ عن الزنا، ويَكُنّ غير مُسافحاتٍ أيْ غير زانياتٍ علانية مع أيِّ أحدٍ بأجرٍ وبدون وهذا تأكيد علي عدم الزواج إلا من عفيفة، و يَكُنَّ غير مُتّخِذات أخْدَان أيْ أصحاب – جَمْع خِدْن وهو الصاحب والصديق – مُحَدَّدِين يزنون معهم في السرّ وهذا مزيد من التأكيد علي العِفّة.. ".. فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ.." أيْ فإذا تَزَوَّجْنَ فإنْ زَنَيْنَ وثَبَتَ عليهنّ الزنا فعليهنّ نصف ما علي المحصنات من العقاب وهي أن تُجْلَد خمسين جَلْدَة لأنَّ الحُرَّة إنْ زَنَتْ وهي لم تتزوج بَعْد تُجْلَد مائة جَلْدَة وإنْ كانت متزوجة فإنها تُرْجَم بالحجارة حتي الموت وبما أنَّ الموت لا يمكن أخذ نصفه فبالتالي يُفْهَم ضِمْنَاً أنه ليس علي العَبْدَة رَجْم إذا زَنَت بعد زواجها.. وذلك مراعاة للظروف التي مَرَّت بها مِن قَبْل حيث قد تَرَبَّت في بيئةٍ يَغْلِب عليها الإذلال والذي قد يُسَهِّل فِعْلَ أيَّ سوءٍ فهي إذَن ليست كالحُرَّة التي عَرَفت أخلاق الإسلام ثم زَنَت رغم ذلك، كما أنَّ الجريمة تَهُون ويَضعف أثرها بهَوَانِ مُرْتَكبها وتَعْظُم ويَشتدّ أثرها بعُلُوِّ مَكَانَةِ مَن ارتكبها وإذا عَلَتْ الجريمة ازدادت معها العقوبة وإذا انخفضت نَقصت عقوبتها بما يدلّ علي تمام عدل الإسلام ودِقّة تشريعاته.. ".. ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ.." أيْ ذلك الذى شَرَعْناه لكم من إباحة الزواج بالعَبْدات عند الضرورة وبالمُواصَفات السابق ذِكْرها يكون بالنسبة لمَن خاف منكم علي نفسه العَنَت أيْ المَشَقّة والضرَر والمقصود الزنا وسُمِّيَ بالعَنَت لأنه يؤدّي إلي مَشَقّةِ وتعاسةِ العقاب عليه في الداريْن، فحينئذٍ يتزوج منهنّ، وهذا أمرٌ تقديريّ يختلف من شخصٍ لآخر وكلّ أحدٍ أعلم بحاله والله تعالي أعلم بالجميع.. ".. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ وأن تصبروا علي البقاء بغير زواجٍ وعدم زواجهنّ مع العِفّة وتَجَنّب الاقتراب مُطلقاً من الزنا حتي يُيَسِّرَ الله لكم الزواج من حُرَّةٍ فيها صفات الزوجة الطيّبة الصالحة فلا شكّ أنَّ ذلك سيكون أكثر خيرا لأنه أكثر ضمانا لحياةٍ زوجيةٍ سعيدةٍ ثم آخرة أسعد إذ للصابر أجره العظيم في دنياه حيث قوة إرادة عقله والتي ينطلق بها قويَّاً مُنْجِزَاً سعيداً في حياته ثم في أخراه السعادة الأعظم والأتمّ والأخلد كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10).. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)" أيْ يريد الله بما شَرَعَ من إسلامٍ وما فيه من أخلاقياتٍ وتشريعاتٍ وقوانين ونُظُمٍ شاملةٍ متكاملةٍ ملائمة لكل البشرية بكل مُتَغَيِّراتها بكل أزمنتها حتي يوم القيامة حيث تُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير الذي له كل صفات الكمال الحسني المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة ثم آخرتهم، يُريد بكل هذا أن يُبَيِّنَ ويُوَضِّح لكم أيها الناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وذلك لكي تَصلحوا وتَكملوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وهذا التّبْيِين هو من النّعَم والرحمات العظيمة التي لا تُوصَف عليكم والتي تستحقّ الشكر منكم لأنه يُشَجِّعكم علي التمسّك والعمل بالإسلام بكل اقتناعٍ وحماسٍ وحرصٍ وإقبالٍ وسهولةٍ وسعادةٍ حيث بفِطرتكم داخل عقولكم تحبون كل ما يُرشدكم لسعادتكم وأمنكم وربحكم وتعملون به لتُحقّقوا ذلك علي أكمل وجه فتَرَوْنَ بهذا التّبْيِين أنَّ الإسلام هو الذي يحقّقه لكم تماما فتعملون بكل أخلاقه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (213) من سورة البقرة، ثم الآية (185) منها، ثم الآية (93) منها، ثم الآية (85) من سورة آل عمران، ثم الآية (138) منها).. ".. وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.." أيْ كما يُريد أن يُرْشِدكم إلي مَناهِج وطُرُق وأساليب وتصرّفات الذين كانوا قبلكم سابقين لكم من الأنبياء والصالحين لتَقتدوا بهم فتَصلحوا وتَكملوا وتَسعدوا في الداريْن مِثْلهم، وكذلك يُبَيِّن لكم عقاب المُخَالِفين حتي لا تُخَالِفوا فتتعسوا فيهما كما تَعِسوا.. وهذا أيضا من نِعَمه ورحماته تعالي حيث يُبَيِّن تجارب عملية لكيفية العمل بأخلاق الإسلام وأنَّ بَشَرَاً قد طَبَّقوها بالفِعْل في كل شئون حياتهم فسعدوا وبالتالي فلا يَستصعبها أحدٌ بل فلْيَسْتَسْهلها ويَحرص عليها الجميع ليسعدوا.. ".. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.." أيْ وكذلك يريد بما بَيَّنَ لكم أن يُتِمَّ نِعَمَه ورحماته عليكم بأنْ يتوب عليكم أيْ يَرْجِع بكم مِن شَرِّ وتعاسةِ أيِّ سوءٍ بسبب مُخَالَفتكم للإسلام إلي كلّ خيرٍ وسعادةٍ حينما تتّبِعوه، وأنْ يُبَيِّنَ لكم كيفية التوبة ويُيَسِّرَها لكم ويَتَقَبَّلها منكم إذا كانت صادقة، فتعيشون بذلك دائما في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكونوا حريصين دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدِين في ألاّ تخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَموه فَعُودوا سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. وفي هذا طَمْأَنة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. وفي هذا تشجيع للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)" أيْ هذا استخدام لذات الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ والله يريد بما بَيَّنَ لكم مِن إسلامٍ أن يُتِمَّ نِعَمَه ورحماته عليكم بأنْ يتوب عليكم أيْ يَرْجِع بكم مِن شَرِّ وتعاسةِ أيِّ سوءٍ بسبب مُخَالَفتكم للإسلام إلي كلّ خيرٍ وسعادةٍ حينما تتّبِعوه، وأنْ يُبَيِّنَ لكم كيفية التوبة ويُيَسِّرَها لكم ويَتَقَبَّلها منكم إذا كانت صادقة، فتعيشون بذلك دائما في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، بينما في المُقَابِل يريد الذين يَتّبِعون الشهوات أيْ الفَجَرَة أيْ المُنْغَمِسُون في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكثرةٍ وبلا مُبَالاَةٍ لأيِّ نتائج ويَسيرون خَلْفها ونحوها حيث كانت سواء أكانوا كفّارَاً أيْ مُكَذّبين بوجود الله أم مشركين أيْ عابدين لغيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم مُعتدين علي الآخرين ظالِمين لهم أم فاسِدين ناشِرين لفسادهم وشرّهم أم مَن يَتَشَبَّه بهم كلهم يريدون لكم أن تَبتعدوا وتَنْحَرِفوا عن طريق الله طريق الحقّ والعدل والاستقامة طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة ابتعاداً وانحرافاً شديداً كبيراً هائلاً حتي لا يُذَمُّون ولا يُمْنَعون من فسادهم لأنَّ الجميع فاسدون فلا أحد يَمنعهم! وحتى تُصبحوا مِثْلهم لا فضل لكم عليهم وبالتالي لا حقّ لكم في قيادة البشرية وتوجيهها نحو ربها وإسلامها لتسعد في دنياها وأخراها وحتي تَظَلّوا مُغَيَّبِين مَهِينِين ذَلِيلِين تابِعِين عبيداً مُطِيعين لهم وهم أسياد لكم يُوَجِّهونكم كيفما شاءوا مُسْتَغِلّين جهودكم وثرواتكم لصالحهم.. إنَّ في الآية الكريمة مُقَارَنَة واضحة بين حال السعداء في دنياهم وأخراهم وحال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع طريق الله والإسلام لا طريق الذين يَتّبِعون الشهوات ليسعد تمام السعادة في الداريْن وإلاّ تَعِسَ فيهما
ومعني "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)" أيْ يريد الله دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم من تيسيراتٍ سَبَقَ ذِكْرها وغيرها أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم (ص) حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)" أيْ وقد خَلَقَ الله الإنسان ضعيفاً حيث هو يضعف أحيانا أو كثيرا في عقله وإرادته وجسده وعلمه وماله وغيره عند تعامله مع كل شئون حياته ولذلك كان من المُناسِب ومن العدل أن يُخَفّف عنه ويُيَسِّر له ما يضعف عنه ولا تستطيعه قُدْراته وإمكاناته والتي هو أعلم بها رحمة منه به وكَرَمَاً عليه وحبا له وإرادة في إسعاده.. إنه تعالي يُنَبِّه الإنسان لضعفه بالنسبة لخالِقه وللكوْن حوله لمصلحته ولسعادته وليس حتما ليُحْبَط ويَقعد بالتالي عن استكشاف الكوْن والانتفاع به والسعادة فيه وهو الذي خَلَقَه كله وسَخّره له كما يقول "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.." (الجاثية:13) ولكن لكي يُحْسِن اتّخاذ أسباب القوة والتي بها سيكون أقوي المخلوقات حيث هو مُؤَهَّل لذلك من خالِقه بما وَهَبَهُ من عقلٍ مَيَّزَه به عن بقية خَلْقه وأهم هذه الأسباب وأولها التّوَاصُل مع الخالق القويّ العزيز والاستزادة من قوّته التي لا تُهْزَم وطَلَب عوْنه وتوفيقه وسداده ورعايته وأمنه ورزقه وإسعاده، ثم اتّخاذ أسباب القوة الفكرية والصحية والجسدية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، ثم التعاون والتحاوُر مع الآخرين الصالحين والاستفادة بقوّاتهم وخبراتهم، وما شابه هذا.. كذلك يُنَبِّه تعالي الإنسان لضعفه حتي لا يَتَعَالَيَ علي غيره، فيَنْفر الناس منه ويَبتعدون فيزداد ضعفا! وأيضا هو تشجيعٌ منه سبحانه ومواساة له إذا وَقَعَ في شَرٍّ مَا لسببٍ مَا دنيويٍّ رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا فيُطَمْئنه أنه يعلم أنه خَلَقَه ضعيفا قد يَقع في مِثْل هذا ولكن عليه أن يتوب ويستفيد خبرة مِمَّا وَقَعَ فيه ولا يعود إليه بعدما ذاقَ أضراره وتعاساته وينصح غيره بذلك وينطلقوا جميعا سريعا نحو ربٍّ غفورٍ رحيم كريم مُعِين ونحو كل خيرٍ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ في دنياهم وأخراهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَمتنعون تماما عن أكل أموال الناس بغير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم.. فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا يأكل بعضكم مال بعضٍ فيما بينكم بسببٍ باطلٍ غير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو مُغًالًطًةٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. ".. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ.." أيْ إلا أن تكون هذه الأموال تجارة ناشئة عن رضيً منكم واتفاقٍ فيما بينكم وفيما بين البائع والمشتري في إطار أخلاق الإسلام وتشريعاته فحينها يُباح لكم أخذ هذه الأموال الناتجة عنها، فالكسب والربح المُعْتَدِل الطيّب من خلال تبادُل التجارات والبيع والشراء مع الآخرين وبالتراضِي فيما بينهم وفيما هو حلال أيْ طيّب نافع فليس قطعا أكلاً للأموال بالباطل بل هو من أصول الحياة ومِمَّا يُسعدها هي والآخرة ومُوَافِق لفطرة العقل ويُحبه الله ورسوله (ص) ويُشَجِّع عليه الإسلام لأنه يَرْقَيَ بالناس ويُقَوِّيهم ويُسعدهم.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.." أيْ ولا يَقتل بعضكم بعضا، ولا يَقتل أحدكم نفسه، ولا تَقتلوا أنفسكم بأنْ تُهْلِكوها بمُخَالَفة أخلاق الإسلام من خلال فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار – والتي منها أكل أموالكم بينكم بالباطل – والتي فيها هَلاك وقتل لقيمتكم ولقيمة حياتكم حيث تعيشون كالموتي بلا روحٍ في تمامِ ظلامِ وتعاسةِ الضلالِ والضياعِ بسبب بُعْدِكم عن ربكم وإسلامكم ثم سيَنتظركم في آخرتكم هَلاكٌ وظلامٌ وعذابٌ وشقاءٌ أشدّ وأعظم وأتمّ، فهل هناك قتل للأفراد وللأمم وللدول أسْوَأ وأتْعَس من هذا؟!!.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ ما شَرَعَه الله في الإسلام من أخلاقٍ وتشريعاتٍ ونُظُمٍ سَهْلَة التطبيق في استطاعة الجميع هو رحمة بالناس عموما وبالخَلْق جميعا.. أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي بكم أيها الذين آمنوا به العامِلِين بكلّ أخلاق إسلامهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة بكم مُحِبّاً لكم في دنياكم وأخراكم، ففي الدنيا لكم تمام الخير والسعادة، لأنه سيُوَفّر لكم كلّ الحب والرضا والرعاية والأمن والعوْن والتوفيق والسداد والنصر والرزق والقوة، ثم في الآخرة سيكون لكم حتماً ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. إنَّ الله تعالي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ رؤوف رحيم بالناس جميعا وبالخَلْق كله فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو مِن رأفته بهم حَذّرهم من فِعْل السوء ليَنتبهوا وليُحْسِنوا كلّ قولٍ وعملٍ ليَسعدوا ولا يَتعسوا في الداريْن
ومعني "وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)" أيْ ومَن يفعل ذلك المذكور سابقاً من أكل أموال الغير بالباطل والقتل، ويَفعل ذلك الذي نَهَيَ الله تعالي عن فِعْله عموماً، يَفعله عدواناً أيْ مُتَجَاوِزَاً بتَعَمُّدٍ حدودَ الله أيْ حَوَاجِزه التي عليه ألاّ يَتَعَدَّاها لأنَّ تَعَدِّيَها وتَجَاوُزها يُوقِع فيما هو مُحَرَّم عليه أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّه وتُتْعِسه ومَن حوله في دنياه وأخراه، ويفعله كذلك عدواناً علي حقوق الآخرين، ويفعله أيضا ظلما حيث هو ليس من حقه أن يفعل ذلك وظلما لنفسه حيث يُعَرِّضها لعذابيّ وتعاسَتَيِّ الداريْن ويفعله ليس نسيانا بحيث لو تَذَكّر رَجَعَ عن فِعْله ولا خَطَأً غير مقصودٍ بحيث لم يتعمّده ويُعَوِّض مَن أساء إليه، والمعنيان أيْ معني العدوان والظلم مُتَقَارِبَان وهذا مزيدٌ من التأكيد علي سوء فِعْله وعلي التحذير الشديد من فِعْل ما يَنْهَيَ الله عنه.. ".. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا.." أيْ فسوف نَحْرِقه ونَشْوِي جسده يوم القيامة بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. إضافة إلي ما يكون فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. ".. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)" أيْ وكان ذلك العقاب بهذا العذاب الشديد الدنيويّ والأخرويّ لمَن يستَحِقّه سَهْلاً على الله لأنه لا يَمْتَنِع عليه شيءٌ لأنه القادر علي كل شيءٍ إذ بمجرد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ هذا العقاب الذي لا يمكن الفرار منه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا (31)" أيْ إنْ تَتْركوا أيها المسلمون كبائر الذنوب التى يَنهاكم الإسلام عن فِعْلها، وهي الشرور الكبيرة التي تَضُرّ الذات والآخرين والمجتمع كله ضَرَرَاً كبيراً شديداً، كالكفر والقتل والزنا والخمر والمخدرات والفرار من صَدِّ المُعتدين علي الإسلام والمسلمين ونشر الشَّعْوَذات والخُرافات وما شابه هذا، وهي أيضا الشَّرّ الصغير لكن يُعْتَاد ويُصَرّ عليه ويُنْشَر حتي يُغْطّي العقل ويُلَوِّث حُسْن تفكيره وتَدَبّره فيُؤَدّي إلي ضَرَرٍ كبيرٍ فيتحوّل إلي كبيرةٍ من الكبائر، ونحو ذلك، وبالجملة فالكبيرة هي ما تَتَطَلّب إقامة حَدٍّ مَا في الدنيا كعقوبةٍ عليها أو جاء فيها القرآن أو السُّنَّة بوعيدٍ شديدٍ في الآخرة أو نَفْيِ إيمانٍ أو وقوعِ غَضَبٍ أو لعنةٍ من الله تعالي.. ".. نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ نُسامِحكم فلا نُعاقبكم علي ما تفعلونه من سوءٍ أيْ علي شروركم وذنوبكم الصغيرة ونمحوها كأنْ لم تكن ونمْحُو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ونسْتُرْها ونخْفيها فلا نعذبكم بفضحكم بها فيهما، لكثرة توبتكم منها وعودتكم إلينا، رحمة منا بكم وتَكَرُّمَاً عليكم وحباً فيكم.. إنَّ مَن يَتَجَنّب الكبائر يَضمن تماماً أنَّ ذنوبه مَغْفورة بمجرّد أن يتوب منها أيْ يَنْدَم ويَعْزِم علي عدم العودة بداخل عقله ويَستغفر بلسانه ويَرُدّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم.. وحتي مَن يَفعل كبيرةً مَا، فإنْ كان عليها حَدّ مَا، أيْ عُقوبَة مُحَدَّدَة حَدَّدَها الإسلام، ووَصَلَ أمره للمسئولين وللقضاة وأُقِيمَ عليه الحَدّ، ضَمنَ أنَّ ذنبه قد غُفِر، وإنْ لم يَصِل أمره لمسئولٍ ولا لقاضٍ ولم يُقَمْ عليه الحَدّ، فعليه أنْ يَستر علي نفسه ولا يَفضحها فالسَّتْر أفضل ويحبه الإسلام ما دام يُؤَدّي لمراجعة النفس والعودة لله وللإسلام ولا يُؤَدّي إلي مزيدٍ مِن فِعْل السوء وعليه أنْ يتوب أيضا ليَنالَ وَعْدَ الله تعالي الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) وأنْ يَستزيد مِن عملِ كلّ خيرٍ ويستمرّ فيه لتعويض ما فاته من خيرٍ ولإعادة السعادة لذاته بعدما تَعِسَ بمرارات وعذابات كبيرته التي فَعَلَها ولضمان ثِقَل ميزان حسناته أمام سَيِّئات هذه الكبيرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. أمَّا مَن ماتَ ولم يَتُبْ، لا مِن صغيرةٍ ولا كبيرة، فأَمْرُه إلي الله تعالي إنْ شاءَ عَاقَبَه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلم وإنْ شاء رَحِمَه، ورحمته وَسِعَت كلَّ شيء، وسيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسَيِّئاته، فيَعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً مُقابِل خيرٍ آخر فَعَلَه أو بمصائب أُصِيبَ بها أو بدعاءِ المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعة الأنبياء والشهداء والصالحين أو حتي من دون شيءٍ فهو الرحمن الرحيم ورحمته دَوْمَاً تَسْبِق غَضَبَه.. ".. وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا (31)" أيْ هذا مزيدٌ من الحب للمسلمين العامِلين بأخلاق إسلامهم المُجْتَنِبِين للكبائر المُستغفرين أوَّلاً بأوَّلٍ من الصغائر وأيضا مزيدٌ من التشجيع لهم علي مزيدٍ من الخير، أيْ ونُدْخِلْكم في دنياكم إلي كلّ خيرٍ حيث كل كرمٍ وتكريمٍ بسبب حُسن أخلاقكم إذ ستُفْتَح لكم الأماكن وتَتّسِع بيوتكم وأملاككم وأعمالكم وأموالكم وكل أنواع أرزاقكم، وستشعرون دائما أثناء ذلك وفي كل ما تَدْخُلُون فيه وتُقْدِمُون عليه وتَبدأونه من أقوالٍ وأفعالٍ وفي كل لحظات حياتكم بكل كرمٍ وتكريمٍ ورضاً وأمنٍ واستقرارٍ وهدوءٍ واطمئنانٍ ورعايةٍ وحبٍّ وتوفيقٍ وسَدَادٍ وقوّةٍ ونصرٍ وبالجملة تستشعرون تمام السعادة، ثم في أخراكم سنُدْخِلكم حتماً أعظم مدْخَل أيْ أسعد مكانٍ وأكثره كَرَمَاً وتكريماً وتشريفا، إنه الجنة، حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودا.. وإذا لم تكن من الذين يعيشون في الأماني دون السعي المطلوب لِمَا يتمنّون ويريدون.. وإذا كنت دوْمَاً راضياً بما أعطاه الله لك
هذا، ومعني "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)" أيْ ولا تَتَطَلّعوا إلي، وتَرْغَبوا وتَطْمَعوا في، ما زادَ الله به بعضكم علي بعض في الأرزاق.. وكذلك لا تَتَمَنّوا أيها الرجال ما فَضَّلَ الله به النساء عليكم من زيادة العاطفة والأمومة وإمكاناتها ولا تَتَمَنَّوا أيها النساء ما فضّل الله به الرجال عليكنّ من زيادة القوة والصلابة فهذا لكي يُكْمِل بعضكم بعضا وتنطلق الحياة بهذا التكامُل فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، فلا يَتَمَنّ أحدٌ ما يَستحيل تحقيقه.. وفي هذا إرشادٌ وتوجيهٌ لكل مسلمٍ ألاّ يكون حَسُودَاً حتي يسعد ولا يتعس في الداريْن، والحَسَد هو أن يتمنّيَ زوال نِعَم الله عن الآخرين ولا يكتفي بهذه الأمنيات العقلية وإنما يتّخذ من الإجراءات العملية ما يحقّقها كعدم عوْن الذي يحسده أو ظُلْمه أو تَضليله بمعلوماتٍ كاذبة أو نحو ذلك، فإنَّ الحَسَد أول مَن يُؤْلِم ويُتعس هو الحاسد ذاته بينما المَحْسُود يَنْعَم بنِعَم الله ولا يشعر بألم حاسده ويَقِيه ربه إجراءاته الضارة، فانتشار التّحَاسُد بين الناس ينشر الأحقاد والضغائن والتشاحنات والانتقامات فيتعس الجميع في الدنيا والآخرة، أمَّا أنْ يتمنّي المسلم أن يكون له مثلما عند غيره وأكثر دون تمنّي زوال ما عنده ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك ويتعاوَن الجميع في التطوّر والرُّقِيّ فهذا هو ما يطلبه الإسلام ليسعدوا كلهم في الداريْن.. كما أنه إرشادٌ وتوجيهٌ للمسلم لكي يسعد ولا يتعس فيهما ألاّ يكون من الذين يعيشون في الأماني والأحلام والأوهام دون السعي المطلوب لِمَا يتمنّون ويُريدون فتَرَاهم كسَالَيَ قاعِدين مُتَخاذِلِين لا هِمَّة لهم، بل عليه أن يكون من المُجتهدين المُنْطَلِقين في الحياة بهِمَّةٍ عاليةٍ الذين يُحسنون اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لاستكشافها والانتفاع بها والسعادة فيها سواء أكانت أسبابا علمية أم فكرية أم عملية أم اقتصادية أم تخطيطية أم إدارية أم تعاونية أم عسكرية أم غيرها، فهذا هو القانون الإلهِيّ العادل للحياة والذي نَبَّهنا له ربنا لنعمل به "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7) فمَن زَرَعَ حَصَد ومَن لم يزرع لم يحصد، ثم هو عليه بالتأكيد أن تكون هِمَّته أعلي وأعلي في طَلَب الجنة والنجاة من النار فلا يَتَمَنَّيَ ذلك فقط بل يعمل بأعلي هِمَّةٍ لتحقيقه بأن يستحضر دائما نوايا خيرٍ بعقله في كل أقواله وأفعاله والتي لا بُدّ أن تكون في إطار كل أخلاق الإسلام.. كما أنه إرشادٌ وتوجيهٌ للمسلم ليَرْضَيَ بما قَسَمَ الله تعالي له من أرزاقٍ وإلا تَعِسَ إذا لم يَرْض وذلك ما دام قد أحسنَ اتّخاذ ما أمكنه من أسبابٍ مُتَاحَةٍ مُبَاحَةٍ لتحصيلها حيث هو سبحانه يرزق كل عبدٍ من عباده بالمقدار وبالتوقيت المناسب له الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه، فهو تعالي في وقتٍ ما يشاءُ أنْ يُقَلّل ووقتٍ آخر يَبسط ما يُنَزِّله علي عبده أي يُسَهِّله له من أسباب الرزق وذلك بتقديرٍ مضبوطٍ علي حسب المصلحة لهذا العبد ولمَن حوله وليس كما يريد هو لأنه لا يعرف المستقبل بالقطع كما يعرفه خالقه بحيث يجعله دائما مرتبطا بربه وبإسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتجاوز حدودهما وينحرف فيتعس بالتالي فيهما.. ".. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ كُلّاً من الرجال والنساء هم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منهم الآخر وكلهم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن المساواة بين الرجال والنساء في الإنسانية وفوائد ذلك وسعاداته في الداريْن).. أي للرجال نصيبٌ أيْ مِقْدارٌ من العطاء والجزاء في الدنيا والآخرة بحسب عملهم، إنْ كان خيراً فلهم كل خيرٍ وسعادة وإنْ كان شرَّاً فلهم الشرّ والتعاسة بما يُناسب، وكذلك حتما للنساء نصيبٌ فيهما مِمَّا عَمِلْنَ.. وأيضا للرجال وللنساء مقدارٌ مُحَدَّدٌ في الميراث من أقاربهم بعد موتهم كما حَدَّده الله تعالي، وكذلك لكلٍّ منهما حقّ امتلاك ما كَسَبَه من أموال، وإذا كان الأمر كذلك فلا يَلِيق بعاقلٍ أن يتمنّى غير ما قَسَمَ الله له من رزقٍ وميراث، بل عليه أن يرضَىَ به فهو سبحانه الذى قَدَّرَ أرزاق ومواريث الرجال والنساء على حسب جهودهم وحسب حِكْمته وعِلْمه بما يحقّق مصالح وسعادات الجميع، وهو الذى كلّف كُلّاً منهم بواجباتٍ وبأعمالٍ تُناسب إمكاناته وتكوينه وخِلْقته.. ".. وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ ولا تَتَمَنّوا ما فَضَّلَ الله به بعضكم علي بعضٍ فإنَّ التَّمَنِّي بلا عملٍ لا يُفيد شيئا ولا يحسد بعضكم بعضا وبدلا من كل ذلك السوء المُضِرّ المُتْعِس اتّجِهُوا مباشرة لمصدر كل خيرٍ وهو الله تعالي الرَّزَّاق الوَهَّاب الكريم الرحيم الودود واسألوه لدنياكم وأخراكم ما شِئْتُم من إحسانه وإنعامه الزائد وأحسنوا اتّخاذ أسباب ما تريدون يُعْطِكُم ما فيه مصلحتكم وسعادتكم بما يُطَمْئِن نفوسكم ويُبْعِد عنها الطمع والقَلَقَ والحَسَدَ والألم والتعاسة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليماً تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، وهو يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)" أيْ ولكلِّ واحدٍ من الرجال والنساء جعلنا وَرَثَة يَرِثونه مِمَّا تَرَكَه له الوالدان والأقربون من المال وَوَرِثَه منهم، وذلك حتي تُتَدَاوَل الأموال بين الناس من جيلٍ لآخر ولا تَتَخَزَّن وتَتَعَطّل فينتفعوا ويسعدوا بها، فلْيَنتفع كلّ واحدٍ بما قَسَمَ الله له من الميراث ولا يَتَمَنّ مال غيره، لأنه أعدل قِسْمَة للخَلْق الذين يَعلمهم خالِقهم ويَعلم ما يُصلحهم ويُسعدهم في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.." أيْ والذين عَقَدْتُم معهم عقوداً بأيْمانكم أيْ بأيديكم اليُمني وأكّدتموها بأيْمانكم أيْ بقَسَمكم بالله علي تنفيذها فأعطوهم حقّهم الذي اتّفقتم عليه، في كل أنواع العقود المختلفة في كل شأنٍ من شئون الحياة.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه قد يَحدث أحيانا ومن باب التعاون والتَّآخِي الذي يُشَجِّع عليه الإسلام ويُثيب الله تعالي عليه ثواباً عظيماً أن يُقَدِّم أحدٌ لأحدٍ بعض خدماتٍ ويُريد تعويضه وإكرامه كما أكرمه فيَكتب له في وَصِيَّته أنَّ له بعد وفاته جزءاً من ماله بما لا يزيد عن الثلث كما سَمَحَ بذلك الإسلام في الوَصِيَّة لخيرٍ مَا فعليكم أن تُعطوا مثل هؤلاء نصيبهم الذي كُتِبَ وعُقِدَ به العَقْد في الوصية لهم.. إنه بانتشار الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي شهيداً أي كثير الشهود أي شاهِداً علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالكم وأفعالكم مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع، وسيُحاسبكم عليه بالخير خيرا وسعادة ويَزيد، وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو، فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون معامَلَة أزواجهم، فكلٌّ منهم كاللباس للآخر يَستره ويُعينه ويُكْمِل نَقْصَه ويَستفيد منه، وكلٌّ منهم سَكَنٌ للآخر يَأْمَن ويَهْدَأ ويَسْكن ويَطمئنّ إلي جواره، وحُسن التعامُل يكون بتبادُل الحب والحوار والتفاهم والتقارب والتسامح والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة والعلاقات الجنسية المُعتدلة المُنَظّمَة ونحو ذلك من أسباب الحياة الزوجية السعيدة
هذا، ومعني "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)" أيْ الرجال كثيروا القيام علي النساء – سواء كُنَّ أمهاتٍ أم زوجاتٍ أم أخواتٍ أم قريباتٍ وغيرهنّ مُحْتَاجاتٍ لهم – أيْ يقومون دائماً باستمرارٍ علي حمايتهنّ ورعايتهنّ وأمنهنّ وخدمتهنّ وإدارة شئونهنّ والإنفاق عليهنّ، بسبب ما لهم من قوّة تَحَمُّلٍ وصبرٍ، فهذه هي الدرجة التي لهم عليهنّ في قوله تعالي ".. وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.." (البقرة:228)، وهي في مُقابِل الدرجة التي لهنّ عليهم في هذه الآية ".. بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.." حيث لم يَقُلْ سبحانه مثلا " بما فَضَّلهم عليهنّ"! وكذلك في الآية قبل السابقة "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ.."، وهما آيتان يُفْهَم منهما ضِمْنَاً أنَّ لهنَّ أيضا تفضيل علي الرجال بدرجة! وهي درجة العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه لأزواجهنّ ولأسرتهنّ بل وللكوْن كله، لِيُكْمِل أحدهما الآخر، ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه، إذ قد أصبح جزءاً منه، لينطلقا في الحياة بكل تَكَامُلٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وتكون إدارتهما لحياتهما إدارة جماعِيَّة شُورِيَّة حِوَارِيَّة وُدِّيَّة تَرَاحُمِيَّة، فيكون لهما – ومع أبنائهما حين يُحْسِنون عَرْض آرائهم وأدِلّتهم – في كلِّ أمرٍ أكثر مِن رَأْي، فيأخذون بالرأي الذي يَغْلِب علي ظنّهم أنه مُناسب لهم ويَسيرون في تنفيذه، فإنْ كان صواباً فليحمدوا ربهم، وإنْ كان فيه عدم صوابٍ فليأخذوا بالرأي الذي بعده، ولْيُراجِعوا ذواتهم، ولْيُعالِجوا السلبيَّات ويأخذوا بالإيجابيَّات، وهكذا يسير كلٌّ من الرجل والزوجة والأبناء مُطْمَئِنَّاً بأنَّ هناك مَن يُصَوِّب له رأيه مِمَّن حوله ويُعاوِنه علي التنفيذ علي أكمل وأسعد وَجْهٍ مُمْكِنٍ، بعد الاستعانة بربهم ودوام التّواصُل معه وطَلَب رعايته وأمنه وحبه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده، فيَحْيَوْنَ حياة صائِبَة خَيْرِيَّة سَلِسَة سَهْلَة مُتَطَوِّرَة مُنْجِزَة سعيدة، ثم أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (228) من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون).. ".. وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.." أي وهم قَوَّامُون عليهنّ أيضا بسبب ما ألْزَمَهم به الله في الإسلام من السعي للكسب للإنفاق عليهنّ وتقديم مُهُورهنّ للزواج منهنّ لأنه يناسب قوة تَحَمُّلهم وهو ما لم يُلْزِمهن به نحوهم، وبالتالي فهم الأَنْسَب للقيام عليهنّ وليس مناسبا قطعا العكس أيْ أنْ يَكُنَّ هُنَّ مَن يَقُمْنَ علي الإنفاق عليهم وحمايتهم، فهذا سيكون مُخَالِفَاً لفطرة كلٍّ منهما مُتْعِسَاً بالتالي لهما فكلاهما لا يَرضاه ولا يُناسبه ولا يَتَحَمَّله.. ".. فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.." أيْ هذا بيانٌ لنَوْعَيّ النساء والزوجات عند القيام عليهنّ، فبعضهنّ صالحات وبعضهنّ غير صالحات.. أيْ فالصالحات منهنّ أيْ النافعات المستقيمات في خُلُقِهِنّ أيْ العاملات بأخلاق إسلامهنّ في كل شئون حياتهنّ مِن صفاتهنّ الطيّبة أنهنّ قانتاتٌ أي مُواظِبَاتٌ علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبَه منهنّ في وَصَاياه في الإسلام باختيارهنّ وبرضاهنّ وبكلّ حبٍّ لربهنّ ولطاعته واطمئنانٍ به وسكونٍ له، وكذلك طائعاتٌ لأزواجهنّ، لأنَّ مِن طاعته سبحانه طاعة الزوج في غير معصية.. وأيضا من صفاتهنّ الحَسَنَة أنهنّ ".. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ.." أيْ حافظاتٌ صائناتٌ لغياب أزواجهنّ أو آبائهنّ ومَن يقومون علي رعايتهنّ لكل ما يجب حفظه وصيانته في غيابهم فَيَكُنّ أميناتٍ عليه من أعراضٍ وأموالٍ وأسرارٍ وغيرها، وبالأوْلَيَ في حضورهم.. إنهنّ يحفظنَ للبيوت كل ما يؤدّي لاستقرارها وسعادتها في غيابهم وحضورهم.. ".. بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.." أيْ بسبب ما حَفِظَ الله إيَّاهُنَّ من فِعْل السوء وعاونهنّ علي هذا الحِفْظ ووفقهنّ إليه وسَهَّله عليهنّ لأنهنّ صالحات، وبسبب ما حَفِظَ لهنّ من حقوقٍ علي أزواجهنّ حيث أوْصَاهم في الإسلام بالإحسان إليهنّ والإنفاق عليهنّ فعليهنّ في المُقابِل حِفْظ حقوقهم، وبسبب الشَّرْع الذي وَضَعه الله للحِفْظ من كلّ سوءٍ ولفِعْل كلّ خيرٍ وهو الإسلام أيْ بسبب ما حَفِظَ في الإسلام من وصايا بحِفْظ الغيب وأداء الأمانات إلي أزواجهنّ والجميع فحافظنَ عليها والْتَزَمْنَ بها فعاوَنَهُنَّ ووَفّقَهُنَّ.. ".. وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ.." أيْ هذا بيانٌ للصنف الثاني من الزوجات وهُنَّ غير الصالحات.. أيْ واللاتي تُوقِنون أيْ تَتَأكّدون بلا أيِّ شكّ تَرَفّعهنّ عليكم وعلي ما أَلْزمَهنّ به الله من واجباتِ الحياة الزوجية ويظهر هذا التّرَفّع والتّعَالِي في الأقوال والأفعال كسوءِ الألفاظ والمُعَامَلَة وعصيانكم بعدم طاعتكم فيما هو خير والامتناع عن أداء حقوقكم الواجبة لكم بلا عذرٍ مَقْبول وإظهار كراهيتكم وما شابه هذا.. ".. فَعِظُوهُنَّ.." أي فحين تَظهر منهنّ بَوَادِر وعلامات نشوزهنّ وتخافونَ استمراره فعليكم أن تُبَادِرُوا وتُسارِعوا بموعظتهنّ بتوقيتٍ وأسلوبٍ مناسبٍ بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ ولفتراتٍ تُقَدِّرونها حسب الحال والواقع حتي لا يَسْتَعْصِي الأمر لأنَّ العلاج في أوله يكون سهلاً ميسوراً قبل أن يُصبح مُزْمِنَاً صعباً، وكل زوج أعلم بما يناسب زوجته من موعظةٍ تحقّق أفضل استجابة، فقد تكون ترغيباً في اتّباع أخلاق الإسلام وسعادات ذلك في الداريْن أو تَرْهِيباً من تعاسات تركها فيهما أو جَمْعَاً بينهما.. هذا، ولو أحسنتم اتّخاذ أسباب السعادة الزوجية (برجاء مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات (187)، (221)، (226)، (227) منها أيضا، ثم الآية (195) من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية) فلن تَصِلُوا غالباً بإذن الله إلي مرحلة الخلاف، وإنْ وَصَلْتم فسيكون أمراً استثنائياً عارِضَاً ويسهل حَلّه بعلاج أسبابه بالحب والتفاهُم والتراحُم والتقارُب والتسامُح وتَنَازُل كل طرفٍ من جانبه خطوة أو اثنتين فيلتقيان في وسط الطريق علي ما هو مشترك بينهما فخير الأمور أوساطها وذلك بعد الاستعانة قطعا بالله تعالي وطَلَب عوْنه وتوفيقه.. فإنْ لم تَحدث استجابة وعودة الأمور لطبيعتها وأسعد بعد وَعْظِهنّ فتَدَرَّجُوا في العلاج إلي ما هو أعلي من الوَعْظ ".. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ.." أيْ وأعْطُوهُنَّ ظهوركم في أماكن النوم ولا تُجَامِعُوهُنّ، فذلك مِمَّا يُحَرِّك المشاعِر العاطفية بعقولهنّ ويعود بهنّ للخير، فإنْ لم تَحدث استجابة يَتِمّ النوم في مكانِ نومٍ آخر فإنْ لم تستجب تُتْرَك حجرة النوم إلى حجرة أخرى من غير كراهيةٍ ولا خصام، والأمر يختلف من زوجين لآخرين علي حسب درجة النشوز وبما يُحَقّق المصلحة والعودة للخير.. فإنْ لم تَحدث استجابة وعودة الأمور لطبيعتها وأسعد بعد وَعْظِهنَّ وهَجْرِهِنَّ في المضاجع وأصبحت الحياة الزوجية والأسرة مُهَدَّدَة بالانهيار بسبب هذا النشوز فحينها افعلوا ما هو أخَفّ الضرَرَيْن بأن تَتَدَرَّجُوا في العلاج إلي ما هو أشدّ ".. وَاضْرِبُوهُنَّ.." أيْ وعاقِبوهنّ عند نُشُوزِهِنّ بضربٍ خفيفٍ غير شديدٍ بما لا يُؤذي جسدياً بل بما يُفيق العقل وبما لا يكون مُهِينَاً كأن يكون في الوجه مثلا لعلهنّ يستيقظنَ ويَرْجِعْنَ للخير، فالضرب حينها يكون رمزاً لاستحقاق الضرب وليس بضربٍ يُطْلَق عليه ضرب! بل يكون دلالة فقط علي عدم الرضا عن نشوزها، لأنَّ المقصود منه الصلاح والتأديب لا غير ذلك كانتقامٍ أو نحوه.. ".. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.." أيْ فإنْ اسْتَجَبْنَ لكم وعُدْنَ إلي طاعتكم وتُبْنَ ورَجَعْنَ إلي الله والإسلام، في أيِّ سبيلٍ أيْ طريقٍ مِن هذه السُّبُلِ الثلاث السابق ذِكْرها، فلا تَبْغُوا أيْ لا تَطلبوا سبيلاً للتّعَدِّي عليهنَّ هي أشدّ منها أيْ لا تَنتقلوا لطريقٍ أشدٍّ لكي تَبْغُوا عليهنّ أيْ تَظلموهنّ وتنتقموا منهنّ وتَسْتَعْلُوا عليهنّ، بل اجعلوا ما كان منهنّ من نشوزٍ كأن لم يكن، فإنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له، واجتهدوا في استعادة أسباب الحياة الزوجية السعيدة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان أعْلَيَ وأعظم وأكبر من أيّ شيءٍ، فهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلْك والسلطان والنفوذ كله، قد غَلَبَ كلّ شيءٍ وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم.. إنه كان كبيراً أيْ أكبر من كلّ شيءٍ ومن كل كبيرٍ قاهرا له كبير الذات والصفات.. والمقصود أنَّ الله العَلِيّ الكبير فوقكم وهو وَلِيّهنَّ وناصرهنَّ ووَلِيّ كل مظلومٍ وناصره وينتقم منكم إذا آذيتموهنّ أو بَغَيْتُم عليهنّ كما ينتقم من كلّ ظالمٍ بما يُناسب ظُلْمه في الدنيا قبل الآخرة نُصْرَة لكلّ مظلوم
ومعني "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)" أيْ وإنْ عَلِمتم يا أهل زوجيْن ويا مسلمون ويا مسئولون ويا صالحون خلافَ بينهما وخِفْتُم منه حُدُوث انشقاقٍ يُعَرِّضهما للانفصال ولانهيار الحياة الزوجية الأسريَّة حيث صار أحدهما في شِقّ والآخر في شِقّ آخر فلا تَلاَقِي بينهما ولا وِفاق فالحلّ في الإسلام حينها أن تُرْسِلوا حَكَمَيْن يحكمان بينهما حَكَمَاً من أهل الزوج وأقاربه أو مِن خارجهم مِمَّن يرتضيهم أيْ رجلاً صالحاً أميناً عادلاً عاقلاً مُؤَهَّلَاً للإصلاح ومَنْع الظالم من الظلم ذا خبرةٍ في مثل هذه الأمور وكذلك حَكَمَاً من أقارب الزوجة بحيث يكون له ذات الصفات لأنَّ الأقارب فى الغالب أعرف بدَوَاخِل الأحوال وأكثر حرصاً علي الإصلاح ويطمئنّ إليهم الطرفان أكثر من غيرهم وعلى الحَكَمَيْن فى هذه الحالة أنْ يجتهدا في تحقيق المصلحة بأنْ يستكشفا حقيقة الخلاف ويعرفا هل الإصلاح بينهما مُمْكِن أو أنَّ الفراق خيرٌ لهما.. ".. إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا.." أيْ إنْ يَرْغَبَا كُلّاً من الزوجيْن والحَكَمَيْن إصلاحاً بصِدْقٍ وبعزمٍ أكيدٍ، والله تعالي أعلم بدَوَاخِلِهم جميعا، يُوَفّق الله بين الزوجين بإلقاء التآلف والتفاهُم وانتزاع أسباب الخلاف بينهما، وكذلك يُوَفّق بين الحَكَمَيْن ويُسَهِّل مهمّتهما في الوصول إلى ما هو خير للزوجين من استكمالِ حياةٍ زوجيةٍ سعيدةٍ أو تفريقٍ بإحسان.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليماً خبيراً بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، عليماً بكلّ شيءٍ عن أحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس ودرجة تقواكم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، خبيراً بها بكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فاجتهدوا في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيكم بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)" أيْ وأطيعوا الله وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.." أيْ وأحْسِنُوا بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ إلي الوالدين وإلي كلّ كبيرٍ وإلي أقاربكم واليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ والمساكين أيْ المُحتاجين لكلّ أشكال العوْن والجار ذي القربي أيْ الجار صاحب القَرَابَة لكم أو القريب منكم في المكان والجار الجُنُب أي البعيد أو الأجنبيّ عنكم ليس من الأقارب والصاحب بالجَنْب أي من تكونون بصحبته وبجانبه سواء في سفر أو عمل أو علم أو غيره وابن السبيل أي الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال فيُحْسَن إليه حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه، وما ملكت أيْمَانكم أيْ ما تملكونه من عَبِيد – مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب – والإحسان كذلك يكون حتي مع الجَمَادات والدوابّ! برعايتها والاهتمام بها وصيانتها وعدم إهمالها والإساءة إليها والتي هي أيضا تُعَدّ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمان الناس أيْ أيديهم اليُمْنَيَ أيْ من ممتلكاتهم وهي من نِعَم الله عليهم والتي مِن شكرها الإحسان إليها.. إنَّ المسلمين لو فعلوا ذلك فلا بُدَّ أن يَقْوَيَ كل أفراد المجتمع وطوائفه ويزداد تَرَابُطهم ويَرْقون ويَسعدون في دنياهم ثم أخراهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)" أيْ إِنَّ اللَّهَ حتما يَكْرَه مَن كان مَغروراً مُعْجَباً بنفسه يظنّ مُتَوَهِّماً أنه كلّ شيءٍ ولا شيء غيره! فخوراً أي كثير الفخْر والتّباهِي والتّعَالِي علي الآخرين بما يمتلكه من قوَيَ صحية وعقلية ومالية وغيرها ولا يشكر الله عليها لأنه يَتَوَهَّم أنها بسبب جهوده هو وعلومه لا بتوفيقه وتيسيره سبحانه! ومَن يَكرهه الله فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منها في الدنيا والآخرة.. وكل هذه الصفات وما يُشبهها هي من أسباب المنازعات والمُشاحَنات والاختلافات بين الناس بما يُتعسهم في الداريْن ولو تَجَنَّبوها لَسَعِدوا تمام السعادة فيهما
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن بخيلا، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معك من نِعَم الله عليك والتي لا تُحْصَيَ فلا تُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيرك أو حتي لك! أو تُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد تأمر غيرك بهذا من شدّة شَرِّك!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ عليك وعلي مَن حولك، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في كل إنفاقك وكل أقوالك وأفعالك لا تُريد سُمْعَة بين الناس ولا مَدْحَاً منهم ولا تَجَنّب ذَمّهم ولا غير ذلك بل تَطلب فقط ودائما وباستمرارٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياك أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراك حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)" أيْ ولا يُحِبّ حتماً كذلك الذين يَحرصون حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل ويأمرون غيرهم بهذا من شدَّة شَرِّهم! ويُخفون ما أعطاهم الله من عطائه الزائد فلا يُظْهِروه ولا يَنفعوا أنفسهم وغيرهم به سواء أكان عطاءً مالياً أم فكرياً أم علمياً أم غيره.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)" أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالبخيل يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ من الرياء لتَرْكِه والابتعاد عنه تماما.. أيْ والله تعالي حتماً لا يحب كذلك الذين ينفقون أموالهم فقط رئاءَ الناس أيْ رياءً للناس أي لِيُرُوُهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بإنفاقهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله واليوم الآخر أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن.. وفي هذا أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن الرياء وما شابه هذا حتي لا يَتَشَبَّه بمثل هؤلاء الكافرين الذين هذه من أبرز صفاتهم والذين لا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. ".. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)" أيْ وكل هذا السوء هو مِمَّا يدعو إليه الشيطان وبسبب استجابتهم له – والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل – وكلّ مَن يَكُن الشيطان قَرِينَاً له أيْ صاحباً ومُلازِمَاً فمَا أسوأ هذا المُقَارِن والمُصَاحِب والمُلازِم لأنه يدعوه إلى كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ له ولمَن حوله في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!)
ومعني "وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)" أيْ وماذا علي هؤلاء الكافرين البُخَلاء المُرَائين ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن ضَرَرٍ لو أنهم آمنوا بالله أيْ صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام وصَدَّقوا باليوم الآخر وما فيه من حسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وأنفقوا مِمَّا رزقهم الله بلا بُخْلٍ وبإخلاصٍ وبإحسانٍ وليس برياءٍ – وهم يُنفقون مِن الذي أعطاه إيّاهم ولا ينفقون إلا بعض ما أعطى والأرزاق في الأصل أرزاقه فلا فضل لهم بالقطع عليه سبحانه – بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم؟!! إنه ليس عليهم أيّ ضَرَرٍ مُطلقاً بسبب ذلك بل لهم به حتماً كل الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم بَدَلاً مِمَّا هم فيه من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما بسبب كفرهم وبُخْلهم وريائهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ بأمثال هؤلاء وبخَلْقه جميعا عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وعلي الشرّ شرَّا
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)" أيْ إنَّ الله الخالق الرحيم الكريم لا يُمكن أبداً أنْ يَظلم أحداً وَزْنَ ذرَّة، أيْ بأيّ ذرَّة ظلم، بأنْ يَنقص مثلا أيَّ شيءٍ من جزاء عمله مهما كان يسيراً أو يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو نحو هذا، أيْ مهما كان العمل في غاية القِلَّة من الخير أو الشرّ فسيأخذ فاعله ما يناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا.." أيْ وإنْ تكن الذرَّة التي عَمِلها العامِل حَسَنَة، فإنه سبحانه يزيدها ويكثرها لعامِلها أضعافاً كثيرة من عظيم كرمه ورحمته وحبه وإسعاده لخَلْقه، بينما لو كانت الذرَّة التي عملها العامل سيئة كان جزاؤها بقَدْرها بلا أيّ زيادة.. ".. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)" أيْ ويُعْطِ من عنده فوق ذلك وبدون مُقَابِلٍ لأعمالٍ حَسَنَةٍ عطاءً عظيماً لا يُوصَف في جناتٍ لا تُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)" أيْ فكيف يكون حال الكافرين والعاصِين المُخَالِفين للإسلام الفاعِلين في دنياهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات إذا جاء الله يوم القيامة من كل أمةٍ بشهيدٍ أيْ بشاهدٍ أمينٍ عادلٍ ثِقَةٍ هو رسولها الذي أرسله إليها ليُعَلّمها الإسلام ليَشهد عليها أنه قد بَلّغها إيّاه وبَيّنه لها كاملا وليَشهد بما شاهده وحَضَره من أعمال أفرادها من إيمانٍ أو كفرٍ وخيرٍ أو شرٍّ، وجاء بك أيها الرسول الكريم محمد شهيداً على هؤلاء الذين بعثك إليهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور بالإسلام فكَذّبوك وشهيداً أيضا علي هؤلاء الرسل السابقين لك لتَشهد بالحقّ لهم أنهم قد بَلّغوا الإسلام بكل صدقٍ وأمانةٍ وتَمَامٍ ولم يُقَصِّروا فى نصيحة أقوامهم لعِلْمك بذلك من خلال ما أخبرناك به في القرآن العظيم، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، فكيف يكون حالهم وقتها؟! لا شكّ أنَّ حالهم ومصيرهم سيكون أسوأ وأتْعَسَ حالٍ ومصيرٍ بسبب سوئهم.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)" أيْ يومها، يوم القيامة، يوم يَحْدُث ذلك، يَتمنّي الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وقد عَصَوا الرسول أيْ خالَفوه فلم يَتّبعوا الإسلام وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، وكذلك يَتَمَنّي الذين عصوا الرسول من المسلمين ففعلوا السوء، يَتمنّون حينها الخَلاَصَ نادِمَين أشدّ النَّدَم في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أن تُسَوَّيَ بهم الأرض حتي لا يُحاسَبوا ويُعذّبوا أيْ يجعلهم الله والأرض سواء أيْ يجعلهم تراباً مثلها أيْ يُدْفَنون فيها وتَتَسَوَّيَ وهي مُختلطة بهم وعليهم تَرْدِمهم وتَبتلعهم بداخلها كالموتي.. ".. وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)" أيْ والحال والواقع أنهم مع شدّة رُعْبِهم هذا لا يستطيعون أن يُخْفوا عن الله كلاماً عن أيِّ شيءٍ مِمَّا قالوه أو فعلوه في دنياهم من سوءٍ بل يعترفون به كله – وهو سبحانه بالقطع أعلم به ولكن ليُقِرُّوا هم بأنفسهم لأنَّ الاعتراف سيد الأدِلّة – حيث سيَجعل أعضاءهم هي التي تَشهد عليهم بما كانوا يقولون ويفعلون من شرور، فالرعب قد يَجعلهم يُفَكّرون في الكذب لكنْ ما دام الذي قالَ أو فَعَلَ السوء كألسنتهم وأيديهم وأرجلهم قد اعترف فبالتالي إذَن ليس هناك أيّ أملٍ لهم في أيِّ كذبٍ أو إنكارٍ أو كتمانٍ للحقائق.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلاً بخُلُق التَّدَرُّج مع التدريب، بمعني أنه إذا كان فيك مثلا خُلُقٌ سَيّءٌ مَا، فإنْ استطعتَ الامتناع عنه تماما وفوراً، بقوة إرادة عقلك وبعدما ذُقْتَ أضراره وتعاساته في دنياك مع انتظارك لِمَا هو أشدّ في أخراك، وبعد الاستعانة بربك وسؤاله أن يوفّقك في تَرْكه، فهذا هو المطلوب، واحمده تعالي علي ذلك ليُثَبِّتك ويزيدك خيراً ولا تعود له.. أمّا إنْ لم تستطع ذلك، فاتركه بالتدريج، وتَدَرَّب علي زيادة قوة إرادة عقلك ببعض الأعمال التي تُقَوِّيها كالذكر والصيام ونحو ذلك، مع التواجُد وسط صُحْبَة صالحة لا يفعلون مثل هذا الخُلُق السَّيِّء فتحيا لفتراتٍ وسطهم دون فِعْله فتَتَدَرَّب علي تَرْكه، مع الانشغال بما هو نافع مفيد يشغلك عنه كرياضةٍ أو قراءةٍ أو عملٍ أو علمٍ أو ما شابه هذا، مع فِعْل خيرٍ كثيرٍ بحيث لا يَتبقّي لك وقت أو جهد لفِعْل هذا الخُلُق السَّيِّء.. بهذا التَّدَرُّج والتدريب يمكنك بإذن الله التّخَلّص نهائيا منه.. وكذلك الحال مع كل خُلُقٍ سَيِّءٍ آخر.. وبالتزامُن مع ذلك أيضا تجتهد كذلك في اكتساب كل أخلاق الإسلام الحسنة، بالتّدَرُّج والتدريب، وبالاستعانة بربك، وبتقوية إرادة عقلك، وبالتواجُد وسط صحبةٍ صالحةٍ متمسّكةٍ عامِلَةٍ بكل أخلاق الإسلام.. بذلك تحيا حياة سعيدة كلها خير وخالية من أيِّ شرٍّ وتنتظر مُستبشراً حياة الآخرة حيث السعادة الأعظم والأتمّ والأخلد.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تنبيه لهذا التّدَرُّج والتدرب، فلقد كانت خطوة من خطوات تحريم الخمر والامتناع عنها تدريجيا حيث كانت جزءاً أساسياً من حياتهم، فنَبَّههم سبحانه أولا أنَّ فيها أضراراً أكثر كثيراً من بعض منافعها بقوله تعالي "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.. " (البقرة:219)، ثم ثانيا بالامتناع وقت الصلاة عنها حتي يمكن التركيز فيها بقوله ".. لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.." (النساء:40)، ثم ثالثا بالانتهاء تماما عنها لأضرارها وتعاساتها المعروفة من ذهاب العقل والسَّفَه والمرض وغيره فقال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة:90).. كذلك ستَسعد في حياتك كثيراً إذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)" أيْ هذا تنبيهٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ للاهتمام بوسائل الاستعداد للصلاة قبلها حتي يتمَّ تمام الاستفادة منها والسعادة بها أثناءها وبعدها.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تقتربوا من الصلاة أبداً وإيّاكم أن تَدْخُلوا فيها وتَقوموا بأدائها وابتعدوا تماماً عنها وأنتم سُكَارَيَ، جَمْع سَكْران، أيْ سَكَرانِين بسبب خَمْرٍ أو غيره مِمَّا يُغَيِّب العقل إلي أن تفيقوا وتَتَدَبَّروا وتُدْركوا وتُمَيِّزوا بعقولكم ما تقولون أثناءها، وقد كان هذا قبل التحريم القاطِع للخمر وما شابهها في كل الأحوال سواء في الصلاة أو خارجها، حيث كانت هذه الآية الكريمة خطوة من خطوات تحريمها والامتناع عنها تدريجيا إذ كانت جزءا أساسيا من حياتهم، فنَبَّهَهم أولا أنَّ فيها أضراراً أكثر كثيراً من بعض منافعها بقوله تعالي "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.. " (البقرة:219)، ثم ثانيا بالامتناع وقت الصلاة عنها حتي يُمكن التركيز فيها بقوله ".. لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.." (النساء:40)، ثم ثالثا بالانتهاء تماما عنها لأضرارها وتعاساتها المعروفة من ذهاب العقل والسَّفَه والمرض وغيره فقال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة:90).. والمقصود التَّدَبُّر والتّعَقُّل في الصلاة وما يكون فيها من ذِكْرٍ ودعاءٍ واستغفارٍ وقراءةٍ للقرآن الكريم لتتحقّق منها الفوائد والسعادات الدنيوية والأخروية والتي من أجلها أوْصَيَ بها الإسلام.. ".. وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا.." أي وكذلك لا تَقْربوها في حالِ كنتم جُنُبَاً أيْ نَزَل منكم مَنِيٌّ أثناء نومكم أو بسبب جِمَاع الزوجة أو غيره، حتي تَسْتَحِمّوا بالماء والذي يُنَشِّط أجسامكم وأذْهَانكم من الخُمُول الذي يَحدث بعد نزول المَنِيّ، إلاّ إذا كنتم عابِرِي سبيلٍ أيْ مُسافرين ولم تَجدوا ماءً فتَيَمَّمُوا لكى تُؤَدّوها.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ.." أيْ وإنْ كنتم في حالِ مرضٍ لا تستطيعون معه استعمال الماء خوفاً من زيادته أو تأخّر الشفاء منه، أو في حالِ سفرٍ ويصعب عليكم الحصول علي الماء، أو جاء أحد منكم من الغائط وهو المكان المُعَدّ للتّبَوُّل والتّبَرُّز أو جامَعتم النساء، فلم تجدوا ماءً للطهارة فتَيَمَّموا أيْ فاقصدوا تراباً طاهراً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.. إنَّ في هذا الذي ذُكِرَ تربية لعقل المسلم علي الانضباط والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام النافعة المُسْعِدَة إضافة لتربيته علي يقظة الضمير ومراقبة خالِقه فلا يفعل إلا خيراً مُسْعِدَاً لأنَّ كل هذه المُلْحَقَات بالصلاة من وضوءٍ وتَيَمُّمٍ ونحوه لا رقيب لأحدٍ عليه فيها إذ من الممكن مثلا أن يصلي بغير وضوء!! فمَن يدري بذلك إلا ربّه ونفسه؟!.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو أيضا عن الذنوب، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العفو، وذلك لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، فهو الرحيم كثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً عند دعوة غير المسلمين للإسلام، فأحْسِن إليهم القول والعمل والقُدْوة كرسولنا الكريم (ص) وأحْضِر لهم كلّ دليلٍ مناسبٍ ما استطعت بالحكمة والموعظة الحسنة لكن مع العلم بأنَّ بعضهم مُستكبرون علي الحقّ مُعانِدون له لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وهم كارهون لك ولدينك الإسلام يتمنّون لو أبعدوك وأضلّوك عنه لتتبع تحريفاتهم وتخريفاتهم وتدخل تحت سيادتهم وسلطانهم ليَنْهَبوا جهودك وإمكاناتك رغم أنهم ليسوا مُتّحِدِين فيما بينهم بل كلٌّ يتبع ما يُحَقّق شَرَّه ورغم معرفتهم المؤَكّدَة أنَّ الإسلام هو الحقّ كمعرفتهم بأبنائهم لا يُخطئونهم.. فإيّاك إيّاك أن تنخدع بهم وتنزلق معهم وتترك شيئا من أخلاق إسلامك بعدما ذُقْتَ سعاداته وإلا تَعِسْتَ وشَقِيتَ وظلمتَ ذاتك ظلماً شديداً في الداريْن
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين يشترون الضلالة أيْ يبيعون الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ ويشترون بدلاً منه الضلالة أي الضياع! يدفعون الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! يبيعون الخير ويتركونه ويفرَّطون فيه ويشترون الشرّ ويأخذونه ويتمسّكون ويعملون به ويختارونه بكامل حرية إرادة عقولهم!! يبيعون ما يُوصلهم إلى المغفرة والرحمة من ربهم في دنياهم وأخراهم ليأخذوا فى مقابل ذلك العذاب فيهما!!.. يتركون السعادة التامَّة في الداريْن ويأخذون تمام التعاسة فيهما!!.. ".. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)" أيْ ولا يَكْتَفون بما هم فيه من ضلالة ولكنهم أيضا يتمنّون لكم أيها المسلمون أن تفقدوا الطريق ولا تهتدوا إليه أيْ أنْ تَنْحَرِفوا عن الطريق المستقيم لتكونوا ضالّين مثلهم، عن طريق الله، عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، تنحرفوا عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. إنهم يريدون بكل ما يستطيعون من وسائل أن يُضِلّوكم أيْ يُضيعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها.. وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها إذ هم لم يُؤْمَرُوا بذلك حتماً فى كتبهم بل هي تَمنعهم من هذا الخُلُق القَبِيح.. والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. كما أنه بنَشْرِهم للضلالة يَضمنون ألاّ يَنصحهم أحدٌ بخيرٍ إذ الكلّ ضالّ فاسد فيستمرّون بذلك علي ضلالهم بلا تَنْغِيص!.. وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد (ص) والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية (54) من سورة آل عمران "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيراً للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ والله قطعاً أعرفُ منكم أيها المسلمون بكل أعدائكم الحقيقيين وأخْبَرُ بدَوَاخِلهم منكم فهو يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله، ولذا أخبركم بصفاتهم لتَعرفوهم وتَجتنبوهم وتَحذروهم فتَنْجُوا من مَكْرِهم وتضليلهم وتُعِدُّوا لهم ما يُناسب الانتصار عليهم، وبالتالي فأنتم بالقطع مُنْتَصِرون علي أيِّ عدوّ لكم، كَبُرَ أم صَغُر، سواء أكان عدوا فكرياً أم اقتصادياً أم علمياً أم عسكرياً أم غيره، لأنه سبحانه هو الذي سيَكفيكم بولايته لأموركم وبنصره، ما دُمْتُم قد أحسنتم وأكملتم ما استطعتم من أسبابٍ مناسبةٍ لمقاومة هذا العدو وهزيمته.. "..وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)" أيْ واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وليٍّ لأموركم أو نصيرٍ ومُعِينٍ آخر، ولا تطلبوا وَلِيَّاً أو نصيراً غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وَلِيَّاً ونصيرا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيَنصركم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُغَيِّر أو تُحَرِّف شيئاً من معاني وتفسيرات وتطبيقات آيات كتاب الله تعالي، وإذا حافظتَ علي أخلاق الإسلام وتمسَّكْتَ وعَملتَ بها كلها وطَبَّقْتها في كل شئون حياتك دون أيِّ زيادةٍ أو نقصانٍ أو حَذْفٍ أو تبديلٍ أو تحريفٍ أو تشويهٍ أو تَلَاعُبٍ أو غيره من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون ويُقَدِّرُون شرع الله الإسلام ورسوله الكريم (ص)، ثم كلَّ كبيرٍ وعالمٍ وأستاذٍ ومُرَبٍّ ودَاعٍ وصاحبِ فضل، فهذا من أهم الدوافع التي ستَدفعك للاستفادة مِمَّا عندهم من خبراتٍ وسعاداتٍ تَنفعك وتُسعدك في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)" أيْ من اليهود فريق يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة عن مواضعه التي وَضَعَه الله فيها أيْ عَمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.." أيْ ويقولون مُتَمَرِّدين مُعانِدين مُستكبرين مُسِيئين الأدب مع القرآن العظيم ومع مَن يدعوهم له كالرسول الكريم (ص) في زَمَنِه وكالمسلمين مِن بَعْده في كلّ زمنٍ سمعنا ما فيه وعصينا أيْ وخالفناه أيْ خالفوا أخلاق الإسلام التي به وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.." أيْ ويزيدون في تَكذيبهم وتَمَرُّدهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وسوء أدبهم مع مَن يَدعوهم للإسلام قائلين له اسمع منّا أثَرَ دعوتك لنا ورَدِّنا عليها فأنت غير مُسْمَعٍ كلامُك فلا يُجَاب ولا يُقْبَل أي لن نَسمعه سماع قبول واستجابة ولا نَلْتَفِت إليه!! واسمع مِنّا فأنت غير مُسْمَعٍ إلاّ الشرّ أيْ لن تُسْمَع منّا غيره!! واسمع مِنّا قولنا ولا نَسْمَع منك قولك!! أو أحيانا يقولون واسمع منّا فأنت غير مُسْمَعٍ منّا مكروهاً بل خيراً كنوعٍ من النفاق للمسلمين إذا اضطروا لذلك في بعض الأحوال، أو أحيانا يريدون غير مُسْمَع كلاماً أصلاً بسبب صَمَمٍ أو موتٍ أيْ يَتمنّون فقدانه للسمع أو موته للتّخَلّص منه ومِن تأثيره.. ".. وَرَاعِنَا.." أيْ وكذلك من تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم وسوء أدبهم وقُبْحِهم أنهم كانوا يقولون للرسول الكريم (ص) ويقولون لمَن يدعوهم للإسلام راعِنَا بمعني ارْعَانَا بكل خيرٍ والذي يحتمل لمَن يريد الإساءة معني آخر وهو راعِنَ أيْ يا أَرْعَنَ أيْ يا أَحْمَقَ وأهْوَجَ وسفيه وجاهل أو أصبحتَ راعِنَاً (ويُحْذَف التنوين عند الوقف عليها فتُقال راعِنَ) من الرّعُونة وهي الحُمْق والتَّهَوُّر والسَّفَه والجهل.. ".. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ.." أيْ يَنطقون بهذه الكلمة وما يُشبهها نُطْقاً مُلْتَوِيَاً مُنْحَرِفَاً ليُحَوِّلوها من جانب احتمالها للخير إلى جانب إحتمالها للشرّ من أجل الإساءة والتّطاوُل علي الرسول الكريم (ص) والمسلمين وللطعن في الإسلام ذاته أيْ الذمّ فيه والاستهزاء به للتشويش علي الناس حتي لا يَتّبعوه حيث هو دين يُذَمّ ويُسْتَهْزَأ به!!.. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ.." أيْ هذا بيانٌ لِمَا كان يجب عليهم أن يقولوه ويفعلوه لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم.. أى ولو أنهم قالوا عند سماعهم لِمَا يدعوهم إليه الرسول (ص) والمسلمون والذي هو كل الخير والسعادة لهم في الداريْن سَمِعْنا قولك سَمَاعَ قبولٍ واستجابةٍ وأطعنا أمرك باتّباع أخلاق الإسلام بَدَلَ قولهم سمعنا وعصينا، ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له (ص) وللمسلمين واسْمَع مِنّا استجابتنا للإسلام وانظرنا أيْ انتظرنا وأمْهِلْنا وأعْطِنَا وقتنا حتى نَفهم ونَتَدَبَّر ونَسْتَوْعِب ما تريده مِنّا وانظر إلينا بعَيْن الخير وتَعَهَّدنا به بَدَلَ قولهم واسْمَع غير مُسْمَعٍ ولَيِّ ألسنتهم بقولِ راعِنَا وما يُشْبِه هذا مِن سوءٍ، لو أنهم فعلوا ذلك لَكَانَ قولهم وفِعْلهم هذا حتماً خيراً لهم وأعْدَلَ وأصْوَبَ وأكثر استقامة من أقوالهم السابقة السيئة حيث سينالون كل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة بَدَلاً عَمَّا هم فيه من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما.. ".. وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ.." أيْ ولكنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلَعَنَهم الله بسبب هذا أيْ طَرَدَهم وأبْعَدَهم من رحماته وإسعاداته في دنياهم وأخراهم.. ".. فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)" أيْ فبالتالي، فبسبب كفرهم هذا والذي أدَّيَ إلي لعنة الله عليهم وغضبه منهم وعدم توفيقه لهم بتيسير أسباب الهداية إليهم حيث لا يُيَسِّرها إلاّ لمَن يريدها هو بكامل حرية إرادة عقله، لا يؤمنون أمثال هؤلاء إلاّ قليلاً من الأحيان وإلا عدداً قليلاً منهم وهم الذين يَستيقظون ويُحسنون استخدام عقولهم ويستجيبون لنداء الفطرة بداخلها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُبَادِرَاً، أيْ مُسْرِعَاً مُعَجِّلاً سَبَّاقَاً، لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال تَمَسُّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)" أيْ يا أيها الذين أُعْطُوا الكتاب قبل القرآن أيْ عَقلوه وعَلموه وفَهموا تفاصيله كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أُوُحِيَ للرسول الكريم موسي (ص) وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي (ص)، آمنوا أيْ صَدِّقوا واعملوا بما نَزّلنا بعد كتابكم وهو القرآن العظيم الذي أنزلناه علي رسولنا الكريم محمد خاتم الرسل مُصَدِّقَاً لِمَا معكم من كتبكم أيْ مُوَافِقَاً ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مَصْدَرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يكفر أي يكذب به مِن حيث وجب أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يؤمن به لأنكم أصحاب كتابٍ وأهل علمٍ وأدْرَىَ الناس بأنه من عند الله وأكثرهم تأكّداً بأنَّ الرسول الذى نَزَلَ عليه هذا القرآن هو الصادق الأمين كما تُسَمُّونه فيما بينكم، فتكذيبكم له هو ضِمْنَاً تكذيب لمَا معكم ولن تكونوا مؤمنين إلا إذا آمنتم به وإن لم تؤمنوا فبالتالي ستنالون إثمكم وإثم مَن يتبعكم في هذا التكذيب لأنكم أول مَن كذّب به.. وفي ذلك حثّ وتشجيع لهم على الإيمان فهم أحقّ بذلك وأيضا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لنتائج عدم إيمانهم.. ".. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا.." أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن من عدم الإيمان وتأجيله حيث قد يَصْعُب مع مرور الوقت.. أيْ آمنوا بما نَزّلنا مُصَدِّقاً لِمَا معكم مِن قبل أنْ يُصيبكم الطمْس أيْ المَحْو لعقولكم التي في وجوهكم فترجع علي الخَلْف أي يُطْبَع عليها فلا تُمَيِّز بين الخير والشرّ وبالتالي لا تستطيع الإيمان وذلك بسبب طول تمسّكها بالتكذيب والاستكبار والعِناد وتَمادِيها فيه.. إنه تعالي يُحَذّرهم من أنهم بإصرارهم علي عدم الإيمان بلا أيِّ استجابةٍ وسَدِّهم الباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم للخير فمِن الغالِب أن يَصِلُوا إلي مَرْحَلة الطمْس أيْ الإخفاء والإزالة والطبْع علي عقولهم وعلي أسماعهم فكأنهم لا يعقلون ولا يسمعون شيئا وكأنَّ علي أبصارهم غِشاوَة أيْ غِشاء وغِطاء فكأنهم لا يَرَوْنَ شيئا، والمقصود أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، سَيَصِلُون غالباً لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لا يَبْقَيَ في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم حتي قد لا يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم إذا لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلن يَشَاءها الله لهم وسيتَركهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعِينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي طَمَسَ وخَتَمَ علي عقولهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، ومن معاني الطمْس أيضا أنه قد يكون حقيقياً حِسِّيَّاً مادِّيَّاً بأنْ يكون بنوعٍ من عذابٍ في مُقابِل شرورهم يُؤَدّي إلي أن يُخفي الله ويَمحو مَعَالِم وجوههم بمرضٍ أو حَرْقٍ أو غيره فيُردّها علي أدْبارها أيْ يُرْجِعها علي هيئة خَلْفِها من الأقْفاء فتَصِير كأقْفِيَتِها – جمع قَفَا وهو خَلْف الرَّقَبَة – لا تفاصيل واضحة فيها بل مَطْمُوسَة مُشَوَّهَة، فالله تعالي حتماً علي كل شيءٍ قدير.. ".. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ.." أيْ أو نَطْرد هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من رحمتنا وخيرنا وإسعادنا كعقابٍ لهم علي شرورهم كما طَرَدْنا أصحاب السبت ونجعلهم عِبْرَة لمَن أراد الاعتبار فلا يَفعل مِثْلهم فيَتعس كتعاستهم في الداريْن، وأصحاب السبت هم قومٌ من اليهود حَرَّمَ الله عليهم صيد السمك فى يوم السبت تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي ينطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، فكان هذا البعض يقوم بالتّحَايُل بأن يَنْصِبَ الشباك يومها ثم يَصيده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!! فأنزل الله عليهم عذابه في مُقابِل مُخَالَفاتهم فجَعلهم قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمته وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم.. إنهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان.. إنهم بإصرارهم علي ما هم فيه سيكون لهم حتما أحد العذابَيْن، إمّا الطمْس وإمّا اللّعْن.. ".. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)" أيْ تشريع الله وحُكْمه لابُدّ أن يكون مُتَّبَعَاً مَفْعُولاً مَعْمُولاً به عمليا في واقع حياة المسلم المتمسّك بكل أخلاق إسلامه، كما أنَّ أيّ أمرٍ يريد الله تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماما بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)" أيْ إنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يَعفو ولا يَتجاوَز عمَّن أشرك به غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَرَ به أيْ كذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وماتَ علي شِرْكِه أو كفره، وسبب عدم المغفرة أنَّ المشرك أو الكافر لا يطلب العفو منه تعالي أصلا لأنه يلجأ لغيره ولا يَعرفه!! كما أنه لو سَمَحَ سبحانه في الأرض بالشرك لَتَعَدَّدَت الآلهة ولَأَطَاعَ كلُّ أحدٍ إلهه بما يأمره به والذي هو غير أوامر الإله الآخر فيَتَنازَع البَشَر ويختلفون ويقتتلون ولا يتّفقون فيتعسون حتما!!.. ولكنه يَعفو ويَتجاوَز قطعاً عمَّا غير ذلك الكفر والشرك من الذنوب، لمَن يشاء.. أيْ إنَّ المُشْرِكَ والكافر ومَن يَتَشَبَّه بهما في أقوالِ وأفعالِ شِرْكِهِم وكُفْرِهم لا بُدَّ أن يتوب من إشراكه وكفره أيْ يَرْجع عنه إلي ربه خالِقه ومُرَبِّيه وراعِيه ورازقه حتي يغفر له، وهذا هو معني "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر : 53) أيْ بما فيها الشرك والكفر لكن يُشْتَرَط أن يتوب المُشْرِك أو الكافر قبل موته لأنَّ الإسلام يَمحو ما قبله مهما كان، أمَّا بالنسبة للمؤمن أيْ المُصَدِّق بربه ورسله وكتبه وآخرته فإنه مهما فَعَل مِن شرورٍ حتي ولو كانت كبائر شديدة الضرَر فإنَّ الله تعالي يغفر له حتماً إذا تابَ وما دام لم يَصِل إلي مرحلة أن يُشْرِك به شيئاً بأن استغفر منها ونَدمَ وعَزَمَ بالعقل علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، أمَّا إذا لم يَتُب قبل موته، فأَمْرُهُ إلي الله تعالي إنْ شاءَ عاقَبَه علي قَدْر شروره بكلّ عدلٍ وإنْ شاء رحمه، ورحمته وَسِعَت كلّ شيء، وهي دائما تَسْبِق غضبه، وسَيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسيئاته، فيعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً إذا زادَت سيئاته عن حسناته مُقابِل مَصَائبَ مثلا أصيب بها أو بدعاء المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعَة الرسل والشهداء والصالحين أو حتي بغير شيءٍ فهو الغفور الرحيم الودود الكريم، ولكنْ سيكون في درجةٍ أقل قطعاً في الجنة عن مَن تابَ وفَعَل مِن الخير الكثير.. ".. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)" أيْ ومَن يشرك بالله فقد كَذِبَ كذباً وزَوَّرَ زُوُرَاً فيه ظلم وإفساد وضلال وكان ذلك كله إثماً عظيماً أي ذَنْبَاً هائلاً تَمَّ ارتكابه هو أعظم ذنبٍ في الوجود لا يستحقّ معه المغفرة وتُسْتَحْقَر غيره كل الآثام لأنه سَاوَيَ بين المَخلوق والخالِق وعَبَدَ مَن لا يَسْتَحِقّ العبادة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُزَكّون أنفسهم بالخير لا بالشرّ بمعني تَرْقِيَتها وتنميتها بفِعْل كل خيرٍ وتَنْقيتها وتطهيرها بتَرْك كل شرّ، فإذا شِئْتَ أنت ذلك باختيار عقلك، وهذا حتماً سَهْل مَيْسُور لأنه مُبَرْمَج مَفْطُور أصلا علي هذا الخير ليسعد والنفور من الشرّ والبُعْد عنه لأضراره وتعاساته، شاءَ بالتأكيد لك الله ذلك وأعانك عليه ووفّقك وسَدَّدَ خُطاك وأحبك ورضي عنك وقوَّاك ورزقك ونصرك وأسعدك في دنياك وأخراك لأنه تعالي يحب ذلك ويَحثّ خَلْقَه عليه ليسعدوا في الداريْن وقد وَعَدَ به ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً حيث قال "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين يُزَكّون أنفسهم أيْ يَصِفُونها بالأفعال الحسنة ويَمدحونها مَدْحَاً كثيراً مَغرورين مُعْجَبين بها يظنّون مُتَوَهِّمين أنها كلّ شيءٍ ولا شيء غيرها مُتَفَاخِرين مُتَعَالِين مُتَرَفّعِين علي الآخرين بما لديهم أو أحيانا وليس لديهم شيء أو يكون شيئاً وَهْمِيَّاً مَكْذُوبَاً مع أنهم لا يَسْتَحِقّون إلا الذمّ بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم وعدم شكرهم لِنِعَمِه تعالي عليهم لأنهم يَتَوَهَّمون أنها بسبب جهودهم هم وعلومهم لا بتوفيقه وتيسيره سبحانه!.. إنَّ الإسلام يمنع مثل هذا النوع من التزكية للنفس أو للغير لأضراره وتعاساته في الداريْن علي النفس والغير حيث يُثير الأحقاد بين الجميع وقد يُوقِع في ذنوب نِسْيان نِعَم الله والكذب والنفاق والرِّياء أي لِيَرَيَ الناس أعمال الخير فيَطلب فاعلوها منهم مَدْحَاً أو سُمْعَة أو مَكَانَة أو نحو هذا ولا يَطلبون ثواب الله في الداريْن بعملهم فيتعسون بالتالي فيهما، ولكنه يطلب من المسلم أن يكون من الذين يُزَكّون أنفسهم بالخير لا بالشرّ بمعني تَرْقِيَتها وتنميتها بفِعْل كل خيرٍ وتَنْقيتها وتطهيرها بتَرْك كل شرّ.. هذا، وإذا كان ذِكْر الأعمال الصالحة ليس علي سبيل التَّعالِي والتَّفاخُر والإعجاب بالنفس والمَدْح الكاذب لها وللغير وما شابه هذا بل علي سبيل شكر الله تعالي ونشر الخير وتشجيع الفاعل علي المزيد منه فهذا لا ضَرَر فيه بل هو مطلوب وله ثوابه لأنه يَنْفَع ويُسْعِد في الدنيا والآخرة.. ".. بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.." أيْ لا اعتبار بتَزْكِيَة أحدٍ لنفسه أو مِن غيره أيْ شهادته لها بالمَكَانَة ولكنَّ الاعتبار الحقيقيّ والمَرْجِع في ذلك هو تَزْكِيَة الله تعالي له إذا كان مُسْتَحِقّاً لهذه التزكية والتي ستَظْهَر في تَرْقيته وعطائه بما لا يُوصَف من كل مَكَانَةٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه فهذه هي التزكية والشهادة الحقيقية لأنه وحده سبحانه الذي يعلم بتمام العلم حقيقة أعمال خَلْقِه من خيرٍ أو شرٍّ ونواياهم داخل عقولهم أثناءها، فهو أعلم بالجميع أكثر من أنفسهم ولا يَخْفَيَ عليه منهم أيَّ شيء، فلا مَجَالَ إذَن لتزكية النفس أو القطع بتزكية الآخرين ولكن لِيُتْرَك أمر التقييم هذا لله وليَحْرِص كل فرد علي دوام الاستزادة بكل هِمَّة من كل خير وتَرْك كل شرٍّ ولا يَكْتَفِي بعمله الذي عمله ويَغْتَرّ به فيتكاسَل أو يُقَصِّر.. هذا، وفي حالة مَدْح الآخرين لتشجيعهم علي مزيدٍ من فِعْلهم للخير علّمنا الإسلام أن نقول مع المَدْح الصادق: ولا نُزَكِّي على الله أحداً، أيْ لا نَتَدَخَّل في هذه التزكية ولكنها مَتْروكَة لله تعالى لأنه هو الذي يُزكِّي أيْ يُطَهِّر ويَزيد مَن اجتهد ويَرْفع قَدْره في الداريْن لأنه هو وحده الأعلم بحقيقة الجميع وصِدْقهم أو كذبهم في تَقْوَاهم.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه تعالي بفضله ورحمته علي البَشَر مِن خلال قرآنه العظيم الهادي المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن هو وحده الذي يُزَكّيهم بأخلاق الإسلام التي فيه أيْ يُطَهِّرهم مِن كل سوءٍ ويَرْقَيَ ويَنمو ويَسْمُو بهم في الأفكار والأخلاق والمعاملات، وبالتالي فمَن يشاء منهم التّزَكِّي، بصِدْق، يشاؤه الله له، أيْ يُيَسِّر له أسبابه ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ مَن يختار التّزْكِيَة بكامل حرية إرادة عقله يَسْتَحِقّ مُعاونته عليها منه سبحانه ليسعد في دنياه وأخراه، ومَن لم يَخترها – أيضا بكامل حرية إرادة عقله لأنه عَطّله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره – فلا يَسْتَحِقّ العَوْن.. ".. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)" أيْ ولا يُنْقَصُون أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخيرية أو الشَّرِّيَّة مهما كان ضئيلاً ولو بمِقْدار فتيلٍ أيْ خيطٍ رفيع.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم فَتِيلاً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف يَخْتَلِق المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن كذباً ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، مِن بعد الظهور للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة، كمَن يَدّعون مثلا كذباً وزُوُرَاً وتخريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليهم! أو أتَوا بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو أنَّ شيئا حلالا وهو حرام أو أنه حرام وهو حلال، أو يُغَيِّرون في تفسيرات ومعاني الآيات ليُبْعِدوا الناس عن أخلاق إسلامهم، أو يُزَكّون أنفسهم مع كفرهم وعِنادهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات والتي تَجعلهم مُؤَهَّلِين للذمّ والعقاب في الداريْن لا للمَدْح والعطاء فيهما، أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخريفات.. ".. وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)" أيْ ويكفي بذلك شَرَّاً واضِحَاً لا يَخفَيَ سُوؤه علي أحد، ومُبَيِّنَاً أي مُوَضِّحَاً لحَتْمِيَّة تعاسة الدنيا وكآبتها ثم لِمَا هو أشدّ وأتْعَس في الآخرة بسببه
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا لم تكن بَخِيلاً.. وإذا لم تكن حَسُودَاً
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بالجِبْتِ ويُقِرُّون ويَعترفون بصِحَّة عبادته وهو الرديء من كل شيءٍ الذي لا خير فيه ووَصَلَ الغاية في الشرّ والفساد سواء في الأفكار أو المعبودات أو الأقوال والتَّصَرُّفات وكذلك يؤمنون بالطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا مما يُؤَدِّي إلي البُعْد عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سوئهم الذي يدعو إلى مزيدٍ من التّعَجُّب من أحوالهم والتحقير من شأنهم.. إنهم يَقْلِبون الحقائق فيقولون ظلماً وزُورَاً عن الضّالِّ مُهتدي وعن الظالم عادل وعن الفاسد صالح!! .. إنهم يقولون للذين كفروا: هؤلاء الكافرون أقْومُ وأعدلُ طريقاً وأكثر هداية ووصولاً للخير والحقّ والصواب من أولئك الذين آمنوا الذين طريقهم ليس هو طريق الهداية والرشاد؟! يقولون ذلك فيهم وبينهم لأجل نفاقهم لتحقيق مصالح فيما بينهم وكُرْهَاً شديداً للإسلام
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم الذين طردهم وأبعدهم الله من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ".. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)" أيْ ومَن يَطرده ويُبْعِده الله من رحمته وخَيْره فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ له يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهده ويُتابعه نصيراً يَنصره ويُعِزّه ويَرْفعه وسيَنْهَزِم في الدنيا وإذا نَزَلَ به عقابٌ مَا فيها ثم في الآخرة لن يَجد له من الله أيّ نصير ينصره بأن يُدافع عنه أو ينقذه أو يُخَفّف عنه شيئاً منه.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما
ومعني "أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)" أيْ هذا بَيَانٌ لشدّة البُخْل وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم.. أيْ هل لهؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم جزء من المُلك، مِن مُلْك الله تعالي؟! هل لهم مُلْك الدنيا علي سبيل الفرض والذي هو جزءٌ مِن مُلْكِه سبحانه مَالِك المُلْك والكوْن كله؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، أيْ أنهم ليس لهم نصيبٌ من المُلْك ولو فُرِضَ وكان لهم المُلْك الكامل للدنيا فإنهم إذَن مِن شدّة بُخْلِهم لا يُعطون الناس أيَّ شيءٍ حتي ولو كان قليلا تافِهَاً مثل النُّقْرَة أيْ الحُفْرَة الضئيلة التي يَنْقرها منْقار الطائر أو أقل!! رغم أنهم مهما أعطوهم من مُلْكها الهائل هذا الذي يَصعب حَصْره فلن يُؤَثّر فيه!! فما الحال وهم لا يَملكون منها إلا القليل أصلا فبالتالي لا يُنْتَظَر منهم أن يُعطوا أحداً شيئا!!.. إنَّ الآية الكريمة تُرْشِد المسلم ألاّ يكون أبداً بخيلاً، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معه من نِعَم الله عليه والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيره أو حتي لنفسه! أو يُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد يَأمر غيره بهذا من شدّة بُخْله وشَرِّه!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ علي البخيل وعلي مَن حوله، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن
ومعني "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)" أيْ هذا بيانٌ أنهم لم يكتفوا بما سَبَقَ ذِكْره من صفاتٍ سَيِّئةٍ بل أضافوا لها صفة قبيحة أخري وهي الحَسَد.. أيْ هل يحسدون الناس والمقصود المسلمين علي ما أعطاهم الله من فضله ورحمته وحبه لخَلْقه وهو القرآن العظيم وما فيه من أخلاق الإسلام التي تسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟!.. إضافة إلي حَسَدهم لعموم الناس أيْ لكلّ مَن أعطاه الله أيّ نوعٍ من أنواع الخير حيث هم لشدّة شَرِّهم لا يُحبّون خيراً لأحدٍ من الناس!.. والحَسَد هو تَمَنّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات وانتصارات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات وانهزامات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم، وذلك بعدما ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد (ص) والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)" أيْ ولماذا يَحسدون المسلمين ويَستكثرون عليهم ما هم فيه من إسلامٍ يُحْيِيهم في كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ من أفضالنا ورحماتنا عليهم وهي أمور ليست جديدة غريبة؟! حيث هم يعلمون جيدا من خلال كتبهم أننا أيضا بفضلنا قد أعطينا سابقا ذُرِّيَّة إبراهيم كإسحق ويعقوب وموسي وغيرهم الكتب التي أوحيناها إليهم وفيها الإسلام الذي يُسعدهم بما يُناسب زمنهم كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل وغيرها، وأعطيناهم كذلك الحِكْمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتهم أيْ طريقتهم في كلّ أقوالهم وتصرّفاتهم والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، وأيضا أعطيناهم مُلْكَاً عظيماً أىْ سلطاناً واسعاً فى الأرض كداود وسليمان وغيرهما ينتفعون ويسعدون به في إطار أخلاق الإسلام.. فالمشكلة إذَن فيهم، في حَسَدِهم وعِنادهم وتكذيبهم، ولو أسلموا لنَالُوا حتماً مثل الخير الذي فيه المسلمون!!.. إنَّ حسدهم لن ينفعهم ويُحَقّق لهم ما يريدون من زوال الإسلام كما لم ينفع الحاسدين السابقين حيث سيَنتشر رَغْمَاً عنهم كما انتشر سابقا.. وفي هذا ذمٌّ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)" أيْ فمِن أهل الكتاب مَن صَدَّق بالقرآن العظيم وبمحمدٍ (ص) مثل المسلمين، وكذلك مِن الناس في زمن إبراهيم (ص) وكلّ رسول مِن بعده مَن صَدَّق به وبكتابه، فأسْلَمَ وعمل بأخلاق الإسلام فسَعِدَ في الداريْن، ومنهم مَن امتنعَ عنه، عن الإيمان به، فتَعِسَ فيهما، حيث كَذّب وعانَد واستكبر واستهزأ ورَاوَغ وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، ومَنَع غيره قَدْر استطاعته بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. وفي هذا تسلية وطمأنة للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين أنَّ هناك مَن يؤمن وهناك مَن يَمتنع بسبب تعطيله لعقله وما عليهم إلا أن يُحسنوا دعوة غيرهم للإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة.. ".. وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)" أيْ وكفى بجهنم تكون ناراً مُسَعَّرَة أىْ مُشْتَعِلَة اشتعالاً شديداً لا تُوصَف ولا تُحْتَمَل يُعذّب بها أمثال هؤلاء بسبب صُدُودهم وشرورهم، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمَصير الذي يَصِيرون إليه، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ".. بِآَيَاتِنَا.." أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا.." أي هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم سوف نَحْرِقهم ونَشْوِي أجسادهم يوم القيامة بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّبون بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. ".. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ.." أيْ كلّما شُوِيَت تماماً جلودهم ووَصَلَت مرحلة النُّضْج في الشَّوْي أيْ أقصاها وتَهَتّكَت وتَآكَلَت وانتهت وفَقَدَت إحساسها غَيَّرنا وخَلَقْنا لهم فوراً جلوداً أخري غيرها بَدَلاً منها ليَستمرّ ألمهم وعذابهم وليحِسُّوا به فى كل مرةٍ كما يحِسّ الذائق للشيء الذى يَذوقه.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مَالِك المُلْك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين، وكان حكيماً دائماً في كل تدبيره وتَصَرُّفه حيث يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُكَذّبين الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتماً سنُدخلهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ.." أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ لا يُمكن وَصْفه، لهم في الجنة كذلك مُتعة وسعادة الحياة الزوجية بكل ما فيها من مُتَع الحب والعاطفة والألفة والأمن والجنس ونحو هذا بلا أيِّ مشكلاتٍ مثلما كان أحيانا في الدنيا حيث أهل الجنة جمعيهم من الرجال والنساء في حالة طهارةٍ تامّةٍ أيْ نظافة من كل أشكال السوء المَعْنَوِيّ كسوء الخُلُق بكل صوره والحِسِّي كالبول والعرق وغيره، فهم في أجمل وأكمل وأسعد صورة.. هذا، والأزواج جَمْع زوج ذكراً كان أو أنثى فهي كلمة تُطلق على المرأة المتزوجة كما تطلق على الرجل المتزوج ولذا فهذا النعيم هو لهما معا أيْ تكون المرأة مُتعة زوجها ويكون هو متعتها.. ".. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)" أيْ هذا تأكيد لجمال الظلّ وفَخَامته وجَوْدَته، أيْ ظِلّاً مُمْتَدَّاً كثيراً دائماً لا يَنقطع مُتَعَدِّد الطبقات عميقاً ساتِرَاً لا يَتَخَلّله ما يُؤذي طيّباً جميلاً مُعْتَدِلاً لا حَرّ فيه ولا بَرْد، أيْ ونُدْخلهم في حالٍ من التّمَتّع والنعيم حيث النسيم الطيّب لظلالٍ مُتَّسِعَة مُنْبَسِطَة دائمة لا تَنْكَمِش ولا تَتَغَيَّر ولا تذهب ولا تَنْقطع ولا تزول كظلال الدنيا، وهي تحمل نسائم مُمْتِعَة، وهي حاصِلَة من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها وثمارها بمناظرها المُسْعِدَة المُبْهِجَة، بما يُفيد تمام التّمَتُّع بالراحة والاسترخاء وكمال التكريم والتشريف والرعاية والحب والرحمة
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. وإذا كنتَ عادلا تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)" أيْ إنَّ الله يُوجِب ويُؤَكّد عليكم أيها المسلمون ويُوصِيكم بشدّة أيها الناس عموماً فلا تُخَالِفوا حتي لا تُعَاقَبوا وتتعسوا في الداريْن بل تسعدوا فيهما، يأمركم أن تُوَصِّلوا وتُسَلّموا كل ما ائْتُمِنْتُم عليه من أماناتٍ من الله أو الناس إلي أصحابها بكل عدلٍ بلا أيِّ تفريطٍ أو نُقْصانٍ أو تحريفٍ أو تَلاعُبٍ أو مُرَاوَغَة أو غير ذلك.. إنَّ عليكم أنْ تَحفظوها دائماً وتماماً ولا تَخونوها وتَرُدُّوا كلّ مَا تمَّ الائتمان عليه عندكم سواء أكان مالا أم شيئا عَيْنِيَّاً أم أسراراً قولية أم عِلْمَاً أم عَمَلاً أم ما شابه هذا، وأعظم هذه الأمانات التي عليكم أنْ تُراعوها وأوّلها وأهمّها حفظ أمانة الله ورسوله (ص) وهي الإسلام من خلال التمسّك والعمل به والدعوة له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، ثم راعوا ولا تَنْقضوا أبداً عهودكم وعقودكم ومواثيقكم ومعاهداتكم ووعودكم ومواعيدكم ونحو هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالعمل بكل أخلاق إسلامكم ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فبانتشار رعاية الأمانات وهذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس علي أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. ".. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.." أيْ ويأمركم كذلك إذا فَصَلْتُم وقَضَيْتُم بين الناس عموما صغيرهم أم كبيرهم فقيرهم أم غَنِيِّهم ضعيفهم أم قَوِيِّهم نسائهم أم رجالهم بعيدهم أم قريبهم مَرْؤُوسِيهم أم رؤسائهم مسلميهم أم غير مسلميهم – حتي حقّ الحيوان والنبات والجَمَاد وكل مخلوقٍ يُعْطَيَ له – في أيِّ أمرٍ أو تنازُعٍ مهما صَغُر أو قضيةٍ صَغُرَت أم كَبُرَت أنْ تَفْصِلُوا وتَقْضُوا بينهم بكلّ عدلٍ وحقّ وصِدْقٍ بلا أيّ ظلم، لأنه بانتشار المَظَالم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفَزَع والخِلاف والاقتتال بين الناس فيَتعسون حتماً في الداريْن، بينما بالعدل وأخْذ كلّ صاحب حقّ حقّه يَطْمَئِنّون ويَسعدون فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ.." أيْ إنَّ الله نِعْمَ مَا يُذَكّركم به من مَوْعِظَات وتَذْكِرَات وواجبات وتشريعات وأوامر ونَوَاهِي ووَصَايا ونصائح في إسلامكم، أيْ ما أحْسَنها وأطْيَبها وأجملها وأفضلها وأعظمها وأنفعها، لأنَّ فيها كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته.. وفي ذلك تشجيعٌ علي العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيراً أي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي استجيبوا ونَفِّذوا ما وَصَّاكم به الله ورسوله (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.." أي وأطيعوا كذلك المُتَوَلّين لأموركم وشئونكم مِن بينكم المسئولين عنكم في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة ما داموا يُطيعون الله ورسوله فلم يَأمروكم بما يُخَالِف أخلاق الإسلام فإنْ أمروكم بأيِّ شيءٍ يُخَالِفه فلا تُطيعوهم فيه.. ".. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.." أيْ فإن اختلفتم في أمرٍ من الأمور فارْجِعوه إلي كتاب الله وسُنَّة الرسول (ص)، ارجعوه إلي الإسلام واعْرِضُوه عليه، فهذا وحده لا غيره هو المَرْجِع الذي تَرْجِعُون إليه وتَقِيسُون عليه والإطار الذي لا تَخْرُجون عنه.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ بالله واليوم الآخر كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم متأكّدين بلا أيّ شكّ من الحساب يوم القيامة وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، فالإيمان يُوجِب ويَعنِي فِعْلَ هذا.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله واليوم الآخر فإنه حتماً سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان والحساب والعقاب والجنة والنار مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة حيث الإيمان الحقّ يَتَطَلّب ذلك.. ".. ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)" أيْ ذلك الرَّدّ لله والرسول الذي ذَكَرْنَاه لكم ونُوصِيكم به إنْ فَعَلْتموه فسيكون لكم حتماً تمام كلّ خيرٍ وسعادةٍ وأجمل وأطيب وأفضل تأويلاً أيْ مَآلاً أيْ نتيجة ونهاية في دنياكم وأخراكم لأنه سيَمنع قطعاً أيَّ تَنازُعٍ بينكم وسيُرْشدكم لكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تماما فيهما
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن المنافقين الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ الذين يَزْعمون أيْ يَدَّعُون كذباً وزوراً أنهم صَدَّقوا وعملوا بما أُنْزِلَ إليك يا رسولنا الكريم وهو القرآن العظيم وما أُنْزِلَ من كُتُبٍ قبلك أوحيناها إلي الرسل السابقين لك وهم مع هذا في ذات الوقت يَتركون الحُكْم به والرجوع إليه واتّباعه ويُريدون بكل محبةٍ وإقبالٍ واقتناعٍ واستجابةٍ أن يتحاكموا أيْ يجعلوا الحُكْم والتّصَرُّف والقرار في كل شئون حياتهم وكيفية تسيير أنظمتها وأساليبها وشئونها وعند الخلاف فيها مَرْجِعه إلي الطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا مِمَّا يُؤَدِّي إلي البُعْد عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. إنه تعالي يَكْشِف للمسلمين أحوال أمثال هؤلاء المنافقين لكي يَحذروهم ويُعاملوهم بما يُناسب.. ".. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التّعَجُّب من سوء حالهم والتقبيح له والتحقير لشأنهم حيث هم يفعلون هذا رغم أنهم يعلمون أنَّ الله تعالي قد أمرهم وجميع الناس في القرآن العظيم وفيما أنزل مِن قَبْل في كل الكتب أنْ لا يُصَدِّقوا ويُكَذّبوا بهذا الطاغوت ولا يَتّبعوه ويَتّبعوا الإسلام ويكون مَرْجِعهم ليسعدوا في الداريْن، وبالتالي فهم عن عَمْدٍ لا جَهْلٍ مُخَالِفون مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون مُستهزؤن مُرَاوِغُون يستحقّون العقاب بما يُناسب فيهما.. ".. وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التّعَجُّب من سوء حالهم والتقبيح له والتحقير لشأنهم.. أيْ يُريدون أنْ يَتَحَاكَموا إلي الطاغوت والذي من ضِمْن معانيه أنه الشيطان – ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يَخطر بالعقل – رغم أنَّ الشيطان يريد أنْ يُضِلّهم ضلالاً بعيداً أيْ يُضَيِّعَهم ضَيَاعَاً كبيراً بأنْ يُبْعِدهم عن طريق الحقّ والخير والسعادة الذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، ولا يُريدون أن يَتّبِعوا الله والرسول والقرآن والإسلام رغم أنه يريد أنْ يُسعدهم إسعاداً عظيماً تامّاً في الداريْن!! إنَّ هذا هو أعْجَب العَجَب!! أنْ يَتّبِعوا مَن يريد إضلالهم وسيكون حتماً سَبَبَاً فيه ولا يَتّبعوا مَن يريد إسعادهم سعادة حَتْمِيَّة!!.. إنَّ أيَّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من المُفْتَرَض أن يُحْسِن الاختيار باتِّباع الطريق الذي سيُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وهو طريق الله والإسلام وأنْ يَبتعد تماماً عن الطريق الذي سيُتْعِسه فيهما وهو طريق الشيطان
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)" أيْ هذا بيانٌ لعَلاَمَةٍ هامّةٍ من علامات المنافقين يَكْشِفها الله تعالي للمسلمين لكي يَحذروهم ويُعاملوهم بما يُناسب.. أيْ وحينما يقول المسلمون ناصِحين لهؤلاء المنافقين الذين يَزْعمون أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليك وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِك والذين يُريدون أن يَتَحاكَموا إلي الطاغوت والذين يتّبعون خطوات الشيطان فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، أقْبِلُوا علي ما أَنْزَلَ الله أيْ اتّبعوا القرآن العظيم والإسلام واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، رأيتَ أيها الناظِر إليهم وقتها هؤلاء الذين يُنافقون يَمتنعون ويُعرِضُون عنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم امتناعاً وإعراضاً شديداً تامَّاً – بل ويَمنعون غيرهم أيضا بما استطاعوا – أيْ يُعطون ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبتعدون عنك ويتركونك ويهملونك بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء، بما يَدلّ علي شدّة بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم وإصرارهم التامّ علي ما هم فيه وأنهم كاذبون فيما يَدَّعُونه ويُظْهِرونه أنهم يؤمنون بما أُنْزِل إليك حيث يُخْفُون كلّ شَرّ
ومعني "فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)" أيْ هذا مَظْهَرٌ آخرٌ من مَظَاهِر نفاقهم وهو ما يكون منهم من أقوالٍ وأفعالٍ عند حدوث المصائب.. أيْ فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم مُصيبة أيْ مَضَرَّةٌ مَا تَضَرُّهم في شأنٍ من شئون حياتهم تُظْهِر نفاقهم وأنهم يَتَحَاكَمون إلي الطاغوت لا إلي الإسلام؟! بسبب ما قدَّمته أيديهم أيْ بسبب أفعالهم السيئة، وهذا هو قانون الحياة الإلهيّ العادِل أنه مَن زَرَعَ خيراً حَصَدَ خيراً ومَن زرَع شرَّاً فلن يَحصد بالقطع إلاّ كلّ شرّ كما نبَّهنا تعالي لذلك بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، سواء أكان هذا العذاب قَلَقَاً أم توتّراً أم ضيقاً أم صراعاً أم اقتتالا مع الآخرين.. ".. ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)" أيْ ثم يَحضرون إليك عند نزول المُصيبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُعْتَذِرِين عَمَّا حَدَثَ منهم من الاحتكام إلي الطاغوت حَالِفِين بالله كذباً وزُوُرَاً أننا ما أردنا بالتَّحَاكُم إلى أهل الطاغوت إلاّ قَصْد الإحسان إليهم لتقريبهم إلي الإسلام والتوفيق بينهم وبين المسلمين!! فلا تُؤَاخِذنا بما فَعَلْنا فنحن نريد الخير لا الشرّ!!.. إنَّ حالهم وقتها سيكون حتماً حالا بائِسَاً ذليلاً مُنْكَسِرَاً لأنهم لا يَجدون حينها عُذْرَاً مَقبولاً للدفاع عَمَّا ارتكبوه من سوء!.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل نزول المُصيبة وانكشافهم بها ونَدَمهم عليها واعتذارهم عنها حين لا ينفع نَدَم ولا اعتذار حيث سيُعَاقَبون حتما علي سوئهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)" أيْ هؤلاء المنافقون المَوْصُوفون بالصفات السيئة في الآيات السابقة يعلم الله قطعاً حقيقة ما في عقولهم من النفاق وكذب أقوالهم التي يقولونها وإنْ أظهروا الخير، يَعلمه بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو عليم بكل شيءٍ في كوْنه ويعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتماً بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم إنْ لم يَتوبوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم.. ".. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ فلا تُقْبِل عليهم يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السيئة ولكنْ في ذات الوقت عِظْهم أيْ ذَكّرهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْهم فيما بينك وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عظهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)" أيْ وما بَعثنا أيَّ مَبْعُوث لكم أيها الناس جميعا بالإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، منذ آدم ونوح وحتي خاتم الرسل محمد (ص)، إلا لكي يُستجاب له في كل ما أمَرَ ووَصَّيَ به ونَهَيَ عنه لا لكي يُعْصَيَ ويُخَالَف، فكيف يُعْرَض عنه ولا يُطاع؟! والمقصود الأمر والحَثّ على طاعة الرسول باتّباع كل أخلاق الإسلام التي بَعَثه الله بها إليهم حيث هذه هي الغاية من إرسال الرسل لا غاية غيرها، وبالتالي فمَن أطاعه سَعِدَ في الداريْن ومَن عصاه استحقّ العقوبة وتَعِسَ فيهما.. ".. بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ وهذه الطاعة اللازِمَة على الذين أُرْسِلَ إليهم هي بإذن الله أيْ بأمره بطاعته فهو تعالى الذي يَأمر بها وليس الرسول وبالتالي فمَن يَعصاه فإنما يَعْصِى الله ومَن يُطيعه فقد أطاع الله فكل أمرٍ يأمر به أو يَنْهَيَ عنه هذا الرسول هو من أمر الله تعالى وليس من عند نفسه وبإذنه هو.. هذا، ومن المعاني أيضا أنَّ هذا الرسول لا يُطاع إلا بإذنٍ من الله أيْ لا يُطيعه أحدٌ إلا بإذن الله أيْ إلا بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب الطاعة له وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، وذلك لَمَّا يَرَيَ تعالي المُطِيعَ هو أولا يَسعي ويَجتهد في التمسّك بكل أخلاق الإسلام وقد اختار ذلك بكامل حرية إرادة عقله فيُعينه حينها علي المزيد منها كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق لا يُخْلَف مُطْلَقا "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت:69)، "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعة تفسيرهما لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني).. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)" أيْ هذا دعوة لكل مَن عَصَيَ مهما كان عِصْيانه أن يأتي لرحمات الله مُستغفراً ليسعد بها في دنياه وأخراه.. أيْ ولو أنَّ العُصَاة حين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، جاءوك يا رسولنا الكريم أيْ اتَّجَهُوا نحو سُنّتِك راجعين إلي الإسلام مُتَعَرِّفين علي أخلاقه من خلال هذه السُّنَّة تائبين بصدقٍ تارِكين ما يفعلونه من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات مُستغفرين الله واستغفرتم لهم أنتم أيضا أيها المسلمون حولهم لمزيدٍ من ضمان قبول الله لتوبتهم حيث الطاعة الجماعية لها عظيم الأثر والأجر في الداريْن، لو أنهم فعلوا ذلك لوَجَدُوا فَوْرَ توبتهم أيْ لقَابَلُوا حتماً وعَلِموا واستشعروا ولَمَسُوا في حياتهم بشائر وآثار رحمات وخيرات أنَّ الله قد تابَ عليهم مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك لِكَوْنه تَوَّاباً أيْ كثير عظيم التوبة على مَن تابَ إليه أيْ رَجَع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، ولِكَوْنه أيضا رحيماً أيْ كثيرَ واسعَ الرحمةِ بالعالمين الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوْسَع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْر عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (213) من سورة البقرة، ثم الآية (185) منها، ثم الآية (93) منها، ثم الآيات (7)، (8)،(9) من سورة آل عمران، ثم الآيات (81)، (83)، (85) منها، ثم الآية (138) منها).. إنك إنْ فَعَلْتَ هذا بكلّ ثقةٍ واطمئنانٍ وحبٍّ واشتياقٍ وحماسٍ وانشراحٍ وتسليمٍ دون أيّ ضيقٍ أو تَمَلْمُلٍ لثقتك التامَّة أنَّ في ذلك مصلحتك وسعادتك الكاملة في دنياك وأخراك، فأَبْشِر أنك علي طريق إكمال كلّ أخلاق إسلامك، وحين تُتِمّها ستَكتمل بإ ذن الله وعوْنه وتوفيقه وتيسيره كل سعاداتك.. إنَّ هذا أمر سَهْل مَيْسُور في مُتَنَاوَل كل مَن يريده، لأنَّ أخلاق الإسلام وأنظمته هي التي تُوافق فطرة العقل وتسير معه دون أيّ صراع لأنه مُبَرْمَج من خالقه علي هذه الأخلاق ( برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولذا فهي السَّهْلَة المُيَسَّرَة، وهي المُسْعِدَة في الداريْن، بينما غيرها المُخَالِف لها كلها شرّ وكآبة وتعاسة، لأنها تُنَازِع الفطرة وتَتَصَادَم معها، ولذا فهي عسيرة شاقة عليها مُضِرَّة مُتْعِسَة لها ولمَن حولها وللخَلْق وللكَوْن كله، كما يقول تعالي "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)" (الروم:30).. إنَّ نظام الإسلام هو الأَخْيَر والأكمل والأفضل والأسعد لك وللبشرية كلها في الداريْن، لأنه يُنَظّم لك كل شئون حياتك صغيرها وكبيرها لتسعد بكل لحظاتها، لأنه من عند الخالق العادل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي يعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهُمْ خَلْقه وصَنْعَته، والصانع سبحانه هو وحده الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكل دليلِ خَيْرٍ مُسْعِدٍ.. إنه تعالي لم يُوصِينا بشيءٍ شاقّ علينا مُرْهِقٍ لنا، وإلاّ لم يَفعله إلا القليل النادر مِنّا، والله يريد الإسلام للجميع ليسعدوا به، كأنْ نقتل أنفسنا أو نَهْجر ديارنا مثلاً ككَفّارةٍ لذنبٍ مَا فعلناه!! وإنما كل النصائح والوصايا هي في وسعنا كما يقول "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.." (البقرة:286)، ولا تحتاج إلي بَشَرٍ خارقٍ فوق العادة للعمل بها!.. هذا، ومَن يَفعل مَا وَصَّانا ووَعَظَنا به ربنا، وهو السَّهْل المَيْسُور المُعْتَدِل الذي ليس فيه مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة، واجْتَهَد في استكمال كل أخلاق إسلامه، كَانَ دائماً خَيْرِيَّاً، أيْ عاش بالخير وفي كل خير، أيْ سعيداً في ذاته تمام السعادة مُسْعِدَاً لمَن حوله، وكَانَ دوماً مُسْتَبْشِرَاً بانتظار ما سيُؤتيه ربه بفضله وكرمه من السعادة التامّة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة.. إنه علي الطريق الهانيء السعيد في دنياه مثل طريق النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين ثم معهم بإذْن الله ووَعْدِه في أخراه، ونِعْم الرفيق هؤلاء، ونِعْم الفضل العظيم من ذي الفضل العظيم سبحانه، وكَفَيَ به عليماً بكل شيء، بمَن يَستحقّ كل هذا، وبمَن لا يستحقّ.. هذا، ومَن كان مَرْجِعِيَّته نظاماً آخر مُخَالِفَاً لنظام الإسلام مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، مُتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرَاً مُتأكّداً بأفضليته عليه، فهو ليس بمؤمنٍ بكل تأكيد، وهو قطعا ضالّ مُضِلّ كئيب تعيس في دنياه ثم أشدّ تعاسة وأخلد في نار جهنم في أخراه.. أمّا إذا كان مسلماً مُوقِنَاً بصلاحية الإسلام وإسعاده للبشرية كلها في كل زمانٍ ومكانٍ ولكنه مُقَصِّرٌ أو مُفَرِّط أو مُتَهَاوِنٌ أو مُضطرٌّ، فيَتعس في دنياه علي قَدْر تَفريطه، وفي أخراه لا يُخَلّد في النار لكن يُحاسبه ربه بالعدل علي ما يَعْلَمه منه، ورحمته تعالي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَسْبِق دائماً غضبه
هذا، ومعني "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)" أيْ هذا قَسَمٌ من الله تعالي بذاته العَلِيَّة، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد!! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه.. أيْ فَوَرَبّك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لا يُؤمن الناس أيْ لا يُعَدَّوُن مُصَدِّقِين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُتَمَسِّكِين عامِلِين بأخلاق الإسلام – ويُذَكّر سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب المشاعر للعوْن علي سرعة الاستجابة – حتي يُحَكّموك أيْ يَتَحَاكَموا إلي شريعتك التي أُوحِيَت إليك وهي الإسلام أيْ يجعلوها وحدها لا شيء غيرها يُخَالِفها هي المَرْجِع الذي يَرْجِعون إليه في الحُكْم والتّصَرُّف والقرار في كل شئون حياتهم وكيفية تسيير أنظمتها وأساليبها وشئونها وعند التّشَاجُر أيْ الخِلاف فيها، ثم أثناء ذلك وبَعده لا يَجدوا في أنفسهم أيَّ ضيقٍ أو تَمَلْمُلٍ أو شكٍّ مِمَّا يَقْضِي ويَحْكُم ويُوصِي به الإسلام ويُرْشِد إليه بل يَرْضُوا ويَقبلوا به بكلّ ثقةٍ واطمئنانٍ وحبٍّ واشتياقٍ وحماسٍ وانشراحٍ واقتناعٍ وتسليمٍ واستسلامٍ ورضا وقبولٍ واتّبَاعٍ وانْقِيادٍ تامٍّ بلا أيِّ اعتراضٍ أو رفضٍ أو امتناعٍ أو تَرَدُّدٍ أو تَرَاجُعٍ لثقتهم التامَّة أنَّ في ذلك مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم الكاملة في دنياهم وأخراهم، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها ليسعدوا بكل لحظاتها، لأنه مِن عند خالِقهم العادل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي يَعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهم خَلْقه وصَنْعَته، والصانع سبحانه هو الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكل دليلِ خَيْرٍ مُسْعِدٍ
ومعني "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)"، "وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)"، "وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)" أيْ هذا بيانٌ لرحمة الله تعالي بالناس حيث لم يُوُصِهِم بشيءٍ شاقّ عليهم مُرْهِقٍ لهم لا يمكنهم تَحَمُّله، وإلا لم يستطع فِعْله إلا القليل النادر منهم، وهو سبحانه يريد الجميع أن يعملوا بكل أخلاق الإسلام لا مجموعة من بينهم فقط ليسعدوا كلهم بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولذلك يُوصِيهم بما هو في استطاعتهم كما يقول "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.." (البقرة:286)، ويقول ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.." (البقرة:185) (برجاء مراجعة تفسيرهما لتكتمل المعاني)، وليس بما يحتاج إلي بَشَرٍ خارِقٍ فوق العادة لكي يستطيع العمل به!.. أي ولو فُرِضَ أننا فَرَضْنا علي الناس مثلاً عند فِعْل ذنبٍ مَا أن يَقتلوا أنفسهم أو يَهجروا ديارهم ليكون ذلك كَفّارة لهم من ذنوبهم لنَتوب عليهم ولا نُعاقبهم، أو ما شابه هذا من فروض ووَصَايا وتشريعات لكل شئون حياتهم تكون شاقّة مُرْهِقَة مُستحيلة علي أغلبهم، ما فَعَلوا هذا المطلوب حتماً إلاّ قليلٌ منهم يُمكنهم فِعْله.. فلَمَّا لم نَفعل ذلك من رحمتنا وكرمنا بل كَتَبْنا عليهم الإسلام المُيَسَّر المُسْعِد لهم في الداريْن حبّاً فيهم وإسعاداً لهم فلْيَقبلوه إذَن شاكرين ومن الشكر أن يعملوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها في الدنيا والآخرة، وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ لهم علي اتّباعها، وتحذير أنه لا عُذْر بالقطع بالتالي لمَن لم يعمل بها وهي في استطاعته تماما حيث سيُعَذّب ويَتعس فيهما بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه وعلي قَدْر هذا البُعْد.. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)" أيْ ولو أنَّ الناس فَعَلوا ما يَعِظهم أيْ يُذَكّرهم ويُوصِيهم به ربهم في القرآن العظيم من التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لَكَانَ هذا الفِعْل والامتثال لِمَا يُوعَظون به حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ خيراً لهم في دنياهم وأخراهم حيث سيعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ولَكَانَ أيضا سبباً في خيرٍ آخرٍ وهو تثبيت الله لهم أشدّ وأقوي وأعظم التثبيت علي كل هذا الخير والأمن والسرور الذي هم فيه حيث بمجرّد عملهم بأخلاق إسلامهم يُيَسِّر لهم سبحانه المزيد من العمل بها حتي يعملوا بها كلها فتكتمل سعادتهم الدنيوية والأخروية كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني).. كذلك من معاني أشدّ تثبيتاً أيْ أقوي وأضْمَن تحقيقاً لثواب الله وتثبيتاً لمَكانتهم عنده تعالي في الدنيا والآخرة، ولو أصابهم – كاستثناءٍ – اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا ثَبَّتهم وأعانهم وأخرجهم منه مستفيدين استفاداتٍ كثيرة فيهما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وبعد موتهم يُثَبِّتهم في قبورهم عند السؤال عن مَن ربهم ورسولهم ودينهم عند بداية دخولهم له ويستشعرون أنَّ القبر روضة من رياض الجنة وتكون أرواحهم سائحة في نعيمها علي حسب درجة أعمالهم، ثم عند قيام الساعة وبدء الحساب يكونون ثابتين بتثبيت الله لهم فيكونون آمنين مطمئنين يَمُرّ عليهم حسابهم يسيراً سريعاً كله تبشير وسعادة، ثم ينعمون بمُستقرّهم الأخير في أعلي درجات الجنات مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا.. "وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)" أيْ ولَكَانَ أيضا سبباً في خيرٍ ثالثٍ لهم، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الخير الذي سَبَقَ ذِكْره والزيادة عليه بمقدارٍ لا يعلمه إلا وحده سبحانه صاحب كلّ فضل.. أيْ وإذَن بالتالي وبكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكّ وكنتيجةٍ طيِّبَةٍ لذلك لأعطيناهم من عندنا بكرمنا الذي لا يُحْصَيَ عطاءً هائلاً لا يُوصَف في دنياهم ثم في أخراهم في جنّاتنا حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. "وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)" أيْ ولَكَانَ أيضا سَبَبَاً في خيرٍ رابعٍ عامٍّ هامٍّ لهم، أيْ ولأرشدناهم عموماً وبالجملة وبالتأكيد – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّفٍ صراطاً مستقيماً ووَفّقناهم إليه وأعَنّاهم عليه ويَسَّرنا لهم أسباب السَّيْر فيه والثبات به والزيادة منه، أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً مُتَّجِها دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وكفي بهذه نعمة تُحقّق لهم كل خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وسعادةٍ فيهما
ومعني "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)" أيْ والذي يُنَفّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي والرسول (ص) من أخلاق الإسلام والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتما سيُدخلهم سبحانه في الآخرة في مُقابِل حُسْن أعمالهم وعلي حسب درجاتها جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر مع الذين أنْعَمَ عليهم بهذا النعيم الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ من النّبِيِّين الذين أرسلهم للناس ليُنَبِّئوهم ويُخْبِروهم بالإسلام، والصِّدِّيقين وهم الذين عَظُم وكَمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل اعتقاداً وفهماً وفكراً وقولاً وعملاً، والشهداء الذين اسْتُشْهِدُوا فى سبيل الله أيْ قُتِلُوا في طريق الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، وهم أيضا الشهداء علي الناس أيْ القادَة المُعَلّمِين المُعِينِين المُقَوِّمِين المُصَحِّحِين لهم بالإسلام لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن، والصالحين الذين صَلُحَت أقوالهم وأفعالهم في حياتهم فكانت في كل صلاحٍ وخيرٍ لا فسادٍ وشرّ.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)" أيْ وما أحسنَ هؤلاء كلّ واحدٍ منهم رفيقاً أيْ مُرَافِقَاً صاحِبَاً كله رِفْق وحبّ ولُطْف ولِيِن وحُسْن تَعَامُل، لا يُوصَفون في حُسْنِهم حيث لا صُحْبَة أحسنَ وأسْعَدَ منهم في أحسن وأسعد مكان، الجنة، يَتزاوَرون ويَتَسامَرون ويَتَنَعَّمون ويَسعدون فيها علي اختلاف درجاتهم في إطار رحمات وخيرات خالقهم الكريم الرحيم الودود.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعا أن يَنالوا هذا المقام بأنْ يجتهدوا في طاعة الله والرسول (ص) من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)" أيْ ذلك العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُقَدَّر بأيِّ قَدْرٍ المذكور سابقا هو مِن الله وحده لا غيره لأنه ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ علي خَلْقه من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)" أيْ ويَكفِي الناس جميعا كفاية تامّة ويُطَمْئِنُهم اطمِئْناناً كاملا، ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه، أنه سبحانه بكرمه ورحمته وفضله وإحسانه وعدله العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه هو الذي سيكون المُحَاسِب لهم المُرَاقِب المُشاهِد الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه حيث يعلم مَن يستحقّ هذا الفضل العظيم مِمَّن لا يَسْتَحِقّه بكل دِقّةٍ وعدلٍ مع فضلٍ لا يُحْصَيَ.. فليجتهد العاقل إذَن في أن يكون من الذين يَسْتَحِقّونه بأنْ يُسَارِع في طاعة الله والرسول (ص) من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما حَذِرَاً باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، بمعني أن تكون مُحْتَاطَاً مُحْتَرِسَاً مُتَيَقّظَاً في كل موقفٍ من مواقف حياتك، صَغُر أم كَبُر، فتقوم بحسابه ما استطعت من كل الجوانب المُمْكِنَة، وتُحْسِن اتّخاذ ما أمكن من أسبابٍ له، وتأخذ رأي أهل الخبرة والتّخَصّص إنْ لم يكن لك به علم، وما شابه ذلك، فإنَّ الحَذَر المُعْتَدِل يَقِي كثيرا من المشكلات، ويجعل الجميع قليلي الأخطاء، فيسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – احْتَاطُوا وكونوا في حَذَرٍ دائمٍ من أعدائكم بدوام الاحتياط والاستعداد التامّ لهم بكل أنواع القوة الإيمانية والمعنوية والمادِّيَّة كالقويَ العسكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها كما يقول تعالي "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.." (الأنفال:60) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وذلك لرَدّ أيّ اعتداءٍ منهم عليكم.. ".. فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71)" أيْ فإذا اعتدوا فاخرجوا لقتالهم ورَدّ اعتدائهم وأنتم ثُبِاتٍ أيْ مجموعاتٍ وفِرَق جَمْع ثُبَة أيْ مجموعة أو اخرجوا لهم جميعا أيْ مجتمعين في جيشٍ كبير، وذلك علي حسب الظروف والأحوال بما يُحقّق لكم النصر عليهم ورَدّ اعتدائهم وهزيمتهم فلا يفكرون في اعتداءٍ آخر.. هذا، والآية الكريمة تُرْشِد المسلم أن يكون دائما حَذِرَاً باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، بمعني أن يكون مُحْتَاطَاً مُحْتَرِسَاً مُتَيَقّظَاً في كل موقفٍ من مواقف حياته، صَغُر أم كَبُر، فيقوم بحسابه ما استطاع من كل الجوانب المُمْكِنَة، ويُحْسِن اتّخاذ ما أمكن من أسبابٍ له، ويأخذ رأي أهل الخبرة والتّخَصّص إنْ لم يكن له به علم، وما شابه ذلك، فإنَّ الحَذَر المُعْتَدِل يَقِي كثيراً من المشكلات، ويجعل الجميع قليلي الأخطاء، فيسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)" أيْ وإنَّ مِن بينكم أيها المسلمون مَن يَتَبَاطَيء ويَتَأَخّر ويَتَثَاقَل عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ضدّ المُعتدين عليهم، ضَعْفَاً وجُبْنَاً، بلا أيّ عُذْر مَقبول، ويُبَطّيء ويُؤَخّر غيره، فلا يَفعل أحدٌ منكم ذلك حتي لا يَتَشَبَّه بالمنافقين الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ وحتي لا يكون آثِمَاً ويُعاقَب بما يُناسب في دنياه وأخراه بسبب ما يُسَبّبه انهزامه أمام عدوه من أضرارٍ وتعاساتٍ له وللجميع، ولا تتأثّروا بهم بل انطلقوا في جهادكم.. ".. فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)" أيْ فإنْ أصابتكم مَضَرَّةٌ مَا أثناء جهادكم، قال هذا المُتَبَاطِيء المُتَّصِف بالضعف والجُبْن المُتَشَبِّه بالمنافقين، على سبيل الفرح لنفسه والتّشَفّى والتأنيب لكم، قد أكرمنى الله بالقعود حيث لم أكن معهم شهيداً أيْ حاضراً فيما كانوا فيه لأنى لو كنتُ حضرت لأصابنى ما أصابهم! فهو مِن سَفَهِه وعدم تقديره لِمَا سيُصيبه مِن ذِلّةٍ وتعاسةٍ هو والمجتمع كله بسبب جُبْنه وتَرَاجُعه وبَعْد انتصار عدوّهم عليهم وسيطرته علي خيراتهم وثرواتهم وجهودهم وإبعادهم عن ربهم وإسلامهم وما سيُصيبهم من عقابٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة وما سيَفقده هو وأمثاله من عطاءٍ عظيمٍ فيهما لو كانَ جاهَد، يَعْتَبِر ذلك نعمة من الله تستحقّ الشكر بينما الإقدام والعِزّة والاستشهاد إذا حَدَثَ مُصيبة!!.. إنه من أنانيته وعدم انشغاله إلا بذاته لا يَعْتَبِر آلام ومصائب مُجتمعه ألَمَاً ومُصيبة له!!
ومعني "وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)" أيْ وإذا نالَكُم عطاءٌ من الله كنصرٍ وغَنِيمةٍ وتوسيعِ أرزاقٍ وحُكْمٍ وسُلْطةٍ ونُفوذٍ ونحو هذا، يقول علي سبيل الحسرة والندم والحرص الشديد علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة يوماً مَا بلا حرصٍ علي ثواب الآخرة ونسيانها مع الحسد لكم أيْ تَمَنّي زوال النِّعَم عنكم، كنت أتمنّي وأحب أن أكون معهم لكي أفوز بهذا الفوز العظيم الذي فازوا به، فهذا هو أكبر هدفه، وهو نوع من الخِسَّة والدناءة والحَقَارَة حيث يقوله وكأنه ليس من أهل دينكم الإسلام! ولا كان بينكم وبينه أيّ صُحْبة ومَعْرِفَة وصِلَة سابِقَة مُسْتَلْزِمَة للمَوَدَّة! فهو ينتظر لكم المصائب ويفرح بها ويَتَحَسَّر بعِزّكم ونصركم ورزقكم!.. وهذا هو حال الأنانيّ الذي يحب نفسه فقط ولا يفكر في المجتمع الذي يعيش فيه، وكأنَّ المَوَدَّة الإيمانية لا قيمة لها عنده لأنه لو كان لها أقل تقدير لَكَانَ عليه ألاّ يَتَبَاطَيء في البداية ويقول قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولكان مع المسلمين في جهادهم لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط ويبتعد عنهم إذا ما أصابتهم مَضَرَّة مَا واستشهد عدد منهم.. إنَّ المودة تَتَطَلّب أن يكون المسلمون مشتركين في جميع مصالحهم ودَفْع مَضَارِّهم، يفرحون بحصولها ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمرٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن.. إنَّ عليكم ألاّ تتأثّروا بأمثال هؤلاء ولا تَتَشَبَّهوا بهم بل انطلقوا في عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه لتسعدوا فيهما
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)" أيْ إنْ أَبْطَأ أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم عن الجهاد والقتال، فلْيُقاتِل إذَن المسلمون الصادقون في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وهم الذين يَشْرون أيْ يَبيعون الحياة الدنيا بكل مُتعها حيث يتركونها بتضحيتهم وباستشهادهم والتي يعلمون تماما عدم دوامها وزوالها يوماً مَا ويَشترون بَدَلاً منها الحياة الآخرة ويدفعونها ثمناً لها بجناتها الخالدة التي لا تُوصَف ولا تُقَارَن حتماً بها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)" أيْ ومَن يُقاتِل في سبيل الله فيُسْتَشْهَد أو يَنتصر فسوف نُعطيه عطاءً هائلاً لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بقَدرٍ في أيٍّ مِن الحالتين، فليكن دائما مُسْتَبْشِرَاً أيْ مُنتظراً دوْمَاً لكل خير، لإحدي الحسنيين، فإمّا النصر في دنياه ومعه العِزّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة والربح ثم الأجر العظيم في الآخرة أجر الشهداء لأنه كان مُسْتَعِدَاً للشهادة وذلك مُقابِل قتاله وجهاده وتضحيته بذاته وبكلّ ما يَملك – إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمه الله بها حيث تكون حياته كأنه في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيره مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانه به وتوكّله عليه وشكره له وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه – وإمّا الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق في أعلي درجات الجنات عند رحمات وخيرات ربه الكريم الرَّزَّاق الذي يُعْطِي المُحسنين بغير حساب
ومعني "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ مقصوده تحريض المسلمين على الجهاد وتشجيعهم عليه وإلهاب مشاعرهم لفِعْله وتحذيرهم مِن تَرْكه بلا عذرٍ مَقبول.. أيْ وما الذي يجعلكم يا معشر المسلمين لا تُقاتلون في سبيل الله لنشر دينكم الإسلام والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه ليَسعد الناس به وفي سبيل أيْ مِن أجل الضعفاء والمظلومين من الرجال والنساء والصبيان وعموم الناس مع أنهم مظلومون أشدّ الظلم مِمَّن يَظلمونهم حولهم ولم يَعُد لهم حِيلَة ولا وَسِيلَة لدفعه وعدم الاستسلام له إلا الاستغاثة بربهم ثم بكم حيث يقولون مُسْتَنْجِدِين مُسْتَنْصِرين به وهو المُجيب لدعائهم حتماً في التوقيت وبالأسلوب المناسب الذي يُحَقّق لهم أفضل نتائج يريدونها ربنا أخرجنا من هذه البلدة التي أفرادها ظالمون يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بكل أنواع الظلم وسَخّر ويَسِّر لنا من عندك وَلِيَّاً لأمورنا وناصراً ومُعِينَاً في كل شئون حياتنا، لِنَنْعَم برعايتك وأمنك وعونك وتوفيقك وسدادك ورزقك وتيسيرك وقوّتك ونصرك وبالسعادة كلها في دنيانا وأخرانا
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)" أيْ هذا توضيحٌ وتذكيرٌ بأهداف القتال والجهاد في الإسلام حتي يسعد الجميع بها ولا يتعسوا بالخروج عنها (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم وأخراهم، ليكون ذلك مزيداً من التحريض لهم على الجهاد والتشجيع عليه والإلهاب لمشاعرهم لفِعْله والتحذير مِن تَرْكه بلا عذرٍ مَقبول.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُذكرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – حينما يُقاتِلون فإنهم يُقاتِلون في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. أمّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فإنهم يُقاتلون في سبيل الطاغوت أيْ في طريق الطاغوت أيْ من أجله والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا.. ".. فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)" أيْ وإذا كان الذين كفروا يُقاتلون في سبيل الطغيان والظلم والسيطرة وإبعاد الناس عن إسلامهم لينهبوا ثرواتهم وجهودهم لأنهم به يعرفون حقوقهم ويحفظونها فعليكم بالتالي إذَن أيها المسلمون أن تُقاتلوا أولياء أي نُصَراء وأعوان الشيطان هؤلاء – والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل – لتمنعوا طغيانهم بكل صُوَره وأن يكون قتالكم لهم بكل قوّةٍ بلا أيِّ خوفٍ منهم لأنَّ الله معكم بقوّته ونصره وتأييده ولذا فأنتم المنصورون حتماً ما دُمْتُم تُحسنون اتّخاذ ما استطعتم من أسباب النصر أمّا هم فالشيطان معهم بضعفه وهزيمته فلا مُقَارَنَة قطعاً فهم المَهزومون بالتأكيد لأنَّ كَيْد الشيطان مهما عَظُم أيْ تدبيره ووساوسه لأتْباعه بالاعتداء علي الإسلام والمسلمين وتدبير المَكائد لهم كان وسيَظل بالقطع ضعيفا مَوْصُوفاً دائما بالضعف، فهم قد اعتمدوا على أضعف شيءٍ وأنتم قد اعتمدتم على أقوى الأقوياء سبحانه، وهل تُقَارَن قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمَخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو له ؟!
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حكيماً مُتّزِنَاً لا مُنْدَفِعَاً مُتَهَوِّرَاً، لأنَّ الاندفاع كثيراً ما يؤدّي إلي الخطأ، أو حتي عدم تحصيل النتائج علي أفضل ما هو مطلوب، لأنه لا يُصاحبه غالبا دراسة مُتَأَنّيَة واستعداد مُتْقَن مُوازي، فتَحدث الصدمة عند رؤية الواقع، والذي هو غير ما كان مُتَصَوَّرَاً، فيَحدث التّرَاجُع والجُبْن والانهزام، ويَحدث الفشل، وتَحدث التعاسة، في الداريْن
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين يقال لهم امنعوا أيديكم عن قتال أعدائكم حيث الوقت ليس مناسبا لأنَّ الأمر يحتاج لحُسْنِ إعدادٍ لِمَا يُحَقّق النصر عليهم واكتفوا بالحرص علي إقامة الصلاة وإعطاء الزكاة ونحو ذلك من شعائر الإسلام ومعاملاته وأخلاقيَّاته والتي ستُؤَدِّي بكم إلي الإعداد التربويّ لكم مع إعداد العُدَّة المناسبة المُرْهِبَة لعدوكم تدريجيا ما استطعتم من كل أنواع القوي المادية العسكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها – وهذا مِمَّا تَطْلبه حِكْمة الإسلام أحيانا حسبما يراه المُتَخَصّصون وأصحاب الرأي في حالات ضعف المسلمين أو قِلّة عددهم وعتادهم أو ما شابه هذا – إذا بهم لا يَلتزمون ولا يَنضبطون ويَندفعون طالبين سرعة المُواجَهَة، فلمّا يأتي وقتها، إذا البعض منهم يُصْدَم بالواقع غير الذي كان يَتصوّره وغير ما كان مَحْسُوبَاً ولم يكن مُسْتَعِدَّاً له، فيَجْبُن، ويَتَرَاجَع، ويَخشي الناس أيْ الأعداء كخشية الله أو أشدّ، والذي يجب أن تكون خشية عذابه وفقدان ثوابه فوق أيّ خشية، من شدّة خوفه وضَعْفه، بل وقد يَصِل به السوء أن يعترض علي فرض الإسلام أصلاً لقتال المعتدين! أو يطلب التأجيل بعد التأجيل بحجّة زائفة وهي عدم الاستعداد رغم طَلَبه قبل ذلك بالتعجيل! وهو ادِّعاء كثيرا ما يخفي وراءه التّعَلّق الشديد بثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهو الذي دفعهم لهذا الخوف الرهيب من الموت وعلي حياتهم أيَّاً كانت هذه الحياة ذليلة مَهِينَة تَعِيسة تحت استعباد الأعداء إذا تركوا جهادهم والذي فيه عِزَّة المسلمين وسعادتهم في الدنيا أو استشهادهم بكرامتهم وانتقالهم لأعظم وأخلد سعادة في الآخرة، رغم أنَّ الجُبْن لا يُطيل أجَلَاً وأنَّ الإقدام لا يُقَصِّره، فالأجل مَكْتُوب وهو يأتي حتماً يوماً مَا حتي ولو احتمي هؤلاء الجبناء بأشدّ الأماكن تحصينا.. فليحذر كل مسلم مثل هذه الصفات ولا يَتَشَبَّه بهم حتي لا يتعس مثلهم في الداريْن.. ".. قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يعودون لربهم ولأخلاق إسلامهم أنَّ متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس هو زائل حتما غير دائم مهما طال وكَثر حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة ولذا فهو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الذي هو أكثر وأعظم خيراً قطعاً الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد بلا نهاية المُتَنَوِّع المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر والمُجَهَّز فقط لمَن اتّقَيَ في دنياه أيْ خاف الله وراقبه وأطاعه وجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وفي هذا حَثّ وتشجيعٌ ودَفْعٌ للجميع أن يكون مِمَّن اتّقَيَ لينال أعظم درجات الآخرة وخيرها الذي لا يُوصَف.. ".. وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)" أيْ ولا يُمكن أبداً لله الخالق الرحيم الكريم أنْ يَظلم أحداً منكم مقدار فتيل أيْ خيط رفيع، بأنْ يَنقص مثلا أيَّ شيءٍ من جزاء عمله مهما كان يسيراً أو يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو نحو هذا، أيْ مهما كان العمل في غاية القِلَّة من الخير أو الشرّ فسيأخذ فاعله ما يناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)" أيْ حيثما وكيفما تكونوا يلحقكم الموت في أيِّ مكانٍ كنتم فيه عند حلول آجالكم حتي ولو كنتم في حُصُونٍ مَنِيعةٍ وأبراجٍ مَبْنِيَّةٍ بإحكامٍ عاليةٍ حَصِينة.. فأحْسِنوا إذَن الاستعداد لملاقاة ربكم في أيِّ وقتٍ لحسابكم بأن تفعلوا دائما كلَّ خيرٍ وتتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم.. إنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنَّ البعض كالذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. إنَّ بعضهم يَقصدون أيضا نشر فَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بين المسلمين لتَثْبِيط وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم وعن السعى فى الأرض من أجل طَلَب الرزق الذى أحلّه الله تعالي لخَلْقه فلا يتفوَّقون عليهم.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بأمثال هؤلاء ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المُخَالِفَة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض ما يقوله ويفعله ويَتّصِف به المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، يظهرون أخلاق الإسلام ويخفون الفساد والقُبْح أو حتي الكفر، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يتعس تعاساتهم في الداريْن، فهم – إضافة إلي جُبْنِهم الذي سَبَقَ ذِكْره – حينما تأتيهم حسنة مَا، مصلحة ومنفعة مَا، فإنهم يُظهرون أنهم مع الله والإسلام ويشكرونه ما دام يأتيهم خيرٌ منه، وإنْ تأتهم مَضَرَّةٌ مَا يقولوا هذه من شُؤْمِك وشَرِّك وسوءِ تدبيرك وإدارتك يا رسولنا الكريم أنت والإسلام الذي جئتَ به فهو لا يُحْسِن ويُسْعِد إدارة الحياة بل يُسيئها ويُتعسها وكلما عملنا بأخلاقك وأخلاقه تَوَقّعنا نزول شرٍّ بنا!! إنهم لا يَعتبرون أنَّ ما حَدَث كان بسبب سُوئهم هم وبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار حيث مَن زَرَعَ سوءاً حَصَدَ حتماً سوءاً إذ هذا هو القانون الإلهي العادل للحياة كما يقول تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7).. إنهم يَتَوَهَّمون أنهم بذلك يُشَكّكون الناس في الإسلام ورسوله الكريم (ص) فلا يَتّبعه أحدٌ أو يَتّبعونه بنفاقٍ وتَشَكّكٍ وتَذَبْذبٍ مثلهم!.. ".. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُصَحِّحَاً لمفاهيمهم ورَدَّاً علي ادِّعاءاتهم وأكاذيبهم: كلٌّ مِن الحسنة والسيئة هي من عند الله ومن جهته وحده لا غيره حيث هو الخالِق والواضِع لطُرُقِ وأسباب وجودها وحصولها في الحياة وليس الرسل ولا الإسلام ولا أحدٌ من البَشَر، لعلهم يَتدبّرون ويَتَعَقّلون ذلك فيختارون بكامل حرية إرادة عقولهم أن يُحسنوا اتّخاذ أسباب تحصيل الحسنة حتي يُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم الحصول عليها وأن يَتركوا السيئة وأسبابها حتي لا تَحْدُث لهم والتي هي أيضا سيُيَسِّرها لمَن أرادها بإصرارٍ عليها ولا يَمنعه منها ليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم.. هذا، وقد سَمَحَ سبحانه في الحياة الدنيا بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صفة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوا الشرّ بالقطع فهو لا يريد تعاستهم بفِعْله وإنما ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصوا علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكوا به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذوا الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظوه ويتركوه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة المُلْك "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.."، ثم الآية (62) من سورة العنكبوت "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ..").. إنه لا يُمكن أبداً أن يَحْدُث شيءٌ في هذا الكوْن إلا بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه.. ".. فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما سَبَقَ ذِكْره فمَا بَالُ وحال أمثال هؤلاء لا يُقارِبُون فَهْمَ أيِّ حديثٍ يُحَدَّثون به؟! وذلك لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)" أيْ ما يَصِلَ إليك أيها الإنسان من نعمةٍ تُفيدك وتُسعدك مِمَّا لا يُمكنك حَصْره فهي حتماً من الله وحده لا غيره الكريم الرحيم الودود الرّزّاق الوَهَّاب خالقك والكوْن كله ومالِكه بكل خيراته، لأنه هو الذي خَلَقها وأوْجدها من عَدَمٍ ويَسَّرَ لك أسباب الحصول عليها من عقلٍ وصحةٍ وقوّةٍ وعوْنٍ مِمَّن حولك ونحو ذلك.. ".. وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.." أيْ وكلُّ ما يُصيبك أيها الإنسان مِمَّا تكرهه مِن سوءٍ وضَرَرٍ وتعاسةٍ – أو غالبه بدرجةٍ تَصِل إلي كُلّه – هو دائما أو غالباً بسبب نفسك، بسبب مُخَالَفَاتك لأخلاق إسلامك، بسبب شرورك ومَفاسدك وأضرارك التي فعلتها وحَصَّلتها بنفسك، بيديك ورجليك وعقلك وسوء تصرّفك وتَرْكك لأسباب تحصيل كلّ حَسَنَة، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ومع ذلك يعفو سبحانه عن كثير من هذه الشرور والأضرار التي ترتكبها فلا يُحاسبك عليها كلها في دنياك، رغم استحقاقك لعقوبةٍ مناسبةٍ لها، رحمة منه بك ليُعطيك الفُرَصَ الكثيرة لتتوب منها لتسعد، ولولا هذه الرحمات لَعُوقِبَ الجميع كثيرا!.. هذا، وما يُصابُ به المسلم من مصائب في مقابل سُوئه هو تكفيرٌ من ذنوبه ورفعٌ لدرجاته يوم القيامة، وعليه حين تنزل به مصيبة مَا أن يُسارع في مراجعة ذاته وتصويبها باتّباع أخلاق الإسلام حيث سيكون الأمر في الغالب بسبب سوء أقواله وأفعاله وتصرّفاته وتقديراته أو مَن حوله، فإن لم يجد سَبَبَاً – وهذا نادر – فليتأكّد أنَّ الحَدَثَ هو اختبارٌ من الله لمصلحةٍ مَا له ولغيره، فليصبر عليه إذَن حتي يَخرج منه مستفيداً استفاداتٍ كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ الآية الكريمة توضيحٌ لسابقتها وتأكيدٌ علي أنه لا يُمكن أبداً بأيِّ حالٍ نِسْبَة الشرّ لله تعالي حيث قد يُفْهَم ذلك بالخطأ من قوله في الآية السابقة ".. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." لأنه قد سَمَحَ سبحانه في الحياة الدنيا بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صفة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوا الشرّ بالقطع فهو لا يريد تعاستهم بفِعْله وإنما ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصوا علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكوا به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذوا الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظوه ويتركوه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله.. ".. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا.." أيْ وبَعَثْناك يا رسولنا الكريم مَبْعُوثَاً مِنَّا للناس جميعا لتُبَلّغهم وتُعَلّمهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهذه هي مهمّتك فقط وليس من مَهَامِّك تدبير شئون الكوْن بحيث يتّهمك البعض مِمَّن لا يكادون يفقهون حديثا أنت والإسلام والمسلمين كذباً وزُورَاً حينما تصيبهم سيئة مَا بسبب شرورهم أنها من عندك وبسبب الإسلام الذي تدعوهم أن يعملوا بأخلاقه! وقد أحسنتَ تبليغهم فاطمئنّ فلا شيء إذَن عليك واستمرّ والمسلمين علي إسلامكم وعملكم به وحُسْن دعوتكم له ودفاعكم عنه ولا تتأثّروا بأمثالهم.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)" أيْ ويَكفيك ويَكفي المسلمين كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبداً لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهِد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بينهم وبين غيرهم أنَّ هذا الدين هو أعلي وأعظم دين المُؤَيَّد تماما منه المَنصور دوْماً به وأنَّك رسوله (ص) الذي جاء به وأنت أصدق الصادقين، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكْمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا وما يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)" أيْ مَن يُنَفّذ كلّ ما وَصَّيَ به الرسول (ص) مِن أخلاق الإسلام والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فهو في حقيقة الأمر قد نَفّذ ما أمَرَ ووَصَّيَ به الله تعالي لأنَّ الرسول لا يأمر إلا بما أمَرَ اللَّه به في شرعه الإسلام ولا ينهى إلا عمَّا نَهَىَ عنه فكانت طاعته في الامتثال والانتهاء طاعة للَّه فهو لا يُطاع لشخصه وإنما يُطاع لذاته سبحانه.. ".. وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)" أيْ ومَن أعْرَضَ أيْ أعطيَ ظهره والتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ عن أخلاق الإسلام وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَمَ نَشْرها وآذَيَ مَن يَتّبعها، فما بعثناك عليهم حفيظا أيْ فلا تحزن أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب، فليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم حفيظا أيْ حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس له إكراههم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية (41) من سورة الزمر ".. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل "، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)" أيْ ومن الصفات الدنيئة الخَسِيسَة للمنافقين وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفُون الشرّ والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما مثلهم أنهم يُظهرون طاعة وتَمَسُّكَاً وعَمَلاً بأخلاق الإسلام إذا كانوا بين المسلمين المُطِيعين لها المُتَمَسِّكين العامِلين بها حيث يقولون طاعة أيْ حالنا كله طاعة ومُوَافَقَة واستجابة لله وللرسول وللإسلام أيْ نحن مُطِيعون لهم في كل ما يَأمرون ويُوصُون به مُنَفّذون له، فإذا بَرَزُوا أيْ خَرَجوا من عندهم وتَرَكوهم وفارقوهم دَبَّرَ وخَطّطَ في الخَفاء مجموعة منهم وهم رؤساؤهم ومُرْشِدوهم والمُتَصَدِّرُون للنفاق فيهم والذين يَتبعهم الباقون من المنافقين غيرَ الذي تقول للمسلمين من تمام الطاعة لأخلاق الإسلام أيْ يتّفِقون فيما بينهم علي مُخَالَفَتِها.. ".. وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ.." أيْ والله يُسَجِّل عليهم ما يُدَبِّرُونه في صحائف أعمالهم المُسَجَّلَة عنده وسيُحاسبهم علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم بما يُناسب في دنياهم ثم أخراهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لك أيها الرسول الكريم أنهم منافقون، فاتركهم إذَن واتركوهم أيها المسلمون وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم.. ".. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81)" أي واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)" أيْ ما لهم هؤلاء المُكذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم؟!! لماذا لا يَقرأون ويَتدبَّرون القرآن العظيم الذي فيه كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم حتي لا يَقعوا فيما وَقَعُوا فيه من شرور ومَفاسد وأضرار وحتي تَتَحقّق لهم السعادة التامّة فيهما؟!! هل لا يَتدبّرون ويَتعَقّلون ويَتَعَمّقون فيه لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عنه وأهملوه أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي قلوبهم أيْ عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن تدبّره، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التدبّر!!.. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التعيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا لتشجيعهم علي تَدَبُّره – حيث لفظ "أفَلَاَ" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون للتفَكُّر فيه وللعمل به كله ليسعدوا في الداريْن.. فلْيَتَدَبَّرُوه إذَن ولا يَنشغلوا عنه أو يُهملوه لِيَتِمّ لهم ذلك.. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)" أيْ وهذا القرآن الكريم ليس من كلام بَشَرٍ أو مخلوقٍ بل كلام خالِقٍ حكيمٍ عليمٍ خبيرٍ مُنَزّه عن الأخطاء والأهواء يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فكل كلامه تعالي يُشبه بعضه بعضاً في الصدق والحِكْمَة والعَقْلانِيَّة وقوّة الأدِلّة والبراهين والتوازُن والحُسْن والبلاغة والفصاحة والائتلاف وعدم الاختلاف والصواب والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ، ولقد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ولو كان من عند غير الله، من عند بَشَرٍ أو مخلوقٍ، لَوَجَدَ الناسُ فيه اختلافاً كثيراً أيْ تَنَاقُضَاً وتَضارُبَاً وتَخَبُّطَاً وخَلَلَاً وضعفاً وقصوراً في معانيه وأخباره وحقائقه ونُظُمِه وأحكامه لأنَّ قوانين الحياة تتغيّر من زمنٍ وظرفٍ لآخرٍ بما يُناسب وبالتالي سيُلاحِظون حتماً مع الوقت أنَّ بعضه فصيح وبعضه ركيك وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وبعضه تُوافِق أخباره المستقبلية للواقع وبعضه لا يُوافق وبعضه يسير مع العقل وبعضه غير مَنْطِقِيّ كما يُثبت الواقع ذلك من أنَّ كلام البَشَر إذا طالَ يُوجَد فيه قطعاً شيءٌ من الخَلَل والتناقُض بسبب ما يَمُرّون به خلال حياتهم من اختلافٍ وتَغَيُّرٍ في أفكارهم وآرائهم علي حسب ثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعصورهم وأمزجتهم وأحوالهم من قوةٍ وضعفٍ وغني وفقرٍ وصحةٍ ومرضٍ ونحو ذلك من اختلافاتٍ ومُتَغَيِّراتٍ لا تُحْصَيَ تُؤَثّر علي كلامهم وتشريعاتهم وأنظمتهم بحيث تَظْهَر تَنَاقُضاتهم عاجلاً أو آجِلاً في النظريات والقوانين التي يضعونها سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم عسكرية أم اجتماعية أم تربوية أم غيرها بسبب محدودية عقولهم وإدراكهم لِمَا حولهم وللمستقبل، بخلاف الخالق سبحانه العالِم بكل شيء
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من مُذِيعِي ومُرَوِّجِي وناشِرِي الإشاعات، وإنما تسأل فيها أهل التّخَصُّص والخبرة والعلم والمعرفة والمسئولين الصالحين في مختلف المستويات، وهم يُقَدِّرُون الأمر ويَسْتَوْثِقون منه حسبما لديهم من معلوماتٍ وحسبما يَرَوْن من مصلحةٍ في إذاعته ونَشْره كله أو بعضه علي العموم أو علي البعض دون البعض أو كتمانه بالكُلّيَّة أو تأجيل إعلانه أو نحو ذلك بما يُحَقّق مصالح الجميع وسعادتهم ومَنْع أيّ ضَرَرٍ أو تعاسةٍ عنهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ نشر المعلومات والأخبار وإذاعتها بصورةٍ غير مُنضبطةٍ وبغير تَثَبُّتٍ وتأكّدٍ منها وتوثيقٍ لها ومن خلال كل الأفراد دون تحديدٍ وتنظيمٍ لمَن يتحدّث بها وكيف ومتي من المُتَخَصِّصين المسئولين، قد يؤدي أحيانا أو غالبا إلي أضرارٍ كثيرة وتعاسات في الداريْن حيث قد يُنْشَر مثلا ما يُفيد أمن المجتمع بينما الأمر يحتاج إلي استعدادٍ لمواجهة بعض الشدائد فيُصابون بالأضرار بسبب ارتخائهم وعدم استعدادهم المناسب، وقد يُنشر العكس، ما يُوحِي بالخوف فيضطرب الناس وينزعجون رغم أنَّ الوضع آمِن، وهكذا.. إنَّ هذا لا يتعارَض أبداً مع حرية الأفراد، فحريتهم مَكفولة تماما لكنْ بما لا يؤدي لضَرَرٍ عام أو لمَن حولهم.. إنَّ فضل الله علي البشرية عظيم بتوجيهها لهذه النصائح المُسْعِدَة من خلال قرآنه ورسله وإسلامه حيث سينتفعون وسيسعدون بها حتما في الداريْن لو تمسّكوا وعملوا بها، وسيُساعدهم ربهم قطعا ويَرعاهم ويُوفّقهم ويَرضي عنهم ويرزقهم، أمّا إنْ أهملوها وتَرَكوها واختاروا فِعْل عكسها فسيقعوا بالتأكيد في الشرّ ويتعسوا فيهما
هذا، ومعني "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يَتعس مثلهم فيهما أنهم إذا وَصَلَ إليهم أمْرٌ أيْ خَبَرٌ يجب كتمانه من أمور الأمن للمجتمع ككل ويَتَعَلّق به ويعود خيره على الإسلام والمسلمين وعليهم إذا كَتَمُوه، أو خَبَر من الأمور التي تُصيب بالخوف وعدم الاطمئنان بانتشارها، أذاعوا بهذا الخَبَر أيْ نَشَرُوه بين الناس قبل أن يتأكّدوا من صِحَّته وأثَرِه حيث قد يكون كذباً أو مُبَالَغَاً فيه أو مُحَرَّفَاً أو مُخْتَلَقَاً لا أصل له منهم أو من غيرهم أو نحو هذا، قاصدين إحداث الضرَر والتعاسة بالمجتمع، وقد يَتَشَبَّه بهم وينقله عنهم بعض المسلمين ليسوا منافقين فيُحْدِثون ضَرَرَاً عن غير قَصْدٍ ولكنْ جَهْلَاً وسوءَ تقديرٍ لنتائج الأمور مُتَوَهِّمِين ألاّ ضَرَر من نشره ولا إثم عليهم، حيث قد يَنْشَرون مثلا ما يُفيد أمن المجتمع بينما الأمر يحتاج إلي استعدادٍ لمواجهة بعض الشدائد فيُصابون بالأضرار بسبب ارتخائهم وعدم استعدادهم المناسب، وقد يَنشرون العكس، ما يُوحِي بالخوف فيضطرب الناس وينزعجون رغم أنَّ الوضع آمِن، وهكذا.. إنَّ هذا التحذير في الآية الكريمة بعدم فِعْل ذلك لا يتعارَض أبداً مع حرية الأفراد في تَنَاقُل المعلومات، فحريتهم مَكفولة تماما لكنْ بمراعاة ألاّ تؤدي لضَرَرٍ عامٍّ أو خاصّ.. ".. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.." أيْ هذا إرشادٌ إلي ما يجب فِعْله.. أيْ ولو رَجَّعَ أمثال هؤلاء خَبَر الأمن أو الخوف – بعد سكوتهم عن إذاعته – إلي أسلوب الرسول (ص) وعَرَضُوه عليه لمعرفة كيفية التعامُل مع مِثْل هذه الأحوال، وإلي المسئولين منهم في كل المستويات والمجالات الصالِحين العامِلين بأخلاق الإسلام أيْ إلي أهل التنفيذ والإدارة والتّخَصُّص والخبرة والعلم والمعرفة، لَعَلِمَ ذلك الخَبَرَ بالتأكيد الذين يَسْتَخْرِجُون حقيقته ومَقْصِدَه وسِرَّه من هؤلاء بأفكارهم وآرائهم الرَّزِينَة السَّدِيدَة وعلومهم وخبراتهم وما عندهم من معلوماتٍ بشأنه بمعني لَعَرفوا صِحَّته وآثاره وجوانبه وأبْعاده ومَعانيه ومنافعه ومَضَارَّه وما يَتَرَتّب عليه، فهُمْ سيُقَدِّرُون الأمر وسيُحَدِّدون المصلحة في إذاعته ونَشْره كله أو بعضه علي العموم أو علي البعض دون البعض أو كتمانه بالكُلّيَّة أو تأجيل إعلانه أو نحو ذلك بما يُحَقّق مصالح الجميع وسعادتهم ومَنْع أيّ ضَرَرٍ أو تعاسةٍ عنهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم بعدم تعجيل العقوبة لكم لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وبفتح باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وإرشادكم إليها وتوفيقكم لها وتيسير أسبابها لكم وقبولها منكم، وبأنْ جعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَسِرْتُم خلف الشيطان ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم في دنياكم وأخراكم، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل.. ".. إِلَّا قَلِيلًا (83)" أيْ لاتّبعتم الشيطان في معظم أقوالكم وأعمالكم إلا قليلاً من الأحيان تَتّبعون فيها إسلامكم وبالتالي تَغْلِب سيئاتكم حسناتكم فتتعسون في دنياكم وأخراكم، وكذلك لاتّبعتموه إلا عَدَدَاً قليلاً نادِراً منكم الذي مِن المُحْتَمَل أن يَستفيق مِن ذاته بتذكرة فطرة عقله فقط دون تنميتها بالإسلام وبعوْن ربه وتَيْسيره وتوفيقه.. فاشكروا ربكم بالتالي إذَن علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحْسِنُوا استخدامها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم واحرصوا عليها تمام الحِرْص لأنها مصدر سعادتكم التامَّة في الداريْن
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84)" أيْ إنْ أَبْطَأ بعض المنافقين بينكم أيها المسلمون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الجهاد وقتال المُعتدين عليكم بالقتال، فقاتِل إذَن أنت حتي ولو بمفردك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم من التّبَاطيء والتّرَاجُع والجُبْن ومحاولات إضعافكم فإنَّ الله هو ناصركم لا الجنود فإنْ شاء نَصَرَكَ وحدك كما ينصرك وحولك الألوف فالنصر أولاً وأخيراً من عنده وحده القويّ العزيز، فقاتلوا في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، فلا يُكَلّفك ربك إلا نفسك أيْ أنتَ لستَ مسئولاً إلاّ عن نفسك ولا تُؤَاخَذ بتقصير غيرك فكلّ فردٍ يَتَحَمَّل فِعْله من الإحسان أو الإساءة ولكنْ حَرِّض المؤمنين على القتال معك أيْ حثّهم وادْفعهم وشجّعهم عليه ورَغّبهم فيه بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ إذ ما عليك إلا ذلك فهذا هو الذي في استطاعتك.. ".. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة للمسلمين من الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وهي أن يَمْنَع بجهادهم قوة الذين كفروا ويَهزمهم.. وفي هذا طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. وفي هذا أيضا تشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه من التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم وحُسن دعوة غيرهم له والصبر علي أذاهم ودفاعهم عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي بالقتال والتضحية في سبيلها وستَتَحقّق النتائج المُسْعِدَة بفضل الله ثم بجهودهم وتضحياتهم وينتصرون ويَنتشر الإسلام تدريجيا ويَسعد الجميع به في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84)" أيْ والله حتما أعظم قوة منهم ومن أيِّ صاحب قوة فهو القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا مُقَارَنَة قطعاً بين الخالق ومخلوقه! وهو أيضا أعظم تنكيلاً أيْ تعذيباً لهم من تعذيبهم هم لخَلْقه لأنَّ عذابهم يمكن التخلّص منه أمّا عذابه تعالي فلا يمكن فهو سيُعَذّبهم في دنياهم بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ثم في أخراهم بما هو أعظم عذاباً وأتمّ وأخلد.. هذا، والنكال هو العذاب الشديد للعاصِي المُخالِف مُخَالَفَة شديدة والذي يكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يَفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير لهم ومزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ وَسِيطَاً في كل خيرٍ مُعِينَاً عليه مُحِبَّاً داعياً له، لا وسيطا لأيِّ شرٍّ ولا مُعينا عليه بل كارهاً مُقاوِمَاً مانِعَاً له، حيث نَشْر الخير في كلّ مكانٍ مُمْكِنٍ مناسب، وبكل أسلوبٍ ممكن مناسب، ومع كل فرد أو حتي أيّ مخلوقٍ ممكن مناسب، لا شك حتما ينشر السعادة بين الجميع، وفي الكوْن كله، في دنياهم، ثم لهم قطعا ما هو أسعد وأعظم وأتمّ وأخلد في أخراهم، ولمَن يفعل ذلك بالتأكيد سعادة معهم وأكثر لقوله (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي)، وله في ميزان حسناته يوم القيامة مثل أجر كلّ مَن يعمل بما نَشَرَ مِن أيِّ خير.. والعكس صحيح تماما، فنَشْر الشرّ مؤلم مُتْعِس في الداريْن، ولمَن ينشره كِفْل أيْ نصيب منه مؤكّداً في دنياه ثم يتحمَّل إثم كل مَن يعمل بما نَشَرَه مِن شَرٍّ في أخراه، إلاّ أنْ يتوب فيعفو الله الغفور الرحيم عنه
هذا، ومعني "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)" أيْ مَن يَتَوَسَّط وَسَاطَة حَسَنَة أيْ يَسْعَ في أمرٍ يَتَرَتَّب عليه أيّ خيرٍ يَكُنْ له حتماً جزءٌ مِن هذه الوَسَاطَة الحَسَنَة أيْ له نصيب من أجرها أيْ له في مُقابِلها وبما يُناسبها وبحسب سَعْيه وعمله ونفعه وأثره أجره العظيم عليها من الله تعالي مُتَمَثّلاً في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه.. وفي هذا تشجيعٌ للناس علي فِعْل كل خيرٍ لنشر السعادة بينهم في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا.." أيْ والعكس صحيح تماما، فمَن يَتَوَسَّط وَسَاطَة سيئة أيْ يَسْعَ في أمرٍ يَتَرَتَّب عليه أيّ شَرٍّ يكن له حتماً كِفْلٌ من هذه الوساطة السيئة أيْ له نصيب ومقدار من إثمها وشرّها أيْ له في مُقابِلها وبما يُناسبها وبحسب سَعْيه وعمله وضَرَره وأثره ذنبه وعقابه عليها من الله تعالي مُتَمَثّلاً في كل شرٍّ وتعاسة في دنياه ثم أخراه.. وفي هذا تحذيرٌ للناس مِن فِعْل أيّ شرّ حتي لا تنتشر التعاسة بينهم في الداريْن.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ مُقِيتَاً أيْ يُعطي كل إنسان قُوُتَه أيْ رزقه وأجره وحسابه كاملا دون أيِّ نقص، وبما أنه وحده الذي يُعطيه القُوت فهو بالتالي المُقْتَدِر والحافظ والشاهِد والحَسيب علي كلّ شيء وكلها من معاني المُقِيت، والمقصود أنه كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليماً تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، وهو يعلم بتمام العلم كل أقوالهم وأفعالهم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانهم ودواخل كل الأمور وشفاعاتهم الحسنة والسيئة فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن ينشرون السلام أيْ الأمن والاستقرار والسرور بين الناس وعموم الخَلْق، بأقوالك وأفعالك، في كل وقتٍ ومكان، فإنَّ ذلك أساس الحياة الآمِنَة المستقرّة السعيدة
هذا، ومعني "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)" أيْ وإذا حَيَّاكم أيُّ أحدٍ بأيِّ تَحِيَّةٍ مَا – وأصل معني التّحِيَّة الدعاء بالحياة – سواء بسلامٍ أو بدعاءٍ أو بتكريمٍ أو غيره، فرُدُّوا عليه بأحسنَ منها لفظاً وبَشَاشَة أو علي الأقلّ بمثلها، فإنَّ نشر السلام والتّحِيَّات لَفْظِيَّاً مصحوباً بكل حبٍّ وتَبَسُّمٍ وطمأنينةٍ كقول السلام عليكم وما شابه هذا وعملياً بنشر كل خُلُقٍ حَسَنٍ من أخلاق الإسلام ينشر الأمن والأمان وصفاء الذات والتَّحَابّ والتعاون والتسامُح والتّصَافِي والتقارُب بين جميع البَشَر – بل وجميع المخلوقات والكوْن كله – علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، فيسعدون في دنياهم، ثم أعظم وأتمّ وأخلد سعادة في الآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)" أيْ كان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ علي كلّ شيءٍ حسيباً أيْ مُحَاسِبَاً حافِظَاً مُرَاقِبا مُشاهِداً دقيق الحساب لا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه، مُحاسِبا لكل أقوال وأعمال البَشَر، مُعْطِيَاً لهم علي خيرها بكل تأكيدٍ بما هو أعظم منها، في دنياهم أولا حيث تمام السعادة والخير والكفاية التامّة بالنصر والعوْن والرعاية والرضا والحب والأمن ثم في أخراهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر، ويُجَازِيهم بالقطع علي شَرِّها بما يستحِقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم لهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا (87)" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، سيَجمعكم بكل تأكيدٍ يوم القيامة الذي لا شك فيه حيث يَبعثكم جميعا منذ آدم (ص) وحتي نهاية الحياة الدنيا بأجسادكم وأرواحكم مِن قبوركم بعد كوْنكم تراباً ويُخبركم بكل ما عملتم وقلتم في دنياكم ليُحاسبكم عليه بتمام العدل بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة حيث قد حَصَره وجَمَعه وحَفِظه سبحانه تمام الإحصاء والحفظ وسَجَّله في كتبٍ خاصة بكل واحد منكم بكل دِقّةٍ ، فانْتَبِهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا (87)" أيْ ومَن حديثه وكلامه أصدق مِن حديث وكلام الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أصدق من الله حديثا في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم (ص)، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من فئة المسلمين الذين يُحْسِنُون بتَوَازُنٍ التّعَامُلَ مع المنافقين، فيَقبلون منهم الظاهر لهم من أقوالهم وأفعالهم، ولكنهم يَحْذرونهم أشدّ الحَذَر، فلا يتّخِذون منهم أولياء، أيْ لا يَتَدَاخَلون معهم ولا يُحِبّونهم ولا يَبُوحُون بأسرارهم لهم ولا يتّخِذون منهم مُعاوِنَاً أو مُستشاراً أو نحو ذلك، وإنما يُعاملونهم فقط بالإحسان الذي طَلَبه منهم الإسلام.. بينما هناك فئة من المسلمين لا يفعلون هذا، فنَبَّهَهُم سبحانه لخَطَرهم فلا يَغفلون عنهم، وذلك لأنهم يُخْفون الشرَّ والعَداء ويُظهرون كذباً الخير والوَلاء
هذا، ومعني "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)" أيْ هذا سؤالٌ لإنكار ورفض تَعَدُّد آراء المسلمين فى شأن بعض المنافقين الذين يُظهرون الإسلام وهم يُخفون الكفر حيث هم غير مسلمين لا مجرد عُصاة يُخالفون أخلاق الإسلام ولكنهم مسلمون وهو سؤال أيضا لِلَوْم بعض المسلمين الذين يُحسنون الظن بأمثال هؤلاء مع أنَّ أحوالهم وأقوالهم وأعمالهم تدعو بوضوح إلى سوء الظنّ بهم وشدّة الاحتياط عند التعامُل معهم.. أي لقد ذُكِرَ ووُضِّحَ لكم في القرآن الكريم أيها المسلمون الكثير من أحوال وصفات المنافقين بما يكشف عن سُوئهم ومَكرهم ويدعو إلى الحَذَر منهم، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذى جعلكم تختلفون فى شأنهم وحالهم إلى فئتين؟ فئة أيْ مجموعة منكم تُحْسِن الظنّ بهم وتُدافع عنهم، وفئة أخرى سليمة صائبة الحُكْم عليهم حيث لَمَّا ظَهَرَ شَرّهم لم تُقْبِل عليهم وأعْرَضَت عنهم وأخَذَت حِذْرها منهم، فالآن أيها المسلمون بعد أن انكشف حال أولئك المنافقين أنَّ نفاقهم من النوع الذي يُخْفِي كُفْرَاً لا مجرد العصيان، عليكم أن تتركوا الخلاف فى شأنهم، وأن تتفقوا جميعا على أنهم بعيدون عن الحقّ والإيمان منغمسون فى الضلال والبطلان وأن تحذروهم تمام الحَذَر.. ".. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإنكار والتّعَجُّب السابق، أيْ كيف تختلفون في شأن أمثال هؤلاء المنافقين والحال والواقع أنْ الله قد أظهر إرْكاسهم أيْ ارتدادهم وانقلابهم للكفر – من الرَّكْس أيْ قَلْب الشيء علي رأسه وتَحَوّله من حالٍ حَسَنٍ إلي حالٍ سيّء – بما كسبوا أيْ بسبب ما عملوا من سوءٍ أيْ بسبب كفرهم واختيارهم إيّاه بكامل حرية إرادة عقولهم وإصرارهم عليه ونشره ومحاولاتهم مَنْع نَشْر الإسلام وتشويهه والإساءة إليه والاعتداء عليه وعلي المسلمين وفِعْلهم الشرور والمفاسد والأضرار، فهو سبحانه يُظْهِر كل هذا السوء الذي يُخفونه بين الحين والحين في فَلتات أقوالهم وأفعالهم السيئة لأنَّ هذا السوء من كثرته لا يستطيعون إخفاءه لفتراتٍ طويلة وعن الجميع وذلك حتي تعلموهم وتحذروهم وتعاملوهم بما يناسبهم.. ".. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي الإنكار والتّعَجُّب السابق، أيْ هل تريدون أيها المسلمون أن تُرْشِدُوا إلي الإسلام مَن أضَلّه الله؟! إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)" أيْ وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال
ومعني "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)" أيْ هذا مزيدٌ من التوضيح لسبب الإنكار والرفض لتَعَدُّد آراء المسلمين فى شأن بعض المنافقين أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم.. أيْ أنَّ هؤلاء المنافقين الذين يُحْسِن الظنّ بهم ولا يَحْذرهم بعضكم أيها المسلمون لا يَكتفون فقط بكفرهم فى أنفسهم بل هم أيضا يَتَمَنّون ويُحِبّون ويُريدون أن تكفروا مثلهم بحيث تكونون أنتم وهم متساوين فى الكفر والنفاق، وهذا يُفيد ضِمْنَاً شدّة عداوتهم وكراهيتهم لكم وتَمَنّيهم وسَعْيهم الدائم اليائس الوَاهِم بانتهاء الإسلام من الأرض وهزيمته وانتشار الكفر وانتصاره!!.. إنهم لا يُحبّون أن يروكم تعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوكم ويَستغفلوكم ويَسْتَغِلّوا جهودكم وثرواتكم وخيراتكم ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. فكيف إذَن لا تَحذروهم أشدّ الحَذَر ولا تُعاملوهم بما يُناسب؟!.. ".. فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ فإذا كانوا كذلك فبالتالي لا تتّخِذوا منهم مُطلقاً أولياء أيْ يَتَوَلّون أموركم يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتَتحابّون وتَتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسراركم ونحو هذا، واسْتَمِرّوا في ذلك حتي يَظهر منهم ما يَدلّ على تَرْكهم نفاقهم وكفرهم وعودتهم للإسلام صِدْقَاً لا خِدَاعَاً بأنْ يهاجروا في سبيل الله أيْ في طريقه أيْ من أجله لا من أجل هدفٍ آخرٍ كأثمان الدنيا الرخيصة الزائلة، أيْ يُفارِقوا أيَّ شرّ، ويُفارِقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، ويُفارِقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، ويُفارِقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها عند الاحتياج لذلك من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها والدفاع عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي عليها بالقتال، وبذلك تزول عنهم صفة الكفر والنفاق.. ".. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.." أيْ فإنْ أَعْطوا ظهورهم للإسلام والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وعلي كفرهم ونفاقهم، وانْضَمُّوا لأعدائكم وعاونوهم بالتّجَسُّس عليكم والغَدْر بكم أو بالقتال معهم إذا اعتدوا عليكم بالقتال فحينها خذوهم في الأسْر واقتلوهم في المعارك كما تأسرون وتقتلون أعداءكم تماما أينما وجدتموهم وقَدَرْتُم عليهم فهُم مثلهم.. ".. وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتحذير من اتّخاذ أيّ أحدٍ منهم وَلِيَّاً يَتَوَلّيَ شأناً مَا لكم أو مَحَبّته أو إعطائه سِرَّاً أو اتّخاذه ناصراً يَنصركم ويُعينكم ويُدافع عنكم، وذلك لأنهم من أعدائكم لا منكم ولا خير فيهم ولا يُعتمد عليهم وسيُخادعون وسيَخُونون ومَن كان هذا حالهم فهُمْ لا يُؤْتَمَنون والمُوَالاة معهم والنصرة بهم ستكون هزيمة حتمية وخسارة في الداريْن
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من المنافقين الذين عليكم أن تأخذوهم وتقتلوهم حيث وجدتموهم والذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) منافقون يَتّصِلُون ويَرْتَبِطون بقومٍ ودولٍ بينكم وبينهم عهد أمان يمنع قتل المُنْتَمِين لهم ولكم فهؤلاء لا تقتلوهم إذا عرفتموهم ولكن عامِلوهم بما تُعامِلون به أقوامهم ودولهم وبما اتفقتم عليه في ميثاقكم معهم لأنهم باتّصالهم وارتباطهم واستجارتهم بهم قد صار حُكْمهم كحُكْمهم من حيث الأمان وعدم الاعتداء، لأنَّ الإسلام يحافظ تماماً علي العهود والمواثيق ويُوَفّي كاملاً بها، وهذا الوفاء يَنشر الأمان في الأرض ولعلهم بحُسْن مُعاملتهم يُسْلِمون يوماً مَا ليسعدوا مثلكم في الداريْن.. ".. أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ.." أيْ وكذلك يُسْتَثْنَيَ منافقون يأتونكم وحالهم وواقعهم أنهم قد ضاقَت وانْقَبَضَت نفوسهم وعقولهم ومشاعرهم كراهة أنْ يُقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم – الذين هم أعداء لكم واعتدوا عليكم لسببٍ من الأسباب ولا يوجد بينهم وبينكم ميثاق – فلا هم يريدون أن يقاتلوكم يا مسلمين لأنَّ لهم علاقات معكم وينتفعون منكم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم لأنهم منهم ولهم منافع عندهم وأقارب وأنساب بينهم فهم يريدون أن يبقوا علي الحِياد مُسَالِمِين، فأمثال هؤلاء لا يُؤْخَذون في الأسْرِ ولا يُقاتَلون بسبب حِيادِهم ومُسَالَمَتِهم.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مظاهر فضل الله ورعايته وعوْنه للمسلمين ليشكروه علي ذلك وليطمئنوا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة فيزدادوا بذلك قوة في تمسّكهم بإسلامهم ونَشْرهم ودعوتهم له ودفاعهم عنه.. أىْ ولو شاء الله لأَطْلَقَ لأعدائكم السلطان والنفوذ والقُدْرة عليكم ومَكّنهم منكم وحَكَّمهم فيكم بأن يجعلهم يَتَجَرَّأون ويَتَجَمَّعون علي قتالكم ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك حيث ألقيَ الرُّعب منكم فى صفوفهم فَفَرَّقهم وجعل منهم مَن يأتى إليكم مُسَالِمَا.. ".. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن مُسَالَمَة أمثال هؤلاء وعدم قتالهم.. أيْ فإنْ تَرَكُوكم فلم يُقاتلوكم وانْقادوا اليكم مُسْتَسْلِمين طالِبين الصلح والأمان راضِين به غير مُعانِدين ولا مُخَالِفين مُرَاوِغِين فلم يجعل الله لكم حينها إذَن عليهم في شرعه الإسلام طريقاً من الطرق لقتالهم فعليكم قبول مُسَالَمتهم وألاَّ تقاتلوهم
ومعني "سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)" أيْ ستَجدون أيها المسلمون قوما آخرين من المنافقين غير الذين ذُكِرُوا لكم سابقا يريدون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم فيُظْهِرون لكم الإسلام – ولكنهم لا يَمُدّون يَدِ الأمان لكم بل هم مُسْتَعِدّون لقتالكم إذا سَنَحَت لهم أيّ فُرْصَة – ويريدون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين فيُظْهِرون لهم الكفر.. ".. كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا.." أيْ ومن أهم الصفات القبيحة التي يَتّصِف بها هذا الصنف الوضيع من المنافقين والتي عليكم أن تنتبهوا لها وتحذروها وتستعدوا للتعامُل معها أنهم كلما أعيدوا إلي صفة الكفر والعَصَبِيَّة ومُقَاتَلَة المسلمين بأنْ دعاهم الكافرين إليها أُرْكِسُوا فيها بمجرّد دعوتهم أيْ انْقَلَبُوا وتَحَوَّلوا إليها ووَقعوا وانْغَمَسُوا فيها أسوأ وقوعٍ وتَحَوُّل – من الرَّكْس أيْ قَلْب الشيء علي رأسه وتَحَوّله من حالٍ حَسَنٍ إلي حالٍ سيّء – تارِكين أيّ إسلامٍ كانوا يُظهرونه أو أيّ عهدِ صُلْحٍ كانوا يَدَّعون الالتزام به.. ".. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.." أيْ فأمثال هؤلاء إنْ لم يتَرَكُوا التّعَرُّض لكم والعدوان عليكم بصورةٍ من الصور ولم يلتزموا الحِياد لا ضِدّكم ولا معكم، ولم يَنْقادوا اليكم مُسْتَسْلِمين طالِبين الصلح والأمان راضِين به غير مُعانِدين ولا مُخَالِفين مُرَاوِغِين، ولم يَكُفّوا أيديهم عنكم أيْ ولم يَمتنعوا عن قتالكم، فحينها خذوهم في الأسْر واقتلوهم في المعارك حينما يقاتلونكم كما تَأْسِرون وتقتلون أعداءكم تماما أينما ثقفتموهم أثناء القتال أيْ وجدتموهم لأنهم منهم لا منكم.. ".. وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)" أيْ وهؤلاء المَوْصُوفون بهذه الصفات الدنيئة – وليس المُسَالِمين من المنافقين الذين ذُكِرُوا سابقا – هم الذين قد جعل الله لكم بذلك القُبْح الذي فعلوه دليلاً واضحاً وسُلْطة مُبَرَّرَة عليهم وإذْنَاً وسَمَاحَاً في ضرورة قتالهم بسبب بدئهم بقتالكم وظهور غَدْرهم بكم ورفضهم لمسالمتكم
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم، حيث بهذا يَأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفَوْضَيَ وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)" أيْ أيْ ولا يَحِلّ أبداً ولا يَحِقّ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لإنسانٍ مؤمنٍ أن يقتل مؤمناً أخاً له في الإسلام إلا أن يقع منه ذلك خطأ غير مقصودٍ لا عَمْد فيه.. ".. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ فعليه في هذه الحالة الكفَّارَة وهي تحرير عَبْدٍ مؤمنٍ من العبيد ليُكَفّر عن خطئه عند الله يوم القيامة والذي كان غالبا بسبب درجةٍ مَا من درجات التّهَاوُن وعدم أخذ تمام الحَذَر بأنْ يُعَوِّض المجتمع المسلم عَمَّا فَقَده لأنَّ عِتْق الرقبة المؤمنة هو إحياء لها بجَعْلها حُرَّة فكأنه صَوَّبَ خطأه بأنْ أحيا نفساً في مُقابِل إماتته أخري بالخطأ.. ".. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.." أيْ وعليه أيضا تسليم ودَفْع دِيَة إلي أهله أيْ ورثته تعويضاً ومواساة لهم عَمَّا فقدوه بكل سماحةٍ ولُطْفٍ بلا مُمَاطَلَة تَدْفعهم للتّظَلّم والتّقاضِي وتزيد ألمهم، وهي مبلغ من المال هو مائة من الإبل أو ما يُعادِل ثمنها كما وَرَدَت بذلك سُنَّة الرسول (ص)، تُقَسَّم عليهم كما تُقَسَّم المواريث، ويَدْفعها بمفرده إنْ كان مستطيعاً أو بمشاركة عائلته كنوعٍ من التعاون فإنْ لم يستطيعوا تُدْفَع من بيت مال المسلمين من خلال الدولة المسلمة حتي لا يضيع حقّ أهل القتيل.. إلا أنْ يَتَصَدَّقوا بها عليه ويُسامحوه ويَتنازَلوا عنها كلها أو بعضها فلا شيء عليه ولهم أجرهم العظيم من ربهم الكريم في دنياهم وأخراهم لنشرهم روح التراحُم والتسامُح والتعاون في مجتمعهم وسيكون كل خيرٍ يُفْعَل بهذا المال الذي تركوه في ميزان حسناتهم يوم القيامة.. ".. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ فإن كان المقتول مؤمناً لكنَّ وَرَثَته أعداء مُحَارِبين للإسلام والمسلمين فلا يُعْقَل أن تُعْطَيَ لهم دِيَة يَسْتَقْوُون بها علي مزيدٍ من مُعادَاة المسلمين وإنما علي القاتل فقط تحرير رقبة مؤمنة تَنْطلق بحُرِّيتها في نَفْع المجتمع المسلم وتُعَوِّضه عَمَّا فقده مِن نفسٍ مؤمنة كانت نافعة له سواء داخل دولة مسلمة أو خارجها في دولة عَدُوَّة لها.. ".. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ وإنْ كان المقتول سواء أكان كافراً أم مؤمناً وَرَثَته كفار لكنهم مُسَالِمين غير مُعْتَدِين يَعيشون آمِنين في دولة الإسلام أو حتي خارجها لكنْ بينكم أيها المسلمون وبينهم ودولتهم معاهدة سلامٍ فحُكْمهم كحُكْم المسلمين فلهم دِيَة تُسَلّم إليهم كما تُسَلّم للمسلمين تعويضاً ومواساة لهم عَمَّا فقدوه بكل سماحةٍ ولُطْفٍ بلا مُمَاطَلَة تَدْفعهم للتّظَلّم والتّقاضِي وتزيد ألمهم، مع تحرير رقبة مؤمنة تكون كفّارة للقاتل من خَطِئه عند الله يوم القيامة وتعويضاً للمجتمع المسلم عن فقدانه نفساً مسلمة أو كافرة مُسَالِمَة نافعة.. هذا، وتقديم الدِّيَة هنا على الكفّارة بتحرير الرقبة على العكس مِمَّا جاء فى أول الآية للتنبيه لأهمية المُسَارَعَة إلى تسليمها حتى لا يَتَرَدَّد القاتل فى دَفْعها لهم لأنهم غير مسلمين.. ".. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.." أيْ فمَن لم يجد عبْداً لتحريره أو لم يجد المال الذي يشتريه به أو ما شابه هذا من عقبات، فعليه في هذه الحالة أن يصوم شهرين مُتَوَاصِلَيْن فى أيامهما بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين إلا أن يكون الفطر بسبب عُذْرٍ كمرضٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ فإنه يُفْطِر ويَستكمل الباقي، فمَن لم يستطع الصوم أصلاً لسببٍ من الأسباب كمرضٍ مُزْمِنٍ أو كِبَرِ سِنٍّ أو غيره فلا شيء عليه لأنَّ الله تعالي لم يَذْكر في هذه الآية الكريمة لحالة القتل الخطأ غير الصيام لكنْ عند بعض العلماء عليه إن لم يستطع الصوم أن يُطْعِم سِتّين مسكينا بأن يُقَدِّم لهم ما في إمكاناته من طعامٍ مُعْتَدِلٍ يُناسبهم ويَكفيهم ويُشبعهم ما استطاع.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ مَن يملك قيمة العبد ولا يجده يَتصدَّق بثمنه للمحتاجين وقَدَّروا الثمن بعُشْر قيمة دِيَة القتل الخطأ.. ".. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ.." أيْ لكي يتوبَ الله عليه من خَطِئه الذي كان غالبا بسبب عدم أخذه تمام الحَذَر كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا في القتل الخطأ، ولكي يكون تهذيباً وتَدْريباً له علي تمام الاحتراس مستقبلا في كل شئون حياته فيَسعد بذلك في الداريْن.. إنَّ هذه التوبة ليست مِن إثم القتل الخطأ، لأنَّ الإثم في الآخرة مَرْفوع عن المُخْطِيء في القتل وغيره لأنه غير مقصود كما وَضَّح ذلك الرسول (ص) بقوله "إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمّتِي الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه" (حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما)، وإنما التوبة بالاستغفار وبِفِعْل الكفّارة أو بتنفيذ عقوبة دنيوية مَا في حال خطأٍ غير القتل إضافة إلي تعويض ما تَمَّ إتلافه بإعطاء أصحاب الحقوق والمجتمع حقّهم المُناسب تكون من إثم التقصير والتهاوُن وقِلّة التّثَبُّت والتّحَقّق، ولكي يظلّ المسلم بعد ذلك في حالة تَذَكّر دائم بحيث لا يَقع منه فى المستقبل ما وَقَعَ منه فى الماضى.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)" أيْ ومَن يَقتل مؤمناً مُتَعَمِّدَاً قَتْلَه فعقابه يوم القيامة الذى يستحقّه في مُقابَل هذه الجريمة التي هي من أكبر الكبائر دخول جهنم باقياً فيها مدة طويلة هائلة لا يعلم مقدارها إلا الله تعالي يُعَذّب بعذابها الذي لا يُوصَف، وغضب الله عليه – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كَرِهَه كراهية شديدة لفِعْلِه وانتقمَ منه بعقابه بما يُناسِب في الداريْن، ولَعَنَه أيْ طَرْده من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده، وجَهَّزَ له عذاباً عظيماً أيْ عذاباً هائلاً شديداً مُؤْلِماً مُوجِعَاً لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسِب فِعْله، في دنياه أولا حيث كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراه له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمن يَفعل ذلك، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. هذا، والقاتل إذا كان مسلما فإنه لا يُخَلّد في النار كخلود الكافر ولكنَّ خلوده يعني فترات هائلة إلي ما شاء الله، ولا زَالَت له توبة لقوله تعالي "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) وذلك بأن يَنْدَم بالعقل ويَعْزِم علي عدم العودة ويستغفر باللسان ويُقَدِّم نفسه للدولة ولأهل المقتول ليُقْتَصَّ منه ومن المُمكن أن يَعفو هم عنه ويُعَوِّضهم ربهم الكريم بسبب عفوهم بالعطاء العظيم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (178)، (179) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القِصَاص)، وبهذا يَضمن النجاة من العذاب
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا ضربتم الأرض بأرجلكم سائرين متنقلين عاملين أيَّ عمل في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة وكذلك ضاربين مجاهدين مقاتلين المعتدين، في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. فَتَبَيَّنُوا.." أيْ فعليكم أن تَتَثَبَّتوا وتَتأكّدوا مِن صِحَّة معلوماتكم وأقوالكم وتَصَرُّفاتكم قبل فِعْلها وتَتَأنّوا ولا تَتَعَجَّلوا عند التَّعامُل في أيِّ شأنٍ من الشئون ومَوْقِفٍ من المَوَاقِف، وإذا كان التّأنّي والتّثَبُّت في الأمر الصغير مطلوبا فإنه في الأمر الكبير أشدّ طَلَبَاً، عند قتال الأعداء إذا اعتدوا، حيث قد يحدث تحت اسم الجهاد في سبيل الله أن تختلط الأمور ويُقْتَل الأبرياء والإسلام يمنع ذلك أعظم المَنْع حتي ولو قُتِلَ بريءٌ واحدٌ أو حتي خُدِش أو جُرِح لأنه ما جاء أصلاً إلا لحماية الناس ورعايتهم وتنميتهم وإسعادهم في الداريْن.. إنه بهذا التّبَيُّن تَقِلّ الأخطاء كثيراً أو حتي تَنْعَدِم، ويَرْقَيَ الجميع ويَقْوُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. ".. وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ ولا تقولوا لمَن حَيَّاكم بالسَّلام مُظْهِرَاً إسلامه وعَمَله بأخلاقه حتي ولو كان ظاهريَّاً أنك لست مسلماً حقيقة بل أنت كاذب مُدَّعِي تريدون بذلك ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره حيث بعدم تصديقه قد تأخذون منه حقاً له ليس لكم وقد تقتلونه إنْ كنتم في قتالٍ تريدون ما يَملكه باعتباره كافراً مُعْتَدِيَاً مُؤَيِّدَاً للكفر وللمُعتدين أو ما شابه هذا من مَظَالِم وأخطاء يمنعها الإسلام منعاً تامَّاً، بل عليكم أن تَقْبَلُوا من الناس ظاهر أقوالهم وأفعالهم، وتُعاملوهم علي أساسها، ولا تَبحثوا فيما هو داخلهم ويفكرون فيه بعقولهم، وتظنون بهم ظنوناً سيئة وتَتَوَهَّمون بهم تُهَمَاً باطلة غير حقيقية، كما نَبَّهكم لذلك الرسول (ص) بقوله "أفَلاَ شَقَقْتَ عن قَلْبِه..؟" (جزء من حديث أخرجه مسلم وغيره)، فإنَّ النوايا بداخل العقول لا يعلمها إلا الله تعالي خالِق الخَلْق بينما البَشَر لا يعلمون إلا مَا يَظهر لهم من أقوالٍ وأفعالٍ، فهذا مِمَّا يُقَلّل الشكوك ويُصَفّي العقول ويزيد التعاون والترابُط فيَقْوَيَ المجتمع ويَسعد الجميع في الداريْن، مع مراعاة أن يظلّ الحَذَر المُعْتَدِل موجوداً مِمَّن قد يَظهر منهم أحياناً سوءاً مَا.. ".. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ.." أيْ لا تَطلبوا هذا العَرَض القليل الزائل من الحياة الدنيا بهذا الأسلوب لأنَّ الله عنده مغانم كثيرة حلال أعظم خيراً يُغنيكم بها عنه.. أيْ فإنْ كان قصدكم غنيمة مَا من غنائمها فإنَّ عند الله مالك الملك مغانم كثيرة حتماً يَعِدكم بها فاصبروا ولا تأخذوا ما تَشكّون فيه من أرزاقٍ – كأنْ تعتدوا مثلا علي مَن أظهر الإسلام مُتَشَكّكِين منه ونحو هذا – حتي يُعطيكم ربكم ما لا شكّ فيه وأطيعوه فيما يُوصِيكم به واعملوا بكل أخلاق إسلامكم وأخْلِصوا وأحْسِنوا يَرزقكم ويغنمكم كل ما تريدون وتأملون وتحبون من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، فلا يَدْفَعكم العَرَض الزائل القليل على ارتكاب ما لا يَصِحّ من أمثالكم الذين يُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فيفوتكم ما عند الله من خيرهما فما عنده خيرٌ وأبْقَىَ.. ".. كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.." أيْ كذلك كنتم سابقاً بَعِيدين عن أخلاق الإسلام كهذا الذي ألْقَيَ إليكم السلام فتَشُكّون في إسلامه فتَفَضَّلَ وأنْعَمَ الله بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه عليكم بأنْ يَسَّرَ لكم مَن يُحْسِن دعوتكم له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ويُحَبِّبه لكم ويُيَسِّر لكم أسباب التمسّك والعمل بأخلاقه وأعانكم سبحانه علي ذلك ويَسَّره لكم فلا تَنْسوا ذلك أبداً وتَذَكّروه دوْمَاً ليُعينكم هذا التّذَكّر لهذه النعمة العظيمة التي لا تُقَارَن بأيِّ نعمةٍ أخري علي أن تأخذوا أنتم أيضا بأيدي غيركم من جميع الناس مهما كانت درجة فسادهم وبُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم ومهما كانت ثقافاتهم ودياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم وبيئاتهم وعلومهم وأفكارهم لأنَّ العقول والفطرة فيها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ستَتَحَرَّك حتما إذا أحسنتم تحريكها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وإذا صبرتهم علي حُسْن دعوتهم لله وللإسلام كما فَعَل دُعاتكم له معكم مِن قَبْل وإذا قَبِلْتُم منهم ما يُظْهِرونه ولم تَتَشَكّكُوا فيهم فإنَّ الثقة من السابقين في اللاحقين – مع الحَذَر المُعْتَدِل – تُسَرِّع تَطَوّرهم في الخير وعملهم بالإسلام بينما التّشَكّك فيهم يُبْطِئه، وإذا استعنتم جميعا بربكم لِيُيَسِّر لكم عملكم بأخلاق إسلامكم كما وَعَدَ بذلك لمَن يبدأ بالاتّجاه نحوه والتّقَرُّب إليه ولو بخطوة كما جاء في الحديث " .. ومَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعَاً.." (جزء من حديث قدسي أخرجه مسلم وغيره)، فلتأخذوا إذَن بأيدي غيركم قَدْر استطاعتكم لتسعدوا كلكم في دنياكم وأخراكم، ولكم أجركم العظيم فيهما (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. إنَّ الآية الكريمة تُذَكّر كل مسلمٍ أنَّ عليه وهو في حالة قوةٍ أنْ يَتذكّر أنه كان سابقا في حالة ضعفٍ فلا يَسْتَضْعِف بالتالي ضعيفاً فيَظلمه بل يُعاونه لِيَقْوَيَ، وإنْ كان في غِنَيً فلْيَتذكّر فَقْرَه السابق فيُغْنِي الفقير ولا يَتَعَالَيَ عليه، وإنْ كان في عِزّةٍ وأمانٍ فلْيَتَذَكّر الذلّة والخوف ولْيُعِن مَن هم فيهما علي الخَلاص منهما، وهكذا.. ".. فَتَبَيَّنُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتنبيه والتحذير علي أنَّ عليكم أيها المسلمون أن تَتَثَبَّتوا وتَتأكّدوا مِن صِحَّة معلوماتكم وأقوالكم وتَصَرُّفاتكم قبل فِعْلها وتَتَأنّوا ولا تَتَعَجَّلوا عند التَّعامُل في أيِّ شأنٍ من الشئون ومَوْقِفٍ من المَوَاقِف.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيرا أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله بمَالِك ونفسك (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)" أيْ هذا حثٌّ وتشجيعٌ علي الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وغيره لأجره العظيم في الداريْن وتَنْفِيرٌ من التّخَلّف عنه بغير عُذْر لسوء نتائج ذلك فيهما.. أي لا يَتَساوَيَ حتماً عند الله تعالي العادِل، الذين يَقعدون ويَتَخَلّفون من المؤمنين، بسبب تكاسُلٍ أو انشغالٍ أو خوفٍ أو غيره، عن بَذْل الجهد في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، مع المُجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، في درجتهم وأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، إلاّ إذا كان القاعِدون عن الجهاد من أصحاب الضرَر أي مِمَّن بهم ضَرَر أيْ لهم عُذْر مَقْبُول عند الله في القعود كالمرضي والعُمْي والعُرْج والذين لا يَجِدُون ما يَتَجَهّزون به وككبار السِّنّ الضعفاء وما شابه هؤلاء، فإنَّ عُذْرهم يَرْفع عنهم اللّوْم ولا يُعْتَبَرُون من القاعِدين المُتَخَلّفين لأنَّ نواياهم بعقولهم بكل صدقٍ يعلمه الله تعالي بداخلهم أنه لوْلَا هذا الضرَر لكانوا مع هؤلاء المجاهدين وأنهم مع ضَرَرهم سيُقَدِّمون لهم ما استطاعوا مِمَّا يَملكون من دعاءٍ وخدماتٍ وأموالٍ ونحو هذا ولهم بذلك بإذن الله الأجر العظيم علي قَدْر ما يُقَدِّمُون ولا يُظْلَمُون شيئا.. ".. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً.." أيْ مَيَّزَ وزَادَ الله بتمام عَدْله وميزانه الدقيق الذي لا يَظلم مِقْدار ذرّة المجاهدينَ بأموالهم وأنفسهم علي القاعدين بعُذْرٍ بدرجةٍ رفيعةٍ عاليةٍ فوقهم في الجنة أيْ بزيادةٍ ووَفْرَةٍ في أجرهم عنهم لأنَّ المجاهدين قد عَرَّضُوا أنفسهم بالفِعْل علي أرض الواقع للمخاطر والأهوال وبذلوا أرواحهم وأموالهم فى سبيل الله.. ".. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.." أيْ والله يَعِد كُلَّاً من الفريقين حتماً الجنة مع اختلاف درجاتهم فيها، إضافة قطعاً إلي مَا يَعِدهم به في دنياهم من عِزّةٍ ونصرٍ ومكانةٍ أو فوزٍ بالاستشهاد ودخول أعلي درجات الجنات.. وهذا مدحٌ لكلٍّ منهما وتشجيعٌ للجميع ليَبذلوا أقصي جهودهم ما استطاعوا دون تقصيرٍ علي حسب ظروفهم وأحوالهم وجهودهم وبيئاتهم، وهو أيضا إزالة لاختلاط الأمور حيث قد يَتَوَهَّم أحدٌ مُخْطِئَاً أنَّ الفريق الثاني وهو الذي يَقْعُد عن الجهاد بعذرٍ مع نوايا صادقةٍ به عند الاستطاعة مَحْرومٌ من الأجر الدنيويّ والأخرويّ الذي يناله الفريق الأول! حاشا لله تعالي العدل أن يظلم أحدا ولو بمقدار ذرّة أو أقل!.. ".. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)" أيْ ومَيَّزَ وزَادَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين بغيرِ عُذْرٍ يَمنعهم عن الجهاد بأجرٍ عظيمٍ لا يُوصَف.. وفي هذا مزيد من التأكيد والحثّ والتشجيع علي الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وغيره لأجره العظيم في الداريْن والتَنْفِير من التّخَلّف عنه بغير عُذْرٍ لسوء نتائج ذلك فيهما
ومعني "دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)" أيْ هذا الأجر العظيم يكون مَرَاتِب ومنازِل مختلفة منه تعالي ومغفرة لذنوبهم ورحمة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذَرَّة ظلم، درجات في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب جهادهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)" أيْ وذلك لأنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما غفوراً لكم أيها الناس جميعا أيْ كثير المغفرة أيْ التغطية لذنوبكم وسترها عليكم والعفو عنكم ومُسامَحتكم فلا يُعاقبكم إذا تُبتم إليه واستغفرتموه وهو سبحانه رحيم دوْما بكم في كل أحوالكم أيْ كثير الرحمة أي الرفق والشَّفَقة والرأفة واللّيِن
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجرين في سبيل الله، أي الذين يُهاجرون من أرضِ الذلّة والإهانة وعدم القُدْرة علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام، إلي أرضٍ أخري تكون لهم فيها عِزّة وكرامة وحرية في عملهم بكل أخلاق إسلامهم، حتي ولو كان العيش فيها أكثر خشونة وأقل راحة، لأنَّ الحياة الذليلة المهينة المُنْكَسِرَة لا قيمة لها والموت أفضل منها
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)" أيْ إنَّ الذين تَقْبِض الملائكة أرْوَاحهم وتُمِيتهم عند نهاية آجالهم وقد ظَلَموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذلّ والهَوَان وإقامتهم فى أرضٍ لم يستطيعوا أن يعملوا فيها بأخلاق إسلامهم وعدم هجرتهم إلى الأرض التى يُمكنهم بها ذلك رغم استطاعتهم لكنّهم يخافون علي مصالحهم وأموالهم ونحو هذا، أو ظلموا أنفسهم عموماً ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ.." أيْ أمثال هؤلاء وهم بهذا الحال تسألهم الملائكة سؤال ذمٍّ عند قَبْضِ أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم فى أىِّ حالٍ كنتم؟ أكنتم في حالِ وبلدِ عِزَّة أم ذِلّة؟ في أيِّ شيءٍ كنتم من أمر إسلامكم أكنتم في شكّ منه أم يَقينٍ حيث لم تكونوا مستطيعين العمل به فكيف رضيتم بذلك؟ كيف قَبِلْتم البَقاء في أرضٍ فيها ذِلّة دينكم وذِلّتكم وإهانتكم وعدم قُدْرتكم علي عملكم بأخلاقه واستطعتم الهجرة منها ولم تفعلوا؟ هل كنتم في المسلمين أم كنتم كافرين؟.. ".. قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ.." أى قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة مُعْتَذِرين عُذْرَاً واهِيَاً غير مَقْبولٍ عند الله تعالي كنا ضعفاء في أرضنا عاجزين عن دفع الظلم والقَهْر عنا يُذِلّنا غيرنا ولم نستطع الهجرة، وهو اعتذار قبيح غير صحيح وهم غير صادقين في ذلك لأنهم هم الذين كانوا في ذات أنفسهم ضعفاء بسبب حرصهم الشديد علي مصالحهم التي جعلتهم يَرْضون بالذلّ والهَوَان حفاظا عليها وقد ظهر قُبْحهم وكذبهم في عدم قبول الله لعذرهم وذَمّهم وتَوَعُّدهم بالعذاب – بينما قَبِلَ عُذْر المستضعفين حقيقة كما في الآية القادمة إذ لا يُكَلّف الله نفساً إلا وُسْعها – حيث قالت الملائكة لهم رافضة مُكَذّبة ذَامَّة لقولهم ".. أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.." أيْ هل لم تكن أرض الله واسعة فتخرجوا فيها من أرضكم إلى أرضٍ أخرى بحيث تأمنون على دينكم الإسلام وتَتَمَكّنون من العمل بأخلاقه بَدَلَ الذلّ الذي تُقيمون فيه؟ هل كانت ضَيِّقَة إلي هذا الحَدِّ بحيث لم تستطيعوا مُفَارَقَة مكانكم؟! لكنْ مَنَعَتكم مصالحكم!! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا وهو أيضا للتقرير أيْ قد تَقَرَّرَ عند كلّ أحدٍ أنها واسعة!!.. ".. فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)" أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ الآية الكريمة تُرْشِد كلَّ مسلم أن يُهاجر من أرضِ الذلّة والإهانة وعدم القُدْرة علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام، إلي أرضٍ أخري تكون له فيها عِزَّة وكرامة وحرية في عمله بكل أخلاق إسلامه، حتي ولو كان العيش فيها أكثر خشونة وأقل راحة، لأنَّ الحياة الذليلة المهينة المُنْكَسِرَة لا قيمة لها والموت أفضل منها.. إنكم أيها المسلمون إنْ لم تستطيعوا عبادتي أيْ طاعتي في أرضٍ ما وُأجْبِرْتم علي عبادة غيري، ومُنِعْتُم مِن تمَسّككم بإسلامكم كله أو حتي بعضه وُأكرهتم علي فِعْل الشرور والمَفَاسِد والأضرار، بإيذاءٍ شديدٍ أو سجنٍ شديد أو تضييقٍ حياتيٍّ شديد أو تهديدٍ شديد جادٍّ بقتلٍ أو ما شابه هذا، فانطلقوا مُهَاجِرين إلي أرضٍ غيرها آمِنة تتمكّنون فيها من التمسّك بالإسلام ولا تعبدوا أبداً غيري، ولا تَتَرَاجَعوا مُطْلَقَاً عن هذا بل تُصِرُّوا عليه وإلا تَعِستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره مَن كان مِن المُستضعفين حقيقة لا يستطيع الهجرة والانتقال ولا يُمكنه دَفْع الظلم والقَهْر عنه من الرجال الذين عجزوا حقا عن أن يُهاجروا لضعفهم أو مرضهم أو شيخوختهم أو النساء اللائى لا يستطعن الخروج وحدهنّ خوفا من الاعتداء عليهنّ أو الوالدان الصغار الذين لم يبلغوا الحُلُم بَعْد أو بَلَغوه بُلُوغَاً قريباً لكنهم ضعفاء لا يملكون مالا ولا عملا ولا قوة أو مَن شَابَهَ هؤلاء مِن أصحاب الأعذار الصحيحة الحقيقية المَقْبُولَة.. ".. لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)" أيْ لأنهم لا يستطيعون قُدْرة علي التّحَوُّل مِن مكانٍ وحالٍ لآخر بحيث يَدْفعون الظلم والقَهْر عنهم ولا يعرفون طريقاً لذلك يُخَلّصهم مِمَّا هم فيه
ومعني "فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)" أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ فهؤلاء المذكورون لعلّ الله أنْ يُسامحهم ويَغفر لهم ويَرحمهم ويَرْفع درجاتهم في مُقابِل صبرهم علي الأذي وذلك لعلمه بحقيقة أعذارهم وصِدْق نواياهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل تنبيههم علي أنّ تركَ الهجرة عند الذلّة وعدم القدرة علي العمل بأخلاق الإسلام أمرٌ شديدٌ حتى إنّ المُضطر لذلك لعذرٍ حقيقيٍّ مَا عليه ألاّ يَقبل بهذا الحال ويدعو الله دوْماً أن يُعينه علي أن يكون له حِيلَة عليها وأن يهتدي إليها سبيلا وينوي نوايا صادقة أنه لو سَمَحت له الفرصة قام بها.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو أيضا عن الذنوب، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العفو، وذلك لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، فهو الرحيم كثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)" أيْ هذا حثّ وتشجيعٌ علي الهجرة عند الاحتياج إليها لِمَا فيها مِن خَيْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. أيْ ومَن يُفارِق ويَترك مكان إقامته ووَطَنه ومجتمعه وأحبابه وممتلكاته وأعماله وعلاقاته، في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً.." أيْ يجد بإذن الله وفضله وكرمه وعوْنه وتيسيره لجهوده وأسبابه التي يجتهد في إحسان اتّخاذها، مع الوقت تدريجيا، في الأرض التي يُهاجِر إليها، مُرَاغَمَاً كثيراً أيْ أماكِن مُرَاغَمَة كثيرة يَتَحَوَّل إليها من أرضِ الرَّغَام أيْ التراب والطين والمقصود أرض الذلّ والهَوَان التي كان فيها إلي أراضٍ كثيرةٍ للمُرَاغَمَة أي يُرَاغِم منها أيْ فيها العِزّة والعُلُوّ والمَكَانَة والتّحْصِين والتي منها يُمْكِنه أن يُرْغِمَ ويُجْبِر هو أنف أعدائه في التراب أيْ يَصْرعهم أرْضاً فيه أيْ يَغلبهم ويذِلّهم بتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه ونَشْرها وهم الذين أرادوا إرغام أنفه في الطين أيْ إجباره علي تَرْكها ومَنْعها وهزيمته وإذلاله، ويَجِد كذلك سَعَة أيْ اتّسَاعَاً وزيادة في أرزاقه بكل أنواعها المالية والاجتماعية والفكرية والنفسية والعلمية واتّسَاعَاً في الحرية والحركة والانتقال والعِزّة والكرامة والمَكَانَة والعلم ونشر دعوة الإسلام وغير ذلك بفتح أبوابِ أرزاقٍ له لم يكن يَحْتَسِبها من عند ربه الرَّزّاق ذي القوة المَتين، وهذا أمرٌ يُثْبِت الواقع تحقّقه دوْمَاً لكلّ مَن يُهاجِر في سبيل الله لأنه وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقاً.. ".. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.." أيْ ومَن يَخرج مِن مكان إقامته مُفَارِقَاً تارِكَاً وطنه ومجتمعه وأحبابه وممتلكاته وأعماله وعلاقاته فارَّاً بدينه الإسلام مُحافِظَاً عليه مُتمسّكاً عامِلاً به مُدَافِعَاً عنه مُتَّجِهَاً إلي الله قاصِدَاً حبه ورضاه وأمنه ورعايته وتوفيقه وإسعاده في الداريْن وحُبّاً لرسوله (ص) ونَصْرَاً لدينهما واستجابة إلي طلبهما بالهجرة عند الاحتياج إليها وإلي حيث يُمْكِنه عبادته أيْ طاعته ورسوله (ص) ليسعد بذلك وإلي حيث يُمْكِنه دعوة مَن حوله لهما ولدينه الإسلام ليُبَلّغ رسالته للبَشَر ليَسعدوا مثله في دنياهم وأخراهم وإلي حيث يُمكنه فِعْل أيّ خيرٍ لهم من علمٍ وعملٍ وعوْنٍ وغيره (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله، برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة)، ثم يَلْحقه الموت في فترة هجرته أو حتي وهو في طريقه قبل أن يَصِل لمكان الهجرة فقد ثَبَتَ أجره كاملا وقد تَكَرَّم الله فجعل الأجر حقاً عليه وكأنه أصبح وثيقة عليه مُوَثّقّة للمُهاجِر للدلالة علي عظيم أجر الهجرة في سبيله وعظيم كَرَمه سبحانه وعظيم مَكَانَة المُهاجِر حيث يكون أجرها كاملا حتي ولو لم تكتمل بل بمجرّد خروجه من بيته لفِعْلها! فما بالنا بأجرها لو فُعِلَت وتَمَّت وتحَقّقت أهدافها لا شكّ أنه سيكون حتماً مُضاعَفَاً أضعافاً كثيرة بكرمه وعَدْله سبحانه!!.. إنَّ المُهاجِر يُطَمْئِنه ربه أنَّ له أجره الكامل حتي ولو مات في طريقه، لأنه نَوَىَ الهجرة وتحقيق أهدافها عند البدء فيها ولا تقصير منه في عدم إتمامها، فله إذَن أجره كله، أجر الهجرة والرحلة والحياة في مكانها وتحقيق أهدافها، فهل هناك من طَمْأَنَةٍ وضَمَانٍ وتشجيعٍ للمهاجرين بعد طمأنة وضمان وتشجيع الله تعالي الكريم الوَهَّاب الذي لا يُخْلِف وعده مُطلقا؟.. إنَّ هذا يدلّ على أنَّ المُهاجِر في سبيل الله له حتماً إحدى الحُسْنَيَيْن فهو إمَّا أنْ يُرْغِم أنف أعداء الله ويذِلّهم بسبب مُفَارَقته لهم واتّصاله بالخير والسَّعَة، وإمَّا أنْ يُدْركه الموت ويَصِلَ إلى السعادة الحقيقية حيث النعيم الخالد في أعلي درجات الجنات.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكاً بالصلاة أشدّ التمسّك، حتي في أكثر الأوقات صعوبة، سواء أكانت أوقات خوف، كوقت قتال الأعداء حين يعتدون ووقت الحروب، أم في أوقات تشبهها قد يَتَعَذّر فيها الصلاة، كالسفر، حيث المُتَغَيِّرات كثيرة وقد تكون مُفاجِئَة.. ولذا، ولِحِرْص الإسلام علي عوْن المسلمين علي عدم ترك الصلاة أبداً، لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، لذلك خَفّفَ الصلاة ذات الركعات الأربعة إلي ركعتين، حتي يتمكّن المسلم من أدائها بيُسْر ودون مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة وحتي لا تنقطع عنه منافعها وسعاداتها في دنياه وأخراه
هذا، ومعني "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)" أيْ وإذا ضَرَبْتم في الأرض بأرجلكم سائرين مُتَنَقّلِين مُسافرين للتجارة والعمل والعلم ونحوه تَطلبون من رزق الله الحلال، وكذلك إنْ خِفْتم أنْ يُؤذيكم ويَهزمكم الذين كفروا عندما تجاهدون في سبيل الله لنشر الإسلام والدفاع عنه بالقتال أحيانا ضدّ مَن يَعتدي عليه بالقتال، فليس عليكم حَرَج ولا إثم في أنْ تَقْصُروا شيئاً من الصلاة أىْ تنقصوا منها وتجعلوها قصيرة بأن تجعلوا الصلوات ذوات الركعات الأربعة ركعتين فقط كما بَيَّنَ لكم ذلك الرسول (ص) تيسيراً وتخفيفاً من الله عنكم ورحمة بكم وذلك لصعوبة التمسّك بها كلها في مثل أحوال السفر والقتال هذه حيث المُتَغَيِّرات كثيرة وقد تكون مُفاجِئَة فلا تُحْرَموا من سعادات ومنافع الصلاة مهما كانت الظروف.. ".. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)" أيْ إنَّ الكافرين كانوا وما زالوا مستمرّين بالنسبة لكم أيها المسلمون عدوَّاً واضِحَاً في عَدَاوَته يريدكم دائما بكلّ شرٍّ فيجب عليكم بالتالي عند التّعامُل معهم أن تَحذروا دوْمَاً سُوءَهم ومكائدهم أشدّ الحَذَر لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما مثلهم
ومعني "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية الصلاة في جماعة أثناء قتال المُعتدين والتي تُسَمَّي "صلاة الخَوْف" والتي لا بُدَّ فيها من شِدَّة الحَذَر من العدو لأنه قد يَسْتَغِلّ فترة الصلاة للانقضاض علي المسلمين.. أيْ وإذا كنتَ في المسلمين أثناء القتال يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده يكون في هذا المقام فأردتَ أن تُقيمَ لهم الصلاة فى جماعةٍ لتزدادوا أجراً ورعاية من الله وأنتم تُقاتلون أعداءه وأعداءكم فعليك فى هذه الحالة أنْ تُقَسِّمهم إلى مجموعتين ثم بعد ذلك فلْتَقم مجموعة منهم معك فى الصلاة ومعهم أسلحتهم يُصَلّون بها ليكونوا مُسْتَعِدِّين للقتال دائما أمّا المجموعة الأخري فلتكن باتجاه العدو ليَحْرُسوكم منه، فإذا سَجَدوا أي الرجال القائمون معك فى الصلاة فليكونوا أيْ رجال المجموعة الأخرى مِن خَلْفِكم في مواجهة عدوكم، فإذا أتْمَمْتَ ركعتكَ الأولي تَتِمّ المجموعة الأولى ركعتهم الثانية ويُسَلّمون ثم تأتي المجموعة الأخرى التي لم تبدأ الصلاة فلْيَأْتَمّوا بك في ركعتهم الأولى وأنت في ركعتك الثانية ثم بَعْدَ انتهائك منها وتَسليمك يُكْمِلُوا هم بأنفسهم ركعتهم الثانية، وليأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم أيْ وعليهم أيضا أن يكونوا كمَن سَبَقَهم حَذِرِين أشدّ الحَذَر حامِلِين لأسلحتهم حتى إذا فاجأكم العدو بالهجوم كنتم دائما على استعدادٍ لمواجهته وعلى يقظةٍ تامَّةٍ مِن مَكْره.. ".. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً.." أيْ هذا بيانٌ لسبب الصلاة علي هذه الصورة، أنه يَتَمَنّي ويُريد ويُحبّ الذين كفروا لو تنشغلون عن سلاحكم وزادكم ومنافعكم وأشيائكم التي تستعملونها في قتالكم فيَنْقَضُّون ويشِدُّون عليكم دفْعَة وشَدَّة واحدة فيَقتلونكم ويَهزمونكم.. ".. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ.." أيْ ولا حَرَجَ ولا إثم عليكم أيها المسلمون إنْ كان بكم حالة مطرٍ شديدٍ كأنه أذَيَ لكم حيث يَمنعكم من القتال وكذلك إنْ كنتم مرضي بمرضٍ مانعٍ منه أن تتركوا سلاحكم وكونوا مع ذلك حَذِرِين أشدّ الحَذَر حتى إذا فاجأكم العدو بالهجوم كنتم دائما على استعدادٍ لمواجهته وعلى يقظةٍ تامَّةٍ مِن مَكْره.. ".. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ما داموا يُحْسِنون اتّخاذ أسباب النصر من الاستعانة بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وحُسْن استعدادهم بكلّ أنواع القوَيَ المُمْكِنَة ..أيْ إنَّ الله حتماً بالتأكيد جَهَّزَ للكافرين عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)" أيْ فإذا أتْمَمْتُم وأدَّيْتُم الصلاة أيها المسلمون علي الصفة التي سَبَقَ ذِكْرها فدَاوِمُوا بعدها – وقبلها قطعاً – علي ذِكْر الله في جميع أحوالكم أي استحضروا دائما بداخل عقولكم ومشاعركم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ واذكروه دوْمَاً في جميع أحوالكم قائمين واقفين وقاعدين جالسين ومُضطجعين على جنوبكم ومُسْتَلْقِين علي ظهوركم.. وهذه الوَصِيَّة بالإكثار من ذِكْره تعالي في هذه الأحوال خصوصاً مع أنَّ مُدَاوَمَة وكثرة ذِكْره مطلوبة في كل وقتٍ لأنَّ الإنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء يكون في أشدّ الحاجَة لعَوْن الله وتأييده ونصره والتّوَسُّل إليه بالدعاء في أحواله هذه يكون أقرب للاستجابة.. هذا، والذكر عموماً يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)" أيْ فإذا كنتم في حالة اطمئنانٍ وأمانٍ واستقرارٍ وزَالَ خوفكم فحينها أدُّوُا الصلاة كاملة كما هي لأنَّ الصلاة كانت ولا زالَت وستستمرّ علي المؤمنين فرضاً مُحَدَّدَاً بأوقاتٍ لا يجوز تجاوزها بل لا بُدّ من أدائها خلال أوقاتها سواء في السفر أو في مكان الإقامة وفي الأمن أو الخوف، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من المحافظة التامَّة عليها مهما كانت الظروف والأحوال
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادةٍ قويةٍ لا تَنْكَسِر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال والآلام والجراح، في كل شئون حياتك، صغرت أم كبرت، الاقتصادية والعلمية والعملية والاجتماعية والسياسية وغيرها، خاصة عند قتال الأعداء إذا اعتدوا فتُقاتلهم بكل قُوَاك وتَدْفع اعتداءاتهم دفاعاً عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين بكل ما استطعت مِن قوَيَ مُتَعَدِّدَة
هذا، ومعني "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" أيْ ولا تَضعفوا أبداً أيها المسلمون في طَلَبِ القوم الأعداء الذين يحاربون الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ومُلاَحَقتهم دوْمَاً باستمرارٍ ومُجاهَدَتهم بكل صور الجهاد المختلفة (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، ولا تَمْنعكم الآلام مهما كانت عن مُتابَعتهم وحُسْن اتّخاذ أسباب مقاومتهم حتى يتمّ الله لكم النصر عليهم وهم الذين يَعتدون عليكم بمُحاولاتهم مَنْعكم من العمل بأخلاق إسلامكم بتَرْغِيبكم فيما هو مُخَالِف لها وتَرْهِيبكم بإيذائكم باتّباعكم إيّاها ويعتدون كذلك حتي بالقتال لمَنْع نشره للناس، وذلك الابْتِغَاء والطلَب لهم يكون بأنْ تتمسّكوا وتعملوا بكل قوةٍ بكل أخلاقه وتَنشروه بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة وتُدافعوا عنه بكل وسائل الدفاع المُمْكِنَة الفكرية والعلمية والإعلامية والاقتصادية والسياسية وغيرها وحتي العسكرية عند اعتدائهم بالقتال.. ".. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ.." أيْ هذا تَحْفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين لدَفْعهم للانطلاق في ابتغاء القوم وفي كل شئون الحياة عموماً بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة، كما أنَّ فيه تسلية وتخفيفاً عنهم وتثبيتاً وطَمْأَنَة وتبشيراً وإسعاداً لهم.. أيْ إنْ كنتم تَتَألّمُون أحيانا بألمٍ مَا قَلّ أو كَثُرَ فإنَّ غيركم يتألّمون أيضا مثلكم ومع ذلك يَصبرون عليه وينطلقون في شئون حياتهم ولا يَكُفّ المُعْتَدُون منهم عليكم عن عدائهم، فما لكم لا تَصبرون مثل صبرهم، فأنتم أوْلَىَ بذلك منهم، لأنكم تَرْجون وتَطلبون من الله كل الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الداريْن بينما هم لا يرجون ولا يطلبون ذلك ولا يعرفون عظيم فوائده، فالفرق إذَن هائل بينكم وبينهم ولا مُقَارَنَة بالقطع لأنَّ هذه الأمور حتماً تزيدكم قوة وإقداماً وحماسة ونشاطاً وانطلاقاً واستبشاراً بانتظار كلّ خيرٍ بحيث لا يَقِف أمامكم شيءٌ ويصبح كل صعبٍ سَهْلاً بإذن الله وتيسيره وعوْنه وتبشيره لكم، وبالتالي فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل وأنتم الأعْلَوْن بسبب اتصالكم بربكم وعملكم بإسلامكم وإحسان اتّخاذ أسباب نصركم أن تَهِنوا وبعضهم لم يفعلوا ذلك وهم الأدْنَيَ منكم قطعاً لأنهم يَفتقدون لهذا فاصبروا وانْطَلِقوا مُتَجَاوِزِين أيّ آلامٍ فأنتم حتماً أوْلَيَ منهم بهذا الصبر وهذا الانطلاق وهذا النصر المُنْتَظَر من ربكم في كل شئونكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (140)، (141) من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ").. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)" أيْ نحن أوحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ.." أيْ لكي تَحكم بهذا الكتاب يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده بين الناس في قضاياهم المُتَعَدِّدَة بكل شئون حياتهم بما عَرَّفكَ وأعْلَمَكَ وأوْضَحه لك الله فيه من خلال الوَحْي حيث سيكون المَرْجِع الذي به الأصول والقواعد التي يَرْجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)" أيْ وإيَّاك ثم إيّاك أيها المسلم أن تكون للخائنين أيْ للغادِرين الخَسِيسين الذين يُنْكِرون الحقوق ويُضيعون الأمانات ولا يُحافظون علي العهود والمواثيق ولا يُوفون بها بل يُخْلِفون وعودهم ويَكِيدون المَكَائد ويَرْتَكِبون الجرائم، لا تكن أبداً لأمثال هؤلاء خصيماً أيْ مُدَافِعَاً عنهم، بل عليك أن تكون عادلاً دائما، في كل أقوالك وأفعالك وتصرّفاتك في كل شئون حياتك ومواقفها المختلفة وأنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة في الأموال وغيرها والمَعنويَّة كشهادةِ زُوُرٍ مثلاً أو نصيحةٍ مُضِرَّةٍ أو نحوها يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
ومعني "وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)" أيْ واسأل الله أيها المسلم دائما مَغْفِرَة ذنوبك وتُبْ إليه مَمَّا فعلت من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لك حتماً لأنه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ غفوراً أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم الدفاع عن الخائنين ومراعاة العدل في كلّ قولٍ وعملٍ حتي ولو كان ضِدّ النفس أو الأهل أو الأقارب أو أيّ مسلمٍ وعدم الظلم ضدّ أيّ أحدٍ حتي ولو كان كافرا.. أيْ ولا تُدافع أيها المسلم أبداً عن الذين يَخونون أنفسهم بشدّةٍ وإصرارٍ – ولفظ يختانون يُفيد المُبَالَغَة والإصرار والتكرار في الخيانة – بفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار واستمرارهم علي ذلك.. لقد خانوا أنفسهم حيث غَدَرُوا بها لأنَّ النفس أيْ الفطرة هي مسلمة أصلا تحب أن تعمل بالإسلام لتَسعد به في دنياها وأخراها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنهم بعقولهم اختاروا بكامل حرية إرادتها مُخَالَفَة الله ورسوله وخانوا الأمانة التي أعطاهم إيّاها وهي الإسلام فلم يحافظوا عليها ويعملوا بها بل خالفوها فأخذوا أنفسهم لِمَا يضرّها ويتعسها في الداريْن، كما أنهم بخياناتهم لغيرهم بعدم حفظ ما يُؤْتَمَنُون عليه من أماناتٍ عندهم لهم وعدم تأديتهم لها إليهم ومخالفاتهم لعهودهم معهم فإنَّ ضَرَر ذلك الدنيويّ حيث الخلافات والتعاسات والأخرويّ حيث الآثام يعود عليهم حتما، وكذلك فالضرَر الذي يُحْدِثوه لغيرهم من المسلمين وللناس عموماً يكون كأنه ضرَر لهم لأنهم كالجسد الواحد ما يُصيب بعضهم كأنه أصابهم كلهم إذ تعاسة البعض يعود أثره السَّيِّء علي الكلّ بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)" أيْ إِنَّ اللَّهَ حتما يَكْرَه مَن كان خَوَّانَاً أيْ كثير الخيانة، أثيماً أيْ كثير الفِعْل للآثام، أيْ للذنوب، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكلّ أنواعها، سواء أكانت كفراً أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب خِيانته وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم يَخْتَفون ويَسْتترون من الناس خوفاً وخَجَلاً من اطّلاعهم على أعمالهم السيئة وعِتابهم وعِقابهم لهم، ولا يَستترون من الله ولا يَسْتَحْيُون منه ولا يَستشعرون مُراقبته لهم ولا يَخافون فقدان حبه وإسعاده في الداريْن بل وعذابه بما يُناسب فيهما رغم أنه هو حتماً الأحَقّ بأن يُخْجَل منه ويُخْشَىَ من عقابه لأنه هو تعالي معهم بعلمه وقُدْرته أينما كانوا مُطّلِع عليهم حين يدبِّرون ما لا يَقْبل ولا يُحبّ من القول والفِعْل إذ هو يعلم أيّ سوءٍ منهم حتي وهم يُدَبّرونه بدواخل عقولهم وفي الخفاء قبل قولهم وفِعْلهم إيّاه.. إنَّ قُبْح تصرّفهم هذا يدلّ علي بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ مُحِيطَاً أيْ يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً العلم بما يُبَيِّتُون!.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)" أيْ ها أنتم أيها المُدافِعون عن الخائنين قد دافعتم عنهم في الحياة الدنيا مُبَرِّئِين إيّاهم من الخِيانَة بغير حقّ، فمَن هذا الذي يستطيع منكم أن يدافع عنهم أمام الله يوم القيامة بل مَن يكون عليهم يومها وكيلاً أىْ مُدَافِعَاً عنهم قائماً بتدبير أمورهم؟! لا شكّ أنه لن يكون هناك أيّ أحدٍ يُدافع عنهم يوم القيامة لأنّ كلّ إنسانٍ سيُجازَى بعمله بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ ولن ينفعه دفاع المُدافعين أو جدال المُجادلين.. ولفظ "ها" في اللغة يُفيد التنبيه لِمَا سيُقال لتنبيه المُخْطِئين لخطئهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يُدافِع عن خائن ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)" أيْ هذا دعوة لكل مَن عَصَيَ مهما كان عِصْيانه أن يأتي لرحمات الله مُستغفراً ليسعد بها في دنياه وأخراه.. أيْ وأيّ أحدٍ يَفعل شَرَّاً مَا أو يظلم نفسه ومَن حوله فيتعسها ويتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، ثم يستغفر الله بعد فِعْله أيْ يسأله مَغْفِرَة ذنبه ويَتوب إليه مَمَّا فَعَلَ من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، لو فَعَلَ ذلك يَجِد فَوْر توبته أيْ قابَلَ حتماً وعَلِمَ واستشعرَ ولَمَسَ في حياته بشائر وآثار رحمات وخيرات أنَّ الله قد تابَ عليه مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك لِكَوْنه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، ولِكَوْنه أيضا رحيماً أيْ كثيرَ واسعَ الرحمةِ بالعالمين الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوْسَع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ له وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)" أيْ ومَن يَعمل شَرَّاً فإنما يعمله علي حساب نفسه أيْ يَضرّها به في دنياه وأخراه فلا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله السَّيِّء حيث سيكون له في مُقابِله وبما يُناسبه درجة ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)" أيْ وأيّ أحدٍ يعمل ذنباً عظيماً أو شَرَّاً صغيراً – وعند بعض العلماء العكس أي الخطيئة هي الذنب الصغير والإثم الذنب الكبير وعند بعضهم هما بمعني واحد وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعني – ثم يَتَّهِم به بريئاً لم يعمله ويَنْسِبه إليه كذباً وظلماً وزُوُرَاً مع أنه هو الذي فَعَلَه ليُبَرِّيء نفسه فقد تَحَمَّلَ بسبب فِعْله هذا يوم القيامة بهتاناً أيْ إثم البُهْتان الذي عمله وهو أشدّ أنواع الكذب والافتراء الذي ليس له أيّ أصل ويَبْهَت العقل أي يُحَيِّره لشدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة وسيكون إثماً مُبِيناً أي واضحاً لا يَخفَيَ سُوؤه علي أحد، إضافة بالقطع إلي ما قد يَحدث له غالباً في دنياه بسبب سُوئِه هذا مِن بعضِ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة ما قد يَحدث له مِن ألمٍ وعذاب وكآبة وتعاسة
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليك ورحمته أيْ رأفته وشفقته بك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم، بأنْ فَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكل البَشَر وإرشادكم إليها وتوفيقكم لها وتيسير أسبابها لكم وقبولها منكم وعدم تعجيل العقوبة لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم، وبأنْ جعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وبأنْ جعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها، وبأنْ أرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وبأنْ يَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وبأنْ ثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَهَمَّت أيْ عَزَمَت وقَصَدَت لكن لم تَفْعَل وتُنَفّذ طائفة أي مجموعة منهم أيْ من الذين يخونون أنفسهم ومَنْ يَتَشَبَّه بهم أن يُضِلّوك أيها المسلم ويُضِلّوكم أيها المسلمون أيْ يُضَيِّعوك ويُضَيِّعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها ويَدْفعوكم لفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها، وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها، والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات البُعْد عنه، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم، وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد (ص) والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ.." أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية (54) من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ ولا يُمكن أبداً حاليا أو مستقبلا لأمثال هؤلاء الخائنين ومَن يَتَشَبَّه بهم أن يُصيبوكم بأيِّ شيءٍ وأيِّ قَدْرٍ من الضرَر أي السوء إلا بضَرَرٍ خفيفٍ نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً، لأنَّ ضَرَرَهم سيَعود عليهم أيضا كما هو إضلالهم، فلا تَتَوَهَّمُوا أنهم أقوياء فتخافوهم، وذلك لأنه ما دُمْتُم دائِمِي التَّوَاصُل مع ربكم دائمي الاستعانة به ودعائه، وما دمتم دائمي التواصُل مع الآخرين بحُسن العلاقات معهم، وما دمتم حُكماء رَزِينِين مُتَوَازِنِين مِقْدَامِين مُنَظّمِين مُنْضَبِطين صالحين مُثَقّفِين مُتَعَلّمِين مُسْتَقِرِّين هادئين صادقين أمينين أقوياء وبالجملة فيكم كل الصفات التي تُعينكم علي حياةٍ صحيحةٍ صالحةٍ مُتَطَوِّرَةٍ سَلِسَةٍ سعيدة، فأنتم حينئذ قد أحسنتم تَحْصِين ذواتكم من الإصابة بأيّ ضلالٍ أو ضَرَر! وإنْ أصابكم ضَرَرٌ مَا فسَتُحْسِنون قطعا التعامُل معه والخروج منه بأسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وبأكثر خبراتٍ مُتَاحَةٍ وأقلّ خساراتٍ مُمْكِنَة ومُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وذلك لأنكم قد تَحَصَّنْتم بالله أولا مالِك المُلْك أقوي الأقوياء ثم بالصحبة الصالحة حولكم من كل أهل الخير إضافة لذواتكم وأخلاقكم المَتِينة وتناصَحْتُم فيما بينكم وأَمَرْتُم بالمعروف ونَهيتهم عن المنكر، فكيف لمَن تَحَصَّن بهؤلاء أن يتأثّر بضَرَرٍ مَا؟! إنه ولا شكّ هو الأقوي والأعلي وما سيُصيبه مِمَّن يَكْرهه لنْ يَزِنَ عنده إلا جناح بعوضة!.. إنه إذا كان المسلمون بهذه الصفات، وهم كذلك بإذن الله لو تَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، فلن يَقِفَ قطعاً أمامهم أيُّ عدو يريد الاعتداء عليهم بإضلالٍ أو إفسادٍ أو حتي بقتالٍ أو غيره من صور العدوان صَغُرَ أم كَبُر، إنهم حتماً مُنتصرون بنصر ربهم ثم بقوة إرادتهم وحُسن إعدادهم، وعدوهم بالقطع سَيَفِرّ مُنْهَزِمَاً.. ".. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لِمَا أعطاه الله لرسوله الكريم وللبَشَر من خيرٍ ورعايةٍ والتقرير له والتأكيد عليه والتعليل لِمَا سَبَقَ ذِكْره من فضلٍ إذ هو بسبب إنزال الكتاب والحكمة، وهو بيان لأعظم فضلٍ ورحمة علي الرسول (ص) والناس جميعا والذي يَتَفَرَّع منه كل الأفضال والرحمات والرعايات الأخري بعد ذلك حيث هو سبب كل خيرٍ وسعادةٍ لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. أيْ وأوحي الله إليك الكتاب وهو القرآن العظيم وبَيِّن لك مَعَانِيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتك لتُعَلّمها للناس ليسعدوا بها، وبَيَّنَ كذلك الحكمة لتُعَلّمهم إيّاها وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتك أيْ طريقتك في كلّ أقوالك وتصرّفاتك والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ".. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.." أيْ وعَلّمك بهما أيضا ما لم تكن تعلم مِن قَبْل إنزالهما عليك أيْ ما كنتَ أنت والناس تجهلونه من علومٍ غَيْبِيَّةٍ كالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار وكيفية الاستعداد لذلك بحُسن العمل، ومِن كيفية استنباط الأحكام من النصوص، ومن عِبَرٍ في أخبار وقصص وتصرّفات الرسل السابقين والأمم السابقة، وما شابه هذا من أصول العلوم التي تنتفعون وتَرْقُون وتَقْوُون وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم.. ".. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)" أيْ وبسبب كل هذا وغيره من أرزاقٍ ونِعَمٍ كان دائما عطاء الله وإحسانه الزائد عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل مُنْصِف عادل عظيماً هائلاً لا يُوصَف، فكونوا دَوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، وتَمَسَّكُوا بإسلامكم كشكرٍ عَمَلِيٍّ وحافظوا عليه وانْشروه وأحْسِنوا استخدامه بإسعاد ذواتكم وغيركم في الداريْن
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان كل كلامك نافعاً مُسْعِدَاً لك ولغيرك في الداريْن.. ولكي يكون كذلك، فاجتهد في التدريب علي استصحاب نوايا خيرٍ عامّةٍ بعقلك في أول نهارك أو كل فترةٍ حتي لا تنسي أو مع كل مجموعة أقوالٍ ما أمكن حسب مُتَغَيِّرات الكلام، لدوام التذكرة، ولكي تُحقّق أسعد نتائج منه في دنياك وأخراك، سواء أكان كلاماً في علمٍ أو عملٍ أو إنتاجٍ أو إنجازٍ أو ربحٍ أو بناءٍ أو تخطيطٍ أو ابتكارٍ أو تشجيعٍ علي خيرٍ من أيِّ نوعٍ أو نشرٍ للصلاح والعدل والتسامُح والتقارُب والتناصُح والإصلاح بين جميع الناس علي اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم ودياناتهم وعلومهم وأفكارهم، أمَّا الكلام الذي لا فائدة منه، والذي غالباً أو كثيراً لا يكون مصحوبا بنوايا خَيْرِيَّة من أيِّ نوع، فهو مُضَيِّع للأوقات والإنجازات، ولا يُفيد سعادة في الدنيا، ولا ثواب له في الآخرة، أمّا الكلام الذي يَضُرّ بصورةٍ ما من صور الضرَر، فهو حتماً مُتْعِس في الدنيا لمَن يقوله ولمَن يسمعه ويعمل به حيث سيَنشر الشرَّ والكآبة بينهم، ثم سيكون قطعاً أشدّ كآبة وتعاسة في الآخرة علي قَدْر ضَرَره
هذا، ومعني "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)" أيْ هذا تشجيعٌ للناس علي أن يكون كل كلامهم مُفِيدَاً مُسْعِدَاً ليستفيدوا وليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم، وأن يَسْكُتوا عن الكلام الذي لا فائدة منه ويَمتنعوا تماما عن أيِّ كلامٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ فيهما.. أيْ لا نَفْعَ ولا إسعادَ في كثيرٍ مِن كلامهم أيْ مِن كلام الناس إلا في كلامِ مَن أوْصَيَ بصدقةٍ أيْ بتَبَرُّعٍ بفِعْلِ خيرٍ مَا لهم بل ولعموم الخَلْق مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالاً أم جهداً أم صحة أم وقتاً أم فِكْرَاً أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. أو في كلامِ مَن أمَرَ بمعروفٍ أيْ بكل ما هو معروفٍ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام.. أو في كلامِ مَن يقوم بتدبيرِ إصلاحٍ وتوفيقٍ وتقريبٍ بين الناس في أيِّ شأنٍ من شئون حياتهم وعند اختلافهم أو خَصامهم لنَشْر التّآلُف والتّآخِي والتّحابّ والتّصافِي والتعاون والتّجَمُّع والأمان والإسعاد بينهم لأنَّ الصلحَ وحُسن توجيه أطراف الخصام بكل صِدْقٍ أمرٌ خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن يحفظ حُسن العلاقات بين كل أفراد المجتمع فيقوَيَ ويَرْقَيَ ويَسعد الجميع في الداريْن بينما بالخلاف والنزاع وسوء التوجيه والإرشاد والنُّصح يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ.." أيْ ومَن يَفعل ذلك المَذْكُور من صدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس، يَفعل منه ما استطاع، طَلَبَاً لمَرْضاة الله أيْ وهو مُخْلِص مُحْسِن لا يُريد سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلب فقط ودائما وباستمرار رضاً تامَّاً من الله في دنياه أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)" أيْ فسوف نُعطيه عطاءً عظيماً هائلاً لا يُوصَف من كرمنا الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْله وصِدْقه ونتائجه حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُتَّبِعَاً لسبيل المؤمنين أيْ لطريقهم والذي هو طريق الله ورسوله والقرآن والإسلام، أيْ كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)" أيْ ومن كان في شِقٍّ أيْ جانبٍ، والرسول (ص) في شِقٍّ مُقَابِل، أيْ خالَفه وعانَده وتكبَّر عليه وآذاه وعاداه وحاربه هو والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ.." أيْ وفَعَلَ كلّ ذلك بعدما اتَّضَحَ له تماما أين الهُدَيَ أي الرشاد من الضياع والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة من خلال رسل الله الكرام وآخرهم محمد (ص) وكتبه وآخرها القرآن العظيم والمسلمين حوله الذين يَدْعونه لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بما يُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فليس له أيّ عذرٍ إذَن فيما يفعله ويَدَّعيه كذباً وزُوُرَاً من عدم معرفته أو نحو هذا من مُرَاوَغَات بل هو حتما مُعانِد مُكَذّب مُسْتَكْبِر مُصِرّ تمام الإصرار علي ما هو فيه.. ".. وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.." أي ويَسير خَلْفَ ويُطيع طريقاً ونظاماً غير طريق المؤمنين الذي هم عليه والذي هو طريق الله ورسوله والقرآن والإسلام طريق تمام الحقّ والعدل والخير والصلاح والأمان والسعادة في الداريْن فيَترك طريقهم ويَسير في طريق الكذب والظلم والشرّ والفساد والقلق والتعاسة فيهما.. ".. نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى.." أيْ نُوَجِّهه إلي ما تَوَجَّهَ إليه هو بكامل حرية إرادة عقله، أيْ نتركه وما تَوَجَّهَ إليه من الشرّ فلا نُوَفّقه للخير، أيْ فلمّا مَالَ وانحرَفَ وابتعدَ عن الحقّ مع علمه به وأصرّ واستمرّ على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسن استخدام العقل ويستجيب للخير أَمَالَ الله تعالى عقله عن قبوله، أيْ فلما تَرَك وأهمل الإسلام، واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعه منه ويشاءه له أيْ يَتركه فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الزَّيْغ والشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغه عن فِعْل الخير لنفسه ولغيره والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هذا الزائغ هو الذين اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الزَّوَغَان الذي هو فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض من أمثاله قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!! (برجاء مراجعة الآية (148) من سورة البقرة، لمعرفة كيفية إحسان اختيار الاتّجاه في الحياة).. ".. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)" أيْ ونَحْرِقه ونَشْوِي جسده يوم القيامة في عذاب نار جهنم بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم ،وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)" أيْ إنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يَعفو ولا يَتجاوَز عمَّن أشرك به غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَرَ به أيْ كذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وماتَ علي شِرْكِه أو كفره، وسبب عدم المغفرة أنَّ المشرك أو الكافر لا يطلب العفو منه تعالي أصلا لأنه يلجأ لغيره ولا يَعرفه!! كما أنه لو سَمَحَ سبحانه في الأرض بالشرك لَتَعَدَّدَت الآلهة ولَأَطَاعَ كلُّ أحدٍ إلهه بما يأمره به والذي هو غير أوامر الإله الآخر فيَتَنازَع البَشَر ويختلفون ويقتتلون ولا يتّفقون فيتعسون حتما!!.. ولكنه يَعفو ويَتجاوَز قطعاً عمَّا غير ذلك الكفر والشرك من الذنوب، لمَن يشاء.. أيْ إنَّ المُشْرِكَ والكافر ومَن يَتَشَبَّه بهما في أقوالِ وأفعالِ شِرْكِهِم وكُفْرِهم لا بُدَّ أن يتوب من إشراكه وكفره أيْ يَرْجع عنه إلي ربه خالِقه ومُرَبِّيه وراعِيه ورازقه حتي يغفر له، وهذا هو معني "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر : 53) أيْ بما فيها الشرك والكفر لكن يُشْتَرَط أن يتوب المُشْرِك أو الكافر قبل موته لأنَّ الإسلام يَمحو ما قبله مهما كان، أمَّا بالنسبة للمؤمن أيْ المُصَدِّق بربه ورسله وكتبه وآخرته فإنه مهما فَعَل مِن شرورٍ حتي ولو كانت كبائر شديدة الضرَر فإنَّ الله تعالي يغفر له حتماً إذا تابَ وما دام لم يَصِل إلي مرحلة أن يُشْرِك به شيئاً بأن استغفر منها ونَدمَ وعَزَمَ بالعقل علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، أمَّا إذا لم يَتُب قبل موته، فأَمْرُهُ إلي الله تعالي إنْ شاءَ عاقَبَه علي قَدْر شروره بكلّ عدلٍ وإنْ شاء رحمه، ورحمته وَسِعَت كلّ شيء، وهي دائما تَسْبِق غضبه، وسَيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسيئاته، فيعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً إذا زادَت سيئاته عن حسناته مُقابِل مَصَائبَ مثلا أصيب بها أو بدعاء المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعَة الرسل والشهداء والصالحين أو حتي بغير شيءٍ فهو الغفور الرحيم الودود الكريم، ولكنْ سيكون في درجةٍ أقل قطعاً في الجنة عن مَن تابَ وفَعَل مِن الخير الكثير.. ".. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)" أيْ ومَن يشرك بالله فقد ضاعَ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنه سَاوَيَ بين المَخلوق والخالِق وعَبَدَ مَن لا يَسْتَحِقّ العبادة حيث عَبَدَ غير الله تعالي ربه أي مُرَبِّيه وخالِقه ورازِقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام.. إنه أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنه يفعل كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه يَتَوَهَّم أن لا حساب! وبالتالي ستجده دائما وحتما في دنياه في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)" أيْ هذا تفصيلٌ لضلالهم وقُبْحِهم وتعطيلهم لعقولهم حيث يتركون عبادة الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ويعبدون مَخلوقاً مثلهم بل هو أضعف منهم!!.. أيْ ما يعبدون – أيْ هؤلاء المشركون – من دون الله أيْ غيره إلا إناثاً أيْ أوْثَانَاً أيْ أصناماً لا تَعقل ولا تَسمع ولا تُبْصِر ولا تَنفعهم ولا تَضرّهم بأيِّ شيءٍ بل هي لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولا ضَرَّاً وهي أصلا تحتاج إلي مَن يحميها كالأنثي الصغيرة الضعيفة التي تحتاج إلي مَن يرعاها ويحميها فكيف تَرْعَي وتحمي وتنفع هي غيرها؟!.. ولذلك سَمَّاها سبحانه إناثا، وأيضا لأنهم كانوا يختارون لمعظمها أسماء إناث كاللّاة ومَنَاة ونحوها ويُزَيِّنونها بزينة النساء ويُسَمَّون صَنَمَ كل قبيلة أنثي بني فلان، أيْ حتي هم كانوا يستضعفونها كما كانوا يستضعفون النساء في زمنهم!!.. ".. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)" أيْ وهم بعبادتهم هذه ما يعبدون في حقيقة الأمر أيْ يُطيعون إلا شيطاناً شديدَ التّمَرُّد مُتَجَاوِزَاً لكلّ الحدود مُتَجَرِّدَاً من أيّ خيرٍ مستمرّاً علي كلّ شرّ، فهم عابدون إذَن واقعيا للشيطان وعبادتهم لغير الله تعالي هي بسببه، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيٍّ يخطر بالعقل، فهم يَتّبِعون التفكير الشرّيّ بعقولهم، ويَتّبِعون كل شَرٍّ وأشرار وكل فسادٍ ومُفسدين، من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)" أيْ هذه بعض صفات الشيطان – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره أنه مَرِيد – ليَنْفر منه الجميع ويَحذروه ولا يَتّبِعوه.. أيْ طَرَدَه وأبْعَدَه الله من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة.. وكل مَن يُطيعه سيُعانِي بدرجةٍ من الدرجات علي حسب طاعته إيّاه طَرْد وإبْعاد الله له من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في دنياه فتَرَاه في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراه في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم في أخراه تزداد اللعنة عليه وينال عقابه النهائيّ الكامل المُناسب لشروره ومَفاسده وأضراره في نار جهنم.. ".. وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)" أيْ وقال مُؤَكّدَاً أني سأتّخِذ من خلقك بني آدم جزءاً مُعَيَّنَاً آخُذهم معي في طريقي الشرِّيِّ وهم الذين سيَستجيبون لي باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم، فكل مَن اختار طاعتي منهم سيكون من نصيبي.. فلْيَحْذَر ذلك إذَن كل عاقلٍ ولا يَتّبِعه حتي لا يكون من هذا النصيب ويَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما لو اتّبَعَه
ومعني "وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)" أيْ وكذلك بكل تأكيدٍ سأضِلّهم أيْ أضَيِّعهم، بإبعادهم عن طريقك، طريق الحقّ والعدل والاستقامة، طريق الإسلام، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وآخُذهم في طريق الشرّ والتعاسة فيهما.. ".. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ.." أيْ وأيضا مع إضلالهم بالتأكيد سأمَنّيهم أيْ أعِدُهم من خلال تفكيرهم الشرِّيّ بعقولهم بأماني وآمال ووعود وَهْمِيَّة كاذبة خادِعَة ليست حقيقية تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معي في ضلالهم تائِهين دَوْمَاً فيه مِثْل تَمْنِيَتِهم بأنه لا بَعْثَ بعد الموت ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار فليفعلوا ما شاءوا من شرور أو أنهم سيُغْفَر لهم برحمة الله مهما فَعَلوا منها أو لو أرادوا توبة فلْيُؤَجِّلوها فالعُمْر طويل وما شابه هذا من أمْنِيَّات.. ".. وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ.." أيْ وسآمُرهم فيُطيعوني فيُقَطّعون آذان بعض الدّوَابِّ ليُعَلّموها بهذا القَطْع لكي لا تُباع ولا تُشْتَرَيَ ولا تَعمل ولا تُؤْكَل ولكنْ لِتُقَدَّم قَرَابين يتقرَّبون بها لأصنامهم التي يعبدونها غير الله لتَرْضَيَ عنهم وتُعينهم بما يدلّ علي تحريمهم ما أحلّ الله تعالي وتحليلهم ما حَرّمه وبالجملة عبادتهم أيْ طاعتهم لغيره ومُخَالَفتهم لإسلامه.. ".. وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.." أيْ وسآمُرهم فيُطيعوني فيُغَيِّرون خَلْق الله ظاهِريَّاً مادِّيَّاً بما يفعلونه من تغييرٍ مُشَوِّهٍ مُضِرٍّ في وجوههم وأجسادهم – أو حتي في حيواناتهم ونباتاتهم وغيرها من مخلوقات – بصورٍ مختلفةٍ ومِن تَشَبُّهٍ لبعض الرجال بالنساء والعكس، بما يُفيد ضِمْنَاً عدم الرضا بخِلْقته سبحانه والتّوَهُّم بأنَّ صَنْعته تحتاج إلي تعديلٍ أو استكمالٍ أو تحسين!!.. ويُغَيِّرون خَلْق الله كذلك باطِنِيَّاً مَعْنَوِيَّاً بمحاولة تغيير أخلاق الخير التي هي أخلاق الإسلام التي في الفطرة والتي هي قد خَلَقها الله مسلمة أصلا في كل إنسانٍ (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وذلك بفِعْل أخلاق شَرٍّ وضَرَرٍ وفسادٍ من توجيه عقولهم مُعانِدِين فطرتهم ومُخالِفين دين الله إسلامهم.. ".. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)" أيْ ومَن يَجعل الشيطان وَلِيَّاً لأمره يَتَوَلّيَ أموره يُديرها له ويُوَجِّهه إليها ويَتّبعه فيها، من دون الله أيْ غير الله أيْ لا يَتّخِذ الله وَلِيَّاً ولا يَتّبعه ولا يُطيعه، فقد خَسِرَ خُسْراناً واضحاً حتماً ليس بعده خُسارة أشدّ منه حيث يأخذه لكل شرٍّ في كل شئونه فيَخسر ويَفْقِد دنياه فيَتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة علي قَدْر بُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسر حتماً أخراه يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. بينما لو اتّخَذَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمره وناصراً ومُعِينَاً له في كل شئون حياته، فهنيئاً له نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر له الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة..فلْيَحْذَر إذَن كل عاقلٍ أن يَتّخِذَ الشيطان وَلِيَّاً من دون الله ولْيَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه ليسعد تمام السعادة في الداريْن ولا يَخْسَر ويَتعس فيهما
ومعني "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتأكيد علي عدم اتّخاذ الشيطان وَلِيَّاً من دون الله تعالي أبداً ومزيدٌ من البيان لسبب ذلك التحذير والخُسْران المُبِين لمَن يَتَّبِعه.. أيْ الشيطان يُعْطِي أتْبَاعه وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم ويَعِدهم من خلال تفكيرهم الشرِّيّ بعقولهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معه في ضلالهم تائِهين دَوْمَاً فيه مِثْل تَمْنِيَتِهم بأنه لا بَعْثَ بعد الموت ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار فلْيَفعلوا ما شاءوا من شرور سيَسعدون بفِعْلها رغم أنها سعادة وَهْمِيَّة سَطْحِيَّة قِشْرِيَّة مُؤَقّتة سريعة الزوال يعقبها مرارات وتعاسات دائمات يُثْبِتها واقع الحياة أو أنهم سيُغْفَر لهم برحمة الله مهما فَعَلوا منها أو لو أرادوا توبة فلْيُؤَجِّلوها فالعُمْر طويل وما شابه هذا من وعود وأمْنِيَّات كاذبات.. ".. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)" أيْ والحال والواقع أنه ما يَعِدهم الشيطان إلا خِداعَاً ووَهْمَاً وليس حقيقياً بكل تأكيدٍ حيث لا صِحَّة له ولا دليل عليه إذ هو يَعِدهم ويُمَنّيهم بأمورٍ خادعةٍ ظاهرها يُغْرِيهم بالنفع وباطنها يُهلكهم الضرر في دنياهم وأخراهم
ومعني "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة حتماً مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم، ولا يجدون عنها مَهْرَبَاً يَهربون إليه ليَنجوا منها بل يَبقون فيها
ومعني "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُتّبِعين للشيطان الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتماً سنُدخلهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.." أيْ صِدْقاً سيَتحقّق حتماً يوماً ما بالبَعْث وبالآخرة وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصِين، وهو مُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه فهو بالقطع ليس مِثْلَمَا يَعِد به الشيطان أتْباعه.. ".. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)" أيْ ومَن قوله وكلامه أصدق مِن قول وكلام الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أصدق من الله قولاً في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم (ص)، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يعيشون في الأماني والأحلام دون تطبيقٍ لها علي أرض الواقع، بل كنتَ من الذين يُحسنون اتّخاذ أسباب النجاح في الحياة كاملة ما أمكن، من علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وبناءٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ، وصدقٍ وأمانةٍ وتعاونٍ، ونحو ذلك بما يُناسب الأهداف القريبة والبعيدة والأزمنة والأمكنة والإمكانات والقُدْرات، إضافة بالقطع، وأولا وأخيرا، حُسْن التواصُل مع الله تعالي القويّ العزيز الحكيم العليم الخبير بكلّ شيءٍ وطَلَب عَوْنه وتوفيقه وسَدَاده وقوّته ورزقه في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. فهذا هو القانون العادل للحياة والذي وَضَعه خالقها سبحانه لها، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان كافراً، ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما نَبَّهنا تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. إنَّ المسلم، سواء أكان ذكراً أم أنثي، إنْ أحسنَ اتّخاذ الأسباب، حَقّق أهدافه بعوْن ربه وسَعِدَ في دنياه، ثم في أخراه – ما دام كان مُسْتَحْضِرَاً نوايا خيرٍ بعقله مع أقواله وأفعاله الخَيْريّة الدنيويّة – سيَنال ما هو أعظم وأتمّ وأخلد من نَعِيم الجِنان دون أن يُظْلَم أيّ شيءٍ حتي ولو كان مِقدار نُقْرَة صغيرة.. بينما المُسيء، سواء أكان مسلما أم كافرا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره، فله عذابه وتعاساته في الدنيا علي قَدْر إساءاته، ثم في الآخرة له ما هو أشدّ وأتْعَس، ولن يجد له أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمره ويُدافع عنه أو أيّ نَصِير يَنصره من الله، إلا أن يتوب في دنياه قبل موته.. هذا، والمسلم المُسِيء الذي لم يَتُبْ لن يجد أمامه إلا الله ليرحمه ويعفو عنه ويُعَوِّض بكرمه مَن أساءَ إليهم وأضَرَّ بهم، وهو الذي رحمته سَبَقَت غضبه وهو العَفوّ الغفور الرحيم
هذا، ومعني "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)" أيْ ليس الوَعْد الحَقّ الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة وليس أمر السعادة في الدنيا والآخرة والنجاة من التعاسة فيهما يكون بمجرّد أمْنِيَّاتكم أيها المسلمون – جمع أُمْنِية وهي ما يَتَمَنّاه الإنسان ويَرْغَبه ويحبّه أن يتحقّق – ولا أُمْنِيَّات أهل الكتاب وهم اليهود والنصاري ولا أمنيّات أيّ أحدٍ من الناس بل يكون بعملٍ علي أرضِ الواقِع يَتَمَثّل في الإيمان بالله والعمل الصالح أيْ التصديق بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بأخلاق الإسلام.. ".. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ أمر تحصيل رضا الله وإسعاده في الداريْن ودخول الجنة والبُعْد عن النار ليس بالأماني.. أيْ مَن يعمل في دنياه شرَّاً مَا يُسيء ويَضُرّ سواء أكان مؤمنا أم كافرا وسواء قلّ هذا السوء أم كَثُر يأخذ جزاءه وعقابه عاجلا أو آجلا بما يُناسب في الدنيا والآخرة بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم، أيْ له عذابه وتعاساته في الدنيا علي قَدْر إساءاته، ثم في الآخرة له ما هو أشدّ وأتْعَس، ولن يَجِد له أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمره ويُدافع عنه أو أيّ نَصِير يَنصره من الله، إلا أن يتوب في دنياه قبل موته.. هذا، والمسلم المُسِيء الذي لم يَتُبْ لن يجد أمامه إلا الله ليرحمه ويعفو عنه ويُعَوِّض بكرمه مَن أساءَ إليهم وأضَرَّ بهم، وهو الذي رحمته سَبَقَت غضبه وهو العَفوّ الغفور الرحيم.. إنَّ في الآية الكريمة تخويفاً مِن فِعْل أيِّ شرٍّ مهما كان حقيراً لأنه مُضِرّ مٌتْعِسٌ في الداريْن
ومعني "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب من يعمل سوءاً الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ مَن يعمل من الأعمال الصالحات، بأيّ نوع من أنواع الخير، مِن ذكرٍ أو أنثي أي من عموم الناس، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهؤلاء تُضَاعَف لهم أجورهم أضعافا كثيرة علي قدْر تأثير أعمالهم وأقوالهم وإتقانها ونَفْعها وحُسْن النوايا بالعقل أثناء فِعْلها ونحو ذلك، وهم يدخلون الجنة في الآخرة حيث جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، ومَن يعمل خيراً مَا وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالك الملك كله!.. ".. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)" أيْ ولا يُنْقَصُون أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخيرية – أو الشَّرِّيَّة – مهما كان ضئيلاً ولو بمِقْدار نُقْرَة صغيرة.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم نقيراً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً.. فالإخلاص والإحسان خُلُقان أساسان في الإسلام، ومنهما تتفرَّع كل أخلاقه الحَسَنَة المُسْعِدَة.. والإخلاص هو ألاّ تكون نواياك بداخل عقلك عند أيِّ قولٍ تقوله أو أيِّ عملٍ تعمله أن تطلب به أيَّ سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المَدْح الكاذب المُضِرّ المُتْعِس للمادِح حيث غالبا ما يكون كذبا وللمَمْدُوح حيث يُؤَدّي به إلي الغرور ومزيدٍ من الشرّ، وإنما تطلب به فقط حب الله تعالي ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. أيْ أنَّ الإخلاص هو أنْ تُخَلّص عملك الخَيْرِيّ من أيِّ شوائب شَرِّيَّة مهما صغرت، وهو أيضا تَخْلِيصٌ لأنظمة الإسلام وأخلاقيَّاته من أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة له مُضِرَّة مُتْعِسَة، فلا تعمل إلاّ بها خالصة تماما من أيٍّ من غيرها، كما يُفهم من قوله تعالي "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.." (الزمر:3).. أمَّا الإحسان فهو تمام الإتقان لكل أقوالك وأعمالك بحيث تكون دائما حَسَنَة علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ يحبه الله ورسوله (ص) والإسلام، كما يُفْهَم من قوله (ص) عن الإحسان في الحديث المعروف " .. أنْ تَعْبُدَ الله كأنّك تَرَاه فإنْ لم تكن تراه فإنه يَرَاك" (جزء من حديث أخرجه البخاري) فاستشعار هذا بالعقل سيَدْفع كل عاقلٍ حتماً لإجادة ما يقوم به تمام الجودة.. فيسعد الجميع بذلك في الداريْن.. والعكس صحيح بالتأكيد.. إنك إنْ فَعَلْتَ ما سَبَق، وتَمَسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك، فقد أسلمتَ ذاتك لله تعالي، أسلمتَ تمام الإسلام
هذا، ومعني "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)" أيْ هذا استفهام وسؤال للنفي أيْ ولا أحدَ أبداً أحسن ديناً ولا أعظم مكانَة وحالة وأجراً في الداريْن – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون – مِمَّن أسلم وجهه لله أيْ مَن سَلَّمَ نفسه بالكامل بوَجهه أيْ بكُلّه أيْ بعَقله وفِكْره وقوله وفِعْله لرعاية ربه وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده باتّباعه لنظامه الذي أرْشَده إليه وأوْصاه به وهو الإسلام الذي يُنَظّم له كل شئون حياته علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرته تمام السعادة وثَبَتَ دائماً علي ذلك.. ومن معاني أن يُسْلِم لله كذلك أيْ يُخْلِص له سبحانه فلا يقول قولاً ولا يَفعل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. ويكون كذلك مع إسلام وجهه لله وإخلاصه له مُحْسِنَاً، أيْ يُحْسِن أيْ يُتْقِن كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله بحيث يكون دائما حَسَنَاً علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ يحبه الله ورسوله (ص) والإسلام.. ".. وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا.." أيْ وسارَ خَلْفَ وأطاعَ مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. ".. وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)" أيْ هذا ترغيبٌ في اتّباع مِلّة إبراهيم وتنبيهٌ لمَكَانته ومَكَانَة من يَتّبعها في الداريْن ويَتَشَبَّه به وبالرسول الكريم محمد (ص) الذي اتّبَعَها.. أيْ وجَعَلَ واختارَ الله إبراهيمَ حبيباً وصَدِيقاً له بسبب كمال إسلام وَجْهَه له سبحانه، والخُلّة هي أعلي درجات المَحَبَّة والصَّدَاقَة، ومَن يَتَشَبَّه به سَيُحِبّه ربه كذلك، ومَن أَحَبَّه الله كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاءً عظيماً لِمَن يُسْلِم وجْهَه لله ويَتّبِع مِلّة إبراهيم حنيفا
ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)" أيْ ومَن يُسْلِم وجهه لله فهو يُسْلِمه لمَن يَسْتَحِقّه وهو الله الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه مُحِيطَاً أيْ يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ فيه وفيهم، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم سواء أكانت في سِرِّهم أو عَلَنِهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يَحفظون للضعفاء حقوقهم ويُحسنون معاملتهم، ولا يَظلمون أحداً أبداً أيَّاً كان، استضعافاً له واستكباراً وظلماً، لأنَّ الظلم ظلمات وسَيِّئات، في الدنيا حيث يؤدّي إلي التّشاحُن والتّباغُض والتّباعُد والثأر والانتقام وفقدان الأمان وكل التعاسات، ثم في الآخرة أعظم من ذلك وأتمّ، خاصة إذا كان هذا الضعيف من النساء أو الولدان أو اليتامي أو الشيوخ أو المرضي أو العاجزين أو المساكين أو نحوهم (برجاء مراجعة الآية (2)، (6) من سورة النساء للشرح والتفصيل عن معاملة اليتامي وأموالهم، ثم الآية (273) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن صور الإنفاق علي المحتاجين)
هذا، ومعني "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)" أيْ ويسألونك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – يَطلب منك الناس والمسلمون الفتوي والعلم في أمور وشئون وحقوق النساء، قل الله يبيِّن لكم بأوضح وأحكم وأعدل وأكمل وأسعد بيانٍ وفتوي وعلمٍ كلّ أمورهنّ وما لهنّ وما عليهنّ، فاعملوا بكل ما يُفتيكم ويُوصِيكم به فإنَّ فيه ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن.. ".. وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.." أيْ هذا تخصيصٌ بعد التعميم السابق ذِكْره من أجل التذكير والتنبيه الشديد علي الوَصِيَّة بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماماً بهم وتحذيراً تامَّاً من التفريط في حقوقهم.. أيْ ويُفتيكم الله كذلك فيما يُتْلَىَ عليكم في القرآن في أول السورة وغيرها كما بَيَّنَ لكم في الآية (3) وما بَعْدها (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) حيث أفتاكم في شأن يتامَىَ النساء اللاتي لا تُعطونهنّ ما فُرِضَ لهنّ من المَهْر وتُريدون وتُحبون أن تتزوجوهنّ بلا مَهْر مِثْلهنّ، لأنهنّ يتيمات ضعيفات، فيأمركم أن تتزوجوا غيرهنّ ولا تتزوجوهنّ إلا أن تَعْدِلُوا لهنّ في المَهْر، أو كنتم لا ترغبون في زواجهنّ فتَحْبِسُوهنّ عن الزواج لِتَرِثُوهنّ، فلا تَفعلوا ذلك، بل تَزَوَّجوها أو زَوِّجُوها لغيركم.. ".. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ.." أيْ ويُفتيكم أيضاً في الصغار أن تُعطوهم حقوقهم من الميراث – وغيره – مع الكبار ولا تأكلوها استضعافاً لهم كما بَيَّنَ لكم في الآية (11) من السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ.." أيْ ويُفتيكم كذلك أن تُدِيروا كلّ شئون اليتامى المالية والتربوية وغيرها ذكوراً كانوا أو إناثاً بالعدل التامّ.. ".. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)" أيْ وأيّ خيرٍ تفعلونه إمّا مع هؤلاء المذكورين أو مع غيرهم بأيِّ صورةٍ ومقدارٍ وفي أيِّ زمانٍ ومكانٍ طَلَبَاً لثواب الله وحبه وعوْنه وتوفيقه وعطائه وإسعاده الذي لا يُحْصَيَ في الدنيا والآخرة فإنَّ الله حتماً كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان به عليماً حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يُحسنون معاملة أزواجهم ويَحرصون علي سعادة بيوتهم وأسرهم وأبنائهم، فإنَّ الأسرة هي أساس وحَجَر من أُسُس وأحجار بناء المجتمع، فإذا صَلحت وسَعدت، صَلح وسَعد الجميع، في دنياهم وأخراهم.. والعكس صحيح قطعا (برجاء مراجعة الآية (187) من سورة البقرة، ثم الآيات (226)، (237) منها، ثم الآية (37) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن أسباب السعادة الزوجية وكيفية تلافِي الخِلافات وحَلّها إذا وَقَعَت)
هذا، ومعني "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)" أيْ وإنْ زوجة خافت وتَوَقّعَت وعَلِمَت ببعض علاماتٍ من زوجها تَرَفّعا عن صُحْبتها، أو ابتعادَاً عنها وعدمَ إقبالٍ عليها وهو درجة أقلّ من النشوز، علي غير ما اعتادَا عليه قبل ذلك، لسببٍ من الأسباب، فلا حَرَجَ عليهما في الدنيا ولا إثم في الآخرة أنْ يتنازَلَ كل منهما عن بعض حقوقه وطَلَبَاته ولا يتمسَّك بها كلها فليس في ذلك أيَّ مُخَالَفَة للإسلام الذي يُوصِي بأن يحافظ كل فرد علي حقوقه بل لهما ثوابهما العظيم في أن يحاولا إصلاح ما بينهما بالصلح الجميل والتقريب، والعاقل منهما والأفضل والأكثر أجراً في الدرايْن هو الذي يبدأ به، رعاية لرابطة الزوجية وحفاظاً علي الأسرة والأبناء وإبقاءً على دوام الخير والاستقرار والسعادة، والصلح خيرٌ مُسْعِدٌ دائماً لا شرَّ فيه ومنافعه وسعاداته تَعُمّ الجميع في دنياهم وأخراهم وهو قطعاً خيرٌ من التّنازُع والتّخاصُم وتعاساته فيهما، فلْيَجتهد إذَن الطرفان بالعودة سريعا لأخلاق الإسلام باتّخاذ ما أمكن من وسائل الصلح بينهما بأنْ يُرَاجِع كل منهما ذاته وإسلامه ويعمل بما فاته من أخلاقه، ويتنازَل ويَتَقارَب ويَتَسامَح.. ".. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.." أيْ وإنَّ الذي يَمنع الصلح دائما هو أنَّ الشحَّ جُعِلَ حاضِراً مع النفوس مُلازِمَاً لها لا يُفارِقها لأنها مَفْطُورَة عليه، أيْ أحْضَرَ الله الأنفسَ الشحَّ أىْ فَطَرَ وخَلَقَ الله النفوس على الشحّ بما تملكه أيْ الحِرْص عليه وعدم التفريط فيه، ولقد فَطَرَها سبحانه كذلك من أجل الخير لا للشرّ أيْ لكي يُحافظ الإنسان علي ما معه ولا يُضيعه لكنْ إنْ زادَ الأمر وتَغَيَّرَ عَمَّا أراده الخالق وأصبح زائداً عن الحَدِّ بحيث يؤدّي إلي الشحّ بمعني الحرص الشديد والبُخل وعدم التنازُل عمَّا يملك من جهدٍ وصحة ومال وفكر وعلم وغيره من أجل نفع نفسه والآخرين فهنا يُصبح الأمر شرَّاً لأنه قد خَالَف أخلاق الإسلام وعلي العقل أن يتدخّل ويَضبط الحال بما يَتَمَاشَيَ مع هذه الأخلاقيّات (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وبالتالي فالذي يمنع الصلح أنَّ كلّ طَرَفٍ لا يَتسامَح أو يَتنازَل عن شيءٍ من حقّه، فعليهما إذَن أنْ يَنْتَبِها لهذا ويُحَكّما عقلهما ويَتَسامَحَا ويَتنازَلا ويَتصالَحَا ليَسعدا في الداريْن ولا يَتعسا فيهما.. ".. وَإِنْ تُحْسِنُوا.." أيْ وإنْ تكونوا دوْمَاً من المُحسنين أيْ الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله دائماً وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الزوجية والأسرِيَّة، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيراً أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)" أيْ ولن تَقْدروا أيها الأزواج علي أن تُحَقّقوا العدل التامّ بين النساء – إنْ كان لكم أكثر من زوجة – في المَحَبَّة ومَيْل المشاعر بداخل العقل والجماع، حتي ولو حرصتم أشدّ الحرص علي ذلك وبذلتم فيه أكبر الجهد، فلن تَصِلُوا إلي كماله أبداً، وقد خَفّفْت عنكم فلا تأثمون لذلك حيث يصعب التّحَكّم فيه ويؤدّي إلي مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة لأنَّ له أسبابا مُتَعَدِّدَة تختلف من شخصٍ لآخر ومن ظرفٍ ومكانٍ لآخر، أمَّا العدل في المَبيت عندهنّ والكساء والغذاء بما تحتاجه كلٌّ منهنّ والمعامَلَة الحسنة معهنّ بأخلاق الإسلام فهذا كله وما يُشْبهه مُسْتَطَاع لكم يمكنكم فِعْله وإنْ قَصَّرْتم فيه بلا عُذْرٍ أثمتم.. ".. فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ.." أيْ فإذا مِلْتُم إلى واحدةٍ منهنّ بالحبّ والجِماع بعد أنْ خَفّفَ الله عنكم وعَذَرَكم في هذا، وكان الأمر كذلك في الواقع، فلا تُبالِغُوا إذَن في المَيْل بحيث تَمِيلوا لها مَيْلاً كاملاً فتزيدوا في إرضائها والإقبال عليها حتى تَصِير الأخرى التي مِلْتُم عنها كالمُعَلّقة أىْ كالمرأة التي لا هي لها زوج فتَنَال منه حقوقها الزوجية ولا هي بمُطَلّقة فتَرجو من الله أن يرزقها بزوجٍ غيره يكرمها، ففي هذا ظلم وإثم وتعاسة في الداريْن، وإنما الواجب عليكم أن تُجاهِدوا أنفسكم حتى تَصِلُوا إلى الحقّ المُسْتَطَاع من العدل بين الزوجات.. وفي هذا ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ للذين لا يَعْدِلُون بين زوجاتهم.. ".. وَإِنْ تُصْلِحُوا.." أيْ وإنْ تُصلحوا ذواتكم بالعمل بكل أخلاق الإسلام وتعملوا الصالحات من الأعمال وتقوموا بإصلاح كلّ ما أفسدتموه بسبب أيِّ سوءٍ منكم قَدْر استطاعتكم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ وتُصْلِحوا فيما بينكم وبين زوجاتكم بإعادة العدل والمَوَدَّة والرحمة والتفاهُم والتعاون والتسامُح ونحو ذلك من أسباب السعادة الزوجية وتُصلحوا ما بينكم وبين مَن أسأتم إليهم عموماً لتعود لكم سعاداتكم حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله دائماً وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الزوجية والأسرِيَّة، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ التفرقة بينهما جائزة إذا لم ينفع الإصلاح، لأنَّ الافتراق مع الإحسان خيرٌ من المُعَاشَرَة السيئة، أيْ وإنْ صَعُبَ الصلح بين الزوجين ولم يستطيعا إصلاح ما بينهما ولم يستطع غيرهما أن يُصلح حالهما واختارا أنْ يتفرّقا أيْ يُفارِق كل منهما الآخر تَخَوّفاً مِن تَرْك حقوق الله التي أوجبها على كل واحد منهما، من خلال الطلاق، ويكون بالمعروف، أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام، أي يتمّ الفِراق بحُسْنِ مُعامَلَةٍ أيْ من غير سبٍّ ولا سوءِ تَصَرّفٍ ولا إكراهٍ لهنّ على أخذ شيءٍ من مالهنّ بل بكل خيرٍ وسَلاسَة وإعطاءٍ لحقوقهنّ إذا كان لهنّ باقِ مهرٍ وما شابه هذا.. ".. يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.." أيْ فإنْ فَعَلاَ ذلك التّفَرُّق بإحسانٍ فإنَّ الله يَعِدهما أنْ يَجعل كلَّ واحدٍ منهما مُسْتَغْنِيَاً عن الآخر بأن يَكْفيه من رزقه الواسع وكرمه وفضله ورحمته سواء أكان زوجاً آخر أسْعَدَ له أم مالاً أم راحة بالٍ أم علاقات طيّبة مُسْعِدَة أم كل هذا وغيره من أنواع أرزاقه سبحانه المُتَنَوِّعَة التي يَصْعب حَصْرها.. ".. وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان واسعاً أيْ عظيماً كاملاً في الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه، وهو الحكيم دائماً في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)" أيْ هذا بيانٌ أنه سبحانه واسِعٌ وأنه الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم.. أيْ وله تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وبالتالي وبما أنَّ المُلْك والسلطان كله لنا فنحن وحدنا لا غيرنا الذي يُشَرِّع لكم فعليكم أن تستجيبوا لِمَا نُوصِيكم به أيْ نجعله معكم وَصِيَّة تَحرصون عليها وتَهْتَمّون بتنفيذها من حُبِّنا لكم وحرصنا علي إسعادكم أيها المسلمون وأيها الناس إلي يوم القيامة وهو ذاته الذي وَصَّينا به جميع بني آدم منذ بدء الخَلْق ووَصّينا به الذين أُعْطُوا الكتاب من السابقين لكم كاليهود والنصاري وغيرهم والذي هو يُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولو تَرَكوه وخَالَفوه تَعِسُوا حتماً فيهما وهو أنْ اتّقوا الله أيْ خافوه دائماً وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)" أيْ ويا أيّها الناس إنْ لم تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي بعد ما ذَكَرَه لكم من أدِلَّة قاطعة في آياته ومعجزاته في كونه وخلقه ولم تُصَدِّقوا برسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولم تَتَّبِعوا إسلامه وأنكرتم نِعَمه ولم تشكروها ونَسَبْتموها لغيره وما شابه هذا مِن سوءٍ، فإنَّ لله ما في السماوات وما في الأرض – واستخدام ذات الألفاظ كما في أول الآية هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها – وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان غنياً حميداً أيْ هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا! وهو الحَمِيد أي المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. إنه تعالي غَنِيّ عنكم وكفركم ولو جميعكم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتكم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد
ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)" أيْ وله سبحانه كل ما فيهما فهو خَلْقه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)" أيْ اسْتَغْنُوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيداً مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولغيركم
ومعني "إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)" أيْ مِمَّا يَدلّ علي أنكم أنتم أيها الناس الفقراء المُحتاجون إليه وأنه هو الغَنِيّ عن كلّ شيء، أنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابكم وإنهائكم من الحياة الدنيا في أيّ وقت، بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدكم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتكم وذرِّيَّات غيركم كما خلقكم أنتم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فانْتَبِهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان علي ذلك الذهاب بكم والإتيان بآخرين، قديراً أي كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)" أيْ مَن كان يَطلب ويُحبّ عطاءَ وجزاءَ الدنيا وهو كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ فلا يقتصر في طلبه عليه فقط لأنَّ الله عنده عطاء الدنيا والآخرة معا حيث الجزاء والأجر الحَسَن الذي لا يُوصَف يوم القيامة فيما هو أعظم خيراً وسعادة وأتمّ وأخْلد يتمثّل في تمام الرضا والغُفْران والجنان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِباً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. وفي هذا دَفْعٌ وتشجيعٌ للناس ألاّ يَقْتَصِروا علي سؤال ثواب الدنيا فقط مع كوْن المسئول سبحانه مالِكَاً للثوابين كريماً وَهَّابَاً، وأنْ يَشْتَدّ طلبهم دائما فيما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد وهو الآخرة، لأنَّ مَن يَطلب قليلاً زائلاً مع أنه يمكنه أن يطلب عظيماً نَفِيسَاً خالداً فإنه ولا شكّ يحتاج لمراجعة حاله وفكره! وبالجملة فإنَّ الآية الكريمة تطلب منهم أنْ يُحسنوا طلب الدنيا والآخرة معا فإنَّ هذا سَهْل مَيْسُور لهم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، وأنْ يكونوا مِمَّن امتدحهم ربهم لقولهم "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (البقرة:201) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه تعالى عنده ثواب الداريْن فيُعْطِي كُلّاً ما يريده سواء مَن كان يريد الدنيا فقط ولا يريد الآخرة لأنه لا يُؤمن بها أو هو ناسٍ لها أو يريدهما معا كقوله تعالى "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" (الشوري:20) (برجاء مراجعتها أيضا لتكتمل المعاني).. ".. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيراً أي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا قَوَّامِين جَمْع قَوَّام وهو المُبَالِغ في القيام بالشيء والإتيان به على أكمل وأحسن وجهٍ مُمْكِنٍ أيْ كونوا كثيري القيام بالقسط أيْ بالعدل أيْ قائمين دائماً باستمرارٍ به أيْ مُواظِبين عليه في كل أقوالكم وأعمالكم بكل شئون حياتكم ولا يمنعكم عنه أيّ مانع.. ".. شُهَدَاءَ لِلَّهِ.." أيْ وكونوا مُقِيمين للشهادة بالحقّ ابتغاءً لوجهِ الله لا لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة، فإنَّ الإيمان الحقّ وخُلُق الإسلام يَتَطَلّب ذلك، أيْ عليكم أيها المسلمون عند أدائكم للشهادة أن تُؤَدّوها بكل عدلٍ وصدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا، فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما.. ".. وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي القيام بالقسط والشهادة لله بالحقّ وعدم كتمانها أو تغييرها.. أيْ حتي ولو كانت هذه الشهادة الحقّ هي ضِدّ أنفسكم أو والديكم أو أقرب وأحبّ الناس إليكم، فلا يمنعكم الحب والحنان والبِرّ والتقدير وغيره من إقامة الشهادة علي هؤلاء ومِن باب أوْلَيَ غيرهم مِن الأجانب عنكم، ولا تجعلوا أبداً هذه العلاقات الوثيقة بينكم سَبَبَاً لنشر الظلم أو العوْن عليه.. ".. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي التزام الحقّ مع أيِّ أحد، مع الغَنِىّ والفقير والقويّ والضعيف والصغير والكبير والذكر والأنثي والمسلم وغير المسلم ومع الجميع، فلا يكون الغِنَي أو الفقر أو القوة أو الضعف أو الصغر أو الكبر أو الذكورة أو الأنوثة أو الإسلام أو غير الإسلام أو ما شابه هذا من أحوال الناس مقياساً للعدل أو الظلم، وإنما هو العدل وفقط، فلا يَأخُذ غَنِيٌّ مثلاً غير حقّه لأنه غَنِيّ قويّ! ولا يُظْلَم أيضا من أجل فقيرٍ علي اعتبار أنه غَنِيّ يَمكنه التّحَمُّل! كذلك لا يُظْلَم فقيرٌ لأنه ضعيف! ولا يَأخُذ غير حقّه بسبب ضعفه كرحمةٍ به وإشفاق!.. أىْ إنْ يَكُن المَشْهُود عليه غَنِيَّاً يُرْجَىَ في العادة أو يُخْشَىَ، أو فقيراً يُرْحَم في الغالب ولا يَخافه أحد، فلا تَمتنعوا عن الشهادة على الغَنِيّ طلباً لرضاه أو على الفقير شَفَقَة عليه، أو ما يُشْبِه هذا من حالات، لأنَّ الله تعالى أوْلَىَ بالفئتين وأرْحَم بهما من سائر الناس ومِن أيِّ راحِم ولولا أنَّ شهادة الحقّ لهما أو عليهما مصلحة لهما وللجميع لَمَا شَرَعها فرَاعُوا أمر الله تعالى الذي وَصَّاكم به بأن تقولوا العدل وتشهدوا بالحقّ دائما فهو أوْلَيَ وأسعد لكم فدينه الإسلام أوْلَيَ وأحقّ أن يُتَّبَعَ فيهما وفي كل شئون حياتكم فإنه سبحانه أعلم بمصالح وسعادات الناس وكلّ خَلْقه منكم.. ".. فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا.." أيْ وبالتالي فلا تَسِيروا خَلْف وتُطِيعوا الهوي وهو كل ما يُخالِف أخلاق الإسلام من شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فتَمِيلُوا مع الغَنِيِّ أو الفقير أو غيره فتَشهدوا له كذباً وزُورَاً وظلماً، فقد نهيتكم عن ذلك من أجل أن تعدلوا في أحكامكم وشهاداتكم فتكونوا عادِلِين، ومَنْعَاً لكم أنْ تَعْدِلوا بمعني أنْ تَمِيلوا وتَنْحَرِفوا عن الحقّ والعدل إلي الظلم.. وبالجملة فلا يَدْفَعكم الهَوَىَ إلي تَرْك العدل بل التزموا به علي كلّ حالٍ ومع أيِّ أحد.. ".. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)" أيْ واعلموا واحذروا أنكم إنْ تَلْوُوا ألسنتكم بالشهادة أيْ تُحَرِّفوها وتَخرجوا بها عن أداء ما يَتَرَتّب عليها أو تُعْرِضوا عنها أيْ تتركوها كلها وتكتموها أو تتركوا بعض كلماتها، وذلك ليَفْسَد معناها ولا تُحَقّق هدفها.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيراً أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
تفسير الآية (136)، (137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – آمِنوا أيْ اثْبُتُوا علي إيمانكم ودَاوِمُوا علي ما أنتم عليه، مِن تصديقكم بوجود الله تعالي ووحدانيته فهو الإله الواحد بلا أيِّ شريك، ومِن التصديق برسوله (ص) وبالكتاب الذي أَنْزَلَ عليه وهو القرآن العظيم، ووَاظِبوا علي طاعتهم التامّة بالعمل بكل أخلاق الإسلام، وكذلك آمِنوا بمعني اسْتَكْمِلُوا ما قد ترونه فيكم ناقصاً منها وصَحِّحُوا سريعاً ما قد يَحدث منكم من أخطاء أو تقصيرات أو هفوات تائبين منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل، واثْبُتُوا وداوِموا علي تصديقكم بكل الكتب التي أنزلها مِن قبل القرآن علي رسله السابقين مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيمانكم بها استكمال لإيمانكم بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علي المؤمنين أن يَتَّصِفوا به وحتي لا يكون بينكم وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعكم من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم.. هذا، والآية الكريمة أيضا تدعو الذين آمَنوا مِن قَبْل نزول القرآن كاليهود والنصاري وغيرهم أن يؤمنوا به ويُسْلِموا ولا يَبْقوا علي يهوديتهم أو نصرانيتهم أو غير ذلك من الديانات.. ".. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السُّعَدَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التُّعَسَاء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن يُكَذّب ولا يُصَدِّق بوجود الله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار، ويُكَذّب بملائكته التي خَلَقها لتخدمه في تسيير شئون كوْنه ولخِدْمَة خَلْقه، ويُكَذّب ولا يُصَدِّق رسله الذين أرسلهم مُعَلّمين للبَشَر وقدواتٍ لهم يعلمونهم عمليا كيفية تطبيق دينهم الإسلام والذي هو في كتبه ورسالاته المُوحَاة إليهم منه والهادية المُسْعِدة للخَلْق، ويُكَذّب ولا يُصَدِّق بوجود اليوم الآخر الذي تنتهي عنده الحياة الدنيا وهو يوم القيامة حيث يقوم الناس للحساب علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسِب وبسبب عدم تصديقه يَفعل كل سوءٍ حيث لا حساب مِن وِجْهَة نظره.. ".. فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)" أيْ فقد ضاعَ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنه لم يَعْبُد أيْ لم يُطِع الله تعالي ربه أي مُرَبِّيه وخالِقه ورازِقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام.. إنه أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنه يفعل كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه يَتَوَهَّم أن لا حساب! وبالتالي ستجده دائما وحتما في دنياه في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)" أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ثم كفروا أيْ كذّبوا بعد تصديقهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ثم صَدَّقوا ثم كَذّبوا، ثم لم يكتفوا بذلك بل ازدادوا كفرا بهذه الرِّدَّة والرجوع عن الإسلام والتّحَلّل من أخلاقه تَمَثّلَ في مزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفساد والمُعاداة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والمقاومة لمَنْع نَشْره والإيذاء لمَن يَتّبعه والتشجيع له علي الارتداد عنه وما شابه هذا من علامات ازدياد سُوُئِهم، واسْتَمَرُّوا علي ذلك بلا توبة حتي موتهم.. ".. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)" أيْ ليس مِن شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويُسْتَبْعَد أن يغفر لهم ما يفعلون مِن شَرّ، ما داموا مُصِرِّين عليه، لأنَّ غفرانه يَتَطَلّب توبة وامتناعاً عنه، ولا ليهديهم أيْ يرشدهم طريقا يُوَصِّلهم إلي الخير وهو العمل بالإسلام يسعدون به في الداريْن بأيِّ حالٍ من الأحوال لأنَّ هدايته تكون لمَن يَتّجِهون إلى الحقّ ويطلبونه فيُوَفّقهم بالتالي له ويُيَسِّر لهم أسبابه وهم قد تَمَادوا في كفرهم وأصَرُّوا عليه حتي موتهم واختاروا الضلال علي الهُدَيَ بكامل حرية إرادة عقولهم، ثم مَن يَتَكَرَّر منهم ارتدادهم عن إيمانهم بعدما ذاقوا سعاداته بل وازديادهم في كفرهم وإصرارهم عليه يدلّ علي أنَّ الإيمان صارَ عندهم أهْوَن وأخَسّ شيء وأنهم لا يَقتربون منه أيّ درجة حتي يكونوا مُؤَهَّلِين للمغفرة وهداية سبيل الجنة وأنهم لم يَتَقَدَّموا بأيّ خطوةٍ نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. فاسْتِبْعَاد المغفرة لهم وهدايتهم سبيلاً للخير هو بسبب اسْتِبْعَاد عودتهم للإيمان أثناء حياتهم واستمرارهم وثباتهم عليه وإلا لو عادوا له وثَبَتُوا غُفِرَ لهم وهُدُوا للخير حتماً من الغفور الرحيم الهادي الكريم.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن منافقا، لأنَّ المنافق يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة.. وهذا النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله
هذا، ومعني "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)" أيْ أَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم المنافقين وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون داخل عقولهم الشَّرّ بما في القرآن الكريم ليكون إنذاراً وتخويفاً لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما وهو أنَّ لهم عذاباً أليماً أيْ مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. هذا، وفي لفظ "بَشّر" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)" أيْ الذين مِن صفاتهم السيئة والتي علي المسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا بها أبداً حتي لا يَتعسوا مثل تعاساتهم في الداريْن وأنْ يَحذروهم عند التّعامُل معهم أنهم يجعلون الكافرين أولياء لهم من غير المؤمنين، أيْ أولياء لأمورهم وليس المؤمنين، يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم فيها ويتحابّون ويَتناصرون فيما بينهم ويُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا.. ".. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)" أيْ هل يَطلبون بلَهْفَةٍ ورغبة عند الكافرين العِزّة أيْ الرِّفْعَة والقوّة؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. فإذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا وتَعِسوا فيهما، لأنَّ العِزّة لله وحده كلها، ومَن اعْتَزَّ بغيره هَانَ وذلّ، فكلّ مَن كان يريد العِزَّة، أيْ يريد تمام الكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة وألاّ يكون مَغلوباً ومَقْهُوراً لأيّ أحدٍ ويَحيا بلا أيّ ذِلّة، في دنياه وأخراه، فليَطلبها مِمَّن يملكها جميعها كلها وسيُعطيها له عِزّة حقيقية مستمرّة لا وَهْمِيَّة مُتَقَطّعة، يَطلبها من الله خالقه الكريم سبحانه وخالقها، وطَلَبها يكون بالاجتهاد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتوكّل عليه وحده ليُيَسِّرها له ويُسَدِّد خُطاه نحوها، بينما لو طَلَبَها من عند غيره من مخلوقاتٍ مثله والاعتماد عليهم، كطَلَبها مثلا من آلهة أخري تُعْبَد غيره تعالي ولا تَملك شيئا كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، أو من بَشَرٍ ضعيف مُعَرَّضٍ للمرض والضعف والفقر والموت ونحوه، فهذا وَهْم وانخداع وخسران كبير، لأنها ستكون عِزَّة مُرتبطة حتما بمُقابِلٍ ما، فهي إذن مُتقطّعَة لا دائمة سَطْحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة، حيث ستكون مَكانَة ما تُعْطَيَ – كمنصبٍ أو جاه أو مال أو نحوه – في مقابل فِعْل سوءٍ ما وإلا فلا مَكانَة! فالأمر إذن تمام الذلّة! فترْك أخلاق الإسلام إذن كلها أو بعضها وفِعْل عكسها بالتالي سيؤدّي حتما إلي ذلة في الدنيا تُساوِي مقدار ما تمّ ترْكه ثم إلي ما يُساويها من عذابٍ في الآخرة، فمَن كان مثلا كاذبا أو سارقا أو خائنا أو منافقا يُظْهِر خيراً ويخفِي شرَّاً أو ما شابه هذا ممّا يُخالِف الإسلام ستَرَاه حتما في ذلةٍ وانكسارٍ وانحطاطٍ علي قدْر سوئه كما يُثبت الواقع ذلك عمليا، ثم له في آخرته ما يَستحقّه علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)" أيْ ولقد أنْزَلَ الله عليكم أيها المسلمون في القرآن العظيم أنكم إذا سمعتم آيات الله يَكْفر بها الكافرون ويَستهزيء ويَسْتَهِين بها المُسْتَهْزِئون الساخِرون فعليكم فى هذه الأحوال ألاّ تقعدوا معهم وتتركوا مَجَالسهم حتى يتكلّموا فى حديثٍ آخر غير الكفر والاستهزاء بها.. إنه إذا كان عدم القعود معهم مطلوباً عند مجرّد سوءِ كلامهم فبالتالي ومِن بابِ أوْلَيَ يُطْلَب ضِمْنَاً عدم اتّخاذهم أولياء والاعتزاز بهم أبدا.. وفي هذا تذكيرٌ لكل مسلم أن يتجنّب تماما مجالس الكفر والنفاق والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، لأنها كلها مجالس مُضِرَّة مُتْعِسَة، لأنَّ فيها استهزاءً بأخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة لأنها تُنظّم كل شئونها صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، إلا إذا حَضَرَها وكان قوياً متمسّكاً عاملاً بكل أخلاق إسلامه ويَغْلِب علي ظنه حُسْن الرَّدّ والقُدْرَة علي الإقناع والدعوة بالقُدْوة وبالحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ ظَهَرَ عليهم تغيير الحديث والفِعْل وتحسينه فمِن المُمْكِن البقاء معهم والاستمرار لعلهم ينتفعون وينتهون ويعودن للخير فيسعدون، وإلاّ إنْ لم يستطع فلْيَنْصَرِف كارِهَاً لكل ذلك داخل نوايا عقله عازماً علي حُسْن دعوتهم في توقيتٍ ومكانٍ وبأسلوبٍ آخر مناسب.. ".. إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ.." أيْ إنكم إذا قعدتم معهم وهم على ما هم عليه ولم تتركوهم فأنتم بالتالي مِثْلهم في سُوئهم لأنكم رضيتم به والراضي بالسوء يكون كالفاعل له، فكل مَن جَلَسَ فى مجلسِ سوءٍ ولم يُنْكِر علي فاعِلِيه أيْ يَرْفض فِعْلهم بأسلوبٍ حكيمٍ مُناسبٍ وهو قادرٌ علي الإنكار عليهم يكون إثمه مثلهم، فإنْ لم يَقدر على الإنكار عليهم لعُذْرٍ من الأعذار مقبول والله تعالي أعلم بحاله فعليه ألاّ يَقعد معهم، فإنْ لم يستطع القيام لسببٍ مَا فلْيُنْكِر بقلبه أيْ يرفض بعقله، حتي لا تنطبق عليه هذه الآية الكريمة.. ".. إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)" أيْ هذا بيانٌ لسوء نهاية المُتَكَلّمين بالسوء المُنْغَمِسِين فيه ومَن يَرْضَيَ بسوئهم وتحذيرٌ شديدٌ حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ من المسلمين حتي لا يكون معهم، فإنَّ الله حتماً سيَجمع المنافقين والكافرين جميعاً يوم القيامة في عذاب جهنم الذي لا يُوصَف خالدين فيه – إضافة إلي عذاب وتعاسة الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدهم عن ربهم – لأنَّ هذين الفريقين كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتّوَاصِى بالشرور والمَفاسد والأضرار فسيَجمعهم سبحانه كلهم فيها في المُقابِل، فمَن يحبّ ألاّ يكون معهم فلا يَفعل إذَن مِثْلهم ولا يَرْضَيَ بفِعْلِهم
ومعني "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)" أيْ هذا بيانٌ لصفةٍ سَيِّئةٍ أخري من صفات المنافقين حتي يَحْذرهم المسلمون عند التعامُل معهم فيُعاملونهم بما يُناسب ولا يَتَشَبَّهون بهم مُطلقا حيث هم يُحاولون دائماً الانتفاع من كل فريقٍ فيُظْهِرون أنهم مع المسلمين إذا كان لهم الغَلَبَة أو مع الكافرين إذا غَلَبُوا أحيانا فهم يَتَلَوَّنون بسرعةٍ من أجل مَدِّ اليَدِ لأيِّ فُتاتٍ من الدنيا مهما كان ضئيلاً وفي أيِّ مكانٍ وبأيِّ شكلٍ كان.. أيْ هُم الذين أيها المسلمون يَتَرَبَّصُون بكم أىْ يَنتظرون بتَرَقّبٍ ومُلاَحَظَةٍ مَا يحدث لكم من خيرٍ أو شَرٍّ أو مِن نصرٍ أو هزيمةٍ فإنْ كان لكم فتْحٌ من الله أيْ نصرٌ منه وغنيمة وتوسيع أرزاق وحُكْم وسلطة ونفوذ ونحو هذا قالوا على سبيل التّقَرُّب إليكم ألم نكن معكم فى الجهاد وغيره حيث نحن منكم فأعطونا جزءاً من الخير الذى جاءكم.. ".. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.." أيْ وإنْ حَدَثَ أحياناً للكافرين مقدارٌ مِن نصرٍ مَا – حينما يُقَصِّر المسلمون في أسباب النصر في شأنٍ مَا مِن شئون الحياة – قال هؤلاء المنافقون لهم أيضا علي سبيل التّقَرُّب والتّوَدُّد كما يفعلون مع المسلمين عند انتصارهم لينالوا شيئا منهم ألم نُحِطْكم بمساعداتنا بما قدَّمناه لكم، ونَحْمِكُم من المؤمنين فلم يَنتصروا عليكم، وذلك من خلال ما قُمْنا به من إضعافنا وتَخْذِيلنا لهم وتَجَسُّسنا على أحوالهم وإخباركم بما يَهمّكم من شئونهم؟ ومادام الأمر كذلك فأعطونا ما نَسْتَحِقّه في مُقابِل هذا.. ".. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين.. أىْ إذا كان هذا هو الحال السَّيِّء للمنافقين والكافرين والذي مِن المُمْكِن أن يضرّكم فى الدنيا، فأُبَشّركم أيها المسلمون بأنَّ الله سيَحكم بينكم وبينهم يوم القيامة بحُكْمِه العادل فيُجازيكم بكل خيرٍ وسعادة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ويُعاقبهم بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب سُوئهم في عذاب النار الذي لا يُوصَف.. ".. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)" أيْ وأُبَشّركم أيضاً أنَّ الله لن يَجعلَ ويَسْمَحَ طريقاً يُؤدّي إلي تَسَلّط الكافرين واستيلائهم علي خيرات المسلمين وإذلالهم في الحياة الدنيا، وكذلك حتماً في الآخرة، إذا كانوا مسلمين حقّاً، أيْ متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم، مُتّخِذين ما استطاعوا من كل أسباب النجاح والنصر والتّقَدُّم، مُتَوَكّلِين علي ربهم، مُتَعاونين لا مُتَنَازِعِين فيما بينهم، فهذا هو الشرط، إنهم بهذا يَقودون ولا يُقادون، يُصبحون رؤساء لا مَرْؤوسين، مَتْبُوعِين لا تابِعين، يُوَجِّهون جميع الخَلْق لكلّ خيرٍ ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، فإنْ تَرَكوا هذا، تَسَاووا معهم، فلْيَنْتَصِر إذَن الأقوي، وهم الكافرون، وليكن لهم السلطان والسيادة علي الآخر! وفي ذلك حتماً أشدّ الذلّة والتعاسة في الداريْن، فلْيَحْذر المسلمون من ذلك حَذَرَاً شديداً ليسعدوا فيهما
ومعني "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)" أيْ إنَّ هؤلاء المنافقين من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة يَتَوَهَّمون أنهم يُخادعون أي يَغِشّون الله تعالي والمؤمنين بإظهارهم للخير وإخفائهم للشرّ! ولا يشعرون أيْ لا يَعلمون ولا يُدركون، إنْ كانوا كافرين أو كانوا مسلمين لكنْ ناسِين غافلين، أنَّ الله هو خادعهم وأنهم في حقيقة الأمر ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا! لأنَّ النتائج والأضرار السيئة لخِداعهم حتما ستعود عليهم عاجلا أو آجلا في دنياهم ثم أخراهم ولأنَّ مَن يَتَوَهَّم أنه يَخْدَع غيره ويظنه جاهلا عن خداعه وهو ليس كذلك بل هو عالِمٌ به مُتَجَهِّزٌ لإفشاله وعقابه عليه إنما هو قطعا يَخدع نفسه ولأنَّ الله تعالي أولا وأخيرا وحتما يعلم بتمام العلم كل أقوالهم وأفعالهم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانهم فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه وسيُحاسبهم ويُعاقبهم عليها كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. إنهم كذلك يَتَوَهَّمون أنهم يَغِشّون المؤمنين بنفاقهم هذا وهم في حقيقة الأمر أيضا ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا لأنه أيضا ضَرَر خِداعهم عائد عليهم حيث هم الذين ظَلّوا علي نفاقهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار وعلي خوفهم ورعبهم وقَلَقِهم من أن ينكشف أمرهم ويُحَاسَبوا علي شَرِّهم في كل لحظةٍ من لحظات حياتهم فتَعِسوا بذلك في الداريْن بينما ظَلّ المؤمنون علي سعاداتهم بأخلاق إسلامهم ولم يَتَضَرَّر حتما الله خالقهم سبحانه شيئا ولا المؤمنون – وحتي لو أصابهم بعض ضَرَرٍ منهم فإنه تعالي يُصَبِّرهم عليه ويُنَجِّيهم منه ويُثِيبهم في مقابله خيراً كثيراً في دنياهم وأخراهم – لأنهم بعوْن الله وتوفيقه كاشفوهم مع الوقت بعقولهم وبفِطْنَتِهم وبحَذَرهم، ومِن بعض تصرّفاتهم هم حيث أحيانا أو كثيرا تَفْلِت ألسنتهم ببعض أقوالٍ ويفعلون أفعالاً تُظْهِر وتُؤَكّد ما يدور في عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار، فهم إذَن مَخْدُوعون خاسرون لا خادعون فائزون، في الداريْن!!.. إنَّ خلاصة الآية الكريمة والمقصود منها أنَّ المنافقين لم يُخادِعوا مُطلقا الله بل هو خادعهم لعِلْمه بما يُسِرّون، ولم يخادعوا المؤمنين لأنَّ الله يَدْفَع عنهم ضَرَر خداعهم ويكشفه لهم، وإنما يخدعون أنفسهم لأنَّ ضَرَر المُخَادَعَة يعود عليهم وقتاً ما، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لتعطيلهم لعقولهم، الأمر الذي جعلهم كأنهم عديمى الشعور فاقِدى الإحساس والإدْراك.. ".. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)" أي ومن صفاتهم السيئة كذلك والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كَسْلانِين أيْ مُتَثَاقِلين مُتَبَاطِئين لا نشاط عندهم لأدائها ولا رغبة لهم فى القيام بها، لأنهم إمَّا يُخفون الكفر ولهذا فهم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْلها ولا عقاباً على تَرْكها، وإمّا هم مسلمون لكنهم يُخفون شرَّاً حيث يَتَشَبّهون بهم ناسِين لآخرتهم ناسِين لآثار الصلاة عليهم حيث سعادتيّ الدنيا والآخرة، ولذلك فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم وهم في صلاتهم وفي كل أقوالهم وأفعالهم يُرَاءُون الناس حتي لا يُتَّهَمُوا بالكفر أو بترك أخلاق الإسلام أيْ يقولونها ويفعلونها لكي يَروهم فيَمدحوهم، فهم لم يقولوها ويفعلوها خالصة لله تعالي أيْ من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وإنما قالوها وفعلوها طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. ولذلك أيضا فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم لا يَذْكرون الله إلا ذِكْرَاً قليلاً في أوقاتٍ قليلةٍ حينما يَرَاهم غيرهم فهم ليسوا مثل المسلمين الذين يَذكرون الله على كلّ حال ويُكْثِرون مِن ذِكْره سِرَّاً وعَلَنَاً وسواء مع الآخرين أم مُنْفَرِدِين (برجاء مراجعة صُوَر الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن في الآية (152) من سورة البقرة، لتكتمل المعاني) بل هم ناسون لربهم ولدينهم تائهون في حياتهم تُعَسَاء حتماً فيها ثم في آخرتهم
ومعني "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)" أيْ مِن صِفاتهم السَّيِّئة كذلك كَوْنهم مُتَرَدِّدِين بين ذلك المذكور سابقاً وهو الإيمان والكفر، فلا هم صائِرين إلي جانب المؤمنين معهم ظاهراً وباطناً مَنْسُوبين حقيقة إليهم مُسْتَقِرِّين بينهم، ولا صائرين إلي الكافرين ظاهراً وباطناً باقين فيهم، بل ظَوَاهرهم مع المؤمنين، وبَوَاطِنهم مع الكافرين، ومنهم من هو في شكّ فأحيانا يَميل إلي هؤلاء وأحيانا إلي أولئك، والمقصود من هذا تحقيرهم وتَنْفير الفريقين من صُحْبتهم ليَنْبذهم ويَتركهم الفريقان، فكلّ فريقٍ حتي الكافرين يَحتقرهم ويَحذرهم لخِسَّتهم! إنهم دَوْمَاً في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وتَلَوُّنٍ من حالٍ لآخرٍ واضطرابٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ خوفاً من انكشاف أمرهم ومُعاقبتهم وفقدانهم منافعهم التي ينتفعونها من الفريقين.. إنَّ المنافقين يعيشون حياتهم خَسِيسِين مُنْحَطّين وَضِيعِين ذليلين تابعين مُتَشَكّكِين في كل ما حولهم خائفين منه.. إنهم بالتالي في تمام التعاسة قطعاً ويَنتظرهم حتماً في آخرتهم ما هو أعظم تعاسة.. ".. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)" أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟ وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ له يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهده ويُتابعه سبيلا أيْ طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا الكافرين أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أن تَتّخِذوهم أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)" أيْ هل تريدون بفِعْلكم هذا بموالاتهم أن تجعلوا لله دليلاً واضحاً عليكم ضدّكم وسَبَبَاً لكي يُعاقبكم حيث قد نَهاكم ولم تستجيبوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ العقلاء حتماً لا يريدون أصلاً ذلك ومِن باب أوْلَيَ لا يفعلونه حتي لا يُعاقَبوا! وإنْ خالَفوا وفَعَلُوه استحقّوا قطعاً العقاب والذي سيَتَمَثّل في تَخَلّي الله عن رعايتهم ونصرهم وفي تسليط أعدائهم عليهم فيهزموهم ويذلّوهم ويَتحكّموا فيهم ويقودوهم بأنظمتهم الفاسدة المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم لمُخالَفتها لأخلاق الإسلام وما في ذلك من ذِلّة ومَهَانَةٍ وإبعادٍ منهم لهم عن أخلاق إسلامهم فيحيون تُعَساء في دنياهم ثم أعظم وأشدّ وأتمّ تعاسة في أخراهم، فلْيَحْذروا من ذلك حَذَرَاً شديداً، ولْيَتُوبوا سريعاً إنْ فَعَلوا شيئا من هذا، ليسعدوا فيهما
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا كنتَ من التائبين، المُصْلِحين، المُعْتَصِمين بربهم، المُخْلصين، الشاكرين
هذا، ومعني "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)" أيْ هذا بيانٌ لفظاعة مصير المنافقين يوم القيامة، بعد عذابهم في دنياهم المُتَمَثّل في الخِسَّة والذلّة والقَلَق والاضطراب والتعاسة، حتي لا يَتَشَبَّه بهم أيّ أحد.. أيْ إنَّ المنافقين بسبب نفاقهم أيْ إظهارهم للخير وإخفائهم للشرّ وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات سيكونون في الطابق الأسفل من النار أيْ في أعمق مستوي حيث أشدّ العذاب والألم والتعاسة، لأنَّ ضَرَرهم أشدّ حتي من الكفّار الذين كفرهم وضَرَرهم واضح وبالتالي يَسْهل التعامُل معه وتَجَنّبه أمَّا هم فيُضِرُّون في الخَفاء ويَطعنون من الخَلْف فيَحتاج تَجَنّبهم لمزيدٍ من اتّخاذ الأسباب لكَشْفهم، وهذا الحال الفظيع وهذا الخلود هو في المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخفون الكفر أمّا المنافقين من المسلمين الذين لا يُخفون كُفْراً ولكنْ شَرَّاً مَا مِن الشرور مع إسلامهم فإنهم يُحاسَبون علي قَدْرها إنْ لم يَتوبوا منها من غير الخلود في جهنم بل يخرجون بعد قضاء فترة عقوبتهم إلي أقلّ درجات الجنة.. ".. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)" أيْ ولا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهدهم ويُتابعهم نصيراً أي ناصراً ينصرهم بأنْ يُنقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئاً من أيِّ عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ يُناسبهم عندما ينزل بهم
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَأَصْلَحُوا.." أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ.." أيْ وتَحَصَّنوا بالله دائما ولَجَأوا إليه وتوكّلوا أيْ اعتمدوا عليه وحده (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، واعتصموا برسوله الكريم (ص)، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظار باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله (ص) يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.." أيْ وكانوا مُخْلِصين مُحسنين لله دينهم أيْ طاعتهم أيْ عند تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق دينهم الإسلام، أيْ يقولوا كلّ أقوالهم ويعملوا كل أعمالهم من أجل الله وحده لا من أجل غيره، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. ".. فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.." أيْ فهؤلاء المذكورون المَوْصوفون بهذه الصفات الطيبة، بالتوبة حيث الرجوع لربهم ولإسلامهم وبالإصلاح وبالاعتصام بالله وبإخلاص الدين له، بسببها يَخرجون حتماً من فريق المنافقين وما هم فيه من انحطاطٍ إلى صفوف المؤمنين وسُمُوِّهم وعُلُوِّهم، وفي هذا تشريفٌ لهم بسبب توبتهم وتشجيعٌ عليها.. إنهم في دنياهم سيكونون بعد ذلك قطعاً مع المؤمنين الصادقين الذين لم يَصْدر منهم نفاق أىْ معهم فى فضيلة الإيمان الصادق يُعين بعضهم بعضاً بعوْن ربهم علي كل خيرٍ وسعادةٍ لأنَّ التوبة الصادقة تمحو أيَّ سوءٍ سابق.. ثم هم في الآخرة سيَشتركون في الجنة مع المؤمنين في حُسْن جزائهم حسب درجات أعمالهم.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)" أي وسيُعطي الله المؤمنين بكل تأكيدٍ عطاءً عظيماً هائلاً لا يُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْلهم وصِدْقهم حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة
ومعني "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)" أيْ هذا بيانٌ لكمال رحماته تعالي وتمام غِنَاه عن خَلْقه وتوضيحٌ لِمَتَيَ يكون العذاب.. أيْ ما يَستفيد الله بعذابكم؟ أيْ لا يَفعل ولا يَصنع بعذابكم شيئاً ولا حاجة له به! إنه لن يَنتفع بأيِّ شيءٍ من طاعتكم ولن يُضَرَّ بمعصيتكم لأنه كامل الغِنَيَ ولن يتأثّر مُلْكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ لا يُعَذّبكم الله ما دُمْتُم قد شكرتم وآمنتم، شكرتم نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، وآمَنْتم أي صَدَّقتم بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكتم وعملتم بكل أخلاق إسلامكم.. إنَّ الله تعالي لا يُعَذّب في الدنيا والآخرة بما يُناسب إلاّ مَن يَسْتَحِقّ العقاب وهو الذي يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لأنه ليس من العدل قطعاً مساواته بمَن يَفعل الخيرات والمصالح والمنافع والسعادات له ولغيره.. ".. وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنه تعالي لا يُعَذّب الشاكرين المؤمنين.. أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه شاكراً أيْ كثير الشكر أي يَقبل القليل من عمل الخير ويُعطي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسِب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خير حتي ولو كان قليلا ليكون تشجيعا له علي الاستمرار فيه والزيادة منه فتزداد بذلك سعادة فاعله في الداريْن، وهو أيضا كان عليماً حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً عفيفَ اللسان لا تَتَلَفّظ بلفظٍ إلا إذا كان حَسَنَاً طيّباً لَيِّنَاً سَهْلاً مُتَوَاضِعَاً نافعاً مفيداً مُصْلِحَاً لا إساءة فيه لأيِّ أحدٍ ولا إيقاع لأيِّ خُصُومَة مَصْحُوبَاً بكل نوايا الخير المُمْكِنَة بداخل العقل.. إنه بانتشار عِفّة اللسان ينتشر الرُّقِيّ والتّطَوُّر والنّمُوّ والخير، ويَرْقَيَ الجميع ويتلاحَمون ويتحابُّون ويتكاتَفون ويتعاونون ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإيّاك إيّاك أن تكون بَذِيء اللسان تقول السوء والشرّ والغليظ والفاحِش والمُغْرِض والمُسِيء والساخِر والمُوُقِع للخُصُومَات من الأقوال، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويَتَشاحَنون وقد يَقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)" أيْ لا يحب الله أبداً بالتأكيد الإعلان أو الإسرار بالسَّيِّء من القول أو العمل الذي يُسِيء للنفس وللغير ويَضُرّهم ويُتعسهم، ومَن يفعله فهو حتماً من المُسيئين الذين لا يُحبّهم سبحانه، لأنه لا يحب قطعاً إلاّ الحَسَنَ مِن القول والفِعْل في العَلَن والسِّرّ، ومَن لا يحبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب سُوُئِه، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويتشاحَنون وقد يقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن، وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.." أيْ إلا مَن كان مظلوما، فقد سَمَحَ له الإسلام – إنْ لم يَصبر ويَعفو لينال الأجر الأعظم – ببعض الجهر بالسوء من القول بالقَدْر فقط الذي يَدْفع به الظلم عنه ولا يكون خارجا حينها عن حب الله لأنَّ دفع الظلم بما يُستَطاع أمر واجب يُحبّه سبحانه حتي لا ينتشر الظلم بأضراره وتعاساته وحتي يمتنع الظالم عن ظلمه ثم هذا هو من باب أخفّ الضرَرَيْن حيث سيكون قطعا أقلّ ضَرَرَاً وتعاسة من غياب العدل وأضرار ذلك وتعاساته الشديدة وأقلّ ضَرَرَاً من أن يتحوّل الأمر إلي ما هو أشدّ كقتلٍ مثلاً إذا لم يَتِمّ التفريج عن الشعور بالظلم ببعض القول، فمِن حقّه مثلاً أن يرفع صوته ببعض الألفاظ السيئة التي قالها مَن ظلمه ليَجتمع البعض فيَمنعوا أذاه عنه أو يشتكيه لمسئولٍ فيَذكر له ما قال أو يدعو عليه أو ما شابه هذا، لكنْ حتماً إنْ كان الظلم قَذْفاً أو سَبَّاً أو افتراءً وكذباً ونحوه مِمَّا يُخالِف أخلاق الإسلام فلا يُقَابَل بمِثْله وكذلك لا يزيد في الجهر بالسوء عن القَدْر الذي يُحقّق دَفْع الظلم وإلاّ وَقَعَ في ظلمٍ وكان ظالماً هو أيضا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (41) من سورة الشوري "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ")، وإنْ أمكنه بوسيلةٍ من الوسائل المُتَاحَة المُبَاحَة دَفْع ظالمه عن ظلمه بغير الجهر بالسوء من القول فلا يَجهر حينها، وإنْ عَفَا عنه فهو أفضل، وسيكون هو الأقوي والأعَزّ بقوة الله وعِزّته، وسيُؤَثّر غالباً فيمَن ظلمه كما قال تعالي ".. ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.." (فُصِّلَت:34) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وسيُوقِف امتداد البَذاءَة، وسيَحمي المجتمع من انتشارها، وله أجره العظيم مُؤَكّداً في الداريْن كما وَعَدَ تعالي ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)" (الشوري:40) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وعليما أيْ يعلم دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً في خير، تُفَكّر في خير، تَبْحث عن خير، تقول خيرا، تفعل خيرا، تُعَلّم خيرا، تُعين علي خير، تمنع من شرّ، تعفو عن سوء.. إنه بانتشار كل أنواع الخير، وانحسار كل أنواع الشرّ بغَلَبَة وتَوَسُّع الخير عليه، ستكون حياة الناس كلها بل الخَلْق كلهم خيراً علي خير، نوراً علي نور، وسيَعُمّ الخير الغامِر والبركة الغامِرة من الله الكريم العَفُوّ الرحيم القادر علي كل شيء، وسيسعد الجميع في دنياهم ثم أعظم وأتمّ وأخلد سعادة في أخراهم
هذا، ومعني "إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)" أيْ هذا تشجيعٌ للناس علي الإكثار من فِعْل الخير سواء أكان عَلَنَاً أم سِرَّاً وعلي العفو والتسامُح فيما بينهم ليسعدوا بذلك في الداريْن.. إنْ تُظْهِروا خيراً مَا، قولاً أو فِعْلاً، والخير هو كلّ نافعٍ مُسْعِدٍ للنفس وللغير في الدنيا والآخرة، هو كل ما يحبه ويطلبه الله تعالي ورسوله الكريم (ص) وقرآنه المجيد وإسلامه الشامل العظيم، سواء أكان عِلْمَاً أم عملاً أم إنتاجاً أم ربحاً أم إنجازاً أم بناءً أم ابتكاراً أم تخطيطاً أم تعاوناً أم غيره، أو تُخْفُوه أيْ تُسِرُّوه، أو تَعفو عن سوءٍ – وهذا العفو قطعاً هو من الخير أيضا – بأنْ تَصْفحوا عمَّن أساء إليكم وتُسامِحوه وتَتَساهلوا فيما بينكم وتَمْتَنِعوا عن إضرارِ بعضكم بعضا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية السابقة حيث هذه الآية تأكيد لمعانيها، ثم الآية (134) من سورة آل عمران "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ")، يُجازيكم الله على ذلك الأجر العظيم حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد في أخراكم ويتجاوَز عن سيئاتكم لأنه كان عَفُوَّاً قديراً أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان قديراً أي كثير عظيم القُدْرة لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد.. فهو قادر حتماً علي عقوبة مَن يُسيء ومع ذلك يَعفو كثيراً وعفوه دوْمَاً يَسْبِق غضبه ويَحْلم ويَصْبِر علي المُسِيء ولا يُعَجِّل بعقوبته له إلا إذا وَصَل لعِلْمه أنَّ فِعْلَه إساءة وأصَرّ واستمرّ عليه، فتَشَبَّهُوا إذَن بصفاته تعالي بأنْ تَعفوا عمَّن أساء إليكم رغم قُدْرتكم علي عقابه لتنالوا أعظم الأجر في الداريْن
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَبْحَثون عن حلولٍ وَسَطٍ بين الإيمان والكفر! لأنَّ هذا الوَسَط في هذه الحالة هو كفر! لأنَّ أيَّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوة يُعَدّ كفراً!.. إنَّ البعض قد يُخادِع مُدَّعِيَاً أنه قد آمَنَ برسولٍ سابقٍ قَبْل الرسول الكريم محمدٍ (ص) وبما جاء به فهو إذَن مؤمن فلماذا يُطْلَب منه الإيمان برسولٍ آخر؟! رغم أنَّ كلّ رسولٍ يُوصِي بالإيمان بمَن يأتي مِن بَعْده وبتشريعاتهم لأنهم يأتون بما يُناسب ويُسْعِد البشرية كلها في كل عصر، والتي أصلها الإسلام، إلي محمدٍ (ص) ورسالته الخاتمة الصالِحَة المُسْعِدَة لجميع الخَلْق حتي يوم القيامة علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم، فمَن كَفَرَ به فقد كفر برسوله ذاته الذي يَدَّعِي أنه قد آمَنَ به!! (برجاء مراجعة الآية (81)، (82) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الميثاق الذي أخذه الخالِق تعالي علي رسله بأن يُوصِي كلٌّ منهم المؤمنين به باتّباع مَن يأتي بَعده)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)" أيْ إنَّ الذين يكذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ويريدون أن يُفَرِّقوا بين الإيمان بالله وبين الإيمان برسله بأن يُعْلِنوا إِيمانهم بوجود الله تعالي وأنه خالق هذا الكوْن لكنهم يكفرون برسله أو ببعضهم، فيُكَذّبونهم ولا يعملون بما جاءوهم به من أخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل شئون حياتهم بل يعملون بأنظمةٍ مخالفةٍ لها، فهم إذا فَعلوا هذا ورفضوا رسالة الرسل ورَدُّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم فكانوا مُمْتَنِعِين من التزام العبودية أيْ الطاعة التى أمروا بالتزامها من الله الذي أرسلهم كان هذا كالكفر به سبحانه تماما لأنه يعني تَرْك عبوديته وعبادة غيره وبالتالي فادِّعاء الإيمان به بغير الإيمان برسله المَبْعُوثين منه ليُعَلّمهم الإسلام وكيفية عبادته يكون حتماً ادِّعاءً كاذباً ومُرَاوَغَة لتبرير كفرهم وعدم عملهم بنظام الإسلام، لأنَّ الإيمان هو وحدة مُتَكَامِلَة تشمل الإيمان بالله وجميع رسله وكتبه وآخرته ومَن كَفَرَ بجزءٍ من هذه الوحدة فقد كَفَرَ بها كلها لأنها لا يمكن تَجْزِئتها وفَصْل بعضها عن بعض.. ".. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.." أيْ ويقولون مُتَبَجِّحِين مُعانِدين مُكَذّبِين مُسْتَكْبِرين نُؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعضهم كما قال اليهود نؤمن بموسى والتوراة ونكفر بما جاء بعد ذلك كعيسي والإنجيل ومحمد والقرآن، وكما قال النصارى نؤمن بعيسى والإنجيل ونكفر بمحمد والقرآن، وكقول مَن يَتَشَبَّه بهم، لكنَّ الإيمان يعني الإيمان بهم جميعاً لأنَّ كلّ رسولٍ يُوصِي بالإيمان بمَن يأتي مِن بَعْده وبتشريعاتهم لأنهم يأتون بما يُناسب ويُسْعِد البشرية كلها في كل عصر، والتي أصلها الإسلام، إلي محمدٍ (ص) ورسالته الخاتمة الصالِحَة المُسْعِدَة لجميع الخَلْق حتي يوم القيامة علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم، فمَن كَفَرَ به فقد كَفَرَ برسوله ذاته الذي يَدَّعِي أنه قد آمَنَ به!!.. ".. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)" أيْ وهم يريدون بقولهم وفِعْلهم هذا أن يتّخذوا بين ذلك أيْ بين الإيمان والكفر طريقاً وَسَطَاً أيْ دِينَاً وسطا يَتّبعونه يَصِلُون به إلي تحقيق شرورهم فكأنهم علي دينٍ وهم في الحقيقة يفعلون من خلاله ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار مِمَّا يُخَالِف الإسلام، ولا تَوَسُّط قطعاً بين الإيمان والكفر، لأنَّ هذا الوَسَط في هذه الحالة هو كفر! لأنَّ أيَّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوة يُعَدّ كفراً! لأنَّ الإيمان هو وحدة مُتَكَامِلَة تشمل الإيمان بالله وجميع رسله وكتبه وآخرته ومَن كَفَرَ بجزءٍ من هذه الوحدة فقد كَفَرَ بها كلها لأنها لا يمكن تَجْزِئتها وفَصْل بعضها عن بعض
ومعني "أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة سابقاً ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الكافرون حقّ الكفر أيْ كامِلُوا الكفر المُنْغَمِسُون الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذا تأكيدٌ لَمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ هناك بالفِعْل درجة متوسطة بين الإيمان والكفر بل مَن يَفعل ذلك هو كافر كامِل الكفر.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)" أيْ أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالذي يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُكَذّبين الذي ذُكِرَ في الآيات السابقة فالذين آمنوا بالله ورسله – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – ولم يُفَرِّقوا بين أحدٍ منهم فيُكَذّبوا ببعضهم ويُصَدِّقوا بالبعض الآخر كما فَعَلَ الكافرون الذين سَبَقَ ذِكْرهم حيث كَذّبوا بالرسول الكريم محمد (ص) والقرآن الذي أُوحِيَ إليه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم لأنَّ الكتب كلها التي حَمَلَها كلّ الرسل أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد والإيمان بذلك – وبالملائكة – هو استكمالٌ للإيمان بالله تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَد ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الحَسَنة الطيّبة سوف يُعطيهم ربهم عطاءاتهم العظيمة الهائلة التي لا تُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْلهم وصِدْقهم ونتائجه حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُعانِدَاً مُكَاِبَراً مُغَالِطَاً مُرِاوِغَاً تطلب مُعجزاتٍ ومُستحيلاتٍ لكي تَتّبِع الحقّ وتستجيب له رغم علمك به وتأكّدك منه.. إنَّ هذه الصفات هي أصول التعاسة لأنها تؤدّي غالبا إلي التّلَوُّن والخِسَّة والتّلاَعُب والغَدْر والخيانة ونحو ذلك من أخلاقِيَّاتٍ وَضِيعَةٍ لو انتشرت بين الناس لَتَعِسوا جميعا في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)" أيْ يَطلب منك اليهود والنصاري يا رسولنا الكريم، بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة، كدليلٍ علي صِدْقك وكمعجزةٍ لك كمعجزات موسي وعيسي (ص) وحتي يُصَدِّقوك، أن تُنَزّل عليهم كتابا من السماء يرونه بأعينهم عند نزوله يكون خاصاً لهم يأمرهم بتصديقك وطاعتك والعمل بالإسلام الذي جئت به! إنهم لو كانوا يريدون الإيمان حقاً لَمَا وَجَّهُوا إليك هذه الأسئلة المُتَعَنّتَة وما يُشبهها لأنَّ الأدِلّة القاطعة على صدقك قد ثبتت بنزول أعظم معجرة عليك وهو القرآن العظيم حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَةٍ تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنَّ المشكلة إذَن ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.." أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم!.. أيْ فلا تَتَعَجَّب منهم ولا تَتَأَثّر بهم واستمرّ في تمسّكك وعملك بإسلامك ودعوتك له ولا تَسْتَعْظِم وتَسْتَكْثِر ما سألوك إيّاه وطلبوه منك فقد سأل آباؤهم وأجدادهم رسولنا موسي قبلك أكبر وأكثر وأعظم جَهْلاً وجُرْمَاً وقُبْحَاً وجُرْأة علي الله من ذلك وتَوَارَثوا هذا القُبْح ولم يجتهدوا في علاجه والتّخَلّص منه باتّباع أخلاق الإسلام التي كانت في التوراة عندهم وقتها، حيث قالوا له أَرِنَا الله جَهْرة أيْ لن نُصَدِّق لك في أنَّ الله موجود وأننا علينا عبادته أيْ طاعته باتّباع الإسلام الذي في التوراة وأنها كلامه لا كلامك أنت حتي نراه جهرة أيْ عَلانِيَة ظاهراً لنا بلا أيِّ ساتِر وهو الذي يُخبرنا بها ويُعَلّمنا إيّاها، فإنْ لم يَحدث ذلك فلن نُؤمن!! أيْ إنهم لم يُصدقوه رغم المُعجزات التي حَدَثَت أمامهم علي يديه والتي أيَّدْناه بها وآخرها شَقّ البحر وإنجائهم وإهلاك عدوهم والتي تَدلّ أيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام صِدْقه.. إنهم قد تَجَرَّأْوا علي هَيْبَة الله تعالي والذي مِن المستحيل أنْ يروه في الدنيا رحمة بهم لأنَّ عيونهم غير مُؤَهَّلَة لهذا ولنْ يحتملوا رؤيته – أمَّا في الآخرة فأهل الجنة سيكونون مُؤَهَّلِين لرؤيته والتّمَتّع والسعادة بذلك – كما أنه لكي يَرُوه لابُدَّ له من مكانٍ وهو تعالي لا مكان له بل معهم وجميع خَلْقه دوْمَاً في كل مكانٍ بتمام قُدْرته وعلمه ثم هو من الغَيْب الذي به يُخْتَبَر المُكَذّب من المُصَدِّق الذي يُحْسِن استخدام عقله فيَرَي أثره سبحانه في كل مخلوقاته المُعْجِزات في كل كوْنه حوله دون أن يراه مباشرة.. ".. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ.." أيْ ولذلك وبسبب ظلمهم أيْ تَعَدِّيهم وتَجَرُّؤهم وتكذيبهم وعِنادهم واستعلائهم علينا وعلي رسولنا الكريم أصابتهم ونَزَلَت وانْقَضَّت عليهم الصاعقة وهي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا، وهم يَرَوْنها بأعينهم أمامهم ويَرَوْن حالهم وعذابهم وهلاكهم دون أن يستطيعوا مَنْع ذلك ليكون أشدّ تعذيباً لهم.. ".. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ.." أيْ ثم لم يَرْتَدِعُوا ويَمتنعوا عن ظلمهم وسُوئهم بهذا العقاب ويَتّعِظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ولكنهم أصرّوا علي ما هم فيه بل فَعَلوا بعد ذلك ما هو أفظع قُبْحَاً وجَهْلاً وخَبَلَاً حيث جعلوا العجل الذي صَنعوه بأيديهم إلاهاً لهم يعبدونه أيْ يُطيعونه غير الله تعالي، وذلك مِن بعد ما جاءتهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بكتابهم أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يَعبدوه لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يعبدونه عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوا الإسلام الذي في التوراة ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له إذ أين عقولهم هل أصابهم الجنون؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! لقد تَركوا عبادة خالقهم الذي أنجاهم وأنْعَمَ عليهم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقهم ورَعاهم وأَمَّنَهم وأرْشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن وعبدوا عِجْلاً بدلاً أن يعبدوه ويشكروه!!.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ.." أيْ فسامَحْناكم عن ذلك الفِعْل الدنِيء باتّخاذكم العِجْل مَعْبُودَاً غير الله تعالي ومَحَوْنا ذنوبكم كأن لم تكن رغم عِظَمها ولم نعاقبكم عليها لتوبتكم منها.. وفي هذا تشجيعٌ لأهل الكتاب ليَتوبوا ويُسْلِموا ليَتوب الله عليهم كما تابَ علي أجدادهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما.. ".. وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)" أيْ وأعطينا موسي دليلاً واضحاً قويَّاً يَقْضِي به علي أدلة وحجَج أعدائه.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم، في دنياهم وأخراهم، كما حَدَثَ مع موسي (ص)
ومعني "وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)" أيْ وكذلك من صور تكذيبهم وعنادهم واستكبارهم واستهزائهم وإخلافهم للعهود والمواثيق أننا قد رفعنا فوقهم جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي (ص) وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منهم وتأييداً لصِدْق رسولنا ليتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه.. ".. بِمِيثَاقِهِمْ.." أيْ بسبب ميثاقهم، أيْ بسبب أخْذِ الميثاق عليهم أيْ العَهْد والوَعْد المُؤَكّد مع الله من خلال موسي (ص) أن يُوفوا ويَلتزموا ولا يُخالفوا أخلاق الإسلام التي في التوراة حيث لمَّا يَروا رَفْع الطور يزدادوا إيماناً بسبب هذه الآية العظيمة فيَسْهل عليهم العمل والتمسّك بهذا الميثاق وكذلك يخافوا أن يقع عليهم إذا هم خَالَفوه فيُعينهم ذلك علي عدم مُخَالَفته مُطلقاً، فالأمر هو تَرْغيب وتَرْهيب لهم للعمل بالتوراة.. ".. وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا.." أيْ ووَصَّيْناهم وقلنا لهم من خلال موسي (ص) بعد إنقاذهم من ظلم فرعون ادخلوا هذه البلدة من بلاد أرضنا حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء وتأكلون منها أكلاً رَغَداً أيْ هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاؤون من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدون وكونوا دوْمَاً عند دخولكم إليها من بابها ومدْخلها وأنتم مقيمون فيها وفي كل أحوالكم وشئون حياتكم سُجَّدَاً أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين مُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو السجود له بتَوَاضُعٍ وخُشوع وسُكُون في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ.." أيْ وكذلك وَصَّيْناهم وقلنا لهم لا تعتدوا علي وَصَايَانا وأوامرنا فخَالَفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعِنا للصيد في هذا اليوم تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي يَنطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يَقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منهم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام هذا البعض بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!!.. ".. وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)" أيْ وأخذنا منهم من خلال موسي (ص) عهداً ووعداً وعقداً مُوَثّقَاً غليظاً أيْ عظيم الشأن هامّا بالغ الخطورة شديداً قويّاً مَتيناً مُؤَكَّداً لازِم الاحترام والتنفيذ لا يحلّ لهم أن ينقضوه أو يُخالفوه، علي كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وعلي أن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي في التوراة، ولكنهم نَقَضُوا عهودهم أيْ لم يُوَفّوا بما عاهَدوا عليه وخَالَفوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)" أيْ فبسبب نقضهم عهدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في تَوْرَاتِهم، لَعَنّاهم أيْ طَرَدناهم وأبْعَدناهم من رحماتنا وإسعاداتنا في دنياهم وأخراهم، وكذلك لَعَنَّاهم بسبب كفرهم أي تكذيبهم بآياتنا وعدم تصديقهم بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، وأيضا لَعَنّاهم بسبب قتلهم لأنبيائنا ظُلماً وعُدْواناً، وبسبب قولهم قلوبنا غُلْف أيْ عقولنا مُغَلّفَة بأغْلِفَةٍ تَمنع فَهْم ما نُدْعَيَ إليه من إسلامٍ بما يدلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه من سوء بلا أيِّ تغيير!!.. ".. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ.." أيْ ليس الأمر كما يَدَّعون كذباً أنَّ عقولهم غُلْف بحيث لا يَصِل إليها الإسلام بل هى مُتَمَكّنَة تماما من قبوله من خلال الفطرة التي جعلها الله تعالي مُسْلِمَة أصلا بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فطَبَعَ الله علي عقولهم بسبب هذا، أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)" أيْ فبالتالي، فبسبب كفرهم هذا والذي أدَّيَ إلي لعنة الله عليهم وغضبه منهم وعدم توفيقه لهم بتيسير أسباب الهداية إليهم حيث لا يُيَسِّرها إلاّ لمَن يريدها هو بكامل حرية إرادة عقله، لا يؤمنون أمثال هؤلاء إلاّ قليلاً من الأحيان وإلا عدداً قليلاً منهم وهم الذين يَستيقظون ويُحسنون استخدام عقولهم ويستجيبون لنداء الفطرة بداخلها
ومعني "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كفرهم وعلي تَعَدُّد جرائمهم.. أيْ ولَعَنّاهم أيضا بسبب كفرهم بعيسي (ص) والإنجيل المُوُحَيَ إليه ثم بمحمد (ص) والقرآن العظيم وبسبب قولهم علي مريم العَفِيفَة المُصْطَفاة المُطَهَّرة كذباً شديداً، والبُهْتان هو الكذب الفظيع غير المعقول الذي يُبْهِت العقل أيْ يُحَيِّره لأنه لا مُبَرِّر ولا أصل له ولشِدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة، حيث قالوا عليها أنها قد زَنَت وأنْجَبَت ولدها عيسي من زنا حيث ولدته بغير أبٍ رغم تأكّدهم من عِفّتها وبراءتها من خلال معايشتهم لها منذ صغرها ورغم تَبْرِئة الله لها ببيان أنه قد اصطفاها وطَهَّرَها وبإنْطاق عيسي وهو مولود ليُبَيِّنَ ذلك وأنه سيكون رسولا
ومعني "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)" أيْ ولَعَنّاهُم كذلك بسبب قولهم مُتَفَاخِرين مُتَبَجِّحِين مُتَطَاوِلِين علي الله ورسله مُسْتَخِفّين بقوّته سبحانه مُتَوَهِّمِين عدم حمايته لرسله ودينه الإسلام إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله – والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي (ص) سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة – وإنهم لكاذبون حيث ما قتلوه كما ادَّعوا وما صَلَبوه أيْ شَدُّوه علي خَشَبَةٍ تُشْبِهُ الصليب لقتله عليها، رغم محاولاتهم المُسْتَمِيتَة المُتَعَدِّدَة لفِعْل هذا، ولذلك فهم يُعَدُّون من القتلي للرسل رغم عدم تَحَقّق جريمتهم لأنهم لو تَمَكّنوا مِن قَتْله لَقَتَلوه.. ".. وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.." أيْ ولكنَّ الحقّ المُؤَكّد الذي حَدَث أنَّ الله قد خَدَعهم حيث شَبَّهَ لهم شخصاً شَبِيهَاً بالمسيح هو منهم وصاحبهم ومِمَّن يُريدون قَتْله فتَشَابَه والْتَبَس الأمر عليهم فقتلوه وصَلَبوه وحَمَي رسوله الكريم ونَجَّاه بقُدْرته وعِلْمه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وخابوا وخسروا هم في الداريْن.. ".. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ.." أيْ وإنَّ الذين تَضَارَبَت أقوالهم من اليهود والنصاري فيه، أي في شأنِ عيسي (ص)، من حيث اعتباره أنه إلاهٌ أو ابن إلاهٍ أو ليس برسولٍ بل كاذب يستحقّ القتل أو ما شابه هذا من تخاريف أو هم قتلوه بالفعل أم قتلوا غيره، كلّ هؤلاء هم بالتأكيدِ في شكّ منه أيْ في حيرةٍ من حقيقة أمره، ليس لهم به أيْ بشأنه أو بشأن قتله أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد ولا دليل موثوق يستندون إليه إلا السَّيْر خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتماً لا قيمة له ولا يَنْبَنِي عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد وهو أمر لا يمكن الاعتماد عليه مُطلقاً كدليلٍ علي صِحَّة أقوالهم.. ".. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)" أيْ وما قتلوه قطعاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ وليس ظنّاً كظَنّهم.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي إنْجاء الله لعيسي (ص) وكَذِب ادِّعائهم بقَتْله
ومعني "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" أيْ ما قتلوه وما صَلَبوه لكنْ رَفَعَه الله إليه بجسده ورُوحه وخَلّصه من الذين كفروا ونَجّاه من أعدائه الذين يريدون قتله ليكون في جنّات السماء حيث مكان كرامته تعالي التامّة له وإنعامه الكامل عليه.. إنَّ هذه هي مُعجزة أخري لعيسي (ص) يَتّعِظ بها كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُعينه علي أن يُصَدِّق بوجود خالقٍ يَرْعَيَ خَلْقه، أن تكون نهاية حياته علي الأرض هكذا، فبدايتها معجزة حيث خُلِقَ من غير أبٍ وأثناءها معجزات مُتَتَابِعات ونهايتها معجزة رَفْعِه بالجسد والروح.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً قاهِرَاً لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وكان حكيماً في كلّ أموره يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)" أيْ وما مِن أحدٍ من اليهود والنصاري إلا قبل موته سيُؤْمِن بالتأكيد بعيسي (ص)، أيْ ما منهم مِن أحدٍ يأتيه الموت ويُعاينه حقيقة إلا ويُدْرك حينها كل الحقائق أنَّ الله تعالي حقّ وعيسي (ص) رسول لا إله ومحمد (ص) حقّ، وهذا تحذيرٌ لكلّ مَن يسمع القرآن منهم الآن أن يُؤمن ليسعد في الداريْن قبل أن يَصِلَ إلي هذه المرحلة حيث لا ينفعه شيءٌ فيتعس أشدّ التعاسة فيهما.. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه ما مِن يهوديّ ولا نصرانيّ إلا سيُؤمن بعيسي (ص) عندما يَنْزِل من السماء آخر الزمان قبل موت عيسي (ص) وذلك عند اقتراب الساعة وخروج المسيخ الدّجَّال ونزول عيسي لقتاله مع المسلمين حيث يُؤمن أهل الكتاب الموجودون في ذلك الزمن به جميعا ولا يكون إلا دين الإسلام ويقاتلوه معهم لتطهير الأرض من شروره وتعاساته كما وَرَدَت بذلك أحاديث الرسول (ص).. ".. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)" أيْ ويوم القيامة يكون عيسي (ص) علي اليهود والنصاري شهيداً أيْ يَشهد عليهم بأنه قد بَلّغهم بعبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريك وباتّباع أخلاق الإسلام التي في التوراة والإنجيل وبأنه عبده ورسوله لا إله ولا ابن إله وبأن يؤمنوا بخاتم الرسل الذي سيأتي بعده محمد (ص) وبالقرآن الذي سيُوحَيَ إليه ويكونوا من المسلمين، وسيَشهد كذلك بتكذيب مَن كذَّبه وتصديق مَن صَدَّقه حينما كان بينهم.. فلْيُحْسِن إذَن العاقل منهم الذي ما زال علي يهوديته أو نصرانيته حتي الآن الاستعداد لهذا اليوم ولهذه الشهادة بأن يُسْلِم قبل موته ويعمل بأخلاق الإسلام قبل فوات الأوان
ومعني "فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ فِعْل الشرّ وتَرْك أخلاق الإسلام يؤدّي حتماً إلي عقوبة له بما يناسبه من الله تعالي تَتَمَثّل في الحِرْمان من خيرٍ وسعادةٍ والإصابة بشرٍّ وتعاسةٍ بمِقداره، في الدنيا ثم الآخرة، فلْيَحْذَر تماما كل مسلم إذَن هذا بأنْ يفعل الخير دائما ويتوب ويرجع عن أيِّ شرٍّ سريعاً لينال تمام خيريّ وسعادتيّ الداريْن.. أيْ فبسبب ظلمٍ شديدٍ من اليهود – والظلم قد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَنَعْنَاهم من بعض طيباتٍ هي في الأصل حلال، كعقوبةٍ لهم علي ظلمهم، لفترةٍ، لمصلحتهم، ليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم فتُحَلّل لهم مرة أخري فيسعدوا في الداريْن، وليكون ذلك تدريباً لهم علي تَرْك بعض الحلال، كما في حالة الصيام، فتزداد إرادة عقولهم فينطلقون بهذه الإرادة القوية في حياتهم يستكشفونها أكثر ويسعدون بها أكثر وأكثر، ولكنهم استمرّوا في بُعْدِهم عن الله والإسلام ولم يستفيقوا فازداد عقابه لهم وازدادت تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنهم مِن ظلمهم الشديد كانوا هم وليس الله تعالي يُحَرِّمون أحيانا علي أنفسهم والناس حولهم أشياء لم يُحَرِّمها سبحانه في التوراة كتَلاَعُبٍ وتحريفٍ فيها وجُرْأةٍ علي شرعه فيُحَرِّمونها في بعض الأحيان تشديداً عليهم ويُحَلّلونها لهم أوقاتاً أخري تخفيفاً عنهم لتحقيق ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَرَكهم الله فيما حَرَّموه علي أنفسهم وغيرهم بسبب إصرارهم التامّ عليه ليذوقوا تعاسات ذلك لعلهم يستفيقون فكأنه هو الذي حَرَّمَه بينما هم مَن حَرَّموه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآيات (93)، (94)، (95) من سورة آل عمران "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)").. إنهم لو كانوا استفاقوا وعادوا لربهم ولتَوْرَاتِهم في زمنها بعد أول عقاب، ولو أسلموا بعد مَجِيء القرآن الكريم، لَسعدوا حتماً في الداريْن، لكنهم باستمرارهم علي ما هم فيه سيتعسون قطعاً فيهما.. ".. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)" أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسبب صَدِّهم عن سبيل الله كثيراً أيْ صَدَّاً كثيراً في ذاته وصَدَّاً لناسٍ كثيرين وحتي لأنفسهم، وهذا أيضا صورة من صور ظلمهم الشديد ومزيد من التفصيل له، والصَّدِّ عن سبيل الله هو المَنْع عن طريق الله أيْ المَنْع عن الدخول للناس في دين الله الإسلام وإيذائهم ومحاولة رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا
ومعني "وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)" أيْ وهذا أيضا صورة من صور ظلمهم الشديد ومزيد من التفصيل له.. أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسبب أخذهم الربا أيْ تعاملهم بالربا وأخذ ما ينتج منه وقد مُنِعُوا عنه في التوراة لضَرَره، وعَمَّا شابَهَ ذلك من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن.. ".. وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.." أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسببِ مَا هو أشمل من أخذهم الربا وهو أكلهم ممتلكات الناس بأخذها بسببٍ باطلٍ غير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو مُغًالًطًةٍ أو سرقةٍ أو رشوةٍ أو ما شابه هذا.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)" أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين منهم فقط الذين أصَرُّوا علي كفرهم حتي ماتوا عليه وليس قطعاً لمَن آمَنَ وعمل بأخلاق الإسلام التي في التوراة معهم والتي كانت مناسبة لزمنهم ثم مَن حضر منهم زمن القرآن الكريم فأسْلَمَ فهؤلاء لهم حتماً سعادتيّ الدنيا والآخرة – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالذي يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – أعْدَدْنَا لهم عذاباً أليماً أيْ مُؤْلِمَاً مُوجِعَاً في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ليس كل اليهود – ولا كل النصاري – مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، لكنْ الثابتون في العلم منهم المُتَحَقّقون فيه المُتْقِنُون لِمَا يَعْلَمونه إتقاناً يُبعدهم عن الانحراف عن الحقّ ويجعلهم متمسّكين عامِلين تماماً بكل أخلاق دينهم لا يُؤَثّر فيهم أيُّ فسادٍ أو شكّ أو تشويهٍ له أو اعتداءٍ عليه أو نحو هذا، وكذلك المؤمنون من عَوَامِّهم وليس من الراسِخين في العلم منهم فقط وأيضا المؤمنون من كل أمة الإسلام من زمن الرسول محمد (ص) حتي يوم القيامة، كلّ هؤلاء، الراسخون والمؤمنون، يُؤمنون أيْ يُصَدِّقون بما أنزل إليك يا رسولنا الكريم محمد وهو القرآن العظيم ويعملون بأخلاقه ويؤمنون بما أنزل من قبلك من كتبٍ علي رسله السابقين لك مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيمانهم بها استكمال لإيمانهم بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علي المؤمنين أن يَتَّصِفوا به وحتي لا يكون بينهم وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعهم من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم.. وفي هذا دعوة ضِمْنِيَّة لكل الذين آمَنوا مِن قَبْل نزول القرآن كاليهود والنصاري وغيرهم أن يؤمنوا به ويُسْلِموا ولا يَبْقوا علي يهوديتهم أو نصرانيتهم أو غير ذلك من الديانات.. ".. وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ.." أيْ ويُواظبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة ويُؤدونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. "..وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.." أيْ ويُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ ويُصَدِّقون بوجود الله تعالي خالِق الخَلْق ويعملون بأخلاق إسلامه ويُداومِون علي التواصُل معه وطَلَب رعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعظم ثوابه في اليوم الآخر الذي يُصَدِّقون به أيضا وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة حتماً سنُعطيهم عطاءً هائلاً من فضلنا وكَرَمنا الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراهم
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (166)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها (برجاء مراجعة الآيات (103) حتي (110) من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)" أيْ إنا أنزلنا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بإيحائه لك عن طريق المَلَك جبريل كما أنزلنا الكتب والصحف علي كل الرسل الكرام مِن قَبْلك والمَذْكورين في هذه الآية الكريمة وغيرهم والتي فيها نصائحنا ووَصَايانا وتشريعاتنا التي تُصْلِح كل البَشَر بما يُناسِب كلّ عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقها.. إنَّ الله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو من عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة.. إنه كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم، كذلك لم يتركك والبشرية حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليك هذا القرآن الكريم وحَفظه حتي نهاية الدنيا، وكما نَصَر سابقا المؤمنين المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما أيها المسلمون، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله العزيز أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويكرمهم ويرفعهم وينصرهم ويَقهر ويذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويخفضهم ويهزمهم، وهو في كل أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يضع كل أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث.. ثم بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) فهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وها هو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلماذا إذَن يكذبونك ويكذبونكم أيها المسلمون وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيل مَن يُكَذّب لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والأسباط هم الأحفاد ليعقوب (ص)، جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل، وكان منهم عدد من الرسل.. وزَبُور في اللغة يعني مَزْبُور أيْ مَكْتُوب أيْ وأعطينا نَبِيِّنا داود كتاباً مَكْتُوبَاً قد كُتِبَ فيه نصائحنا ووصايانا يُقْرَأ ويُرَتّل ويُعْمَل بأخلاقه
ومعني "وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)" أيْ وكذلك أرسلنا رسلاً قد ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم فيما نَزَلَ عليك مِن قرآنٍ مِن قَبْل نزول هذه الآيات عليك، وأرسلنا رسلاً آخرين غيرهم لمَشَارِق الأرض ومغاربها لم نقصص عليك أحوالهم، لأنَّ المَذْكورين هم أعظم الرسل قصصاً يُستفاد مِمَّا فيها من دروس وعِظَات مُسْعِدَة في الداريْن لمَن أراد أن يَتّعِظ، وهي تشمل كل عِبَر الرسل الآخرين.. إنَّ هذا يدلّ علي أنَّ الله تعالي لم يترك بَشَرَاً في أيِّ مكانٍ إلا وقد أرسل إليهم بلُغَتِهم مِن بينهم مَن يُناسبهم ليُعَلّمهم إسلامهم رحمة بهم ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)" أيْ وكانت طريقة الوَحْى إلى موسى (ص) أنْ كَلَّمه الله تكليماً حقيقياً مِن وراء حِجاب أيْ بغير أن يراه وكان كلاماً مباشراً بدون واسِطَةِ مَلَكٍ لكن بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، تكريماً له وعَوْنَاً لأنه سيُواجِه فرعون أطْغَيَ طغاة الأرض وقتها، وذلك حين أوْحَيَ إليه التوراة عند جبل الطور بسيناء بأرض مصر
ومعني "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)" أيْ هذا بيانٌ لمهِمّة الرسل الكرام ولحِكْمة إرسالهم.. أيْ أرسلنا رسلاً ليكونوا مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرُون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي يَأْتُون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ مُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.." أيْ وما أرْسَلْتُ الرسل إلاّ لكي لاَ ومِن أجل ألاّ يكون للناس علي الله احتجاج واعتراض يَتَعَلّلون به بل يُمْنَع كله بعد إرسالهم مُبَشّرين ومُنْذِرين، حيث يُمكن أن يقولوا مثلاً عند عقابهم في دنياهم وأخراهم بسبب شرورهم وبما يُناسبها مُبَرِّرين إيّاها لو كنتَ يا ربنا قد أرسلتَ إلينا رسلاً يُنَبِّهُوننا ويُعَلّموننا عبادتك أيْ طاعتك وكيفية العمل بإسلامك لكنّا سَعِدَنا في دنيانا وأخرانا ولم نتعس ونُعَذّب فيهما، وبالتالي لا عُذْر بعد ذلك لأحدٍ يُعَاقَب فيهما بما يُناسب مُخَالَفاته حيث قد اتّضَحَت كل الأمور لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. ".. وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مَالِك المُلْك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين، وكان حكيماً دائماً في كل تدبيره وتَصَرُّفه حيث يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث
ومعني "لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (166)" أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له.. أيْ لم يَشهد اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم بأنك رسولٌ من عند الله وصادقٌ فيما تُبَلّغه عنه لكن الله يَشهد بأنَّ ما أنزله إليك من قرآنٍ هو الحقّ أيْ الصدْق الذى ليس فيه أيّ شكّ، وهو سبحانه حتماً الشاهِد الحقّ الصدق كامل الصفات الحُسْنَيَ العالِم بكلّ شيءٍ بكل تأكيدٍ وشهادته تعالي هي الشهادة الثابتة المُؤَكّدة تماماً لأنها منه فهي بالقطع أعظم وأضمن شهادة موثوقة من خالِق الخَلْق العليم الخبير الذي لا يَخْفَيَ عليه شيء.. إنَّ الله تعالي يُخْبِر ويُعْلِم الناس ويُبَيَّن ويقول لهم – كما يُقال شَهِدَ فُلَانٌ عند القاضى إذا بَيَّنَ له وأعْلَمه وأخْبَره أين الحقّ – من خلال آياته القاطِعَة والتي لا يَرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سواء أكانت آيات أي دلالات ومعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزات علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، أنَّ القرآن العظيم صدْقٌ وأنَّ الرسول الكريم محمد (ص) الذي أُوحِيَ إليه صادقٌ حتماً.. ".. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ.." أيْ لقد أنزله بعلمٍ تامٍّ وحِكْمةٍ كاملةٍ وإعجازٍ كاملٍ حيث أعْجَزَ البشرية كلها إذ لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وفيه عِلْمه مُمَثَّلاً بالمِقْدار من الأخلاق والتشريعات التي يعلم أنها تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهو أيضا يعلم أنك يا رسولنا الكريم مُؤَهَّل لإنزاله عليك، وكفي بكل ذلك أعظم وأضمن شهادة أخري بعد شهادة الله تعالي!.. إنَّ في هذا مزيداً من التفسير لشهادته سبحانه له (ص) التي ذُكِرَت في أول الآية الكريمة ومزيداً من التأييد لها والتأكيد عليها.. ".. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ.." أيْ وشَهِدَت الملائكة أيضا بذلك أيْ أقَرَّت واعْتَرَفَت به – وشهد به كذلك كل الصالحين الصادقين أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة – والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنَّ أمر صِدْق القرآن العظيم والرسول الكريم محمد (ص) قد ثَبَتَ وتَقَرَّرَ بشهادة أكمل وأعظم الشهود وهو الخالق سبحانه ثم بشهادة كل المُعْتَبَرِين المُنْصِفِين العقلاء من خَلْقه فلا مجال إذَن لأنْ يَختلف أو يَشكّ الناس فيه وأنَّ الذي يُشَكّك به ويُخالِفه هو حتماً مَن كان سفيهاً جاهلاً قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (166)" أيْ ويَكفيك ويَكفي المسلمين كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبداً لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهِد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بينهم وبين غيرهم أنَّ هذا الدين هو أعلي وأعظم دين المُؤَيَّد تماما منه المَنصور دوْماً به وأنَّك رسوله (ص) الذي جاء به وأنت أصدق الصادقين، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكْمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا وما يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم عن طريق الله أيْ منعوهم عن الدخول في دين الله الإسلام وآذوهم وحاولوا رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعوهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)" أيْ فَهُمْ بأفعالهم هذه قد ضاعوا ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنهم لم يَعْبُدوا أيْ لم يُطِيعوا الله تعالي ربهم أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام.. إنهم أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أن لا حساب! وبالتالي ستجدهم دائما وحتما في دنياهم في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتفصيل والتوضيح للآية السابقة وللنتائج السَّيِّئة للكفر.. أيْ إنَّ الذين كفروا وظلموا بمعني أصَرُّوا واستمرُّوا علي ما هم فيه من كفرٍ وصَدٍّ لغيرهم بلا توبة وعودة لربهم ولإسلامهم، لأنَّ الكفر أصلاً ظلم، فإضافة الظلم بعد الكفر يدلّ علي الإصرار التامّ عليه كما يدلّ علي أنهم لم يَكْتَفوا به وبالصَّدِّ عن سبيل الله كما في الآية السابقة ولكنْ أضافوا إليه ظلم أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، بما يُفيد أنهم في أعلي درجات الكفر وأشدّها سوءً وعقاباً وعذاباً في دنياهم وأخراهم.. ".. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)" أيْ ليس مِن شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويُسْتَبْعَد أن يغفر لهم ما يفعلون مِن شَرّ، ما داموا مُصِرِّين عليه، لأنَّ غفرانه يَتَطَلّب توبة وامتناعاً عنه، ولا ليهديهم أيْ يرشدهم طريقاً يُوَصِّلهم إلي الخير وهو العمل بالإسلام يسعدون به في الداريْن بأيِّ حالٍ من الأحوال لأنَّ هدايته تكون لمَن يَتّجِهون إلى الحقّ ويطلبونه فيُوَفّقهم بالتالي له ويُيَسِّر لهم أسبابه وهم قد تَمَادوا في كفرهم وأصَرُّوا عليه حتي موتهم واختاروا الضلال علي الهُدَيَ بكامل حرية إرادة عقولهم، ثم الذين يزدادون في كفرهم وإصرارهم عليه يدلّ هذا علي أنَّ الإيمان صارَ عندهم أهْوَن وأخَسّ شيء وأنهم لا يَقتربون منه أيّ درجة حتي يكونوا مُؤَهَّلِين للمغفرة وهداية سبيل الجنة وأنهم لم يَتَقَدَّموا بأيّ خطوةٍ نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. فاسْتِبْعَاد المغفرة لهم وهدايتهم طريقاً للخير هو بسبب اسْتِبْعَاد عودتهم للإيمان أثناء حياتهم واستمرارهم وثباتهم عليه وإلا لو عادوا له وثَبَتُوا غُفِرَ لهم وهُدُوا للخير حتماً من الغفور الرحيم الهادي الكريم.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بَدَلاً أن يتعسوا فيهما
ومعني "إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)" أيْ ليس أمام أمثال هؤلاء بسبب ما سَبَقَ ذِكْره من طريقٍ يَسِيرون فيه إلاّ مَا يُوصلهم إلي عذاب نار جهنم الذي لا يُوصَف يَبْقون فيها أبداً بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله.. ".. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)" وكان ذلك العقاب بهذا العذاب الشديد الدنيويّ والأخرويّ لمَن يستَحِقّه سَهْلاً على الله لأنه لا يَمْتَنِع عليه شيءٌ لأنه القادر علي كل شيءٍ إذ بمجرد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ هذا العقاب الذي لا يمكن الفرار منه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)" أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليَتَنَبّهوا له، أي يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد جاءَ لكم الرسول الكريم الصادق الأمين محمد (ص) ومعه الحقّ كله، أي الصدْق التامّ، وهو القرآن العظيم الذي فيه الإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، من عند ربكم، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم.. ".. فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ.." أيْ فصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم يَكُنْ إيمانكم حتماً خيراً لكم حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.." أيْ ويا أيّها الناس إنْ لم تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي بعد ما ذَكَرَه لكم من أدِلَّة قاطعة في آياته وفي معجزاته في كوْنه وخَلْقه ولم تُصَدِّقوا برسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولم تَتَّبِعوا إسلامه وأنكرتم نِعَمه ولم تشكروها ونَسَبْتموها لغيره وما شابه هذا مِن سوءٍ، فإنَّ لله ما في السماوات وما في الأرض أي هو سبحانه الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنكم وكفركم ولو جميعكم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتكم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مُغَالِيَاً، أيْ مُتَجَاوِزَاً حَدَّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، بل كنتَ دائماً متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك التي وَصَّاكَ بها ربك تعالي وعَلّمك إيّاها رسولك الكريم (ص) من غير أن تزيد فيها ما ليس منها أو تترك بعضها أو كلها.. وإذا كنتَ عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، لا تكونوا من المُغَالِين في دينكم، دين اليهودية أو النصرانية، أيْ المُتَجَاوِزين حدّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، فإنْ فَعَلْتم ذلك فلا بُدّ أنكم ستُؤمنون بالقرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد (ص).. لقد غَالَيَ اليهود في دينهم حينما تمّ تَوْصِيَتهم باتّباع التّوراة ورسلهم فتَجَاوَزوا ذلك إلي مُخَالَفتهم ومحاولة قتلهم بل والكفر بما جاء بعدهم من إنجيلٍ مع عيسي (ص) وقرآنٍ مع محمد (ص)، وغَالَيَ النصارى حينما طولِبُوا باتّباع المسيح فتَجَاوَزوا الحدّ في تعظيمه إلى ادِّعاء أنه إلهٌ أو ابنُ إلهٍ أو هو وأمه مريم شركاء لله في الألوهية فقالوا ثلاثة مع كفرهم بمحمد (ص) والقرآن!.. هذا، وقد ناداهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. ".. وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.." أيْ ولا تقولوا أبداً علي الله إلا الصدق، وهو ما جاء في كتبه من خلال رسله الكرام والذي تَقْبله الفطرة ويَقْبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ.." أيْ ليس المسيح عيسي ابن مريم كما يقول اليهود أنه ليس رسولاً ولا كما يقول النصارى أنه الله أو ابن الله، إنما هو عبد الله ورسوله لا يَتَخَطّيَ ذلك أيْ المُطِيع له ومَبْعُوثه الذي أرسله للناس ككلّ رسله ليُعَلّمهم دينهم.. والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي (ص) سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة.. ".. وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.." أيْ وأنه هو كلمته التي أبْلَغها وأوْصَلَها إلي مريم وهي كلمة كُنْ، وهو نفخة من الله تعالى نَفَخَها جبريل بأمره في رَحِمِها، فكان إنساناً فيه روح لا يعلم سِرَّها إلا هو سبحانه كأيِّ إنسانٍ لكنْ من غير أبٍ كمعجزة للتذكرة بقُدْرته تعالي، فهو إذَن بَشَر ككلّ البَشَر قد وُلِدَ من رَحِمِ أمّه.. ".. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.." أيْ إذا كان ذلك المَذْكُور لكم هو الحقّ فى شأن عيسى (ص)، فارْجِعوا إليه إذَن، فآمِنوا أيْ صَدِّقوا بالتالي بالله إيماناً حقّاً بأنْ تعبدوه أيْ تطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، وآمِنوا برسله جميعا بدون تفريقٍ بينهم وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) واتَّبِعوا ما أوْصُوكم به من دين الإسلام، ولا تُغالوا فى أمر أحدٍ منهم كعيسي بأنْ تُخْرِجوه عن طبيعته البَشَرِيَّة وعن وظيفته أنه رسولٌ لا أكثر من ذلك.. ".. وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ.." أيْ ولا تقولوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلاً أنَّ الله ثالث ثلاثة آلهة حيث عيسي وأمّه شركاء له في الألوهِيَّة!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ.." أي امْتَنِعُوا تماما عن هذا التثليث امتناعاً كاملاً يَكُنْ امتناعكم وإيمانكم بأنَّ الله واحد وإسلامكم وعملكم بأخلاق الإسلام حتماً خيراً لكم حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.." أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون أنَّ الله ثالثُ ثلاثةِ آلهة إنما الله إله واحد أيْ معبود واحد مُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، سبحانه أيْ تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتعالَيَ عُلُوَّاً كبيراً عن كل صفةٍ لا تَلِيق به كأن يكون له ولد أو زوجة تُنْجِب له أبناءً أو نحو ذلك من صفات المخلوقين لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره، لأنَّ ".. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ لأنه سبحانه هو الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنهم وكفرهم ولو جميعهم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتهم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)" أيْ واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
ومعني "لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وأنه مُنَزَّهٌ عن أن يكون له ولد أو شريك.. أيْ لن يَتَرَفّع ويَأْنَف ويَمتنع أبداً المسيح عن أن يكون عبداً لله أيْ طائعاً له، وكذلك الملائكة المُقَرَّبون أيْ الذين قرَّبهم الله منه وهي حَمَلَة العرش وهي القريبة من رحمته ورضاه لتمام طاعتها لن تَمتنع مطلقاً عن عبادته، جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، وقد ذَكَرَهَا تعالي مع المسيح لأنَّ بعض سفهاء البَشَر قد تَعْبدها.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة بيانٌ أنَّ عبادة المخلوقات لخالقها شَرَفٌ عظيم، وأنَّ العَبْدَ لله لا يعني مُطلقا أنه ذليلٌ كما هو حال العبد لغير الله!! فالعبادة لله تعالي هي قِمَّة الحرية والرِّفْعَة والعِزَّة والكرامة، لأنها تجعل المسلم لو تَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه حُرَّاً لا يتبع أحداً ولا نظاما ولا خُلُقَاً إلا ربه ورسوله وقرآنه وإسلامه، إنه ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ خُلُقٍ فاسدٍ أو مُدْمِنَاً عليه يَنْسَاق وراءه كعبدٍ له لا يستطيع البُعْد عنه، إنه يَتَرَفّع عن اتِّباع أيّ فساد، إنه عزيزٌ لا يَطلب من أحدٍ شيئا لأنه يطلب من مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ فيُسَخِّر له مِن خَلْقِه مَن يُعاونوه ويُكْرموه ويُسَهِّلوا عليه كل شئونه، إنه كريم عفيف لا يمدّ يديه لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوما مَا بل هو دائما مع الحقّ يقوله ويعمل به، إنه مَرْجِعٌ للآخرين يَرْجِعون إليه يَلتمسون عنده الصدق والعدل والخير والسعادة، إنه قائدٌ لا يَنْقَاد بل يَقود الجميع بالقُدْوة والحِكْمَة والموعظة الحسنة وبحُسن اتِّخاذه للأسباب وإكمالها ما أمكن لكلّ خيرٍ بما معه من إسلامٍ يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ فيسعدون بكل لحظاتها.. بينما الذي يَعبد غير الله تعالي هو قطعاً علي العكس تماما، إنه عَبْدٌ ذليلٌ مَهِينٌ مُنْكَسِرٌ يَجري وراء كل مَن يعطيه ولو الفُتَات، إنه ضعيفٌ خَسِيسٌ مُتَلَوِّنٌ مُنْحَطّ وَضِيعٌ كَذُوبٌ تابِعٌ، إنه قَلِقٌ مُتَوَتِّرٌ مُضطربٌ، لأنه يعتمد علي بَشَرٍ مثله لا يملكون نفعاً ولا ضَرَّاً إلا إذا شاءه الله ونَسِيَ ربه صاحب القوة المتين، إنه بالقطع مُعَذَّبٌ تَعِيسٌ في دنياه، ثم سيكون في أخراه حتما في عذابٍ وتعاسة أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد (برجاء لاكتمال معاني العبادة مراجعة الآية (21) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)" أيْ ومَن يَتَرَفّع ويَأْنَف ويَمْتَنِع عن طاعة الله واتّباع شرعه الإسلام ويَتَعَالَيَ عن كلّ ذلك فلا يَفعله – والاسْتِنْكاف يكون مصحوباً غالباً بالأَنَفَة والتّأَفّف بينما الاسْتِكْبار يكون مصحوباً غالباً باعتبار النفس كبيرة علي العبادة إعجاباً وغروراً أيْ انْخِدَاعَاً بها فهي فوق الطاعة، والمعنيان متقاربان وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي التنفير والتحذير من هذا التّعَالِي – فسيَجمعهم إليه وحده لا لغيره جميعاً يوم الحَشْر أيْ يوم القيامة لمَوْعِدهم الذي وَعَدهم حيث يَحكم بينهم بحُكْمه العادل وينالون ما يَسْتَحِقّونه من عقابٍ يُناسب استنكافهم واستكبارهم ولن يَفْلِتَ منهم أحد، فإنَّ مَرْجِع كل الناس إليه سبحانه وسيُجازِى المُحْسِن في أقواله وأفعاله بإحسانه كل خيرٍ وسعادةٍ والمُسيء بإساءته كل شرٍّ وتعاسةٍ بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)" أيْ هذا تفصيلٌ لموقف الناس حين يُحْشَرون جميعاً يوم القيامة، فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَسْتَنْكِفوا ويَسْتَكْبَرُوا، فهولاء يُوَفّيهم أيْ يُعطيهم خالقهم سبحانه أجورهم علي ذلك والتي وعدهم بها وافية أيْ كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، حيث يتمّ لهم كل الخير والسعادة في نعيم جناته الذي لا يُوصَف – إضافة إلي ما كانوا فيه من جنة الدنيا بسبب إيمانهم – وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ، وهذا هو تمام العدل، وهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله فلا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.." أيْ وأمَّا الذين تَرَفّعُوا وأَنِفُوا وامْتَنَعُوا عن طاعة الله واتّباع شَرْعِه الإسلام وتَعَالَوْا عن كل ذلك فلم يفعلوه فيُعَذّبهم الله عذاباً مُوجِعاً مُهيناً مُتْعِساً لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)" أيْ ولن يَجِدُوا لهم وقتها أيَّ أحدٍ غير الله تعالي ليكون وَلِيَّاً لهم أيْ يتولَّي أمرهم ويُدافع عنهم ولن يجدوا أيَّ أحدٍ ليكون نصيراً أيْ ناصراً كثيرِ النصر لهم ينصرهم من عذابه، وهو سبحانه لن يكون لهم حتماً لا ولياً ولا نصيراً بل سيكون مُعَذّبَاً لهم العذاب الأليم الذي يَسْتَحِقّونه
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)" أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليَتَنَبّهوا له، أيْ يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد جاءَ لكم دليل من عند ربكم، سواء أكان آياتٍ في الكوْن حولكم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلكم لتأكيد صِدْقهم، وأرسلنا إليكم معهم نوراً أيْ كُتُبَاً فيها كلّ إرشادٍ للخير لكم وآخرها القرآن العظيم والذي هو نور مُبِين أيْ مُبَيِّن مُوَضِّح لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن ليكون سَبَبَاً لهداية البَشَر أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)" أيْ هذا تفصيلٌ لموقف الناس أمام هذا البُرْهان وهذا النور المُبِين عندما يتلقونه، ولم يَتِمّ ذِكْر موقف وعقاب الذين كفروا في هذا الموضع إهمالاً واحتقاراً وامتهاناً لهم ولأنَّ حالهم السَّيِّء التعيس في دنياهم وأخراهم معروفٌ لكل عاقلٍ بسبب كُفْرهم وبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَسْتَنْكِفوا ويَسْتَكْبَرُوا.. ".. وَاعْتَصَمُوا بِهِ.." أيْ وتَحَصَّنوا بالله دائما ولَجَأوا إليه وتوكّلوا أيْ اعتمدوا عليه وحده (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، واعتصموا برسوله الكريم (ص)، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظار باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله (ص) يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ.." أيْ فهؤلاء بالقطع سيُدخلهم الله تعالي في رحمة منه أيْ في جنته ورضوانه في درجاتها علي حسب أعمالهم حيث ما لا عين رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وذلك بعد أن كانوا في دنياهم في تمام رحمته أيْ خيره وأمنه ورعايته ورضاه ورزقه ونصره وسعادته بسبب إيمانهم به وتمسّكهم بإسلامهم.. ".. وَفَضْلٍ.." أيْ وعطاءٍ واسعٍ عظيمٍ هائلٍ زائدٍ مُتَزَايِدٍ مُتَنَامٍ مُبَارَكٍ فيه، أيْ ولا يَكْتَفِي سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله بما سَبَقَ ذِكْره بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من العطاءات المُتَزَايِدَة والخيرات والتيسيرات والمَكَانَات والسعادات التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ وبما يزيد كثيراً عن مقدار أعمالهم الصالحة.. ".. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)" أيْ ويُعطيهم خيراً عظيماً هو من أعظم الخير وسبب لكل خير وسعادة في الداريْن وهو أن يُرْشدهم إليه سبحانه وإلي ثوابه ورضاه وفضله ورحمته – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّفٍ بإرشادهم صراطاً مستقيماً يُوصل إلي ذلك وتوفيقهم إليه وعَوْنهم عليه وتَيْسِير أسباب السَّيْر فيه لهم والثبات به والزيادة منه، أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً مُتَّجِها دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والقرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وكفي بهذه نعمة تُحقّق لهم كل خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وسعادةٍ فيهما
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)" أيْ يسألونك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – يَطلب منك الناس والمسلمون الفتوي والعلم في حُكْم ميراث الكلالة – ومعني الكلالة أن يموت مَيّت ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته – قل الله يبيِّن لكم بأوضح وأحكم وأعدل وأكمل وأسعد بيانٍ وفتوي وعلمٍ كيفية ميراثه، فاعملوا بكل ما يُفتيكم ويُوصِيكم به فإنَّ فيه ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن.. إنَّ حكم الله فيه هو إنْ مات إنسان ليس له ولد ولا والد، وله أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط، فلها نصف تركته، ويَرِث أخوها شقيقاً كان أو لأبٍ جميع مالها إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد، فإنْ كان لمَن مات كلالةً أختان فلهما الثلثان مِمَّا تَرَك، وإنْ كانوا إخوة من ذكورٍ وإناثٍ فنصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته.. ".. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا.." أيْ يُوَضِّح الله لكم كل أمور دينكم الإسلام والتي منها المواريث خشية أنْ تَضِلّوا أيْ تفقدوا الطريق ولا تهتدوا إليه أيْ أنْ تَنْحَرِفوا عن الطريق المستقيم، عن طريق الله، عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، تنحرفوا عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)" أيْ والله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم (ص) وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دائماً مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، أيْ نَفّذوها وافِيَة أيْ تامَّة بلا أيِّ نَقْصٍ ولا تُخْلِفوها، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، واستمرّوا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يَفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. ".. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.." أيْ هذا تفصيلٌ لبعض العقود التي علي المؤمنين الوفاء بها، وقد بدأ سبحانه بما هو ضروريٌّ للحياة وهو مَا يُؤْكَل.. أيْ قد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – فهي كلها حلال أكلها، فانتفعوا واسعدوا بها، إلا ما يُقرأ عليكم ويُذْكَر لكم في القرآن الكريم وفي سُنَّة رسوله (ص) مِمَّا حُرِّمَ لضَرَرِه (مِثْل ما ذُكِرَ علي سبيل المِثال لا علي سبيل الحَصْر في سورة البقرة الآية (173)، وفي سورة المائدة الآيات (3)، (96)، (103)، وفي سورة الأنعام الآيات (138)، (139)، (143)، (144)، فبرجاء مراجعتها للشرح والتفصيل).. والبهيمة هي اسم لكلّ حَيٍّ لا يُمَيِّز ولكل ذي أربع سواء في البرّ أو البحر، وسُمِّيَت كذلك لإبهامها أيْ لعدم وضوح وخَفاء نُطْقِها ونَقْص فهمها وعقلها.. ".. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.." أيْ أُحِلّت لكم بَهيمة الأنعام غير مُسْتَحِلّي اصطيادها وأنتم مُحْرِمُون بالحجّ أو العُمْرَة أو داخلون في أرض الحَرَم، تعظيماً لهذا المكان المُقَدَّس المُتّصِف بالأمن التامّ حتي مِن الصيد ولكي تنتفعوا بمنافع وسعادات حجّكم واجتماعكم عند الكعبة في مؤتمرٍ لمصالحكم ولا تنشغلوا بالصيد.. ".. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)" أيْ إنَّ الله يَمنع أو يَسْمَحَ بما يريد، وليس هناك مِن مخلوقٍ يَحْكُم بعد حُكْمِه وهو الخالق ولا حتي يُعَلّق عليه بإضافةٍ أو نقصٍ ولا يريد بعد إرادته، لأنه لا يريد بخَلْقه سبحانه إلا اليُسْر كما يقول ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.." (البقرة:185) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فهو يَمنع عنهم فقط ما هو مُضِرّ مُتْعِس، فكل وصاياه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيّاته فيها الحِكْمة والمصلحة والتيسير والخير والرحمة والسعادة لهم، فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم، لأنه تعالي هو الحكيم العليم الخبير الرحيم بهم والذين هم صَنْعَته ولا يريد لهم إلا كل خيرٍ وإسعاد، وهو علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم.. فاستجيبوا إذَن أيها المؤمنون وأوفوا بعقودكم، وأيها الناس جميعا، لتسعدوا في الداريْن، ولا تتعسوا فيهما بمُخالَفَاتكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ دوْمَاً من الذين يتعاونون علي كلّ بِرٍّ وكلّ تقوي، ولا يتعاونون أبداً علي أيِّ إثمٍ أو أيِّ عدوان، فبانتشار الخير والتقوي يَتَحَابّ الجميع ويتعاونون ويتسامَحون ويتكاتفون، فيَرْقون ويَتطوّرون ويسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار تنتشر المُشاحَنات والتّوَتّرات والانتقامات وتضيع الطمأنينة والسكينة ويَتعسون قطعاً في الدنيا ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في الآخرة.. وإذا كنتَ علي الدوام عادلاً لا تَظلم أحداً ولا تعتدي عليه، حتي ولو كنتَ كارهاً له لسببٍ من الأسباب، فلا تَدْفعك أبداً هذه الكراهية إلي ظلمه أو الاعتداء عليه أو أكل أيّ حقّ من حقوقه، لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تَسْتَحِلّوا وتَسْتَبِيحُوا أبداً حُرْمَة شعائر الله أيْ مَعَالِم دينه الإسلام وشرائعه كلها فتُخَالِفوها وتَتَعَدُّوها.. ولا تُحِلُّوا القتال في الأشْهُر الحُرُم ولا تَبدأوا أعداءكم بقتالٍ فيها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (194) من سورة البقرة "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، وكذلك الآية (217) منها "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ..").. ولا تُحِلّوا حُرْمَة الهَدْي وهو ما يُهْدَىَ إلى البيت الحرام من الأنعام كغنمٍ أو بقرٍ أو إبل تَقَرُّبَاً إلى الله تعالى بأن تتعرّضوا له بسرقةٍ أو مَنْعٍ عن وصوله أو نحو هذا لكي يَصِلَ للمُنتفعين به من المُحتاجين له، ولا تُحِلّوا ذوات القلائد بشكلٍ خاصٍّ والتي هي نوع من الهَدْي تُوضَع له قِلادَات في أعناقه لمزيدٍ من تمييزه وتشريفه وتعليمه بأنه مَخْصُوص بالحرم، وقد ذُكِرَ الهَدْي رغم أنه من الشعائر التي سَبَقَ التحذير من تحليلها للتذكرة به حيث قد يُسْتَهَان بشأنه، كما ذُكِرَت ذوات القلائد رغم أنها من الهَدْي للتنبيه أنَّ الاعتداء عليها بعد أنْ عُرِفَ للجميع أنها للحَرَم إثمه أشدّ من الاعتداء علي الهَدْي من غير قِلادة والذي قد يُخْتَلَط فيه الأمر هل هو للحَرَم أم لا.. ".. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا.." أيْ ولا تُحِلّوا أذَىَ ومَنْع أناسٍ قاصدين زيارة البيت الحرام بأنْ تَمنعوهم عن دخوله لأيِّ سببٍ من الأسباب وهم يَطلبون ثواباً وعطاءً هائلاً عظيماً مُتَزَايِدَاً من الله ورضاً تامَّاً منه في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فبَيْت الله وفضله وعفوه ورضاه دوْمَاً لمَن يَقصده وللجميع، فلا تَتَعَرَّضوا لهم بأيِّ سوءٍ بل أكرموهم بكل كرمٍ ما استطعتم.. ".. وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.." أيْ وإذا خَرَجْتم من إحرامكم فلكم أن تصطادوا – خارج أرض الحرم – ولكم كذلك بالقطع كل ما كان مُبَاحَاً قبل الإحرام.. ".. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا.." أيْ ولا يَحْمِلَكم ويَدْفعكم أبداً بالتأكيد كُرْه قوم كراهية شديدة بسبب أنْ صَدّوكم أيْ مَنعوكم عن دخول المسجد الحرام لسببٍ من الأسباب في وقتٍ من الأوقات – أو منعوكم حقاً من حقوقكم في شأنٍ مَا مِن شئون حياتكم – أن تتركوا العدل معهم وتعتدوا عليهم بظلمٍ أو أكلِ حقّ أو شَتْمٍ أو ضربٍ أو قتلٍ أو ما شابه هذا من سوء، فخُلُقِ الإسلام ألاّ تُقابَل الإساءة بالإساءة وإنما تُؤْخَذ الحقوق بالاحتكام لأهل العدل والحقّ والصلاح، فبانتشار عدم الاعتداء والعدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم والانتقام لشِفاءِ غَيْظ الكراهية يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.." أيْ وساعِدوا بعضكم بعضاً أيها الناس علي البِرِّ، وهو كلّ خير، هو حُسن الخُلُق كما قال (ص)، هو العمل بكل خُلُقٍ من أخلاق الإسلام في حينه واستخدامه في توقيته، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة ومع أيِّ أحدٍ علي اختلاف دينه وثقافته وعلمه وبيئته وعاداته وتقاليده، حتي مع الدوابِّ والجَمَادات!.. وتعاونوا كذلك علي التقوي أيْ الاتّقاء والتّجَنّب لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وعدم الوصول أبداً لمرحلة إغضابه بل المُسَارَعَة لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.." أيْ ولا يساعد بعضكم بعضاً أبداً علي الإثم أيْ الذنب أيْ الشرّ والفساد والضرَر المُتْعِس، بكلّ أنواعه، سواء أكان كفرا أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ولا علي العدوان أيْ الاعتداء أيْ التّجَاوُز بتَعَمُّدٍ لحدود الله أيْ حَوَاجِزه التي عليكم ألاّ تَتَعَدّوها فتَعتدوا علي أخلاق الإسلام فتُخالفوها وتَعتدوا علي الغير بكل صور الاعتداء سواء أكان لفظياً أم جسدياً أم معنوياً أم مالياً أم غيره.. إنه بانتشار الخير والتقوي يَتَحَابّ الجميع ويتعاونون ويتسامَحون ويتكاتفون، فيَرْقون ويَتطوّرون ويسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار تنتشر المُشاحَنات والتّوَتّرات والانتقامات وتضيع الطمأنينة والسكينة ويَتعسون قطعاً في الدنيا ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في الآخرة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)" أيْ إنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)" أيْ هذا بيانٌ لبعض المُحَرَّمات التي أُشِيرَ إليها في الآية (1) بقوله ".. إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ..".. أيْ مَنَعَ الله عليكم أيها المسلمون – وأيها الناس عموما – فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، كأكل الميتة التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة وكالدم المُسَال قطعا والذي هو مَلِيء بها، وكلحم الخنزير حيث خَلَقه تعالي ليتغذي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا من أجل أن يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلا كان شديد الأضرار، وكالذي أهِلَّ لغير الله به أيْ يُذْكَر عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تَذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. وكالمُنخنقة وهي التي تموت بالخَنْق لا بالذبح ويبقي فيها دمها الفاسد.. والمَوْقوذة وهي التي تموت بالضرب أو بهدم شيء عليها دون ذبح.. والمُتَرَدِّيَة وهي التي تسقط من مكان مرتفع فتموت، أيضا دون ذبح.. والنطيحة وهي التي تموت بأن تنطحها غيرها.. وما أكل السبع كأسدٍ أو نِمْرٍ أو ذئبٍ أو طيرٍ مُفْتَرِسٍ للصيد ونحو هذا فتموت بذلك.. ".. إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.." أيْ إلا إذا تَمّ تذكيته، أي ذَبْح أيٍّ من هذه الأصناف قبل موته وتفريغ الدم منها وما يحمله من جراثيم فحينئذ لا ضَرَر فيها ويَحِلّ أكلها.. ".. وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.." أيْ وما ذُبِحَ علي ما يُنْصَب ويُقام تَقَرُّبا لغير الله تعالي من حجرٍ أو صَنَمٍ أو غيره.. ".. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.." أيْ وحَرَّم عليكم كذلك أن تطلبوا معرفة ما قُسِمَ لكم من أمركم مستقبلا، أي تطلبوا معرفة الغيب المستقبليّ من خيرٍ أو شرٍّ من خلال بعض الشعْوَذات أو الخُرَافات التي تفعلونها بأنفسكم أو من خلال بعض الكَهَنَة الكَذَبَة كقراءة الكفّ والفنجان وبعض الألعاب ونحوها، فإنَّ كل هذا سيكون من أسباب التّوَتّر والقَلَق والاضطراب والسَّفَه والتعاسة لأنَّ المستقبل لا يعلمه إلا خالق الخَلْق سبحانه وما علي المَخلوق إلاّ أنْ يُحْسِن اتّخاذ الأسباب ليَصِلَ إلي ما يريد بعد عوْن الله وتوفيقه وتيسيره.. والأزلام في الأصل هي قِدْاح القِمار وهي قطع خشبية صغيرة كالعملة وقد كان بعض الذين يعبدون آلهة غير الله تعالي يكتبون علي أحدها افعل والآخر لا تفعل ثم قبل الإقدام علي عملٍ ما مُهِمّ في حياتهم يذهبون للمشرف علي الأصنام ليختار لهم إحداها وهي مقلوبة فإنْ ظَهَرَ أنَّ الذي اختاره مكتوب عليه افعل يفعلونه مُسْتَبْشِرين أنَّ الآلهة هي التي اختارت هذا الفِعْل لهم وسيأتيهم الخير منها قطعا وإنْ كان لا تفعل فلا يفعلونه استجابة لها وإلا حَدَث لهم شرٌّ ما!! وأحيانا كانوا يفعلون ذلك هم بأنفسهم حيث يكتبون علي سَهْمٍ من الأسهم التي يستخدمونها للقتال افعل والآخر لا تفعل ويضعونها في كيس ويدخلون أيديهم دون النظر بداخله فإنْ خرج السهم المكتوب عليه افعل يفعلونه مُسْتَعِينين مُتَفائلين بتوجيه وتوفيق الآلهة لهم وإنْ كان لا تفعل لا يفعلون!!.. ".. ذَلِكُمْ فِسْقٌ.." أيْ ذلك كله الذي حُرِّمَ عليكم إنْ فعلتم شيئاً منه فإنه فِسْقٌ أيْ خروجٌ عن طاعة الله والإسلام بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتي ستُتْعِسكم حتماً في دنياكم وأخراكم علي قَدْر مُخَالَفاتكم.. ".. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.." أيْ الآن، ومِن الآن فصَاعِدَاً وحتي يوم القيامة، بعد نصر الله لكم بفتح مكة ودخول الناس بعده في دين الله الإسلام أفواجا وعملكم أيها المسلمون بكل أخلاقه ونَشْركم له وللقرآن العظيم للعالمين بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ وحِفْظ الله له ولكم ودفاعكم عنه ضدّ مَن يعتدي وعوْن ربكم ونصره وعِزّه إيّاكم ما دُمْتُم كذلك، فَقَدَ الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم من المشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وغيرهم أيَّ أملٍ من القضاء علي دينكم الإسلام أو مَنْع انتشاره أو رَدّكم عنه للكفر مِثْلهم.. ".. فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.." أيْ وبالتالي إذَن وما دام الأمر كذلك فلا تخافوهم وخافون، فأمثال هؤلاء والذين لا تَنْقَطِع أكاذيبهم وتشويشاتهم واعتداءاتهم المُتَعَدِّدَة لا تخافوا مَكائدهم وحجَجهم واعتراضاتهم فهي لا يُهتمّ بها ولا يُلْتَفَت إليها ولا تضرّكم لأنها ضعيفة لا قيمة لها حيث لا تَستند لأيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ وهي لا تَثْبُت أمام الحقّ الذي جاء به الإسلام، وخافوني باتّباعه وعدم مُخَالَفَة أخلاقه واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كل شيء قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." أيْ مِن الآن فَصَاعِدَاً وحتي يوم القيامة، بعد اكتمال نزول كل آيات القرآن العظيم، أكملتُ لكم أيها المسلمون – وأيها الناس – دينكم الإسلام، فلا زيادة بعده، ولا تحتاجون لدين غيره ولا لرسولٍ آخَرَ (ص)، حيث كان الإسلام قبل ذلك في الكتب السابقة للقرآن فيه من التشريعات الكاملة لكنها كاملة نِسْبِيَّاً حيث كانت كافِيَة مُناسبة للبَشَرِيَّة لزمنها فقط وتُسْعِد مَن يعمل بها كلها وقتها، أمَّا الآن بعد نزول القرآن كاملاً صارَ في دين الإسلام أنظمة مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي نهاية الحياة وقيام الساعة.. هذا، ومعني الدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.." أيْ وأكملتُ عليكم نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نِعْمَة القرآن والإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ويُخرجكم من ظلمات الكفر إلي نور الإيمان، فهو تعالي بنعمه ورحماته وأفضاله وبسبب اختيار الذين يؤمنون هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." أيْ واخترتُ وقَبِلْتُ لكم الإسلام دينا، فارْضوه إذَن أنتم لأنفسكم، فهو الدين المَقْبُول المَرْضِيّ عنه عندي لا غيره، فاعملوا بكل أخلاقه لتسعدوا في الداريْن ولا تُفارِقوه إلي غيره من الأنظمة المُخَالِفة له فتتعسوا حتماً فيهما، واشكروني علي ذلك شكراً عملياً بالعمل به كله أزِدْكم حباً له وتمسّكاً به وثَبَاتاً وحِرْصَاً عليه وإسعاداً لدنياكم ولأخراكم.. إنَّ المسلم إذا تَمَسَّكَ وعَمِلَ بكل أخلاق إسلامه فقد تمسَّكَ بالكمال كله في حياته، وسيَجد حتماً في المُقابِل نِعَمَ ربه عليه تامّة، مُتَمَثّلَة في كلِّ نصرٍ وسلطانٍ ومُلْكٍ ورِفْعَة وعِزَّة ومَكَانَة وهِدَايةٍ وتوفيقٍ وعِلْمٍ وحِكْمةٍ وأمنٍ وقوّةٍ وبالجملة سعادة تامَّة في الدنيا ثم أعظم منها وأتَمّ وأخلد في الآخرة، بينما مَن يُفَرِّط في خُلُقٍ من أخلاق إسلامه سيَفتقد نسبة من السعادة تُعادِل تقريباً الخُلُق الذي تَرَكَه وسيذوق مَرَارَةً وتعاسة بالقَدْر ذاته حتي يعود إليه ويعمل به.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)" أيْ لكنْ مَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لأكل شيءٍ مِمَّا سَبَقَ ذِكْره مِن مُحَرَّمَات، والمُضطر هو مَن ألْجَأته الضرورة، بمعني أنه سيهلك بدون أكلها، بأنْ يكون في مَخْمَصَةٍ أيْ في حالة شدَّة جوع، وهو غير مائل لارتكاب إثمٍ أيْ شرّ، أيْ غير مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجَاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرضٌ عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن ماذا سُمِحَ لهم من مأكولاتٍ ومشروباتٍ وغيرها قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم أحَلَّ الله لكم الطيِّبات مِن كلِّ شيءٍ بصورةٍ عامّةٍ أيْ كل النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقناكم إيّاها وخلقناها في الأرض والتي أحللناها أيْ سَمَحْنا بها لنفعها ولإسعادها والتي لم تحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، ولا تقربوا أبداً ما حَرَّمْناه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. ".. وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ.." أيْ وأحَلَّ الله لكم أكل صيد ما عَلّمتموه ودَرَّبتموه من ذوات المَخالب والأنياب من الكلاب والفُهُود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم – وسُمِّيَت جوارح لأنها تَجْرَح صيدها غالبا عندما تصطاده وتمسك به – وحالكم أنكم مُكَلّبين أيْ مُؤَدِّبين ومُعَوِّدين لها تُعَلّمونهنّ أيْ قد عَلّمتمونهنّ حِيَل الصيد ووسائله مُسْتَمِدِّين ذلك من بعض ما عَلّمكم الله وألْهَمَ عقولكم إيِّاه بفضله وكرمه ورحمته من فنون العلم ومِمَّا سَخَّره لكم منهنّ بأنْ يَتَعَلّمْنَ بتدريبهنّ على الطرق المتنوعة للاصطياد وعلى الانقياد لأمركم عند الإرسال والاستدعاء وعلى عدم أكلها مَمَّا تصطاده وما شابه ذلك مما يحتاجه الصيد.. هذا، وكل هذه الألفاظ "عَلّمتم، مُكَلّبين، تُعَلّمونهنّ، عَلّمكم" مُتَقارِبَة المعاني تُفيد التأكيد التامّ علي التعليم حتي لا تأكلوا ميتة مِمَّا تصطاده جوارح غير مُعَلّمة ومُدَرَّبَة.. ".. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.." أيْ إذا عَلّمتم الجَوارح فكلوا مِمَّا أمسكنه مَحْبُوسَاً عليكم ولأجلكم من صيدها.. ".. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.." أيْ واذكروا اسم الله بقول بسم الله علي ما تُرْسِلُونه من جَوَارح للصيد، وعلي ما تأكلونه مِمَّا صادته، وعلي ما تذبحونه مِمَّا تُحْضِره من صيدٍ إذا أحضرته حيا.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الصيد، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)" أيْ إنَّ الله لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
ومعني "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي نِعَمه تعالي من تحليل الطيِّبات وتحريم غيرها، ومزيدٌ من التيسير عند التّعامُل مع غير المسلمين.. أيْ لقد أحلَّ الله لكم الطيّبات كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) واليوم أيْ الآن بعد نزول هذه الآية الكريمة واكتمال نزول القرآن الكريم أحلَّ لكم – وهو من الطيّبات أيضا – طعام الذين أُعْطُوا التوراة والإنجيل السابقين لكم وهم اليهود والنصاري ما دام ليس فيه مُحَرَّمَاً وبما فيه ذبائحهم ما داموا لم يَذبحوها لغير الله وما داموا لم يَذكروا اسماً غيره عليها فإنْ تأكّدتم أنهم ذَبَحوها لغيره كصَنَمٍ مثلاً أو سَمُّوا اسماً غيره عليها فلا تَحِلّ لكم وإنْ لم يُسَمُّوا شيئاً عليها فسَمُّوا أنتم اسم الله عليها وكُلُوا.. وكذلك طعامكم حلال لهم ولغيرهم من غير المسلمين أيْ يُسْمَح لكم أن تُطْعِموهم من طعامكم ولا تَحْرِموهم إيّاه بسبب أنهم ليسوا مسلمين فهذا من حُسْن المُعامَلَة التي يطلبها الإسلام والتي من المُمْكِن أن تُؤَثّر فيهم فيُسْلِموا.. ".. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ.." أيْ وكذلك أحلَّ لكم زواج المُحْصَنات أيْ الحَرائر العَفيفات من المسلمات ومن أهل الكتاب إذا أعطيتموهنّ مُهُورَهُنَّ عَفِيفينَ عن الزنا قاصِدين الزواج غير مُسَافِحين أي غير زانين علانية معهنّ بأجرٍ وبدون وغير مُتّخِذي أخْدَان أيْ صحاباتٍ منهنّ – جَمْع خِدْن وهو الصاحب والصديق – مُحَدَّدَاتٍ تَزْنُون معهنّ في السرّ، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العِفّة.. ".. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الكفر والرِّدَّة عن دين الإسلام ونتائجها الشديدة السوء والتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ ومَن يَكفر بشرائع الإيمان أيْ يُكَذّب بأخلاق الإسلام ولا يَعمل بها ويَتَرَفّع عليها، ومَن يَرْتَدّ عن الإيمان فيَكفر بعد إيمانه أيْ يَرْجِع عن دينه منكم أيها المسلمون بعدما ذاق سعاداته ويصير كافرا ويستمرّ علي ذلك دون توبة وعودة لربه ولدينه ويموت علي هذا الحال وهو كافر أيْ مُكَذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعل لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب مِن وجهة نظره، فهؤلاء ستَحْبط أعمالهم، أيْ ستَفسد فسادا تامّا، حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيح بأيِّ حسناتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ مهما ثَقلَت وكثرَت في الميزان يوم القيامة وهو الكفر، وسيُحْرَمون بعد كفرهم جزاء ما كانوا يعملونه مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياهم كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصابون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا أردتم القيام إلى الصلاة ولم تكونوا مُتَوَضِّئين، فتَوَضَّأوا بغَسْل وجوهكم وأيديكم مع المَرَافِق – جَمْع مِرْفَق وهو المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد – وامسحوا رءوسكم كلها أو بعضها واغسلوا أرجلكم مع الكَعْبَيْن وهما العَظْمان البارِزان عند التقاء الساق بالقَدَم.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا.." أيْ وفي حالِ كنتم جُنُبَاً أيْ نَزَل منكم مَنِيٌّ أثناء نومكم أو بسبب جِمَاع الزوجة أو غيره، فاسْتَحِمّوا بالماء والذي يُنَشِّط أجسامكم وأذْهَانكم من الخُمُول الذي يَحدث بعد نزول المَنِيّ.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.." أيْ وإنْ كنتم في حالِ مرضٍ لا تستطيعون معه استعمال الماء خوفاً من زيادته أو تأخّر الشفاء منه، أو في حالِ سفرٍ ويصعب عليكم الحصول علي الماء، أو جاء أحد منكم من الغائط وهو المكان المُعَدّ للتّبَوُّل والتّبَرُّز أو جامَعتم النساء، فلم تجدوا ماءً للطهارة فتَيَمَّموا أيْ فاقصدوا تراباً طاهراً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.. إنَّ في هذا الذي ذُكِرَ تربية لعقل المسلم علي الانضباط والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام النافعة المُسْعِدَة إضافة لتربيته علي يقظة الضمير ومراقبة خالِقه فلا يفعل إلا خيراً مُسْعِدَاً لأنَّ كل هذه المُلْحَقَات بالصلاة من وضوءٍ وتَيَمُّمٍ ونحوه لا رقيب لأحدٍ عليه فيها إذ من الممكن مثلا أن يُصَلّي بغير وضوء!! فمَن يدري بذلك إلا ربّه ونفسه؟!.. ".. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.." أيْ ما يريد الله فيما يشرعه من تشريعاتٍ لكم أبداً بالتأكيد أن يجعل عليكم أيَّ ضِيقٍ أو شِدَّةٍ أو عُسْر، ولا يَلِيق ولا يُعْقَل ولا يُتَصَوَّر به ذلك مُطْلقاً.. إنه يريد دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم من تيسيراتٍ سَبَقَ ذِكْرها وغيرها أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم (ص) حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.." أيْ ولكنه يريد بتشريعاته أن يُنَظّفكم تماما أيها المسلمون – وأيها الناس جميعا – مِن كلّ شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ وما يَتْبَعه مِن تعاساتٍ لكم في دنياكم وأخراكم بسببه، بلا أيّ مُخَاَلَطَة منه لو عملتم بكلّ أخلاق الإسلام، ويجعلكم من المُتَطَهِّرين أيْ الكثيري التَّطَهُّر أيْ الذين هم دوْمَاً يَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك.. وهذا من فضله سبحانه ورحمته وكرمه وحبه لكم وحرصه علي إسعادكم في الداريْن.. ".. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.." أيْ ولكي يُكمل نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ وذلك بإرشادكم لكل أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7) .. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7).. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)" أيْ وتذكّروا دائماً أيها المسلمون – وأيها الناس جميعا – نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، وأهم وأعظم هذه النِّعَم إرشادكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بالقرآن العظيم الذي فيه أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بها كلها.. ".. وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.." أيْ وتَذَكّروا أيضاً دائماً ولا تَنْسوا أبداً عَهْد الله ووَعْده المُوَثّق المُؤَكّد الذي عاهَدَكم به وعاهَدتموه عليه وذلك حين قلتم – وقت أن أخَذَ عليكم هذا العهد حينما شَهدتم شهادة ألاّ إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله وبناء عليها اتّبعتم الإسلام – سمعنا قولك يا ربنا في قرآنك الكريم وأطعنا كل ما فيه واستجبنا له وعملنا به، سمعنا أخلاقيَّاته وتشريعاته وأنظمته سَمَاعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالنا وأعمالنا في كلّ شئون حياتنا لنَصْلُح ونَكْمُل ونَسْعَد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. إنَّ دَوَام التّذَكّر لهذا الميثاق يجعلكم دائما في كلّ خيرٍ مُتَجَنّبين لأيِّ شرّ.. فأوفوا والتزموا به بكل عَزْمٍ وهِمَّةٍ ولا تُخْلِفوه مُطْلَقَاً وكونوا دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّوا مستمرّين علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. أَوْفُوا والْتَزِمُوا بوعدكم حتى أوفى بوعدي لكم أيْ أنفذه حيث هو مشروط بتنفيذ عهدكم، وهذا الوعد هو كل الخير لكم والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد سعادة في الآخرة بجنّاتها التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الوفاء بالمَوَاثيق، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا قَوَّامِين جَمْع قَوَّام وهو المُبَالِغ في القيام بالشيء والإتيان به على أكمل وأحسن وجهٍ مُمْكِنٍ أيْ كونوا كثيري القيام بعَزْمٍ وهِمَّةٍ بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم، لله، أيْ لأجل ثواب الله وحده، وتعظيماً لوَصَايَاه ومَوَاثيقه التي عاهَدَكم وعاهَدتموه علي العمل بها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية السابقة)، فإنَّ الإيمان الحقّ وخُلُق الإسلام يَتَطَلّب ذلك، أيْ كونوا دوْمَاً مُخْلِصين مُحْسِنين في عبادتكم أيْ طاعتكم أيْ تَفعلون ما تَفعلون مِن خيرٍ وتَقولون ما تقولون منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراكم الناس فيقولوا عنكم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لكم حيث يُوقِعكم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحكم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولكم (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء).. ".. شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ.." أيْ كونوا أيضا دائماً – عند أدائكم للشهادة – شهداء بالقِسْط أيْ بالعدل وبكل صدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا، فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما.. كذلك من المعاني أن تكونوا شهداء بالقسط علي الناس في كل شئون حياتهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة تكونون شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا.." أيْ ولا يَحْمِلَكم ويَدْفعكم أبداً بالتأكيد كُرْه قومٍ كراهية شديدة علي عدم العدل معهم وغيرهم في كل قولٍ وعملٍ فإنَّ ذلك مُخالفٌ لأخلاق الإسلام.. ".. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي العدل.. أيْ التزموا العدل في كل أقوالكم وأعمالكم مع الجميع وفي كل الأحوال، فهو – أي العدل – أقرب لكم أيها المسلمون إلى صِفَة التقوى وإلي تكونوا عند الله من أهل التقوى وهم أهل الخوف والحَذَر منه أن يُخالفوه في شيءٍ مِمَّا وَصَّيَ به من أخلاق الإسلام فيُصابوا بغضبه ويَفقدوا حُبّه وعَوْنه، لأنَّ مَن كان عادلا كان مُطِيعَاً لله ومَن كان مُطيعاً له كان بالتأكيد مِن أهل التقوى، بينما مَن كان ظالما كان بلا شكّ عاصياً له وبالتالي كان بعيداً عن التقوي.. إنَّ الذي يعدل يدلّ علي أنه يخاف أن يَظلم بأخذ أيِّ حقّ من حقوق غيره حتي ولو كان كافراً وخوف الظلم هذا هو من أهم معاني التقوي ولذا فهو بالتالي حتماً أقرب لها لأنَّ التقوي هي تَجَنّب كلّ شرّ يُبعد ولو للحظة عن حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وعدم الوصول أبدا لمرحلة إغضابه بل المسارعة لفِعْل كل خيرٍ يُسْعِد النفس والغير.. إنَّ الذي يعمل دَوْمَاً بخُلُق العدل سيُعينه خُلُقه هذا غالباً علي أن يكون أقرب لاتّقاء المعاصي وعلي العمل ببقية أخلاق الإسلام وكلما عمل بخُلُقٍ منه كلما اقترب من تحصيل تمام التقوي.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي.. أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)" أيْ أعْطَيَ الله بفضله وكرمه وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، أنَّ لهم مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وَوَعَدَهم كذلك أجراً عظيماً أيْ عطاءً هائلاً حيث سيُحَقِّق لهم تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذ سيكونون بكلّ هذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فكن أيها المسلم حريصا دوْما علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خيرٍ مُجتهداً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل، أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متأكّدا تماماً بلا أيِّ شكّ أنك لو تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك فلن يتمكّن أحدٌ من الإضرار بك، إلا ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا (برجاء مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي تستحِقّ الشكر والتي لا تُحْصَيَ علي المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم، ومزيدٌ من التَبْشِيرٌ والطَمْأَنَة والتثبيت والتشجيع لهم أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتماً سيَنصرهم وسيُحَقِّق لهم أفضل المَكاسِب بأقلّ الجهود.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – تَذكّروا دائماً نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، والتي منها نِعْمَتِي عليكم بالأمن حين همَّ قومٌ أيْ بعضٌ من أعدائكم – أيْ عَزَمُوا وقَصَدُوا لكن لم يَفعلوا ولم يَتَمَكّنوا من التنفيذ لمَنْع الله تعالي لهم بقُدْرته وعِلْمه – أنْ يَبْسُطوا أيْ يَمُدّوا إليكم أيديهم، وكذلك ألسنتهم، بالإيذاء والظلم والاعتداء بكل أنواعه، الفِعْلِيّ، والقَوْلِيّ، بما يُسِيء إليكم ويُؤذيكم ويضرّكم ويَنْهَب خيراتكم ويُتعسكم وقد يُهْلككم بقتلكم بصور القتل المُتَعَدِّدَة.. ".. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.." أيْ فمَنَعَ أذاهم عنكم كثيراً برحماته وأفضاله عليكم وبقُدْراته وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه (برجاء مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وقَوَّاكم وأعَزَّكم ونَصَرَكم، طالما كنتم متمسّكين بربكم عاملين بإسلامكم مُحسنين اتّخاذ أسباب نصركم علي أعدائكم، فهو تعالي إذَن ينصركم بتقويتكم وفي ذات الوقت بكفّ أيدي عدوكم عنكم بإضعافه وإلقاء الرعب بين صفوفه، فاشكروا بالتالي كل هذه النِعَم المُضَاعَفَة المُرَكّبَة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها بعد النصر وكفّ الأذي عنكم فلا تَغْتَرّوا فتَظلموا أو تَفْسَدوا وتُفْسِدوا، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)" أيْ وعليه وحده فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)" أيْ ولقد أخذ الله عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً من بني إسرائيل أيْ اليهود من خلال ما أوْصاهم به في التوراة – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.." أيْ وأرسلنا منهم وجعلنا عليهم اثنى عشر رئيساً فيهم لتنفيذ هذا الميثاق، وهم الذين اختارهم موسي (ص) لهذه المهمّة، وقد سُمِّيَ الرئيس نقيباً لأنه يُنَقّب أيْ يُفَتّش ويَبْحَث عَمَّا يُصلح أمور مَن يَرْأسهم.. ".. وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ.." أيْ وقال الله لِبَنِي إسرائيل ولنُقبائهم إنى معكم بقُدْرتي وعِلْمي أؤيّدكم برعايتي وعَوْني وتوفيقي ونَصْرى متى وَفّيتم بميثاقكم أيْ وَعْدِكم معي، ولا تَخْفَيَ كذلك عليَّ خافية من أفعالكم وأقوالكم.. وفي هذا طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ لهم من أيِّ مُخَالَفَة.. ".. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض تفاصيل الميثاق الذي عليهم الوفاء به حتي يكون الله تعالي معهم.. أيْ إنْ وَاظَبْتُم علي تَأْدِيَة الصلوات المَفْرُوضَة وأدّيتموها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنتموها وأتقنتموها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وأعطيتم الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال، وكنتم دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا ، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.." أيْ وصَدَّقتم برسلي جميعاً وبما جاءوكم به من إسلامٍ واتّبعتموه وعَمِلتم بكل أخلاقه، وعزّرتموهم أيْ وعظّمْتموهم وأدَّيْتُم لهم ما يَسْتَحِقّونه من احترامٍ وطاعةٍ ونَصَرْتُموهم وقَوَّيْتموهم وعاوَنتموهم ودافَعْتم عنهم ونَصَرْتُم الإسلام والحقّ والعدل والخير دائما.. ".. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.." أيْ هذا تشجيعٌ علي الإنفاق في كلّ وجوه الخير والحَثَّ على الكرم والعطاء مع التذكرة بالتَّحَلّي بحُسْن الخُلُق.. أيْ وأعطيتم مِمَّا تَملكونه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن تُنفقوه في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة لكم ولغيركم، حرصاً ورَجَاءً أنْ أعَوِّضكم بأكثر مِمَّا أنفقتموه.. فكأنهم يُقْرِضونه سبحانه ويَنتظرون منه أن يَرُدَّ لهم ما أقرضوه إيّاه! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالاً أيْ نافعاً مُسْعِدَاً لا حراماً أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام.. هذا، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه.. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه.. إنه تعالي يَرُدّه لهم أضعافا كثيرة لا يُمكن حصرها، وهذا العطاء المُضَاعَف هو كريمٌ أيْ نَفِيس طيِّب عظيمُ الشأنِ فَخْمٌ هائلٌ لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بمقدار بما يُناسِب كَرَمه وعظمته تعالي، وعلي قَدْر جَوْدَة القَرْض الحَسَن وإتقانه والصدق فيه ومنافعه ودَوَامه ونحو ذلك، ويكون لهم في دنياهم حيث يَنَالون كل خيرٍ وسعادة، ثم في أخراهم بنَيْلِهم أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – وبتوبتكم من ذنوبكم أوَّلاً بأَوَّل سأَمْحُو عنكم ما فعلتموه من سيِّئاتٍ أي شرور ومَفاسد وأضرار وأَسْترها عليكم ولا أعاقبكم عليها وأمْحُها كأن لم تكن وأمْحُ عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأسترها وأخفيها فلا أعذّبكم بفضحكم بها فيهما فبالتالي تعيشون حياتكم بسبب هذا العَفْو والستْر في استشعارٍ للرحمات واستبشارٍ بانتظار كلّ أنواع الخير والرعاية والأمن والرضا والعون والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر.. ".. وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.." أيْ وكذلك أُقْسِم وبالتأكيد سأُدْخِلكم في حياتكم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة تعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)" أيْ فمَن كفر منكم – أي كَذّب بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره – بعد ذلك الميثاق المُؤَكّد الذي أخذه الله عليهم والمُعَلّق عليه هذا الوَعْد العظيم وخالَفه بعد أن عَرفه عن عَمْدٍ وعِلْمٍ لا عن خطأ وجهلٍ ولم يَفِ به بعد أن وَثّقه وأكّده وعاهَد الله علي ألاّ يُخَالِفه.. ".. فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)" أيْ فهو حتماً بكل تأكيدٍ قد فَقَدَ وأخطأ وابْتَعَدَ عن سواء السبيل أيْ وسط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما
ومعني "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)" أيْ فبسبب نقضهم عهدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في تَوْرَاتِهم، لَعَنّاهم أيْ طَرَدناهم وأبْعَدناهم من رحماتنا وإسعاداتنا في دنياهم وأخراهم، وأصبحت قلوبهم قاسية أيْ تَحَجَّرَت وتَصَلّبَت عقولهم ومشاعرهم وأفكارهم بداخلها فصارَت لا تتأثّر لا بالترغيب في كل خيرٍ وسعادةٍ لمَن يعمل بكل أخلاق إسلامه ولا بالترهيب مِن كلّ شَرٍّ وتعاسةٍ لمَن يتركها بعضها أو كلها علي قَدْر ما يَترك وبما يُناسبه، وصارَت لا تُفَرِّق بين الحلال النافع المُسْعِد والحرام الضارّ المُتْعِس مِن كثرة فِعْل السوء وعدم التفكير في الخير والعودة له.. هذا، ولفظ "جعلنا" قد يُوهِم أنه تعالي هو الذي جعل قلوبهم قاسية لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي جَعَلَها كذلك (برجاء مراجعة الآية (5) من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة قلوبهم وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة عن مواضعه التي وَضَعَه الله فيها أيْ عَمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.." أيْ وتَرَكوا نصيباً أيْ مِقداراً كبيراً مِمَّا ذَكّرهم ووَصَّاهم الله به في التوراة فأهملوه ولم يعملوا به، من اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد (ص) عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه.. ".. وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ.." أيْ وستَظلّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده تَرَىَ خيانة منهم أيْ غَدْرَاً ونَقْضَاً للمواثيق والعهود وعدمَ وفاءٍ بها.. ".. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.." أيْ إلا قليلا منهم لم يَنقضوا ميثاقهم ولم يَخونوا وهم الذين يُسْلِمون.. ".. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.." أيْ فسامِح يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده فلا تُعاقِب فتُقَابِل الإساءة بمِثْلها بل بالحَسَنَة وكأنَّ الإساءةَ قد مُحِيَتْ، واصفح أيْ واجتهد في أن تَنْسي الأمر تدريجيا وتُلغيه من ذهنك، والمقصود ألاّ تهتمّوا أيها المسلمون ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين فلعلهم يعودون لربهم وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، واصبروا علي ذلك إلي أن يأتي الله بأمره أيْ بنَصْره ونَشْره للإسلام والتمكين له ولكم في الأرض فتُديرونها بأخلاقه فتَنتفعون وجميع الناس بخيراتها وسعاداتها، وبعقابه لهم بما يُناسب شرورهم، وأمره هذا بالنصر وبالعقاب الدنيويّ والأخرويّ سيَأتي حتما فهو تعالي لا يُخْلِف وعده مُطلقاً لأنه علي كل شيءٍ قدير.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)" أيْ إنَّ الله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
ومعني "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)" أيْ وكما أخذنا على بنى إسرائيل أي اليهود الميثاق فقد أخذنا أيضا من الذين قالوا إنا نصاري أيْ ناصِرين لدين عيسي (ص) ميثاقهم أيْ أخذنا عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً منهم من خلال ما وَصَّيْناهم به في الإنجيل – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيه في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.." أيْ فكان حالهم في نَقْضِهم عَهْدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في إنجيلهم كحال اليهود حيث أيضا تَرَكوا نصيباً أيْ مِقداراً كبيراً مِمَّا ذَكّرهم ووَصَّاهم الله به في الإنجيل فأهملوه ولم يعملوا به، من اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد (ص) عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه.. ".. فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ فبسبب ذلك عاقَبْناهم بأنْ أَثَرْنا وهَيَّجْنا بينهم وبين بعضهم البعض وكذلك بينهم وبين اليهود أسباب العَداء والكُرْه الدائم المستمرّ حتي يوم القيامة، كما يُرَيَ واقِعِيَّاً بين طوائفهم المختلفة، وكانوا مُسْتَحِقّين لهذا العقاب بسبب نَقْضهم لميثاقهم ولعله يُوقِظ بعضهم فيَستفيق ويعود لربه ويُسْلِم ليخرج من هذه الحالة ويسعد في الداريْن بدلا من تعاسته فيهما باستمراره علي ما هو فيه.. لقد بدأوا هم واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي أضَلّهم (برجاء مراجعة الآية (5) من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)" أيْ وبعد عَداوَات الدنيا وعذاباتها وتعاساتها التي هم فيها سيُخبرهم الله حتماً يوم القيامة بما كانوا يعملون في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار وسيُحاسبهم عليها بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بما يَسْتَحِقّونه من عذابٍ شديدٍ مُناسِب، فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ مِن خَلْقه ويعلم كل ما يُسِرّون وما يُعلنون.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – ويناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – قد جاء لكم رسولنا الكريم محمد (ص) يُظْهِر لكم من خلال القرآن العظيم الذي أوحيناه إليه كثيراً مِمَّا كنتم تُخفونه من الكتاب الذي معكم وهو التوراة والإنجيل، بما يَدلّ علي صِدْقه، حيث هو أُمِّيّ لا يَعلم ما تعلمونه وأنتم قد أخفيتم هذه الأمور ولم يعلم بها أحدٌ فإظهارها وتَبْيينها دلالة قاطِعَة علي أنَّ الله هو الذي أوْحَاها إليه، فصَدِّقوه إذَن وأَسْلِموا.. إنهم قد أخْفوا هذا الكثير عن الناس فلم يَسعدوا به لتحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.." أيْ ويَترك كثيراً مَمَّا تُخفونه وتُحَرِّفونه فلم يُخْبِر به ولم يَفضحكم حيث لم يُؤْمَر بذلك ويَعفو أيضا عن كثيرٍ منكم فلا يُؤاخِذه بسوء أدبه معه، وكل ذلك رحمة بكم وحُسن خُلُقٍ معكم.. ".. قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)" أيْ قد جاءَ لكم ووَصَلَ إليكم من الله نورٌ هو القرآن العظيم يكون سَبَبَاً لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا .."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والذي هو أيضا كتابٌ مُبِينٌ أيْ مُبَيِّنٌ مُوَضِّحٌ لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن.. هذا، ومن معاني نور كذلك أنه الرسول الكريم محمد (ص) الذي أنار الله به للناس حياتهم وأسعدها لهم من خلال تبليغهم وتعليمهم إسلامهم.. وفي هذا دعوة لهم ولغير المسلمين ليُسْلِموا ليَسعدوا في الدنيا والآخرة
ومعني "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)" أيْ يُرْشِد الله بهذا الكتاب مَن سَارَ خَلْفَ واتّجَهَ إلي واجتهدَ في تحقيق رضوان الله أيْ بَدَأ هو أولا بأنْ أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وبدأ باتّباع أخلاق الإسلام التي في هذا الكتاب ليَسير بلا أيِّ ابتعادٍ نحو رضي الله عنه في دنياه وأخراه، مَن فَعَلَ ذلك يهديه سبحانه حتماً إلي سُبُل السلام أيْ يُرْشِده ويُوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب الوصول لها أيْ لطرق السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، فيَحيا بذلك دائما في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ خالد لا يُوصَف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (17) من سورة محمد "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ").. ".. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ وهو تعالي برحماته وأفضاله وبسبب اختيارهم هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. بِإِذْنِهِ.." أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسبابه لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)" أيْ ويُرْشدهم سبحانه – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والقرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ويُوَفّقهم إليه ويُعينهم عليه ويُيَسِّر لهم أسباب السَّيْر فيه والثبات به والزيادة منه، وذلك في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّف.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" أيْ بالتأكيد قد كفر بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو المخلوق المسيح عيسى ابن مريم، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ صاروا بذلك كافرين، أيْ مُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ومُعاندين ومُستكبرين ومُستهزئين وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهة نظرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، ولهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل مَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد أن يفْنِيَ المسيح ابن مريم وأمّه ومَن في الأرض جميعا؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته تعالي ولو كان المسيح إلاهَاً كما يَدَّعُون لاستطاع هذا المَنْع!! وذلك لأنه وحده الذي له كل ما في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، وهو يَخْلُق ما يشاء مِن مخلوقاتٍ علي أيِّ شكلٍ أراد، ومِن غير أبٍ ولا أمٍ كآدم، ومِن غير أمٍ كحَوَّاء، ومِن غير أبٍ كعيسي، وبأبٍ وأمٍ كبقية المخلوقات الحَيَّة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومادام الأمر كذلك فدَعْوَىَ أنَّ الله هو المسيح ابن مريم كاذبة سفيهة تماما لأنه وأمه من مخلوقاتِ الله التي هي قابِلَة للهلاك كأيِّ مخلوق وليس هذا من صفة الخالق الذي كل شيء هالِك إلا هو سبحانه وله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من بعض صور ادِّعاءاتهم وافتراءاتهم علي الله تعالي بما يُظْهِر تَكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم حتي لا يُسْلِموا.. أيْ وقالت بعض مجموعاتٍ من اليهود والنصاري كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلاً وتَبَجُّحَاً نحن أبناء الله والمُحَبَّبون المُقَرَّبون له بسبب ذلك!! وكأنه سبحانه له زوجات يُنْجِب مِنهنّ!! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا، حيث قال بعض اليهود نحن أبناء ابنه عُزَيْر وكان أحد الصالحين فيهم، وقال بعض النصاري نحن أبناء ابنه عيسي (ص)، وقد بَيَّنَ تعالي تَخريفهم هذا بقوله "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" (التوبة:30).. ".. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، ولهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم بما يُظْهِر كذبهم ويُخْرس ألسنتهم وبما هو عَقلانيّ مَنْطِقِيّ، إنْ كان الأمر كما تدَّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه فلماذا إذَن يُعَذّبكم بسبب ذنوبكم أيْ شروركم ومَفاسدكم وأضراركم فهل الأب يُعَذّب أبناءه والحبيب يُعَذّب مُحِبِّيه؟! ثم إنَّ واقعكم يُكَذّب ادِّعاءكم، فلقد عَذّبكم بالفِعْل في الدنيا بما تعرفونه من تعاسات وعذابات المَسْخ والقتل والذلّ وإثارة العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة وما شابه هذا، وقد اعترفتم بالفِعْل أنه يُعَذّبكم بالنار في الآخرة أياماً مَعْدودة كما تَدَّعون، فأنتم إذَن بالقطع كاذبون فيما تقولون.. ".. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)" أيْ ليس الأمر كما تَدَّعون أنكم أبناء الله وأحبّاؤه بل الحقّ أنكم بَشَر ككلّ البَشَر من الذين خَلَقَ الله، فنِسْبَتكم إليه تعالى نِسْبَة مخلوقٍ إلى خالق، مَن آمَنَ منكم وعمل صالحاً غَفَرَ له وأكرمه وأسعده في دنياه وأخراه، ومَن كفر منكم وعمل سوءاً عذّبه وأتعسه فيهما، كما يَحْدُث مع كل البَشَر، فالجميع متساوون في ذلك، فلا مُحَابَاة ولا فضل لكم ولا لأيِّ أحدٍ علي غيره إلا بعمله بأخلاق إسلامه، فالله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء إذا أَتَوْا بأسباب المغفرة وهي الإيمان والعمل الصالح أو أسباب العذاب وهي الكفر والعمل السَّيِّء، ولا اعتراض عليه ولا يُمكن لأحدٍ مُطلقاً مَنْع إرادته تعالي وذلك لأنه وحده الذي له كل ما في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. وإليه المصير أيْ مَصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – ويناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – قد جاء لكم رسولنا الكريم محمد (ص) يُظْهِر لكم من خلال القرآن العظيم الذي أوحيناه إليه طريق الله والإسلام أيْ طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وذلك علي فترةٍ من الرسل أيْ على انقطاعٍ من الرسل إذ الفترة هي الزمن بين زمنين ويكون فيها فُتُور أيْ سكون عَمَّا يكون في هذين الزمنين أيْ سكون خَالٍ مِن وجود رسول من الله تعالي، والمقصود أنه لم يكن هناك رسل بين زمن عيسي (ص) وزمن الرسول محمد (ص) فجاءهم (ص) بعد مُدَّة من انقطاع الرسل حيث كان الناس يعملون بالإنجيل وما فيه من إسلامٍ مناسبٍ لهذا الزمن حتي جاء القرآن بما يُناسب البشرية جميعا حتي يوم القيامة، فإنْ كنتم يا أهل الكتاب أهل خيرٍ فمِن المُفْتَرَض والمُتَوَقّع منكم أن تَتَلَهَّفوا وتُسارِعوا إلي ما جاء به هذا الرسول لإتمام دينكم وتُسْلِموا لا أنْ تُكَذّبوه.. ".. أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.." أيْ خَشْيَة أنْ، ولكي لا، تقولوا مُتَحَجِّجِين بحُجَج ساقِطَة غير مَقبولة حينما يَنْزِل بكم عذابٌ مَا بدرجةٍ من الدرجات في دنياكم ثم ما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد في أخراكم أنَّ كفركم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار سببه أنه ما وَصَلَ إليكم أيُّ بشيرٍ ولا نذيرٍ أيْ مُبَشِّرا لكم أيْ مُخْبِرَاً بالأخبار السارَّة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بكل ما في القرآن العظيم من أخلاق الإسلام، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه.. ".. فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.." أيْ فليس لكم بالتالي إذَن أيّ عُذْرٍ تَعتذرون به أو حُجَّة تَتَحَجَّجُون بها حيث قد وَصَلَ إليكم بشيرٌ ونذيرٌ هو رسولنا الكريم محمد (ص).. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)" أيْ والله حتما علي كل شيءٍ قدير تمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء، ومِن قدْرته إرسال الرسل وإنزال الكتب وجزاء المُحْسِنين بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وعقاب المُسيئين بما يُناسبهم من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته (ص) في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال موسي لقومه علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، حيث أرسل فيكم أنبياء كثيرين يُرْشدونكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بما أرسله معهم من كتبٍ فيها أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بها كلها، وهذه مِن أعظم وأهمّ النِّعَم عليكم وعلي الناس جميعا، وكذلك جعلكم مُلُوكاً أيْ تَمْلِكون أمر أنفسكم أحراراً أعِزّة كالملوك وجعل منكم مُلوكاً بالفِعْل لهم مَمَالِك وذلك بعد أن كنتم مَمْلُوكِين عبيداً أذِلّاء لفرعون وقومه الذين كانوا يُذيقونكم كل صور العذاب فأصبحتم بعد إهلاكهم تَمتلكون إرادة العمل بكل أخلاق إسلامكم ولكم الأملاك والأموال والثروات وكل الخيرات بعدما كنتم لا تَمتلكون شيئا من هذا.. ".. وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)" أيْ وأعطاكم من النِّعَم والمُعجزات ما لم يُعطها أحداً غيركم من الناس مثل شَقّ البحر لكم لتسيروا في طريقٍ يابسٍ لتَنجوا ثم يتمّ إغراق عدوكم وإنزال المَنّ والسلوى عليكم لتأكلوا من الطيبات وتفجير من الحجر اثنتي عشرة عَيْنَاً حتى يعلم كل أناس مَشْرَبهم إلى غير ذلك من النعم والتي كانت تستلزم منكم شكرها عمليا بالمسارعة لاتّباع أخلاق الإسلام التي في التوراة لا مخالفتها
ومعني "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)" أيْ يا قوم ادخلوا الأرض المُطَهَّرَة المُبَارَكَة – وسبب تقديسها أنها كانت مَوْطِنَاً لكثيرٍ من الأنبياء، وهي أرض الشام – التي قَضَيَ ووَعَدَ الله أن تكون مَقْسُومَة لكم ما دُمْتُم آمنتم به وأطعتم أنبياءكم واتّبعتم كل أخلاق إسلامكم، حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء، فإنْ خَالَفْتُم لم تكن لكم وإنما لغيركم من المُطِيعين المُحْسِنين الصالحين.. ولا تَرْتَدُّوا علي أدباركم أيْ لا تَرْجِعوا مُدْبِرين أيْ مُعْطِين أدْباركم أيْ ظهوركم للإسلام تاركين طاعة الله إلى معصيته بمُخَالَفته.. وإذا قاتلكم أعداؤكم بسبب إيمانكم فأيضا لا ترتدوا علي أدباركم أي لا تَرْجِعوا فَارِّين منهم بسبب خوفٍ وجُبْنٍ لأنَّ الله معكم وناصركم ينصر حتماً المؤمنين علي أعدائهم ما داموا أحسنوا اتّخاذ أسباب النصر.. وإلا ستَنْقَلِبوا خاسرين أيْ تَرْجِعوا خاسرين في الداريْن بسبب مُخَالَفَتكم ربكم وإسلامكم وجُبْنكم وفراركم خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسرون وتَفقدون دنياكم فتتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدكم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسرون حتما أخراكم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم ومُخالفتهم لأخلاق إسلامهم الذي يطلب حُسْن اتّخاذ أسباب النصر علي أعدائهم وأهمها التوكّل علي ربهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ وإعداد المُسْتَطاع من القوة حيث قالوا مُتَحَجِّجِين بحُجَجٍ واهيةٍ يا موسي – وينادونه باسمه دون احترامٍ بقول رسول الله بما يدلّ علي نوعِ استهانةٍ بما يُوصِيهم به – إنَّ الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها بعض أناسٍ عظامِ الأجسام أشِدّاء أقوياء يُجْبِرون غيرهم على طاعتهم وعلي ما يريدون، ولا قُدْرَة لنا على التّعامُل معهم ولا قتالهم إنْ قاتلونا، وإنا لن ندخلها مُطلقا مادام هؤلاء الجَبَّارون فيها، فإنْ يخرجوا منها لأىِّ سببٍ من الأسباب التي لا شأن لنا بها، فنحن على استعدادٍ لدخولها في راحةٍ ويُسْرٍ بلا تَعَبٍ وجهد، فهم يريدون حياة راقية ونصراً بلا اتّخاذ أسبابٍ لتحقيق ذلك بما يُخالِف قوانين الحياة التي وضعها خالقها لها!!
ومعني "قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)" أيْ قال رجلان مؤمنان منهم، مُسْتَنْكِرَيْن رافِضَيْن جُبْنهم وضعف عَزْمهم وعدم توكّلهم علي ربهم مُشَجِّعَيْن لهم علي الإقدام، مَوْصُوفان بأنهما من الذين يَخافون الله وحده ويَتَّقونه ولا يَخافون غيره من الناس، ويَخافون عدوهم أيْ يَحسبون ويُقَدّرون قُوَّته ويَستعدون له ويتوكّلون علي ربهم، وبأنهما قد أنْعَمَ الله عليهما حيث اختارا بكامل حرية إرادة عقليهما طاعته فيَسَّر لهما التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام وقول كلمة الحقّ والصبر والثبات والثقة التامّة بنصره للمؤمنين علي أعدائهم ما داموا أحسنوا اتّخاذ ما استطاعوا من أسبابٍ للنصر عليهم، قالا لقومهما ابدأوا وادخلوا علي هؤلاء الجَبَّارين الباب لمدينتهم مُفَاجِئِين لهم وأَخْذَاً بالأسباب فإذا فعلتم ذلك فإنكم مُنْتَصِرون عليهم بالقطع بعوْن الله وقوّته وتوفيقه ونصره فأنتم الأقوياء دوْماً بقوّته وهم الضعفاء بإضعافه تعالي لهم، وذلك بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا.." أيْ وعليه وحده دائما فتوكّلوا أيْ اعتمدوا في كل شئون حياتكم تمام الاعتماد وهو حتماً سيكفيكم كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعاً غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فلتكونوا إذَن دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. إنَّ الآية الكريمة تُنَبِّه كل مسلم أن يكون قوياً شجاعاً مِقْدامَاً مُستعداً دائما للتضحية ببذل دمه وروحه وكل ما يملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامه ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال، ولا يكون أبدا جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل متأكّداً تماما أنَّ الجُبْنَ ما أطال أجل أحدٍ أبداً! لأنَّ الآجال علمها عند الله تعالي ومُحَدَّدَة الموعد، لكنَّ الجبان يعيش حياته دائم الخوف والفزع والتخاذل والتراجُع والذلّة والمَهَانَة لحرصه الشديد علي الحياة، أيّ حياة، حتي ولو كانت ذليلة مَهِينَة هو فيها عَبْد ذليل مَهِين لأسياده، إنه حينئذ كالمَيِّت!! وقد يُصيبه مرض مُقْعِد أو يأتيه الموت فجأة!! ولن يشعر بقيمة الحياة ويكون حَيَّاً إلا إذا انتفض وتَغَيَّر تدريجيا ليصبح قويا عزيزاً شجاعاً مِقْدَامَاً، فحينئذ سيساعده ربه ويُقَوِّيه ويُعِزّه ويَضَع الهيبة منه في عقول غيره، فكأنه سبحانه قد أحياه بعد موته!! وهو بعد ذلك إمّا أنْ يعيش عزيزاً كريماً سعيداً أو يموت شهيداً أكثر عِزَّة وكرامة وسعادة، مثلما كان حال كل أمة ماتت بذُلّها وجُبْنِها بسبب بُعْدها عن ربها وإسلامها ثم أحياها سبحانه بعِزِّها وإقْدَامِها لَمَّا عادَت لهما وأحْسَنَتْ اتّخاذ أسباب ذلك
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)" أيْ قالوا غير مُهْتَمِّين مُطلقاً بما نُصِحُوا به بل مُعْلِنين مُخَالَفتهم مُؤَكّدين إصرارهم التامّ الدائم عليها يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض أبداً في أىِّ وقتٍ مادام هؤلاء الجَبَّارون يُقيمون فيها.. "..فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا.." أيْ ولم يَكْتَفوا بقولهم هذا الذي يدلّ على جُبْنهم وضعف هِمَّتهم بل أضافوا إليه ما هو أشنع وأقبح وأفظع منه وفيه دلالة علي استهانتهم بالله ورسوله وعدم مُبالاتهم بهما وتَطاولهم عليهما وسوء أدبهم معهما حيث قالوا بكل وَقَاحَة ودَناءَة وخِسَّة وانحطاط إذا كان دخول هذه الأرض يهمّك أمره يا موسي فاذهب إذَن أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم أنتما منها.. هذا، وتعبيرهم بلفظ "ربك" كأنهم يُلَمِّحون إلي أنَّ الله تعالي ليس ربهم إذا كان يطلب منهم مثل هذا الطلب!! ثم وَصَفوه سبحانه بأنه يُقاتِل كالبَشَر وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ إذ البَشَر يُقاتِلون وهو ينصر أهل الحقّ بجنوده التي لا يعلمها إلا هو.. ".. إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم دخولهم لتلك الأرض المُقَدَّسَة.. أىْ إنّا في هذا المكان قاعدون مُقيمون لن نفارقه ولن نتقدَّم أيّ خطوة للأمام وكل خيرٍ يأتينا عن طريق دخولها وقتال الجَبَّارين فيها فنحن لا نريده.. وفي هذا مزيدٌ من إظهار مِقْدار خِسَّتهم وحَقارتهم لأنَّ قعودهم يحدث في وقتٍ يجب فيه القيام والنهوض للعمل الجادّ المُفيد المُسْعِد
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)" أيْ حينها قال موسى (ص) شاكِيَاً إلي الله حزيناً مُعْتَذِرَاً عن مُخالَفَة قومه لطاعة ربهم وتَطَاوُلهم وسوء أدبهم وجُبْنهم وضعف هِمَّتهم ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعيني ومُرْشِدي لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني في دنياي وأخراي من خلال دين الإسلام – إني لا أقْدِر إلا علي نفسي وأخي هارون لتوصيتهما وإلزامهما بطاعتك ونُصْرَة دينك.. ".. فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)" أيْ أمَّا قومي فقد خَالَفوا وَصَاياك رغم نُصْحهم وإرشادهم كثيراً ومادام قد حَدَثَ منهم هذا الإصرار فافْصِل واقْضِ واحْكُمْ بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعتك ودينك بقضائك وحُكْمك العادل، بأنْ تَحْكُم لنا بما نَسْتَحِقّ، وتحكم عليهم بما يستحِقّون، فإنك أنت أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.. وهذا يُرْشِد كلّ مسلمٍ ألاّ يَرْضَيَ أبداً بأقوالِ وأفعالِ الفاسقين وأن يجتهد ما استطاع في نُصحهم وألاّ يتأثّر بهم بل يَستمرّ مُتَمَسِّكَاً بإسلامه حتي ولو لم يعمل بأخلاقه إلاّ هو وحده ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" أيْ قال الله تعالى مُجِيبَاً طَلَب رسوله الكريم موسي (ص) ما دام هذا حالهم فإنَّ الأرض المقدسة ممنوعة دخولها على هؤلاء العُصَاة الجُبَناء مدة أربعين سنة وخلالها يَسيرون تائهين حَيْرانِين مُشَتّتين في أرض الله بلا استقرار، فلا تَحزن علي أمثال هؤلاء القوم الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعتنا وطاعة دينهم بسبب هذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بها إلا بسبب فِسْقهم وجُبْنهم وسوء أدبهم مع رسلهم، فهم بالتالي لا يَستَحِقّون هذا الحزن عليهم.. هذا، ورغم أنها عقوبة لكنها لمصلحتهم حيث الذي فيه خير منهم سيَستفيق وسيعود لربه ويُسْلِم ليسعد في الداريْن لأنَّ خلال هذه المدة العَصِيبَة سينشأ غالباً جيلٌ يَعتاد علي كيفية التّعامُل مع الصعاب والتّغَلّب عليها ويَتَجَمَّع له من الخبرات ما يُمَكّنه أن يحيا حياة صحيحة سعيدة بارتباطه بربه ودينه
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم، فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)" أيْ وأيضا اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ وَلَدَيْ آدم لينتفعوا بما فيه من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما.. ".. بِالْحَقِّ.." أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه هذا النبأ بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أيْ بالإسلام لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ.." أيْ حين قَرَّبَ كل واحدٍ منهما قُرْبَاناً أيْ صَدَقَة من غنمٍ أو غيره يُتَقَرَّب بها إلى الله يُقَدِّمها لتُنْفَق في الخير، فتَقَبَّل الله القرْبان من أحدهما وهو الذي كان تَقِيَّاً مُخْلصاً مُحْسِناً فيه ولم يتقبّله من الثاني لأنه لم يكن كذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ.." أيْ قال الذي لم يُتَقَبَّل منه للذي تُقُبِّلَ منه، بَدَلاً أن يُصْلِح ذاته ويَفعل أسباب التّقَبُّل للأعمال وهي التقوي والإخلاص والإحسان، قال له مُهَدِّدَاً إيَّاه سأقتلك حتما!!.. فهذا الأخ الظالم يُهَدِّد أخاه بالقتل الذي هو من أكبر الذنوب الكبيرة بلا مُرَاعاة لحُرْمَة الدماء ولا لعلاقة الأُخُوَّة بينهما، وما دَفَعه لذلك إلا الحَسَد وهو أن يتمنّيَ الإنسان الحاسِد زوال نِعَم الله عن الآخرين ولا يكتفي بهذه الأمنيات العقلية وإنما يتّخذ من الإجراءات العملية ما يحقّقها كعدم عوْن الذي يحسده أو ظُلْمه أو تَضليله بمعلوماتٍ كاذبة أو نحو ذلك، فإنَّ الحَسَد أول مَن يُؤْلِم ويُتعس هو الحاسد ذاته بينما المَحْسُود يَنْعَم بنِعَم الله ولا يشعر بألم حاسده ويَقِيه ربه إجراءاته الضارة، فانتشار التّحَاسُد بين الناس ينشر الأحقاد والضغائن والتشاحنات والانتقامات فيتعس الجميع في الدنيا والآخرة، أمَّا أنْ يتمنّي المسلم أن يكون له مثلما عند غيره وأكثر دون تمنّي زوال ما عنده ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك ويتعاوَن الجميع في التطوّر والرُّقِيّ فهذا هو ما يطلبه الإسلام ليسعدوا كلهم في الداريْن.. ".. قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)" أيْ قال الأخ التّقِيّ الذي تُقَبِّلَ منه ناصحاً أخاه الظالم الحاسِد مُرْشِدَاً مُوَجِّهَاً إيَّاه برفقٍ لإصلاحِ ذاته بفِعْل أسباب التّقَبُّل ليَسعد في دنياه وأخراه، لا يَتَقَبَّل الله عملاً إلاّ من المُتَّقِين لا من غيرهم، فالسبب إذَن منك لا مِنّي فلِمَ تَقتلني؟! أيْ يَتَقَبَّل فقط من الذين يَخافونه ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)" أي هذا تذكيرٌ من الأخ التّقِيّ للأخ الظالم بحقوق الأخُوَّة وما تَتَطَّلبه من بِرٍّ وحُسْنِ تَعَامُلٍ بعد تذكيره بتقوي الله تعالي لعله يَستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن بَدَلَاً أن يتعس فيهما لو استمرّ علي ما هو عليه.. أيْ إذا مَدَدْتَ يدك إليَّ لكي تقتلني فلن أمدَّ يَدِيَ إليك أبداً لأقتلك فلن أعامِلك بالمِثْل مُطلقاً لأني أخاف عذاب الله رب العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – في الدنيا والآخرة وفقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده فيهما
ومعني "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)" أيْ هذا مزيدٌ من النصح والإرشاد للأخ الظالم والرفق به من خلال تذكرته بعذاب الآخرة الذي لا يُوصَف حتي لا يَقع فيه.. أيْ إني أريد أنْ لا تبوء بإثمي وإثمك أيْ ترجع يوم القيامة إلي الله معك ذنب قتلي وذنوبك الأخري التي تفعلها غير قتلي فتكون بذلك من أصحاب النار، وقد حُذِفَ حرف النفي "لا" لأنه يُفْهَم من سياق الكلام كما يقول تعالي مثلا ".. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا.." (النساء:176) أيْ لكي لا تَضِلّوا، وذلك لأنَّ التّقِيّ حتماً لا يريد أنْ يُوقِع غيره في الإثم وعذاب النار وإلا كان آثما هو أيضا.. وجملة أصحاب النار تعني الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)" أيْ وهذا هو دائما مصير وأجر وعطاء كل مَن ظَلَمَ بصورةٍ ما من صور الظلم حيث يأخذ نصيبه ووقته من العذاب علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدل، سواء أكان هذا الظلم كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إضافة قطعا إلي ما كان فيه من عذابٍ وتعاسةٍ دنيوية بسبب سوئه
ومعني "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)" أيْ فبَعْدَ كلّ هذا النُّصْح المُتَنَوِّع السابق، سَهَّلت له نفسه، أيْ أفكاره الشّرِّيَّة بعقله، أن يُخالِف الفطرة – والتي تَمنعه من القتل ظلماً وحُبّ وبِرّ كل البَشَر الصالحين خاصة إخوته وأقاربه – وأن يقتل أخاه فقتله بالفِعْل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فصار بذلك من الخاسرين حتماً في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث يَخسر ويَفقد دنياه فيتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسر قطعاً أخراه يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة الاضطراب والصراع مع فطرة الخير الذي يَقع فيه المُجْرم بعد ارتكاب جريمته، وكلما ازدادت فظاعتها كلما ازدادت اضطراباته وتعاساته، فلا يَفعل العاقل إذَن أيَّ جريمةٍ صَغُرَت أم كَبُرَت لكي يَتّقِي شقاءها في الداريْن وليعمل بكل أخلاق إسلامه ليسعد بذلك فيهما.. أيْ فبَعْد تنفيذ هذا الظالم لجريمته الشنيعة تَحَيَّرَ في كيفية إخفائها حيث لم تَحدث مِن قَبْل علي وجه الأرض وكان هو أول فاعلٍ لها فأراد الله إكرام المَيِّت بدفنه فلا تَنْهشه الدوابّ فأرسل غرابا وهو الطائر المعروف والذي من عادته دفن الأشياء يَحفر في الأرض مُسْتَخْرِجَاً تُرابها بمنقاره ورجليه ليَعمل ما يُشبه الحُفْرَة ليَدْفِن فيها شيئاً مَا ليُعَلّمه كيف يُخْفِي جُثّة أخيه، والسَّوْأَة هي ما تَسُوء رؤيته والمقصود الجثة المَقْتُولَة ذات المَنْظر السَّيِّء.. ".. قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)" أيْ قال بما يدلّ علي شِدَّة خوفه واضطرابه وحَسْرَته ونَدَمه وألمه وتعاسته، يا هَلاَكِي أنا هَالِكٌ بالتأكيد هل ضَعُفْتُ عن الوسيلة التي تجعلني أن أكون مثل هذا الغراب فأدفن جُثّة أخى في التراب كما دَفَنَ هو بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دَفْنَه؟! فصارَ بسبب ما فَعَله من النادمين أيْ المُتَأَلّمين الحَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَل بعدما عايَشَ ما نَتَجَ عن جريمته من سوءٍ وتعاسة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حاله السَّيِّء هذا وجَهْلِه وسَفَهِه وظلمه الذي لا يُوصَف حيث خَالَفَ الإسلام دين أبيه آدم.. وهذا هو دائما حال كلّ مَن يُخَالِف أخلاق إسلامه إذ يحيا من الخاسرين النادمين المُتَأَلّمِين المُضطربين التّعِيسين بصورةٍ من الصور علي حسب درجة مُخَالَفته، إلا إذا اسْتَفاقَ واهْتَزّ وارْتَجَّ بهذا الخُسْران والنّدَم وتابَ وعادَ لربه ولإسلامه وفَعَلَ كلّ خيرٍ مُعَوِّضَاً ما صَدَرَ منه من شَرٍّ حينها يَغفر الله له ويُيَسِّر إليه أن يحيا سعيداً في دنياه وأخراه
ومعني "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)" أيْ بسبب مِثْل هذا العدوان والظلم الذي قد يَحْدُث وهو المُضِرّ المُتْعِس بالجميع حيث يفقدهم الأمن والعدل وهما من أسس الراحة والسعادة في الدنيا ويُؤدّي بالظالم إلي أشدّ العذاب في الآخرة فَرَضْنَا عليهم وعلي كل البَشَر قبلهم وبعدهم قتل المُعْتَدِي لمَنْع الشرّ والتعاسة ونشر الخير والسعادة لأنه مَن قتل نفساً واحدة من نفوس بني آدم ذكراً أو أنثي كبيراً أو صغيراً قوياً أو ضعيفاً غنياً أو فقيراً بغير قتلها لنفسٍ بحيث تستحقّ القِصاص منها، أو بغير فسادٍ تفعله في الأرض يَستوجب قتلها كقُطّاع الطرق والزناة المتزوجين ونحو هؤلاء، فكأنه قَتَل الناس جميعاً، وذلك لأنَّ قَتْل النفس الواحدة وقَتْل الجميع متساوون في استجلاب غضب الله وعذابه في الداريْن ولأن آثام قَتْلِها وتعاساتها كبيرة كثيرة شديدة وكأنَّ قاتلها قد تَحَمَّل إثم قَتْلهم كلهم.. وكل ذلك حتي يخاف وينتهي تماما كل مَن يُفكّر في القتل!.. ".. وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.." أيْ هذا تشجيعٌ هائلٌ علي حِفْظ أيِّ نفسٍ من أيِّ سوءٍ وعدم الوصول أبداً لمرحلة اعتداءٍ عليها أو جَرْحٍ لها أو قتلها ببيان عظيم العطاء الذي لا يُوصَف الدنيويّ والأخرويّ حيث كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ فيهما لمَن يُحْييها أيْ مَن يَتَسَبّب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها بأنْ ينقذها مِمَّا قد يُهلكها أو يُؤذيها بشكلٍ من الأشكال من غَرَقٍ مثلاً أو حَرْقٍ أو مرضٍ أو نحوه، فمَن يفعل ذلك فكأنما تَسَبَّبَ في إحياء الناس جميعاً والذي حتماً يَصحبه عظيم أجرٍ في الداريْن بما لا يُتَخَيَّل لأنه من الكريم الوَهَّاب ذو الفضل العظيم سبحانه.. ".. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)" أيْ ولقد جاء لِبَنِي إسرائيل أيْ اليهود ووَصَلَ إليهم بالفِعْل بالتأكيد رسلنا الكرام ومعهم البينات أي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقهم وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ دين الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي يَثِقوا فيهم ويَتّبعوا الإسلام الذي يُوصُونهم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي أيديهم والتي منها مثلا انقلاب العصا ثعباناً لموسي (ص) وشَقّ البحر عند ضربه بها لإنجائهم وإهلاك عدوهم، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا التوراة بما فيها من إسلامٍ كان يُناسب عَصْرهم ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن، ثم إنَّ كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم آمنوا برسلهم واتّبعوهم فسعدوا فيهما – بعد ذلك أيْ بعد هذا الذى وَصَّيْناهم به من وَصَايَا وأخلاقٍ وتشريعاتٍ مع الرسل الذين جاءوا إليهم في أيِّ مكانٍ يكونون فيه من الأرض وليس فيما بينهم فقط لَمُسْرِفون أيْ مُكْثِرون مُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات، فهم بالتالي لم يفعلوها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ قد يَعتذرون به إذا نَزَلَ بهم عقاب في دنياهم وأخراهم بل عن علمٍ وعَمْدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ بلا أيِّ اهتمامٍ بما وَصَّيْناهم به وكان من المُفْتَرَض أن يَبتعدوا عنها لأضرارها وتعاساتها بعدما ذَكّرْناهم بذلك من خلال رسلنا.. وفي هذا ذّمٌّ ولوْمٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم ورَفْض تامّ وتعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي هم فيه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)" أيْ إنّما عقاب الذين يُحاربون دين الله ورسوله أيْ الإسلام وأهله المسلمين بحَمْل السلاح أو غيره من وسائل الاعتداء ضد نظامه الحاكِم القائِم الذي يُدير الحياة بأخلاقه وقوانينه بأن يَكُونُوا قُطّاعَ طُرُقٍ بتشكيلِ عصاباتٍ للسرقة والعدوان ويَجِدُّون ويَنْشَطون في الأرض مُفْسِدِين فيها مُخَالِفين لقوانينه بإخافة الناس وقَطْع طُرُقهم ونَهْب أموالهم والاعتداء على أعراضهم وتهديد أمنهم وإتعاسهم.. ".. أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.." أيْ أنْ يُقْتَلوا في مُقابِل مَن قَتَلُوا – والتشديد يُفيد الشدّة في عقوبة قَتْلهم وتنفيذها بلا أيّ تَهَاوُنٍ من خلال الدولة والمسئولين بما يُناسب جريمتهم وبما يُؤَمِّن الناس ويُخَلّصهم من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبما يَمنع تماما أيّ مَن يُفَكّر في فِعْلهم أن يَفعله – وأنْ يُصَلّبوا إذا قَتَلُوا وأَخَذُوا المال بأن يُوضَعُوا ويُشَدُّوا علي خَشَبٍ يُشْبِه الصليب بعد قتلهم أو يُقْتَلُوا أثناء صَلْبِهم أو يُتْرَكُوا عليه حتي موتهم كعِبْرَةٍ لغيرهم، وأنْ تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن إذا قَطَعُوا الطريق وغَصَبُوا المال ولم يَقْتلوا بأنْ تُقْطَع يدُ المُحَارِب اليُمْنَىَ ورجله اليُسْرَىَ فإنْ لم يَتُبْ وعادَ لفِعْله تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى، وأنْ يُنْفَوْا من بلدٍ إلى آخر غير الذي هم فيه إذا أخافوا فقط حتي يَتَشَتّتوا وتضعف قواهم مع مُرَاقبتهم والتضييق عليهم أو حتي سَجْنهم سواء في بلدهم أو غيرها لمَنْع شَرِّهم علي اعتبار أنَّ النفي يعني السجن عند بعض العلماء إلي أن يتمّ علاجهم ويَنْصَلِح حالهم وتَظْهَر توبتهم الصادقة ويعودوا نافعين مُسْعِدين لمجتمعهم لا ضارِّين مُتْعِسين له.. ".. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)" أيْ ذلك العقاب المَذْكور الشديد المُهِين الذي يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم هو خِزْي لهم قطعاً في الدنيا أيْ ذِلّة وانحطاط وعار وفضيحة، وألم وكآبة وتعاسة، لأنه كَشَفَ أمرهم وجَعَلَهم عِبْرَة لغيرهم، وسيكون لهم حتماً في الآخرة عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، إنْ لم يَتوبوا
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)" أيْ إلا الذين تابوا مِن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وعادوا لربهم ولأخلاق إسلامهم بصدقٍ يُعْرَف من أحوالهم ومعاملاتهم مِن قَبْل أن تتمكّنوا مِن القَبْض عليهم وعِقَابهم، فهؤلاء يسقط عنهم القتل والصلب والقطع والنفي، لكن تَبْقَيَ عليهم حقوق الناس، فإنْ كان قد أخذَ أحدهم مثلاً مالاً أو شيئاً يَرُدّه لصاحبه، وإنْ طالَب أهلُ قتيلٍ قد قَتَلَه القِصاص يُقْتَصّ منه بقَتْله في مُقابِله فإن لم يطلبوا لا يُقْتَل، وهكذا.. ".. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)" أيْ وإنْ اسْتَكْثَرْتُم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن تقدروا عليه فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقين أيْ المُتَجَنّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ من الذين يَتّخِذون كل وَسِيلَة وطريقة للتقرّب من الله تعالي والوصول لحبه وتيسيره وإسعاده في الداريْن بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.." أيْ واطلبوا باجتهادٍ الطريقة التي تُقَرِّبكم إليه وتُوَصِّلكم لحبّه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة، وذلك بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَجَاهِدُوا.." أيْ وابْذلُوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام المُبْتَغِين إليه الوسيلة المُجاهدين في سبيله
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)" أيْ مِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة للذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يتوبوا ويعودوا لربهم ويُسْلِموا واستمرّوا علي ذلك حتي ماتوا وهم كفار، لو فُرِضَ وكانوا يَمتلكون وقتها ضِعف ما في الأرض مِن كلّ أملاكها ليقوموا بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن يَفتدوا ذواتهم أي يُنَجُّوها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء المُتَنَوِّع المُسْتَمِرّ، ما تَقَبَّلَ الله ذلك منهم أبداً ولم ينفعهم بأيِّ شيءٍ مُطلقا.. وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض!!.. لأنَّ نظامه سبحانه في الحياة الدنيا هو أن يكون إنقاذ الإنسان من عذاب الآخرة ودخوله درجات الجنة مُتَوَقّف على إيمانه وعمله بأخلاق إسلامه لا على ما يَمْلكه مهما كَثر.. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لهم.. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر سوئهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعدما ذاقوا في دنياهم بسبب أفعالهم درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. " .. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)" أيْ وسيكون لهم في انتظارهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)" أيْ يتمني هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار بعد أن ذاقوا عذاباتها وتعاساتهما، وهم لن يخرجوا منها أبدا، بسبب ما ارتكبوه في دنياهم من شرور ومفاسد وأضرار وتعاسات، ولهم فيها عذاب دائم ثابت لا يتوقف هم فيه خالدون مُسْتَمِرّون إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم لحظة مُقِيمون إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنه أو تَرْكٍ له بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن سارقا، تسرق ممتلكات الناس التي يَحتفظون بها والتي بذلوا فيها ما بذلوا من الجهود والأوقات والأعمار فإذا بك تأخذها بغير حقّ في الخفاء.. إنَّ سرقة واحدة فقط تؤدي غالبا إلي فزعٍ هائلٍ بين الجميع وإلي تحصيناتٍ وتأميناتٍ وتكليفاتٍ ونحوها، ولذا كان العقاب شديداً بسبب أثره الشديد المُضِرّ المُتْعِس
هذا، ومعني "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)" أيْ والذى يَسرق من الرجال، أيْ يأخذ مِمَّا يَملكه ويَحتفظ به غيره في الخَفاء بغير حقّ وبغير رضاه، وهذا من كبائر الذنوب المُضِرَّة المُتْعِسَة بشِدَّة للجميع، والتى تَسرق من النساء، فاقطعوا يد كلٍّ منهما أيها المسئولون مُجَازاة لهما بسبب ما ارتكبا من كَسْبٍ سَيِّءٍ وخيانة قبيحة، نكالاً من الله أيْ عذاباً شديداً منه لهما، والنكال هو العذاب الشديد للعاصِي المُخالِف مُخَالَفَة شديدة والذي يكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يَفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)" أيْ فأيّ أحدٍ يَتوب مِن بعد ظلمه لنفسه ومَن حوله بأنْ أتعسها وأتعسهم في الداريْن بفِعْله الشرور والمَفاسد والأضرار بسرقةٍ أو غيرها من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، أيْ قام بالتوبة من ذنبه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)" أيْ فهذا حتماً يَقبل الله توبته ويعفو عن ذنوبه ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُزيل عنه آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتره ويُعينه ويُسعده، لأنه هو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)" أيْ هل لم تَعلم وتَتَأكّد أيها المسلم، والاستفهام والسؤال للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك، أيْ قد عَلِمتَ وتَأكّدتَ، أنَّ الله تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ المُلْك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلْك والرحمة والفضل فهو يستحقّ وحده العبادة أي الطاعة ولا يُنْكَر عليه حتماً بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ.." أيْ يُعَذّب مَن يريد أن يُعَذّبه ويَغفر لمَن يريد أن يَغفر له وذلك إذا أَتَوْا بأسباب العذاب وهي الكفر والعمل السَّيِّء أو أسباب المغفرة وهي الإيمان والعمل الصالح.. إنَّ مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهو يغفرُ للذي يَتُوب من ذنوبه أيْ يُسقطها عنه ويزيلها ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. " .. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا لم تكن مُنافِقاً تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن سَمَّاعَاً للكذب أيْ كثير الاستماع له، سَمَّاعاً لكل شَرّ، لأنه بانتشار الأكاذيب والشرور يَتعس الناس حتماً في الداريْن.. وإذا لم تأكل سُحْتَاً أيْ حراماً.. وإذا كنتَ عادلاً دائما، في كل أقوالك وأفعالك وتصرّفاتك في كل شئون حياتك ومواقفها المختلفة وأنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة في الأموال وغيرها والمَعنويَّة كشهادةِ زُوُرٍ مثلاً أو نصيحةٍ مُضِرَّةٍ أو نحوها يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)" أيْ يا أيها الرسول الكريم لا تَشعر بالحُزن من الذين يُسَابِق بعضهم بعضا مُنْطَلِقِين داخِلِين مُتَوَغّلِين في الكفر مُتَعَجِّلِين فى إظهاره وتأييده والعمل به عند أيِّ فرصة واقعين فيه سريعا من غير أيّ تَدَبُّر أو تَفَكّر – والكفر هو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظر مَن يكفر – ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم (ص) حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. " .. مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.." أيْ مِن المنافقين الذين قالوا صَدَّقنا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق إسلامه وهو مجرّد كلام ظاهريّ بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم ولم تُصَدِّق عقولهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة بداخلها ولا صادقين فيه ولا يعملون به.. ".. وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا.." أيْ وكذلك لا يَحْزنك الذين يُسارعون في الكفر بك وبالقرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليك من اليهود ومَن يَتَشَبَّه بهم.. ".. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.." أيْ كلّ هؤلاء من صفاتهم السَّيِّئة التي عليكم أن تَنتبهوا لها وتَحذروا منها وتُحْسِنوا التعامُل معها أيها المسلمون أنهم كثيروا السَّمَاع للأكاذيب التي ينشرها أعداء الإسلام ضدّه وضدّ المسلمين لتشويه صورته وصورتهم، والسَّمَاع لأيِّ شرورٍ عموماً، ولا يرفضونها بل يَقبلونها ويَستجيبون لها ويُقَلّدونها ويعملون بها وينشرونها كمحاولةٍ منهم لإبعاد الناس عن الإسلام ومَنْعهم من اتّباعه.. كذلك من المعاني أنهم سَمَّاعون لكلام الله ورسوله (ص) للكذب أيْ لكي يَكْذِبوا عليهما فيه بعد استماعه واستيعابه ليكون كذبهم مَعْقُولاً ما أمْكَن.. ".. سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ.." أيْ وهم أيضا سمَّاعون لكلِّ مَن لم يأتوك يا رسولنا الكريم أيْ لم يَأْتوا لأخلاق الإسلام ليَقْبَلوها وليَعملوا بها بل هم بعيدين عنها بعضها أو كلها، ويَستجيبون لكلامهم الذي يسمعونه منهم ويَتَّبعون أخلاقهم المُخَالِفَة للإسلام.. كذلك من المعاني أنهم جَواسيس سَمَّاعون لصالح قومٍ آخرين بعيدين عن الإسلام والمسلمين أعداء لهما كنوعٍ من التّجَسُّس عليهما لصالحهم بما يَنقل معلوماتٍ لهم تضرّهما.. ".. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة قلوبهم وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة مِن بَعْد استقرار وثَبَات مَوَاضِعه التي وَضَعَه الله فيها مِمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته، وكذلك يحاولون يائسين تحريف بعض معاني القرآن لا ألفاظه، حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فأمثال هؤلاء بالتالي لا يَحزنكم مُسارعتهم في الكفر وعدم إسلامهم لأنهم في غاية الخَبَل والنّقْص والمَخْبُول الناقص لا يُهْتَمّ به ولا أثر له.. ".. يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.." أيْ وكذلك يقول هؤلاء لأتْباعهم السفهاء، والذين يُصَدِّقونهم فيما يقولونه لهم بلا أيِّ تَمْيِيزٍ لِمَا يُقال لأنهم قد عَطّلوا عقولهم، إنْ أُعْطِيتم في القرآن ما يُوافِق هذا الذي أنتم عليه في التوراة – رغم تَحْريفهم لكلام الله تعالي عن مَوَاضِعه فيها – فاقبلوه واعملوا به، وإنْ لم تُعْطَوا مِثْله بل ما يُخَالِفه فاحذروا حَذَرَاً شديداً قبوله والعمل به!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (73) من سورة آل عمران "وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ..").. ".. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.." أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي أمثال هؤلاء الذين يُسارعون في الكفر ولا يُسلمون لأنه مَن يُرِد الله إضلاله بسبب تعطيله لعقله فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيءٍ لم يُرِدْه الله له، فمَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد ذلك؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته سبحانه.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. ".. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة سابقاً ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين لم يُرِد الله أن يُنَظّف عقولهم من الضلال وتعاساته لأنهم هم الذين اختاروه وأصَرُّوا عليه بكامل حرية إرادتهم وفَضَّلُوه على هُدَىَ الإسلام وسعاداته في الداريْن.. ".. لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)" أيْ لهم حتماً عذابٌ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فلهم في الدنيا خِزْي أيْ ذِلّة وانحطاط وعار وفضيحة، يَتَمَثّل في درجةٍ مَا من درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم سيكون لهم في الآخرة عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
ومعني "سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي سُوئِهم للتأكيد علي أنه لا داعي للحزن علي عدم إسلامهم.. أيْ هم كثيروا الاستماع للأكاذيب وللشرور ويقبلونها ويستحبونها ويعملون بها وينشرونها، كثيروا الأكل للسُّحْت وهو كل كَسْبٍ جاء بمُعامَلَةٍ حرامٍ كالربا والرشوة وغيرهما، فهم قد جَمَعوا بين كثرة الكذب وأكل الحرام وما يُخَالِف أخلاق الإسلام.. ".. فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.." أيْ إذا كان هذا هو حالهم السَّيِّء والذي يُوجِب عدم الاهتمام بالتحكيم بينهم أصلا والانتباه إلي أنهم في غالب شئونهم لا يريدون أن يَتّبعوا الحقّ والعدل والخير ولذلك فلو فُرِض وجاءوا إليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَطلبون حُكْم الإسلام في شأنٍ مَا من شئون حياتهم فعليك بتقدير الأمر وأنت مُخَيَّر فإنْ غَلَبَ علي ظنّك أنَّ مَجِيئهم هو لطلب العدل والحقّ بصدقٍ لتحقيقه فيما بينهم فاحْكُم إذَن لأنَّ في ذلك المصلحة حيث تحقيق العدل بالإسلام قد يُوقظهم ويُنَبِّههم لأخلاقه فيُسْلِمون وإنْ غَلَبَ علي ظنك أنَّ مَجيئهم هو لطَلَب تحقيق ظلمٍ لطَرَفٍ من الأطراف تحت غطاء حُكْم الإسلام أو الاستخفاف به أو للتَّسَتُّر علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو لِمَا شابَهَ ذلك من أضرارٍ فأعرض عنهم حينها أيْ اتْركهم يَحْتَكِمون هم فيما بينهم بحُكْم مَن يُريدون ولا تَحْكُم بينهم.. ".. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا.." أيْ وإنْ تَتْركهم فلن يَضُرُّوا إسلامك في أيِّ شيءٍ مِن خلال عداواتهم ومكيداتهم وتشويهاتهم وإساءاتهم له بسبب رفضك الحُكْم بينهم، لأنه سيَنتشر بجهود المسلمين المُخلصين الذين يُحسنون نَشْره بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ والدفاع عنه وبعوْن الله تعالي وتوفيقه وحِفظه ونصره لهم وتيسير قبول الناس له لأنه يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا وذلك لَمَّا يروا أنَّ الإسلام يُكملهم ويُصلحهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..").. ".. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ وإنْ اخْتَرْت الحُكْمَ فاحْكُم بينهم إذَن بالعدل الذي يَأمر به الإسلام ولا تتأثّر بشرورهم ومُؤامراتهم ومُسارعاتهم في كفرهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)" أيْ إنَّ الله حتماً يحب العادِلين في كلّ تصرّفاتهم وأحكامهم وأقوالهم وأفعالهم وكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه.. وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُقسطين
ومعني "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ عَجَبَاً لهؤلاء اليهود، كيف يَطلبون حُكْمَك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم – وهم لا يؤمنون بك ولا بالقرآن العظيم مع أنَّ عندهم التوراة التي يَدَّعون الإيمان بها فيها حُكْم الله صريحاً واضحاً فيما يُحَكِّمونك فيه وهو مُوَافِق تماماً لِمَا في القرآن الذي يَكفرون به؟!.. والعَجَب من أمرهم أيضا أنهم بعد ذلك يُعْرِضون عن حُكْمك إذا لم يُرْضِهم لأنه لا يُوافِق هواهم، مع أنه المُوافِق لِمَا في تَوْرَاتهم! فجَمَعوا بذلك بين الكفر بها وبك والابتعاد عن حُكْمك.. إنَّ أمرهم عجيبٌ لأنهم قد حَكّمُوا مَن لا يؤمنون به في أمرٍ حُكْمه الحقّ هو بين أيديهم، بما يُفيد أنهم لم يأتوا إليك إلا لأنهم تَوَهَّموا أنك ستَحْكُم لهم بما يُريدون من شرور ومَفاسد وأضرار مُخَالِفَة للإسلام، بما يُؤكّد أنهم لا يبحثون عن الحقّ وإلا فهو عندهم أصلا! ولو اتّبعوه لأَسْلَمُوا!!.. ".. وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)" أيْ وما هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم قطعاً من المُصَدِّقين لا بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعَمَّا يُوافِقه ثانيا ولا بك والقرآن العظيم الذي أوُحِيَ إليك، لأنهم لو كانوا مؤمنين لاستجابوا لحُكْمك ولأسلموا.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتماً سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)" أيْ نحن قد أنزلنا التوراة علي رسولنا الكريم موسي (ص) فيها هُدَي أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، لمَن يعمل بكل أخلاقها من الناس، ونورٌ بأنْ تُنير لعقولهم طريقهم في حياتهم، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لأنها كانت فيها الإسلام الذي يُناسِب زَمَنها.. ".. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا.." أيْ وهذه التوراة يَحْكُم بها للذين هادوا أيْ لليهود، ولغيرهم من الناس في زمنهم، النّبِيُّون أيْ أنبياؤهم بَدْءَاً مِن موسي (ص) ثم مَن بعده مِن الأنبياء وهم الذين أسلموا أيْ اسْتَسْلَمُوا لوَصَايَاه وتشريعاته تعالي أيْ تَمَسَّكوا وعملوا بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم وثَبَتُوا دائما عليها.. ".. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ.." أيْ ويَحُكم بها أيضا لهم خُلَفاء الأنبياء وهم الرَّبَّانِيُّون والأَحْبَار، والرَّبَّانِيُّون هم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، والأحبار هم العلماء السائرون علي طريق الإسلام الذي أتَيَ به أنبياؤهم ويُعَلّمونه للناس.. ".. بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.." أيْ وكان هذا الحُكْم مِن هؤلاء جميعا بالتوراة بين اليهود وغيرهم بسبب أنَّ الله تعالى قد طَلَبَ منهم وحَمَّلَهم أمانة حِفْظِ كتابه التوراة بكل حِرْصٍ من الزيادة والنقصان والكتمان وتطبيقِ أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون الحياة ونشرها بين الناس ليسعد بها الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ.." أيْ وكان الأنبياء والرَّبَّانِيُّون والأحْبَار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله تعالي وهو التوراة بأنه حقّ وصِدْقٌ ومِن عنده سبحانه وأنه صالحٌ لإصلاح البَشَرِيَّة وإكمالها وإسعادها في دنياها وأخراها، وكانوا رُقَبَاء على تنفيذ أخلاقه وتشريعاته والدعوة لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بحيث لا يُهْمَل منها شيء والدفاع عنها ضدّ مَن يَعتدي عليها، وكانوا مَرْجِعِيَّات يُرْجَع إليهم لتصويب أخطاء المُخْطِئين ليسيروا علي الخير دائما كالشاهد في المحكمة الذي يُوَضِّح للقاضي رؤيته ليَحْكُم بالصواب والحقّ والعدل.. ".. فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ من أنَّ الله تعالى قد أنزل التوراة لتطبيق أخلاق الإسلام التي فيها فمِن الواجب عليكم بالتالي إذَن يا أيها اليهود أن تَقْتَدوا بأنبيائكم وصُلَحَائِكم في ذلك وأن تستجيبوا لِمَا فيها وتعملوا به والذي منه أن تؤمنوا بالرسول الكريم محمد (ص) والقرآن العظيم الذي أوحِيَ إليه وتُسْلِمُوا وأن تجعلوا خشيتكم أيْ خوفكم مِنّى وَحْدِي لا مِن أحدٍ مِن الناس باتّباع الإسلام وعدم مخالفة أخلاقه فأنا الذي بيدي نَفْعكم وضرّكم واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم أيّ سوءٍ فأنا علي كل شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها اليهود وأيها المسلمون وأيها الناس جميعا أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.." أيْ ولا تَتركوا أبداً العمل بآياتي وتَبيعوا أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام لتأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره تستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه ، فإنْ فعلتم ذلك فأنتم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنكم تبيعون أعظم خيرٍ وتشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، مُسْتَهِينَاً بها مُتَعَالِيَاً مُتَكَبِّرَاً عليها مُنْكِرَاً غير مُصَدِّقٍ أنها من عند الله وأنها صالحة لإصلاح البَشَر وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهؤلاء حتما هم الكافرون أي الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. أمّا مَن لم يَحْكُم بما أنزل الله من المسلمين مع تصديقه به وبصلاحيته، لتعطيله عقله بالأغشية التي يضعها عليه لتحقيق ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة، فهو ليس من الكافرين بل من الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام وسيَتْعَس في الداريْن علي قَدْر تَرْكه لأخلاقه لكنْ لا يُخَلّد في النار يوم القيامة كالكافرين
ومعني "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)" أيْ وفَرَضنا علي اليهود في التوراة أنَّ النفس تُقْتَل بالنفس، والعين تُفْقَأ بالعين، والأنف يُجْدَع بالأنف، والأذُن تُقْطع بالأذُن، والسِّنَّ تُقْلَعُ بالسِّنِّ، والجروح بمِثْلها قصاص ومُسَاوَاة أي يُقْتَصّ في الجروح فيُفْعَل بالجَارِح كما فَعَل فمَن جَرَحَ غيره عمداً اقْتُصَّ من الجارح جَرْحَاً مِثْل جرْحه للمَجْرُوح في ذات المكان وبذات الطول والعرض والعُمْق.. ".. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.." أيْ فمَن عَفَا وتَجَاوَزَ وتَصَدَّقَ بحقّه في القِصاص من الجانى كان هذا التّصَدُّق كفّارَة له يَمْحُو الله بها بعضاً من ذنوبه في مُقابِل ذلك بما يعادل هذا العمل الكريم العظيم ويزيده من فضله، كما أنه يكون كفّارة للجاني بأن لا يُؤَاخذه سبحانه بعد ذلك العفو.. وفي هذا تشجيعٌ علي التسامح لما فيه من نشر الألفة والمَحَبَّة والتعاون والترابُط بين الجميع ونسيان الماضي السَّيِّء والانطلاق نحو الحاضر والمستقبل فيَرْقُون ويَتَطَوَّرُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، فهؤلاء حتما هم الظالمون وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)" أيْ ولكي يستمرّ صلاح الناس وكمالهم وسعادتهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أتْبَعْناهم مِن خَلْفِهم أيْ أرسلنا مِن بَعْدِهم – أيْ مِن بَعْد موسي (ص) ومَن بَعْده من الأنبياء – عيسي ابن مريم (ص) الذي هو قَبْل الرسول الكريم محمد (ص) خاتم النّبِيِّين.. ".. مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.." أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة وغيرها مِمَّا يُؤْمِن به اليهود أيْ مُؤْمِناً عامِلاً بها مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ المصدر واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به.. ".. وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)" أيْ ولأنه أيضا ما جاء به حتماً ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة حيث قد أعطيناه الإنجيل بوَحْيِنَا إيَّاه له والذي هو مِثْل التوراة فيه هُدَي أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، لمَن يعمل بكل أخلاقه من الناس، ونورٌ بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في حياتهم، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لأنه كان فيه الإسلام الذي يُناسِب زَمَنه.. ".. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)" أيْ وكما أنَّ عيسي (ص) كان مُصَدِّقَاً لِمَا بين يديه من التوراة أيْ مؤمناً عاملاً بها مُحْتَكِمَاً إليها فكذلك الإنجيل كان هو أيضا مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها، وكان هُدَي أيْ إرْشادَاً، وموعظة أي تَذْكِرَة، للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الإرشادات والعِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المُتّقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمتقون هم الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
ومعني "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)" أيْ وعلي أهل الإنجيل أي النصاري أتْباع عيسي (ص) الذين كانوا في زمنه قبل الرسول محمد (ص) أن يَحْكُموا ويَعْمَلوا فيما بينهم بما شَرع الله فيه من أخلاق الإسلام التي كانت تُناسب زمنهم، والتي منها أنه مَن يَحضر منهم زمن مَجِيء الرسول الذي سيأتي بعد عيسي (ص) وهو محمد (ص) خاتم الرسل وزمن نزول آخر كتب الله وهو القرآن العظيم الذي يُوحِيه إليه فعليه أن يَتّبعه ويُسْلِم، وبالتالي فبعد نزول القرآن وحتي يوم القيامة مَن لم يُسْلِم منهم وبقي نصرانياً أو يهودياً أو لا دينِيَّاً أو غيره يكون كافرا.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، فهؤلاء حتماً هم الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام والذين قطعاً سيتعسون في دنياهم وأخراهم علي قَدْر خروجهم وبُعْدهم عن ربهم ودينهم
ومعني "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)" أيْ وأوحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ.." أيْ وجعلنا هذا الكتاب المُنَزَّل عليك مُصَدِّقا لما بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد (ص) فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ".. وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.." أيْ وجعلناه كذلك حاكِمَاً مُرَاقِبَاً علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. ".. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.." أيْ إذا كان شأن القرآن العظيم عظيماً هكذا كما ذُكِر فاحْكُم بالتالي إذَن يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – بين الناس في قضاياهم المُتَعَدِّدَة بكل شئون حياتهم بما أوْحَيَ الله إليك فيه وعَرَّفكَ وأعْلَمَكَ وأوْضَحه لك من خلال الوَحْي فهو المَرْجِع الذي به الأصول والقواعد التي يَرْجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.." أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. ".. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.." أيْ واعلموا أننا وَضَعْنا لكل أمِّةٍ منكم أيها الناس شِرْعَة ومِنْهاجاً خاصَّيْن بها وأصلهما هو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه لكنْ بما يُناسبها في زَمَنِها – والشرعة أو الشريعة تعني الدِّيِن وهو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون الذي يُحْتَكَم إليه ويُعْمَل به، والمِنْهاج يعني الطريق الواضِح الخطوات المستقيم الذي يُمْشَيَ عليه، والمَعْنَيان مُتقاربان بما يُفيد مزيداً من التأكيد علي أنهما يُؤَدِّيان ويُوَجِّهان حتماً إلي كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن – فالأمَّة مثلا التي كانت منذ إرسال موسى (ص) إلى إرسال عيسي (ص) كانت شِرْعَتها ما في التوراة من أحكام، والأمّة التي كانت مِن بَعْد عيسى (ص) إلي إرسال الرسول الكريم محمد (ص) كانت شرعتها ما في الإنجيل، وأمَّا هذه الأمة الإسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام والذي هو مُشْتَمِل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الإسلام وقواعده والتي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة مع زيادة ما يُناسب العصر الذي نَزَلَ فيه والعصور التي تَلِيه بكل مُتَغَيِّراتها إلي يوم القيامة بما يُحَقّق للبَشَرِيَّة كل ما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تماماً في الداريْن.. وأهل الكتاب أيْ اليهود والنصاري ومَن كان له أيّ كتابٍ سابقٍ إنما أُمِرُوا بأنْ يَتَحَاكَمُوا إلى كتبهم قبل نزول القرآن الكريم، أمَّا بعد نزوله فقد أصبح واجباً عليهم الدخول في الإسلام واتّباع رسوله محمد (ص) في كل ما أمَرَ به أو نَهَىَ عنه وليس لأحدٍ بعد بعثته (ص) إيمان مقبول إلا باتّباعه وتصديقه في جميع أقواله وأفعاله ومَن لم يُصَدِّق به وبالقرآن يُعَدّ كافرا.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.." أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أي أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه بأنْ يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، علي حسب درجات أعماله في دنياه، بينما مَن لم يشأها، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. وهؤلاء هم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ( 99 ) من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" ، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 )"، ثم الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا هو نظام الحياة التي أرادها الله تعالي، وهذا هو العدل فيها، وهذا هو التنافس الشريف المُمْتِع المُسْعِد فيها كما يقول ".. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" (المُطَفّفين:26) ثم علي أعلي درجات الآخرة، ولو كانت غير ذلك لَكَانت مَلَلاً! فلله الحمد حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه علي أن خَلَقَنا ووَهَبَنا نِعَمه العظيمة التي لا تُحْصَيَ.. ".. وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.." أيْ ولكنه جَعَلكم هكذا ليَختبركم فيما أعطاكم من الشرائع، لكي يَتَبَيَّن المُطيع الذي يعمل بها كلها والعاصى الذي يتركها بعضها أو كلها، فيُجازِي مَن أطاعه بما يستحقّه من الخير والسعادة في الداريْن ومَن عصاه بما يستحقه فيهما من الشرّ والتعاسة علي قَدْر عِصْيانه.. إنَّ عليكم أن تنتبهوا تماما أنه لم يجعلكم هكذا لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم أيها الناس حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم ، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ الموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. ".. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.." أي إذا كان الأمر هكذا كما ذُكِرَ لكم، فبالتالي إذَن سارعوا إلي فِعْل الخيرات دائماً مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير بكلّ هِمَّةٍ أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدّي بكم إلي كل الخيرات والسعادات في الداريْن.. هذا، ولفظ "فاسْتَبِقوا" يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي الاستجابة حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يحرصون فيه متعاونين مُتَحَابِّين علي أن يسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بالجوائز العظيمة الموعود بها.. ".. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فاسْتَبِقوا الخيرات لأنَّ إلي الله لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم فيه تختلفون من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فيُبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الحُكْم بما أنزل الله.. أيْ وعليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده أن تَقْضِيَ وتَفْصِلَ بين الناس بما أنزل الله في القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، فاجعلوه دائما المَرْجِع في كل شأنٍ من شئون الحياة، فهو الذي به الأصول والقواعد التي يُرْجَع إليها والتي تُصْلِح البَشَرَ وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل إنْ احْتَكَمُوا لأنظمةٍ وقوانين وأخلاقياتٍ تُخَالِفه مُضِرَّة مُتْعِسَة بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ التحذير منه وهو اتّباع الأهواء.. أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير في الإسلام، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. ".. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي التمسّك الشديد بالحُكْم بما أنزل الله.. أيْ واحذرهم حَذَرَاً شديداً أيْ كُنْ مُتَيَقّظاً مُتَنَبِّهَاً تماماً يا أيها المسلم أن يُوقِعُوك في الفتنة أيْ الشرّ والضرَرَ بأن يُبعدوك عن بعض ما أنزله الله إليك في الإسلام ولو أقلّ القليل فتَترك العمل به وإلا ستُضَرّ وتَتْعس علي قَدْر ما تَرَكْتَ وخَالَفْتَ.. ".. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.." أيْ فإن أعطوا ظهورهم والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلم وتأكّد أنَّ هذه عَلامَة علي أنَّ إرادة الله قد حَلّت بإصابتهم بعذابٍ مناسبٍ في دنياهم بسبب بعض ذنوبهم هذه التي يرتكبونها ثم سيُحاسبهم في أخراهم علي جميعها كاملة بكل حَصْرٍ ودِقّة وعدلِ حيث عذاب الآخرة الذي لا يُوصَف.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكلّ مَن يَبتعد عن أخلاق إسلامه بعضها أو كلها أن يعود إليها مُسرعاً قبل أن يصيبه بعض عذابٍ وشقاءٍ دنيويّ ثم أخرويّ تامّ بسبب بُعْده عنها.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي أمثال هؤلاء لأنه مَن يُرِد الله أن يُعذّبه بسبب إضلاله بسبب تعطيله لعقله فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيءٍ لم يُرِدْه الله له، فمَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد ذلك؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته سبحانه.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)" أيْ وهذا مزيدٌ من التسْلِيَة والعَوْن علي الصبر للمسلمين حتي لا يحزنوا علي أمثال هؤلاء حيث هم كثير لأنَّ كثيراً من الناس خارجون عن طاعة الله والإسلام، وما دام الأمر كذلك فاستمرّوا أنتم أيها المسلمون علي عملكم بأخلاقه لتسعدوا به في الداريْن واصبروا علي دعوة غيركم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنةٍ وسيَستجيب مع الوقت مَن أحسن منهم استخدام عقله ليسعد مثلكم في دنياه وأخراه
ومعني "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)" أيْ هل يَبْغِي أيْ يريد هؤلاء الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام حُكْم أهل الجاهلية – وهم الجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ والذين يجهلون الإسلام وما فيه من مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم – والذي يَضرّهم ويُتعسهم حتماً في الداريْن ويتركون حُكْم الله الذي أنزله في القرآن وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه والذي يُصلحهم حتما ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة فيهما؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا.." أيْ ومَن حُكْمه أحسن مِن حُكْم الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، فإنه لا أحدَ أبداً أحسن وأفضل وأعدل وأرحم من الله حكماً لأنَّ حُكْمَه هو الذى يُنَظّم للناس كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)" أيْ هو نافع للمُوقنين فقط أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبأنَّ قرآنه العظيم من عنده وبصدق رسوله الكريم (ص) الذي جاء به وبصلاحيته الكاملة بما فيه من أخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها، هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالقرآن وبحُكْم الله فيه بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا اليهود والنصاري والكافرين عموما أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أن تَتّخِذوهم أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أي هذا بيانٌ للسبب في المَنْع عن اتّخاذهم أولياء ومزيدٌ من التأكيد علي ذلك.. أيْ لأنهم يُوالِي بعضهم بعضاً من أجل مُعاداتكم، فكيف تُوالونهم أنتم إذَن؟! فأنتم وهم مختلفون تماما، فهم لا يؤمنون بما تؤمنون به، وهل يُعْقَل أن ينصروكم علي إخوانهم الذين هم مثلهم؟! إنهم لا يُمكن أن يُحِبّوكم، وأنتم أوْلَيَ أن يُوالي بعضكم بعضاً، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل بالتالي أن تَتَّبعوهم في شيء، وإنما يَتَّبعهم مَن هم أولياؤهم أيْ الذين بعضهم نُصَرَاء وأحِبَّاء وأصدقاء وأعوان بعضٍ في الدنيا علي طريق الكفر والظلم والذين هم في الآخرة ستَنْقلب حتما ولايتهم هذه أيْ نُصرتهم ومَحَبّتهم وصداقتهم إلى عداوة لأنهم تَشَارَكوا وتَسَبَّبوا بدرجاتٍ مختلفة فيما هم فيه.. " .. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتنفير الشديد من اتّخاذهم أولياء.. أيْ ومَن يتّخذهم وَلِيَّاً منكم أيها المسلمون فإنه يُعْتَبَر مِن جُمْلتهم وكأنه مِثْلهم، لأنَّ المُوالِين لهم سيكونون حتماً منافقين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، ولأنهم بحُكْم مُوالاتهم سيكونون غالبا أو دائما مُعادِين لله وللرسول (ص) وللإسلام والمسلمين وبذلك يُصبحون منهم قطعاً.. وخلاصة القول أنه إذا كانت الولاية لليهود والنصارى والكافرين عموماً ومَن يَتَشَبَّه بهم مصحوبة بالرضا بدينهم وبالطعن في دين الإسلام كانت كفراً وخروجا عنه، أمَّا إن كانت ليست كذلك وإنما هي على سبيل المُصَادَقَة كانت معصية تختلف درجتها بحسب درجة موالاتهم وبمِقْدار تأثر المسلمين بها.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)" أيْ وتُشاهِد أيها الناظر المُتابِع هؤلاء الذين في عقولهم مرض وهو مرض النفاق أيْ إظهار الخير وإخفاء الشرّ يَتسابقون في مُوَالاتهم مُسابقين بعضهم بعضاً لذلك بكل هِمَّةٍ حتى كأنهم في حالةِ سباقٍ يَحرصون فيه علي أن يَسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بهذه المُوَالاة.. وفي هذا تنفيرٌ من هذا الفِعْل الشديد القُبْح حتي لا يفعله أحدٌ من المسلمين، كما أنه تحذيرٌ لهم من أمثالهم عندما يتعاملون معهم.. ".. يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ.." أي يقولون أثناء هذه المُسَارَعَة، في دواخل عقولهم أو للناصحين لهم بعدم فِعْل ذلك، مُبَرِّرين سوء فِعْلهم بما هو أشدّ قُبْحَاً يُظْهِر شدّة سُوئهم، اتركونا وشأننا فإننا نخاف أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يَدور بها الزمن وتُحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها سواء أكانت اقتصادية أو غيرها أو أن يكون النصر لهم علي المسلمين ولذلك فنحن نُواليهم لنَتّقِي شرَّهم ولنَنتفع بعَوْنهم حينها.. إنَّ حالهم هذا يُفيد أنَّ النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله.. فلا يكون أحدٌ من المسلمين إذن بالتالي مُنافِقَاً.. ".. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة للمسلمين من الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وهي أن يَمْنَع بجهادهم قوة أعدائهم ويَهزمهم ويأتي بالفتح أي النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه، أيْ بالجملة سيَنصرهم في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وسيُساعدهم وسيُيَسِّر لهم نشر دعوة الإسلام وسيَفتح لهم العقول وسيُقَوِّي حجَجَهم وبَراهِينهم وسيُنصرها علي غيرها من الدعوات والأنظمة المُخالِفة لها المُضِرَّة المُتْعِسَة ليسعدوا ويسعد الجميع ويَطْمَئِنّ بانتشارها ما داموا أحسنوا الدعوة لها بالحِكمة والموعظة الحَسَنة وصَبَروا علي أذَيَ المَدْعُوين.. ".. أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.." أيْ أو يأتى بأمرٍ من عنده لا أثر لكم فيه ولا لأيِّ أحدٍ من الناس وليس من أسبابكم التي اتّخذتموها لتحقيق النصر مطلقاً بل هو منه تعالي الخالق القويّ المتين الذي هو خارج الأسباب بأن يُلْقِي مثلا الرعب في عقول أعدائكم أو يُوقِع الخلاف والاقتتال بينهم أو يُعَذّبهم بعذابٍ ما مُضْعِف مُهْلِك يُضْعِف سلطانهم ونفوذهم أو نحو هذا فينصركم عليهم ببعض جنوده هذه التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. هذا، ومن المعاني أيضا أنَّ الله يأتي بأمورٍ يكشف ويَفضح بها نفاق المنافقين فيُعْرَفون وذلك من خلال ما يَفْلِت منهم ولم يكونوا يريدون إظهاره من بعض فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. وفي هذا أيضا تشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه من التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم وحُسن دعوة غيرهم له والصبر علي أذاهم ودفاعهم عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي بالقتال والتضحية في سبيلها وستَتَحقّق النتائج المُسْعِدَة بفضل الله ثم بجهودهم وتضحياتهم وينتصرون ويَنتشر الإسلام تدريجيا ويَسعد الجميع به في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)" أيْ فيَصِير حينها بعد هذا الفتح وهذا الفَضْح هؤلاء المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم على ما أخْفُوا في أنفسهم من النفاق ومن مُوالاتهم لليهود والنصاري والكافرين عموما وأشباههم ومِن كُرْههم للإسلام والمسلمين وعدم ثقتهم في عَوْن ونصر ربهم ومن إضرارهم وإتعاسهم لذواتهم ولغيرهم، يصيروا نادمين أيْ مُتَأَلّمين حَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَلوا بعدما عايَشوا ما نَتَجَ عن جريمتهم من سوءٍ وتعاسة، في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَم.. فعَلَيَ مَن كان مِثْلهم أن يستقيظ ويعود لربه ولإسلامه قبل فوات الأوان
ومعني "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)" أيْ وحينها بعد هذا الفَتْح وكَشْف الله تعالي وفَضْحه للمنافقين يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعضٍ مُسْتَنْكِرين ما صَدَرَ عن المنافقين مِن إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ ومِن تَذْبذهم والْتِوائهم ومُرَاوَغَتهم ونِفاقهم ومِن مُوالاتهم لليهود والنصاري والكافرين عموما وأشباههم ومِن كُرْههم للإسلام والمسلمين وعدم ثقتهم في عَوْن ونصر ربهم ومِن إضرارهم وإتعاسهم لذواتهم ولغيرهم، يقولون مُشِيرين إلى المنافقين هل هؤلاء هم الذين حَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ أنهم معكم في الدين مؤمنون مِثْلكم مُناصِرون مُحِبّون لله ولرسوله وللإسلام وللمسلمين؟!.. لقد ظَهَرَ أنهم كانوا مع كل هذه التأكيدات ليسوا صادقين بل كاذبين مُخادِعين.. فالمؤمنون حينئذٍ يَتعجّبون مِن كذبهم وحلفهم بالكذب.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. إنهم صاروا بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ المنافق هو الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج بعد عقابه إلي أقل درجات الجنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ أشدّ التّجَنُّب أن تَرْتَدَّ عن إسلامك وأخلاقه وأنظمته أو حتي مجرّد التفكير في ذلك ولو للحظة بعدما ذقْتَ سعاداته (برجاء مراجعة الآية (217) من سورة البقرة، والآيات (86) حتي (91) من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا جعلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك الكريم (ص) وإسلامك العظيم علاقة حبّ (برجاء مراجعة الآية (31)، (32) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ سَهْلَاً لَيِّنَاً قريباً مُحِبَّاً رفيقاَ وَدوداً بَشُوشَاً ناصحاً متعاوناً خَدوماً مع المسلمين، عزيزاً في غير كِبْرٍ أو ظلمٍ شديداً قوياً مع كل مَن يعتدي علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين، أمّا مَن لم يَعْتَدِ فتُحْسِن إليه بإحسان الإسلام وعدله لعله يعود للخير ليسعد، كما نَبَّهنا تعالي بقوله "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)" (المُمْتَحنة:8).. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين لا يخافون إلا الله تعالي، لا يخافون بَشَرَاً، فالجميع ضعفاء مُقَارَنَة بقوة القويّ العزيز مالك الملك الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم الحافظ الناصر لهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الرِّدَّة عن دين الإسلام ونتائجها الشديدة السوء والتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – مَن يَرْجِع عن دينه منكم أيها المسلمون بعدما ذاق سعاداته ويصير كافرا أيْ مُكَذّباً بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعل لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره، فهؤلاء حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم، ولن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ").. إنهم لن يَضُرّوا شيئاً لأنَّ الله تعالي سوف يأتي بَدَلهم بقومٍ خيرٍ منهم غيرهم كما خَلَقَهم هم فهو قادرٌ علي كلّ شيء، أيْ يُذهبهم ويأتِ بآخرين، إمَّا بإهلاكٍ سريع واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامهم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدهم مِن ذُرِّيَّاتهم وذُرِّيَّات غيرهم بأناسٍ لا يكونوا أمثالهم في سوئهم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، ولذلك فهو يُحبّهم وهم يُحبّونه، يُحبّهم فيُثَبِّتهم علي إسلامهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ وسعادةٍ وهم يحبّونه فيُطيعونه بكل حبٍّ وتَشَوُّقٍ وحماس، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق.. وفي هذا حثّ للناس علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (31) من سورة آل عمران "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)").. ".. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يتصرّفون في كل موقفٍ بما يُناسبه كما وَصَّاهم الإسلام وبما لا يَخرج أبداً عن أخلاقيَّاته، فهم فيما بينهم كمسلمين في تمام الرحمة والشفَقَة والرأفة والرِّفق واللّيِن والتواضُع والسهولة واليُسْر والقُرْب والمَحَبَّة والوُدّ والبَشَاشَة والنصح والتعاون والخِدْمَة – وليس المراد بالقطع بوَصْفهم أذِلّة أنهم مُهَانُون بل المقصود المُبَالَغَة في رحمتهم ولِينِهم ومَحَبّتهم وتعاونهم – بينما هم أشدّاء أقوياء أعِزَّاء مِن غير كِبْرٍ أو ظلمٍ مع كلّ مَن يَعتدي علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين، أمَّا مَن لم يَعتدِ مِن عموم الناس من غير المسلمين فيُحْسَن إليه قطعاً بإحسان الإسلام وعدله لعله يعود للخير ويُسْلِم ليَسعد في الداريْن كما نَبَّهنا تعالي بقوله "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (المُمْتَحَنَة:8).. ".. يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يبذلون كل أنواع الجهود ويجتهدون في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا أنهم في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم متمسّكون عامِلون بكلّ قوةٍ وهِمَّةٍ وحماسٍ وإصرارٍ بكل أخلاق إسلامهم لا يخافون أبداً أيَّ لَوْمٍ أيْ انتقادٍ أو اعتراضٍ أو رفضٍ أو عدم رضا أو ذمٍّ أو عتابٍ من أىِّ لائمٍ مهما كان سواء أكان اللّوْم من قويٍّ أو كبيرٍ أو غَنِيٍّ أو غيره وسواء أكانت اللّوْمَة شديدة أم خفيفة لأنَّ خوفهم ليس إلا من الله تعالي وحده فهم دائما يُقَدِّمون خشيته أيْ خوفه ومُرَاقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فهم لا يفعلون أبداً شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو يتركون خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما يتمسّكون ويعملون دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كانوا مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنهم يتمسّكون بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقهم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعهم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخاف الله أخاف منه كلّ شيءٍ لأنه معه بقُدْرته وعلمه إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنه أخافه من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْنه.. إنَّهم يحيون حياتهم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ.." أيْ هذا الذي ذَكَرَهُ الله تعالى من هذه الصفات الطيّبة الحَسَنة، هو حتما فضل الله عليهم أيْ عطاؤه وكَرَمه الزائد ورحمته الغامِرَة لهم.. ".. يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ.." أي مَن يشاء أيْ يُريد من الناس الهداية لله وللإسلام والنّيْل لهذا الفضل العظيم أيْ العطاء الهائل الذي لا يُقَدَّر بأيِّ قَدْرٍ يَشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه ويُعطيه له ويتفضَّل به عليه بواسِع كَرَمه فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات وخيراتها.. بينما مَن لم يَشَأ الهداية، لم يشأها قطعا له الله ولم يُيَسِّر له أسبابها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا لا ينالون فضل الله هذا إذ قد حَرَموا هم أنفسهم منه، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ ناصرٍ لهم، غير الله خالقهم، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)" أيْ وهذا الذي تَفَضَّلَ به عليهم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ واسع أيْ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. إنه عليم بمَن يَسْتَحِقّ كل ذلك الفضل العظيم وأحسن اتّخاذ أسباب الوصول إليه.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. واطمَئِنّوا واسعدوا واحمدوا ربكم علي فضله ليزيدكم منه ولا تَغْتَرُّوا أو تَتَعَالوا علي الآخرين به فيَمنعه عنكم
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)" أيْ ليس اليهود ولا النصاري ولا الكافرون عموماً ولا مَن يَتَشَبَّه بهم بأوليائكم أيها المسلمون، بل وَلِيّكم أولاً وأخيراً ودائماً الله تعالي، أيْ هو وحده الوَلِيّ لأمركم الذي يُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، إنه وَلِيّ أمركم أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم، فهنيئاً لكم هذا، حيث سيُوَفّر لكم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ثم يَتْبَع ذلك أن يكون وَلِيُّكم رسوله الكريم (ص) من خلال سُنَّته وطريقته وأسلوبه وكيفية تطبيقه العمليّ للإسلام.. ثم يَتْبَع ذلك أن يكون أولياؤكم كلّ المسلمين الذين يَتّصِفون بصفات الإسلام الطيّبة الحَسَنَة والتي منها أنهم يُقيمون الصلاة أيْ يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها.. ويؤتون الزكاة أيْ ويُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. وهم دائما راكعون أيْ عابدون لله تعالي أيْ مُطِيعون له مُتّبِعون كل أخلاق إسلامهم في كلّ أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم مُعِينُون لبعضهم البعض علي ذلك مُخْلصون له وحده تمام الإخلاص والإحسان غير مُشركين معه في عبادته أيَّ شيءٍ آخر (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، حيث الركوع يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو الركوع له بتواضُعٍ وخشوعٍ وسُكُونٍ في الصلاة تواضُعَاً له وحباً فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَوَاضُعاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم اسْتِعْلاءٍ عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم بلا استكبارٍ وتقاطُعٍ مُتْعِسٍ لهم فيهما ومعني "وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)" أيْ وكل مَن يَجعل الله ورسوله – وجَعْل الرسول (ص) وَلِيَّاً يعني اتّخاذه قُدْوَة – والمؤمنين أولياء لكل أموره في كل شئون حياته، أيْ مُحِبِّين وراعِين وناصرين ومُعِينين وحُلَفاء، فإنه يكون من حزب الله، وإنَّ حزب الله هم حتماً المُنْتَصِرون الفائزون، أيْ يكون مِن تَجَمُّعِ الله تعالي وأتْباعه وأنصاره وأحِبَّائه، وما أعظمه وأشرفه وأقواه مِن تَجَمُّعٍ يَنتسب إلي مالِك المُلك سبحانه وهو معه ويؤيده ويُرْشِده، فهم الذين قطعاً ينتصرون ويفوزون ويفلحون وينجحون ويربحون في دنياهم وأخراهم نصرا وفوزا وفلاحا ونجاحا وربحا عظيما لا يُقارَن بشيء
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا الذين جعلوا دينكم الإسلام الذي يُصْلِح البشرية كلها ويُكملها ويُسعدها لأنه من الخالق الذي يعلم خَلْقه وكيفية إصلاحهم وإسعادهم، هُزُوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه، ولَعِبَاً كمُبَالَغَةٍ ومزيدٍ منهم في الاستهزاء به وذلك بالتعامُل معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم، مِن الذين أُعْطُوا الكتاب قبلكم وهم اليهود الذين أعطوا التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) والنصاري الذين أعطوا الإنجيل من خلال رسولهم عيسي (ص)، وكذلك الكفار عموماً أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق، ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، لا تَتّخِذوهم مطلقا أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها التعامُل مع غير المسلمين، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)" أيْ ومِن مَظاهِر أنهم يتّخذون دينكم هُزُوَاً ولعباً أنكم إذا ناديتم أيها المسلمون بعضكم بعضاً إلى الصلاة عن طريق الأذان، جعلوها هُزُوَاً أيْ مَوْضِعَاً للاستهزاء والسُّخْرِيَة والاحتقار حيث يَسْخَرون مِمَّا فيها ويحتقرونها، ولَعِبَاً كمُبَالَغَةٍ ومزيدٍ منهم في الاستهزاء بها وذلك بالتعامُل معها بغير جِدِّيَّة وبجَعْلها مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويَضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمها، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)" أيْ هذا الذي يفعلونه من الاستهزاء واللعب وغيره من السوء بسبب أنهم قوم لا يعقلون الإسلام وما فيه من الحقّ والعدل والرشاد والخير والسعادة ولا يُمَيِّزون بين ما ينفعهم وما يضرّهم فيندفعون وراء الشرور والمَفاسد والأضرار بدون إدراكٍ لنتائج الأمور.. إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا لم تكن فاسِقَاً أيْ خارجاً عن طاعة الله والإسلام بل كنتَ عاملا بكل أخلاقه
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تكرهون مِنّا وتعِيبون علينا شيئاً سَيِّئاً تعتبرونه أنتم نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومصيبة لكم؟! إنكم لا تعيبون علينا وترفضون مِنَّا إلا خيراً عظيماً بل وتنتقمون مِنّا بسببه! إلاّ أنْ آمَنّا بالله والذي من المُفْتَرَضِ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يؤمن به أيْ صَدَّقنا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكنا وعملنا بما أنزل إلينا من كل أخلاق قرآننا وإسلامنا وبما أنزل من قبله من كتبٍ علي الرسل السابقين لرسولنا (ص) مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيماننا بها استكمال لإيماننا بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علينا أن نَتّصِف به فنحن ليس بيننا وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعنا من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم، بينما أنتم لم تؤمنوا برسولنا الكريم محمد (ص) وبالقرآن العظيم الذي أوحي إليه فأنتم بالتالي كافرون مُكَذّبون مُعانِدون وتحسدوننا علي ذلك وتسعون بكل وسيلة لإبعادنا عن ديننا لنكون مثلكم فلا ينصحكم أحدٌ وتستمرّون علي ما أنتم فيه.. إنَّ ما تعتبرونه ذَمَّاً لنا وعَيْبَاً فينا ومُسْتَحِقّاً لكراهيتكم لنا هو علي العكس تماما فخر لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)" أيْ وأيضا تَنْقِمون مِنّا أنْ آمَنّا بأنَّ كثيراً منكم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام، وأنتم بالفِعْل كذلك، لأنَّ هذه الأمور التي تنقمونها مِنّا كان من المُفْتَرَض أن تشكرونا عليها أنْ وَجَّهناكم لها ووَصَّيْناكم ونصحناكم بها فتُسْلِمُوا لتسعدوا مثلنا في الداريْن لكنْ لأنَّ كثيراً منكم فاسقون نَقَمْتُم إيَّاها مِنَّا.. هذا، ولفظ "أكثركم" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)" أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ وذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حتي لا يستمرّوا علي ذلك الشرّ الذي هم فيه والذي سَبَقَ ذِكْره مِن الكفر ومِن اتّخاذ دين الإسلام هُزُوَاً ولعباً ومِن النّقْمَة أيْ الكراهية والحسد للمسلمين والكَيْد لهم ومِن الفِسْق بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والذي هم بسببه في كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وإنْ استمرّوا كذلك وأصَرُّوا عليه وازدادوا فيه سيُثيبهم الله حتما أيْ يُجازيهم ويُعاقبهم بما هو أشدّ شرَّاً في الدنيا قبل الآخرة وهو أن يلعنهم ويجعل منهم القردة والخنازير وعُبَّاد الطاغوت كما فَعَلَ بالسابقين لهم مِمَّن كانوا أمثالهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم، مُحَذّرَاً ومُذَكّرَاً، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل أخبركم بما هو أشدّ شَرّاً في المَثُوبَة أي في الجزاء والعقاب عند الله في دنياكم ثم أخراكم من ذلك العقاب الذي تُعَاقَبون به الآن بسبب الحال والعمل السَّيِّء الذي أنتم فيه؟! إنه العقاب الأشدّ بأن يفعل بكم كما فَعَل بآبائكم وأجدادكم بأن يلعنكم أيْ يَطردكم ويُبْعدكم من رحماته وإسعاداته في الداريْن، وبأنْ يَغضب عليكم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ يَكْرهكم كراهية شديدة لفِعْلِكم ويَنْتقم منكم بعقابه بما يُناسِب في الداريْن، وبأنْ يجعل منكم بعضكم القردة وبعضكم الخنازير إمَّا علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه فلا تكونوا بَشَرَاً وإمّا يجعل تعالي فيكم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائكم علي هيئة البَشَر بسبب أنكم قد عَطّلتم عقولكم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان، وبأن يجعل منكم عُبَّاد الطاغوت من شِدَّة غضبه عليكم حيث لا يُيَسِّر لكم الهداية للخير بل يُسَهِّل لكم الشرّ لأنكم لم تَتّجِهُوا نحوها بأيِّ خطوةٍ حتي يُعينكم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن.. هذا، ومن المعاني أيضا أنْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمسلمين كذلك هل أخبركم بجزاءٍ وعقابٍ أشدّ شرَّاً من جزاء ذلك الذي يفعله هؤلاء المُسِيئين الذين سَبَقَ ذِكْرهم؟! هو جزاء مَن لعنه الله بسبب إصراره علي ما هو عليه مِن كفرٍ وسوءٍ وجَعَلَ منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت، فلا تكونوا حتماً أمثالهم وإلا أصابكم ما يُصيبهم.. ".. أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع في أعلي مَنْزِلَة من الشرّ من غيرهم والذي يَستحِقّون بسببه وفي مُقابِله وبما يُناسبه أشدّ وأسوأ وأتْعَس أنواع العذاب في الداريْن، وهم أيضا أكثر ضلالا أيْ بُعْدَاً بل أبْعَد الناس من غيرهم عن سواء السبيل أيْ وسط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما
ومعني "وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القبيحة لمزيدٍ من التنفير من مُوَالاتهم.. أيْ وإذا جاء لكم – أيها المسلمون – المنافقون من بعض أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم قالوا كذباً ونِفاقاً مُظْهِرين الخير وهو الإسلام مُخْفِين الشرّ وهو الكفر، آمَنَّا، ولكنْ حالهم وواقعهم الحقيقي أنهم قد دخلوا إليكم كافرين مُمْتَزِجِين تماماً بالكفر كما خرجوا من عندكم كافرين مُمْتَزِجين به أيضا بلا أيِّ نقصان منه أو تغيير فيه مُطلقاً بل قد يخرجون أشدّ سوءَاً، فهم يَدخلون عليكم ويَخرجون من عندكم وعقولهم كما هي لا تتأثّر بأخلاق بالإسلام والتي لو عملوا بها كلها لَأَسْعَدَتْهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه مِن سوء، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)" أيْ والله حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بما كانَ ولا زَالَ يُخْفِي أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بدواخلهم من شرور، وقد كشف لكم أحوالهم لكى تحذروهم وتعاملوهم بما يناسب، لأنه عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس جميعا وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، وسيُجازِي حتماً بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا امتنعتَ تماما عن أيِّ إثمٍ أيْ شرّ، وإذا امتنعتَ تماما عن أيِّ ظلمٍ وعدوانٍ علي الآخرين سواء أكان مادِّيَّاً أم معنوِيَّاً أم غيره، وإذا امتنعتَ تماما عن أكل أيِّ سُحْتٍ وهو الرزق الحرام الذي يأتيك بمُعَامَلَةٍ حرام أيْ ضارَّة لك ولغيرك.. إنه بانتشار الشرّ والظلم والعدوان وأكل الأموال بغير الحقّ يفقد الناس أمنهم علي ممتلكاتهم وينتشر التّشَاحُن والتّباغُض والثأر والانتقام وغيره فيتعسون حتماً في دنياهم وأخراهم، والعكس صحيح قطعاً، فبانتشار كل خيرٍ وعدلٍ يأمنون ويسعدون فيهما
هذا، ومعني "وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القَبِيحة لمزيدٍ من التنفير من مُوَالاتهم.. أيْ وتُشاهِد أيها الناظر المُتابِع كثيراً منهم يَتسابقون في الشرّ والعدوان علي حقوق الآخرين وظلمهم وأكل السُّحْت وهو كل كَسْبٍ جاء بمُعامَلَةٍ حرامٍ كالربا والرشوة وغيرهما مُسابِقين بعضهم بعضاً لذلك بكل هِمَّةٍ حتى كأنهم في حالةِ سباقٍ يَحرصون فيه علي أن يَسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بهذه الشرور والاعتداءات والمَفاسد والأضرار والتعاسات فاعِلِين كل ذلك عَلَنَاً بكل تَبَجُّحٍ بلا أيِّ خَجَلٍ أو تَسَتّر.. وفي هذا تنفيرٌ من هذه الأفعال الشديدة القُبْح حتي لا يفعلها أحدٌ من المسلمين، كما أنه تحذيرٌ لهم من أمثالهم عندما يتعامَلون معهم.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم.. أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم
ومعني "لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)" أيْ هذا تأنيبٌ وذمٌّ للدعاة والعلماء الذين مِن المُفْتَرَض أنهم خُلَفاء الأنبياء على تَرْكهم في الماضي خُلُق الأمر بالمعروف والنهى عن المُنْكَر بالحكمة والموعظة الحسنة للعاصِين حولهم كما أنه حثٌّ وتحفيزٌ لهم لفِعْله في المستقبل، لأنَّ لفظ "لولا" في اللغة العربية إذا جاء بعده مضارع فإنه يُفيد الحثّ والتشجيع علي ما يأتي بعده وإذا جاء بعده فِعْلٌ ماض أفاد التأنيب والذمّ.. أيْ أمَاَ كان يجب أنْ ينهاهم أيْ يمنعهم الرَّبَّانِيُّون وهم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطِون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبّون لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وكذلك ينهاهم الأحبار وهم العلماء السائرون علي طريق الإسلام الذي أتَيَ به أنبياؤهم ويُعَلّمونه للناس، عن قول الشرِّ وفِعْله وأكل الحرام.. أيْ لو كانوا ينهونهم لكانوا انتهوا عن فِعْل ذلك أو بمعني آخر لولا أنهم كانوا لا ينهونهم لَمَا كانوا فَعَلوه.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)" أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم حيث تركوا أهَمّ ما يُسعد الناس ويَمنع تعاستهم فيهما وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.. هذا، ولفظ "يَصنعون" يُفيد يَعملون لكن بصنعةٍ واحترافٍ أي كانوا مِن شِدَّة سوئهم يَجعلون السكوت عن معاصي مَن حولهم ومُصَانَعَتهم – أيْ مُلاطَفتهم لا لنُصْحِهم ولكن خوفاً منهم أو لتحقيق مصلحةٍ مَا مِن عندهم – صَنْعَة لهم يتقنونها ويحترفونها من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والآية الكريمة تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمسلمين لكي يجتهدوا ألاّ يكونوا أبداً مِثْلهم وإلاّ يُصيبهم ما أصابهم من كلّ عذابٍ وشقاءٍ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب بل يكونوا كلهم دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام والتوجيه للمعروف والنهي عن المُنْكَر بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)" أيْ وقالت مجموعة من اليهود، مِن جُمْلَة ما كانوا يقولونه مِن الإثم، كذباً وزُورَاً، مُتَطاوِلين مُتَجَرِّئين علي خالقهم ورازقهم تعالي مُسِيئين الأدب معه واصِفين إيّاه بما لا يَليق ناكِرين نِعَمَه التي لا تُحْصَيَ عليهم وعلي الخَلْق جميعا، قالت يَدُ الله مَغْلُولَة، أيْ مُقَيَّدَة، أيْ هو سبحانه بَخِيل!! تعالي عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً.. ".. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا.." أيْ بسبب ما قالوا من كذبٍ وزُورٍ وقُبْحٍ وتَطَاوُلٍ عاقبهم الله بما يستحِقّونه كنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ تُناسب شدَّة قُبْحهم هذه بأنْ غَلَّ أيديهم أيْ قَيَّدَها أيْ جعلهم هم البُخَلَاء وأفقرهم بسبب بُخْلهم الذي يمنعهم حتي من الإنفاق علي ذواتهم وذلك في دنياهم وهو أمرٌ قد حَدَثَ بالفِعْل كما يُثْبِت الواقع ذلك حيث هم أبْخَل الناس وفي أخراهم سيُوضَعُون في الأغلال أيْ القيود ويُقْذَفون في عذابات النار التي لا تُوصَف، وكذلك لَعَنَهم أيْ طَرَدَهم وأبْعَدهم من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة، وسيَظلّون كذلك جيلاً بعد جِيلٍ إلاّ مَن يستيقظ منهم ويعود لربه ويُسْلِم فيُرْفَع عنه بالقطع هذا العقاب ويسعد فيهما.. ".. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ.." أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون أيها المُسِيئون بل هو سبحانه بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يداه مُمْتَدَّتَان بكلّ تَوْسِعَةٍ وزيادةٍ بكل خيرٍ ورحمةٍ – وليست يد واحدة بما يُفيد عظيم وكمال الكرم والعطاء – فهو عنده خزائن كل الخيرات والرحمات وهو واسعُ الفضل غَنِيٌّ كريمٌ عظيمٌ كاملُ الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه، فكرمه وخيره تعالي الذي لا يُوصَف يَسْبَح فيه في كل لحظةٍ جميع خَلْقه حتي المُنْحَطّين السفهاء منهم أمثالكم!!.. ".. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.." أيْ هذا تأكيدٌ علي كَوْن يداه مَبْسُوطتان سبحانه وبيانٌ أنه تعالي يَبْسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، وهذا لا يَتَعارَض مُطلقاً مع كمال كرمه، حيث هو يبسطه لمَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إنْ ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل).. ".. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.." أيْ وبالتأكيد بلا أيِّ شكّ وبسبب إغلاق أمثال هؤلاء لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها والتي تَتَمَثّل في الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، سيَزيد حتماً ما أُنْزِلَ إليك من ربك وهو القرآن العظيم كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم يَستفيق ويُسْلِم – كلما اسْتَمَعُوا لبعض آياته أو ذَكّرهم أحدٌ ببعض ما فيه من أخلاق الإسلام، والتي من المُفْتَرَض أن تُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها، سيَزيدهم ذلك كفراً بها أيْ عدم تصديقٍ لها وعِنادَاً ضدّها واستعلاءً عليها وعدمَ عملٍ بها، فيزدادون بذلك كفراً علي كفرهم كلما كفروا بآية من الآيات التي استمعوا لها أو ذُكّرُوا بها، لأنَّ الكفر درجات إذ هناك مَن يكفر ويَفعل بعض الشرور وهناك مَن يَفعل المزيد منها وهناك مَن ينشر كفره ويُؤذي الإسلام والمسلمين ويُعاديهم ويُقاتلهم وهكذا، وهم كلما استمعوا للقرآن وخَالَفوه لأنهم مُعانِدون مُسْتَكْبِرون مُصِرُّون علي عدم الاستجابة له والعمل به كلما تَجَمَّعَت حَصِيلَة مُخَالَفاتهم فيزدادون بذلك طغيانا أيْ تَجَاوُزاً شديداً في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس حيث الطغيان أيضا درجات.. إنهم مِن شدَّة كُرْهِهم لآيات القرآن لأنها تَفضحهم وتُظهر شَرَّهم وتزيد وَعْي مِن يعمل بها من المسلمين فلا يمكنهم استعبادهم واستغلال جهودهم وثرواتهم، يزدادون عَدَاءً لها ومحاولات يائسة لمنع انتشارها بنشر كفرهم وفسادهم وبذلك يزدادون طغياناً وظلماً وشرَّاً وفساداً وكفرا!!.. وإضافة لذلك فإنَّ استماعهم للقرآن وتذكيرهم به يزيدهم بالقطع سُوءَاً إلي سُوئهم حيث يزدادون قَلَقَاً وتَوَتّرَاً واضطراباً وكآبة وتعاسة، لأنه يزيد التّصارُع والتّنافُر مع فطرتهم، فهي تعرف القرآن وربها وتحبهما وتشتاق لهما بمجرد الاستماع إليهما (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم هُمْ بتوجيه عقولهم نحو التفكير الشرِّيّ يمنعونها ويَكبتونها بكل قوة، وهي أيضا تقاومهم بكل قوة، فيَحدث الصراع الداخليّ النفسيّ الشديد، والذي يُؤَدّي حتماً إلي مزيدٍ من التّمَزّق والضيق والكآبة والتعاسة في الدنيا، ثم لهم قطعاً ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم في الآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة تنبيهاً للمسلمين لأخْذ الحَذَر الشديد عند التّعامُل معهم وتسلية لهم لعدم الحزن عليهم إذا لم يُسْلِموا رغم إحسان دعوتهم لله وللإسلام حيث هم لا يستحِقّون هذا الحزن لشِدّة سُوئهم وإصرارهم عليه.. ".. وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ وعاقَبْناهم أيضا بأنْ قَذَفْنا ووَضَعْنا وأَثَرْنا وهَيَّجْنا بينهم وبين بعضهم البعض وكذلك بينهم وبين النصاري أسباب العَداء والكُرْه الدائم المستمرّ حتي يوم القيامة، كما يُرَيَ واقِعِيَّاً بين طوائفهم المختلفة، وكانوا مُسْتَحِقّين لهذا العقاب ولعله يُوقِظ بعضهم فيَستفيق ويعود لربه ويُسْلِم ليخرج من هذه الحالة ويسعد في الداريْن بدلا من تعاسته فيهما باستمراره علي ما هو فيه.. لقد بدأوا هم واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي أضَلّهم (برجاء مراجعة الآية (5) من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا مِمَّا يُبَشِّر المسلمين أنهم سيَهزمونهم حتماً حيث عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة تَصِل إلي أن تُضْعِف قطعاً تلاحُمهم وتعاونهم وقوّتهم عموما بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات ولو حَدَث وقاتَل بعضهم بعضا وهو الأمر الذي يَحدث واقعيا بكثرة علي الثروات المتعدِّدة لَظَهَرت هذه العداوة والقوة الشديدة فيما بينهم حتي ولو كان الناظر إليهم يَتَوَهَّمهم مُجتمعين ولكنَّ عقولهم وأهدافهم ومصالحهم مُشَتَّتَة مختلفة مُتَضَارِبَة مُتَطَاحِنَة مُتَبَاغِضَة كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا بسبب هذا العداء والصراع والاقتتال الشديد بينهم علي المصالح إذ لم يَجمعهم فقط إلا عداؤهم للإسلام والمسلمين وليس أيّ واحدٍ منهم مع الآخر بل يتمني أحدهم أن يقضي علي غيره ويَتخلّص منه ويَغتصب ما يملكه في أقرب فُرْصَة!!.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين والعوْن علي الصبر علي أذاهم والتخفيف عنهم وتسليتهم وتثبيتهم.. أيْ وكلما أشعلوا ناراً للحرب بالقتال أو بتدبير المكائد والشرور المتنوِّعة الأشكال ضدّ الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أطفأها الله ومنعها بهزيمتهم ونَصْر المسلمين عليهم ما داموا متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم قد أحسنوا اتّخاذ أسباب النصر الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية وغيرها.. ".. وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي سُوئهم وقُبْحِهم.. أيْ وحال أمثال هؤلاء المُسيئين أنهم غالبا أو دائما يَمْشُون ويَجِدُّون ويَنْشَطون في الأرض ليُفسدوا فيها ويُتْلِفوا ويُخَرِّبوا الزرع والنسل وكل ما تقوم به الحياة للبَشَر – وحتي للدَوَابّ – ويؤذوهم إيذاءً شديداً ويُوقِعوا الفِتَن والخِلافات بينهم بفعلهم لكل أنواع الجرائم والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)" أيْ والله تعالي بالقطع يحب الصلاح المُفيد المُسْعِد ولا يحب مُطلقا المُفْسِدين أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب فساده.. وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم – ولمَن يَتَشَبَّه بهم – لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)" أيْ ولو أنَّ اليهود والنصاري صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد (ص) وبما أُوحِيَ إليه وهو القرآن العظيم وأسْلَموا وعملوا بأخلاق الإسلام واتّقَوْا أيْ وخافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، لو أنهم فعلوا ذلك لكَفّرنا عنهم سيّئاتهم أيْ لسَتَرْنا عليهم بالتأكيد شرورهم وسامَحناهم فمَا حاسبناهم ولا عاقبناهم عليها ومَحَوْناها وأزَلْناها كأنْ لم تكن ومَحَوْنا عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وسَتَرْنَاها وأخْفَيْناها فلا نُعَذّبهم بفَضْحهم بها فيهما لتوبتهم منها وعودتهم إلينا باتّباع أخلاق إسلامهم، فالإسلام يَمْحُو ما قَبْله مِن سوءٍ مهما كان، فيعيشون بذلك دائما في إطار رحمتنا التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، ولأدْخَلْناهم مُؤَكّدَاً في الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. إنَّ الله لا يُخْلِف وَعْده مُطلقاً.. وفي هذا تشجيع لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)" أي هذا بيانٌ لجَنّاتِ وسعاداتِ الحياة الدنيا التي يَعِدُهم والجميع بها الله تعالي الذي لا يُخْلِف الوَعْد أبداً والتي سيَعيشون فيها لو عملوا بكل أخلاق الإسلام حيث كل خيرٍ ورزقٍ وأمنٍ وسعادة، وذلك بعد وَعْدهم بجنات وسعادات الآخرة.. أيْ ولو أنَّ اليهود والنصاري كانوا دائما قائمين واقفين مستقيمين علي دين الله أي مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً علي العمل بالإسلام الذي في التوراة والإنجيل علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ والذي كان مناسباً للزمن السابق قبل مَجِيء الرسول الكريم محمد (ص)، وأقاموا أيضا ما أُنْزِلَ إليهم من ربهم لمَن حَضَره منهم وهو القرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليه أي آمَنوا به واتّبَعوا الإسلام الذي فيه والذي هو المُناسِب لكل الأزمنة والذي يُسْعِد البشرية كلها بأنظمته المُتَكَامِلَة في كل شئون حياتها في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، لو أنهم فَعَلوا ذلك – وجميع الناس – لأتَاهم حتماً الرزق الواسع بكل أشكاله من كل ناحية ولَعَمَّهم الخير وأفاضَ عليهم من كل جهة يَسْعَوْن فيها بكل يُسْرٍ وبَرَكَةٍ أيْ زيادةٍ ولَعَاشوا آمنين مطمئنين سعيدين مُنتفعين تمام الانتفاع بكل خيراتِ ربهم النافعة المُسْعِدَة في كل شئون حياتهم بكل لحظاتها، وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه.. ".. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ.." أيْ وأهل الكتاب ليسوا مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، فليس كلهم أشراراً بل منهم أخيار علي خيرٍ عظيم، فمنهم مجموعة مقتصدة أيْ سَالِكة القَصْد، أي سائرة في الطريق المستقيم لا تَعْدِل أيْ لا تَنْحِرف عنه لغيره، أي بَقِيَت علي القصد السليم، أي علي العَدْل، أي علي العهد الذي عاهَدَت الله عليه، أي كانت مسلمة علي الإسلام الذي كان في التوراة والإنجيل ولمَّا حَضَرَت القرآن العظيم آمَنَت به وأسْلَمَت وكانت من المسلمين.. هذا، ومن معاني مُقْتَصِدَة أيضا أيْ متوسطة في عداوتها للإسلام والمسلمين – من الاقتصاد أي الادخار – فهي تبقي علي كفرها لكن بصورةٍ ليس فيها عِناد واستكبار وإيذاء للآخرين.. ".. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)" أيْ وإلى جانب هذه المجموعة القليلة المُقْتَصِدَة عدد كبير منهم ساء عملهم وقولهم بما يثير التّعَجُّب لمُخَالَفته لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والعداء للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (113) "لَيْسُوا سَوَاءً.."، (114)، (115) من سورة آل عمران)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)" أيْ يا أيها المَبْعُوث من الله للناس جميعا لتبليغهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ومُناداته (ص) بلفظ الرسول هو لتشريفه بهذا الوصف الكريم المُنْتَسِب للخالق سبحانه، ويا كل مسلم مِن بَعْده والذي هو داعي إلي الله والإسلام بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور، وَصِّل للجميع كل ما أُنْزِلَ إليك من ربك – أي مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من أخلاق الإسلام في القرآن العظيم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ، ولا تَكْتم أيَّ شيءٍ منه، وإنْ لم تفعل أيْ إذا لم تُبَلّغ ما أنزل إليك من ربك فما اسْتَجَبْتَ لأمره، وستُحَاسَب أيها المسلم علي تقصيرك هذا المُضِرّ المُتْعِس إذا لم يكن لك عُذر مَقْبُول عنده تعالي وهو الذي يعلم حقيقة صِدْق عُذْرك وما يَخْفَيَ بداخل عقلك، حيث بذلك التقصير سيَفتقد الناس مَصْدر سعادتهم في الداريْن وسيَنتشر الشرّ بينهم ويَتعسون فيهما.. ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.." أيْ هذا طمأنة وتبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين وعوْنٌ لهم علي الصبر علي أذي من يؤذيهم وتخفيفٌ عنهم وتسليتهم وتثبيتهم وتذكيرهم بأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ والله خالقك القادر علي كل شيءٍ المُعِين للمتمسّكين العامِلين بدينهم قطعاً يَعْصِمك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به أيْ يُحَصِّنك ويَحميك ويَمنعك من المُسِيئين من الناس، برحماته وأفضاله عليك وبقُدْراته وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، يَعصمك مِن قتلهم، ومِن أذاهم، وحتي لو آذوك بضَرَرٍ ما قوليّ أو فِعْليّ فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ").. إنه يَعصمك أيها المسلم إنْ تَمَسَّكْتَ واعْتَصَمْتَ به ثم بالصالحين حولك وتمسّكتم واعتصمتم جميعا بكل أخلاق إسلامكم، فسيَعصمكم بذلك أيها المسلمون الصالحون معنوياً نفسياً، بأنْ يَعْصِم إرادة عقولكم فلا يَتَسَرَّب إليها أيُّ شكّ في ربكم ودينكم، وسيَعصم إسلامكم فينتشر بأنْ يُحَرِّك فطرة عقول مَن تدعوهم نحوكم وبأنْ يُبْطِل جهود مَن يريد منعها، وسيَعصمكم جسدياً بأنْ يُنجيكم من كيدهم وما قد يُصيبكم منهم فلن يَضرّكم بل سيُخَفّفه عنكم وستشعرون بمجرّد أذي خفيف تتحملونه وستزدادون جَلَدَاً وصبراً وخبرة وانطلاقاً بقوةٍ أكثر نحو تبليغ أمانة الإسلام، وحتي لو اسْتُشْهِدَ منكم أحدٌ فقد كَرَّمَه ربه واختاره شهيداً حَيَّاً إلي جواره في أعلي عِلّيِّين مع النبيين والصِّدِّيقين وسيَستكمل الدعاة الآخرون الصالحون الصادقون الطريق فتستمرّ دعوة الإسلام حتي تَسعد بها البشرية كلها إلي يوم القيامة، وسيُبْطِل الله تعالي كَيْد كلّ الكائِدين.. وبالتالي وما دام الأمر كذلك فاستمرّوا علي تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم ونشره كله بلا أيّ نقصانٍ والدفاع عنه بما تستطيعون مع اتّخاذ أسبابِ حُسْن الدعوة والحَذَر ما أمكن ولا تَخشوا أيَّ أحدٍ من الناس بل اخشوا ربكم وحده، فالمُسِيئين المُعْتَدِين منهم الذين لا تَنْقَطِع أكاذيبهم وتشويشاتهم واعتداءاتهم المُتَعَدِّدَة لا تخافوا مَكائدهم وحجَجهم واعتراضاتهم فهي لا يُهتمّ بها ولا يُلْتَفَت إليها ولا تضرّكم لأنها ضعيفة لا قيمة لها حيث لا تَستند لأيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ وهي لا تَثْبُت أمام الحقّ الذي جاء به الإسلام، وخافوني باتّباعه وعدم مُخَالَفَة أخلاقه واستعينوا به وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كل شيء قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه تعالي لن يهدي أيْ يُوصل أبداً أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لأيِّ طريقٍ يُمكنهم من خلاله مَنْع نَشْر الإسلام وسعاداته بين الناس
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما أنك لا شيء بدون أخلاق الإسلام!! فأنت بدونها لست علي أيِّ شيءٍ حقيقيٍّ لا وَهْمِيٍّ مِن فضلٍ أو مَكًانَةٍ أو دينٍ أو خُلُقٍ أو علمٍ بالحياة وأهدافها حتي ولو حَصَّلتَ من علومٍ أخري الكثير (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة)، إلاّ أن تُقيمها في ذاتك، بالتمسّك والعمل بها كلها، وتُقيمها فيمَن حولك بحُسْن دعوتهم لها بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، حينها سيكون لك وللجميع الشيء العظيم، المكانة والفضل والعِزّة والكرامة والنصر والقيادة لكلّ خيرٍ والرزق والقوة، وبالجملة السعادة التامّة، في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – ويُناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنتم لستم علي شيءٍ من الدين الحقّ، أيْ لستم علي الصدق والعدل والصواب والخير والسعادة، بل أنتم علي الضلال أيْ الضياع أيْ علي الكذب والظلم والخطأ والشرّ والتعاسة، وستَظَلّون كذلك حتي تُقِيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم أي إلي أن تكونوا دائما قائمين واقِفين مُستقيمين علي دين الله أي مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً علي العمل بالإسلام الذي في التوراة والإنجيل علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ والذي كان مناسباً للزمن السابق قبل مَجِيء الرسول الكريم محمد (ص) وتُقيموا أيضا ما أُنْزِلَ إليكم من ربكم لمَن حَضَره منكم وهو القرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليه أيْ تؤمنوا به وتَتّبعوا الإسلام الذي فيه والذي هو المُناسِب لكل الأزمنة والذي يُسْعِد البشرية كلها بأنظمته المُتَكَامِلَة في كل شئون حياتها في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فإنْ قُمْتُم بذلك وأصبحتم مسلمين حينها سيكون لكم معهم الشيء العظيم، المَكَانَة والفضل والعِزّة والكرامة والنصر والقيادة لكلّ خيرٍ والرزق والقوة، وبالجملة السعادة التامّة، في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.." أيْ وبالتأكيد بلا أيِّ شكّ وبسبب إغلاق أمثال هؤلاء لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها والتي تَتَمَثّل في الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، سيَزيد حتماً ما أُنْزِلَ إليك من ربك وهو القرآن العظيم كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم يَستفيق ويُسْلِم – كلما اسْتَمَعُوا لبعض آياته أو ذَكّرهم أحدٌ ببعض ما فيه من أخلاق الإسلام، والتي من المُفْتَرَض أن تُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها، سيَزيدهم ذلك كفراً بها أيْ عدم تصديقٍ لها وعِنادَاً ضدّها واستعلاءً عليها وعدمَ عملٍ بها، فيزدادون بذلك كفراً علي كفرهم كلما كفروا بآية من الآيات التي استمعوا لها أو ذُكّرُوا بها، لأنَّ الكفر درجات إذ هناك مَن يكفر ويَفعل بعض الشرور وهناك مَن يَفعل المزيد منها وهناك مَن ينشر كفره ويُؤذي الإسلام والمسلمين ويُعاديهم ويُقاتلهم وهكذا، وهم كلما استمعوا للقرآن وخَالَفوه لأنهم مُعانِدون مُسْتَكْبِرون مُصِرُّون علي عدم الاستجابة له والعمل به كلما تَجَمَّعَت حَصِيلَة مُخَالَفاتهم فيزدادون بذلك طغيانا أيْ تَجَاوُزاً شديداً في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس حيث الطغيان أيضا درجات.. إنهم مِن شدَّة كُرْهِهم لآيات القرآن لأنها تَفضحهم وتُظهر شَرَّهم وتزيد وَعْي مِن يعمل بها من المسلمين فلا يمكنهم استعبادهم واستغلال جهودهم وثرواتهم، يزدادون عَدَاءً لها ومحاولات يائسة لمنع انتشارها بنشر كفرهم وفسادهم وبذلك يزدادون طغياناً وظلماً وشرَّاً وفساداً وكفرا!!.. وإضافة لذلك فإنَّ استماعهم للقرآن وتذكيرهم به يزيدهم بالقطع سُوءَاً إلي سُوئهم حيث يزدادون قَلَقَاً وتَوَتّرَاً واضطراباً وكآبة وتعاسة، لأنه يزيد التّصارُع والتّنافُر مع فطرتهم، فهي تعرف القرآن وربها وتحبهما وتشتاق لهما بمجرد الاستماع إليهما (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم هُمْ بتوجيه عقولهم نحو التفكير الشرِّيّ يمنعونها ويَكبتونها بكل قوة، وهي أيضا تقاومهم بكل قوة، فيَحدث الصراع الداخليّ النفسيّ الشديد، والذي يُؤَدّي حتماً إلي مزيدٍ من التّمَزّق والضيق والكآبة والتعاسة في الدنيا، ثم لهم قطعاً ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم في الآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة تنبيهاً للمسلمين لأخْذ الحَذَر الشديد عند التّعامُل معهم وتسلية لهم لعدم الحزن عليهم إذا لم يُسْلِموا رغم إحسان دعوتهم لله وللإسلام حيث هم لا يستحِقّون هذا الحزن لشِدّة سُوئهم وإصرارهم عليه.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (64) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن لا تَحْزَن يا رسولنا الكريم علي أمثال هؤلاء القوم الكافرين – ومَن يَتَشَبَّه بهم – أيْ المُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَر مَن يكفر، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم (ص) حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. إنهم بذلك حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني أنهم لن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ")
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)" أيْ هذا دعوةٌ وتشجيعٌ لكلّ أصحاب الأديان الأخري غير الإسلام أن يُسْلِموا حتي يسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي في الآيات السابقة حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ المسلمون، الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد (ص) وبالقرآن العظيم.. ".. وَالَّذِينَ هَادُوا.." أيْ اليهود الذين أسلموا واتّبعوا الإسلام الذي في التوراة التي جاءهم بها رسولهم موسي (ص) وَحْيَاً من عند الله تعالي والذي كان مناسباً لعصرهم.. ".. وَالصَّابِئُونَ.." أيْ الذين لا دين لهم أو لم يَصِلْهم دين الإسلام، جمع صَابِيء وهو تارك الدين.. ".. وَالنَّصَارَىٰ.." أيْ المسيحيين الذين اتّبعوا المسيح عيسي ابن مريم (ص) وما معه من إسلامٍ مناسبٍ لعصرهم في الإنجيل الذي جاءهم به وَحْيَاً منه سبحانه.. ".. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)" أيْ كلّ هؤلاء الذين علي غير دين الإسلام مِن اليهود والنصاري والصابئين وغيرهم، مَن يُؤمِن منهم بالله، أيْ يُصَدِّق بوجوده وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وبكتبه وآخرها القرآن العظيم – والمسلمون مؤمنون قطعا ومعني مَن آمنَ في حقّهم مقصوده تذكرتهم بالاستمرار علي إيمانهم والعمل بكل أخلاق إسلامهم – ويؤمن باليوم الآخر أيْ بالبَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت وبالحساب والعقاب والجنة والنار، وعَمِلَ صالحاً أيْ وعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، فهؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وهم أيضا بسبب ذلك حتماً لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أي دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا .. هذا، والعكس صحيح بالقطع، أيْ مَن بَقِيَ علي اليهودية أو النصرانية أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)" أيْ لقد أخذنا عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً من بني إسرائيل أيْ اليهود من خلال ما أوْصيناهم به في التوراة – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وأرسلنا إليهم رسلاً أيْ بَعَثنا إليهم مَبْعُوثين كثيرين من عندنا كل فترةٍ من الزمن ليُعَلّموهم إسلامهم وليُدَاوِمُوا تَذْكِرَتهم فلا يَنْسُوا، ولكنهم كانوا كلما جاء وحَضَر إليهم رسول بوَحْيٍ من عندنا فيه شَرْعنا الإسلام والذي هو بما لا تُحِبّه عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار نَقَضُوا ميثاقهم واسْتَعْلوا عن اتّباعه والإيمان أيْ التصديق به واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها ليسعدوا في الداريْن فأدَّيَ بهم هذا النقض لميثاقهم والاستعلاء علي الرسل أنْ كذّبوا فريقاً منهم وقتلوا فريقاً آخر ولم يكتفوا فقط بتكذيبهم.. فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن أيُّ أحدٍ من المسلمين ولْيَتّعِظ كلّ عاقلٍ حتي لا يَتْعس مِثْلهم في الداريْن
ومعني "وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)" أيْ وظَنّوا وتَوَهَّمُوا مُنْخَدِعِين بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أن لا تكون فتنة تَحْدُث لهم أيْ مَضَرَّة وشرّ وتعاسة بسبب وفي مُقابَل ما فعلوه من تكذيبِ رسلهم وقَتْلِ بعضهم وعدم اتّباع إسلامهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لأنَّ بعضهم لا يُصِدُّق أصلا بوجود خالقٍ يُراقبهم ويُعاقبهم! أو لأنه سبحانه يُؤَخّر عقابه أحيانا أو كثيراً رحمة بخَلْقه، ليُعطيهم الفُرَصَ ليستفيقوا وليعودوا للخير من تِلْقاء ذواتهم بفطرةِ عقولهم المَفْطُورة والمُبَرْمَجَة أصلاً علي الخير (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فبسبب ذلك، بسبب التّوَهُّم بألاّ تكون لهم فتنة، أيْ التّوَهُّم بألاّ يُعاقَبوا من الله بما يُناسِب سُوئِهم في دنياهم قبل أخراهم، ازدادوا وتَمَادَوْا في عَمَاهم وصَمَمِهم عن الحقّ الذي في الإسلام الذي بالتوراة فلم يُبْصِروه ولم يَسمعوه سَمَاع تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ واتّباعٍ ففَعَلوا ما فَعَلوا مِن شرور!!.. إنهم لم يعملوا بما سَمِعُوا ورَأَوْا من الآيات فيها فصاروا كالصُّمّ العُمْي.. ".. ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ.." أيْ ثم لَمَّا استفاقوا وتابوا بأن استغفروا من ذنوبهم ونَدموا وعَزموا بالعقل علي عدم العودة ورَدّوا الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، ورَجَعوا إلي ربهم وإسلامهم وتَرَكوا ما كانوا عليه مِن شرّ وفعلوا كلّ خير، تاب الله عليهم أي غفر لهم ذنوبهم وتجاوَز عنها وسامَحهم وأزالَ عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأصلح أحوالهم وأسعدهم بعد أن كان منهم ما كان مِن سوء.. ".. ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ.." أيْ ثم بعد حالهم السعيد هذا وتَذَوُّقهم حلاوة توبتهم والحياة بأخلاق إسلامهم، كثيرٌ منهم لم يستمرّوا عليه – وليس كلهم حيث قليلٌ منهم استمرّ علي توبته وخيره عامِلاً بإسلامه سعيداً به – نَقَضُوا عهدهم مع ربهم وانتكسوا ورجعوا عن طاعته واتّباع الإسلام حيث عَمُوا وصَمُّوا مرة أخري فصاروا كالعُمْي الصُّمّ المُعَطّلين لعقولهم السائرين علي غير هُدَيً في كل شرٍّ الفاعِلين له المُنْغَمِسين فيه المُصِرِّين عليه وكل ذلك من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة، فعَاقَبهم الله بما يُناسب ذلك من كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)" أيْ والله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة بكل شرٍّ وتعاسةٍ علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولأيّ أحدٍ يفعل مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مصيرهم
لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)" أيْ بالتأكيد قد كفر بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو المخلوق المسيح عيسى ابن مريم، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ صاروا بذلك كافرين، أيْ مُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ومُعاندين ومُستكبرين ومُستهزئين وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهة نظرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.." أيْ قالوا ما قالوا من كذبٍ قبيحٍ سفيهٍ والحال والواقع أنَّ المسيح قال مُكَذّباً لمَن وَصَفه بالألوهِيَّة مُتَبَرِّئاً مِن قوله بحُجَجٍ قاطعةٍ حاسمةٍ يا بنى إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، فأنا لست إلهاً بل الله هو ربي وربكم أيْ مُرَبِّيني ومُرَبِّيكم وخالِقي وخالقكم ورازقي ورازقكم وراعيني وراعيكم ومُرْشِدي ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا، أطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، لأنَّه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!!.. ".. إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ.." أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من عبادة غير الله تعالي وبيانٌ للمصير السَّيِّء التّعِيس في الدنيا والآخرة لمَن يَفعل ذلك.. أيْ إنَّ الذي يُشرك مع الله في عبادته أيْ طاعته غيره كأنْ يعبد مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، أو يَتّبِع نظاماً وتشريعاً مُخَالِفاً لنظام وشَرْع الإسلام، أو ما شابه هذا، ويموت علي ذلك بلا توبة، فحتماً بالتأكيد سيُحَرِّم الله عليه الجنة أيْ سيَمنعه من دخولها والتّمَتّع بسعاداتها التي لا تُوصَف ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي يكون فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. هذا، وهذه الجملة الكريمة وما بعدها قد تكون من كلام عيسي (ص) أو من كلامه سبحانه.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)" أيْ بالتأكيد قد كَفَرَ كذلك بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو ثالث ثلاثة آلهة حيث عيسي وأمّه شركاء له في الألوهِيَّة!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ.." أيْ والحق الثابت وليس الكَذِب الذي يَكْذِبون أنه ليس في هذا الوجود إله مُسْتَحِقّ للعبادة إلاّ إله واحد أيْ مَعْبُود واحد بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وهو الله رب العالمين خالِق البَشَر بقُدْرته – والكوْن كله بكل مخلوقاته المُعْجِزات المُبْهِرَات – ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام، وإليه وحده مَرْجِعهم لحسابهم يوم القيامة، سبحانه أيْ تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتعالَيَ عُلُوَّاً كبيراً عن كل صفةٍ لا تَلِيق به كأنْ يكون له ولد أو زوجة تُنْجِب له أبناءً أو نحو ذلك من صفات المَخْلُوقين لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره.. ".. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)" أيْ وإذا لم يَتَوَقّف ويَمْتَنِع تماماً أمثال هؤلاء عن كذبهم وزُورهم وسَفَههم وخَبَلِهم تَوَقّفاً وامتناعاً كاملاً عن هذا الذي يقولونه من كذبٍ وزُورٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ ويعودوا لتوحيد الله تعالي ويُسْلِموا فلا بُدّ حتماً بالتأكيد أن يُصِيب الذين استمرّوا وأصَرّوا على الكفر منهم عذاب أليم أيْ مُؤْلِم مُوجِع في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ولفظ "منهم" يُفيد أنَّ بعضهم يعود عن كفره ويُسْلِم ويَسعد في الداريْن
ومعني "أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)" أيْ ما لهم هؤلاء الكافرون المُكذّبون المَخْبُولُون الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم؟!! لماذا لا يتوبون أيْ يَرْجِعون إلي الله ويسألونه المغفرة والعفو مِمَّا صَدَرَ منهم من كفرٍ وشرورٍ ومَفاسد وأضرار ويُسْلِمون؟!! والحال والواقع المُؤَكّد أنَّ الله غفور رحيم أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هل لا يتوبون لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عن الله والإسلام والتوبة وأهملوا كل ذلك أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن التدبّر في الخير، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التوبة واتّباع الإسلام رغم التأكّد مِن صِحَّة طريقه وإسعاده لهم وبُطْلان ما هم عليه وتعاسة نتائجه الدنيوية والأخروية!!.. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التّعِيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا لتشجيعهم علي التوبة – حيث لفظ "أفَلَاَ" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن.. فلْيَتوبوا إذَن ولا يَنشغلوا عنها أو يُهملوها لِيَتِمّ لهم ذلك.. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنه تعالي يَعْرِض عليهم وعلي الجميع التوبة ويَجْذِبهم إليها بكلّ لُطْفٍ ولِينٍ رغم أيّ سوءٍ فعلوه لأنه هو بلا أيّ شكّ الغفور الرحيم دائما بكل خَلْقه
ومعني "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)" أيْ ليس المسيح عيسى ابن مريم (ص) إلا بَشَر مِن البَشَر ورسول مِثْل كل الرسل الكثيرين الذين خَلَوْا مِن قبله أيْ مَضوا وانتهوا وماتوا قبله سابقا والذين أرسلناهم للناس ليُعَلّموهم الإسلام ليسعدوا به في الداريْن وهو يَمْضِي مِثْلهم وليس بإلهٍ كما ادَّعَيَ كذباً وزُورَاً بعض السفهاء وإلاّ لَمَا مَضَىَ، وإنْ كان قد ظَهَرت بعض المُعجزات على يديه مثل إحياء الموتي وإشفاء المرضي بإذن الله فإنما جاء بها كما جاء الرسل بمثلها كعَصَيَ موسي وغيرها، فإنْ كان إلاهاً بسبب ذلك فليكن كلّ رسولٍ إذَن إلاهاً! ولماذا لا تُأَلّهونهم كلهم وجعلتم عيسي فقط إلاها؟!!.. إنَّ قولكم وفِعْلكم هذا بالتالي سفيهٌ بكل تأكيدٍ ليس له أيّ دليلٍ عقليٍّ أو مَنْطِقِيٍّ ولا يقبله أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. فتوبوا عنه وأسْلِمُوا لتسعدوا.. ".. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.." أيْ وأم عيسي مريم كذلك ليست إلاهاً كما يَدَّعون بل بَشَر من البَشَر ككل النساء فهي ليست فقط إلاّ صديقة من الصِّدِّيقِين والصِّدِّيقات أيْ مِمَّن عَظُم وكَمُل تَصديقهم وتَصْدِيقهنّ بما جاءت به الرسل اعتقاداً وفهماً وفكراً وقولاً وعملاً.. ".. كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.." أيْ والدليل القاطع الحاسم الواضح أمامكم علي كوْنهما من البَشَر أنهما كانا يأكلان الطعام ويشربان الشراب ويَلْبِسان الثياب كما يأكل ويشرب كل البشر ويحتاجان له ولهضمه ولإخراج فضلاته لحفظ حياتهما وإلا تُوُفّيَا فهل مِثْل مَن كان كذلك يمكن أن يكون إلاها؟!.. إنهما لو كانا إلاهَيْن لَمَا احتاجا لغيرهما ليعيشا ولَاَسْتَغْنَيَا عن كلّ شيءٍ فالإله له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ لا يحتاج لغيره غَنِيّ عن أيِّ شيءٍ قادر علي كلّ شيء.. تعالي الله عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نوضح لهم الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)" أيْ ثم تَأَمَّل أنهم كيف بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة يَنصرفون ويَنحرفون كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة.. وفي هذا تَعَجُّب من حالهم ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ له لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تعبدون أيْ تُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلكم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون ومنهم عيسي وأمه وأيّ رسول (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّكم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعكم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)" أيْ كيف تعبدون غير الله تعالي والحال والواقع أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ لأنه مالِك المُلك كله خالِق الخَلْق كله الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه هو السميع العليم؟! أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مُغَالِيَاً، أيْ مُتَجَاوِزَاً حَدَّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، بل كنتَ دائماً متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك التي وَصَّاكَ بها ربك تعالي وعَلّمك إيّاها رسولك الكريم (ص) من غير أن تزيد فيها ما ليس منها أو تترك بعضها أو كلها
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) – لا تكونوا من المُغَالِين في دينكم، دين اليهودية أو النصرانية، المُتَجَاوِزين حدّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، فإنْ فَعَلْتم ذلك فلا بُدّ أنكم ستُؤمنون بالقرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد (ص).. لقد غَالَيَ اليهود في دينهم حينما تمّ تَوْصِيَتهم باتّباع التّوراة ورسلهم فتَجَاوَزوا ذلك إلي مُخَالَفتهم ومحاولة قتلهم بل والكفر بما جاء بعدهم من إنجيلٍ مع عيسي (ص) وقرآنٍ مع محمد (ص)، وغَالَيَ النصارى حينما طولِبُوا باتّباع المسيح فتَجَاوَزوا الحدّ في تعظيمه إلى ادِّعاء أنه إلهٌ أو ابنُ إلهٍ أو هو وأمه مريم شركاء لله في الألوهية فقالوا ثلاثة مع كفرهم بمحمد (ص) والقرآن!.. هذا، وقد ناداهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)" أيْ وقل لهم أيضا مُنَبِّهَاً مُحَذّرَاً: إيّاكم أن تَسيروا خَلْف شرور ومَفاسد وأضرار أناسٍ قد ضاعوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، مِمَّن كانوا قبلكم سابقين لكم، وأبْعَدُوا كثيراً من الناس غيرهم عن اتّباعه فلم يَكْتَفوا بأنهم قد ضَلّوا في أنفسهم، واستمرّوا إلي الآن ضالّين عن سواء السبيل أيْ فاقِدين مُخْطِئين مُبْتَعِدين عن سواء السبيل أيْ وَسَط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما.. ومِن هؤلاء الذين ضَلّوا وأضَلّوا كثيراً علماؤكم وقادتكم يا أهل الكتاب فاحذروهم.. فإيّاكم أن تفعلوا مِثْلهم فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، وتَتّبِعوا شرورهم سواء أكانت هذه الشرور كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أيْ إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. هذا، واستخدام ألفاظ الضلال أكثر من مرة هو للتأكيد علي إصرارهم عليه وللتنفير من حالهم وللتحذير من اتّباعهم وإلا كانت التعاسة الحَتْمِيَّة في الداريْن
ومعني "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)" أيْ طَرَدَ الله تعالي وأبْعَدَ من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة الذين كفروا من اليهود أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفَعَلُوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.." أيْ لُعِنُوا في الكتاب الذي أنزله الله تعالي علي رسوله داوود (ص) ونَطَقَ به لسانه لهم ولغيرهم وهو الزَّبُوُر، وكذلك في الكتاب الذي أنزله علي رسوله عيسي (ص) ونطق به لسانه لهم ولغيرهم وهو الإنجيل، وأيضا قبلهما علي لسان رسوله موسي (ص) في التوارة، وكذلك علي لسان خاتم الرسل رسولنا الكريم محمد (ص) في آخر الكتب وهو القرآن العظيم، فقد لُعِنُوا بكلّ لسانٍ في كلّ كتابٍ وزمانٍ منذ التوراة لشِدَّة سوء أمثال هؤلاء الكافرين المُصِرِّين علي كفرهم حتي موتهم دون أن يُسْلِمُوا.. ".. ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)" أيْ ذلك اللّعْن لأمثالهم هو بسبب عِصْيانهم لله ورسله مِن كفرٍ وفِعْلٍ للمعاصي من كل الشرور والمَفاسد والأضرار وبسبب أنهم كانوا يعتدون علي حدوده وضوابطه وموانعه ويعتدون علي الأنبياء بعدم طاعتهم وبإيذائهم وحتي بقتل بعضهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم وعلي الصالحين الذين يَدْعُون لله وللإسلام مُحاوِلين مَنْعِهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وحتي بالقتل يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة وهم مُصِرُّون علي ذلك تمام الإصرار مُستمرّون مُنْغَمِسُون مُتَمَادُون فيه بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوعٍ لربهم ولإسلامهم
ومعني "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)" أيْ مِن مَظاهر عِصْيانهم وعُدْوانهم أنهم كانوا لا يَنْهَيَ أيْ يَمنع بعضهم بعضاً عن أيِّ مُنكر يفعلونه، والمنكر هو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتَعطيلهم لعقولهم.. أيْ ما أسوأ ما يقومون به من فِعْلٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم حيث تركوا أهَمّ ما يُسعد الناس ويَمنع تعاستهم فيهما وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحَسَنة فانتشر بينهم الشرّ وأضراره وتعاساته وقَلّ الخير ومنافعه وسعاداته (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
ومعني "تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القَبِيحة لمزيدٍ من التنفير منهم والابتعاد التامّ عن فِعْل أفعالهم.. أيْ تُشاهِد أيها الناظر المُتابِع كثيراً منهم يُحَالِفون الذين كفروا ويَتّخِذونهم أولياء أيْ أنصار وأعْوان يتعاونون فيما بينهم علي عَدَاء الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتَعطيلهم لعقولهم، وبَيَانٌ لسوء مَصيرهم بسبب مُوَالاتهم للكافرين ضِدّ المسلمين.. أيْ ما أسوأ ما قَدَّمَت لهم أنفسهم أيْ قَدَّمُوه لأنفسهم مِمَّا سيُلاقوا نتائجه من أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ قَبِيحَةٍ كالكفر والعصيان والعدوان وعدم التّنَاهِي عن المنكر وهذه المُوَالاة اسْتَحَقّوا بسببها أنْ سَخِطَ الله عليهم أيْ غَضِب – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كَرِهَهم كراهية شديدة لفِعْلِهم وانتقمَ منهم بعقابهم بما يُناسِب في الداريْن بأنْ أبْعَدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده فيهما، كما اسْتَحَقّوا كذلك بسببها العذاب المُؤْلِم المُهِين الذي لا يُوصَف في النار يوم القيامة والذي هم فيه خالدون أيْ ماكِثون مُستمرّون بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منه أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاته علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)" أيْ ولو كان أمثال هؤلاء المُسِيئين الذين سَبَقَ ذِكْرهم يُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم، ويؤمنون بالنبي محمد (ص) وما أُنْزِلَ وأُوحِيَ إليه منه تعالي وهو القرآن العظيم ويعملون بكل ما فيه، ما اتّخذوا الذين كفروا أبداً أنصاراً وأعواناً يتعاونون فيما بينهم علي عَدَاء الإسلام والمسلمين لأنَّ الإيمان يَمنع تماما ذلك فهما أمران مُتناقضان حتماً لا يجتمعان وتحريم هذه المُوالاة مُؤَكَّد في كل شَرْعٍ أنزله الله على أيِّ نَبِيٍّ من أنبيائه في أيِّ زمان ومكان.. ".. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)" أيْ ولكنَّ السبب في ذلك أنَّ كثيراً منهم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام قد اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للكفر أم ما شابه هذا.. هذا، ولفظ "كثيرا" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)"، "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)"، " وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)" أيْ بالتأكيد ستَجد وستَلْمس وستَرَي وستَعْلم واقعاً في معاملاتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنَّ أكثر الناس كراهية وإرادة للسوء للمؤمنين، اليهود والذين أشركوا مع الله غيره في العبادة كأنْ يعبدوا أيْ يُطيعوا مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو كوكباً أو غيره، ومَن يَتَشَبَّه بهم، لأنَّ أمثال هؤلاء قد أغلقوا وعطّلوا عقولهم تماما عن التفكير في الخير واتّباعه بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فاحذروهم تمام الحَذَر عند تعاملكم معهم.. مع مراعاة أنهم لو استفاقوا وأحسنوا استخدام عقولهم سيَتوبون ويَرْجعون إلي ربهم ويُسْلِمون ويكونون مع المسلمين في كلّ حبٍّ وخيرٍ وسعادةٍ كما يُثبت الواقع ذلك من بعضهم.. وبالتأكيد ستَجد وستَلمس وستَري وستَعلم واقعاً في معاملاتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في مُقابِل هؤلاء أنَّ أكثر الناس حُبّاً للمؤمنين، الذين قالوا إنّا نصاري أيْ نَصَروا المَسِيح عيسي ابن مريم (ص) واتّبعوا الإسلام الذي كان في الإنجيل قبل نزول القرآن الكريم، ويُطْلَق عليهم أيضا المَسِيحِيِّين نسبة للمسيح، والسبب في ذلك أنهم لم يُعَطّلوا عقولهم مثل اليهود والذين أشركوا لأنَّ منهم قِسِّيسين أيْ أصحاب علمٍ ورهباناً أيْ مُنْقَطِعين للذكر ولعمل الخير ونحوه، وأنهم لا يَتَعالون علي شرع الله ولا علي خَلْقه، فهم في الغالِب صالحون مُلتَزِمون يقومون بالأخلاق الحَسَنة التي أمرهم بها ربهم في دينهم الأصليّ قبل تحريفه من بعض المُسيئين منهم، ثم هم لم يَصِلْهم بَعْدُ الإسلام أو وَصَلَهم بصورةٍ مُشَوَّهَة مَنْقوصَة، ولو أحسنَ المسلمون عَرْضه عليهم ودعوتهم إليه بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ لأَسْلَمُوا، ومَن لم يُسْلِم منهم بعد ذلك فهو كافر حتما.. والآية الكريمة تُفِيد أنَّ التّواضُع والإقبال على العلم وعمل الخير أمور حَسَنة وإن كانت من كافر وسيَجزيه الله عليها بعدله خيراً بقَدْرها في دنياه فقط إنْ ظلّ كافراً لأنه لا يُؤْمِن بآخرة وستجعله أقرب لاتّباع الإسلام يوماً مَا فيَسعد لو أسْلَمَ حينها في دنياه وأخراه معا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ النصاري لو افتقدوا هذه الصفات الحسنة وتَشَبَّهوا باليهود والذين أشركوا ابْتَعَدُوا قطعاً عن مَوَدّتهم للمؤمنين واقتربوا لعداوتهم.. "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)" أيْ ومِمَّا يدلّ على قُرْب مَوَدَّتهم للمسلمين أنَّ بعضهم إذا استمعوا لِمَا أُوحِيَ إلي الرسول الكريم محمد (ص) وهو القرآن الكريم تُشاهِد أيها الناظِر إليهم المُتابِع لحالهم عيونهم تَسِيل منها الدموع بكثرةٍ من أجل ما عَرَفوه من الحقّ الذي عَرَّفه وبَيَّنَه لهم هذا القرآن بعد أن كانوا غافلين عنه وذلك مِن شِدَّة تأثّر مشاعرهم بداخل عقولهم وفرحهم الكبير به وبما تَعَرَّفوا عليه فيه وحبّهم الشديد له فيقولون دَاعِين ربنا صَدَّقنا بك وبرسولك الكريم محمد (ص) وبذلك القرآن العظيم وأسْلَمْنا وسنَعمل بكل أخلاق الإسلام التي فيه فاكْتُبْنا مع الشاهدين أيْ فاجْعَلْنا برحمتك وكرمك وفضلك مع المسلمين الذين شَهِدوا بأنك الحقّ وعَبَدُوك وحدك وبصِدْق رسلهم وأطاعوهم وعملوا بإسلامهم في كل زمنٍ وآخرهم أمة محمد (ص) والذين كانوا شهداء علي الناس حولهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة يكونوا شهداء عليهم يشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم والذين لا يشهدون إلا بالحقّ والعدل التامّ لارتباطهم بك وبإسلامهم، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لنا في دنيانا وأخرانا.. "وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)" أيْ ولماذا لا نُصَدِّق بالله تعالي وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وأيّ شيءٍ يَمنعنا من الإيمان به وبما وَصَلَ إلينا من الصدق في القرآن العظيم مع رسوله الصادق الأمين والذي يُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا ونحن نرجو ونأمل ونحرص حِرْصَاً شديداً ونرغب رَغْبَة كبيرة أن يجعلنا ربنا بسبب ذلك إذا فعلناه مع القوم الصالحين الذين صَلحت كل أفكارهم وأخلاقهم وأحوالهم بالإسلام الذين هم يحيون أسعد حياة دنيوية ثم أتمّ سعادة أخروية في نَعيمٍ لا يُوصَف بجناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر؟! والاستفهام للاسْتِنْكار وللاسْتِبْعاد وللتّعَجُّب، أيْ كيف لا نؤمن وأيّ عائقٍ يَعوقنا وسبب الإيمان وأثره العظيم العاجِل والآجل واضح لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! أليس ذلك دافِعَاً قوياً لكلّ أحدٍ للإسراع للاستجابة للإيمان وعدم التّأخّر عنه؟!
ومعني "فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لأمثال هؤلاء المؤمنين الصادقين بسبب ما قالوا وفي مُقابِل صفاتهم وأفعالهم وأقوالهم الطيّبة هذه أنْ جزاهم وأعطاهم وكافأهم الله في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)" أيْ وذلك كله الذي يُعطيهم الله تعالي إيَّاه هو حتماً ودائماً والمُتَوَقّع أجر وعطاء ومكافأة كلّ مُحْسِنٍ مِثْلهم أيْ مُتْقِنٍ مُجِيدٍ مُخْلِصٍ في كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله حيث هو متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. إنهم سيُعطون قطعا من فضل ربهم من الخير التامّ ما يُسعدهم سعادة تامّة في دنياهم وأخراهم، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل، أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم ما أحَلَّه الله تعالي لخَلْقه، فهو سبحانه أحَلَّ لهم كل طَيِّب، وقد بَيَّنَه لهم، أنه كل نافع غير ضارّ، مُفيد مُسْعِد، لينعموا وليسعدوا به، وهو أعلم بخَلْقه وما يُصلحهم ويُسعدهم وما يَضرّهم ويُتعسهم، فكيف يَتَجَرَّأ أحدٌ عليه ويُحَرِّم ما أحَلَّه؟! وهو الذي يقول أيضا "قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.." (الأعراف:32) (برجاء مراجعة تفسير الآية الكريمة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)"، " وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تمنعوا أنفسكم وغيركم من طيباتِ ما سَمَحَ الله لكم ولهم به مِن مأكولاتٍ ومشروباتٍ وملبوساتٍ وزواجٍ وإنجابٍ وعملٍ وعلمٍ وربحٍ ونحو ذلك من مُتَع الدنيا الحلال التي لا تُحْصَيَ، إلا إذا كان المَنْع لشيءٍ مَا بسببٍ فرديٍّ كمرضٍ أو غيره لكنه ليس بتحريمٍ من الله ثم يعود السماح بعد انتهائه، والطيّبات هي النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي خَلَقها في أرضه ورزقها خَلْقه والتي أحَلّها لهم لنفعها ولإسعادها والتي لم يَحْصُلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة.. ".. وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)" أيْ ولا تَعتدوا أبداً بتحريم ما حَلّل الله، أو تحليل ما حَرَّمه، بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء، سواء أكان مثلاً عن طريق مُخَالَفَةِ خُلُقٍ أو قانونٍ من قوانين الإسلام أو عن طريق الإسراف أيْ المُبَالَغَة بتحريم شيءٍ غير مُحَرَّمٍ أو حتي التّعَامُل مع شيءٍ حلالٍ لكنْ بإسرافٍ يُؤَدّي لضَرَرٍ مَا للنفس أو للغير أو عن طريق التقصير بواجبٍ مَا أو عن طريق العدوان على حقوق الآخرين أو ما شابه هذا، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ما قام به من اعتداء.. "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)" أيْ وكلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)" أيْ واتقوا الله دائماً ما دُمْتُم مؤمنين به لأنَّ إيمانكم يُوجِب عليكم تَقْواه لأنَّ الإيمان لا يَتِمّ إلاّ بذلك، أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحفظون أيْمانهم فلا يُقْسِمون بالله إلا عند الاحتياج للقَسَم حتي لا يَصِل الأمر إلي الاستهانة بهذا القَسَم من كثرة استخدامه دون مُبَرِّرٍ أو احتياج، ثم الأصل أنك مُصَدَّق دون قَسَمٍ فكثرته قد تَدْفع للتّشَكُّك فيما تقول فتنتشر الشكوك والظنون السيئة بين الناس فيتعسون
هذا، ومعني "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)" أيْ لا يُحاسبكم ويُعاقبكم الله ولا يُلْزِمكم بكفّارة يَمينٍ بسبب أيْمانكم اللّاغِيَة أيْ التي لا تَقصدونها أنها أيْمان والتي قد يَعتاد بعضكم عليها أثناء كلامه كقوله مثلا "لا والله" أو قَسَمه على شيءٍ يعتقد حصوله وهو لم يَحصل ونحو هذا.. ".. وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.." أيْ ولكن يُعاقِبكم فى الدنيا والآخرة بسبب عدم الوفاء بما قَصَدْتم ووَثَّقْتُم من الأَيْمان.. ".. فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.." أيْ فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يَمْحوه الله بما تقدِّمونه مِمَّا شَرَعَه لكم كَفّارة من إطعامِ عشرةِ فقراء من مُتَوَسِّط ما تُطْعِمون منه أهلكم مِمَّا جَرَت العادة بأنْ تأكلوه أنتم وأقاربكم في الجَوْدَة والمِقْدار من غير إسرافٍ ولا تَقْتِيرٍ فلا هو من الأعلي ولا من الأقلّ، أو بأنْ تَكْسُوا عشرة من الفقراء كِسْوَة مُعْتَادَة، أو بأنْ تُحَرِّروا إنساناً من العبودية إنْ كنتم في زمنٍ فيه عبيد، واختاروا من هذه الأمور ما يَتَيَسَّر لكم، فإذا لم يَتَمَكَّن الحَالِف من أحدِ هذه الأمور فعليه أن يصوم ثلاثة أيامٍ تطهيراً لنفسه وتكفيراً لذنبه وتقوية لإرادة عقله ليُعينه ذلك علي حُسْن التّعامُل مع الأَيْمان مُسْتَقْبَلَاً.. ".. ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ.." أيْ ذلك المَذْكور من الإطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم والذي شَرَعْناه لكم ووَصَّيْناكم به هو كفّارة لأيْمانكم إذا حَلَفْتم ولم تَفُوا باليمين فهو مُكَفّرٌ لهذا الذنب فلا تُعَاقَبُون عليه من الله في مُقابله بما يُناسبه في الداريْن.. ".. وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ.." أيْ وصُونُوا أيْمَانكم أيها المسلمون بتَجَنّب الحَلف أو بالوفاء إنْ حَلَفْتم أو بالكَفّارة إنْ لم تَفُوا بها وبالجملة لا تُكثروا منها فتكونوا أكثر احتمالا لعدم الوفاء بها فتأثموا فتجب عليكم الكفّارة لذلك.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ.." أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم آياته في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ تماما الخمر والمُخَدِّرَات وما شابهها، والقِمَار وما شابهه، فكلها أمور تؤدي إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّراجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي إلي كل ما هو كئيب تعيس في الدنيا والآخرة.. وما قد يحدث منها من بعض النفع فهو أمر وَهْمِيّ مُؤَقّت مَغشوش قليل أو نادر، كالشعور مثلا ببعض النشوة أو كسب بعض مالٍ أو نحو ذلك، يَتْبَعه سريعا مرارات وتعاسات يُثْبِتها الواقع كثيرا.. فإيّاك إياك أن تقربها لتسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – ليس تَعَاطِي الخمر وما يشبهها كالمُخَدِّرات ونحوها شُرْبَاً وأكلاً وبيعاً وشراءً وتصنيعاً ونحوه، وليس القِمَار وهو كلّ لَعِبٍ فيه مُرَاهَنَة أيْ يشترط أن يأخذ الغالِب من المَغْلُوب شيئًا من المال سواء أكان بالوَرَق أم بغيره من الألعاب وهو عموما كل ما يَتَخَاطَر فيه الناس من مُعَامَلَة فيها خطر الكسب المُطْلَق أو الخسارة المُطْلَقَة، ويُسَمَّيَ المَيْسِر من التيسير لأنَّ المال يَصِل للكاسِب له بكلّ يُسْرٍ دون أيّ جهدٍ حقيقيٍّ نافع، وليس الأنصاب وهي ما يُنْصَب ويُقام تَقَرُّبا لغير الله تعالي من حجرٍ أو صَنَمٍ أو غيره ويذبح عليه الذبائح وكل ما يُنْصَب ليُعْبَد، وليس الأزلام وهي السِّهَام والحَصَىَ والورق ونحو هذا مِمَّا يتّخذه الدَّجَّالون كأنهم يتعرّفون به علي الغَيْب المستقبليّ من خيرٍ أو شرٍّ من خلال بعض الشعْوَذات أو الخُرَافات التي يفعلونها (لمعرفة المزيد عن الأزلام برجاء مراجعة الآية (3) من سورة المائدة ".. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ..")، ليس كل ذلك وما يُشبهه إلا رِجْساً أيْ أمراً مُسْتَقْذَراً أيْ شرّاً وفسادً وضَرَراً يَتْبَعه تعاسات في الدنيا والآخرة يَرْفضه كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، لأنه من عمل الشيطان الذي هو أشدّ أعداء الإنسان أيْ مِن تَزْيينه وتَحْسِينه لفاعله، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. فَاجْتَنِبُوه.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم فبالتالي إذَن اتركوا هذا الرجس وابتعدوا وامتنعوا عنه تماماً ولا تقربوه أبداً ولا تقربوا مطلقاً أيّ سببٍ يُؤَدّي إليه لضمان الأمن من الوقوع فيه.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)" أيْ لعلكم بذلك الاجتناب تفلحون أي تكونون من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتَجَنّبِين لكلّ رِجْسٍ العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)" أيْ لا يريد ولا يَهْدِف الشيطان بذلك إلاّ أن يُوجِدَ بينكم أسباب العَداء والكُرْه بسبب شرب الخمر ولعب المَيْسر وغيره من الرجس، وأن يمنعكم عن ذكر الله بكل صوره والتي منها الصلاة بأهميتها الكبيرة وآثارها العظيمة المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وذلك لأنَّ تَعَاطِي الخمور والمُخَدِّرَات وما شابهها، ولعب القِمَار وما شابهه، وفِعْل الشرور عموما، كلها أمور تؤدي إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّراجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي إلي كل ما هو كئيب تعيس في الدنيا والآخرة.. ".. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)" أيْ فهل أنتم مُمْتَنِعون؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد كلّ هذا التوضيح لكلّ هذه الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات هل أنتم ممتنعون عنها أم لا؟! امْتَنِعُوا، فلا يملك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول انتهينا يا رب ويكون امتناعه تامّاً سريعاً وعن تمام اقتناعٍ فيَحْدُث التمسّك بهذا الامتناع والحرص عليه والاستمرار فيه بلا أيّ تراجُعٍ عنه فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما
ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضرورة الانتهاء.. أيْ واستجيبوا ونَفّذوا ما وَصَّاكم به الله واستجيبوا ونفذوا ما وصاكم به الرسول (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، واحذروا أيْ وكونوا دائما حَذِرين أشدّ الحَذَر أيْ مُتَيَقّظِين مُنْتَبِهين تماما لعدم الطاعة ومُخَالَفَة أخلاق الإسلام حتي لا تتسعوا فيهما.. ".. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)" أيْ فإن استجبتم فلكم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّيتم أيْ أعطيتم ظهوركم لله ولرسولكم الكريم (ص) والْتَفَتم وانْصَرَفتم وابْتَعَدُتم عنها وعن الإسلام وتَرَكتم أخلاقه وأهملتموها وفعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلموا أيْ فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنه ليس علي رسولنا إلا البلاغ المبين أيْ ليس مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُخالفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)" أيْ ليس علي الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُذَكّرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – جناحٌ أيْ إثمٌ وضيقٌ وتَحَرُّجٌ وعقوبة في الداريْن فيما سَبقَ أنْ طَعِمُوه أو شَرِبُوه أو فَعَلوه من المُحَرَّمات قبل عِلْمهم بتحريمها، إذا خافوا الله وابتعدوا عنها بعد علمهم بتحريمها – أو حتي فَعَلوها بعد هذا العلم وتابوا منها – ثم استمرّوا على خوفهم من الله وتصديقهم بما شَرَعَه لهم من أحكامٍ في الإسلام، ثم واظَبُوا واستمرّوا على خوفهم من الله في كل حالٍ وأحسنوا أيْ وكانوا دَوْمَاً من المُحسنين أيْ الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام، فإنَّ الله حتماً يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المَأْكَل والمَشْرَب مهما كان إذا اتقَوْا أن يكون في ذلك شيءٌ من المُحَرَّمات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادةٍ قويةٍ لا تَنْكَسِر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال، في كل شئون حياتك، صغرت أم كبرت، الاقتصادية والعلمية والعملية والاجتماعية والسياسية وغيرها، والتي منها الحج والعمرة (برجاء لمعرفة كل فوائدهما وسعاداتهما غير تقوية الإرادة مراجعة الآيات (196) حتي (203) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولقد نَبَّهنا تعالي لاختباراته لنا، قبل وقوعها، لنستعدّ لها عقليا وجسديا، من رحمته وحبه لخَلْقه ليَرْقوا ويَكملوا وتَقْوَيَ إرادة عقولهم، فإذا ما عادوا لحياتهم الطبيعية بعد الاختبار انطلقوا قطعاً فيها بهذه الإرادة القوية بكل قوة يستكشفونها فيسعدوا فيها بكل خيراتها ثم في آخرتهم، فهي اختبارات سَهْلَة مَيْسُورَة مَقْدُور عليها لها حتماً نتائجها السعيدة في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – سيَختبركم الله في فترةِ إحرامكم وأنتم في الحجّ أو العمرة أو داخل منطقة الحَرَم بتحريم بعضٍ من الحيوان والطيور يَسهل عليكم اصطياده بأيديكم ورماحكم – وذلك لتعظيم شأن الحَرَم والإحرام وأن يكون الكلّ آمِنَاً حتي الحيوانات والطيور – ليظهر الذين يراقبونه ويخافونه منكم في غيبة من أعين الناس.. إنه تعالي بصورةٍ عامّةٍ وبالتأكيد يختبر المسلمين بين الحين والحين باختبارٍ ما بما يُناسب كلاًّ منهم، فهذه هي طريقته مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيهم آدم، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، وهو يُنَبّههم لها قبلها الآن حتي يُحسنوا الاستعداد لها فيَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياهم وأخراهم.. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لهم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – أعمالهم وأقوالهم وأحداثهم وتصرّفاتهم كلها فيَتَبَيَّنَ لهم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته في الداريْن)، فيَتَبَيَّنَ بذلك لهم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب ليَسعد حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون لأيّ أحدٍ حُجَّة أو جدال حينما يَنال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد!.. وهذا هو معني ".. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ.."، ومعني بالغَيْب أيْ وهم غائبون عن الناس لا يَراهم أحد (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) كما أنهم مُصَدِّقون تماما بكلّ ما غابَ عنهم من ماضٍ ومستقبلٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والحساب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)" أيْ فمَنْ تَعَدَّىَ وتَجَاوَز وخَالَف منكم حدود الله والتي عليه ألاّ يَتَخَطّاها بعد ذلك البيان والتوضيح والإعلام بالتحريم أثناء فترة الإحرام وقام بالصيد، فله عذاب مُؤْلِم مُوجِع في دنياه بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراه سيكون له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. وذلك لأنَّ التّعَدِّي بعد الإنذار، دليل على عدم المُبَالَاة بأوامر الله وعقاباته ومَن لم يُبَالِ بها ساءت حتماً حياته في الداريْن
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من التحريم أثناء الإحرام مع بيان كفّارة ذنب مَن فَعَلَ ذلك.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تَصْطادوا صَيْدَ البَرّ وأنتم مُحْرِمُون بحجٍّ أو عُمرةٍ أو كنتم داخل منطقة الحَرَم حتي وأنتم غير مُحْرِمين، تعظيماً للحرم وللإحرام وتأمينا للناس وحتي للحيوانات وللطيور، ومَن قتل منكم أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ قاصداً متعمدًا – أمّا مَن صَادَ مُخْطِئاً جاهلاً بالمَنْع فلا شيء عليه – فجزاء ذلك أن يذبح مِثْل هذا الصيد الذي اصطاده مِمَّا يُماثِله ويُقارِبه ويُشْبهه في الحجم والمَنْظَر أو في القيمة من الأنعام كالإبل أو البقر أو الغنم، بعد أن يُقَدِّر قيمة ما صاده اثنان عادلان خبيران، وأن يجعله هَدْيَاً أيْ مِمَّا يُهْدَي ويَبْلغ أيْ يَصِل لفقراء الكعبة، أو أن يشتري بقيمة مثله طعاماً يهديه لهم والذين يُحَدِّد عَدَدهم أيضا الخبيران ويقوم بتقسيمه بينهم، أو يصوم أياماً تُعادِل ذلك العَدَد من الفقراء الذين كانوا يستحِقّون الطعام لو أخرجه.. ".. لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ.." أيْ وقد شَرَعَ الله ذلك ليَتَذَوَّقَ ويَتَجَرَّعَ ويحِسّ ويَستشعر المُخَالِف وَبَالَ أمره أيْ شدّة حاله السَّيِّء وسوء نتائج فِعْله وآلامه ومراراته وعذاباته وتعاساته إذ خَالَفَ ما نَهَيَ الله عنه ليُدْرِكَ عَمَلِيَّاً هذا وليَعلم تماماً أنَّ أيَّ مُخَالَفَةٍ لأيِّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام تؤدى إلى خسارةٍ وتعاسةٍ بمقدارها في الدنيا والآخرة.. ".. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.." أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مَظاهِر رحمته تعالي.. أيْ عَفَا وسَامَح الله ولم يُعاقِب عَمَّا سَبَقَ لكم من المُخَالَفَة قبل عِلْمكم بتحريمها.. ".. وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)" أيْ ومَن رَجَع إلى المُخَالَفَة مُتَعَمِّداً بعد علمه بالتحريم، فإنه مُعَرَّضٌ لانتقام الله منه حيث يُعاقِبه بما يُناسب فِعْله بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه وأخراه، لأنَّ الله المُتَّصِف بكلّ صفاتِ الكمال بكل تأكيدٍ عزيزٌ صاحبُ انتقامٍ من كلّ مُخَالِفٍ أيْ غالِب لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ ويَنتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم.. فلْيَحذر إذن مثل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان
ومعني "أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)" أيْ سَمَحَ الله لكم أيها المسلمون في حال إحرامكم صيد البحر وهو ما يُصاد منه حَيَّاً، وطعامه وهو المَيِّت منه والذي يَقْذِفه، ليكون متاعاً لكم أيْ انتفاعا وسعادة إنْ كنتم مُقِيمين وكذلك للسَّيَّارَة منكم أيْ للذين يَسيرون مُسافرين، وحَرَّمَ عليكم صيد البَرِّ ما دُمْتم مُحْرِمِين بحجٍّ أو عُمْرة، وهذا مزيدٌ من التأكيد والبيان أنَّ التحريم الذي ذكر في الآيتين السابقيتن هو مُخْتَصّ بصيد البَرِّ فقط أثناء الإحرام وفي منطقة الحَرَم، وذلك لأنَّ صيد البحر لا يَنْتَهِك ولا يَخْدِش حُرْمتها وعظمتها وأمنها لأنها ليس بها بحار أو أنهار فهي بعيدة عنها كما أنَّ المُحْرِم قد يُحْرِم في منطقةٍ قد تكون فيها بحار وأنهار فيكون تحريم صيد البحر والنهر إجهاداً وحَرَجَاً وضيقاً عليه من غير فائدة تعود على المُقيمين حول البيت الحرام.. إنَّ ذلك يَتَطَلّب منكم حتماً شكره تعالي علي نِعَمه هذه وغيرها التي لا تُحْصَيَ ليَحفظها لكم ويزيدكم منها.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها تَجَنُّب صيد البَرِّ أثناء الإحرام، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)" أيْ واستعينوا على تَقْواه بعِلْمكم وتَذَكّركم دَوْمَاً أنه هو الذي إليه وحده لا إلي غيره تُحشرون أيْ تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليُحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتَّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رمزاً يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا.. فهذا هو أصل وحدة الناس وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم.. وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)" أيْ من رحمة الله تعالي بالناس وكرمه وفضله عليهم أنْ جَعَلَ الكعبة المُشَرَّفَة وهي البيت الذي عَظّمه وحَرَّم الاعتداء فيه وفيما حوله علي الإنسان والحيوان والطير قياماً للناس أيْ مِمَّا تقوم به وعليه حياتهم أيْ صلاحها ومِن أُسُسِها وبدونها تَفْسَد هذه الحياة وتَتْعَس، لأنه أصل وحدتهم وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم، وهو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (196) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات وجود الكعبة والحجّ والعمرة لها).. ".. وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ.." أيْ وكذلك جعل الله الأشْهُر الحُرُم قياماً للناس، فهي مِمَّا تقوم به الحياة، لأنه تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة المُنْهِكَة المُهْلِكَة لهم، والأشهر الحُرُم أربعة، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، وسُمِّيّت بذلك لتحريم القتال فيها لحفظ الحياة.. ".. وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ.." أيْ وأيضا جعل الهَدْي وهو ما يُهْدَيَ للمُحتاجين كغنمٍ أو بقرٍ أو نحوه والقلائد والتي هي نوع من الهَدْي تُوضَع له قِلادَات في أعناقه لمزيدٍ من تمييزه وتشريفه وتعليمه بأنه مَخْصُوص بالحَرَم، جعلها قياماً للناس لأنها تُذَكّرهم بفِعْل الخير والتعاون والتّحابّ والتّآخِي فيَنتشر كل ذلك بينهم وتُتَبَادَل المَنافع فيسعدون في الداريْن.. ".. ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)" أيْ ذلك الذي جَعَله الله تعالي مِمَّا سَبَقَ ذكره، وغيره مِمَّا شَرَعه لكم في الإسلام، هو بعض أدِلّة وأمثلة لكي تعلموا بها أيْ تَعرفوا وتتأكّدوا تماما لو تَفَكّرتم وتَدَبَّرتم وتَعَمَّقتم فيها أنَّ الله خالقكم وخالق الكوْن كله يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده علم أكثر منه كل ما في السماوات وما في الأرض، وأنه بكل شيءٍ عليم عن خَلْقه وكَوْنه – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال علمه وقُدْرته وحكمته ورحمته – وبالتالي يعلم كل ما يقوم بمصالحكم ويُكْمِلكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وبالتالي إذَن فاعبدوه أي أطيعوه وحده واتّبِعوا الإسلام الذي جَعَله لكم نظاماً لحياتكم لا غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء، بين خوف عذاب الله وعقابه وغضبه وعدم توفيقه في الدنيا ثم ما هو أعظم في الآخرة، وبين رَجَاء أيْ طَلَب وتَمَنّي وتَأَمُّل حبّه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه ونصره ورحمته وإسعاده فيهما، فهذا سيَدْفعك حتماً ويَدْفع كل عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنْ تمسّكتَ وعملتَ بها كلها، غَلَبَ الرجاء عندك علي الخوف كثيرا، وعِشْتَ حياتك كلها مُسْتَبْشِرَاً آمِنَاً مُطمئناً مُستقرّاً سعيداً في دنياك مُنْتَظِرَاً أعظم سعادة وأتمّها وأخلدها في أخراك.. إلاّ إذا فعلتَ شَرَّاً مَا – علي سبيل الاستثناء – فغَلّب الخوف حينها كثيراً علي الرجاء ليَدْفَعك للتوبة لتُنْقِذَ ذاتك سريعاً مِمَّا وَقَعْتَ فيه وذُقْته من مَرارات وتعاسات هذا الشرّ لتعود مُسْرِعَاً للسعادة التامَّة التي كنتَ فيها قبل فِعْله بلا أيِّ شوائب، وليَغْلِب رجاؤك المُمْتِع المُريح المُسْعِد مرة أخري علي خوفك، وسيساعدك ربك قطعاً عندما تُضيف لهذا الخوف الإيجابيّ المُفِيد رجاء رحمته التي وَسِعَت كلّ شيءٍ والتي دائما تَسْبِق غضبه.. بهذا تَحْيَا مُتَوَازِنَاً وباعتدالٍ بين الخوف والرجاء بلا إفراطٍ أو تفريطٍ في أحدهما علي الآخر.. علي حسب حالك.. فالأصل الرجاء الدائم.. ثم الخوف عند الاحتياج، لدَفْع الشرّ، مع أن تُضيف له الرجاء الواسع في رحمة الله الواسعة.. ثم العودة للأصل.. للرجاء.. وهكذا.. مع مقاومتك لكل شرّ وتقليله تدريجيا حتي ينعدم عندك تقريبا.. فتكون كل أو معظم حياتك رجاءً.. وخوفك قليلا!.. فتَسعد في الداريْن
هذا، ومعني "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)" أيْ اعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أيها الناس أنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)" أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما كذلك في ذات الوقت وفي المُقابِل أنَّ الله حتماً غفورٌ أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة ما كُتِبَ تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ مُتّقِيَاً لله في السِّرِّ والعَلَن، بمفردك ومع الآخرين، فيما تُظْهِره وما تُخْفِيه، فهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
هذا، ومعني "مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)" أيْ ليس علي الرسول إلا البلاغ، أيْ ليس مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُخالفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)" أيْ والله حتماً يعلم بتمام العلم كل ما تُظهرونه أيها الناس في العَلَن من أقوالكم وأفعالكم وكل ما تُخفونه منها في السِّرِّ وبداخلكم؟.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُسَاوِ أبداً بين الخبيث والطيِّب في كل شيءٍ في حياتك، حيث الخبيث هو كل مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن والطيِّب هو كل مُفيد مُسْعِد فيهما، ولا مُقَارَنَة حتماً بينهما!
هذا، ومعني "قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُحَذّرِاً من أيِّ شَرٍّ مُحَبِّبَاً في أيِّ خير، لا يُمْكِن أبداً أنْ يَتَسَاوَيَ عند الله والإسلام بل وعند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ الخبيث وهو السَّيِّء الرَّدِيء الدَّنِيء الخَسِيس المُنْحَطّ الكَرِيه الفاسِد والطيِّب وهو الحَسَن القَيِّم العزيز الفَخْم السَّامِي الكريم الصالح!! إنه لا مُقارَنَة حتماً بينهما فالأمر مستحيل إذ الفرق شاسِع!! وكيف يُقَارَنَا وأحدهما يُؤَدِّي قطعاً إلي كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة والآخر يؤدي بالقطع إلي كل خير وسعادة فيهما!! وذلك في كل شئون الحياة المختلفة، فلا يُمكن مُطلقاً أنْ يتساوَيَ الإيمان والكفر، والإسلام واللّاإسلام، والأخلاق واللّاأخلاق، والحُسْن والسوء، والعلم والجهل، والخير والشرّ، والنفع والضرر، والحلال والحرام، والصلاح والفساد، والجَوْدَة والرَّدَاءَة، والسعادة والتعاسة!!.. ".. وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.." أي حتي ولو كَثُر الخبيث وصارَ مَصْدَرَ تَعَجُّبٍ لك أيها المسلم كيف يَكْثُر وهو خبيث وحتي لو أبْهَرَ وأثارَ عقول ولَفَتَ أنظار بعض الناس لانتشاره بين بعضهم في بعض الأوقات والأزمنة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، فهما أيضا لا يَسْتَوِيَانِ بالقطع، فإنَّ الخبيث من الأقوال والأفعال يظلّ خبيثاً مهما كَثُرَ وانتشر ولا يُمكن مُطلقا أن ينقلب خيراً بكثرته وانتشاره، وما هو طيِّب يظلّ طيِّباً مهما قَلّ ولا يُمكن أبداً أن يَتَحَوَّل خبيثاً بسبب قِلّته، عند كل صالحٍ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، والعِبْرَة دائما عند الحكم علي الأشياء تكون بالجَوْدَة والرَّدَاءَة لا بالقِلّة والكَثْرة فإنَّ الجَيِّد القليل خير في نتائجه قطعاً من الرَّدِيء الكثير، وعند اختيار بضاعةٍ مَا يَختار العقل السليم دائما الجيد لا الرديء، فلا تخدعكم أبداً كثرة الخبيث عن الانتباه والتأمّل والتّعَمُّق في خُبْثِه فتَتّبِعوه ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها وليس فقط بأشكالها ومبانيها، والخبيث لا ينفع صاحبه شيئاً بل يَضُرّه كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا وسيُتعسه حتماً علي قًدْر خُبْثِه في دنياه وأخراه، وعلي العاقل ألاّ يَنْخَدِعَ به مُطلقاً ولا يُؤَثّر في عقله ومَشاعره كثرته وانتشاره فإنه مهما كثر وظَهَر وانتشر فإنه سَيّء تَعيس النتائج سعادته وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيراً مَا يَتْبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا، وعلي العاقل أن يختار دوْمَاً الطيِّب ويكون علي الدوام مع أهله مهما كانوا قليلين أحيانا لأنَّ نتائجه مضمونة عميقة مستمرّة السعادة من الله في الدنيا – ثم الآخرة – كما يُرَيَ ذلك واقعيا علي أهل الطيِّب والصلاح، والذين عليهم أن ينشروا خَيْرهم الذي هو كل أخلاق الإسلام بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة حتي يكون هو الأكثر والأغلب والأعَمّ وحتي يَنْزَوِي الشرّ ويزول وينعدم تدريجيا، ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، ولهم أجرهم العظيم علي ذلك فيهما.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن يا أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة – والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها – وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتمسّكين العامِلين بخُلُق حُسْن السؤال وأدبه، فلا تسأل سؤالاً لا يُؤَدِّي إلي خيرٍ من وراء سؤاله
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تسألوا عن أمورٍ لا فائدة ولا نفع ولا خير لكم في السؤال والبحث والتفتيش عنها، لأنها إنْ ظَهَرَت لكم تلك الأمور ربما ساءتكم أيْ أحْزَنتكم وضايَقْتكم وأضَرَّتكم ووَضَعْتكم في حَرَجٍ وضيقٍ وأشْقَت حياتكم وأتعستكم ومَن حولكم.. وأيّ عاقلٍ لا يَفعل حتماً مَا يُسِيء إليه ويُتْعِسه مِن سؤالٍ أو قولٍ أو فِعْلٍ.. هذا، ومن أخلاق الإسلام التي علي المسلم مُرَاعاتها عند السؤال عن شيءٍ مَا في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة ألاّ يُؤَدِّي إلي ضَرَرٍ بالذات أو الغير، أو إتعاسهم، أو كشف أسرارهم والأمانات عندهم، أو استفزازهم لإيقاعهم في الخطأ، أو إحراج الذي يُسْأَل أو إفشاله أو للسخرية منه أو للتعالِي والافتخار عليه أو للتّبَاهِي بالعلم ضِدّه وتحقير علمه أو لمجرّد الجدال والإصرار علي الباطل، أو ما شابه هذا مِمَّا ينشر الغَمّ والكآبة والتعاسة، وقد يَنشر النفاق والكفر والفساد، وقد ينشر المُغَالاة والتّشَدُّد بزيادة ما ليس في الإسلام، وبالجملة لا يَسأل السائل حين يَسأل إلاّ ونواياه بداخل عقله لا تكون إلا في كل خيرٍ ومن أجل كل خيرٍ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ في كل مجال من مجالات الحياة المختلفة، من أجل السعادة في الداريْن.... ".. وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ.." أيْ وإنْ تسألوا عن أمورٍ لا تفهمونها حين يُنَزَّل عليكم القرآن أيْ وأنتم تقرأونه بعد أنْ نَزَلَ بها تُظْهَر وتُوَضَّح وتُبَيَّن لكم من أهل التّخَصُّص إذا سألتموهم عنها.. والمقصود أنه لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ كلّ الأسئلة ممنوعة حيث قد نَهَيَ تعالي في أول الآية عن أن تسألوا عن أشياء إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكُم وإنما أيّ سؤالٍ لا يُسيء بل يُحَقّق خيراً مَا سواء أكان السؤال في القرآن أو غيره أو أيّ شأنٍ من شئون الحياة لا يمنعه الإسلام قطعاً بل يَطْلبه ويُشَجِّع عليه لنفعه ولإسعاده للجميع في دنياهم وأخراهم كما وَصَّيَ سبحانه بقوله ".. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل:43).. ".. عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)" أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مَظاهِر رحمته تعالي.. أيْ عَفَا وسَامَح الله ولم يُعاقِب عَمَّا سَبَقَ لكم من أسئلة مُسِيئة سألتموها قد تُبْتُم منها فلا تعودوا لمِثْلها لتسعدوا ولا تتعسوا في الدارين، لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الحليم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين مِن سوءِ نتائج مَن لا يعمل بأخلاق الإسلام، ومِن التّشَبُّه أبداً بهم، وإلاّ حَدَثَت التعاسة حتماً في الداريْن.. أيْ قد سَأَلَ أناسٌ مِن قبلكم سابقين لكم أيها المسلمون أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يُتَوَقّع ويُنْتَظَر ويُطْلَب مِن وراء سؤالها، ثم أصبحوا بعد إظهار ضَرَرها كافرين بها أيْ مُكَذّبين بالنصائح والوصايا التي أُخْبِرُوا ونُصِحُوا بها في الإسلام والتي تَنْصحهم بعدم فِعْلها، أيْ أصبحوا كافرين بسببها لأنهم لم يَستجيبوا لها ويعملوا بها بل تركوها ورفضوها هي وغيرها تكذيباً لها وعدم تصديقٍ بنفعها وإسعادها للناس وتَعَالِيَاً عليها وعَمَلاً بغيرها من الأخلاق مِمَّا يَضُرّ ويُتْعِس في الدنيا والآخرة
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم شيئاً أحَلّه الله تعالي، وإلا قد كذبت عليه كذباً شديداً، وكنتَ من الذين عَطّلوا عقولهم وأساءوا استخدامها حيث قد أضَرُّوا بذواتهم وبالآخرين وأتعسوا الجميع في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الأصل في كل الأشياء أنها حلال، أيْ لمَنْفَعَة بني آدم وإسعادهم، إلا القليل الذي حَرَّمه سبحانه لضَرَره (برجاء مراجعة الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)" أيْ هذا بيانٌ لمَثَلٍ مِن أمثلة ما يُحاول فِعْله بعض المُكَذّبين المُعَانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين المُرَاوِغِين الذين لا يَتّبِعُون الإسلام مِن تشريعِ تشريعاتٍ غيره مُخَالِفَةٍ له لم يُشَرِّعها الله تعالي وهي سَفِيهة بلا أيِّ دليلٍ علي صِحَّتها وفائدتها ولا يُمكن مُطلقاً لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يَقبلها وهي مُضِرَّة مُتْعِسَة للناس وهم يَدْعونهم إليها أو يُجْبرونهم أحيانا علي اتّباعها وأحيانا يَدَّعون أنَّ الله هو الذي شَرَعها لخِداعهم ليستجيب لهم منهم مَن يريد بفطرته اتّباع شرع الله مُحاوِلِين يائِسين مَنْعهم من اتّباع الإسلام ليَتَمَكّنوا بذلك من اسْتِعْبادهم ونَهْب ثرواتهم وخيراتهم حيث الإسلام هو الذي يجعلهم يحافظون عليها، فيُبَيِّن الله للمسلمين بعضها لكي يحذروها وأمثالها ويُقاوموها ويَقوموا بتصحيحها بحُسْن دعوتهم للآخرين للإسلام بكلّ قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة ولكي يتمسّكوا ويعملوا بنظام إسلامهم وحده لا بغيره مِمَّا يُخَالِفه لأنه يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لأنه مِن خالقهم الذي يعلم تماما مصلحة خَلْقه ولكي لا يَتَشَبّهوا بهم بالقطع فيفعلوا مثل أفعالهم فيتعسوا قطعاً فيهما.. أيْ مَا جَعَلَ الله في شَرْعه الإسلام أبداً تحريم هذه الدوابّ التي حَرَّمَ هؤلاء المُكَذّبون علي الناس أكلها أو استخدامها، بل هم الذين حَرَّموها مِن تلقاء أنفسهم لتقديسها ولعبادتها أو لذبحها وتقديمها تَقَرُّبَاً لأصنامهم وللآلهة التي يعبدونها غيره تعالي ليَرضوا عنهم ولذا حَرَّمُوها ومَنَعُوا الاستفادة منها!! إنَّ مِمَّا يُحَرِّمه هؤلاء مِن الدوابّ ما يُسَمُّونه بَحِيرَة وهي دوابّ تُبْحَر أذنها أيْ تُشَقّ بعد عَدَدٍ مُعَيَّنٍ من الولادات، وما يُسَمّونه سائبة وهي ناقة أو بقرة أو شاة وَصَلَت عُمْرَاً مُعَيَّنَاً فيُسَيِّبونها ولا يركبونها أو يحملون عليها أحمالا أو يأكلونها، وما يُسَمُّونه وَصِيلَة وهي التي تلد تَوْأَمَيْن ذكراً أو أنثي فيقولوا عنها وَصَلَت أخاها، وما يسمونه حَامَاً وهو جَمَل يُحْمَيَ ظهره من الركوب إذا بَلَغَ عُمْرَاً مَا، وهكذا سَفَهٌ علي سَفَهٍ وتَخْريفٌ علي تخريف!!.. ".. وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)" أيْ ما شَرَعَ الله تعالي حتماً أيَّ شيءٍ مِن ذلك السَّفَه ولكنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، هم الذين يَفترون أيْ يَخْتَلِقون علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، ويَنْسِبونه إليه سبحانه، وأكثر أمثال هؤلاء لا يَعقلون الإسلام وما فيه من الحقّ والعدل والرشاد والخير والسعادة ولا يُمَيِّزون بين ما يَنفعهم وما يَضرّهم فيندفعون وراء الشرور والمَفاسد والأضرار بدون إدراكٍ لنتائج الأمور، ولو كانوا يَعقلون ما فَعَلوا ذلك، فبسبب عدم عَقْلِهم فَعَلُوه.. إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُقَلّدَاً لكلّ خيرٍ مُتَّبِعَاً لكلّ حقّ وعدلٍ مُحْسِنَاً استخدام عقلك مُهْتَدِيَاً بكلّ خُلُقٍ حَسَنٍ من أخلاق الإسلام، أمّا إنْ كنتَ مُقَلّدَاً لشرٍّ مُتَّبِعَاً لباطلٍ مَا مُسِيئاً لاستخدام عقلك سائراً كالدابّة دون فكرٍ مَسْلُوب الإرادة خَلْفَ قريبٍ أو زعيمٍ أو مديرٍ أو زميلٍ أو صديقٍ أو غيره، حَرَجَاً أو تَعَصُّبَاً أو طَلَباً لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا تنتظر إلا الشقاء والكآبة والتعاسة في الداريْن بمقدارٍ يُساوِي قَدْر إساءتك
هذا، ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)" أيْ وحينما يقول المسلمون ناصِحين لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم أقْبِلُوا واستجيبوا لِمَا أنزل الله في القرآن العظيم ولِمَا بَيَّنَه ووَضَّحَه الرسول (ص) واعْمَلوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، قالوا يَكفينا أن نَتّبِع ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا السابقين في عبادةِ مَا يَعبدون وفِعْل ما يَفعلون، فلسنا في حاجةٍ إلي غيره!!.. ".. آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)" أيْ يتّبِعونهم حتي ولو كانوا لا يعلمون أيَّ شيءٍ عن الحقّ ولا يَهتدون أيْ لا يَسيرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة..!! يَتّبعونهم حتي ولو كانوا لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ولا يهتدون إلى طريق الصواب!! حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير!! حتي ولو كانوا لم يُحسنوا استخدام عقولهم وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُجْتَهِدين في إصلاح ذاتك وإكمالها وإسعادها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا دعوتَ غيرك لمِثْل هذا ليسعدوا مِثْل سعادتك في الداريْن، فإنَّ هدايتك، وسعادتك، لا تكتمل إلاّ بهذا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – عليكم الاجتهاد دائماً في إصلاح أنفسكم وإكمالها وإسعادها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والحِرْص التامّ الدائم المستمرّ علي ذلك.. ".. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.." أيْ وأنتم إنْ أصلحتم أنفسكم، لا شيء عليكم من ذنوب غيركم مِمَّن ضَلّوا أيْ ضاعوا ولم يَهتدوا للإسلام وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، فهم لا يَضُرُّون أساساً إلا أنفسهم أو مَن يَفعلون مِثْلهم حيث التعاسة في الداريْن، ما دُمْتُم أنتم مُهْتَدِين أيْ قد وَجَدْتم الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة فيهما أيْ مُتّبِعِين للإسلام، لأنه لا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أخري أيْ لا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها حيث الوِزْر يعني الحِمْل الثقيل، أيْ لا تَحمل شخصية حِمْل شخصية أخري، أي لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيراً فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما.. لكنْ انتبهوا إلي أنه من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحُسْن دعوة هؤلاء الضالّين هم وجميع الناس لله وللإسلام بما يُناسبهم بكلّ قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة قَدْر الاستطاعة فإنْ تَرَكتم ذلك لا تُعْتَبرون من المُهْتَدِين حيث بتَرْكِه يَكْثُر الشرّ وينتشر ويُؤَدّي غالباً إلى أن تَضِلّوا وتَفقدوا هدايتكم.. إنه مَن يَضِلّ بعد حُسْن دعوتكم له بما يُناسبه فلا يَضُرّكم بالتالي ضَلاله.. فليس معني الآية الكريمة مُطلقاً تَرْك دعوة الآخر بمجرّد أن يتمسّك ويَعمل المسلم بكل أخلاق إسلامه، فإنَّ مِن تَمام تمسّكه وعمله بها وهدايته دعوته!.. فعَلَيَ المسلمين ألاّ يُسِيئوا فهمها ويُقَصِّرون في تطبيقها (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إصلاحهم لأنفسهم وحُسْن دعوتهم لغيرهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُوصُون بخيرٍ مَا لمَن حوله، خيرٍ ماليٍّ أو علميٍّ أو اجتماعيٍّ أو غيره، فهذا مِمَّا يستمرّ أثره لك بعد موتك وتُثاب عليه من فضل ربك وكرمه، وهذا مِمَّا شَجَّعَ عليه الإسلام ليقوم المسلم بتعويض ما قد يفوته من خيرٍ أثناء حياته أو قَصَّرَ فيه لسببٍ مَا، لكن دون أن يَضُرّ أحداً بهذه الوصية قطعاً، وإلاّ نَالَ إثماً علي قَدْر ضَرَره لا ثواباً!.. هذا، والإسلام يَحرص حِرْصَاً شديداً علي توصيل الحقوق لأهلها، لأنَّ حِفْظ الحقوق يُسعد، بينما أكلها يُتعس، في الداريْن، لأنه ينشر الأحقاد والمُشاحنات والانتقامات.. فعَلَيَ مَن حَضَر الوَصِيَّة حُسْن تنفيذها وإيصال كلّ حقّ لصاحبه لينال ثوابه ولا يأثم بتقصيره في ذلك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – مِمَّا أُمِرْتُم به في الإسلام شهادة بعضكم علي بعض فيما بينكم، فإذا وَصَلَ أحداً منكم الموتُ وظَهَرَت عليه علاماته وأراد أن يُوصِيَ بخيرٍ مَا فَوَقْت الوصية يشهد عليها رجلان عادلان أمينان صالحان منكم أيها المسلمون، أو آخران من غيركم أيْ مِن غير المسلمين إنْ أنتم ضربتم في الأرض أيْ كنتم مسافرين وظهرت علامات الموت ولم تستطيعوا إشهاد مسلمَيْن اثنيْن، وذلك للحاجة لهذا.. وإنْ ارْتَبْتم أيْ شَكَكْتُم في شهادتهما فاحبسوهما أي فقِفُوهما مِن بعد الصلاة أيْ في وقتٍ تَرِقّ فيه المَشاعِر، فيُقسمان بالله لا يأخذان به أيْ بقَسَمِهما هذا ثمناً من أثمان الدنيا الرخيصة بأن يكذبا فيه حتي ولو كان المَشْهُود عليه ذا قرابة فلا يُراعِيَانه ولا يُحَابِيَانه ولا يَكتمان شهادة الله التي أمر بأدائها كاملة بصدقٍ بل يقولان ما شاهَدَاه وسَمِعَاه كاملاً صادقاً بلا أيِّ نُقْصانٍ أو تغيير، وأنهما يُقِرَّان علي نفسيهما إنْ فَعَلا شيئاً من ذلك فهما من المُذنِبِين وسيُعَاقَبَان من الله علي هذا بما يُناسب في الداريْن، فهما صادقان تماما فيما يُقْسِمان عليه فلا يُقسمان كذباً لتحقيق غَرَضٍ مَا مِمَّا سَبَقَ ذِكْره أو غيره.. وكل ذلك هو من الحرص الشديد في الإسلام علي أن تَصِلَ وَصِيَّة المَيِّت إلى أهلها كاملة غير منقوصة.. هذا، وإنْ لم يُشَكّ في شهادتهما فلا حاجة بالتالي لأنْ يُقْسِما
ومعني "فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)" أيْ فإنْ تَمَّ العثور بعد ذلك أيْ الاطّلاَع والحُصُول علي ما يُثْبِت أنَّ هذين الشاهدين يستحِقّان الذنب في الآخرة والعقوبة عليه فيها وفي الدنيا بما يُناسب بسبب أنهما قد كذبا في شهادتهما أو أخْفَيَا شيئاً مَا، فحينها رجلان آخران صالحان أمينان عادلان يَحِلّان مَحلّهما ويَقِفان مَوْقفهما في الحَبْس بعد الصلاة والحَلِف ويكون هذان الرجلان الآخران هما الأوْلَيَان أيْ الأحَقّان بالشهادة لأنهما من الذين استحقّ عليهم الإيِصَاء أيْ من الذين استحقّت عليهم الوَصِيَّة وهم من الذين استحقّ عليهم – أيْ بسببهم – الإثم هذان الشاهدان الكاذبان السابقان فهما من المُتَضَرِّرين أيْ مِن المَجْنِي عليهم أيْ حَقّت ووَقَعَت آثار هذا الإثم السيئة التعيسة عليهم، وهؤلاء هم المُسْتَحِقون للمال بعد وفاة المتوفى بوصية المُوَرِّث أو بوصية الله تعالى بالميراث، فهم أحقّ بالشهادة من غيرهم، ولكنْ لأنَّ المال يعود عليهم فلا يُقْبَل قولهم إلا بَقَسَم، فيُقْسِمان بالله أيْ فيَحْلِفان بالله هذان الأوْلَيَان أنَّ الشاهديْن السابقيْن قد كَذَبَاَ وأنَّ قَسَمَنا وما نَشهد به من الصدق أوْلَىَ بالقبول من قَسَمِهما وما شَهِدا هما به من الكذب، وما اعْتَدَيْنا أيْ وما تَجَاوَزْنا الحقّ في قَسَمِنا وشهادتنا وفيما نَسَبْنَاه إليهما من خيانةٍ ولا نَتّهِمها زُورَاً، إننا بالتالي لو فَعَلْنا ذلك بالتأكيد نكون من الظالمين أيْ المُسْتَحِقّين لعقاب الله تعالي في الداريْن بما يُناسب من عذابٍ لمَن يَظلم غيره
ومعني "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)" أيْ ذلك الحُكْم الذي شَرَعَه الله تعالي عند الشكّ في الشاهدَيْن من القَسَم بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما، أقْرَب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها بلا كذبٍ أو خيانةٍ فيها، مُحَافَظَة منهم على قَسَمِهم بالله وخوفاً من عذابه في الدنيا والآخرة، أو خوفاً من أنْ تُرَدَّ أيْ تُرَجَّع أيْمانٌ إلي الوَرَثة بعد أيْمانهم التي لم تُقْبَل فيَظْهَر كذبهم ويَفتضح أمر خيانتهم للعَلَن، فيكون ذلك الخوف دافعاً لهم إلى النطق بالحقّ وتَرْك الكذب والخيانة، فأيّ الخَوْفَيْن حَصَلَ عندهم سيَقُودهم إلى التزام الحقّ وتَرْك الخيانة وإيصال الحقوق لأصحابها كاملة غير منقوصة حيث مَن لم يَمنعه خوف الله مِن أن يكذب أو يَخون لعدم عمله بأخلاق الإسلام مَنَعَه خوف الفضائح وعقوباتها وتعاساتها في دنياه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها أيْمانكم وأداء شهاداتكم وأماناتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاسْمَعُوا.." أيْ واستمعوا جيداً لِمَا في القرآن العظيم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسْعَدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)" أيْ واعلموا أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن فِسْق – سواء أكان هذا الفِسْق كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)" أيْ تَذَكّروا أيها الناس يوم يجمع الله أمامه كلَّ الرسل في كل الأزمنة والأمكنة وذلك يوم القيامة ويسألهم قائلا لهم ماذا أجابَتْكم به أُمَمُكم الذين أرسلتكم إليها، هل أجابُوكم أيْ استجابوا لكم بالإيمان أيْ بالتصديق بكم وبالعمل بالإسلام أم رَدُّوا عليكم بالتكذيب وعدم العمل به؟ وهو سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤال تشريفٍ وتكريمٍ وتمييزٍ لهم عن غيرهم وذمٍّ شديدٍ وزيادةِ رُعْبٍ لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا سُئِلَ الرسول فلا شكّ أنَّ هذا إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. ".. قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا.." أيْ أجابوا قائلين لا علم لنا يُذْكَر حتماً إلي جانب علمك أنت سبحانك، ولا علم لنا قطعاً بما لست تعلمه، ولا علم لنا مُطلقاً بما في عقول الناس فلا نعلم إلا ما هو ظاهر منهم وأنت تعلم ظواهرهم ودواخلهم، ولا علم لنا أبداً بما فعلوه بَعْدنا فعِلْمنا قاصِر فقط علي مَن شاهدناهم وعاصَرْناهم.. ".. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)" أيْ إنك أنت تعالي وحدك القادر علي ذلك وعلي كلّ شيءٍ لأنك علاّم الغيوب أي العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول.. ومَن عَلِمَ المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر والذي منه استجابة الأمم لرسلهم.. فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)" أيْ هذا بيانٌ لمِثَالٍ من أمثلة بعض تفاصيل حديثه تعالي مع رسله وسؤالهم عن استجابة الناس لهم يوم القيامة، لتشريفهم وتكريمهم وتمييزهم عن غيرهم وللذمِّ الشديد ولزيادة الرُّعْب لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا تَمَّ الحديث مع الرسول وسؤاله عن بعض أحواله فلا شكّ أنَّ هذا سيكون إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَعْتَبِروا وتُحْسِنوا الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، اذكروا حين يقول الله لعيسي ابن مريم – والتعبير جاء عن القول في الماضي مع أنه سيكون مستقبلا في الآخرة للدلالة علي تحقيق الوقوع وأنَّ هذا القول سيَحصل بلا أيِّ شكّ يومها فهو تعالي يعلم المستقبل – تَذَكّر نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ عليك وعلي والدتك في الدنيا حيث اصطفيتها على نساء العالمين وبَرَّأتها مِمَّا نُسِب إليها إذ اتّهموها بالزنا، واذكر نِعَمِي حين قَوَّيْتُك ونَصَرْتُك بالروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ والمقصود به جبريل عليه السلام الذي كان يُجْرِي علي يدِ عيسي (ص) مُعْجِزاته بأمر الله أو يُقْصَد به الإسم الأعظم لله تعالي الذي كان يَذْكُره عيسي عند إحياء الموتي وفِعْل المُعجزات.. ".. تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا.." أيْ وحينما أعطيتك بقُدْرَتي مُعجزة خارِقَة للعادة وهي أن تُكَلّم الناس وأنت رضيع في المَهْد أيْ الفراش الذي يُمَهَّد أيْ يُجَهَّز ليَنام فيه الرضيع، وكذلك وأنت كَهْل أي في سِنٍّ بين الشباب والشيخوخة، فأنتَ كنتَ تَتكلّم بكلام الله تعالي وهَدْيِه الذي يُوحِيهِ إليك فيَهتدي بك الناس ويَقتدون بأخلاقك حيث جعلتك رسولا كريما من عندي لهم داعيا لي وللإسلام تتكلّم بكلامِ الرسل الكرام سواء أكنتَ صغير السِّنِّ أم كبيرا.. ".. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.." أي وحينما علّمتك الكتاب الذي أرْشَدْتُك لاتّباعه – والذي يشمل أصول كتب الرسل السابقين لك – بأنْ بَيَّنْتَ لك معانيه وأخلاقياته وكيفية تطبيقها في حياتك أنت والناس حولك الذين ستَدعوهم للإسلام الذي فيه لتسعدوا به في الداريْن، وعلّمتك أيضا الكتاب بمعني الكتابة والخط حيث كنت في بيئة مُتَعَلّمة فتكون أعلمهم، وعلّمتك كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتك أيْ طريقتك في كلّ أقوالك وتصرّفاتك والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب الذي علمتك إيّاه، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ثم يُحَدِّد تعالي الكتاب الذي أرْشَده لاتّباعه وهو التوراة التي أُنْزِلَت علي موسي (ص) قبله ومعها عَلّمه الإنجيل الذي أوحاه إليه بعدها وفيه من الإسلام ما يُناسب عصره.. ".. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.." أيْ وحينما كنتَ تَصْنع وتُصَوِّر من الطين مثل شكل الطير بإذن الله فتنفخ فيها فتَحِلّ بها الحياة فتكون طيراً حقيقياً مُتَحَرِّكَاً بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. هذا، والإكثار من لفظ "بإذني" في الآية الكريمة هو للتأكيد التامّ علي أنَّ كل هذه المُعجزات التي تمَّت علي يديه ولا يستطيعها أيّ بَشَرٍ هي من عند الله تعالي وأنه الخالق الإله وليس عيسى كما ادَّعَيَ ذلك كذباً وزُورَاً بعض السفهاء.. ".. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي.." أيْ وتُشْفِي مَن وُلِد أعمى، ومِن باب أولي مَن كان مُبْصِرَاً وفَقَدَ بصره فذلك أخفّ، ومَن به بَرَص، وهو مرض جلديّ مُزْمِن مُنَفّر يَصعب شفاؤه، بإذني، وحينما كنتَ تُخرج الموتي من قبورهم أحياء بإذني.. ".. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)" أيْ وحينما مَنَعْتُ اليهود عنك عندما حاولوا قتلك حين أتيتهم بالمُعْجِزات الدالّة علي صِدْقك ليُؤمنوا فأَعْرَضَ بعضهم الذين كفروا منهم أيْ كذّبوا قائلين ما هذا الذي أحضرته لهم من معجزاتٍ ومن تشريعاتٍ تسعدهم في الإنجيل إلاّ سِحْر واضح يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليست من الله تعالي وأنك ساحر لا رسول يُوحَيَ إليك، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)" أيْ وتَذَكّر كذلك نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ عليك حين أيَّدْتُك بأنصارٍ لك، بالحواريِّين – والحواريِّون هم أصحاب وأنصار ومُؤَيِّدُوا بكل إخلاصٍ وصفاءٍ الرسل الكرام – بأنْ أوْحَيْتُ إليهم بمعني ذَكّرْتُهم وبَيَّنْتُ لهم من خلال دعوتك لهم كما دعوتَ غيرهم أنْ آمنوا بي وبرسولي أيْ بك – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه ليس إلاهاً كما يَدَّعِي بعض السفهاء – فاستجابوا ولم يكونوا كغيرهم الذين كفروا فعَاوَنْتُهم ووَفّقتهم ويَسَّرْتُ لهم أسباب الاستجابة وذلك لمَّا أحسنوا هم أولا استخدام عقولهم واختاروا بكامل حرية إرادة هذه العقول الاستجابة حتي صاروا بهذا التوفيق والتيسير والعَوْن حواريِّين لك وقالوا آمنّا أيْ صَدَّقْنا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق إسلامه وأكّدُوا إيمانهم هذا بقولهم واشهد علينا يا ربنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة بأننا مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَاياك وتشريعاتك يا ربّ أيْ مُتَمَسِّكَيْن عامِلَيْن بكل أخلاق الإسلام ثابتيْن دائميْن عليها مُخلصين مُحسنين فيها (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)
ومعني "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)" أيْ واذكر حين قال الحواريون يا عيسي ابن مريم هل يستطيع لك أيْ هل يُطيعك أيْ هل يُجيبك ربك أيْ يَستجيب لك إذا دعوته وطَلَبْتَ منه أن يُنَزِّل علينا طعاماً من السماء أم لا؟.. كذلك من المعاني هل يَقْدِر ربك أن يفعل ذلك، وهم في طَلَبهم هذا حتماً لا يَتَشَكّكون لأنهم مؤمنون حواريّون فهم متأكّدون تماماً من استطاعة الله تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ أن يفعله بقول كن فيكون ولكنهم كما قال إبراهيم ربّ أرِنِي كيف تُحيي الموتي يريدون مشاهدة الكيفية لحدوث ذلك فقد كانوا عالِمين باستطاعته وقُدْرته سبحانه علي ذلك وغيره علم إخبارٍ من عيسي مع تَدَبُّرٍ عقلِيٍّ منهم فأرادوا إضافة علم مُعايَنَة ومُشَاهَدَة كذلك لأنَّ المشاهدة لا يمكن أن يَدخل إليها أيّ شكّ ولذلك قالوا بعدها وتطمئنّ قلوبنا كما قال إبراهيم ولكنْ ليطمئنّ قلبي أيْ ليَزداد تأكّدِي تأكّدَاً وعِلْمي علماً ولكي أسْكُن وأهْدَأ مِن التطلّع والتَّشَوُّق إلى الكيفيّة.. ".. قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ هذا إرشادٌ إلى ما ينبغي للإنسان أن يُوقِف عقله عنده وما عليه أن يَكتفي به في الأمور الغَيْبِيَّة والتي هي أصلا مُوَافِقَة للعقل وللفطرة والتي عليه أن يعتمد فيها أساسا علي ما جاء في كتب الله وآخرها القرآن العظيم فلا يَتَعَدَّاه إلى ما ليس من شأنه ولا ينشغل بالبحث فيه لأنه تعالي قد انفرد به ولا يَليق به البحث عنه حيث لن يَصِلَ لشيءٍ لأنه خارج إمكاناته فليُوَفّر إذَن جهده لِمَا هو أنْفَع وأسْعَد له في الداريْن.. أيْ قال عيسي ناصحاً لهم اتقوا الله ولا تطلبوا مِثْل هذه الطلبات، أيْ خافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، ولا تسألوا مثل هذه الأسئلة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)" أيْ قال الحواريّون لعيسي لا يعني طَلَبنا نزول مائدة طعام من السماء أننا نشكّ في قُدْرَة الله تعالي أو أنك رسول من عنده، وإنما لنا أهداف صالحة، أوّلها أننا نريد أن نأكل منها لننالَ بركتها فنحيا سعداء ولأننا في حاجةٍ إلى الطعام بعد أن ضَيَّقَ علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يُسْلِموا، وثانيها أننا نريد أن تطمئنّ قلوبنا أيْ عقولنا أيْ ليزداد تأكّدنا تأكّداً وعِلْمنا عِلْماً ولكي نَسْكُن ونَهْدَأ من التّطَلّع والتّشَوُّق إلي كيفية حدوث ذلك لأنَّ إضافة عِلْم المُعَايَنَة والمشاهدة إلي علم الإخبار منك مع تَدَبُّرٍ عقلِيٍّ مِنّا لا يمكن حينها أن يَدخل إليه أيّ شكّ في كمال قُدْرته وعِلْمه تعالي، وثالثها لكي نعلم عِلْمَاً تامَّاً كاملاً أكيداً لا يُخالِطه أيّ شكّ أو وَهْم أو تَرَدُّد أنك قد صَدَقتنا تماما في أنَّ الله يُجيب دعاءنا وفيما تُبَلّغه لنا عن ربك من إسلامٍ فنزداد اطمئناناً وعلماً وعملاً لأنَّ نزولها من السماء يُعْتَبَر إضافة وتكميلاً لِمَا أتيتنا به من معجزاتٍ أرضيةٍ لأننا وإنْ كنّا قد عَلِمْنا صِدْقك بكل المعجزات الأخري ولكن إذا شاهدنا هذه المُعجزة ازداد التأكّد والاطمئنان والعلم، ورابعها لكي نكون من الذين يَشهدون على هذه المُعجزة أنها من عند الله تعالي عند الذين لم يَحضروها ويُشاهدوها غيرنا ليَزداد الذين أسْلَموا مِثْلنا عَمَلاً بكل أخلاق إسلامهم وليُسْلِم غيرهم
ومعني "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)" أيْ قال عيسي ابن مريم حينها لَمَّا استمع منهم لأهدافهم الحَسَنة السابق ذِكْرها مُسْتَجيباً لطَلَبهم داعياً الله تعالي مُتَوَسِّلاً إليه، يا الله، يا مُسْتَحِقّ وحدك للعبادة أيْ الطاعة، يا ربنا أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، يا مُجيب الدعاء بفضلك وكرمك ورحمتك، أنزل علينا مائدةَ طعامٍ من السماء تكون لنا يوم نزولها عيداً أيْ سروراً للمسلمين عائداً إلينا كل عام نُعَظّمه ونَتَدَبَّر ونَتَذَكّر فيه نِعَمك علينا التي لا تُحْصَيَ فنستمرّ علي شكرك دائماً بعدها حتي يَحِلّ علينا ثانياً بسروره وفرحه فيُعيد تَذْكِرتنا بخيراتك، تكون لنا عيداً لأوّلنا أيْ لأوّل أمتنا وآخرها أيْ لنا نحن الحالِيِّين الذين شاهدناها وللمتأخّرين القادمين بعدنا، وتكون كذلك مُعجزة منك تُحْفَظ ويَتَذَكّرها الجميع دَوْمَاً بلا نسيانٍ تدلّ علي صِدْق رسلك وصِدْقي فيُصَدِّقونى فيما أُبَلّغه عنك من إسلامٍ ويزداد تأكّدهم بكمالِ وعظيمِ قُدْرتك وعِلْمك ورحمتك فتزداد عبادتهم أيْ طاعتهم لك ويزداد تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، وارزقنا أيْ وأعْطِنا مِن عندك مِن كل أنواع أرزاقك أيْ عطاءاتك وخيراتك ومنافعك الطيّبة الوفيرة المُسْعِدَة المُبَارَك فيها التي لا تُحْصَيَ فأنت خير الرازقين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! فرِزْقك سبحانك بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا وأنت خالِق رزقك من عدمٍ وتَملكه كله وتَملك أسبابه وأصوله وخاماته كالماء والهواء والطاقات والخلايا ونحوها وخزائنك لا تنتهي مُطلقا، أمّا غيرك من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزقك يا خالقهم وخالق كل شيءٍ ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورِزْقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به منك قد مَلّكتهم إيّاه لفتراتٍ وأنت الذي يَسَّرتَ لهم أسبابه وأَعنتهم عليها بما أعطيتهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا.. وفي هذا تذكيرٌ بأنْ يَطلب الخَلْق من خالقهم وحده سبحانه الرزق، وأنْ يُحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما يستطيعون، وسيُيَسِّره لهم حتماً، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لهم ويُعينهم عليه مِن خَلْقه
ومعني "قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)" أيْ قال الله له إني سأنزل مائدة الطعام عليكم من السماء استجابة لدعائك ولطَلَبِكم، فأيّ أحدٍ يكفر منكم أيها الطالِبون لها بعد إنزالها، أيْ يُكَذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَستكبر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار وكلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظره، فإني حتماً بالتأكيد أعذّب هذا الكافر عذاباً لا أعذب مثله أحداً من العالمين في زمانه أو من العالمين جميعا، وذلك لأنه كَفَرَ بعدما شاهَدَ مُعْجِزة مُبْهِرَة تدلّ كلَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله وكمال قُدْرته وعِلْمه – إضافة قطعاً إلي ما يراه حوله كل لحظة من مخلوقاته سبحانه في كل كوْنه والتي هي كلها مُعْجِزات مُبْهِرات – فكُفْره يدلّ علي تمام إصراره علي عِناده وتكذيبه واستكباره بعدم اتّباعه للإسلام وبفِعْله كل سوءٍ وعلي أنَّ المشكلة ليست في نَقْصِ الأدِلّة حوله وإنما فيه هو حيث أغْلَقَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فمِثْل هذا يستحقّ بالقطع بسبب ذلك أشدّ العذاب
ومعني "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)" أيْ هذا استمرارٌ لبيان مِثَالٍ من أمثلة بعض تفاصيل حديثه تعالي مع رسله وسؤالهم عن استجابة الناس لهم يوم القيامة حين يجمعهم جميعا، لتشريفهم وتكريمهم وتمييزهم عن غيرهم وللذمِّ الشديد ولزيادة الرُّعْب لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا تَمَّ الحديث مع الرسول وسؤاله عن بعض أحواله فلا شكّ أنَّ هذا سيكون إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَعْتَبِروا وتُحْسِنوا الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، اذكروا حين يقول الله لعيسي ابن مريم – والتعبير جاء عن القول في الماضي مع أنه سيكون مستقبلا في الآخرة للدلالة علي تحقيق الوقوع وأنَّ هذا القول سيَحصل بلا أيِّ شكّ يومها فهو تعالي يعلم المستقبل – هل أنت قلتَ للناس حولك اجعلوني وأمّي إلاهَيْن أيْ مَعْبُودَيْن يُعْبَدَا غير الله؟! ولفظ "أمّي" يُفيد أنه مخلوقٌ مولودٌ من رَحِم أمٍ وبالتالي فهو ليس إلاهاً كما يَدَّعِي بعض السفهاء.. إنه سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤالٌ للذمِّ الشديد لمَن فَعَلَ ذلك كما أنه للتقرير أيْ لكي يُقِرّ عيسي بالحقّ عَلَنَاً للجميع والذي هو عكس ذلك تماماً حيث لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليُخْرِس بذلك ألْسِنَة الذي يفترون علي الله الكذب، وأنه لا هو ولا أمّه آلهة ولا شركاء لله في أُلُوهِيَّته تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً بل الجميع عباد له سبحانه وهو ربهم وهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك.. ".. قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ.." أيْ رَدَّ عيسي علي الفور نافِيَاً ذلك نَفْيَاً قاطِعَاً قائلاً بكل أدبٍ وخشوعٍ سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، لا يكون مُتَصَوَّرَاً لي ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لرسولٍ كرَّمه الله بأنْ يكون مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم لي أن أقول ما ليس لي ولا لأيِّ أحدٍ أيّ حقّ في أن يَنْطِق به ويَطلبه أبداً لأنَّي عابدٌ لا مَعْبُود ولأنَّ الجميع مَخْلوقون بقُدْرتك وكلهم كذلك عِباد لك.. ".. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي النفي المُطْلَق لأنْ يكون قد قال مِثْل هذا القول القبيح والاستشهاد بالله علي براءته من ذلك وأنه بَشَر لا إله مع التأكيد علي كمال علمه تعالي بكل شيء.. أيْ لو كنتُ قلتُ ذلك لَعَلِمْتَه حتماً سبحانك، لأنك تعلم ما أُخْفِيه في نفسي – فكيف بما أُعْلِنه من قولٍ وعمل – ولا أعلم ما تُخْفِيه عنّي وعن خَلْقك من عِلْمك وغَيْبك وقولك وفِعْلك إلا بما تُعَلّمنا إيّاه، لأنك أنت علاّم الغيوب أيْ العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول.. ومَن عَلِمَ المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر
ومعني "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)" أيْ ما قلتُ لهم إلا ما أمرتنى بقوله وتبليغه إليهم وهو أن أطيعوا الله لأنه هو ربي وربكم أيْ هو وحده لا غيره حتما ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. هذا، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ.." أيْ وكنتُ عليهم مُشَاهِدَاً مُرَاقِبَاً مُعَلّمَاً مُعِينَاً مُقَوِّمَاً مُصَحِّحَاً مُوَجِّهَاً لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن مانِعَاً حافظاً من أن يتّخذوا إلاهَاً غيرك لا أنا ولا غيري، وذلك ما بَقيتُ فيهم وحين كنتُ بينهم.. ".. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)" أيْ فلمَّا اسْتَوْفَيْتَ أجَلِي ناهِيَاً إيَّاه علي الأرض ورفعتني إليك بجسدي وروحي لأكون في جنات السماء حيث مكان الكرامة التامّة لي والإنعام الكامل عليّ، وانتهت مهمّتي ولم أَعُدْ بينهم شهيداً عليهم، كنتَ أنتَ حتماً مِن قَبْل ذلك وبَعْده المُراقِب عليهم المُطّلِع علي كل شيءٍ من أحوالهم الحفيظ لها تمام الحِفْظ لتُحاسِبهم عليها، لأنك أنتَ يا ربنا علي كل شيءٍ شهيد أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالهم وأفعالهم وكلّ خَلْقك مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، تراه بتمام الرؤية وتسمعه بتمام السمع ولا تنسَيَ شيئاً ولا يَخْفَيَ عليك أيّ خافيةٍ في كوْنك كله
ومعني "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)" أيْ إنْ تُعَذّبهم يا ربّ بسبب ما فعلوا من سوءٍ فإنهم عبادك تَتَصَرَّف فيهم كما تريد بعَدْلِك، وأنت وحدك الأعلم تماما بكل أحوالهم، ولا اعتراض على المَالِك المُطْلَق فيما يَفعل بملْكِه، وهُمْ بالفِعْل يَسْتَحِقّون ما يُناسب من عذابٍ لأنهم في الأصل عبادك ولكنهم عَبَدوا أي أطاعوا غيرك حيث فَعلوا ما فَعلوا من شرور ومَفاسد وأضرار، ولولا ذلك لَمَا عَذّبتهم وقد حَذّرتهم في دنياهم فلم يستجيبوا.. ".. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)" أيْ وإنْ تُسَامِحهم فلا تُعاقِبهم علي ذنوبهم وتَمْحُها كأنْ لم تكن وتَمْحُ عنهم آثارها المُتْعِسَة وتَرحمهم وتُدخلهم جنتك فذلك إليك وحدك لأنَّ عَفْوَك عَمَّن تشاء من عبادك هو عَفْو العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم أيْ الذي في كلّ أموره يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث، فهو ليس كعَفْوِ مَن يَعفو عن عجزٍ وعدم قُدْرَةٍ وعدم حِكْمة، ولا يَلْحَقك بذلك أيّ عَجْزٍ ولا اسْتِقْبَاح، ولا يُنْقِص ذلك شيئاً من عِزّك وحِكْمتك، فإنك القويّ القادر على الثواب والعقاب الذي لا يُثيب ولا يُعاقب إلاّ عن حِكْمةٍ وصَواب، فإنْ عَذّبْتَ فعَدْل وإنْ غَفَرْتَ ففَضْل.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بتمام عَدْل الله تعالي وعِلْمه وعِزّته وحِكْمته
ومعني "قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)" أيْ يقول الله إنَّ هذا اليوم هو اليوم الذي يَنتفع الصادقون فيه بصِدْقهم في إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء الذي لا يُوصَف على ما قَدَّموا من خيراتٍ في دنياهم، والصادقون هم الذين كانوا في الدنيا عابدين أيْ مُطِيعين لله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ عاملين بأخلاق إسلامهم ويُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق الإسلام ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. هذا، وهو اليوم كذلك الذي يَضُرُّ فيه الكاذبون كذبهم، وهم الذين اتّصَفُوا بعكس هذه الصفات، حيث سيجدون حتماً ضَرَر كذبهم بما يُناسبه من شرور وعذاباتٍ وتعاساتٍ في نارٍ عذابها لا يُوصَف.. ".. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.." أيْ هذا بيانٌ لهذا النفع وتفصيله وكيفيته.. أيْ هؤلاء الصادقون لهم حتماً في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. وكل هذا العطاء هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وصِدْقهم في ذلك.. ".. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.." أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لتشجيع ولدَفْع كلّ بني آدم ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أيْ بكلِّ تأكيدٍ لقد أحبهم الله وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن.. ".. وَرَضُوا عَنْهُ.." أيْ وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم الذي يرضيهم به في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة من السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)" أيْ ذلك النفع والعطاء الذي لا يُوصَف هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)" أيْ لله تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)" أيْ وهو حتماً علي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (164) من سورة البقرة، ثم الآيات (190)، (191) حتي (194) من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)" أيْ هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها.. وبما أنَّ كل ما فيهما ملك له سبحانه فليطمئنوا إذَن بالتالي فلا أحد آخر يمتلكهما إذ لو فُرِضَ وامتلكهما غيره لَكَانَ مِن المُمكن أن يَحرمهم من خيراتهما!! كما أنَّ هذا مِن المُفْتَرَض أنْ يزيدهم حمداً لله لأنها كلها ملكه وليست ملكهم ومع ذلك يُمَلّك لهم بعضها فترة حياتهم ويجعلهم ينتفعون ويسعدون بما معهم تمام الانتفاع والسعادة.. ".. وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.." أيْ وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وكذلك من المعاني أنه جعل الليل والنهار بدَوَرَان الشمس وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. ".. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)" أيْ ثم الذين كفروا من الناس – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم – بعد كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ والأدِلّة الواضحة القاطِعَة التي يقبلها كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يَرْفضها إلاّ كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ والتي تدلّ علي كمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته تعالي وأنه الخالق لكل هذا الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، مع كل هذا، بربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم للخير – يَعْدِلون أيْ يُساوون به غيره فى العبادة ويُشْرِكون معه آلهة أخرى لا تَنفع ولا تَضُرّ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها!! لا تستطيع نفع ذاتها أو منع الضرَر عنها فكيف تنفع أو تضرّ غيرها بل العابدون لها هم أقوي منها!! يُساوون بينه سبحانه وبين آلهتهم!! والتي هي خَلْقٌ من خَلْقِه!! ظلماً وزُورَاً وانحرافاً عن الحقّ، وهم متأكّدون أنهم يعدلون عن هذا الحقّ الأكيد أيْ ينحرفون عنه، بداخل عقولهم، حيث فطرتهم تذكّرهم دائما به لأنها مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. تعالي الله عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)" أيْ هذا مزيد مِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. أيْ مِمَّا يَدُلُّ علي أنه سبحانه قادرٌ علي كلّ شيءٍ وعالِمٌ به تمام العلم وقادرٌ علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو، أنه تعالي خَلَقكم أيّها الناس من طين أي أوجدكم من تراب وماء، فأبوكم آدم من طين، وأنتم جميعا من سلالته، ثم تَتَكَوَّنون كأجِنَّة علي مراحل دقيقة في بطون أمهاتكم من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الرجل لتَتَّحِدَ مع بويضة من المرأة، فتَتَكَوَّن عَلَقَة أي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخلي، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون أطفالا لا تعلمون ولا تستطيعون أيّ شيء، ثم تَبلغون أشُدَّكم أي تمام القوة العقلية والجسدية وتَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها ثم تشيخون وتضعفون وتموتون، ومنكم بالقطع من يُتَوَفّيَ قبل ذلك أي تسقطه أمه سَقْطَاً أو يتوفّى صغيرا أو شابا أو قبل الشيخوخة.. ".. ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.." أيْ ثم قَدَّرَ لحياة كلٍّ منكم في الدنيا وقتاً يتمتّع فيه بها ينتهى بموته لا يزيد عنه ولا يقلّ.. وأجلٌ آخرٌ مُحَدَّدٌ عنده أيْ في عِلْمه وحده لا يَعلمه إلا هو تعالي قَدَّره وحَدَّده للبعث من القبور بالأجساد والأرواح وهو يوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلْتم.. والخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. وفي هذا تذكيرٌ للإنسان بالآخرة والبَعْث والحساب والذي سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لحُسْن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، كما أنَّ فيه تذكيراً له بالتواضُع، حيث أصله مَخْلوق من طين، ثم من نُطْفةٍ ضعيفة مهينة، وله أجَل محدود في الحياة ثم يعود مرة أخري للطين والتراب والدود بعد موته، فعَلَيَ ماذا يَتَعَالَيَ إذَن ويَتَكَبَّر علي خَلْق الله أو علي خالقه ذاته ورسله ودينه الإسلام؟!.. إنه بانتشار التواضُع، الاحترام، المساواة، الأدب، حُسْن التعامُل، يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، وبعكس ذلك يتعسون فيهما.. ".. ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)" أيْ بعد كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ والأدِلّة الواضحة القاطِعَة التي يقبلها كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يَرْفضها إلاّ كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ والتي تدلّ علي كمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته تعالي وأنه الخالق لكل هذا الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنه القادر علي كلّ شيءٍ وعلي بَعْثِكم بعد موتكم لحسابكم يوم القيامة والذي هو حقّ بلا أيِّ شكّ، مع كلّ هذا أنتم تَمْتَرُون أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتكبرون من الناس!! أيْ تَشُكّون في ذلك وتُجادِلون المسلمين فيما تَشكّون فيه مُخَالِفين بذلك الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وليس معكم أيِّ علمٍ ولا مَنْطِقٍ ولا فِكْرٍ ولا فهْمٍ ولا استنادٍ لأيِّ دليلٍ عقليٍّ مَنْطِقِيٍّ مُقْنِعٍ بل بكل جَهْلٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ ولا مَنْطِقِيَّة.. والسبب في ذلك أيضا كما في الآية السابقة أنَّ أمثال هؤلاء قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)" أيْ هذا تكذيبٌ لكلّ سَفِيهٍ يَدَّعِي كذباً وزُورَاً أنَّ لله شريكاً في مُلْكِه أو ولدا أو مُعِيناً أو نحوه، أيْ وهو الله وحده لا غيره المُسْتَحِقّ للعبادة في أيّ مكانٍ بالكوْن بلا أيّ شريكٍ لا في السماء كما يَعبد البعض الكواكب والملائكة وغيرها ولا في الأرض كالأصنام والنيران ونحوها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) ومِن بعض دلائل ذلك ومِمَّا يُؤَكّده أنه هو وحده يَعلم سِرَّكم أيها الناس أيْ يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفون بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما، ويعلم جَهْركم أيْ ما تُظْهِرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه، ويعلم كل ما تَكسبون أي تعملون وتقولون وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ في السِّرِّ والعَلَن لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)" أيْ وإذا دُعِيَ المُكَذّبون المُعَانِدون المُستكبرون المُستهزؤن من الناس إلي الخير وترْك الشرّ، وإذا جاءتهم أيُّ آيةٍ في الكوْن أيْ دلالة وعلامة يرونها واضحة أمامهم والتي هي حجّة ظاهرة كافية قاطعة حاسمة علي قدْرة الله تعالي التامّة، وكذلك حين تُقْرَأ وتُعْرَض عليهم كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم والتي فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم، إذا هم يُعْرِضون عنها أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)" أيْ لقد كذّبَ هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُراوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم بالحقّ لَمَّا وَصَلَ إليهم عن طريق رسل الله تعالي، كذّبوا بالصدق، كذّبوا بوجود الله وكتبه وآخرها القرآن العظيم ورسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ولم يعملوا بالإسلام الذي بَلّغُوهم إيّاه ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، وبالتالي وفي مُقابِل ذلك فسوف يَصِل إليهم ويَنْزِل عليهم مع الوقت أنباء أيْ أخبار وأمثلة من أنواع العذاب المختلفة جزاء استهزائهم وتكذيبهم، والتي حَدَثَت لسابقيهم مِمَّن كذّبوا واستهزأوا، والتي نَبَّأَ أيْ أخْبَرَ بها القرآن ولكنهم كانوا يَستهزئون بها ويَسخرون منها، لأنهم لم يكونوا يُصَدِّقونها أصلاً ولا يَتَصَوَّرون أنها من المُمْكِن أنْ تَحْدُث لهم حيث هم أقوي من هؤلاء السابقين! ثم هم لا يُصَدِّقون بوجود الله أصلا! ولو كان موجوداً فهو غير قادر علي تعذيبهم!! إنهم سَيَرَوْن حتماً بسبب هذا الاستهزاء والتكذيب – إنْ لم يَتوبوا ويُسْلِموا – درجة مَا وصورة مَا من درجات وصور العذاب بما يُناسب أفعالهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ علي المسلم أن يكون من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فَعَلَ مثله بما يُناسبه وازدادَ منه وطوَّرَه وسَعِدَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبه تماما فلا يَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروساً وعظات وخبرات هائلة يمكن تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
ومعني "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)" أيْ ألم يُشاهِد هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا أنّنا كثيراً ما أهلكنا من القرون السابقة قبلهم – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم، وقد أعطيناهم التمكين في الأرض أيْ أسباب القوة والبقاء ما تمكَّنُوا بها من أنواع التّصَرُّف فيها ما لم نُعطِكم أيها المُكَذّبون الحَالِيُّون مِن كل أنواع القُوَيَ الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها، حيث كانوا أشدّ منكم قوة ومالاً وسلطاناً ونفوذاً، وأنزلنا عليهم بقدرتنا وفضلنا ورحمتنا من السماء مطرا مِدْرَارَاً أيْ كثير الدُّرُور أيْ السَّيَلان أيْ غزيراً مُتَتَابِعَاً بلا أضرار لينتفعوا وليسعدوا بكل خيراته وأرزاقه من زروع وثمار وحيوانات وغير ذلك فى كل شئون حياتهم، وجعلنا الأنهار تجري من تحت مساكنهم وأراضيهم بالمياه السَّهْل الحصول عليها يسقون منها زروعهم وثمارهم وحيواناتهم لينتفعوا بخيراتها ويَتمتّعون بمناظرها الجميلة وينتقلون بسُفُنِهم من خلالها وينقلون تجاراتهم فيَربحون.. لكنَّ كلّ هذا لم يستطع أن يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!! فهل كان لهم أيّ مَهْرَب ومَفَرّ ومَلْجَأ ونَجاة؟! بالقطع لا، فمَن كان أضعف منهم مثلهم فليكن إذن أكثر حَذَرَاً فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوَان ونزول العذاب! ألا يَتَّعِظون؟! هل عَمُوا عن هذه الحقائق؟! ولكنَّ السبب أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.." أيْ فكَذّبوا ولم يَشكروا نِعَم الله عليهم بأنْ يُحْسِنوا استخدامها بل استخدموها في كلّ شَرٍّ فعاقبناهم علي ذلك بأنْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم بزلازل وصواعق وفيضانات وأوْبِئَة وأمراض وحروب وغيرها بسبب كثرة ذنوبهم وأهمها تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارهم التامّ علي هذا بلا أيِّ خطوةِ عَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم.. ".. وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)" أيْ وأوْجَدْنا وخَلَقْنا من بعدهم أناساً غيرهم، وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم أنه تعالي كما قَدَرَ على أن يهلك مَن كذّبوا قبلهم ويُنْشِيء مكانهم آخرين يَقْدِر قطعاً أن يفعل ذلك بهم.. ولو آمنَ هؤلاء الذين سيَخلفوهم سعدوا في الداريْن لكن إنْ كانوا مثل سابقيهم تعسوا وهلكوا أيضا مثلهم فيهما.. إنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابهم وإنهائهم من الحياة الدنيا في أيّ وقت، بقوّته سبحانه التي يَرَوْنها ويَعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدهم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتهم وذرِّيَّات غيرهم كما خلقهم هم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فلينتبهوا لهذا تماما إذَن هم وجميع الناس وليعبدوه وحده وليتوكّلوا عليه وحده وليتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ الله تعالي حتماً علي ذلك الذهاب بهم والإتيان بآخرين قدير أيْ كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد.. إنَّ في هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشيراً للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)" أيْ إنَّ الذين كفروا أي كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، لا يَنْقصهم الدليل على صِدْقك يا رسولنا الكريم محمد ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فإننا لو نَزّلنا عليك كتابا من السماء في قِرْطاسٍ – وهو ما يُكتب فيه من ورقٍ أو جلدٍ أو غيره – دفعة واحدة كاملا في ورقة واحدة فشاهدوه بأعينهم وهو نازِلٌ عليك ولَمَسُوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وتأكّدوا منه بعد ذلك بجميع حواسِّهم وبكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ بحيث لا يبقي عندهم أيّ شكّ، لو أننا فعلنا ذلك لقالوا مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين ما هذا الذي شاهَدْناه ولَمَسْناه وأدْرَكناه إلاّ سحر مبين!! أيْ إلاّ سِحْر واضح يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليس من الله وأنك ساحر لا رسول يُوحَيَ إليك، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)"، "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من مُرَاوَغَتِهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم.. أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون أيضا لو أنزل علي هذا الرسول من ربه مَلَكٌ من السماء يَشهد بصِدْقه ويُساعده ويُؤَيِّده ونسمع كلامه ونراه لكُنّا آمنّا به أيْ صَدَّقناه!!.. ".. وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)" أيْ ولو استجبنا لهم وأرسلنا معه ملكاً كما يقترحون ويطلبون، ثم عانَدُوا ولم يؤمنوا لأُنْهِيَ وتُمِّمَ ونَفَذَ الأمر بإهلاكهم وإنهاء حياتهم ثم لا يُمْهَلُون أيْ لا يُؤَخَّرون ولا يُتْرَكون ولو للحظة حتي يُراجِعوا أنفسهم ويَتوبوا ويُؤمنوا، بل يأخذهم العذاب فوراً، فهذه هي طريقة الله تعالي مع مِثْل هذا النوع من المُكَذّبين أمثالهم والذين سَبَقوهم أنهم كانوا إذا اقترحوا وطلبوا مُعجزة واستجابَ لهم وأعطاهم إيّاها ولم يؤمنوا يُعذّبهم بالإهلاك لأنَّ هذا هو أسوأ أنواع التكذيب ويدلّ علي تمام الإصرار وألاّ أمل في الاستجابة بعد ذلك، وهو تعالي لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بَعَث فيها خاتم رسله نبي الرحمة للعالمين (ص) ومعه آخر كتبه القرآن العظيم المستمرّ معهم يهديهم لكل خير وسعادة حتي يوم القيامة بسبب إجابة مقترحات أولئك المُعانِدين المُستكبرين، بل من رحمته يَتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن.. إنَّ عدم الاستجابة لمِثْل هذا الطلَبَات التي تُظْهِر شِدَّة العِناد والتكذيب والغَلْق للعقول والجهل التامّ بسوء وضَرَرِ وتعاسة نتائج مِثْل هذه الأحوال من بعض الناس حين يَكفرون ويُخَالِفون ربهم وإسلامهم، يُظْهِر عظيم رحمة الله تعالي بخَلْقه وحِلْمه علي المُسيئين منهم وإرادته لإصلاحهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)" أيْ ولو افْتِراضَاً جعلنا الرسول المُرْسَل إليهم مَلَكاً كما طَلَبوا لأنهم لم يقتنعوا بالرسول الكريم محمد (ص) لأنه بَشَرٌ مثلهم، لجعلنا ذلك المَلَك رجلاً أيْ في صورةِ بَشَرٍ أيضا، فالحِكْمَة تَتَطَلّب ذلك، حتى يستطيعوا مشاهدته وسماع أخلاق الإسلام منه ومُخاطَبته والتفاهم معه وسؤاله والتّعَلّم منه، لأنَّ البَشَرَ في الدنيا ليسوا مُؤَهَّلِين لرؤية المَلَك والتعامُل معه وهو على صورته الملائكية، ولَخَلَطْنا عليهم بهذا الفِعْل مِثْل ما يَخْلِطون هم على أنفسهم بسبب اسْتِبْعادهم أن يكون الرسول بَشَرَاً مثلهم كالرسول الكريم محمد (ص) أيْ سيقولون لهذا المَلَك المُرْسَل إليهم في صورةِ بَشَرٍ لستَ مَلَكَاً لأنهم لا يُدْركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تَمَثّل بها أمامهم وحينئذٍ يَقعون في ذات اللبس والاشتباه والخَلْط الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جَعْل الرسول بَشَرَاً وبالتالي لن يؤمنوا به أيضا!! فالمشكلة إذَن ليست في كَوْن الرسول مَلَكَاً أو بَشَرَاً بل المشكلة فيهم هم وفي مُراوَغتهم وتكذيبهم وعنادهم واستكبارهم حتي لا يتّبعوا الإسلام الذي لو اتّبعوه لأسعدهم في الداريْن لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولاً من البَشَر ثم لو جاءهم بَشَرَاً لطَلَبوا مَلَكَاً وهكذا مُرَاوَغَة بعد مراوغةٍ لا تنتهي!!.. إنه من رحمة الله تعالي وفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي الناس جميعا أن يُرْسَل إليهم رُسُلَاً منه أيْ مَبْعُوثين يكونون منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)"، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)" أيْ ولقد سَخِرَ الكفار كثيراً – ومَن يَتَشَبَّه بهم – برسلٍ كرامٍ مِن قبلك سابقين لك يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده، فكان نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة وبسببه أنْ عاقبناهم بأنْ حاقَ أيْ أحاطَ وحَلَّ ونَزَلَ بالساخرين المُستهزئين المُسْتَخِفّين منهم مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع، بسبب استمرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وعدم اتّباعهم للإسلام، عذاب في الدنيا بدرجةٍ مَا مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتماً ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وإنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)" أيْ اذْكُر لهم وذَكِّرْهم يا محمد (ص) ويا كلّ مسلمٍ ويا كلّ قاريءٍ للقرآن الكريم واطلب منهم أن يَتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يُكَذّبون ويظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لمَن كلّ ما في السماوات والأرض وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد بمجرد أن يقول له كن فيكون ولا يصعب عليه شيء، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، وبالتالي فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك، كما أنَّ فيه ذَمَّاً علي تكذيبهم وعنادهم.. ".. قُلْ لِلَّهِ.." أيْ سواء سألوا مُسْتَفْسِرين لمَن يكون ما فيهما أم أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بأنه لله وحده أم امتنعوا عن الإجابة فسَارِع أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد لا يحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِرٍ وقل لهم هو لله فهو مَالِكه وحده بلا أيِّ شريكٍ له فهذه هي الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أنَّ جميع المخلوقات لله رب العالمين كما يُؤَكّد ذلك سبحانه بقوله "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (لقمان:25) (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني) حيث لم يَخْلِق ما فيهما حتماً أيُّ أحدٍ غيره ولا بالقطع آلهتهم التي يَزْعُمونها كأصنامٍ أو غيرها!.. فاعبدوه أيْ أطيعوه بالتالي إذَن وحده.. إنَّ الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه.. ".. كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ.." أيْ وأنه هو الذي قد أوْجَبَ علي نفسه الرحمة بالناس وبكلّ خَلْقِه في كلّ كَوْنِه في الدنيا والآخرة أيْ التزمَ وقَضَيَ وحَكَمَ ووَعَدَ أنْ يَرحم وَعْدَاً أكيداً لا يُخْلَف أبداً منذ بدء خَلْقهم تَفَضُّلاً منه وكرماً وإحساناً، فهذه من صفاته تعالي والذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وذِكْر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وَعْده وأنه لا واسِطَة بينه وبينهم، وذِكْر لفظ "كَتَبَ" يُفيد كأنَّ الرحمة قد سُجِّلَت في كتابٍ لمزيدٍ من تأكيدها ووجوب تنفيذها، وفي هذا اجتذاب منه تعالى للمُبْتَعِدين عنه لكي يعودوا مُسرعين إليه وإلي إسلامهم ليسعدوا تماما في الداريْن حيث باب التوبة مفتوح دائما ورحمته وَسِعَت كل شيءٍ ودائماً تَسْبِق غضبه، ومِن مظاهر هذه الرحمة الواسعة التي لا تُوصَف، في الدنيا أولا قبل أخراهم، أنه يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم، ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. ".. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ.." أيْ وأنه هو الذي سيَجمعكم بكل تأكيدٍ في يوم القيامة الذي لا شكّ فيه حيث يَبعثكم جميعا منذ آدم (ص) وحتي نهاية الحياة الدنيا بأجسادكم وأرواحكم مِن قبوركم بعد كوْنكم تراباً ويُخبركم بكل ما عملتم وقلتم في دنياكم ليُحاسبكم عليه بتمام العدل بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة حيث قد حَصَره وجَمَعه وحَفِظه سبحانه تمام الإحصاء والحفظ وسَجَّله في كتبٍ خاصة بكل واحد منكم بكل دِقّةٍ ، فانْتَبِهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)" أيْ الذين لا يؤمنون هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ.. كذلك من المعاني أنَّ الذين خسروا أنفسهم بسبب تعطيلهم لعقولهم وهي أهم ما يُمَيِّزهم عن بقية المخلوقات بأنْ عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهم لا يؤمنون أيْ لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل! وبالتالي سيَخْسَرُون قطعا، لأنهم قد ضَيَّعُوا أنفسهم وعَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم بسبب كفرهم أيْ تكذيبهم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)" أيْ ولله تعالي جميع ما اسْتَقَرّ وتَحَرَّك – ولم يُذْكَر التَّحَرُّك لأنه معلومٌ بالضرورة للسامع – وَوُجِدَ في كل زمانٍ ومكانٍ من إنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وغيره من المخلوقات، وبالجملة، كما في الآية السابقة، له كلّ ما في السماوات والأرض، ساكِن أو مُتَحَرِّك ظاهِر أو خَفِيّ، وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد بمجرد أن يقول له كن فيكون ولا يصعب عليه شيء، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، وبالتالي فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)" أيْ وهو الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ من المُسَارِعين إلي الإسلام، إلي التمسّك والعمل بكل أخلاقه في كل شئون حياتك لتسعد بذلك في الداريْن.. وإذا كنتَ عابِدَاً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اسألهم علي سبيل الذمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك، قل لهم هل أتّخِذ وَلِيَّاً غير الله تعالي أيْ وَلِيّاً لأمري وناصراً ومُعِينَاً لي في كل شئون حياتي؟! هل أعبد أيْ أطيع غيره وأتّبِع غير دينه الإسلام لأفقد سعادتي في دنياي وأخراي مثلكم؟! إنَّ هذا لن يكون أبداً!! وكيف يكون ذلك والحال والواقع أنه هو وحده سبحانه فاطر السماوات والأرض أيْ خالِقهما ومُبْدِئهما – وكلّ الخَلْق فيهما – مِن عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ أيْ لم يُقَلّد أحداً وإنما مِن إبداعه واختراعه تعالي؟! وأنتم تُقِرُّون وتَعترفون بذلك ولا يُنكره أحدٌ منكم كما يُؤَكّد ذلك سبحانه عنكم بقوله "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (لقمان:25) (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني)، وكذلك هو يُطْعِم ولا يُطْعَم أيْ يَرْزق خَلْقه بكلّ أنواع الأرزاق ولا يُرْزَق من أيِّ أحدٍ منهم – وتَمَّ تخصيص الطعام لشِدَّة ولكثرة الاحتياج إليه – لأنه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ وهو الذي يُغْنِي كلّ مخلوقاته ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ يرزقهم به والجميع يحتاجون احتياجا تامّا له الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ.." أيْ اذْكُر لهم وذَكّرهم كذلك – بعد كل هذه الأدِلّة القاطِعَة لكل عاقلٍ علي أنَّه تعالي وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّا – أنَّ الله أمرني أنْ أكون أول مَن يُسَارِع إلي الإسلام أيْ الاستسلام لوصاياه وتشريعاته أيْ إلي التمسّك والعمل بكل أخلاقه والثبات دائما عليها في كل شئون حياتي لأسعد بها ثم بالآخرة ولأكون قُدْوَة لغيري فيتّبعوني بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووَعْيٍ وإقبالٍ وبكل اختيارٍ ودون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَروا أثر الإسلام علي إسعاد الحياة، وكذلك علي كل مسلم أن يكون هكذا ليسعد فيهما هو أيضا وليكون كذلك قدوة لغيره فينال أعظم الأجر حيث يَدُلّهم علي هذا الخير وهذه السعادة في الداريْن فيسعد ويسعدوا جميعا فيهما كما يقول (ص) مُنَبِّهَاً لهذا ووَاعِدَاً به ووَعْده الصدْق حتي ينتشر الخير والسرور " إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي)، فهو لا يدعو إلي خُلُقٍ لا يَعمل به بل هو أول عاملٍ به وإلا لم يَثِق به ويَتّبعه أحدٌ وابتعدوا عن الإسلام الذي يدعوهم إليه وعُوقِبَ من الله علي ذلك في دنياه وأخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيتين (2)، (3) من سورة الصَّفّ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)"، "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)").. ".. وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)" أيْ ونَهَانِي أيْ مَنَعَنِي وحَذّرَنِي أن أكون أبداً بالتأكيد من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه، وإلا تعستَ تمام التعاسة مِثْلهم في دنياي وأخراي بسبب بُعْدِي عنه وعن ديني الإسلام
ومعني "قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)"، "مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس ولأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم وذَكّرهم بخوفك من معصية الله أيْ عدم طاعته في اتّباع أخلاق الإسلام وترْكها بعضها أو كلها أو الابتعاد التامّ عن الإسلام بكفرٍ أي تكذيبٍ بوجودِ الله أو شركٍ أي عبادةٍ لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو اعتداءٍ وعدم عدلٍ أو فسادٍ ونشرٍ له أو ما شابه هذا، ذَكِّرْهم حتي لا يقعوا في هذه المعاصي فيتعسوا في دنياهم وأخراهم، ذَكِّرْهم بعذابِ يومٍ عظيمٍ وهو يوم القيامة حيث العذاب الشديد في نار جهنم علي قدْر الشرور والمَفاسِد والأضرار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذَكِّرْهم أيضا بعذاب الدنيا الذي يكون فيه الفاسِد بدرجةٍ مِن الدرجات وبصورةٍ مِن الصور بسبب فساده وضَرَره حيث يكون في قَلَقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين.. هذا، ومن المُفيد تذكرتهم بأنّ الرسول (ص) وهو مَن هو ومع عظمته لو فُرِضَ وعَصَيَ فإنه لن يَأْمَن مِن العذاب فكيف بهم هُم ؟!.. "مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)" أيْ من يُبْعِد ويُذهِب الله عنه ذلك العذاب الشديد الذي لا يُوصَف يومها أيْ يوم القيامة، بسبب تَجَنّبه له في حياته من خلال إسلامه وعمله بأخلاقه، فقد رحمه الله حتماً ونَجَّاه وأنْعَمَ عليه بدخول الجنة حيث نعيمها الدائم الذي لا يُوصَف، وسيكون ذلك الإبعاد والنعيم والرفق بالقطع هو الفوز والنجاح المُبِين أي الظاهِر الواضِح الذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه يُمكن تحقيقه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما ناله مِن أعظم فوزٍ في دنياه تَمَثّل في سعادته التامّة بتواصُله الدائم مع ربه ودينه
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ تَقْدير وتَدْبير الله هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا، حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسَتَجِد كله الخير مع الوقت تدريجيا إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه.. وإذا تأكّدتَ بلا أيِّ شكّ أنَّ الله تعالي علي كل شيءٍ قديرٌ وهو يفعل ما يشاء، فهذا سيُعطيك حتماً دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في الدنيا مع حُسْن الاستعداد للآخرة من أجل مزيدٍ من السعادة.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)"،"وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)" أيْ وهذا، إضافة للآيات السابقة، مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَك وأصابك الله بضَرَرٍ مَا أيها الإنسان، أيْ بشيءٍ مَا يَضُرّك ويُسيء إليك في صحتك أو مالك أو عملك أو أحبابك أو ما شابه هذا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير، مع مراعاة أنَّ معظم الضرر الذي يصيب الناس هو في الغالب يكون بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كسبوها وحَصَّلوها وفعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فلا كاشِفَ له مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عنك إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لك أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بك من أضرار، إمَّا بتوفيقك مباشرة لها، أو يُيَسِّر لك خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوك.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبار ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. ".. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" أي وإنْ يَمْنَحك خيراً مَا وهو ما يَنفعك ويُسعدك بأنْ يُيَسِّر لك أسبابه فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يَمنع عنك خيره وفضله وكرمه إلا إذا أراد هو مَنْعه وإذهابه وعدم حِفْظه لك لأنه وحده على كل شيءٍ قدير، علي النفع والضرّ، بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يَصعب عليه شيء.. "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)" أيْ وهو الغالب لكلّ شيء، فالجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. ".. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)" أيْ وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، الخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، العليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة ودرجة تقواهم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فليجتهدوا إذَن في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيهم بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. وكل هذا يَدلّ علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة لأنه هو وحده لا غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم حين يطلبون منك شهادة أحدٍ من الناس علي صِدْقك فيما تُبَلّغهم به من إسلامٍ وعلي أنَّ الله تعالي هو الواحد الأحد المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك، قل لهم أيّ شيءٍ عندكم في هذا الكوْن شهادته هي أعظم وأصدق وأعدل وأقوي وأنْقَيَ شهادة بحيث تُقْبَل شهادته ولا يُمكن أبداً أن تُرْفَض وتُثْبِت صِدْقي فيما أخبركم به؟.. ولفظ "شيء" يعني أيّ موجودٍ في الوجود ويُفيد الشمول والإحاطة والاسْتِقْصاء وبلوغ الغاية في البحث.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك كما أنَّ فيه ذَمَّاً علي تكذيبهم وعِنادهم.. ".. قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.." أيْ قل لهم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما ستقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم إنَّ الله الذي أقررتم أنه وحده له مَن في السماوات والأرض كما في الآية (12) هو أعظم شاهد بينى وبينكم على صِدْق ما جئتكم به، وكفي به شهيداً أيْ يَكفيني ويَكفي كلّ مسلم كفاية تامّة – ولا نحتاج أبداً لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم بيني وبيننا وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه خالق الخلق الذي يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا ومِمَّا يفعله المؤمنون أهل الخير.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. إنني لو كنتُ كاذباً فلا يَليق بحكمته وقُدْرته سبحانه أن يُقِرَّ مَن يكذب عليه! بل ويُؤَيِّده بمُعجزاته التي تُعينه وتَنصره!! إنَّ هذا يَستحيل أن يقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!! إنه سيَسْحَقه حتي لا ينتشر كذبه والشرّ ويَبْقَيَ الخير!! فبما أنه تَرَكَنا نحن المسلمين ندعو له وللإسلام بل ونَصَرَنَا وأيَّدَنا ونَشَرَ الإسلام علي أيدينا فنحن إذَن علي الحقّ بكل تأكيد!! وهذه أعظم شهادة منه تعالي لرسوله الكريم (ص) وللمسلمين أنهم علي الحقّ التامّ، فأيّ شهادة أكبر مِن هذه الشهادة؟.. هذا، ومِمَّا يُؤَكّد كذلك شهادة الله له علي صِدْقه (ص) ما أوحاه إليه في آيات القرآن العظيم مِن أنّه قد أرسله بالهُدَىَ ودين الحقّ ولذا قال ".. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.." أيْ وقد أنْزَلَ الله علىّ هذا القرآن ليكون دليلاً قاطِعَاً علي صِدْقِى لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمِثْله إذ قد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ولأُحَذّركم به أنتم وكل مَن بَلَغَه خَبَره ووَصَلَ إليه في كل زمانٍ ومكانٍ إلي قيام الساعة، أحذّركم مِن الشرّ والتعاسة لمَن لا يعمل بأخلاق الإسلام التي فيه في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك منها وخَالَفَها، وأُبَشّركم بتمام الخير والسعادة فيهما لمَن يعمل بها.. هذا، ولم يُذْكَر التبشير لأنَّ سياق الآية يتعامَل مع المُكَذّبين.. ".. أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)" أيْ هذا إعلانٌ قويٌّ صريحٌ من الرسول الكريم (ص) ومن كل مسلمٍ بالبراءة من كل مَعْبُودٍ يُعْبَد غير الله تعالي ومزيدٌ من التأكيد علي عبادته هو وحده بلا أيَّ شريكٍ فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم هل أنتم تُقِرُّون وتَعترفون أنَّ مع الله آلهة أيْ مَعْبُودات تُعْبَد غيره كأصنامٍ وأحجار وكواكب وغيرها؟ ثم قل لهم لا أشهد بذلك أبداً ولا أقوله ولا أعترف به ولا أُقِرّكم عليه، وإنما المَعْبُود بحقّ إله واحد لا شريك له وهو الله تعالي، وإننى بَرِيء مِمَّا تُشركون به أيْ بعيد كل البُعْد من أيِّ شريكٍ تعبدونه معه أيْ مُتَبَرِّيء مِمَّا تعبدونه غير الله تعالي من آلهةٍ كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نار أو غيره رافض لها غير مُعْتَرِف بها ولا راض عنها ولا صِلَة بيني وبينها وأنا ضِدَّها وأعاديها
ومعني "الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)" أيْ هذا بيانٌ لشهادةٍ إضافيةٍ علي صِدْق الرسول (ص) وهي شهادة أهل الكتاب.. أيْ الذين أعطيناهم الكتاب قبل القرآن كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري يعرفونه أي الرسول (ص) أنه رسول الله حقاً وصِدْقَاً بأوصافه المذكورة في كُتُبهم، وكذلك يعرفونه أي القرآن العظيم الذي أوحِيَ لهذا الرسول الكريم الصادق الأمين وما فيه من دين الإسلام أنه أيضا حقّ وصِدْق، تماماً مِثْل معرفتهم بأبنائهم التي ليس فيها أيّ شكّ.. ".. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)" أيْ الذين لا يؤمنون هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ.. كذلك من المعاني أنَّ الذين خسروا أنفسهم بسبب تعطيلهم لعقولهم وهي أهم ما يُمَيِّزهم عن بقية المخلوقات بأنْ عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهم لا يؤمنون أيْ لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل! وبالتالي سيَخْسَرُون قطعا، لأنهم قد ضَيَّعُوا أنفسهم وعَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم بسبب كفرهم أيْ تكذيبهم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وبالتالي فإذا لم يَشهد أمثال هؤلاء بصِدْقه (ص) أو شهدوا بعدم صِدْقه ولم يُسْلِموا فلا قيمة لهم ولا لشهادتهم فهم كاتِمون للحقّ أصلا
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)" أيْ لا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)" أيْ بكل تأكيد لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم.. والظالم هو كل مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوعٍ من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشر أم ما شابه هذا
ومعني "وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب الذين أشركوا أيْ كانوا يَعبدون غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف ويبدأ تَبَرُّؤ الذين كانوا يُعْبَدون مِمَّن كانوا يَعبدونهم فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا لهم علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب أين آلهتكم التي كنتم تدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة؟! أين هي الآن حتي تَنفعكم وتُنقذكم في هذا اليوم الشديد عليكم؟!
ومعني "ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)" أيْ ثم لم تكن نتيجة فتنتهم أيْ اختبارهم بسؤالهم عن شركائهم ونتيجة مِحْنَتِهم ومُصيبتهم الشديدة التي هم فيها في هذا الموقف الذي لا يُوصَف وعند رؤيتهم للحقائق التي لا يُمكنهم إنكارها إلا محاولة التّخَلّص من شِرْكهم السابق في دنياهم بالكذب مُتَوَهِّمِين أنَّ التّبَرُّؤ من الشّرْك في الآخرة سيُنجيهم من العذاب فقالوا حَالِفين بالله كذباً ما أشركنا في العبادة أحداً غيرك يا ربنا
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كذب هؤلاء المشركون علي أنفسهم حين أقسموا بالله ما كانوا مشركين مُتَبَرِّئين مِن شِرْكهم مُسْتَخْدِمِين الأخلاق السيئة التي كانوا يَتّصِفون بها في الدنيا من الكذب والافتراء والذي لن يَنفعهم حتماً في الآخرة لأنه تعالي لا يَخْفَيَ عليه شيء فَهُم إذَن لا يكذبون إلا علي ذواتهم لأنَّ كل الأمور حينها ستكون واضحة مكشوفة للجميع، فالإنسان قد يَكذب لصالحه في دنياه مُخْفِيَاً الحقيقة عن غيره لكنَّ كذبه أمام الله في أخراه سيكون على حسابه قطعا لا له لأنه سيزيده فضيحة وعاراً وعذاباً نفسياً قبل الجسديّ في النار.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي ما كانوا يعبدونه في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)" أيْ وبعضٌ مِن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالي كأصنامٍ وغيرها، ومِن المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين المُرَاوِغِين، ومِمَّن يَتَشَبَّه بهم، يستمع إليك أحيانا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عند قراءتك لبعض آيات القرآن العظيم استماع استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمام، ولا يستمع استماع تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. ".. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أن يَستمع ولا يَنتفع، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وهذا هو معني "وجعلنا"، ومعني علي قلوبهم أكِنّة أيْ علي عقولهم أغشية وأغْلِفَة حتي لا يفهموا ويَتَدَبّروا ما فيه وينتفعوا ويعملوا ويسعدوا به، وفي آذانهم وَقْراً أيْ صَمَمَاً أيْ عدم قُدْرَةٍ علي السَّمْع أيْ لا يفهمون ما يسمعونه، ولن يستجيبوا بذلك لأيِّ داعي يدعوهم لأيِّ خير، وإنْ يَرَوْا كلَّ آيةٍ من الآيات أيْ أيَّ مُعجزةٍ من المُعجزات ودليلٍ من الأدِلّة التي تدلّ على صِدْقك لا يُصَدِّقوا بها بسبب هذا العِناد والإغلاق للعقول الذي جَعَلوا أنفسهم فيه سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في القرآن الكريم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يَدَيْك لتأكيد صِدْقك.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)" أيْ حتى ينتهي ويَصِلَ بهم هذا التكذيب والعِناد الشديد إلى أنهم إذا حَضَروا إليك لا يَحضرون لكي يهتدوا للإسلام ولكن لكي يُجادلوك ولم يَكتفوا بعدم إيمانهم بل يقول هؤلاء الذين كفروا بسبب تكذيبهم وعِنادهم وإغلاقهم لعقولهم ما هذا الذي نسمعه من القرآن العظيم إلاّ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم
ومعني "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)" أيْ وهؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرُهم ومَن يَتَشَبَّه بهم كذلك يمنعون الناس عن القرآن الكريم، عن سماعه واتّباعه والعمل بأخلاق الإسلام التي فيه وعن اتّباع سُنَّة رسوله الكريم (ص) الذي جاء به، قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!! ويَنْأوْن عنه أيْ ويبتعدون عنه بأنفسهم، فهم لم يكتفوا بأنهم لم ينتفعوا ويسعدوا به بل أيضا لم يتركوا غيرهم ينتفع ويسعد به! لقد جَمَعوا بين عَمَلَيْن قَبِيحَيْن لهما عقابهما الحَتْمِيّ من الله تعالي بما يُناسب في الدنيا والآخرة حيث كانوا ضالّين مُضِلّين فاسِدين مُفْسِدين.. ".. وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)" أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُدَمِّرُون ولا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيَزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفساد غيرهم والذين سيَجتهدون في أن يُقاوموهم ولا يَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية (54) من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ (26)" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. إنَّ هذا النّهْي والنّأي عنه يُثْبِت تأكّد أمثال هؤلاء تماماً مِن صِدْق القرآن العظيم وقوة تأثيره فيمَن يستمع إليه لأنه يُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ والفطرة فيه والتي هي مسلمة أصلا وبالتالي فهم يحاولون فِعْل ذلك لأنه لو كان كما يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنه أساطير الأولين لَتَرَكُوا الناس يسمعونها ليتأكّدوا هم بعقولهم من أنها خُرافات وأوْهام!!
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد يوم القيامة الذي يكون فيه أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم حين حُبِسُوا وحُجِزُوا علي غير إرادتهم علي النار والتي كانوا يُكَذّبون بوجودها يُعانون أهوالها مُنْتَظِرين حسابهم وعذابهم فيها، يُحاسَب كلٌّ علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديدٍ فيما بينهم حيث يَرُدّ بعضهم علي بعض بالكلام الذي يحمل كل الندم والحسرة والكراهية والغيظ وكلّ فريقٍ يُلْقِي باللائمة والسبب لِمَا هم فيه علي الآخر، ويقولون حينها يا ليتنا نُرْجَع إلي الدنيا لنُصْلِح ما أفسدنا، ولا نُكَذّب بآيات ربنا التي كنّا نُكَذّب بها في القرآن الكريم أو في الكوْن حولنا أو معجزات الرسل المُؤَيِّدة لهم، ونكون من المؤمنين أيْ المُصَدِّقين العامِلين بكل أخلاق الإسلام! ولا ينفعهم حتماً أيّ نَدَمٍ وقتها حيث يومها يوم حسابٍ لا عمل بلا أيّ عودة للدنيا
ومعني "بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)" أيْ ليس الأمر كما يُوهِمه كلامهم أنهم يَتَمَنّون العَوْدة للدنيا للهداية والصلاح والعمل بالإسلام ولكنَّ الحقيقة أنهم تَمَنّوا عَوْدتهم لها بعد أن بَدَا أيْ ظَهَرَ لهم في الصحف التي كانت تُسَجَّل فيها أقوالهم وأفعالهم ما كانوا يُخفونه من قبل ذلك سابقا في دنياهم من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ومُرَاوَغَةٍ ومن شرور ومفاسد وأضرار وتعاسات كانوا يفعلونها وبعد أن ظهر لهم سوء نتائج كل ذلك حيث سيُعَذّبون بالعذاب المناسب بالنار التي لا تُوصَف، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يعلمونه في أنفسهم جيدا ويتأكّدون منه من صِدْق ما جاءت به الرسل في الدنيا عن وجود الله والآخرة والجنة والنار والحساب والعقاب وسعادة مَن يؤمن به ويَتّبِع شرعه الإسلام في دنياه وأخراه وتعاسة مَن يُخالِفه لأنَّ هذا يُوافِق تماما كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافق ما في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا ولكنهم كانوا يُخفون كل ذلك بداخلهم ويُظهرون لأتباعهم وللناس خِلافه من كفرٍ وعِنادٍ ونحوه لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)" أيْ ولو فَرْضَاً رُجِعُوا للدنيا بمُتَعِها وشهواتها وهو أمرٌ مُستحيلٌ بالقطع لأنها قد انتهت وحانَ وقت حسابهم فإنهم سيَعودون بالتأكيد للذي مُنِعُوا منه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة ومن الشرور والمفاسد والأضرار والتعاسات التي كانوا يفعلونها، لعِلْم الله تعالى بهم أنهم لا يؤمنون لو رُدُّوا إليها، لأنَّ المشكلة هي في عقولهم المُغْلَقة والتي ستكون هي هي وفي فِكْرهم المريض وكذبهم والذي سيكون هو هو! ومِمَّا يُؤَكّد ذلك أنهم كانوا في دنياهم مُصِرِّين تمام الإصرار علي إغلاق عقولهم وقد أَخَذوا الفُرْصَة بعد الأخري بتذكيرِ الصالحين لهم ولكنهم لم يَتركوا سوءهم واستمرّوا وأصَرُّوا عليه حتي موتهم من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة، وبالتالي فهم كاذبون بالقطع فيما يقولون ويَعِدُون به أنهم لا يُكَذّبون بآيات ربهم وسيكونون من المؤمنين عند عودتهم لها حيث هم يريدون فقط بأيِّ وسيلةٍ وكلامٍ مَنْع العذاب عنهم والإفلات منه والذي هو مُصِيبهم حتما.. إنَّ علي المسلم ألاّ يَتَشَبَّه أبداً بهذه الصفة القبيحة حيث لو أصابه ضَرَرٌ مَا وشَعر بقُرْب أجله يتوب ويعود لربه ولإسلامه ويفعل كل خيرٍ ثم لو عافاه سبحانه عادَ لِشَرِّه كما يَحدث واقعياً كثيراً من بعض المسلمين!!
ومعني "وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)" أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون، قالوا أثناء حياتهم الدنيا مُكَذّبين بالبَعْث أيْ بإحياء الموتي بأجسادهم وأرواحهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا في قبورهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلوا، قالوا مُكَذّبين بوجود الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب، ولذا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، قالوا على سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحيا فيها وما نحن بمَبْعُوثين بعدها أيْ وليس هناك حياة أخري نُبْعَث إليها بعد موتنا كما تَدَّعون أيها المسلمون لكي نُحَاسَب ونُعَاقَب علي الخير والشرّ بجنةٍ أو نارٍ ونحيا حياة أخري فيهما، فكلّ هذه أمور لا يُمكن تصديقها ومُسْتَبْعَدَة تماما!! فنحن نموت ثم يحيا أولادنا مِن بَعْدِنا ويموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن مُعَيَّن، وَما يُهلكنا عند انتهاء آجالنا إلا الدَّهْر أيْ إلا مرور الزمن والأيام والسنين والعُمْر ومَجِيء الموت، وهم بذلك يُكَذّبون وجود ربٍّ لهم يَخلقهم ويرعاهم ويرزقهم ويُرشدهم بشرعه الإسلام لكل خير وسعادة ويُميتهم ويَبعثهم ويُحاسبهم، وهو أسلوب يدلّ ضِمْنَاً علي شدّة التكذيب بالبعث وغَلْق العقل عن الحديث والتفكير فيه والاستبعاد التامّ له والاستكثار علي الله سبحانه القدْرة عليه!!.. والسبب في قولهم هذا هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد يوم القيامة الذي يكون فيه أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم حين حُبِسُوا وحُجِزُوا علي غير إرادتهم علي حُكْم ربهم فيهم ووقفوا أمامه وعنده والذي كانوا يُكَذّبون بوجوده يُعانون أهوال هذا الموقف مُنْتَظِرين حسابهم وعذابهم، حيث يُحاسِب سبحانه كلاّ منهم علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديدٍ فيما بينهم حيث يَرُدّ بعضهم علي بعض بالكلام الذي يحمل كل الندم والحسرة والكراهية والغيظ وكلّ فريقٍ يُلْقِي باللائمة والسبب لِمَا هم فيه علي الآخر، ويقول حينها تعالي لهم علي سبيل الذمّ والتخويف وهم يشاهدون الأهوال التي لا تُوصَف أمامهم كنوعٍ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار سائلا إيّاهم ليُقِرُّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم هل ليس هذا الذي تشاهدونه الآن هو الحقّ والصدق الذي كنتم تكذبوه في دنياكم وقد حُذّرْتُم منه؟.. فيُقِرُّون مُعْتَرِفِين مُسَارِعِين بالإجابة مُؤَكّدين إيّاها بالقَسَمِ بسبب وضوح الأمر غاية الوضوح بحيث لا يُمكنهم غير الاعتراف قائلين مُتَذَلّلِين نعم يا ربنا إنه الحقّ الذي ليس فيه أيّ شكّ ولكنّا كنّا قوماً ضالّين شاهِدين بذلك علي أنفسهم أنهم كانوا كافرين أيْ مُكَذّبين فاعِلِين للسوء في دنياهم.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي ما يكون بعد الاستفهام أيْ لنَفْي "أليس هذا بالحقّ" والذي يعني تصديق أنه الحقّ.. ".. قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)" أيْ قال الله لهم حينها إذا كان الأمر كما ذَكَرْتُم وشَهِدْتُم على أنفسكم، فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)" أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين لم يُصَدِّقوا بمُقابَلَة الله يوم القيامة لحسابهم علي أقوالهم وأفعالهم حيث يُعطي المُحسنين كل خيرٍ وسعادةٍ في درجات جناته علي حسب أعمالهم ويُعاقِب المُسيئين بكل شرٍّ وتعاسةٍ في عذاب ناره علي قَدْر شرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، الذين يَستبعدون البَعْث بالأرواح والأجساد بعد موتها وكوْنها ترابا في قبورها، ولذلك يفعلون في دنياهم ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار لتَوَهُّمهم أنْ لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار.. لقد خسروا حتما في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا.." أيْ واسْتَمَرُّوا علي تكذيبهم هذا وما هم فيه من سوءٍ إلي أن وَصَلتهم الساعة فجأة وهم غير مُستعِدّين لها، لحسابها ولنتائجها، ساعة موتهم ونهاية أجلهم في الدنيا حيث دخول القبر وبدء الحساب المَبْدَئيّ، ثم ساعة نهاية الدنيا كلها وقيام يوم القيامة وبَعْثهم للحساب الختاميّ حيث ينالون كل ما يستحِقّونه من عذابٍ تامٍّ علي سوئهم، حينها يقولون نادِمين عند رؤيتهم للأهوال يومها في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ يا حَسْرتنا أيْ يا نَدَمنا وألَمنا الشديد علي ما ضَيَّعنا وقَصَّرنا وأهْمَلنا في الحياة الدنيا وفي الاستعداد للحياة الآخرة حيث كذّبنا بوجود الله وآخرته ولم نَتّبِع الإسلام وفَعَلنا كلّ شرّ.. ".. وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ.." أيْ وهؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم – وأوْزَار جَمْع وِزْر والوِزْر هو الحِمْل الثقيل – أيْ سيتحَمّلون نتيجة أقوالهم وأفعالهم الشديدة السوء هذه التي كانوا يفعلونها في دنياهم بذنوبٍ هائلةٍ ثقيلةٍ وبحسابٍ تامٍّ ثقيلٍ دقيقٍ كاملٍ دون أيّ نُقْصانٍ في أخراهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)" أيْ ما أسوأ ما يحملون، إنهم سيَتَحَمَّلون نتائج شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، عاجِلاً في الدنيا حيث كل قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم آجِلاً في الآخرة حيث ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. هذا، ولفظ "ألا" في اللغة العربية يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنُون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)" أيْ ولا يَبْعُد عنكم وليَكُن في علمكم وفِكْركم دائما أيّها الناس جميعا واحذروا تمام الحَذَر أيها المؤمنون أي المُصَدِّقون بربكم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامكم المُوقِنون بحساب الآخرة ونعيمها الخالد، أنه ليست الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، أيْ لا تَحْيُوا أبداً حياتكم مِثْل هذه الحياة الدنيا أي الدنيئة الحقيرة التي يحياها المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون البعيدون عن ربهم وإسلامهم، حيث حياتهم كلها لَعِب أي عَبَث أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف!.. كما أنها كلها لَهْو أي انشغال بما هو حقير عمَّا هو كبير وبما هو شرّ غالبا أو دائما عَمَّا هو خير.. وكلها زينة أيْ تَزَيُّن وتَجَمُّل بمُتعها والاستمتاع بها علي أيّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيرا.. وكلها تَفَاخُر بينهم وبين غيرهم أيْ ذِكْر للإمكانات من أموالٍ ومناصب وأعمال وأنساب ونحوها مصحوب بتَكَبُّرٍ وتَعَالٍ علي الغير واحتقارٍ وإذلالٍ وإساءةٍ له في الأقوال والأعمال وإضاعةٍ للحقوق وإيذاءٍ للمشاعِر ونحو ذلك من شرورٍ تؤدّي إلي التباغُض والتنازُع والتصارُع وحتي الاقتتال بين الناس.. وكلها تَكَاثر في الأموال والأولاد أيْ تَزَايُد فيها لأنَّ كل أحدٍ منهم يريد أن يكون أكثر من غيره منها ليَتَفَاخَر ويَتَبَاهَي بها عليه.. ثم تذكّروا دائما ولا تنسوا أبدا أيها المؤمنون المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم أنَّ هذه الحياة الدنيا – أيْ القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياتكم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي أنتم مُوقِنون بها والتي فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأحْسِنوا تمام الإحسان الاستعداد لها، فهي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين.. ولو كان هؤلاء الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون والذين ينسون آخرتهم، لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في هذا، ولا يتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حال الحياة الدنيا، ولو كانوا يَتعَمَّقون في الأمور ويعلمون عنها بحقٍّ وليس بصورةٍ سَطْحِيَّةٍ ويستشعرونها بجدِّيَّة، لَأَحْسَنوا الاستعداد بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.." أيْ وإنَّ الدار الآخرة حتماً بسبب ما سَبَقَ ذِكْرُه حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ الدنيا الزائل يوماً مَا، ولكنها ليست لأيِّ أحدٍ بل هي فقط للذين يتّقون أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)" أيْ إننا نعلم وقد أَحَطْنا علماً قطعاً ونحن بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دَوْمَاً نُحيط بتمام العلم أنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم تَشعر بالحُزن من الذي يقولون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الله والإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه وأنك تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. ".. فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)" أيْ فلا تَحزن، واطمئنوا واصبروا أيها المسلمون، فإنَّ النصر لكم قريبا، لأنهم في الحقيقة بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وفيما بينهم وبين بعضهم يُصَدِّقونك تماماً ويعلمون صِدْقك وصِدْق ما جئتَ به من قرآنٍ وإسلامٍ ولكنَّ الظالمين هذا دائما حالهم – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – يَجحدون أيْ يُنكرون ويُكَذّبون بألسنتهم بآيات الله مع تأكّدهم بدواخلهم بأنها الحقّ والصدق والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديك لتأكيد صِدْقك، وذلك حتي لا يَتّبِعوا الإسلام هم وغيرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)" أيْ هذا – إضافة للآية السابقة – مزيدٌ من التسلية والطَمْأَنَة للرسول (ص) ولكلّ المسلمين مِن بَعده والتخفيف عنهم والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم وعلي تكذيبهم وإيذائهم بكل أنواع الإيذاء القوليّ والفِعْلِيّ حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم حتي تُنْصَرُوا مِثْلهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.." أيْ ولا مُغَيِّر أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولقد وَصَلَك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من أخبار وأنباء المرسلين السابقين فيما قصصناه عليك في القرآن العظيم ما فيه العظات والدروس والعِبَر التي تُثَبِّتك وتُعينك وتُطمئنك وتُسعدك، فلقد صَبَروا فكافأهم الله علي ذلك بعوْنهم ونَشْر إسلامهم ونصرهم والتمكين لهم وهزيمة أعدائهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم، فكونوا مِثْلهم واقتدوا بهم لتسعدوا كسعادتهم
ومعني "وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء المُكَذّبين السابق ذِكْرُهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنك لو أحْضَرْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم كلّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّهم يُصِرُّون علي تكذيبهم وعدم إسلامهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. أيْ وإنْ كان كَبُرَ عليك إعراضهم أيْ عَظُمَ وصَعُبَ وثَقُلَ واشْتَدَّ عليك وأحْزَنَكَ كثيراً التفاتهم وانصرافهم وابتعادهم عن الإيمان وتَرْكه وإهماله بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ومقاومتهم لنشره وإيذاؤهم لمَن يَتّبعه، لأنك رحمة للعالمين تحب أن يؤمنوا جميعا، فإنْ تَمَكَّنْتَ فَرْضَاً أن تَطْلُبَ وتَتَّخِذ طريقاً فى باطِن الأرض أو سُلَّمَاً أيْ مِصْعَدَاً تَنْصبه في السماء فتَصعد به إليها لكي تأتيهم بأعظم آية لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يرفضها لكي يؤمنوا فإنهم أيضا حينها لن يؤمنوا!! لأنهم لا يريدون الإيمان!! لأنهم قد أغلقوا عقولهم تماما عن أيِّ خير!! فأَرِحْ نفسك إذَن ولا تَحزن علي أمثال هؤلاء كل هذا الحزن واصْبِر واستمرّ في حُسن دعوتهم وجميع الناس بما يُناسبهم حتي ينصرك الله وينشر إسلامه.. وفي هذا بيانٌ لشِدّة حرصه (ص) واستعداده لفِعْل الصعاب ليُسْلِم الجميع وبيانٌ في المُقابِل لشِدّة إصرارهم علي ما هم فيه.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ.." أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..").. ".. فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فاحْذَر وانْتَبِه أيها المسلم وإيّاك ثم إيّاك أبداً بالتأكيد أن تكون من الذين يجهلون أيْ لا يعلمون ما سَبَقَ ذِكْرُه من حِكَمِ الله وسُنَنَه في خَلْقِه وكَوْنِه أيْ طُرُقه وأساليبه فيهما ولا يعلمون ولا يدركون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها، وإلاّ لم تُحْسِن التّصَرُّف في حياتك وتَعِسْتَ فيها وفي آخرتك علي قَدْر سوء تَصَرُّفك كما يَحدث من الجاهلين غير العالمين بما ينفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علم.. وبالتالي، وبعد عِلْمك بذلك، لم يَكْبُر عليك إعراض مَن أعرض عن الله والإسلام ولم تَحرص علي ما لا يكون وتَجزع حيث يُطْلَب الصبر لأنَّ ذلك من عادة الجَهَلَة، فلا تَتَشَبَّه مُطلقاً بهم واحرص علي كل علمٍ مُفيدٍ مُسْعِد لك ولغيرك
ومعني "إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)" أيْ هذا مزيد من التأكيد علي ما سبق ذكره والتوضيح والتفصيل له.. أيْ لا يُسارع من الناس بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة إلى ما يدعوهم إليه ربهم من خلال رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وكتبه وآخرها القرآن العظيم مِن الإيمان به أي التصديق بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ومِن التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن لو فَعَلوا ذلك، إلا فقط الذين يسمعون أيْ يستمعون إلي ما يدعوهم إليه ربهم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسْعَدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فلْيَجْتَهِد كلّ عاقلٍ إذَن أن يكون من الذين يَسمعون حتي يكون حَيَّاً حياة حقيقية سعيدة لا كالمَيِّت.. ".. وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)" أيْ وأمَّا الموتي، موتي العقول، الذين عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولذلك فهم لا يسمعون سماع تَدَبُّر وتَقَبُّل، وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم، سيَبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة بأجسادهم وأرواحهم ثم يُرْجَعون إليه ليُحاسبهم حساباً عَسِيرَاً على كل أقوالهم وأفعالهم السيئة.. وفي هذا تَحْقِيرٌ لشأنهم حيث يُعْتَبَرون في عِدَاد الموتي غير الأحياء لأنَّ الحياة الحقيقية السعيدة لا تكون إلا بالإسلام وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان.. هذا، وجميع الموتي من البَشَر منذ خَلْق آدم وحتي قيام الساعة سيَبْعثهم الله تعالي وسيُرْجَعون حتماً يومها إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. فليُحْسِن إذَن كل عاقلٍ الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)" أيْ وقال المُكَذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم، لو نُزّلَ علي محمد آية من ربه أيْ دليل ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حدث مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من آيات، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الله تعالي قادر قطعا علي أن يُنَزّل كلّ آية في أيِّ وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!! إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتماً بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وَقْتِيَّة لا دائمة وأقلّ منها مهما عظمت!.. إنَّ معجزة القرآن حتما كافية لأنه أعجزَ ويَستمرّ يُعْجِز أيَّ أحدٍ أن يأتي بما أتَيَ به من نُظُمٍ وأخلاقيات وتشريعات تُسعد كل البَشَر في كل مكان وكل زمان بكل المُتَغَيِّرات حتي يوم القيامة؟!! وهو يُتْلَيَ عليهم أيْ يُقرأ باستمرارٍ ويَستمعون له ويُمكنهم كلهم الرجوع إليه إذا أرادوا في أيّ وقتٍ وهو إعجاز مستمرّ مع الإنسانية كلها حتي يوم القيامة لأنه محفوظ بينهم بحفظ الله له بينما أيّ معجزة أخري حِسِّيَّة ستنتهي بانتهاء وقتها رغم عظمتها ولا يراها إلا فقط مَن كان حاضرا حينها شاهدا عليها وقد كانت فقط مُناسِبة لعصرها أمَّا بعد ذلك فلم تَعُد مُلائِمة! فأيّ المعجزات إذن أعظم وأكثر استمراريّة في تأثيرها؟!! إنها حتما معجزة هذا القرآن العظيم!! فهذا ما يُقِرّ به أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)" أيْ ولكنَّ كثيرا مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)" أيْ ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنه القادر علي أنْ يُنَزّل آية بل آياتٍ وعلي البَعْث والحساب وعلي كل شيءٍ العالِم به لأنّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، مِمَّا يَدلّ علي كل هذا أنه ليس هناك من دابةٍ في الأرض وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك عليها وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه ولا طائرٍ من الطيور التي تطير بأجنحتها ولا غيرها من مخلوقات لا يعلمها إلا هو تعالي إلا وهي أمم أيْ مجموعات مُتَجَانِسَة الخَلْق مُمَاثِلَة لكم في أنه خَلَقَها وتَكَفّل بأرزاقها ورعايتها وحِفظها وجَعَلَ لها خصائصها ومُمَيِّزاتها ونظام حياتها ولغة تفاهمها وآجالها وانتفاعها وإسعادها بحياتها وسَخّرها كلها لنفعكم ولسعادتكم فهو لا يشغله شأنٌ عن آخر.. ".. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ ما تَرَكْنا في القرآن مِن شيءٍ مِن خُلُقٍ ولا تشريعٍ ولا نظامٍ ولا توجيهٍ ولا تحذيرٍ يُصْلِح الناس ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء.. إنَّ القرآن الكريم سعادة، وإنَّ الإسلام سعادة، كما يقول تعالي ".. فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.." (يونس:58)، لأنه يُنَظّم كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولهذا، فالقرآن، والإسلام، بكل أخلاقه وأنظمته الكاملة الشاملة للحياة كلها، ليس أبداً تَقْيِيداً لها، وإنما هو لتيسيرها وإسعادها، ولهذا فهو يَصْلُح لكل زمانٍ ومكانٍ ولكل الناس علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم، بكل مُتَغَيِّراتهم، إلي يوم القيامة، فهو يضع القواعد والأصول المُسْعِدَة ويترك للمُتَخَصِّصين في كل عصرٍ ومكانٍ وَضْع تفاصيل حياتهم بما يناسبهم ويسعدهم وبما لا يخرج عن هذه الأصول كما نَبَّهنا لذلك الرسول (ص) بقوله " أنتم أعلم بأمور دنياكم" (رواه مسلم).. كذلك من معاني الكتاب أنه اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مشتمل على كل ما يحدث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة، أيْ ما تَرَكْنا في الكتاب شيئاً لم نُحْصِه ولم نُثْبِته وإنما أَحَطْنَا بكلِّ شيءٍ علما.. فهل يُعْقَل بعد ذلك أن يَعْجَز سبحانه عن إنزال آية مع كل هذا الكمال في العلم والقُدْرَة والرحمة والفضل والرزق والرعاية لخَلْقه؟!.. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)" أيْ ثم جميع الخَلْق وفيهم هؤلاء المُكَذّبون السابق ذِكْرُهم إلي ربهم وحده لا لغيره يُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليُحاسبهم علي أعمالهم وأقوالهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)" أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً هم صُمٌّ أيْ كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهم بُكْمٌ أي كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير، وهم حائرون يَعيشون مُنْغَمِسين مُتَخَبِّطِين في الظلمات والتعاسات والتّخَبُّطات الناتجة بصورةٍ حَتْمِيَّةٍ عن الكفر وغيره من السَّيِّئات – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – بعيدين عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)" أيْ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل) وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. وأمّا مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ويجعله علي صراط مستقيم أيْ طريق مُعْتَدِل صحيح صواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)"، "بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله في الدنيا أولا في أيِّ وقتٍ مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، أو نَزَلَ بكم عذابه في الآخرة حينما تأتيكم الساعة أيْ يقوم يوم القيامة ويُحاسِبكم ويُعاقِبكم علي أقوالكم وأفعالكم – وكل مَن مات فقد أتته ساعته وقامَت قيامته إذ قد انتهي وقت عمله في دنياه – حيث سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)" أيْ هل تَدْعُون غير الله تعالي خالِقكم حينها؟! ألستم في هذه الأحوال تَلْجأون مُتَلَهِّفِين مُتَوَسِّلِين إليه وحده وتَنْسون آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها؟! لأنَّ فِطْرَتكم وقتها هي التي تَنْطِق على ألسنتكم بدون شعورٍ من عقولكم وتَحَكُّمٍ في هذه الفطرة والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)! وما دام الأمر كذلك فلماذا تعبدون أيْ تُطيعون آلهة غيره سبحانه؟! إنَّ أحوالكم تَدْعُو إلى العَجَب لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد ومع ذلك تعبدون غيره بعدها في الرخاء مِمَّا لا يستطيع مَنْع أيّ ضَرَرٍ عن ذاته فكيف بغيره؟! فإنْ كنتم صادقين في إدِّعائكم والذي هو كاذب حتماً أنَّ هذه الآلهة تنفعكم بشيءٍ فادْعُوها والْجَأوا إليها إذَن لتُنْقِذكم!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لهم ولمَن يُشبههم، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما.. "بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)" أيْ لا تَدْعُون حتماً بالتأكيد حينها أيَّ آلهةٍ غيره لكنْ إيَّاه وحده تدعون وتستغيثون فيُزيل ويُذْهِب عنكم ما تَطلبون كَشْفه إنْ أراد أنْ يتفضَّل عليكم بكَشْفه في الدنيا لأنه القادر علي كل شيءٍ العالِم به وقد لا يشاء لمصلحةٍ ما لا تعلمونها كأنْ يُعاقِبكم مثلا لإيقاظكم أو أنَّ في كشفه إضراراً بغيركم وإتعاساً له ونحو هذا من حِكَمِه العليم الحكيم سبحانه، وفي حال هذه الشِّدَّة تَنْسون وتَغِيب عن عقولكم من هَوْل الموقف ما تجعلونه لله شركاء تعبدونه ولا تَنْطِق هذه العقول إلا بالخير الذي في فطرتها!!
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)" أيْ ولقد بعثنا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إلي الناس من قبلك السابقين لك رُسُلَاً يدعونهم إلى الله والإسلام ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم فكَذّبوهم فعاقبناهم بالبأساء أيْ بالبؤس كفقرٍ وغيره وبالضَّرَّاء أيْ بالضرَر كمرضٍ ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَضَرَّعوا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان حتماً يُرَاجِع ذاته كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتضرّعوا، أيْ لكي يلجأوا إلينا ويَدْعُونا ويَرجونا ويَطلبوا عَوْننا وتوفيقنا وتَيْسيرنا ورزقنا وقوَّتنا وأمننا وحُبّنا ورضانا وإسعادنا لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدونا أي يطيعونا وحدنا ويَخضعوا ويَستسلموا لنا ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك متضرعين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وإنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ تلك الأمم لم تَعْتَبِر وتَتَّعِظ بما أصابها من شدائد فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يتعس مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ ولو كانوا حين وَصَل إليهم عذابنا تَضَرَّعوا بأنْ آمَنوا لكان خيراً لهم حتماً حيث كنّا سنَرْحمهم بالقطع فيسعدون في الداريْن بتضرّعهم هذا ولكنْ لم يفعلوا بل اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يستمرّوا علي ما هم فيه من قسوة قلوبهم أي تَصَلّب وتَشَدُّد عقولهم ومشاعرهم وأفكارهم بداخلها فلم تكن مَرِنَة رَقِيقَة لَيِّنَة مِن بعد ذلك كله الذي رأوه أمام أعينهم من عذاب، فمنعتهم هذه القسوة عن الإيمان والعودة لله والعمل بأخلاق الإسلام حتي في مِثْل هذه الأحوال التي كانت من المُفْتَرَض أن تساعدهم عليه، كما منعهم عنه تزيين الشيطان أيْ تَحْسِينه لِمَا كانوا يعملونه من سوء، أيْ تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، حيث اختاروا أيضا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)" أيْ فلمَّا نَسُوا ما ذَكّرهم الله به من البأساء والضرَّاء ولم يَتَذَكّروه ويَتّعِظوا به ويَستفيدوا منه بمُراجَعَة ذواتهم والعودة إليه، ونسوا ما ذَكّرهم به من خلال رسله وكتبه التي أرسلها معهم إليهم من العمل بأخلاق الإسلام وأعْرَضوا عنه أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عنه وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه.. ".. فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ.." أيْ حينها، وبعد كل هذه العِبَر التي لم يستفيدوا بها، وبعد كل هذا الإصرار علي الإعراض، وبعد كل هذا النسيان لربهم ودينهم وآخرتهم، ولاسْتِدْرَاجهم بجَذْبهم لمزيدٍ من السوء كعقابٍ لهم بتيسير أسبابه أمامهم أو لعلهم يستفيقون باختبارهم بالخير والرحمة بعد الشرّ والشدّة فيشكروا ربهم ويعودوا إليه (برجاء لاكتمال المعاني عن الاستدراج حتي يَحْذره المسلمون ولا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ مراجعة الآية (44) من سورة القَلَم ".. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ")، فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ من رزقٍ واسعٍ وَفِيرٍ وقوة ونفوذ وسلطان وغيره، لفترة.. ".. حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" أيْ استمرّت هذه الفترة إلي أنْ وَصَلُوا لمرحلةِ أنْ فرحوا بما أُعْطُوا من الله تعالي أيْ سُرُّوا سُرورَاً شديداً بالأرزاق الواسعة بما أدَّيَ بهم إلي الكِبْر أي التّعالِي علي الناس والتفاخُر عليهم واحتقارهم وعدم الاعتراف بحقوقهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وما شابه هذا من سوءٍ مع سهولة فِعْلهم لمزيدٍ من الشرور والمَفاسِد والأضرار بَدَلَاً أن يشكروا الله عليها ويستخدموها في الخير ليحفظها لهم ويزيدهم منها مع اطمئنانهم لحالهم هذا وعدم تفكيرهم بأيِّ توبةٍ وعودةٍ لربهم ودينهم الإسلام وتَوَهُّمهم أنهم إنما أُعْطُوا ما أُعْطُوه لكَوْن ما هم فيه هو الحقّ والصواب، حينها اسْتَحَقّوا العذاب حيث لم يَتّعِظوا لا ببأساء وضرَّاء ولا بسَرَّاء ورَخَاء، وبالتالي أخذناهم بَغْتَة أيْ فجأة بعذابٍ لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حسرتهم أشدّ ويندمون حيث لا ينفع الندم.. ".. فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" أيْ فإنهم حينئذ يائسون من أيِّ أملٍ في أيِّ نجاةٍ أو خير، مَحْزُونُون مُتَحَيِّرُون مُتَحَسِّرون مَخْذُولون
ومعني "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)" أيْ فقَطَعَ الله دابِرَ القوم الذين ظلموا، ومعني دابر أيْ آخر، والدُّبُر هو المُؤَخّرة، أيْ فأبادهم جميعا عن آخرهم بحيث لم يُبْقِ منهم أحداً وانتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، كزلازل مثلا أو براكين أو عواصف أو أوبئة أو حروب أو نحو هذا، والذين ظلموا هم الذين سَبَقَ ذِكْرُهم وهم كلّ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.." أيْ وحمداً كثيراً له تعالي علي أنْ نَصَر أهل الخير وأعَزّهم وأسعدهم وصَدَق وَعْدَه معهم وطهَّرهم من أهل الشرّ وأذَلّهم وأذاقهم ما يستحِقّونه بسبب ما فعلوه من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. ".. رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)" أيْ احمدوه لأنه هو مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا.. إنَّ إنهاء الآية الكريمة بهذا الحمد هو تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ أخذ الله منكم سمعكم وأبصاركم فأصبحتم صُمَّاً لا تَسمعون عُمْيَاً لا تُبْصِرون وغَطّيَ علي عقولكم فكنتم لا تَعقلون ولا تَفهمون ولا تُدْرِكون ولا تتحرّكون ولا تَنتفعون بالحياة، مَن إله أيْ أيّ مَعْبُود تعبدونه غير الله تعالي يأتيكم بهذا الذي أخَذَه منكم أيْ يُعيده إليكم؟! والجواب حتماً لا أحد!! إذَن فكيف تَتركون عبادة مَن يَملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويَملك كلّ شيءٍ فيكم وعندكم وتعبدون ما لا يَملك مِن ذلكم أيّ شيء؟! فأيّ سَفَهٍ وخَبَلٍ أشدّ مِن هذا؟! إنّما يَسْتَحِقّ العبادة الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ القادر على كلّ شيءٍ لا العاجز الذي لا يَقْدِر على شيء، فأين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ.." أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نُنَوِّع ونُعَدِّد ونُكْثِر من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. والآيات هي التي في كتبه تعالي إلي الناس من خلال رسلهم الكرام وآخرها القرآن العظيم والرسول الكريم محمد (ص)، وكذلك الآيات في كيفية إيقاع العذاب والهلاك بالمُكذبين حولهم كما يرونه في واقع حياتهم اليومية بصوره المختلفة ليَعتبروا به فلا يكونوا مثلهم، وبالجملة هي الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)" أيْ ثم هم بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة يُعْرِضُون عن تَدَبُّرها والانتفاع بها!! أيْ يُعْطُون ظهورهم ويَلْتَفِتون ويَنْصَرِفون ويَبتعدون عنها ويَتركونها ويُهملونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاومون نشرها ويُؤذون مَن يَتّبعونها.. وفي هذا مزيدٌ من التّعَجُّب من حالهم والرفض والذمّ الشديد له لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله، والذي تَستحِقّونه بسبب أنكم صَدَفْتُم أيْ أَعْرَضْتُم عن الإسلام، في دنياكم قبل أخراكم مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً.." أيْ سواء أكان هذا العذاب فجأة بغير مُقَدِّماتٍ أو واضحاً بمقدمات تُؤَكّد حُدُوثه.. ".. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)" أيْ هل يُهْلِك أي يُبِيد الله تعالي بهذا العذاب أحداً غير القوم الظالمين؟! إنه حتماً لا يُهْلَك به إلاّ هم! إلاّ أنتم لأنكم منهم! ولن يُمكنكم إيقاف العذاب أو الهروب منه علي أيِّ صورةٍ أتاكم لأنكم ظالمون تَسْتَحِقّونه! والقوم الظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. أمَّا المُطِيعون لله تعالي أيْ المُتمسّكون العامِلون بأخلاق إسلامهم فهم حتما علي العكس من ذلك تماما حيث تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فمَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً، أن يحصد كل خيرٍ وسعادة، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءاً، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة، فهذا هو القانون الإلهيّ العادِل للحياة الدنيا وللآخرة والذي نبَّهنا له ربنا تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)" أيْ هذا بيانٌ لمهِمّة الرسل الكرام ولحِكْمة إرسالهم.. أيْ ولا نَبْعَث المَبْعُوثين للناس أي الرسل إلا ليكونوا مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرُون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي يَأْتُون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك وعمل بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ مُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. فَمَنْ آمَنَ.." أيْ فأيّ أحدٍ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وإذا عمل شرا ما تاب وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)" أيْ فقطعاً مِثْل هؤلاء بالتالي حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيِّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يُوعَدون بها من ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ.." أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لابُدّ حتماً بالتأكيد أن يُصِيبهم العذاب الأليم أيْ المُؤْلِم المُوجِع في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)" أي وذلك بسبب أنهم كانوا في الدنيا يَفسقون أيْ يَخرجون عن طاعة الله والإسلام
ومعني "قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)" أيْ هذا بيانٌ لمُرَاوَغَة المُكَذّبين وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم لا يَنْقصهم الدليل على صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) حيث كانوا هم بأنفسهم يعترفون بصِدْقه ويُسَمُّونه الصادق الأمين ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم يَطلبون مُعْجِزَة حِسِّيَّة يرونها بأعينهم تدلّ علي صِدْقه كالتي أيَّدَ بها رسله السابقين كعَصَيَ موسي مثلا أو إحياء الموتي لعيسي، ولو جاءهم بها لآمَنوا!! وفي هذا تكذيبٌ ضِمْنِيّ وعدم اعتراف بمعجزة القرآن العظيم واستهانة بشأنها رغم أنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهَدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُصَدِّقون الرسول إلا إذا كان عنده خزائن الخيرات والمُعجزات فيأتيهم بما يَطلبون من أرزاق ومعجزات وأن يُخبرهم بالغيب وما يَحدث لهم في مستقبلهم حتي يَستزيدوا من خيره ويَتَجَنّبوا شَرَّه وأن يكون مَلَكَاً لا بَشَرَاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلهم وأن يكون عظيماً غَنِيَّاً لا يتيماً وإلا فهو ليس برسول!!.. إنهم يَعتبرون من وِجْهَة نَظَرهم السطحية ومن مقاييسهم الخاطئة أنَّ المال والسلطان هو أول مُقَوِّمات النبوة والرسالة وليس حُسن الخُلُق أولا ثم بقية المُوَاصَفات!! والرسول (ص) كان نَسَبه في القِمَّة من الشرف والسّمُوّ بين قومه وكانوا يُلَقِّبونه بالصادق الأمين وهو أكمل الرجال خُلُقَاً وعقلا ورأيا وعَزْما وحَزْما ورحمة وشفقة وتقوي ولا يُقارَن قطعا بمَن يَدَّعِي أنه عظيم غنيّ وهو سَفِيه يعبد صَنَمَاً لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَنفع ولا يَضرّ! إلاّ أنه (ص) لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا وهم يريدون أن تكون النبوة في زعيمٍ من زعمائهم أو غنيّ من أغنيائهم!.. فهذه الطلبات وما يُشْبِهها هي من وسائل مُرَاوَغاتهم من أجل ألاّ يُسْلِموا ومن أجل تشويه صورة القرآن والرسول (ص) والتشكيك فيهما والتنفير من الإسلام حتي لا يَتِّبعه الناس ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، فقُل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم "قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ.." أيْ ليس عندي أبداً ولا أمْلِك أيَّ تَصَرُّفٍ في خزائن الله – جمع خزينة وهي ما تُخَزَّن فيها الأشياء – بحيث أتَصَرَّف فيها وأعطيكم ما تطلبونه مِنّي من أرزاقٍ ومعجزات، فهو له وحده سبحانه مَفاتيح خزائن كل ما في السموات والأرض التي فيها رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، أمَّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزق خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به من ربهم قد مَلّكَهم إيَّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا، فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون، وسيُيَسِّره لكم حتما، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين ليطمئنوا تماما علي ضَمَان أرزاقهم.. ".. وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.." أيْ وكذلك لا أعلم كلّ ما غابَ عنكم من ماضٍ وحاضرٍ لا تعلمونه ومستقبلٍ آتٍ بحيث أخبركم به لتَسْتَعِدُّوا له، فهو وحده سبحانه عالم الغيب أيْ عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وهو لا يُطْلِع علي الغيب والعلم الذي يَملكه ويَعلمه هو وحده أحداً من خَلْقه، إلا مَن رَضِيَه وقَبِلَه سبحانه واختاره مِن خَلْقه أن يكون رسوله للناس ليبلغهم الإسلام سواء مِن البَشَر أو الملائكة كجبريل فإنه يُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغيب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند المُرْسَل إليهم فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي جاء به ليسعدوا في الداريْن.. ".. وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ.." أيْ وأيضا أنا لستُ مَلَكَاً من الملائكة حتى تَطلبوا مِنّي أفعالاً خارِقَة للعادة تستطيعها هي ولا يُطيقها البَشَر!!.. ".. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.." أيْ قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي الله الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟!.. ".. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباع الوحي والعمل بكل أخلاقه لا بغيره، مع مزيدٍ من التأنيب واللّوْم لهم.. أي قل لهم أيضا مُتَسَائِلاً مُذَكّرَاً مُنَبِّهَاً لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسوا فيهما، هل يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح؟! والمقصود الفرق الشاسع الذي لا يُقَارَن بين الكافر والمؤمن، أيْ بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك العامل بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالبصير وهو المؤمن، قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ وعَمل به ونَشَرَه لغيره، بينما الأعمي وهو الكافر فهو قطعاً في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان.. ".. أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)" أي هل لا تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَعَمَّقون في هذه الأمور وأمثالها وتَتدَبَّرون فيها فتستفيدون منها وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)" أيْ وحَذّر بهذا القرآن العظيم بما فيه من تحذيراتٍ وتَبْشِيراتٍ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم جميع الناس لكن الذين سيَنتفعون بأخلاقه وبهذا التحذير والتوجيه ويعملون به فيسعدون في الداريْن هم فقط المسلمون الذين يعلمون ويتأكّدون أنهم سيُجْمَعون إلي ربهم يوم القيامة لحسابهم ويَخافون أن يُحْشَروا وهم في حالةِ تقصيرٍ أو معصيةٍ أو عدم استزادةٍ من فِعْل كلّ خيرٍ وليس لهم حينها غير الله تعالي أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمرهم ويُدافع عنهم ولا أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده لكي يعفو عنهم وينقذهم مِمَّا هم فيه، إلا إذا أذِنَ هو سبحانه لمَن يَشفع لهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)" أيْ لكي يَتّقوا الله بهذا التحذير والتوجيه والتذكير أيْ لكي يَخافوه ويُراقِبوه ويُطيعوه ويَجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونوا دوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)" أيْ ولا تُبْعِد يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، ولا تَبْتَعِد عن، الذين يَدْعون أيْ يَعبدون أيْ يُطيعون ربهم بأوَّل النهار وآخره أيْ طوال اليوم وبالتالي طوال حياتهم حتي مماتهم، يريدون وجهه سبحانه أيْ ذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الداريْن، أيْ يَعبدونه مُخلصين مُحْسِنين أيْ لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو توجيهٌ وإرشادٌ لكل مسلم أن يكون دائما مع الصالحين المُصْلِحين، أيْ مع الصحبة الصالحة ما أمكنه هذا، في مجتمع الصلاح والخير والحقّ والعدل، المجتمع الذي يُعين بعضه بعضاً ويَتناصح فيما بينه علي التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد السعادة التامّة في دنياه وأخراه، وهذا المجتمع يقوم بواجبه – فُرَادَيَ وتَجَمُّعات ومؤسّسات – بدعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ مع الصبر علي أذاهم لتسعد البشرية كلها مثل سعاداتهم في دنياها وأخراها.. كما أنَّ الآية الكريمة تُوَجِّه ضِمْنَاً الدعاة لله وللإسلام لعدم التفرقة أبداً بين المَدْعوين، بمعني أن يُبْعِدوا مثلا الفقراء الضعفاء ولا يَهْتَمّوا بهم ويُقَرِّبوا الأغنياء الأقوياء ويُعطونهم مزيداً من الاهتمام لأنهم من وجهة نظرهم قوة للإسلام والمسلمين وهذا قد يكون صحيحا أحيانا لكن دون تفرقةٍ في دعوتهم والأمر يرجع لتقدير الداعي فلعلّ فقير ضعيف لكنه قوي التمسّك والعمل بالإسلام أفضل وأعظم وأنفع مِن غَنِيٍّ بعيدٍ عن ربه ودينه وأعلي وأكرم وأعزّ منه في الداريْن والواقع يُثبت ذلك كثيراً فعَلَيَ المسلم إذَن أن يبدأ بدعوة مَن يريد الاقتراب مِن ربه والعمل بإسلامه ويسعي لذلك سواء أكان غنيا أم فقيرا مُتَعَلّماً أم جاهلاً شريفا أم وضيعا أم غيره، ويُؤَجِّل دعوة المُعانِد المُكابِر سواء أكان غنيا أم فقيرا أيضا، ويتّخِذ من أساليب الدعوة ما يراه مناسبا لتحريك فطرة عقله وتغييره تدريجيا، وأن يحرص علي دعوة الجميع لكن مع حرصه الشديد هذا وحبه العظيم لهم ليعملوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا مثله تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليه أن يكون مِثْل الرسول الكريم (ص) مُتَوَازِنَاً في دعوته لهم مُحْسِنَاً في تصنيفهم مِن حيث درجة إقبالهم وكيفية معاملتهم مُوسِعَاً جهده وفِكْره وصبره للجميع داعياً كلاّ منهم بما يُناسب أحواله وظروفه وبيئته وثقافته، مُجْتَهِدَاً ألاّ يَصِل إلي المرحلة التي يُعَاتِب فيها الله تعالي الدعاة إذا وَصَلُوا إليها أحيانا حينما تَكْثُر عليهم جهود الدعوة والتَّعامُل مع المَدْعُوِين وهي مرحلة ما وَرَدَ في سورة عَبَس "عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1)"، "أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2)" أيْ تَغَيَّرَ وَجْهُه وكَشَّرَ جَبِينَه بما يُظْهِر بعض الضِّيق مِن تَصَرُّفات مَن يَدْعوه، وتَوَلّي عنه أيْ أعطاه ظَهْره والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ وتَرَكَه وأهمله، وذلك بسبب أنْ أتَاهُ مثلا مَدْعُو أعمي أو جاهل أو فقير أو مَن يُسِيء التَّصَرُّف أو القول أو مَن يُشبه هؤلاء مِمَّا يَصعب حَصْره مِن أحوال الناس الذين يحتاجون الصبر عليهم لتعريفهم بربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3)"، "أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4)" أيْ وأيّ شيءٍ يَجعلك دَارِيَاً عالِمَاً بحقيقة أمره أيها الداعي إلي الله والإسلام حتي تَتَوَلّي عنه فلعلّ هذا المَدْعُو الذي قد عَبَسْتَ في وجهه وتَوَلّيْتَ عنه يَتَزَكَّي أيْ يَتَطَهَّر من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأن يعمل بأخلاق الإسلام فيَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيَسعد – والتزكية هي التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات – ويَتَذَكَّر ما كان في غَفْلَةٍ عنه ويَتَّعِظ ويَنتفع بما سَتُذَكِّره به من ذِكْرَيَ وعِظَة مِن كل خيرٍ في الإسلام، لو كنتَ صَبَرْتَ عليه وأحسنتَ دعوته بما يناسبه، فتنالَ بذلك أعظم الثواب، فإنَّ الذي يُيَسِّر أسباب الهداية للناس ويهديهم إليها هو الله تعالي خالقهم وما أنت إلا سبب من هذه الأسباب، فلو دَرِيتَ كلّ هذا وتَنَبَّهْتَ له لَمَا حَدَثَ ذلك منك، "أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5)"، "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6)"، "وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7)" أيْ أمَّا مَن كان مُسْتَغْنِيَاً عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6)" أيْ فأنتَ تُقْبِل عليه وتَتَقَدَّم إليه وتَتَعَرَّض له وتَهْتَمّ بدعوته لله وللإسلام، وكان مِن المُفْتَرَض ألاّ تَهتمّ به إلاّ بالقَدْر الذي يُناسبه علي حَسَب تقديرك لحاله، لأنَّ الإقبال على المُعْرِض قد يكون فيه تضييع للجهود والأوقات فيكون من الأفضل توفيرها لغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (7) حتي (12) من سورة عبس).. ".. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ فإنْ أحسنتَ أيها المسلم دعوة غيرك لله وللإسلام ونصيحته بكل الوسائل المُمْكِنَة ما استطعت، فلا شيء عليك بعد ذلك، لا شيء عليك إنْ أساءوا أو أحسنوا، وهم لا شيء عليهم إنْ أحسنتَ أو أسأت، فلكلٍّ عمله، ولكلٍّ حسابه، فأنتَ لا تُحاسَب عنهم، وهم لا يُحاسَبون عنك، فليس عليك من حسابهم أيّ شيءٍ وليس من حسابك عليهم أيّ شيء، فأنتَ لستَ مسئولا أمام الله عن شيءٍ من أعمالهم، كما أنهم ليسوا مسئولين عن شيءٍ من أعمالك، فمَن أحسنَ فله كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومَن أساءَ فله ما يُناسب من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ شرور أحد، فكلٌّ مسئولٌ عن عمله، فهذا هو عَدْل الله تعالي، وهو وحده الذي يُحاسِب الجميع، ولا يَملك أحدٌ غيره ذلك، كما أنه لا يملك أحدٌ مَنْع الإسلام عن إنسانٍ مَا وطرده منه ومن رحمة الله لأنه فقير أو مريض أو جاهل أو أساء مثلا والسماح لآخر!! فلا دَخْل للفقر والغني والقوة والضعف بقضية الإيمان!! وليس أحدٌ عبداً لأحد!! وإنما الجميع عبادٌ لله أيْ طائعين له، وهو وحده سبحانه الذي يعلم دواخلهم ونواياهم وما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولا أحد يعلمها غيره، وبالجملة لو كنتَ أنت الذي تُحاسبهم لجَازَ لك أن تطردهم!! فلا تكن قاضيا علي الناس تُقَيِّم إسلامهم وتُحاسبهم عليه بل أنت فقط داعي لهم للخير وتأخذ منهم ما ظَهَرَ منهم وتَقْييمهم هو عند خالقهم تعالي الذي يعلم السرّ وما هو أخفي منه.. ".. فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)" أيْ فإنْ طَرَدتهم، فإنْ جَعَلْتَ ونَصَّبْتَ نفسك أيها المسلم قاضياً تَحْكُم علي هذا بالإيمان والآخر بالكفر وتُبْعِد هذا لفقره وضعفه وتُقَرِّب ذاك لِغِنَاه وقُوَّته، وما شابه هذا من سوءِ تَصَرُّف، فأنت بالتالي لا تَزِن بمَوَازين الله تعالي ولا تُقَيِّم بقِيَمِه وتَتدخّل فيما هو خاصٌّ به، فتكون حينها حتماً من الظالمين لأنفسهم – وأيضا لغيرك بوَضْعِه في مَوْضِعٍ سَيِّءٍ لم يَسْتَحِقّه – بتعريضها لعقابٍ مُناسبٍ من الله في دنياك وأخراك لسوء فِعْلك هذا، فلا تَفعل ذلك إذَن فتَتْعَس فيهما
ومعني "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذه الفتنة وغيرها من الفِتَن أيْ الاختبارات فَتَنَّا أيْ اختبرنا ونَختبر بعض الناس ببعضٍ منذ بدء الخَلْق وحتي يوم القيامة، بتَغَيُّر أرزاقهم وقُوَّاتهم ومُمْتلكاتهم وغيرها علي حسب ما يتّخِذونه من أسباب، ومن هذه الاختبارات ومن مظاهرها اختبار الأغنياء بالفقراء وعلاقة كلٍّ من الفريقين بالإسلام، حيث هو اختبار كبير قد لا ينجح فيه بعضهم، وهو أنَّ الأغنياء قد يَأْنَفون ويَمتنعون من دخول الإسلام إذا رأوا أنه يُسَاوِي بين الجميع ولا فضل لأحدٍ علي آخر سواء أكان غنيا أم فقيرا قويا أم ضعيفا إلا بمَدَيَ تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه، فإنْ أحسنوا استخدام عقولهم أسْلَموا حتماً وسعدوا في الداريْن وعَاوَن الغنيّ الفقير ليَغْتَنِي هو الآخر ليَرْقَيَ الجميع ويَسعدون، أمَّا إنْ عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فإنهم سيقولون بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة وتحَجُّج بحجَج سفيهةٍ ساقطةٍ لا قيمة لها مُطلقا حتي لا يُسْلِمُوا هل هؤلاء مَنَّ الله عليهم أيْ أعطاهم الإسلام من بيننا أيْ غيرنا وتَرَكَنا نحن فلم نُسْلِم ولم يُيَسِّر لنا ذلك؟! إنه لو كان الإسلام خيراً أيْ نافِعَاً مُفيداً مُسْعِدَاً للناس في دنياهم وكان حقاّ أيْ صِدْقَاً ما كان أمثال هؤلاء الفقراء الضعفاء سبقونا إليه حتماً حيث نحن بمَكَانتنا ورَجَاحَة عقولنا وسعة إدراكنا وحُسْن تقديرنا وخبرتنا أعرف بالخير وبالصدق من هؤلاء الذين آمنوا الضعفاء عقلا ومَكَانَة ومالا وقوة!! وبما أنهم هم الذين سارَعوا إليه وليس نحن فهو إذن ليس خيراً وليس صِدْقاً لأنّ مَعَالي الأمور لا يَصِل إليها أمثالهم بل أمثالنا!! هكذا بكل سطحية وسفاهة وإقلابٍ لحقائق الأمور!! وما ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. هذا، وفتنة الفقراء بالأغنياء تكون حين يَروا سعة أرزاقهم حيث قد يحقدون عليهم ويُسيئون إليهم ويَتضايقون من فقرهم وسوء أحوالهم ويَتَوَهَّمون أنَّ إسلامهم سَبَبٌ فيها رغم أنهم لو صَبَروا وأحسنوا اتّخاذ أسباب الرزق والتّوَكّل علي ربهم لصاروا غالبا أغنياء صالحين.. ".. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)" أيْ هل لا يعلم هؤلاء أنَّ الله لا يحتاج إلي مثل هذه الادِّعاءات الكاذبة والمُرَاوَغات منهم لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه هم عن ذواتهم؟!! ألا يعلم الناس جميعا أنه تعالي يعلم تماما ما يقولونه ويقصدونه بداخل عقولهم ويفعلونه من خيرٍ أو شرٍّ سواء في الظاهر أمام الآخرين أم بمفردهم؟!! إنه سبحانه حتما يعلم الشاكرين لربهم علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. إنَّ الشاكرين هم المُسْتَحِقّون قطعاً لإنعام الله بكل خيرٍ وسعادةٍ وأمّا الكافرون فلا يُعْطَون ولا يُزَادُون لكفرهم النِّعَم وعدم شكرهم لها ولو زادهم فلا بَرَكة فيها ولا سعادة بها بل كل شقاء دنيويّ وأخرويّ بسببها.. إنه تعالي أعلم بالمسلم الشاكر فيُوَفّقه ويزيده وبالكافر لوجوده ولِنِعَمِه فلا يُوَفّقه ولا يُسعده فليس الأمر إذَن لِغِنَي وقوة أو لفقرٍ وضعفٍ وإنما علي قَدْر الشكر يكون الفضل والكرم والإسعاد من الله في الداريْن
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وإذا كنتَ من الذين ينشرون السلام والرحمة والخير والحقّ والعدل والبِشْر والسعادة بين عموم الناس خاصة المسلمين الصالحين منهم.. وإذا كنتَ من الذين يَدْعُونهم لسرعة التوبة من أيِّ سوءٍ وشَرٍّ تَمَّ في وقتِ غفلةٍ وجهلٍ بعواقبه الدنيوية والأخروية، والعودة للصلاح، ولرحمة ربهم الغفور الرحيم ولكَرَمِه ولحُبِّه، وللسعادة التامة في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)" أيْ وإذا حَضَرَ إليك وقابَلْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الذين يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. بِآَيَاتِنَا.." أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.." أيْ فقل لهم تكريماً وتَبْشِيرَاً وطَمْأَنَة وإسعاداً لهم سلامٌ عليكم أيْ تحية لكم من الله خالِقكم وبِشَارَة منه بمغفرته ورضوانه ورحمته وكرمه وعطائه مادُمْتُم مُتّبِعين لدينه الإسلام عامِلين به في كل شئون حياتكم وأطلب منه وأدعوه أن يعطيكم السلام والأمن والاستقرار والخير كله والسلامة مِن كلِّ سوءٍ قوليّ أو فِعْلِيّ والطمأنينة والسعادة في أعلي درجات الجنات بعدما يُعطي لكم ذلك في دنياكم، وهذه التّحِيَّة وهذا الدعاء دلالة علي الحب والصفاء والأمان والترحيب والتعاون بين الناس، وفيها ما يُشَجِّع علي فِعْل كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن وتَرْك كل شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.." أيْ وأخْبِرهم وبَشّرْهم أنَّ ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – هو الذي قد أوْجَبَ علي نفسه الرحمة بالناس وبكلّ خَلْقِه في كلّ كَوْنِه في الدنيا والآخرة أيْ التزمَ وقَضَيَ وحَكَمَ ووَعَدَ أنْ يَرحم وَعْدَاً أكيداً لا يُخْلَف أبداً منذ بدء خَلْقهم تَفَضُّلاً منه وكرماً وإحساناً، فهذه من صفاته تعالي والذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وذِكْر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وَعْده وأنه لا واسِطَة بينه وبينهم، وذِكْر لفظ "كَتَبَ" يُفيد كأنَّ الرحمة قد سُجِّلَت في كتابٍ لمزيدٍ من تأكيدها ووجوب تنفيذها، وفي هذا اجتذاب منه تعالى للمُبْتَعِدين عنه لكي يعودوا مُسرعين إليه وإلي إسلامهم ليسعدوا تماما في الداريْن حيث باب التوبة مفتوح دائما ورحمته وَسِعَت كل شيءٍ ودائماً تَسْبِق غضبه، ومِن مظاهر هذه الرحمة الواسعة التي لا تُوصَف، في الدنيا أولا قبل أخراهم، أنه يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم، ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. ".. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)" أيْ ومِن مَظاهِر هذه الرحمة كذلك أنه مَن عمل منكم شَرَّاً مَا أيْ معصية مَا أيْ ذنباً مَا بجهالةٍ أيْ يعمله بسبب جَهْلٍ منه بنتائجه الضَّارَّة المُتْعِسَة له ولمَن حوله حيث يفقد حب ربه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه وسعاداته في دنياه وأخراه، وبالتالي فكلّ عاصٍ لله مُخْطِئَاً أو مُتعمِّداً فهو جاهل حتي وإن كان عالماً بالتحريم، لأنه قد عَطّلَ عقله وقت فِعْلها فكان كالجاهل السَّفِيه الذي لا عِلْم له، وبالتالي فكلّ شرٍّ يُفْعَل لا بُدَّ وأن يكون مَصْحُوبَاً بجَهَالَة! وبناءً علي ذلك فالذنوب جميعا يَقْبَل الله التوبة منها!.. والتوبة هي الرجوع لله ولطاعته من خلال العمل بأخلاق الإسلام وتكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للمُسِيء سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ، وهذا هو معني ".. ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ.." أيْ تابَ مِن بعد عمله للسوء.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)" أيْ فشأن الله معه أنه حتماً يَقبل توبته ويعفو عن ذنوبه ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُزيل عنه آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتره ويُعينه ويُسعده، لأنه هو غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)" أي وهكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، ولكي كذلك تَسْتَبينَ أيْ تَتّضِح وتَظْهَر بها تماما لهم طريقُ المجرمين فلا يَتّبعوها لأنها طريق كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن حيث هي طريق الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُجْرِمين، للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني مُنِعْتُ، مَنَعَنِي ربي لمصلحتي ولسعادتي، بما أنزله لنا من إسلامٍ بفضله ورحمته وبما أعطاه للجميع من عقلٍ وفطرةٍ مسلمةٍ بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أنْ أعبدَ أيْ أطِيعَ (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة) الذين تَعبدون أيْ تُطِيعون غير الله تعالي من آلهةٍ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وقل لهم أيضا لا أسيرُ خَلْفَ ولا أطيعُ شروركم ومَفاسدكم وأضراركم وأتْرَك أخلاق الإسلام، فإنْ فَعَلْتُ ذلك فقد ضَلَلْتُ بالتالي إذَن حتماً أيْ ضِعْتُ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَتُ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، وأنا لستُ أبداً بالتأكيد من فريق المُهْتَدِين – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الضلال – أيْ من الراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)" أيْ قل لهم كذلك إني سائِرٌ علي شريعةٍ واضحةٍ وهي الإسلام مُتَمَسِّكٌ مُتَّبِعٌ عامِلٌ بها لا أفارقها أبداً مُنَزّلَة من ربّي في قرآنه العظيم الذي يُبَيِّن ويُوَضِّح للناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها حيث يُنَظّمها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. كذلك من المعاني أنْ قل لهم إني علي بَيِّنَةٍ أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ ويقينٍ لا يتزعزع بوجود ربي ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق قرآنه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله.. ".. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ.." أيْ وأنتم لم تُصَدِّقوا برَبّي – أيْ مُرَبِّيني وخالِقي ورازِقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – فلم تعبدوه بل عبدتم غيره وكذّبتم بقرآنه فلم تعملوا بالإسلام الذي فيه وعملتم بغيره من أنظمةٍ مُخَالِفَةٍ له مُتْعِسَةٍ لكم.. ".. مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.." أيْ ما أمْلِك وما في قُدْرَتِي إنزال عليكم ما تستعجلون به من عذابِ الله تريدون حدوثه سريعا لإثبات صدقي فيما أقوله لكم أنَّ مَن يُكَذّب يُعَاقَب في الدنيا بعقابٍ مَا ثم في الآخرة بتمام العقاب!! فما الحُكْم والأمر والسلطان والتقدير لهذا التقديم أو التأخير للعذاب – وكل شأنٍ من شئون الخَلْق والكَوْن وإنزال معجزاته لبيان كمال قُدْرته وعِلمه ونصر دينه الإسلام ونشره وما شابه هذا – إلا لله تعالي وحده يُنزله ويُحْدِثه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً ليُحَقّق الخير والمصلحة والسعادة للبشرية بنزول مُعجزاتٍ خارقاتٍ وبنصر أهل الخير وبتطهيرها من شرور أهل الشرّ.. وهذا رَدٌّ علي المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين السُّفَهاء الجُهَلاء الذين يستعجلون من الرسول والمسلمين نزول العذاب بهم كما يقولون أو المُعجزات وإلا فهم كاذبون وهم بالتالي لن يَستجيبوا لهم ويُسْلِموا!!.. إنهم كانوا في دنياهم يستعجلون حدوثه لأنهم كانوا لا يُصَدِّقون به بل ويَستبعدونه ويَعتبرونه مُستحيلا ويقولون ساخرين منه مُسْتَهْتِرين به مُكَذّبين له متي هذا الوعد الذي تَعِدوننا به أيها المسلمون إنْ كنتم صادقين؟!.. إنهم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا ويَتَدَبَّروا في القرآن العظيم ويُحسنوا استخدام عقولهم ليهتدوا به للخير وللسعادة في الداريْن كما هو يُتَوَقّع أن يَحْدُث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟!.. ".. يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)" أيْ وهو واقعٌ بكلّ تأكيدٍ بلا أيّ شكّ لأنَّ الله تعالي دوْماً يقول القول الحقّ ويَقُصّ القصص الحقّ ويُخْبِر الخَبَر الحقّ في القرآن العظيم الحقّ ومن خلال رسوله الكريم الحقّ ويَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير الفاصِلين أيْ القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث
ومعني "قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)" أيْ قل لهم كذلك لو أنَّ في قُدْرَتِي وأملك إنزال عليكم ما تستعجلون به من عذابٍ – أو في استطاعة أيّ مسلم – لأنزلته ولأنزله المسلمون عليكم ولَتَخَلّصْنا منكم سريعا، لأنكم تَسْتَحِقّونه، وغَضَبَاً لربنا، وعقاباً لتكذيبكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار، وإراحة لأهل الخير منكم ومِن تعاساتكم، ولَاَنْتَهَىَ الأمر حينها بينى وبينكم بذلك، ولكنَّ الأمر لله وهو أعلم مِنِّي ومِن أيِّ أحدٍ بما يَسْتَحِقّه الظالمون من العذاب العاجِل أو الآجِل، وبمتي يُعَاقِبهم، وبمَن يَسْتَحِقّ أن يُعَذّب منهم فَوْرِيَّاً وبمَن ينبغي أن يُتْرَك لفترة لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب، لأنه العليم الخبير القدير علي كل شيءٍ الذي عنده ما تستعجلون به ويعلم أحوال كل خَلْقه، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا وَثَقْتَ ثِقَة تامَّة وصَدَّقْتَ صِدْقَاً كاملاً بما يُخبرك به الله تعالي، الحقّ العدل الصدق الذي هو بكل شيءٍ عليم، من خلال رسله وكتبه التي أرسلها للبَشَر، من الغيب، وهو كل ما غابَ عن إدْرَاكِك وحَوَاسِّك، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا تعلمه أم من المستقبل، لأنك بذلك ستُحْسِن الاستفادة مِمَّا مَضَيَ، وستُحْسِن الاستعداد لِمَا هو قادِم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)" أيْ وعند الله تعالي مَخَازِن الغَيْب ومَفاتيحه – مَفاتِح جَمْع مَفْتَح أيْ مَخْزَن وجمع مِفْتاح أيْ آلة الفَتْح للأبواب – أيْ كلّ علوم الغَيْب، لا يملكها كلها بالتأكيد ولا يُحيط بها علما ولا بطُرُق الوصول إليها وفتحها وكَشْفها إلا هو وحده سبحانه ومَن يريد أن يعطيه بعضها كرسله الكرام، والغَيْب هو كل ما غابَ عن إدْرَاك وحَوَاسِّ البَشَر، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحْدُث في الكَوْن من أحداثٍ تَغِيب عنهم أو في مستقبلهم ونحو هذا.. ".. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إحاطة علمه تعالي بكل شيءٍ وبَيَان أنه لا يعلم الغيب فقط بل يعلم حتماً أيضا المُشَاهَد المَرْئِيّ المُدْرَك لحَوَاسّ الناس وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وللشكر وللتوكّل عليه وحده، فهو سبحانه يُحيط علمه كذلك بجميع الموجودات في البرّ والبحر المَرْئِيَّة والمَخْفِيَّة ولا تسقط أيَّة ورقة كانت إلا يعلمها، وهذا مزيدٌ من المُبَالَغَة في العلم والتأكيد علي كماله وشموله لكلّ شيءٍ صَغُرَ أم كَبُر، ولا تسقط ولا توجد حبَّة مَا في باطن وخفايا الأرض ولا شيء رطب ولا يابس إلا وهو سبحانه يعلمه علماً تامَّاً شامِلاً لأنَّ كل ذلك مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)" أيْ ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكلّ خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) أنه هو وحده الذي يَقبض ويَستردّ أرواحكم بالليل حين نومكم، أو إذا نِمْتُم نهارا، بما يُشبه قَبْضها عند موتكم، ثم يُوقِظكم.. وهذا دليلٌ قاطعٌ واقِعِيٌّ أمامكم علي تمام قُدْرَته تعالي علي بَعْثكم لحسابكم يوم القيامة.. ".. وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.." أيْ يعلم ما تفعله وتكسبه جَوَارِحكم – أيْ أيديكم وأرجلكم وألسنتم وأعضاؤكم – بالنهار، أيْ يعلم بتمام العلم ما تعملونه وتكسبونه من أعمالِ خيرٍ أو شرٍّ فيه وفي أيِّ وقتٍ بعد استيقاظكم.. ".. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى.." أي ثم بعد أن يَتَوَفّاكم بالنوم يُوقِظكم ويُرْسِلكم في النهار وفي يومكم وفي عُمْرِكم ويَستمرّ الحال هكذا لأجل أن يَقْضِىَ كلُّ فردٍ منكم أجَلَه المُسَمَّىَ أيْ وقته المُحَدَّد له في هذه الحياة الدنيا في علم الله تعالى والذي لا يعلمه إلا هو وحده حيث قد جَعَلَ سبحانه لأعماركم آجالا مُحَدَّدَة لا بُدّ من قضائها أيْ إتمامها وإنهائها قبل موتكم.. ".. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)" أيْ وهو الغالب لكلّ شيء، فالجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. ".. وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً.." أيْ وهو الذي يَبْعث عليكم أيها الناس ملائكة تَحْفَظ لكم تمام الحِفْظ كل أقوالكم وأفعالكم خيرها وشَرّها وتُحْصِيها وتُسَجِّلها لكم كاملة تامّة بكل أمانةٍ لتُحَاسَبُوا عليها يوم القيامة.. هذا، ومن معاني حفظة أيضا أنها تحفظ نظام الكوْن تنفيذا لأوامر الله تعالي بما يَحفظ لكم – ولكل خَلْقه – منافعكم وقُوَاكُم ليتحقّق لكم تمام الراحة والطمأنينة والسعادة.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)" أيْ يستمرّ هذا الحال إلي أن يأتي الموت لكلّ أحدٍ منكم في موعده المُحَدَّد له مِنّا وينتهي أجله في الحياة الدنيا حينها تَقْبِض روحه ملائكتنا التي نرسلها لذلك وهي لا تُفَرِّط أيْ لا تُقَصِّر مُطلقاً فيما تُؤْمَر به ويُوكَل إليها ولا تُضَيِّعه ولا تُؤَخّره ولا تَتَهَاوَن فيه
ومعني "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)" أيْ ثم أُعِيد هؤلاء الموتي وجميع الخَلْق بعد موتهم وبعد نهاية الحياة الدنيا إلي الله مالِكهم وخالِقهم ومُتَوَلّي أمورهم الحقّ الذي لا يُخالِطه أيّ شكّ المُتَحَقّق تماماً وجوده وسلطانه فلا سلطان ولا حُكْم ولا ولاية لأيِّ أحدٍ غيره المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ العدل الذي لا يَحكم إلا بالحقّ، ليَتَوَلّي حسابهم ومُجازاتهم.. ".. أَلَا لَهُ الْحُكْمُ.." أيْ لله تعالي وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا الحُكْم أيْ هو الذي سيَحكم أيْ سيَقْضِي وسيَفْصِل بينهم جميعا في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)" أيْ والله تعالي هو أسرع الذين يُحاسِبُون ويُجَازُون، لأنه لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوِغِين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن الذي ينْقِذكم ويُخَلّصكم من أهوال ومَخَاوِف البرّ والبحر إذا حَدَثَت لكم؟! كزلازل مثلا وبراكين وعواصف وأمواج جارفة ورياح شديدة ومخلوقات مُرْعِبَة مُهْلِكَة وما شابه هذا مما يُعَرِّضكم للخطر وللخوف وللهلاك ويَحْدُث واقعاً كثيراً أمامكم.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث منهم.. ".. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً.." أيْ إنكم فى هذه الحالة تلجأون بالدعاء والسؤال إلى الله تعالي وحده لا إلي أيِّ أحدٍ غيره، تدعونه عَلَنَاً تَضَرُّعَاً أيْ بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ وتدعونه كذلك خُفْيِة أيْ في الخفاء وإسراراً بدواخلكم، تدعون خالقكم وحده وقتها بكل إخلاصٍ أيْ صِدْقٍ في دعائكم وفي طاعتكم له مُخْلِصين مُحْسِنين وتَتركون وتَلفظون وتَنسون آلهتكم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تنطق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، إنكم حينها تَنسون بل تَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلِّ شيءٍ لأنكم متأكّدون أنها لن تنفعكم بأيِّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. ".. لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)" أي تدعونه حينها قائلين وَاعِدِين وَعْدَاً لئن أنْقَذنا الله مِمَّا نحن فيه فسنكون بكل تأكيدٍ من الشاكرين له بأن نعبده أيْ نطيعه وحده بلا أيِّ شريكٍ له في العبادة وبأنْ نَتّبِع دينه ونظامه الإسلام كله بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له
ومعني "قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الله وحده خالِقكم القادر علي كلّ شيءٍ الغفور الرحيم الكريم الودود ينقذكم من هذه الشدائد والمَخَاوِف ومن كلّ أمرٍ شديدٍ مُحْزِنٍ مُؤْلِمٍ مُتْعِسٍ آخَر، ثم أنتم مع ذلك وبعد هذا الإنقاذ وفي حال الرخاء تُشركون معه في العبادة أي الطاعة غيره مِمَّا لا يَمنع شَرَّاً ولا يُحَقّق خيراً، مُخْلِفين بذلك وَعْدَكم، فبَدَلاً أن تشكروه تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي منها نعمة نجاتكم مِمَّا أنتم فيه إذا أنتم تُشركون!! أيْ تعودون لِشَرِّكم ولشِرْككم وتعبدون آلهتكم بل ويَنسب بعضكم النجاة لها أو لغيرها! فلماذا لا تستمرّون علي عبادة ربكم لتسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبتم أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض الناس من المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتَرْكهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم! فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)" أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الله تعالي وحده القادر علي إنجائكم من كلِّ كَرْبٍ هو أيضا وحده الذي يَقْدِر علي أن يُرْسِل عليكم وعلي المُسيئين أمثالكم عذاباً بأيِّ شكلٍ من الأشكال وبأيِّ درجةٍ من الدرجات ومن أيِّ مكانٍ من الأماكن من أعلاكم كأمطارٍ غزيرة وصَوَاعِق شديدة مثلا أو من أسفلكم كزلازل وفيضانات وغيرها أو مِن حولكم مِمَّا لا تَتَوَقّعونه ولا يمكنكم بأيِّ حالٍ الفرار منه أو مقاومته أو حتي تقليله.. ولكنه تعالي الرحيم الحليم الودود لا يفعل، إلا إذا ظَلَلْتم مُصِرِّين علي سُوئكم بلا أيِّ توبة وعودة للخير فتَوَقّعوا ذلك حتي تستفيقوا وتعودوا له فتسعدوا في الداريْن.. ".. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.." أو قادر أيضا علي أن يَخْلِطَكم فِرَقاً وطوائف ومجموعات تختلف وتتصارَع فيما بينها ويجعل بعضكم يَتَذَوَّق عَمَلِيَّاً مَرَارَة وفَظَاعَة بأس أيّ شَرّ وعذاب وقتل بعضٍ آخرٍ منكم بسبب هذا الاختلاف والصراع والاقتتال فيزول الأمن وينتشر الخوف وتَعُمّ التعاسة فيما بينكم.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ.." أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نُنَوِّع ونُعَدِّد ونُكْثِر من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. والآيات هي التي في كتبه تعالي إلي الناس من خلال رسلهم الكرام وآخرها القرآن العظيم والرسول الكريم محمد (ص)، وكذلك الآيات في كيفية إيقاع العذاب والهلاك بالمُكذبين حولهم كما يرونه في واقع حياتهم اليومية بصوره المختلفة ليَعتبروا به فلا يكونوا مثلهم، وبالجملة هي الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)" أيْ لعلهم بذلك التصريف يفقهون، أي لكي يفقهوا، أي يعلموا شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين مُتَدَبِّرين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تنبيه لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)" أيْ ولم يُصَدِّق بالقرآن العظيم فلم يَعمل بأخلاق الإسلام التي فيه بعض الناس حولك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم – من المُكَذّبين المُعَانِدِين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم والحال والواقع أنه هو الحقّ عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يَتَدَبَّر فيه – وبالتالي فالتكذيب به يدلّ علي قُبْحٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ وعِنادٍ وإغلاقٍ للعقل عظيم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة – أيْ هو الصِّدْق الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر حتما بكلّ تأكيدٍ لأنه ليس من عند أحدٍ من البَشَر بل من عند الله تعالي خالق الخَلْق كامل الصفات الحُسْنَيَ العليم بتمام العلم بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم، والذي لا يُخالطه أيّ كذبٍ أو سوءٍ أو ضلالٍ أو شَرٍّ أو ظلم، بل كله صدق وعدل وخير وأمن وسعادة، وكلّ ما يُوَافِقه ويَرْجع إليه مِن نُظُمٍ وقوانين يضعها البَشَر فهو صدق مثله بينما كلّ ما يُخالِفه فهو الكذب التامّ المُتْعِس فيهما، وهؤلاء الذين يُكَذّبون به يعلمون ذلك تمام العلم بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)" أيْ قل لأمثال هؤلاء لستُ مُطلقاً بوكيلٍ علي أيِّ أحدٍ منكم، فليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
ومعني "لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)" أيْ لكلِّ خَبَرٍ جاء به القرآن العظيم بالتبشير أو الإنذار وقتٌ يَسْتَقِرّ ويَحْدُث فيه حتماً لا يَتَقَدَّم عنه ولا يَتَأَخَّر فيَتَبَيَّن الحقّ من الباطِل، حتي ولو بعد حين، وسوف تعلمون أيها الناس جميعا مسلمون مُصَدِّقون أو كافرون مُكَذّبون صِدْق هذه الأخبار عند وقوعها في الدنيا والآخرة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يحضرون المجالس التي تتكلّم في الباطل والضلال والفساد والشرّ والسوء، لأنه بانتشارها تنتشر التعاسات والكآبات بين الجميع في الداريْن، إلا إذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً بقوةٍ عاملاً بكل أخلاق إسلامك وغَلَبَ علي ظنك وتقديرك المَبْدَئِيّ أنك تستطيع التخفيف من شرِّها والنصح بالخير ما أمكن أو حتي التغيير بالكامل للخير بالحكمة والموعظة الحسنة وبعوْن الله وهو المطلوب
هذا، ومعني "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)" أيْ وإذا حضرتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مجالس الذين يَنْغَمِسون ويَنْدَفِعون بالأقوال والأفعال السيئة من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ونحوه في آيات الله تعالي أيْ في قرآنه الكريم وفي تشريعاتِ وأنظمةِ وأخلاقِ الإسلام التي فيه فأعرض عنهم أي ابْتَعِد عنهم واتركهم وقُمْ عنهم ولا تُجَالِسهم ولا تُقْبِل عليهم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السَّيِّئة ولا تَعُدْ إلي مَجالسهم حتي يتكلّموا في حديثٍ آخر غير هذا الحديث السيء.. وفي هذا تذكيرٌ لكل مسلم أن يتجنّب تماما مجالس الكفر والنفاق والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، لأنها كلها مجالس مُضِرَّة مُتْعِسَة، لأنَّ فيها استهزاءً بأخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة لأنها تُنظّم كل شئونها صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، إلا إذا حَضَرَها وكان قوياً متمسّكاً عاملاً بكل أخلاق إسلامه ويَغْلِب علي ظنه حُسْن الرَّدّ والقُدْرَة علي الإقناع والدعوة بالقُدْوة وبالحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ ظَهَرَ عليهم تغيير الحديث والفِعْل وتحسينه فمِن المُمْكِن البقاء معهم والاستمرار لعلهم ينتفعون وينتهون ويعودن للخير فيسعدون، وإلاّ إنْ لم يستطع فلْيَنْصَرِف كارِهَاً لكل ذلك داخل نوايا عقله عازماً علي حُسْن دعوتهم في توقيتٍ ومكانٍ وبأسلوبٍ آخر مناسب.. ".. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)" أيْ وإنْ أنْسَاكَ الشيطان هذا الأمر بأن انشغلتَ بما يُنْسِيك إيَّاه بسببٍ من الأسباب – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلِّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – وجَالَسْتَهم في أثناء حديثهم السَّيِّء ثم تَذَكَّرْتَ أمر الله بالبُعْد عنهم فلا تَقْعُد بعد تَذَكّرك مع القوم المُعْتَدِين الذين يَخوضون في آيات الله.. والقوم الظالمون عموما هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)" أيْ وما على الذين يَتّقون الله أيّ شيءٍ من حساب الذين يَخوضون في آياته على ما يرتكبون من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا أي ابتعدوا عنهم، ولكنْ أمَرْنا المُتّقِين بالإعراض عنهم ليكون ذلك ذِكْرَىَ أيْ تَذْكِرَة لهم لِمَا هم فيه، ولكن أيضا عليهم مع هذا الإعراض ذِكْرَيَ هؤلاء الخائضين ومَنْعهم عن قبائحهم بما أمكن من عِظَةٍ وتَذْكِيرٍ لعلهم بهذا الإعراض وبهذه الذكري يتّقون الله في أقوالهم وأفعالهم، ولعلّ كذلك الذين يَتّقون الذين يُذَكّرونهم يَثْبُتون علي تقواهم ويُدَاوِمون عليها ويزدادون منها بفِعْلهم هذا.. إنَّ الذين يَتّقون لو أحسنوا دعوتهم لله وللإسلام ونصيحتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة ما استطاعوا، فلا شيء عليهم بعد ذلك، فهم ليسوا مسئولين أمام الله عن شيءٍ من أعمالهم، فمَن أحسنَ فله كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومَن أساءَ فله ما يُناسب من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ شرور أحد، فكلٌّ مسئولٌ عن عمله، فهذا هو عَدْل الله تعالي، وهو وحده الذي يُحاسِب الجميع، ولا يَملك أحدٌ غيره ذلك، فهو وحده سبحانه الذي يعلم دواخلهم ونواياهم وما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولا أحد يعلمها غيره.. هذا، والذين يتقون هم الذين يخافون الله ويُراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا تُقْبِل علي ولا تَتَأَثّر وتَنْشَغِل كثيراً بالذين جعلوا دينهم الحقّ الذي جاءهم به الرسول الحق (ص) ويُدْعَوْنَ إليه وهو دين الإسلام لعباً أي عَبَثاً أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف! أي لا يستفيدون منه أيّ فائدة وهو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن! أيْ يتعامَلون معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به.. ولَهْوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم.. وغَرَّتهم الحياة الدنيا أيْ وخَدَعَتْهُم فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. والمقصود أن اتركهم فلا تُقْبِل عليهم يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السيئة فإنَّ هذا قد يُوقِظهم فيَعودون لربهم ولإسلامهم لكنْ مع ذلك وفي ذات الوقت عِظْهم أيْ ذَكّرهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْهم فيما بينك وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عِظْهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما.. ".. وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا.." أيْ وذَكّر دائما جميع الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بهذا القرآن العظيم وبهذا الإسلام الذي فيه، والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه، ذَكّرْهم بأفضل وأنْسَب أسلوبٍ وتوقيتٍ وبكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، وذلك حتي لا تُبْسَل نفسٌ بما كسبت أيْ تُهْلَك أيّ نفسٍ إنسانيةٍ بسبب ما فَعَلَت من شرور ومَفاسد وأضرار إذا هي خَالَفَت إسلامها ولم تَسْتَجِب لهذا التذكير حيث سيُصيبها حتماً شَرٌّ وتعاسة كعقابٍ وعذابٍ علي قَدْر سُوئِها في دنياها وأخراها، وليس لها حين حُدُوث العقاب غير الله تعالي أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمرها ويُدافِع عنها ولا أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده لكي يعفو عنها وينقذها مِمَّا هي فيه، إلا إذا أذِنَ هو سبحانه لمَن يَشفع لها، وحينها أيضا إنْ تَعْدِل كلّ عدلٍ لا يُؤْخَذ منها أيْ ولو فُرِضَ واستطاعت وقتها أن تدفع أيّ عدلٍ أيْ فِداء – أو فِدْيَة – أو بَدَل أو تَعْويض يُعادِل أيْ يُساوِي نجاتها من العذاب، وهو ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما، مهما كان عظيما، حتي لو فُرِضَ وجاءت إحداها يومها بمِلْءِ الأرض ذهبا وأضعافه لتَفتدي به من عذاب الله فلن يُقْبَل منها.. وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لأيِّ نفس غير مسلمة في النجاة مِمَّا هي فيه إلا أن تتوبَ وتَرْجِع لربها وإسلامها قبل موتها، أمَّا النفس المسلمة فرحمة الله واسعة لها.. ".. أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ.." أيْ هؤلاء الذين أُهْلِكُوا بسبب ما عملوا من سوءٍ في دنياهم سيكون لهم حتماً في أخراهم شراب من حميمٍ أي ماءٍ مَغْلِيّ لا يُطاق يُقَطّع بطونهم ولهم كذلك عذاب مُوجِع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة قطعا إلي عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)" أيْ وكل ذلك بسبب أنهم كانوا في دنياهم يكفرون وماتوا علي ذلك أيْ يُكَذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويستكبرون ويستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، والذين يحاولون إبعاد المسلمين عن إسلامهم بل ورَدّهم عنه للكفر ولعبادة غير الله ربهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل نَدْعُو أيْ نَعْبُد أيْ نُطيع غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلنا يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّنا بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعنا بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ.." أيْ ونَرْجِع علي أعقابنا – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ نرجع علي أقدامنا للخَلْف هاربين مُبْتَعِدين والمقصود نَرْتَدّ عن إسلامنا ونعود كافرين تُعَسَاء في الداريْن بعد أن هدانا الله له أيْ أرْشَدَنا إليه من خلال قرآنه ورسوله (ص) وعقولنا وفِطْرَتنا ويَسَّرَ لنا أسباب ذلك ووَفّقنا إليها لنسعد به في دنيانا وأخرانا وذلك بعد أن اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا.." أيْ ونكون مثل الذي طلَبَت الشياطين هَوَاه أيْ شَرَّه أيْ أغْوَته أيْ دَعَتْه للغِوَايَة أيْ للضلالَة أيْ للشرّ والفساد فذهب في الأرض حائراً في حَيْرَةٍ لا يعرف أين طريق الخير والسعادة – والشياطين جمع شيطان ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – وله حوله أصحاب وأصدقاء مُهْتَدون راشِدون يدعونه إلي الرشاد، إلي الطريق المستقيم، إلي الإسلام، إلي كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، قائلين له تعال إلينا لتسعد مثلنا وتنجو من تعاستك، فلا يَستجيب لهم ولا يأتي إليهم لشدّة حيرته وضلالته؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى.." أيْ قل لأمثال هؤلاء وللناس جميعا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إنَّ إرشاد الله في دينه الإسلام هو حتما بكل تأكيد بلا أي شك الإرشاد الحقيقي الذي ليس بعده أيّ إرشادٍ أكمل وأعظم وأفضل وأصْوَب وأصْلَح منه حيث يُرْشِد لكل ما يُصلح ويُكمل ويُسعد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وكلَّ مَن يَعمل به كله سيُحَقّق قطعاً ذلك، وليس ما يَدَّعِيه أمثال هؤلاء المُكَذّبين من تعاليم مَكْذُوبَة مُحَرَّفَة مُخَالِفَة لهُدَيَ الله تعالي يَسترشدون بها هي الهُدَيَ بالقطع بل هي الهَوَيَ المُؤَكّد أيْ الشرّ والفساد والضرَر والتعاسة في الداريْن!!.. ".. وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)" أي وقل لهم أيضا أننا قد أَمَرَنَا ربنا جميعا بأن نُسْلِمَ له أيْ نَستسلم لوصاياه وتشريعاته لأنه ربّ العالمين أيْ رب الخَلْق كلهم – أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – أيْ نتَمَسَّك ونَعْمَل بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتنا ونَثْبُت دائما عليها، وقد أسلمنا نحن المسلمون، فأَسْلِموا أيها الناس لتسعدوا في الداريْن
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُدَاوِمِين علي إقامة الصلاة.. وإذا كنتَ من المُتّقِين لله تعالي في كل شئون حياتك.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)" أيْ أمرنا أنْ نُسْلِمَ لرب العالمين وكذلك أنْ أقيموا الصلاة أيْ أنْ واظِبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليكم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وأيضا أن اتقوه أيْ خافوه تعالي وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)" أيْ وآمِنوا أيْ صَدِّقوا واعْلَمُوا واعْرَفوا وتَذكّروا دائما أنه هو الذي إليه وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)" أيْ هذا بيانٌ لتمام قُدْرته وكمال علمه سبحانه وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة والقادر علي بَعْث الناس لحسابهم حين إليه يُحشرون يوم القيامة.. أيْ وهو الله تعالي ربّ العالمين الذي أمرنا أن نُسْلِم له وحده الذي خَلَقهما – بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ – بالحقّ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.." أيْ واذكروا دائما ولا تنسوا أبداً يوم القيامة حين يقول كن فيكون، وهذا بيانٌ أنَّ بَعْثَ الناس ليس شيئاً صعباً عليه تعالي، بل إنه يكون بمجرّد كلمة كُن منه فإنه يكون كما يريد فوراً بلا أيِّ تأخيرٍ أو امتناعٍ بتمام قُدْرَته وكمال علمه ويكون كل شيءٍ قد حَضَر وتَجَهَّزَ فيُجْمَعون من قبورهم من أيِّ مكانٍ كانوا للحساب والجزاء بالجنة أو النار.. إنه سبحانه إذا أراد إيجاد شيءٍ أو إحداثَ فِعْلٍ ما في الدنيا أو الآخرة، فإنه بمجرّد أنْ يقول له كُن فإنه يكون ويَحْدُث في لحظةٍ تماماً كما يُريد، فهو لا يحتاج مثلا إلي أدوات وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر!.. ".. قَوْلُهُ الْحَقُّ.." أيْ قول الله تعالي كله حتماً دائماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هو الصدق العدل الكامل الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر ولا يكون فيه أيّ خطأ الواقِع المُتَحَقّق مُؤَكّدَاً في توقيته بلا أيِّ تقديمٍ أو تأخيرٍ سواء أكان تبشيراً أم إنذاراً أم خلقا للمخلوقات أم ذِكْرَاً لغَيْبٍ مَا لا يَعلمه إلا هو في الماضي أو الحاضر أو المستقبل أم بَعْثَاً للحساب والعقاب والجنة والنار، قوله الحقّ دوْمَاً في كل كتبه وآخرها القرآن العظيم، وفي يوم القيامة.. ".. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.." أيْ وله وحده سبحانه المُلْك كله الثابت الذي لا يزول فليس لأيِّ أحدٍ غيره أيّ مُلْك حيث كل أملاكهم التي مَلّكَهم إيَّاها في دنياهم تزول يوم القيامة يوم يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتاً يُعْلِن بدء البعث أيْ إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم ويُنْفَخ بالأرواح في الصُّوُر جَمْع صُورَة أيْ في صُوَرِ الأجساد لتحيا مرة أخري ويبدأ يوم القيامة والحساب، ولا يَعلم كيفية حدوث النّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره.. ".. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.." أيْ وهو وحده سبحانه عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط !.. إنه بالتالي وقطعاً يعلم في دنياكم وعندما يبعثكم في أخراكم أيها الناس كل ما تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)" أيْ وهو وحده لا غيره الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، الخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، العليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة ودرجة تقواهم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فليجتهدوا إذَن في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيهم بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. وكل هذا يَدلّ علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة لأنه هو وحده لا غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)" أيْ واذْكُر لهم وذَكِّرْهم أيها الرسول الكريم، وتَذَكَّر يا كلّ مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حَدَثَ للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه، واذكر لمَن حولك مِمَّن يُقَلّدون آباءهم في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء بلا أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر وذَكِّرهم حين قال إبراهيم لأبيه الذي اسمه أو لَقَبه آزر هل تجعل أصناما – جَمْع صَنَم وهو تمثال من حَجَرٍ أو غيره – آلهة لك أيْ معبودات تعبدها أيْ تطيعها غير الله تعالي؟! لا تستطيع أن تَضرّك وغيرك بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعكم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حاله السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظه ليعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن.. ".. إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)" أيْ إني أشاهِدُك وأعلم يا أبي أنك مع قومك في ضياعٍ واضحٍ حيث تركتم عبادة الله تعالي وحده ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم سواء أكانت كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْراً للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)" أيْ وكما أَرَيْنَا أيْ أظْهَرْنا وبَيَّنَّا وأوْضَحْنا بتوفيقنا وتيسيرنا لإبراهيم الحقّ في بُطلان عبادة أبيه وقومه للأصنام لَمَّا أحْسَنَ هو أولا استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) نُريه أيضاً مظاهر تمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا التي تدلّ علي أننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أي الطاعة، في مُلْك السموات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا نحن وحدنا الخالق القادر علي كل شيء، والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك أي المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة.. ".. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)" أيْ فَعَلْنا ذلك لكي يَسْتَدِلَّ بذلك علي وحدانيتنا ولكي نُيَسِّرَ له ونُعينه علي إقامة الدليل علي قومه فيُمكنه إقناعهم ولكي يكون من المُوقنين أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بهذا التوحيد وبوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبالصلاحية الكاملة لأخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها لأنها من عند ربهم خالقهم الذي يعلم خَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن فيكون بذلك من المُتَمَسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم عن يقينٍ وتَأَكُّدٍ وعلمٍ وثباتٍ ورُسُوخٍ لا يَتَزَعْزَع.. لقد وَصَلَ إبراهيم إلي عبادة ربه وحده بلا أيِّ شريكٍ والعمل بأخلاق الإسلام بمجرّد إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا وذلك قبل أن يأتيه الوحي منه تعالي رغم أنه كان شابا صغير السِّنّ.. وهكذا حتماً سيكون حال كلّ مَن يُحْسِن استخدام عقله ويَستجيب لفطرته ويَعبد الله وحده ويعمل بإسلامه حيث سيَنال قطعاً توفيقه وتيسيره وإسعاده له في دنياه وأخراه
ومعني "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية توضيح إبراهيم لأبيه وقومه ما هم فيه مِن بُعْدٍ عن ربهم بكلِّ حِكْمَةٍ وتَدَرُّج، فقد كان بعضهم يَعْبُد الكواكب بجانب الأصنام، فنَظَرَ معهم واستمع لهم، وهكذا حال الداعي مع بعض المَدْعُوين الذين يَدْعوهم لله وللإسلام في بعض الأحوال، يُسَايِرهم في بعض فِكْرهم ويَنْظُر فيه معهم ويَستمع إليهم جيدا حتي يَصِلَ بهم إلي أن يقتنعوا هم بذواتهم بعدم صِحَّته.. هذا، وعند بعض العلماء لم يكن إبراهيم مُسَايِرَاً لقومه بل كان في مرحلة الاستكشاف والبحث عن الأدِلّة للوصول لحقيقة وجود الله تعالي فأَوْصَله سبحانه لَمَّا أحْسَنَ استخدام عقله ولم يُعَطّله كما يَفعل البعض بالأغشية التي يَضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ فلَمَّا أظلمَ عليه الليل بحيث جَنَّ الأشياء أيْ أخْفَاها شاهدَ نَجْمَاً في السماء، قال هذا ربي أيْ خالِقِي ومُرَبِّيني ورازِقِي وراعِيني ومُرْشِدِي لكلّ خيرٍ وسعادةٍ ومُسْتَحِقّ عبادتي، فلَمَّا أفَلَ أيْ غابَ بسبب طلوع ضوء النهار قال لا أقبل ولا أرْضَيَ عبادة الآلهة التي تَغِيب لأنَّ الإله الحَقّ الذي يَسْتَحِقّ العبادة هو الذي لا بُدّ ألاّ يغيب لحظة بل يكون دائم الرعاية والحِفْظ والمُرَاقَبَة والإدارة والتوجيه والإرشاد لتدبير كلّ شئون كوْنه وخَلْقه وإلاّ تَخَبَّطوا وتاهُوا وضاعوا وهَلَكوا وتَعِسُوا! فكيف يُتّخَذ بالتالي إذَن مِثْل هذا الكوكب إلاهاً؟!
ومعني "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)" أيْ هذا بيان لدليلٍ ثانٍ من إبراهيم لقومه علي أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. أيْ وحين رأى إبراهيم القمر طالِعَاً بعد ذلك قال هذا ربي، فلمَّا غابَ هو الآخر بطلوع ضوء النهار وظهر عدم استحقاقه للعبادة مثل الكوكب الذي أفَل، قال مُسْمِعَاً مَن حوله لتَنْبِيههم لضلالهم ولتَجْهيزهم لقبول الحقّ الذي سيقوله لهم قريبا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما بسبب ضلالهم وفِعْلهم للشرور، قال إذا لم يهدني ربي أيْ لم يُرْشِدني ويُوصلني لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، سأكون بالتأكيد تلقائيا بالتالي في الطريق الآخر المُعَاكِس مع الأناس الضائعين المُبْتَعِدين عن طريقه الحائرين الذين لا يَعرفون أين الصواب من الخطأ التعيسين في الداريْن.. وفي هذا بيانٌ أنَّ كلَّ مَن أراد الهداية لله وللإسلام والثبات والاستمرار عليها مَدَيَ حياته فعليه أنْ يُحْسِن استخدام عقله مع اللجوء الكامل له تعالي ليُيَسِّر له أسباب ذلك ليَتِمَّ تحقيقه ولا بُدَّ سيُحَقّقه له حتماً ما دام صادقاً في طَلَبِه لأنَّ هذا وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً كما يقول تعالي "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت:69) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وبدون ذلك لن تتحقّق هدايته واستمراره عليها
ومعني "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)" أيْ هذا بيان لدليلٍ ثالثٍ من إبراهيم لقومه علي أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. أيْ وحين شاهَدَ إبراهيم الشمس طالِعَة بعد ذلك قال هذا ربي هذا أكبر أيْ أكبر من الكوكب الصغير والقمر اللذيْن أفَلَاَ سابقا وهي أكبر الكواكب حَجْمَاً وأعظمها قوة وتأثيراً في الكوْن والمخلوقات بأَشِعَّتِها وبالتالي فهذا الكوكب هو الأحقّ بأن يكون هو الإله بسبب مَا له مِن حجمٍ وتأثيرٍ كبير!! فلمَّا غابَت هي الأخري بحلول ظلام الليل وظَهَرَ عدم استحقاقها للعبادة مثل الكوكب الصغير والقمر اللذين أفَلَاَ سابقا، قال حينها مُسْمِعَاً الجميع بكل قوةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ مُعْلِنَاً النتيجة التي يريد الوصول إليها يا قوم إنى بَرِيء مِمَّا تُشركون به أيْ بعيد كل البُعْد من أيِّ شريكٍ تعبدونه معه أيْ مُتَبَرِّيء مِمَّا تعبدونه غير الله تعالي من آلهةٍ كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نار أو غيره رافض لها غير مُعْتَرِفٍ بها ولا راض عنها ولا صِلَة بيني وبينها وأنا ضِدَّها وأعاديها، حيث قد ظَهَرَ أمامكم واقعياً الدليل القاطِع الواضِح علي عدم استحقاقها مُطلقاً للعبادة
ومعني "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)" أيْ إنّي وَجَّهْتُ عقلي وقَصْدِي وكِيَانِي كله واتّجَهْتُ بعبادتي أيْ طاعتي وأسلمتُ نفسي إلي الذي خَلَق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ وما عليهما من خَلْقٍ وبَشَرٍ وحده بلا أيِّ شريكٍ ولم اتّجِه نحو غيره وهو الله تعالي فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. لقد اتّجَهَ إبراهيم بالعبادة إلي خالقه لأنه عَرَفه من خلال ما خَلَق، فأيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لا بُدّ أن يقول أنَّ هناك خالقا قد خَلَقَ كل هذا ويديره، فإنَّ الأثر علي الأرض يدلُّ علي سَيْرِ أحدٍ عليها حتما!.. ".. حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)" أيْ وَجَّهْتُ وجهي له وكنتُ حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام وما كنتُ أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
ومعني "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)" أيْ وجَادَلَه قومه والناس حوله في عبادة الله وحده، بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم.. ".. قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ.." أيْ قال لهم إبراهيم بكلّ قوّةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ هل تُجَادِلوني في شأن الله تعالي وفي أدِلّة وجوده وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَقَدْ هَدَانِ.." أيْ والحال والواقع أنه تعالي قد أرْشَدَنِي وأوْصَلَنِي لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فكيف ألْتَفِتُ بعد ذلك إلى جِدالكم وقولكم الفاسد؟!.. وهذا تأكيدٌ لرفضه السابق لجِدالهم له بغير حقّ وقطعٌ لأيِّ أملٍ لهم في أن يَعبد غير الله تعالي مِثْلهم حيث قد حَسَمَ الأمر بتوفيق الله له للهداية وتيسيره أسبابها له بعدما أحسنَ هو استخدام عقله واختارها بكامل حرية إرادته.. والمقصود إبلاغهم وإعلامهم أنه ليس هناك أيّ فائدةٍ من مُجَادَلَتِي بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم.. ".. وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.." أيْ ولا أخاف مُطْلَقَاً غضب وضَرَرَ ما تُشركون به في العبادة غير الله تعالي مِن آلهةٍ تَدَّعُونها كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، لأنها لن تَضرّني ولن تَنفعني ولا أيّ أحدٍ بأيِّ شيء، فهي لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! إلاّ إذا شاء ربى شيئاً من الضرر وَقَعَ ذلك الضرر حينما يشاء، لأنه وحده القادر علي كل شيءٍ من نَفْعٍ أو ضَرَرٍ وعلي إحداث هذا الضرر بي وعلي عَوْنِي علي مقاومته ليَرْفعه عنّي وعلي حمايتي منه من الأصل وقد أحاط عِلْم ربى بالأشياء كلها فلا تَخْفَيَ عليه خافِيَة في كل كَوْنه وخَلْقه ولا عِلْم لآلهتكم بأيِّ شيءٍ منها، فلا يُسْتَبْعَد أن يكون في عِلْمه أن يَحْدُث لي ضَرَرٌ مَا بسببها، فإنَّ ذلك إنْ حَدَث فإنه يَقع بقُدْرَة ربي وإرادته لحكمةٍ مَا لا بقدرة أصنامكم أو إرادتها.. ".. أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)" أيْ ألاَ تتدبَّرون ما تقولون فتعرفوا خطأه فتمتنعوا عنه؟! هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. وهو سؤال أيضا كالسؤال السابق للتَّعَجُّب من ذلك ولإنكاره أي عدم قبوله وطَلَب فِعْل عكسه
ومعني "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)" أيْ وهذا أيضا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وكيف تَتَصَوَّرُون وتَتَوَهَّمون أني أخاف ما أشركتم به في العبادة غير الله تعالي مِن آلهةٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها لن تَضرّني ولن تَنفعني ولا أيّ أحدٍ بأيِّ شيءٍ حيث هي كما ترون واقعا لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! في حين أنكم لا تخافون الإله الحقّ الذي أشركتم به غيره في العبادة وهو الأحقّ أن يُخَافَ منه كل الخوف لأنه القادر على الانتقام مِمَّن أشرك معه غيره وسوَّى بينه وبين مخلوقاته فأنتم أحقّ بالخوف لأنكم أشركتم بالله ما لم يُنَزّل به عليكم سلطاناً أيْ ما لم يُنَزّل بإشراكه عليكم دليلا، أيْ جعلتموها واتّخذتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا يوجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي تقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه السابقة مع رسله السابقين أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.." أيْ فأىُّ الفريقين، فريق المُوَحِّدِين أم فريق المُشركين أحقّ بالأمن أيْ يَسْتَحِقّ الأمن والسلام والاطمئنان والاستقرار يكون فيه في حياته؟! والجواب حتماً معروف لكلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، ففريق المسلمين العابدين لله وحده الخالِق القادِر علي كل شيءٍ وكل نفعٍ وضَرَرٍ العاملين بكل أخلاق إسلامهم هم بالقطع في كل خيرٍ وسعادةٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، بينما فريق البَعيدين عن ربهم وإسلامهم يفتقدون لكل ذلك بدرجاتٍ مختلفة علي حسب درجة ابتعادهم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)" أيْ هذا جوابٌ فاصِلٌ للسؤال السابق وبيانٌ لسبب كمال الأمن والاطمئنان والاستقرار والسعادة في الحياة الدنيا والآخرة، وهذا من كلام الله تعالي أو من بقية كلام إبراهيم مع مَن حوله.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَخْلِطوا إيمانهم هذا بظلمٍ مَا مُتْعِسٍ للنفس وللغير من أيِّ نوعٍ من أنواعه سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتماً بكل تأكيدٍ وحدهم الذين لهم كل الأمن والاطمئنان والاستقرار والسعادة في دنياهم وأخراهم، فهم لهم كل خيرٍ وسعادةٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. ".. وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)" أيْ وهم كذلك حتماً وحدهم سائرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)" أيْ وتلك الحُجَّة أيْ الدلاَلَة علي أننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أيْ الطاعة والتي سَبَقَ ذِكْرها والتي لا يُمكن مُطلقاً رفض أو مُجَابَهَة أو مُغَالَبَة الحقّ الذي فيها والتي حاجَّ بها إبراهيم قومه هي حُجَّتنا التي أعطيناه وعلّمناه إيّاها ووَفّقناه وأرْشدناه إليها من خلال عقله السليم وفطرته لتكون حُجَّة أيْ دليلاً على قومه لتكون له الغَلَبَة عليهم.. ".. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ.." أيْ كما رَفَعنا إبراهيم درجاتٍ ومَقامَاتٍ عظيماتٍ عالياتٍ فكان في كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بسبب إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله وحُسْن إسلامه وحُسن دعوته له ونشره ودفاعه عنه، نَرْفع كذلك كلّ مَن يَتَشَبَّه به ويَشاء أن يكون مِثْله ويَجتهد في اتّخاذ أسباب ذلك بإحسان استخدام عقله هو أيضا وإحسان عمله فنَشاء له هذا بأنْ نُعينه ونُيَسِّر له هذه الأسباب بعد أن اختار هو هذا الطريق أولا بكامل حرية إرادة عقله واستعان بنا وتوكّل علينا وذلك من خلال توفيقه لمزيدٍ من التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وللعلم والحِكْمة وحُسن التصرّف، إننا حتماً سنَرْفع مِن شأنه بسبب كل ذلك، في دنياه أولا، حيث المَكَانَة والعلم والفهم والحكمة وحسن التدبير والتيسير والعوْن والتوفيق والسَّدَاد والرعاية والأمن والحب والرضا والرزق والقوة والنصر والسعادة التامّة، ثم له في آخرته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (269) من سورة البقرة " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.."، والآية (11) من سورة المجادلة ".. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..").. ".. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)" أيْ إنَّ ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم وأيها الإنسان بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيمٌ في رَفْعه وخَفْضِه عليمٌ بمَن يَسْتَحِقّ الرفع ومَن لا يستحِقّه بل يستحقّ الخفض
ومعني "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)"، "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)"، "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)" أيْ وعَوَّضه ربه الكريم الوهَّاب عن صبره وتحمّله الأذي من أجله بسبب الإيمان به وتوصيله أمانته ودينه الإسلام للآخرين وثباته وصموده علي ذلك دون أيّ ترَاجُع، عَوَّضه تعالي في مُقابِل كل ذلك ما هو أعظم منه وبما يُناسِب كرمه وفضله سبحانه وبما يُنْسِيه كل أذيَ وأسيَ، فأعطاه ابنه اسحق – بعد إسماعيل – وأعطي اسحق يعقوب وجعل الأنبياء كلهم مِن هذه الذرِّيَّة الصالحة وأوْحَيَ إليهم كل الكتب التي تحمل الإسلام ليكونوا هم الهُداة لكل البَشَر لربهم ولدينهم، لكل خيرٍ وسعادة، ويكون لإبراهيم كلّ هذا الخير في ميزان حسناته يوم القيامة لأنه كان هو السبب فيه.. وليس ذلك التكريم المعنويّ حيث أرفع مَكَانَة لأيّ بَشَر علي وجه الأرض وفقط، بل أعطاه الله تعالي أيضا أجره في دنياه أي أعطاه كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذرية الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطاه تمام السعادة في الدنيا، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أي من الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر.. أيْ وأعطينا لإبراهيم إسحق ابناً ويعقوب حفيداً، إذ في رؤية الأحفاد الصالحين سعادة، كلا منهما قد هديناه أيضا مثل أبيهما إبراهيم أيْ أرْشَدناه وأوْصَلناه لطريق الهداية لله أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وجعلناهما رسوليْن مثله، وهدينا من قبلهم رسولنا نوحاً إلي ذلك، فهم من سلالةٍ كريمةٍ شريفةٍ وشرف الآباء يعود حتما بالآثار الطيّبة المُسْعِدَة علي الأبناء، وهدينا من ذرية نوح – أو إبراهيم – داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وجعلناهم رُسُلَاً كذلك.. وهذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون حتما نصيب كل مسلمٍ يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم، وهذا هو معني ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)" أيْ وكما أعطيناهم من كرمنا وفضلنا العظيم كلّ هذا الخير الكثير بسبب إحسانهم، فهكذا دائما سيكون جزاؤنا وعطاؤنا الذي لا يُوصَف وبلا حسابٍ للمُحسنين، فهذا سيكون دوْمَاً حال كل مُحسِن، كل مُتقِن مُجيد، كل متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه، سيُؤْتَيَ حتما من فضل ربه من الخير والسعادة التامة ما يُسعده ومَن حوله في دنياه وأخراه، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا.. "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)" أيْ وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وكل هؤلاء الأنبياء من الكامِلِين في صلاحهم، الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة مع الصالحين في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. هذا، والصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة.. "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)" أيْ وهَدَيْنا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وكل هؤلاء الرسل فضَّلناهم على كل الناس حيث اخترناهم لكمال أخلاقهم رُسُلَاً أيْ مَبْعُوثين مِنَّا لهم ليُبَلّغوهم شَرْعَنا الإسلام ليسعدوا به في الداريْن
ومعني "وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)" أيْ وكذلك هَدَيْنَا بعضاً مِن آباء هؤلاء وذرِّيَّاتهم أيْ أبنائهم وأحفادهم وإخوانهم، وهم الذين بَدَأوا هم أولا بإحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلَمَّا فَعَلوا ذلك يَسَّرْنا لهم أسباب الهداية لنا وللإسلام (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، ولفظ "مِن" يُفيد التبعيض أيْ أنَّ البعض مِن هؤلاء فَعَلَ ذلك، كَثُر أو قَلّ عددهم باختلاف الأزمنة، لكنَّ البعض الآخر لم يُحسن استخدام عقله وكان كافراً تعيساً في الداريْن.. ".. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ.." أي واخترناهم بسبب حُسْن إسلامهم هذا ليكونوا دعاة لنا وللإسلام لمَن حولهم من الناس واخترنا بعضهم ليكونوا أنبياء مِثْل الذين ذَكَرْنا أسماءهم سابقا.. ".. وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي هدايتهم والتوضيح للذي هُدُوا إليه وتَيْسِير الله لهم أسباب ذلك.. أيْ وأرْشَدْناهم وأوْصَلْناهم إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)" أيْ ذلك الهُدَىَ أيْ الإرشاد والتوصيل إلي صراطٍ مستقيمٍ والذي اهتدىَ إليه أولئك الأخيار ومَن تَشَبَّه بهم هو هُدَىَ الله الذي يَهْدِى به مَن يَشاء هدايته مِن عباده وهم الذين شاءوا وأرادوا هم أولا هذه الهداية واختاروها بكامل حرية إرادة عقولهم حيث أحسنوا استخدام هذه العقول واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا فشاءها تعالي لهم بسبب ذلك، أيْ وَفّقهم لها ويَسَّر لهم أسبابها وسَدَّدَ خُطاهم نحوها، ومَن لم يشأ من الناس أن يهتدي بسبب تعطيله عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لم يشأ قطعا له الله ذلك، أيْ لم يُيَسِّر له أسباب الهداية (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)" أيْ ولو علي سبيل الفَرْض أشركَ هؤلاء المَهْدِيُّون المُخْتَارُون مع الله تعالي غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَروا به أيْ كذّبوا بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وماتوا علي شِرْكِهم أو كفرهم، والمقصود تشديد الأمر أنه لو أيّ أحدٍ من الناس حتي ولو كان رسولاً أشركَ بالله، سيَحْبط عنهم ما كانوا يعملون بكل تأكيد، أيْ سيَضيع فيَذهب عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملونها، أيْ ستَفسد أعمالهم فسادا تامّا، حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيح بأيِّ حسناتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ مهما ثَقلَت وكثرَت في الميزان يوم القيامة وهو الشرك أو الكفر، وسيُحْرَمون بعد شِرْكهم أو كُفرهم جزاء ما كانوا يعملونه مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياهم كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا بقوله "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)" أيْ هذا بيانٌ لمَكَانَة هؤلاء الأنبياء والصالحين مِمَّن اتّبعوهم الذين عملوا بكل أخلاق الإسلام وبيانٌ لِمَا أنْعَمَ الله عليهم من وَحْي كتبه إليهم وتعليمهم إيّاها والتي فيها هذه الأخلاق وذلك لتشجيع الناس لاتّباعها ولاتّباع سُنَن هؤلاء الرسل والصالحين وطُرُق حياتهم ليسعدوا مثلهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فمَن تَشَبَّهَ بهم وعمل بها سَعِدَ فيهما ومَن لم يعمل تَعِس.. أيْ هؤلاء الأنبياء الأخْيَار المُخْتَارون بسبب كمال أخلاقهم هم الذين قد أعطيناهم الكُتُب التي فيها قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِهم لكي تُصلحهم ومَن حولهم وتُكملهم وتُسعدهم في حياتهم وآخرها القرآن العظيم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، وأعطيناهم أيضا الحُكْم أيْ المُلْك والفقه والفهم والعلم للأحكام حتى يتمكّنوا من القضاء العادل بين الناس وإدارة كل شئونهم علي أكمل وجه، وأعطيناهم كذلك النّبُوَّة وكَرَّمناهم بها بأن يكون منهم ولهم كثير من الأنبياء لينالوا شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة للناس وهدايتهم لربهم.. ".. فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)" أيْ فإنْ يُكَذّب بهذه الآيات التي في كتبنا والتي فيها الأخلاق والتشريعات والأنظمة المُسْعِدَة لكل شئون الحياة فلا يُصَدِّقها ولا يَعمل بها أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين حولكم أيها المسلمون فلا تَهتّموا ولا تَتأثّروا بهم فلا تأثير لكفرهم لأننا قد وَكّلنا بها، أيْ وَفّقنا للإيمان بها وجعلنا وكلاء عنّا كلّفناهم برعايتها وحِفْظها والعمل بها ونَشْرها والدفاع عنها للسعادة بها إلي يوم القيامة، قوماً ليسوا بها بمُكَذّبين أبداً ودائماً طوال حياتهم بل مُصَدِّقين صالِحين عارِفين بعِظَمِ قيمتها وإسعادها لهم متمسّكين عامِلين بها أشدّ التمسّك والعمل، وهم أنتم أيها المسلمون المُتّبعون لرسلكم ولإسلامكم في كل عصر.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتكريم وتشريف لهم أنهم حَمَلَة دينه كالرسل الكرام وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس له تأثير مُعَوِّق وأنَّ المُكَذّبين هم وحدهم الخاسرون التّعِيسون في الداريْن.. إنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)" أيْ هؤلاء الأنبياء الأخْيَار، ومَن اتّبَعهم مِن الصالحين الذين أحسنوا استخدام عقولهم فأسْلَموا وعملوا بكل أخلاق الإسلام، هم الذين قد أرْشَدَهم وأوْصَلَهم الله لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وسَهَّلَ لهم أسباب هذه الهداية لَمَّا اختاروها هم بعقولهم، فاقْتَدِي بهُداهم هذا بالتالي إذَن أيها المسلم لا بأيِّ هُدَيً غيره لأنه هُدَيَ الله وليس هناك هُدَي إلاّ منه تعالي أيْ كُنْ مُقْتَدِيَاً بهم مُتّخِذَاً إيّاهم قُدْوَة لك مُتّبِعَاً لهم في حُسْن إسلامهم لتَسْعَدَ مثل سعاداتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا.." أي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولعموم الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللقرآن وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)" أيْ ما هذا القرآن العظيم إلاّ تذكير للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)" أيْ وما عَظّموا الله حقّ تعظيمه وما أعطوه ما يَستحِقّه ويُناسبه تعالي من التقدير والتعظيم والقيمة والطاعة والتنزيه عمّا لا يَليق به، وما قَدَّرُوا حِكْمته ورحمته وحبّه لخَلْقه وإرادته السعادة التامّة لهم في دنياهم وأخراهم وعدم تَرْكِهم يَتيهون ويَتعسون في حياتهم بلا توجيهٍ وإرشادٍ حقّ التقدير، وبَعدوا عن الحقّ والعدل والخير والصواب والسعادة بُعْدَاً شديداً، هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، حين كذّبوا إرسال الرسل وإنزال الكتب من الله تعالي وقالوا هذا القول الشنيع الذي يدلّ علي الإساءة للخالق الكريم أنه يَترك خَلْقه بلا هدايةٍ للخير وللسعادة وعلي عدم شكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وأعظمها تشريعاته التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تماماً في الداريْن وبما يدلّ علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والإصرار علي عدم اتّباع الإسلام حيث قالوا ما أنزل الله علي بَشَرٍ أيَّ شيءٍ من وحيٍ وكتابٍ فيه تشريع منه ونظام للحياة قاصِدين بذلك تكذيب الرسول الكريم محمد (ص) والتكذيب بالقرآن العظيم وعدم اتّباعه حتي يفعلوا ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار، وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، والذين يُحاولون إبعاد المسلمين عن إسلامهم بل ورَدّهم عنه للكفر ولعبادة غير الله ربهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم بما يُخْرِس ألسنتهم حيث لا بُدّ من اعترافهم بما ستقوله لأنه أمرٌ لا يستطيعون تكذيبه لانتشار أخباره بينهم وللكثيرين وهو إرسال بَشَرٍ هو موسي (ص) وإنزال وَحْيٍ عليه هو التوراة وقد صَدَّقَ به وبها اليهود حينها، قل لهم إذا كان الأمر كما تَدَّعون كذباً وزُورَاً فمَن إذَن الذي أنزل التوراة وهي الكتاب الذي جاء به موسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أيْ فيها كلّ إرشادٍ للخير لهم وهي نور يكون سَبَبَاً لهدايتهم، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. لقد كانت بما فيها من إسلامٍ يُناسِب عصرها نوراً أيْ ضياءً للبَشَر من ظلامِ وتعاساتِ الكفر والفساد وهُدَيً أيْ إرْشاداً يَعصمهم أيْ يَحميهم ويَمنعهم من ذلك.. ".. تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة وانغلاق عقول بعض اليهود وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يجعلون كتابه التوراة قراطيس جَمْع قِرْطاس وهو ما يُكْتَب فيه من ورقٍ أو جلدٍ أو غيره أيْ يجعلونه أوراقاً مَكْتُوبَة مُفَرَّقة مُتَوَهِّمِين أنهم بذلك يَتَمَكّنون من التّحَكّم في شرع الله فيُبدون أيْ يُظهرون للناس بعضه مِمَّا يريدون إظهاره ويُخفون كثيراً منه حسبما يُحَقّق لهم الإبداء أو الإخفاء ثمناً مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن الكثير الذي يُخفونه اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد (ص) عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (159) من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ").. والمقصود ذمّ أمثال هؤلاء الكاتِمين لكتاب الله ولتشريعاته المُحَرِّفين لمعانيها الذين يقصدون من وراء ذلك تكذيب الرسول (ص) والقرآن قائلين ما أنزلَ الله علي بَشَرٍ من شيءٍ حتي لا يُسلموا ويمنعوا غيرهم من الإسلام، فذمّهم هذا يَفضحهم فيُخْرِس ألسنتهم فلا يَجْرُؤون علي رَمْي القرآن والرسول (ص) بالكذب وهم بكل هذا الكذب والخيانة والاحتيال والسوء واللاأخلاق!!.. ".. وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ.." أيْ وقل لهم أيضا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بما يُخْرِس ألسنتهم حيث لا بُدّ من اعترافهم بما ستقوله لأنه أمرٌ لا يستطيعون تكذيبه، قل لهم ومَن أنزل القرآن العظيم الذي جاء به محمد (ص) والذي عَلّمكم الله فيه مِن خَبَرِ ما سَبَقَ وما يأتي ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله؟! حيث فيه الإسلام المُكْتَمِل الذي يُناسب البشرية في كل عصورها وأماكنها بكل مُتَغَيِّراتها إلي يوم القيامة إذ فيه تشريعات فيها كل ما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في الداريْن بينما كان كل كتابٍ سابقٍ له فيه من الإسلام ما يُناسب البشرية في عصرها.. كذلك من المعاني وعُلّمتم بهذه التوراة أيها اليهود ما لم تكونوا تعلمونه لا أنتم ولا آباؤكم قبل إنزالها من تشريعاتٍ حيث كان فيها الإسلام الذي يناسب العصر الذي نَزَلَت فيه إذ كانت مُشْتَمِلَة علي الإسلام الذي كان في الكتب السابقة والذي كان يناسب البشرية في عصور نزولها مع إضافاتٍ تناسب زمن نزول التوراة.. وفي هذا تذكيرٌ لليهود وللنصاري وللناس جميعا بفضل الله وكرمه عليهم في إرسال رسله وكتبه التي فيها تشريعاته المُسْعِدَة لهم ليشكروا ذلك بألسنتهم وعَمَلِيَّاً بالتمسّك والعمل بها ونشرها ليسعد بها الجميع لا بإخفاء بعضها!!.. ".. قُلِ اللَّهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم: الله تعالي هو الذي أنزل ذلك الكتاب وهو التوراة علي موسى وهذا الكتاب وهو القرآن علي محمد وهو الذي عَلّمكم ما لم تكونوا تعلمون.. ".. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)" أيْ ثم بعد هذا القول الفاصِل القاطِع الحاسِم الذي لا يُمكن الجِدال فيه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، اترك أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم والذين قد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، اتركهم في خوضهم يلعبون أيْ في انْعِمَاسهم وتَوَغّلهم وسَيْرهم وازديادهم واستمرارهم في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أقوالهم وأفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشير للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)" أيْ وهذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ ومن صفاته الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك أنه مُصَدِّقٌ لِمَا بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد (ص) فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.." أيْ ولكي تُحَذّر به يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِنَ بَعْدِه أهل أمّ القري وهي مكة، فتبدأ بهم حيث هم الأقرب لك، ثم الأبْعَد فالأبعد مِمَّن حولها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لجميع الناس في كل مكان، وسُمِّيَت أمّ القري لأنها قِبْلة كل البلاد وأعظمها وأعلاها شأنا وفي مقدمتها مَكانَةً لأنّ فيها بيت الله الحرام الذي يتَّجِه إليه جميع المسلمين، تُنْذرهم جميعاً مُوَضِّحَاً لهم أنك مُبَشِّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة لمَن عمل بكلّ أخلاق هذا الكتاب، هذا القرآن الكريم، ومُحَذّرٌ بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما لمَن يَترك بعضه أو كله أو يُكذب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. ".. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)" أيْ والذين يُصَدِّقون بالحياة في الدار الآخرة، بيوم القيامة، بيوم الحساب والجزاء، هم الذين يُصَدِّقون بهذا القرآن، حيث يَدْفعهم طَلَب الثواب والخوف من العقاب يومها علي الإيمان به والعمل بكل أخلاقه لينالوا سعادتيّ الداريْن، وهم لذلك يُحافِظون علي كل هذه الأخلاق وعلي أداء صلاتهم كاملة مُسْتَوْفَاة أي يُؤَدّونها بكلِّ إتقانٍ على أكمل وأفضل وجهٍ ويُداوِمُون عليها فلا يَتركون أيّ وقتٍ من أوقاتها الخمسة ولا يَنشغلون عنها بأيِّ شاغِل.. هذا، وتَخْصِيص الصلاة رغم أنها مِن ضِمْن أخلاق وإرشادات القرآن التي يُؤمنون ويَعملون بها كلها للتنبيه علي أهميتها وآثارها المُسْعِدَة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)" أيْ لا أحد أشدّ ظلماً وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذباً وزُورَاً وتَخْريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه وهو لم يُوح إليه أيّ شيء! أو سيُنْزِل كلاماً مثل ما أنزله الله من قرآنٍ كريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ.." أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد حين الظالمون يكونون في غمرات الموت أيْ في شدائده مَغْمُورِين مُنْغَمِسين فيها عند نَزْع أرواحهم من أجسادهم والملائكة المُوَكّلَة بقبضها تَمُدّ أيديها وقُدْراتها لهم لتعذيبهم ولنزعها بكلّ شِدَّةٍ بلا رحمةٍ قائلة لهم أخرجوا أنفسكم من عذابنا وخَلّصوها من أيدينا إنْ كنتم تستطيعون ذلك كمزيدٍ من التعذيب النفسيّ لهم إضافة للجسديّ – أمّا المُحْسِنون فتستقبلهم الملائكة عند موتهم بكلّ تَبْشِيرٍ وخيرٍ وتخرج أرواحهم سهلة سريعة لتستقرّ في رحمات وجنات وخيرات خالقها الرحيم الكريم – لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديد.. هذا، والظالمون هم أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم في أول الآية الكريمة وهم كل الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)" أيْ في هذا اليوم، يوم الوفاة ودخول القبر ثم يوم القيامة، تُعطون بتمام العدل بلا أيّ ذرّة ظلمٍ ما تستحِقّونه من عذاب الهُون أي الإهانة والذلّة أي العذاب الذي يُهينكم ويذلّكم ويفضحكم، فليس الذي تُعْطَوْنَه منه سواء في دنياكم أم أخراكم إلا بسبب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم التي تعملونها وعلي قدْرها وبما يُناسبها، بسبب ما كنتم تقولونه علي الله تعالي كذباً وزُورَاً كما ذُكِرَ بعض أمثلته في أول الآية الكريمة، وبسبب أنكم كنتم تستكبرون عن آياته أيْ تَسْتَعْلُون عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها.. هذا، وآيات الله قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)
ومعني "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سيقوله الله تعالي لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله لهم الملائكة عند موتهم كما في الآية السابقة.. أيْ ولقد حَضَرْتُم إلينا للحساب والجزاء فَرْدَاً فَرْدَاً كلّ فردٍ بمُفْرَدِه كما أوْجَدناكم في الدنيا أوّل مرّةٍ حُفَاة عُرَاة مُنْفَرِدِين بلا أملاكٍ ولا أولادٍ ولا أصحابٍ ولا أعوانٍ ولا آلهةٍ عَبَدَها بعضكم غيرنا ولا أيّ شيءٍ معكم إلاّ أعمالكم التي عملتموها في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، وتأكّدَ الآن بلا أيِّ شكّ لكلّ مَن ادَّعَيَ منكم كذباً عدم وجود بَعْثٍ ومَوْعِدٍ للحساب والعقاب والجنة والنار أنَّ الأمر حقيقيٌّ صادِقٌ.. ".. وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ.." أيْ وتركتم كلّ مَا أعطيناكم ومَلّكْناكم إيّاه ومَكّنّاكم منه من مُمتلكاتٍ وراءكم خَلْفكم ولم تَحضروا بأيِّ شيء، والمقصود ذمّهم ضِمْنِيَّاً لأنهم لم يستخدموه للخير في دنياهم ليكون نافعاً لهم وينالوا أجره في أخراهم.. ".. وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ.." أيْ ولا نُشَاهِد معكم اليوم في الآخرة شفعاءكم الذين ادَّعَيْتُم كذباً وزُورَاً أنهم فيكم أيْ في اسْتِحْقاق عبادتكم وعندكم شركاء لله تعالي، وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك، والشفعاء جمع شفيع وهو كلّ صاحب شَفَاعَة أي وَسَاطَة عند الآخرين لتحقيق المنافع أيْ له مَكَانَة وقوة، والمقصود هذه الآلهة المَزْعُومة التي كانوا في دنياهم يعبدونها أي يُطيعونها كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو بَشَر ضعفاء يَمرضون ويَفتقرون ويَموتون أمثالهم أو ما شابه هذا، والتي يَتَوَهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضَرَر!! أين هي الآن حتي تَنفعكم وتُنقذكم في هذا اليوم الشديد عليكم؟!.. والمقصود ذمّهم ذمّاً شديداً وتَحقيرهم علي سوء فِعْلهم هذا وبَثّ الندم والحَسْرَة فيهم حيث لا ينفع الندم فيكون ذلك لهم مزيداً من الرعب والعذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار.. ".. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ.." أيْ لقد تَقَطّع ما بينكم من رَوَابِط وصِلَات ومَوَدَّات وعلاقات كنتم تَتَوَاصَلُون وتَتَناصَرُون بها في دنياكم فلن تَنفعكم بأيِّ شيءٍ الآن فلم يَعُدْ يَنفع أحدٌ أحداً شيئا.. ".. وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عنكم كل ما كنتم تَدَّعون كذباً وزُورَاً في الدنيا، ما كنتم تعبدونه في دنياكم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعكم قطعا بأيّ شيءٍ ولن تنقذكم ممّا أنتم فيه، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من أنه قد تَقَطّع بينهم، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنكم كلّ أدِلّة علي ما كنتم تدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياكم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعكم أو تمنع الضرَرَ عنكم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد تعلمون تمام العلم وتتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءكم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنكم كنتم كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ الله تعالى هو وحده الذي يَفْلق أيْ يَشقّ الحبّ الجافّ فيخرج منه الزرع الأخضر النّامِي بكل أنواعه ويَشقّ النّوَىَ الصّلْب – جمع نواة وهي التي تكون داخل التمر وغيره – فيخرج منه الشجر المُتَنَوِّع بكل أزهاره وثماره، لنفع الناس والخَلْق ولسعادتهم.. ".. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.." أيْ هو الخالق سبحانه القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه، فهو يَخْلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِمَّا هو ميّت بلا روح كماء الشرب، ويخلق بَيْضَاً مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وما شابه هذا من إعجاز.. ".. ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)" أيْ ذلكم المُتَّصِف بما ذُكِر بما يدلّ علي تمام قُدْرته وعِلْمه وأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ الخالِق لكلّ هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم التي لا يُمكن حَصرها هو الله الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه، فأنّيَ تُؤْفَكُون أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)" أيْ وأيضا من بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي يَفْلق أيْ يَشقّ ضياء الصباح من ظلام الليل، ليَسْعَيَ الخَلْق لتحصيل سعادات أرزاقهم وأرباحهم.. ".. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا.." أيْ وجَعَلَ سبحانه الليل يُسْكَن إليه أيْ مُسْتَقَرَّاً يَسْكن فيه الناس ويَرتاحون بعد تَعَب حركتهم وسَعْيهم فيكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله.. ".. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.." أيْ وجَعَلَ الشمس والقمر مَحْسُوبان بحسابٍ دقيقٍ بحيث لا يُمكن أبداً ولا يَحدث أنَّ الشمس تُزَاحِم القمر في غير وقت طلوعها وفي زمن وجوده، ولا هو كذلك يُزاحمها، ولكن كلاّ منهما له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويسير ويدور فيه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق ولسعادتهم، حيث بضوء الشمس وظِلّها يُمكن حساب الساعات والدقائق والأيام، وبتَغَيُّر مواضِع القمر وانعكاساته إذ يكون هلالاً ثم مستديراً ثم يعود هلالاً وهكذا يُمكن حساب الأيام والأسابيع والشهور والأعوام والأعمار.. ".. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)" أيْ ذلك الجَرَيَان للشمس والقمر وغيرهما من الكواكب بحُسْبَانٍ دقيق، وتَعَاقُب الليل والنهار، وذلك النظام المُحْكَم عموماً في كل الخَلْق في كل الكَوْن، هو نظامٌ مُقَدَّرٌ بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل، إنه نظامُ الله تعالي، العزيز الذي لا يُغَالَب ولا يُمَانَع فلا يَغلبه أو يَمتنع عن أوامره أيّ مخلوق، وهو العليم، أي بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه
ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)" أيْ وكذلك من بعض معجزاته أنه هو وحده سبحانه الذي خَلَقَ لكم أيها الناس النجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ لتَسْتَرْشِدوا بهذه المواقع فتَعرفوا الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البر والبحر بما يَهديكم ويُرْشدكم ويُوصلكم إذا سِرْتُم في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث تريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحكم ومنافعكم وسعاداتكم.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)" أيْ قد بَيَّنّا بكل تأكيدٍ ووَضَّحْنا وفَصَّلْنا بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْننا والتي تدلّ علي وجودنا وكمال قُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا، وكذلك الآيات في قرآننا العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده لا غيره الذي ابتدأ خَلْقكم وأوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وفي هذا تذكيرٌ أيضا ببعض نِعَم الله التي لا تُحْصَيَ علي الناس حيث رجوعهم إلى أصلٍ واحدٍ يجعل بينهم حبّ وتَرَاحُم وتعاون فيَسعدون بذلك.. ".. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.. " أيْ وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ فلكم استقرارٌ في أصْلاَب آبائكم – والمقصود مكان وجود المَنِيّ في الرجل وهو الخِصْيَتَيْن والذي يتكوَّن منه الجنين بعد اتّحاده مع بويضة المرأة – أو فوق الأرض لفترة حياتكم في الدنيا تنتفعون وتسعدون بها، ولكم استيداعٌ كالوديعة المُؤَقّتة في الأرحام أو تحت الأرض في القبور انتظاراً للمُسْتَقَرّ النهائيّ الأخير في الآخرة حيث السعادة التامّة لمَن أحسنَ والتعاسة التامّة لمَن أساء، أو لكم مكانُ استقرارٍ واستيداعٍ في كلّ ما ذُكِر، في الأصلاب والأرحام وسطح الأرض وداخلها بالقبور ثم المستقرّ الخالِد في الآخرة.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)" أيْ هذا استخدامٌ لذات الألفاظ كما في نهاية الآية السابقة (برجاء مراجعتها للشرح والتفصيل) لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيهما والتنبيه لهما والتذكير بهما وتثبيتهما وعدم نسيانهما، مع مراعاة أنَّ لفظ يفقهون يعني يعلمون لكنْ مع مزيدٍ من التّعَمُّق والتّدَبُّر والفهم والوَعْي والإدراك والبحث والتدقيق والكشف عمَّا هو غامض، وهو ما يُناسِب دِقّة خَلْق البَشَر وعقولهم وتَطوّرات حياتهم
ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاته ومن تمام قدْرته وعلمه ورحمته وعطائه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا.." أيْ هذا تفصيلٌ لبعض هذا الإخراج المُعْجِز.. أيْ فأخرجنا وأنبتنا من هذا النبات شيئاً أخضر أيْ مادة خضراء أو زرعاً صغيراً طَرِيَّاً أخضر هو أول ما يخرج من الزرع من الحبّ الصلب المزروع في الأرض، ونُخْرِج من هذا الشيء أو الزرع الصغير الأخضر بعد نموه حبَّاً مُتَرَاكِمَاً بعضه فوق بعض صلباً مرة أخري كما في سَنابِل القمح والأرز وما شابه هذا.. ".. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ.." أيْ وبقُدْرتنا يَخرج مِن طَلْعِ النخل – وهو أول ما يَطلع من ثمارها وهو كُوز أخضر يَتَفَتَّح وتَخرج منه السُّبَاطَة التي تحتوي على الأعواد التي تحمل حبَّات البلح – قِنْوانٌ دانية أيْ قريبة بحيث يَسهل الحصول علي ثمارها وهي جَمْع قِنْو وهو ما يحمل التمر.. ".. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ.." أيْ وكذلك بقُدْرتنا أخرجنا بهذا الماء جنّاتٍ أيْ بساتين من كل أنواع العِنَب والزيتون والرمان وغيره مِمَّا يَنفع ويُسعد الناس والخَلْق.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص النخل وهذه النباتات بالذكر لاشتهارها حيث الجميع يعرفها ولكثير منافعها.. ".. مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ.." أيْ بعض ذلك الذي ذُكِر مُتَشَابِه ظاهرياً في الشكل أحياناً مع اختلاف الأطعم والفوائد، وبعضه لا يَتشابَه، بما يدلّ علي تمام قُدْرَة خالقه سبحانه وحُبّه للناس وتكريمه وإسعاده لهم بتنويع نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف عليهم.. ".. انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ.." أيْ شاهِدوا بأبصاركم وتَدَبَّروا بعقولكم أيها الناس، انظروا نَظَر تَأَمُّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقُّلٍ وتَعَمُّقٍ واعتبارٍ إلى ثَمَرِ هذا النبات المُتَنَوِّع كله إذا أثمر في بداية خروج ثماره وانظروا إلي يَنْعِهِ أيْ نُضْجِهِ حين يَنْضُج كيف تَمَّ بعد أطوارٍ مُتَعَدِّدةٍ وصارَ نافعاً مُسْعِدَاً لكم.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)" أيْ إنَّ في ذلكم الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)" أيْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا المؤمنون الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة.. بينما المُكَذبون المُعَانِدون المُستَكْبِرون المُصِرُّون علي ما هم فيه لا ينتفعون بها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)" أيْ ورغم كل هذه الدلالات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات الحاسمات السابق ذِكْرها التي تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، جَعَلَ المشركون وهم الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، جعلوا له شركاء في العبادة مِن الجِنِّ يعبدونها أيْ يُطيعونها، أيْ كانوا يعبدون الجنّ أي الشياطين أيْ كلّ شرٍّ من عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – ولذلك فَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. والسبب في هذه العبادة للجِنِّ أو لغيرها هو تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَخَلَقَهُمْ.." أيْ وجعلوا لله شركاء من الجنّ والحال والواقع أنه تعالي هو وحده الذي قد خَلَقَهم وما يعبدون من الجنّ، فهو المُنْفَرِد وحده بخَلْق كل المخلوقات من عدمٍ فيجب أن يَنْفَرِدَ بالعبادة وحده بلا أيِّ شريكٍ له.. إنه قد خَلَقهم وليس الجنّ فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل مع علمهم ذلك داخل فطرتهم التي في عقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أن يعبدوا غيره وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ!.. وهل يُقارن الخالق بمَا خَلَقَه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. وفي هذا تأكيدٌ علي شِدَّة قُبْحهم وسُوئهم وجهلهم، وفيه ذّمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.." أيْ وزادوا في ضلالهم واخْتَلَقُوا له سبحانه أيْ كَذَبوا عليه كذباً شنيعاً ليس له أيّ أصل مُدَّعِين له أبناء من البنين والبنات كما ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وكما ادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله كأنه تعالي بَشَر يَتزوّج ويُنْجِب!!.. ".. بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ هؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم يفعلون كل ذلك وغيره من سوءٍ بغير عقلٍ ولا أيّ دليل! أيْ بغير تَعَمُّق وتَدَبُّر في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم! وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به وَصَفَهَا المُكَذّبون كَذِبَاً وزُورَاً، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)" أيْ كذلك من الأدِلّة المَنْطِقِيَّة والعقلية علي أنه تعالي أرْفَع وأعظم قطعاً من أن يكون في حاجةٍ لمَن يُعينه من زوجةٍ أو ولدٍ أو شريكٍ أو غيره علي إدارة شئون الكوْن والخَلْق أنه هو وحده لا غيره بديع السماوات والأرض أيْ مُبْدِعهما وكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ أيْ مُوجِدهما من عدمٍ ومُخْتَرِعهما على غير مثالٍ سابقٍ بلا تقليدٍ لشيء ومُتْقِنهما ومُحْسِنهما بأكمل إتقانٍ وإحسان.. ".. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.." أيْ كيف يكون له ولد كما يَدَّعِي بعض المُكَذّبين وهو لم تكن له زوجة؟! وكيف أيضاً يكون له ولد وقد خَلَقَ كلّ شيءٍ فيكف يُتَصَوَّر أن يكون المخلوق وَلَدَاً لخالقه؟! وأيّ معني وفائدة لاتّخاذِ ولدٍ له وهو غنيّ عن كلّ شيءٍ لا يحتاج لأيِّ مُعِين؟!.. ".. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)" أيْ وهو تعالي فوق كل هذا عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أليس كل ما سَبَقَ ذِكْره هو من الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه؟!
ومعني "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)" أيْ ذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – وهو الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه وهو وحده سبحانه خالقكم وخالق كل شيء في هذا الوجود وأوْجَده مِن عَدَمٍ ولم يستطع أيُّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ علي أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقه وبالتالي فاعبدوه أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)" أيْ وهو وحده الوكيل علي كلّ شيء، لأنه خَلْقه وصَنْعَته، الوكيل بكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته، أي الحافِظ والراعِي والمُتَكَفّل باحتياجاته والحارس له والمُدافع عنه والمُتَصَرِّف في شئونه علي أكمل وأسعد وجهٍ وبكل حِكمةٍ دون أيّ عَبَثٍ والمُرشد له لكل خيرٍ وسعادة، كمَن هو وكيل عن غيره في تصريف أعماله ولله المثل الأعلي، ولذا فهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده وتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، ومن معاني "وكيل" أيضا أيْ رقيب أيْ مُرَاقِب مُطّلِع على كلّ شيءٍ من أحوالكم أيها الناس حافِظ له تمام الحِفْظ وسيُحاسبكم عليه فاحذروا أن تتجاوزوا ما شَرَعَه لكم في الإسلام من وصايا وضوابط مُسْعِدَة، لأنّ هذا التجاوُز يُؤدِّى إلى عدم رضاه عنكم وبالتالي عدم عوْنكم وتوفيقكم فتتعسون حتماً في الداريْن
ومعني "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)" أيْ لا يُمكن لأحدٍ أن يراه ببصره في الدنيا – أمّا المُحْسِنون فيرونه في الآخرة في الجنة كتكريمٍ لهم – لشدّة عظمته وهيبته ولأنَّ العيون ليست مُؤَهَّلَة لرؤيته في دنياها رحمة بالخَلْق وإلاّ هَلَكوا لو رأوه وإنما تُدْرِك العقول وجوده لا حقيقته بالتّدَبُّر في مخلوقاته وآثار تَصَرُّفاته المُحْكَمَة في كوْنه، وهو تعالي يُدْرِك أيْ يعلم ويعرف تماماً كل الأعين وإمكاناتها وما فيها وما تراه وما تسمعه الآذان وما تُحِسّه الحَوَاسّ والأبْدَان وما تفكّر فيه العقول بعدما تراه وتسمعه وتُحِسّه فهو يري ويسمع ويعلم كلّ شيءٍ بكل إحاطةٍ وتفصيلٍ فلا تَخْفَيَ عليه أيُّ خافيةٍ من خَلْقه لأنه خالقهم، وهو اللطيف الخبير أيْ وهو وحده لا غيره الذي يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه، وهو أيضا الخبير أيْ العليم بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول.. هذا، ومن معاني "اللطيف" أيضا أنه يُوصِل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير – بل ولكلّ خَلْقه – بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سَهْلَاً، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق.. إنه تعالي ليس كمِثْلِهِ شيء في صفات كماله الحُسْنَيَ، فهو بالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. فانتبهوا إذَن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كل خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)" أيْ لقد وَصَلَ إليكم أيها الناس من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – بصائر جَمْع بَصيرة أيْ إدراك العقل أيْ لكي تتبَصَّروا بها أيْ تَروا وتُدركوا وتَتدبَّروا بعقولكم وتُنير لكم طريقكم في حياتكم وتكون لكم هديً أيْ إرشاداً فتعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لكم الرحمة أيْ السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، وهذه البصائر هي آيات الله والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص).. ".. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا.." أيْ فمَن رَأَيَ وأدْرَكَ وتَدَبَّرَ وتَعَقّلَ واسْتَنَارَ بهذه البصائر، رَأَيَ الحقَّ والعدل والخير والسرور الدنيويّ والأخرويّ الذي في الإسلام الذي فيها وآمَنَ أيْ صَدَّقَ به واسْتَرْشَدَ بتوجيهه وسارَ خَلْفه وتمسّكَ بكلّ أخلاقه، فهو حتماً أول المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن عَمِيَ أيْ لم يُبْصِر ذلك ويَعقله أيْ ضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عن إسلامه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!!.. إنه مَن يَجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..").. والعكس صحيح قطعا، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما أنا حفيظ عليكم أيْ حافظ لأعمالكم مُراقِب لها حتى أحاسبكم عليها مُوَكَّل بكم لا أفارقكم دون أن تؤمنوا! فليس لي إكراهكم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية (41) من سورة الزمر ".. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وخلاصة القول أنه ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب
ومعني "وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذا التّصْرِيف أيْ التنويع والتّعَدُّد والتكثير من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، وكما صَرَّفنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ".. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ.." أيْ ولكي كذلك في ذات الوقت نُبَيِّنَ الدليل ونُقِيم الحُجَّة علي المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين فيَنْكَشِف حالهم وأمرهم لأنهم بَدَلَاً أن تطمئنّ عقولهم بهذه الآيات الدامِغات المُعجزات المُتنوِّعات سواء في القرآن الكريم أم في مخلوقاته تعالي في كوْنه حولهم ويُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن إذا بهم يُزَوِّرُون الحقائق ولا يَجِدُوا إلا أن يقولوا كذباً وزُورَاً دَرَسْتَ يا محمد أيْ ما جِئْتَ به من قرآنٍ ما هو إلا دراسات قد درستها علي يد مُدَرِّسِين فلاسِفة أو أهل الكتاب كاليهود والنصاري وليس وَحْيَاً من عند الله!! ليُشَكّكوا في القرآن والإسلام فلا يَتّبعوه ولا يَتّبعه أحد.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)" أيْ ولكي نُوَضِّحَ القرآن وما فيه من آياتٍ لقوم يُدْرِكون أهميته وفوائده وسعاداته ويَنتفعون ويَسعدون به في دنياهم وأخراهم لأنهم يَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم واستجابتهم لنداء فطرتهم بداخلهم، فهم فقط المُنْتَفِعِين السعيدين به وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)" أيْ سِرْ يا رسولنا الكريم خَلْف وسِيرُوا أيها المسلمون خَلْف القرآن العظيم وتمسّكوا واعملوا بكلّ ما فيه من أخلاق الإسلام في كلّ شئون ولحظات حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فهو مُنَزّل إليكم مِن ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُرشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم الذي لا إله هو أيْ الذي لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك المشركين واتركوهم أيها المسلمون وهم الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! ولو شاء ألاّ يُشْرِك هؤلاء المشركون ما أشركوا! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..").. ".. وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.." أيْ وما جعلناك عليهم حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى تحاسبهم عليها مُوَكَّلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس لك إكراههم على الإيمان، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد أنه ليس بحفيظٍ عليهم، أيْ ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً عفيفَ اللسان لا تَتَلَفّظ بلفظٍ إلا إذا كان حَسَنَاً طيّباً لَيِّنَاً سَهْلاً مُتَوَاضِعَاً نافعاً مفيداً مُصْلِحَاً لا إساءة فيه لأيِّ أحدٍ ولا إيقاع لأيِّ خُصُومَة مَصْحُوبَاً بكل نوايا الخير المُمْكِنَة بداخل العقل.. إنه بانتشار عِفّة اللسان ينتشر الرُّقِيّ والتّطَوُّر والنّمُوّ والخير، ويَرْقَيَ الجميع ويتلاحَمون ويتحابُّون ويتكاتَفون ويتعاونون ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإيّاك إيّاك أن تكون بَذِيء اللسان تقول السوء والشرّ والغليظ والفاحِش والمُغْرِض والمُسِيء والساخِر والمُوُقِع للخُصُومَات من الأقوال، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويَتَشاحَنون وقد يَقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)" أيْ ولا تَشْتِمُوا أيها المسلمون، أيْ لا تَتَلَفّظوا بألفاظٍ قبيحة، الآلهة التي يَدْعونها غير الله تعالي أيْ يَعبدونها أمثال هؤلاء الذين يعبدون غيره سبحانه، فيَتَسَبَّب ذلك في أن يَسُبُّوا الله عَزّ وجَلّ في المُقابِل انتصاراً وغَضَبَاً لآلهتهم، يَسُبُّونه عَدْوَاً أيْ تَعَدِّيَاً واعتداءً علي جلاله وعظمته وتجاوزاً الحقّ إلي الباطل والخير إلي الشرّ، بغير علمٍ أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليلٍ أيْ بغير تَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن الممكن إطلاق بعض الأوصاف الصحيحة الحقيقية، وليس الشتائم والألفاظ البذيئة، التي ذكرها القرآن الكريم، بكل أدب الإسلام، علي الآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله، كأنها مثلا لا تَنفع ولا تَضُرّ ولا تَعْقِل ولا تَسمع ولا تُبْصِر ونحو ذلك من أوصاف، لكنْ إنْ أدَّيَ أيضا هذا التوصيف لها إلي ضَرَرٍ مَا، كسَّبِّ الله تعالي، أو إلي انقطاع التواصل مع مَن يدعوهم المسلمون لله وللإسلام منهم، أو ما شابه هذا من أضرارٍ يُقَدِّرونها بتقديرهم، فحينئذٍ يَمتنعون حتي لا يتحوّل العمل الصالح المُسْعِد المُثَاب عليه في الداريْن إلي عملٍ فاسدٍ مُتْعِسٍ مُعَاقَب عليه فيهما.. ".. كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.." أيْ كما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم أعمالهم السيئة كذلك زيّنا لكل أمة عملهم أيْ زيّنا لأهل الخير الخير ولأهل الشرّ الشرّ، والتزيين هو التحسين، بمعني أنَّ الخير والشرَّ مُتَاحَان للجميع، والإنسان هو الذي يختار بكامل حرية إرادة اختيار عقله بينهما حسب رؤيته لهما، فإنْ أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا ومُبَرْمَجَة من خالقها علي استحسان الخير لأنه يسعدها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ورَأَيَ الخير هو الحَسَن المُسْعِد له في الداريْن واختاره وسارَ فيه وعمل به أيْ عمل بكل أخلاق الإسلام سَعِد حتماً في دنياه وأخراه، والعكس صحيح قطعاً، فمَن أساء استخدام عقله وأغلقه وعانَدَ وعاكَسَ فطرته لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة فتَوَهَّم الشرَّ شيئاً حَسَنَاً واختاره وعمل به تَعِسَ بالقطع فيهما.. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنه هكذا دائماً لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي ربِّ الناس لا إلي غيره – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – رُجُعوهم جميعا يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِرهم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كانوا يعملون في دنياهم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منهم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منهم شرَّاً فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)" أيْ وحَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ، حلف المشركون الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم من المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم أنهم إنْ وَصَلَتْهم آية أيْ دليل ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حَدَثَ مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من آيات، فسيؤمنون بها بكل تأكيد علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادر قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!! إنهم إن لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! وهذا هو معني ".. قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ مَجِيء الآيات أيْ المُعْجِزات الخارِقات للعادات ليس إلاّ من عند الله وحده سبحانه لا من عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ".. وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)" أيْ وما يُدْرِيكم أيها المؤمنون لعلّ هذه المُعجزات إذا جاءت لا يُصَدِّقون بها أمثال هؤلاء، أيْ وما يُدْريكم أنها إذا جاءت لا يُؤمنون أو يؤمنون، أيْ لا تَدْرُون ما أعلمه مِن أنهم إذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، أيْ لا تَدرون أيها المسلمون المُحِبُّون لأنْ يُسْلِم الجميع ليسعد مثلكم في الداريْن كما يَطلب منكم إسلامكم ما هم عليه من الإصرار والعِناد بداخل عقولهم بحيث لو جاءت لهم أعظم آية لا يؤمنون، لأنَّ الأمر ليس في نقصان الآيات وإنما في زيادة الإصرار بالعقول علي الاستكبار والعناد والزوغان!!
ومعني "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)" أيْ وإنكم لا تَدْرُون أيضاً أننا نُقَلّب قلوبهم أيْ نُحَرِّك ونُحَوِّل عقولهم عن الحقّ والعدل والخير والصواب فلا تفهمه ولا تعقله وكذلك أبصارهم فلا تراه ولا تُدْركه فلا يُؤمنون ويَستمرّون علي تكذيبهم كما كان حالهم حينما لم يؤمنوا بالقرآن العظيم وبغيره من آيات الله حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه أول مرة لَمَّا دُعُوا إلى الإيمان به وبها سابقاً لفتراتٍ وبكل الوسائل.. وهذا التقليب للقلوب ليس حتماً إكراهاً وإجباراً من الله تعالي أو ظلماً منه لهم!! حاشَا لله وهو الذي يريد الهداية لجميع خَلْقه والذي ما خَلَقَهم إلا لإسعادهم، ولكنهم هم بالقطع السبب فيه، فهو بسبب إصرارهم التامِّ علي غَلْق عقولهم، فهم لمّا مَالُوا وانحرَفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير أَمَالَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الزَّيْغ أي الانحراف والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الزائغين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذاباً مُناسباً لشرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)" أيْ ونَتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن نُيَسِّر لهم أسبابه وبأن نُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ونَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا).. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)" أي هؤلاء الذين أقْسَمُوا بالله جَهْدَ أيْمانهم لئن جاءتهم آية ليُؤْمِنُنَّ بها كما في الآيتين السابقتين، كاذبون، يُرَاوِغُون حتي لا يُسْلِموا، ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة يرونها بأعينهم لِتَشْهَد بصِدْق الرسل، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم كمُعجزةٍ لرسلهم حيث أحيوهم بإذن الله وحتي يشهدوا أيضا بصِدْقهم ويُكَلّموهم أنهم صادقين فاتّبِعوهم وأَسْلِموا، وجَمَعْنَا لهم كل شيءٍ من المُعجزات والمَخْلوقات مُقابِلَاً مُوَاجِهَاً لهم مُبَيِّنَاً أنهم علي الحقّ وأنه لا إله إلا الله، لو أننا فَعَلْنا كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا أيْ لم يؤمنوا، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء المُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.." أيْ لن يؤمنوا بأيِّ حالٍ من الأحوال إلاّ في حالة أن يشاءوا هم أولا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية لله وللإسلام ويَتّخِذوا أسباب ذلك بأنْ يُزيحوا الأغشية التي وضعوها علي عقولهم بأنْ يُحْسِنوا استخدامها ويستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فحينها يَشاء الله لهم ذلك بأنْ يُوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الهداية لله وللإسلام وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)" أيْ ولكنَّ أكثر هؤلاء يَجْهَلون ولا يَعقلون الحقّ وكلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وعَوَاقِبَ وتعاسات ما هم مُصِرُّون عليه في الداريْن.. إنهم لا يَعلمون ولا يُدْرِكون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها.. إنهم جاهِلون غير عالِمين بما يَنفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علمٍ فيَتّبِعونه ويعملون به.. إنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم!.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)" أيْ وكما أنَّ لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به ويَدعو لله وللإسلام وللحقّ وللعدل وللخير وينشره ويدافع عنه أعداءً يحاولون منعك من ذلك بكل الوسائل بالترغيب والترهيب لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة من شياطين الإنس أيْ الناس أيْ السَّيِّئِين منهم كالشياطين، ومن الجنّ أيْ الشياطين أيْ كلّ شرٍّ من عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – حيث يُوحِي بعضهم لبعض أيْ يُوَسْوِس الجنّ أيْ الشياطين أيْ التفكير الشَّرِّيّ إلي شياطين الإنس والذين بدَوْرِهم يُوَسْوِسُون لبعضهم البعض ضِدَّك والإسلام كلاماً مُزَخْرَفَاً مُزَيَّنَاً مُجَمَّلَاً وهو ليس كذلك حيث ظاهره حَسَن وباطنه لغرضٍ سَيِّءٍ وهو لكي يُغْرُوا أيْ يَخدعوا به غيرهم ويبعدوهم عن الحقّ إلى الباطل أيْ عن الإسلام إلي غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ مُتْعِسَةٍ لهم في دنياهم وأخراهم، فكما أنَّ لك أعداءً من هؤلاء فكذلك كان الحال مع كلِّ نَبِيٍّ قَبْلَك ومع كل مسلمٍ مُتّبِعٍ له، فلا تَحزن واصْبِر واصبروا أيها المسلمون مِثْلهم لتنالوا سعادتيّ الداريْن كما نالوا.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب.. ".. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.." أيْ ولو أراد ربّك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – ما فَعَلَ هؤلاء المُعَادُون هذا العَدَاء لك وللإسلام والمسلمين وهذا الإيحاء بزُخْرف القول غُرُورا، لأنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ولكنه لم يشأ ألاّ يفعلوه، للمصلحة، للاختبار (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لتَخرجوا من هذه الأحداث مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة حيث ستَتَمسّكون وتعملون أكثر بإسلامكم وتَحرصون عليه وعلي نَشْره والدفاع عنه أكثر وأكثر حتي لا يمنعكم منه أعداؤكم وهو مَصْدَر سعادتكم في دنياكم وأخراكم أنتم وجميع الناس لو عملوا بكل أخلاقه.. إنه تعالي خَلَقَ وشاء نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحراراً لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وقد سَمَحَ سبحانه بوجود الشرّ وبهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صِفَة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوه ولكنْ ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. وفي هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. ".. فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)" أيْ فاتْرُك أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم وما يَكْذِبونه علي الله من كفرٍ وعداءٍ وغيره من شرور ومفاسد وأضرار فلا تَتَأثّر بأقوالهم وأفعالهم واستمرّوا علي عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه وادعوهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم واصبروا وتوكّلوا علي ربكم، فإن لم يستجيبوا ويعملوا بالإسلام، فسوف يعلمون سوء نتائج ذلك، أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم، فذرْهم إذن، أيْ اتركهم فيما هم فيه، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)" أيْ وهذا بيانٌ لحِكْمَةٍ أخري من حِكَم الله تعالي في وجود أعداء لكلّ نَبِيٍّ وللإسلام والمسلمين.. أيْ يُوحِى بعضهم إلى بعضٍ زُخْرُف القول غروراً أي لكي يُغْرُوا أيْ يَخدعوا به أنفسهم وغيرهم ويبعدوهم عن الحقّ إلى الباطل أيْ عن الإسلام إلي غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ مُتْعِسَةٍ لهم في دنياهم وأخراهم، ولكي تَصْغَيَ أيْ تَميل إلى هذا الكلام المُزَخْرَف المُزَيَّن الخَادِع قلوب أيْ عقول ومشاعر الذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار لأنَّ الذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي هذا الشرّ وفِعْله، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فاستفيدوا من هذه الحِكْمَة أيها المسلمون بأن تنتبهوا لذلك تماما ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه وكذلك استفيدوا بأنْ تَتَجَمَّعوا علي الخير وتتعاونوا عليه كما يتجمّعون ويتعاونون هم علي الشرِّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما كتعاستهم، فأهل الشرِّ يُزَيِّن ويَخْدَع بعضهم بعضاً بما هم فيه من شرّ، سِرَّاً وجَهْرَاً، تخطيطاً وقولاً وفِعْلَاً، فيَخدعون أنفسهم ويُفسدونها، وتَصْغَيَ أيْ تَميل إليهم نفوس أهل الشرّ مِثلهم الذي يُعَطّلون عقولهم ويُسيئون استخدامها ويَنْسون الآخرة والتجهيز لها بعمل الخير أو لا يؤمنون بها أصلا، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)" أيْ وهذا بيانٌ للتّدَرُّج في السوء لِتَحْذَروه أيها المسلمون.. أيْ ولكي يَتَقَبَّلوا هذا الشرّ ولكي يكتسبوا ويفعلوا ما هم مُكْتَسِبون وفاعلون من شرور، والمقصود أنه يَحْدُث أولا الإيحاء بالشرّ بزُخْرف القول والخداع به ثم المَيْل له ثم الرضا به وتقبله ثم بسبب ذلك وبسبب عدم الإيمان بالآخرة ونسيانها يَقترفوا ما هم مُقترفون.. إنَّ الله تعالي سيُحاسبهم علي كل ذلك إنْ لم يتوبوا بما يُناسب من عقابٍ في دنياهم ثم أخراهم
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اسألهم علي سبيل الذمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك، قل لهم هل أطلب غير الله تعالي حاكِمَاً أحْتَكِمُ وأرْجِعُ إليه دائما في كل مواقف ولحظات حياتي من خلال ما وَصَّيَ به في دينه الإسلام من وَصَايَا وأخلاقِيَّات وتشريعات وأنظمة مُسْعِدَة تماماً في الداريْن لكل مَن عمل بها كلها، والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره الذي أنزل إليكم الكتاب أي القرآن العظيم مُفَصَّلَاً أىْ مُبَيَّنَاً فيه كل القواعد والأصول التي تُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم؟!!.. فلا أطلب بالتالي حَكَمَاً غيره، وكيف إذَن أحْتَكِمُ لهذا الغَيْر وهو ليس خالقاً له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ يَسْتَحِقّ العبادة أي الطاعة كما هو الله تعالي وكيف أحتاج أن أرْجِع لكتابٍ غير كتابه أيْ القرآن بعد كل هذا التفصيل وتكون فيه تشريعات ناقِصَة أو مُخَالِفَة له؟! إنَّ هذا لا يكون مُتَصَوَّرَاً لي ولكل مسلم ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل! إنه سيكون حتما سَفَهَاً وخطأ وتَخَبُّطَاً وتعاسة في الداريْن!!.. ".. وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.." أيْ وزيادةٌ في تأكيدِ أنَّ هذا القرآن العظيم حقّ وأنه من عند الله وأنَّ المسلمين لا يُمكن أنْ يَطلبوا غيره تعالي وغير قرآنه حَكَمَاً أنَّ الذين أعطيناهم الكتاب قَبْلَه كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري يعلمون ويُقِرُّون ويَعترفون أنه أي القرآن العظيم وما فيه من دين الإسلام مُنَزَّل من ربك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، ويعلمون أيضا أنَّك رسول الله حقاً وصِدْقَاً بأوصافك المَذْكُورة في كُتُبهم، وقد أسْلَمَ بعضهم بالفِعْل ولو سألتموهم أيها المُكَذّبون لصَدَّقوا هذا الكلام ولَشَهِدوا بصِدْقِك، ولكنَّ بعضهم يُخْفُون هذا الحقّ وهم علي علمٍ تامّ بأنه حقّ وعلمٍ بصِدْقه وصلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها في دنياها وأخراها وعلمٍ بأنهم مُعَذّبون فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وعدم اتّباعهم للإسلام، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا القرآن العظيم الذي أُنْزِلَ علي الرسول (ص) هو مُصَدِّق لكل الكتب السابقة أيْ مُوافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه وصِدْق هذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها المكذبون إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به.. وفي ذلك حثّ وتشجيع للمُكَذّبين على الإيمان وأيضا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لنتائج عدم إيمانهم.. ".. فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)" أيْ دين الإسلام الذي أنت عليه أيها المسلم هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد (ص)، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً بالتأكيد من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
ومعني "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)" أيْ ولقد كَمُلَتْ كلمات ربك أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وهي آيات القرآن العظيم الصادقة العادِلَة وبَلَغَت الغاية القُصْوَيَ في الكمال من ناحية الصدق والعدل، صِدْقَاً في أخبارها ووُعودها فلا أصدق منها، وعَدْلَاً في أحكامها وقضاياها وقوانينها وتشريعاتها وأنظمتها فلا أعدل منها.. إنَّ في القرآن الكريم أنظمة مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي نهاية الحياة وقيام الساعة.. ".. لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.." أيْ لا مُغَيِّر أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)" أيْ وهو الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)" أيْ وإنْ تُطِع أيها المسلم أكثر مَن في الأرض مِن الناس الكفّار ومِن الناس الذين لا يَتّبِعون الإسلام، تُطِعهم فيما يريدون منك أن تفعله من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام، وتَتّبِعهم وتَتَشَبَّه بهم في شرورهم، يُبْعِدوك عن سبيل الله أيْ عن طريق الله طريق الحقّ والعدل والاستقامة طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يُبْعِدوك عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. إنكم أيها المسلمون إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، قد يَتَدَرَّجُون معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يرجعوكم بعد إيمانكم كافرين أيْ مُكَذّبين بربكم ودينكم فاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث ينشرون ذلك بينكم ويُيَسِّرونه لكم ويُعينوكم عليه فتتعسون تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد أنَّ كثير منهم لا كلهم يفعلون ذلك، وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وعمله بالإسلام وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما.. ".. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)" أيْ لأنهم لا يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ هم كذلك إلاّ يَخْرصون أيْ يقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي قد وضعوها عليها من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)" أيْ مَن يَبتعِد ويُعانِد ويُكابِر ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليتحمَّل إذَن نتيجة سوء عمله، لا يَتَحَمّله عنه الرسل الكرام، ولا المسلمون الدعاة مَن بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوته بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة، فليطمئنوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعويهم حينما يُعْرِضون هم عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا يلتفتوا لهم ولا يتأثّروا بتصرّفاتهم وليستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم وفي دعوتهم غيرهم لله وللإسلام، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم، فهو تعالي يعلم مَن سيشاء الهداية فيَشاءها له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه ويُسَدِّده لها ويُعينه عليها، ويعلم مَن لن يشاءها فلا يشاؤها له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يُوَفّقه لها ما دام لم يُحسن هو استخدام عقله ويَتقدّم نحوها ولو بخطوةٍ حتي يعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11) (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه الأعلم بالمُهتدين أيْ بأهل الهُدَيَ والخير أيْ بالراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم، وبأهل الضلالة والشرّ، وسيُجازي كلاّ بعمله، بكل خير وسعادة أو كل شرّ وتعاسة، في الدنيا قبل الآخرة، بما يناسب قَدْر خيرهم أو شرّهم.. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم، وتحذير شديد لمَن ضَلَّ عن سبيل الله أيْ طريقه وطريق الإسلام لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)" أيْ إنْ كنتم بآيات الله مؤمنين فكلوا من الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها بقول باسم الله أو بأيِّ ذِكْرٍ آخرٍ له سبحانه، ولا تأكلوا مُطلقاً مِمَّا ذُكِرَ عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره.. ".. إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقّ بآيات الله أي تشريعاته التي في القرآن العظيم كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)" أيْ وأيُّ شيءٍ يَمنعكم أيها المسلمون مِن أنْ تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه والحال والواقع أنه قد بيَّن الله تعالي لكم بكل تفصيلٍ دقيقٍ شامِلٍ عميقٍ واضحٍ مُقْنِعٍ حاسِمٍ قاطِعٍ لا يَقبل أيّ جدالٍ في آيات قرآنه العظيم ومن خلال رسوله الكريم (ص) كلّ ما حرَّم عليكم؟! لكنْ ما دَعَت إليه الضرورة بسبب مَجَاعَةٍ مثلاً مِمَّا هو مُحَرَّمٌ عليكم كالميتة وغيرها فإنه مُبَاحٌ لكم بالقَدْر الذي يحفظ حياتكم.. والاستفهام للنفي، أيْ لا شيء يمنعكم.. فعليكم بالتالي إذَن أنْ تأكلوا وأنتم مطمَئِنّون من جميع المطاعم التي أحلّها الله لكم وذُكِرَ اسمه عليها ولو خالَفْتم في ذلك غير المسلمين فهي فيها منفعتكم وسعادتكم في الداريْن وأن تَتَجَنّبوا أكل ما حَرَّمَه الله عليكم ولو كان مِمَّا يستبيحونه هم لأنَّ فيه ضرركم وتعاستكم فيهما.. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ وإنَّ كثيراً من الناس الضَّالّين بالتأكيد يضِلّون أيْ يضيعون أنفسهم وغيرهم بأن يُبْعِدوهم عن العمل بأخلاق إسلامهم كلها أو بعضها ويُشَجِّعوهم علي فِعْل السوء، بأهوائهم أيْ بسبب اتّباعهم لأهوائهم أيْ لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. وهؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم يفعلون كل ذلك وغيره من سوءٍ بغير علمٍ أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليل! أيْ بغير تَعَمُّق وتَدَبُّر في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم! وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلْيَحْذَر المسلمون حَذرَاً شديداً من التشبُّه بمِثْل هؤلاء ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم فيهما.. ".. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – هو وحده لا غيره حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بالمُعتدين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء، سواء أكان مثلاً عن طريق مُخَالَفَةِ خُلُقٍ أو قانونٍ من قوانين الإسلام أو عن طريق الإسراف أيْ المُبَالَغَة بتحريم شيءٍ غير مُحَرَّمٍ أو حتي التّعَامُل مع شيءٍ حلالٍ لكنْ بإسرافٍ يُؤَدّي لضَرَرٍ مَا للنفس أو للغير أو عن طريق التقصير بواجبٍ مَا أو عن طريق العدوان على حقوق الآخرين أو ما شابه هذا.. إنه أعلم بالمُعتدين وسيُجازيهم بالقطع بما يَسْتَحِقّون وبما يُناسب في دنياهم وأخراهم.. فلْيَجْتَهِد إذَن كل عاقلٍ ألاّ يكون من المُعتدين بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر اعتدائه
ومعني "وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)" أيْ واتركوا أيها المسلمون وأيها الناس جميعا أيَّ إثمٍ أيْ شَرٍّ فلا تفعلوه، سواء أكان في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكان ظاهراً بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل المعاصي لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)" أيْ إنَّ الذين يعملون الآثام في دنياهم سواء أكانت ظاهرية أم باطنية سيُعطون عقاباً بسبب وبمِقْدار ما كانوا يفعلون ويكسبون من سوءٍ بما يُناسب قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وذلك إنْ لم يتوبوا منها، حيث سيُجزون بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)" أيْ ولا تأكلوا أيها المسلمون من الذبائح التي لم يُذْكَر اسم الله عليها عند ذبحها، إذا تُرِكَت التسمية عمداً، أو ذُكِرَ اسمٌ غير الله تعالى كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.." أيْ وإنَّ الأكل مِمَّا لم يُذكر اسم الله عليه من الذبائح أو الذكْر لاسمٍ غيره تعالى عليها عند الذبح هو بالتأكيد فسقٌ أيْ خروجٌ عن طاعة الله والإسلام وله ما يُناسبه من عقابٍ في الدنيا ثم الآخرة.. فلْيَحْذَر كلّ مسلم ذلك ليسعد ولا يتعس فيهما.. هذا، وما لم يُذْكَر اسم الله عليه سَهْوَاً أو جَهْلَاً بهذا الأمر فسَمُّوا الله عليه أنتم وكُلُوه ما دُمْتُم لم يَصِل إلي عِلْمكم أنه قد سُمِّيَ عليه اسمٌ آخرٌ غيره تعالي، كما يَرَيَ ذلك بعض العلماء.. ".. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ.." أيْ وإنَّ الشياطين جَمْع شيطان والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، أيْ وإنَّ الشياطين أيْ الأفكار الشَّرِّيَّة بالتأكيد تُوحِي أيْ تُوَسْوِس إلي شياطين الإنْس أيْ الناس أيْ السَّيِّئِين منهم كالشياطين والذين بدَوْرِهم يُوحُون أيْ يُوَسْوِسُون إلي أوليائهم أيْ أتْباعِهم ومُطِيعِيهم وأعوانهم ونُصَرائهم وأصدقائهم ونحو هؤلاء مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب – لكي يُجادِلوكم، والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، وهدف جدالهم هو إبعادكم عن إسلامكم بدرجةٍ من الدرجات، سواء في أمور الذبائح أو في غيرها من كلّ أخلاقيَّاته وتشريعاته، مُحَاوِلِين يائِسين إثبات عدم صلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة يُريدون بذلك التشويش عليكم وعلي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)" أيْ وإن اسْتَجَبْتُم لهم ونَفّذْتم ما يُوحُون به إليكم من تحريمِ ما حَلّله الله تعالي وتحليل ما حَرَّمه، في أيِّ شأن، فأنتم بذلك بالتأكيد عابدين لهم لأنَّ العبادة ما هي إلا الطاعة وعبادة غير الله تعالى شِرْك، وإنكم بالتالي إذَن مِثْلهم في الإشراك بالله فقد أشركتم معه في العبادة غيره وهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء لاكتمال المعاني عن العبادة مراجعة الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، ويُرَاعَيَ أنه إنما يُصبح المؤمن مُشْرِكَاً حين يُطيع مُشركاً آخر في الاعتقاد بأنَّ مع الله تعالي آلهة أخري تستحقّ العبادة أمّا إذا أطاعه في فِعْل شَرٍّ مَا واعتقاده سليم مستمرّ على التوحيد والتصديق فهو عاصٍ يُحاسَب علي معصيته في الداريْن لكنه غير مُشْرِكٍ مُخَلّدٍ في النار.. فاحذروا إذَن أيها المسلمون ذلك تمام الحَذَر لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)" أيْ هذا بيانٌ للفرق الشاسِع الذي لا يُقَارَن بين مَن هو حَيّ يَتحرَّك ويَنتفع ويَسعد بحياته وبين الميّت عديم الحركة والانتفاع والسعادة، والمقصود الفرق الهائل بين المؤمن والكافر، أي بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالأول قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ به ونَشَرَه لغيره، بينما الثاني فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا مثالٌ يَذكره الله تعالي للناس ليُبَيِّنَ لهم حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يُشبههم وحال السعداء فيهما وهم المسلمون المتمسّكون بأخلاق إسلامهم ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. إنه لا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح!!.. أيْ هل مَن كان ميتا بالكفر والمعاصي فأحياه الله بالإيمان والطاعات مِن خلال القرآن والإسلام وجَعَلَ له نوراً يمشي به بين الناس مُتَعامِلَاً معهم به هو نور الإيمان نور القرآن والإسلام الذي يُنير لعقله طريقه في الحياة ليَبْقَيَ مستمرَّاً في هدايته للخير والسعادة بلا انحرافٍ أو تَرَاجُعٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، وحيث يَسير بهذا النور وخَيْره وسعاداته بين كل الناس علي اختلاف ثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم في كل شئون حياتهم فيَرَوْنَه قُدْوَة حسنة تمشي بينهم تُضْفِي عليهم كل خيرٍ ونورٍ ويُسْرٍ وصلاحٍ وسعادةٍ ويدعوهم لذلك بكل حِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليسعد الجميع مِثْل سعادته وينال علي كل هذا أجره العظيم في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. إنَّ القرآن العظيم هو كالروح بالنسبة للجسد فهو الذي يُحي البَشَر فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة العميقة المستمرّة في الدنيا والتي تُؤَدِّي إلي ما هو أسعد في الآخرة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فهل مَن كان كذلك يكون كمَنْ مَثَلُه أيْ مِثْل مَن هو أيْ كمَن صفته وحاله أنه يعيش غارِقَاً في الظلمات والتعاسات والضياعات والتَّخَبُّطات – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – الناتجة عن الكفر وغيره من السيئات في الداريْن؟! ليس بخارجٍ منها أيْ لا يُفارِقها بحالٍ من الأحوال ولا يَهتدي إلى مَخْرَجٍ مِمَّا هو فيه لأنه في ظلامٍ تامٍّ ليس فيه أيّ شعاع نورٍ يمكن أن يَتبعه ليَخرج فهو لن يستطيع الخروج منها أبداً كأنه ميّت لا يدري ما معني وما هي الحياة الحقيقية إلا إذا استفاقَ وأحسنَ استخدام عقله ورَجَعَ لربه ولإسلامه فيَحيا حينها ويَسعد في دنياه وأخراه.. إنهما لا يتساويان بالقطع!!.. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. ".. كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)" أيْ هكذا زَيَّنَ التفكير الشَّرِّيّ بعقول الكافرين لهم هذه الأعمال السيئة التي يعملونها أيْ حَسَّنَها لهم، واختاروا هذا التكذيب والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار والسَّيْر في الظلمات والتعاسات بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)" أيْ وكما أنَّ لك في بلدك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به ويَدعو لله وللإسلام وللحقّ وللعدل وللخير وينشره ويدافع عنه أكابِر مُجرميها أيْ مُجرميها أكابر أيْ مجرمين بها يكون بعضهم هم بعض الأكابر أيْ الرؤساء والزعماء وأصحاب القوَيَ والنفوذ والتأثير فيها – أكابر جَمْع أكْبَر أيْ رئيس ومجرمون جمع مُجْرِم وهم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وتخصيص الأكابر لأنهم أقَدْر من غيرهم علي الفساد وأقوى علي المَكْر بالناس وهم أكثر المُتَضَرِّرين بانتشار عدل الإسلام وأخلاقه ومساواته بين الجميع إذ سيَفقدون بانتشاره استعبادهم لغيرهم واستغلالهم لجهودهم وثرواتهم بغير حقّ – ليَمكروا فيها أيْ تَرْكناهم يَمكرون فيها وما مَنعناهم من مَكْرهم أيْ فمكروا بمَن فيها أيْ بَدَلَاً أن يستخدموا قواهم للخير استخدموها للمَكْر والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به حيث استخدموا إمكاناتهم في إيذاء الناس قوليا وفعليا وفي مَنْعهم من اتَّباع الإسلام بتشويه صورته وصورة المسلمين وبنشرهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستجابوا لهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والمقصود أنه كما أنَّ ضَدَّك وضِدَّ الإسلام والمسلمين مجرمين من الأكابر كذلك كان في كل قرية من قرى الرسل قبلك مثلهم ليمكروا فيها وسيكون ذلك مستقبلا أيضا ثم كان وسيكون حتماً النصر لهم وللمسلمين العاملين بإسلامهم، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ يُلاقيه دائما أهل الخير وهو يُظْهِر الحقّ ومنافعه وسعاداته أكثر وأكثر حينما يُقارنه الناس بالشرِّ ومَضَارِّه وتعاساته، فلا تَحزن بالتالي إذَن واصْبِر واصبروا أيها المسلمون مِثْلهم لتنالوا سعادتيّ الداريْن كما نالوا.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين ومزيدٌ من التحذير والإتعاس للمُجرمين.. أيْ وما يُدَبِّرون سُوءَاً إلا بأنفسهم أيْ ولا يُمكن أبداً أن يُحيط ويَحلّ ويَنزل الفِعْل والتدبير السَّيِّء الشرِّيّ الذي يَمكرونه هؤلاء المجرمون بأحدٍ إلا بأنفسهم أيْ إلا بمَن يَفعله فيَعود أثَرُه المُضِرّ المُتْعِس عليه وذلك علي المَدَيَ البعيد، بسبب أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحْسَنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)، وهو سبحانه خير المَاكِرين (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية (50) من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية (34) من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وحتي ما قد يُصيب أهل الحقّ والخير مِن بعض مَكْرِ أهل الباطل والشرّ فهو لن يكون بفضل الله إلا بقليلٍ من الأذي المُحْتَمَل كما يقول تعالي "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.." (آل عمران:111)، ويقول ".. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." (آل عمران:120)، ويقول "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141) (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات الكريمة حتي تكتمل المعاني).. فكل ما يُصيبهم إذَن مِن ضَرَرٍ أو اختبارٍ ما فسيَخرجون منه حتماً مع الوقت مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. فدائما وقطعا ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص:83) أيْ النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما ودوْما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. فالخلاصة إذَن أنه في كلّ الأحوال مَن يُمْكَر به فهو الفائز في الداريْن علي المَدَيَ البعيد والماكِر هو الخاسر فيهما وعقابه علي قدْر مَكْره حتي ولو ظهر أحيانا علي المَدَيَ القريب عكس ذلك.. وحتي علي المدي القريب أيضا فإنَّ الذي يُدَبِّر المكر السَّيِّء يكون منذ وقت ابتدائه لمَكْره في كلّ قلقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وصراع وأحيانا اقتتال مع مَن مَكَرَ به وغيره وبالجملة فهو يكون في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ (123)" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. وخلاصة القول أنهم في حالتهم هذه هم في حقيقة الأمر لا يُدَمِّرُون ولا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيَزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفساد غيرهم والذين سيَجتهدون في أن يُقاوموهم ولا يَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم.. إنَّ مَكْرهم حتماً سيُحيط بهم وسيَنقلب عليهم يوماً مَا لأنَّ ما ينشرونه من شرٍّ وفسادٍ يَطَالُ الجميع كما يُثبت الواقع ذلك ويأتيهم تدريجيا فلا يشعرون إلا وقد أصابهم وأضرّهم وأتعسهم وأهلكهم
ومعني "وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)" أيْ هذا بيانٌ لصورةٍ مِن صُوَر مَكْرِهم ومُرَاوَغَتِهم.. أيْ وإذا وَصَلَتْهم أيْ وَصَلَت إلي المُكَذّبين المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم آية أيْ دلالة ومعجزة والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، بَدَلَاً أن يؤمنوا بها كما آمَنَ كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنها وافَقَت عقله وفطرته (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قال بعضهم بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ومُرَاوَغَةٍ حتي لا يُؤمنوا وبما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي عدم إيمانهم واستمرارهم وإصرارهم علي ما هم فيه، لن نؤمن أيْ لن نُصَدِّق أبداً بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ونعمل بأخلاق الإسلام إلا أن نُعْطَيَ مِثْل ما أُعْطِيَ رسل الله أيْ يُوحَيَ إلينا ويأتينا من الآيات والرسالات والمُعجزات مثل رُسُلِ الله الكرام!!.. ".. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.." أيْ هذا ردٌّ حاسمٌ من الله تعالي يُخْرِس ألْسِنَة أمثال هؤلاء وقد يُوقِظ بعضهم إذا أحسن استخدام عقله ليستفيق ويعود له وللإسلام ليسعد في الداريْن قبل أن يَنزل به ما يُناسب من عذابٍ فيهما، وهذا الرَّدّ هو أنَّ الله أعلم وحده بالقطع منهم ومِن كلّ أحدٍ ولا يُقارَن حتماً الخالق وعلمه بخَلْقِه وعلمهم أين يَضَع ويَجعل رسالته لخَلْقه أيْ ما يُرْسِله لهم من خلال رسله الكرام من تشريعاتٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فهو تعالي يَختار لها بكمال عِلْمه وحِكْمته مَن يَسْتَحِقّها من البَشَر ويقوم بها فهو الأعلم بأفضل خَلْقه حيث سيَضَع عندهم أمانته، الإسلام، ليقوموا بتوصيلها علي أكمل وجهٍ ويَبْذلوا في ذلك ما استطاعوا، فهو قد اختارهم لعِلْمه التامّ بحُسْن أخلاقهم وكمالها (برجاء مراجعة الآية (33)، (34) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن ذلك)، ولا يُمكن قطعاً أن يكون رسولٌ من أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُسِيئين!!.. فلا تَهتمّ يا رسولنا الكريم ولا تَهْتَمُّوا يا أيها المسلمون بأمثالهم ومَكْرهم ومَكائدهم واستمرّوا في عملكم بأخلاق إسلامكم ودعوتكم له والدفاع عنه فالله معكم مُعينكم وحافِظكم وناصِركم ومُسْعِدكم.. ".. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)" أيْ سيَنال حتماً بالتأكيد الذين أجرموا أي الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، صَغَارٌ أيْ صِغَرٌ أي ذُلٌّ وهَوَان يَكْسِر إجرامهم واستكبارهم وعِنادهم واستهزاءهم وتَطَاوُلهم، عند الله أيْ مِن عنده ثابِت لهم عنده في حُكْمِه فيهم مُحَقّق الحُدُوث حتماً سيُنْزِله عليهم في التوقيت المناسب في الدنيا وعنده في الآخرة، إضافة إلي أنهم سيُصِيبهم كذلك بالقطع كل عذابٍ شديدٍ أيْ عظيمٍ مُؤْلِمٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)" أي كل ذلك بسبب وفي مُقابِل وجزاء ما كانوا في دنياهم يَمْكرونه أيْ يُدَبِّرونه من مَكائد وجرائم وأضرار لإيذاء الناس والإسلام والمسلمين، والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به قوْلِيَّاً وفِعْلِيَّا
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)" أيْ فالإنسان الذي يريد الله أن يهديه للإسلام وهو الذي أرادَ هو أولا هذه الهداية واختارها بكامل حرية إرادة عقله حيث أحسنَ استخدام هذا العقل واستجابَ لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فإنَّ الله تعالي بسبب ذلك ولأنه هو الذي بدأ يُعينه بأنْ يَشرح صدره له أيْ يُوَسِّع عقله ومَدَارِكه ومشاعره لكلّ خيرٍ في هذا الإسلام ويُسعده ويُطمئنه به ويزيده منه، وبالجملة يُريد ويَشاء له الهداية أيْ يُوَفّقه لها ويُيَسَّر له أسبابها ويُسَدِّدَ خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أيْ الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟!.. إنَّ هذا الضَّالّ حتماً سيكون في حالٍ هو عكس حالِ المُنْشَرِح صَدْره بالإسلام تماما، إنَّ صدره سيكون ضَيِّقاً حَرَجَاً كأنما يَصَّعَدَ في السماء أيْ يَضِيق ضيقاً شديداً عَقْلُه ومَدَارِكُه ومَشَاعِرُه فلا يَقْبِل الإسلام وخَيْره، بل ويَسْتَثْقِله، وكأنه يَحْمِل حِمْلَاً ثقيلاً يَصْعَد به إلي أعالي السماء! فهو كحال مَن يَصْعَد في طبقات الجَوّ العُلْيَا فيُصاب بضَيْقٍ شديدٍ في التّنَفّس، ولفظ "يَصَّعَد" يعني يَتَصَعَّد أيْ يَتَكَلّف الصعود فلا يَقْدِر عليه، إنه قطعاً في كل ضَيْقٍ وتَوَتّر وقَلَقٍ واضطرابٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ تامَّةٍ في دنياه ثم ما هو أعظم من ذلك وأتَمّ وأشَدّ في أخراه.. إنَّ سبب اختيار هذا الضَّالّ لِمَا هو فيه من الضلال هو تعطيله عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حالَ المُهْتَدِين السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال الضَّالّين التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. ".. كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)" أيْ هكذا دائما يجعل الله المُسْتَقْذَر أيْ الشّرَّ والعذابَ الدنيويّ والأخرويّ علي الذين لا يؤمنون به أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدُون ويَستكبرون ويَستهزؤون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم.. فالرِّجْس الذي عليهم هو بسببهم، بسبب عدم إيمانهم وانغماسهم في فسادهم وعدم رجوعهم لربهم ولدينهم الإسلام
ومعني "وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)" أيْ وهذا الإسلام الذي في القرآن العظيم هو طريق ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل مُنْصِف عادل، جَعَلَه مستقيماً أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً بلا أيِّ انحراف، هو طريق الله والإسلام، هو طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. فتَمَسَّك واعْمَل به واسْتَمِرّ عليه طوال حياتك لتسعد في الداريْن.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)" أيْ فقد بَيَّنّا بكل تفصيلٍ دقيقٍ شامِلٍ عميقٍ واضحٍ مُقْنِعٍ حاسِمٍ قاطِعٍ لا يَقبل أيّ جدالٍ الآيات أيْ الدلالات علي صِدْق وصِحَّة ذلك.. أيْ قد وَضَّحْنا الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)" أيْ لكنَّ هذه الآيات هي نافعة فقط للذين يَتذكّرون ولا يَنْسُون هذا الذي هو موجود في فطرتهم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّرون ربهم وإسلامهم، ويعقلون كل هذا بعقولهم ويتدَبَّرونه ويدرسونه، ويُذاكرونه كما يُذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالإسلام الذي في هذا القرآن العظيم بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)" أيْ لهؤلاء المُتَذَكّرين، لهؤلاء المؤمنين بربهم العاملين بأخلاق إسلامهم أصحاب الصدور المُنْشَرِحَة به السائرين بإرشاده علي الصراط المستقيم في كل شئون حياتهم في كل أقوالهم وأعمالهم، لهم دار السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، دار الله لأنَّ السلام اسم من أسمائه تعالي وتسميتها كذلك هو لتعظيمها ولتكريمها، وهي الجنة، هي جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، عند ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم – أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وفي ضمانه وكفالته ووَعْده الذي لا يُمكن أن يُخْلَف مُطْلَقَاً، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي وعده عنده لهم بأن يكونوا في دار السلام في دنياهم يكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُوَ وَلِيُّهُمْ.." أيْ وهو تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيّ أمرهم يديره لهم علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويرعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم، فهو مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)" أي بسبب ما يعملونه من أعمالٍ صالحةٍ من خلال عملهم بأخلاق إسلامهم في كل شئونهم
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)"،"وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذا بيانٌ لمَشْهَدٍ من مَشَاهِد أهوال الآخرة وأحوال المُسِيئين أثناءها عندما يقفون أمام ربهم لحسابهم.. أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب المُسيئين منهم ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف وتبدأ المحاولات اليائسة لكل مُسِيءٍ أن يَتَبَرَّأ مِن فِعْله السَّيِّء، فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب، يا معشر الجن أي يا جماعة الجنّ أي الشياطين أيْ كلّ شرٍّ مِن عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم مِن المُسِيئين – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – قد استكثرتم من الإنْس أيْ قد أكثرتم من إضلال الإنس أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس حتي تَبِعَكم كثيرٌ منهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لهذا التفكير الشَّرِّيّ ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبالتالي فلم يَستجيبوا للخير باتّباع الإسلام (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام).. ".. وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ.." أيْ وقال أتْبَاعهم من الإنْس أي مِن بَنِي الإنسان أيْ من الناس، أتْبَاع الجِنّ أيْ أتْباع الشياطين أيْ أتْبَاع الأفكار الشرية بداخل العقول ومُطِيعوها وأعوانها ونُصَراؤها وأصدقاؤها ونحو هؤلاء مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، قالوا مُعْتَرِفين بجرائمهم بكلّ حَسْرَةٍ وعارٍ وذِلّةٍ وذُعْرٍ ونَدَمٍ في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ ندمٍ حيث لا عمل بل حساب، ربنا لقد انتفع بعضنا ببعض بأنْ تعاوَنّا فيما بيننا علي الاستمتاع بفِعْل الشرِّ والفساد مُتَوَهِّمِين أننا سنَستمتع حقّاً بهذا فصُدِمْنا بأنها مُتْعَة وسعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحية لا مُتَعَمِّقَة مُؤَقّتَة لا دائمة يتبعها دائما أو غالبا مرارات وتعاسات علي قَدْر شَرِّنا وفسادنا الذي فعلناه ومع ذلك لم نَسْتَفِق ونُحسن استخدام عقولنا ونمتنع عنه ونفعل الخير والصلاح بل أستمَرَّيْنا وأصْرَرْنَا علي ما نحن فيه.. وفي هذا تحذيرٌ وتذكيرٌ لكل مسلمٍ أن يَتّخِذ الشيطان دائما عدواً حتي لا يَذِلّ ويتعس في دنياه وأخراه.. ".. وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا.." أيْ وهذا مزيدٌ من الحَسْرَة والإنكسار والندَم والفَزَع والاعتراف بالسوء منهم.. أيْ واستمرّ ذلك مِنّا بلا أيِّ عودةٍ للخير إلي أن وَصَلْنا موعدنا الذي حَدّدته لنا وهو موعد موتنا وموعد يوم القيامة والحساب ونحن في أسوأ حالٍ حيث سنُعَاقَب حتماً علي سوء أقوالنا وأفعالنا وليس لنا الآن أيّ حُجَّةٍ أو عُذْر.. ".. قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا.." أيْ قال الله تعالي لهم النار هي مكان إقامتكم واستقراركم الدائم حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير، هي المُسْتَقرّ لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وستكونون خالدين فيها أيْ ستَبْقون مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنكم عذابها لحظة فأنتم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.." أيْ إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها وإنقاذه منها وهم عُصَاة المسلمين، بينما الخلود الذي سَبَقَ ذِكْره هو للكافرين أيْ المُكَذّبين بوجود الله أصلا وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا كلّ شرٍّ لأنه لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ومِن المعاني كذلك إلا ما شاء الله مِن تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات.. هذا، وعند بعض العلماء المعني هو إلا ما شاء الله عدم خلود النار للأبد والانتهاء والفناء تماما لها وذلك بعدما يأخذ كلّ مُسْتَحِقّ لعذابها بالتمام عقابه وعذابه، مهما طال، ولا يُزاد عليه أيّ شيء، لأنَّ الخلود والاستمرار فيها بما يَزيد عن مقدار عقوبته ولو للحظةٍ واحدةٍ فيه مُخَالَفَة لعدل الله تعالي وحاشا له سبحانه أنْ يَظلم مقدار ذرّة، ويكون معني الخلود عند هؤلاء العلماء المدة الطويلة جدا ذات العذاب الشديد، لكنْ بعد أن يُنهي كل مُعَاقَب عقوبته، يخرج من النار ويدخل أقلّ درجات الجنة، برحمة الله تعالي التي وَسِعَت كلّ شيء، وبعد أن أخذ كلٌّ حقه، حتي إذا خَرَجَ آخر المُعَاقَبين من النار وهو أسوأ الناس حيث هو أطولهم عقوبة بعدها يُفْنِي الله هذه النار ولا يبقي خالدا أبداً إلا الجنة ليَنعم فيها البَشَر علي حسب درجات أعمالهم.. ".. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)" أيْ إنَّ ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم وأيها الإنسان بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيم في التعذيب والإثابة عليم تماما بمَن يَسْتَحِقّ هذا أو ذاك وبمقدار استحقاقه.. "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)" أيْ وهكذا دائما، نُسَلّط الظالمين بعضهم على بعضٍ في الدنيا فيَظلم بعضهم بعضاً ويأخذ حقّه ويُؤذيه ويُهينه ويذِلّه ويُعَذّبه ويهلكه وقد يَقتله ونحو ذلك من كل ما يجعل حياتهم – ثم آخرتهم – عذاباً وتعاسة، بسبب ما يكسبون أيْ يعملون من الشرور والمَفاسد والأضرار، فهذا هو القانون الإلاهِيّ العادل للحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فمَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً، أن يحصد كل خيرٍ وسعادة، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءاً، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة.. إنَّ هذا التّسَلّط مِن بعضهم علي بعضٍ هو المُتَوَقّع دائما أو غالبا فيما بين الظالمين وفي أوْسَاطهم كما يُثْبِت ذلك الواقع حيث يَحْيَوْنَ بلا أخلاقٍ لأنهم ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم الذي هو مصدر كل خُلُقٍ يُسعدهم في الداريْن.. إنهم يظلم بعضهم بعضا رغم أنهم في ذات الوقت يُوالِي بعضهم بعضا علي الشرّ أيْ يُعينه عليه ويُيَسِّره له ويُطيعه ويُصَادِقه فيه!! وذلك بسبب سوء أخلاقهم.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أيْ الضياع أي الشرّ والفساد والظلم فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه ويَجعله يُوالِي الظالمين ويُوَلّيهم عليه وعلي شئون حياته لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه.. إنَّ هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ وتذكيرٌ لكل مسلم أن يكون دائما مع الصالحين لا مع الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لأنَّ كلّ فريقٍ يُوالِي بعضه بعضا، أيْ يُساعده ويُيَسِّر له أموره، فإنْ كان المسلم مع الصالحين عاوَنَ بعضهم بعضا علي الخير دوْما فينتشر بينهم وينشروه لغيرهم فيسعدون بالتالي جميعا في دنياهم وأخراهم، بينما لو كان مع الظالمين فإنه غالبا تدريجيا يكون مِثْلهم أو شَبيهاً بهم كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا لأنهم يفعلون مثل أهل الخير حيث يوالي بعضهم بعضا لكنْ لكلّ شرّ، فينتشر بذلك الشرّ والفساد والظلم ويتعس الجميع في الداريْن
ومعني "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)" أيْ هذا خطابٌ من الخالق تعالي لجميع الخَلْق يوم القيامة، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ للمُسيئين قبل العذاب الجسديّ في النار.. أي يا جماعة الجِنّ، والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، وتوجيه الخطاب لها في الآخرة مع البَشَر وذِكْر ذلك في القرآن الكريم رغم أنَّ بقية الحديث في هذه الآية الكريمة هو للبَشَر لا لها – عند أكثر العلماء – هو لبيان أنها مخلوقات ضعيفة كالبَشَر ستكون حاضرة يراها البَشَر حينها بما يُعطيهم سبحانه من قُدْرَة علي ذلك وبالتالي فلا يُعْقَل إذَن أن يُعْبَدَ في الدنيا مخلوقٌ ضعيفٌ هو تحت تصرّف خالِقه تماما ويُتْرَك الخالِق سبحانه! حيث البعض يعبدون مخلوقاتٍ غير خالِقهم كجَنٍّ أو أصنامٍ أو كواكب أو غيرها يُطيعونها ويَلجأون إليها ويسألونها وهي لا تملك لهم أيّ نفعٍ أو تمنع عنهم أيَّ ضَرَر! تعالي الله عمَّا يفعلون ويقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَالْإِنْسِ.." أيْ ويا معشر الإنس أيْ يا بني الإنسان أيْ يا أيها الناس.. ".. أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.." أيْ هل لم يَصِل إليكم، والاستفهام للإقرار أيْ لكي يُقِرُّوا هم بذلك، أيْ لقد وَصَلَ إليكم بالفِعْل في الدنيا أيها الناس رُسُلٌ منكم أيْ مِن جِنْسِكم أيْ مَبْعُوثون بَشَرٌ مثلكم مِنّي إليكم تَعرفون صِدْقهم وحُسن أخلاقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) يَقرأون عليكم ويَذْكُرون ويَرْوُوُن لكم ويُخْبِرُونكم آياتي أيْ دلالاتي ومُعجزاتي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولكم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيري تدلّ علي وجودي وكمال قُدْرتي وعِلْمي واستحقاقي وحدي للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. هذا، وعند أكثر العلماء أنَّ الجِنَّ ليس منها رُسُل، لأنَّ الله تعالي لم يذكر شيئا عن ذلك، كما أنَّ ليس لها رسل، وإنما تستمع بعض هذه المخلوقات الخَفِيَّة – والتي عيون البَشَر ليست مُجَهَّزَة لرؤيتها في الدنيا لكنها تراها في الآخرة – لآيات الله تعالي ولإنذاراته فتستوعبها بطريقتها التي فَطَرَها أيْ خَلَقَها عليها، علي اعتبار أنها أمَمٌ أمثالنا كما قال تعالي " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ.." (الأنعام:38)، فتستمرّ فيما خُلِقَت من أجله، مُسَخَّرة لنفع بني آدم في الكوْن بصورةٍ من الصور، ثم يوم القيامة، وبعد الحساب، تفْنَيَ كل هذه المخلوقات، ويبقي الإنسان، حيث الجنة بنعيمها الخالد الذي لا يَفْنَيَ للمؤمنين المُحسنين، والنار للكافرين والمُسيئين، وبذلك يكون لفظ "رسل منكم" يعود علي الإنس فقط لا علي الإنس والجنّ معا عند هؤلاء العلماء.. ".. وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا.." أيْ ويُحَذّرونكم لقاء ومُقابَلَة وحضور عذاب وهَوْل يومكم هذا الذي أنتم فيه الآن وهو يوم القيامة يوم لقاء ربكم لحسابكم وعقابكم، وذلك حتي تفعلوا كل خيرٍ وتتركوا كل شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتُجَازُوا بالسعادة في الداريْن، لكنكم أيها المُسِيئون لم تستجيبوا وتُصَدِّقوا وتُسْلِمُوا.. فهل لم يأتكم رُسُل أم أتاكم؟.. ".. قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا.." أيْ قال المُسِيئون اعترفنا علي أنفسنا بأنَّ رسلك قد بَلّغونا آياتك وأنذرونا لقاء يومنا هذا وأقررنا بما ارتكبنا من سوء.. ".. وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.." أيْ والسبب في ذلك أنهم قد خَدَعَتْهُم الحياة الدنيا فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، ولْيُحسن الاستعداد لذلك اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)" أيْ هذا مزيدٌ من التفصيل والتأكيد لاعترافهم حيث في شهادتهم الأولي علي أنفسهم شهدوا بأنَّ الرسل الكرام قد قَصُّوا عليهم وبَلّغُوهم وعَلّموهم آيات الله في الدنيا وأحسنوا دعوتهم إليها بلا أيِّ تقصيرٍ وأنذروهم لقاءه تعالي بالآخرة بينما في هذا الجزء من الآية الكريمة يشهدون بأنهم كانوا كافرين أيْ مُكَذّبين بوجوده سبحانه وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ولكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَةَ نظرهم.. وبهذا الاعتراف علي أنفسهم لم يَعُد لهم أيّ عُذْرٍ وثبتت الجريمة عليهم إذ الاعتراف سَيِّد الأدِلّة واستحقّوا بالتالي عليها العذاب الأليم الذي لا يُوصف بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)"، "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)" أيْ ذلك الذي ذَكَرْناه لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها أخلاق الإسلام ليَقُصُّوا على الناس آيات الله سببه أنَّ ربك لم يَكُن أبداً من شأنه ولا من سُنَنه أيْ أساليبه في كوْنه ولا مِن حكمته ورحمته وعدله وكماله وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ أن يهلك أهل القري أيْ البلاد بسبب أىِّ ظلمٍ أيْ سوءٍ فعلوه وهم غافلون عن الحقّ والعدل والخير والصواب أيْ لا يعلمونه ولا يَدْرُون به، بل لابُدّ أنْ يُبيّن لهم بتمام البيان بواسطة رسله وكتبه ودعاته لله وللإسلام مِن بَعْدِهم أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة وأنْ يُبَشّرهم أنَّ فاعل الخير من خلال العمل بأخلاق الإسلام له كل خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه وأنْ يُحَذّرهم أنَّ فاعل الشرّ التارِك لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها له كل شرّ وتعاسة فيهما علي قَدْر تَرْكه لها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الإسراء ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا"، ثم الآية (24) من سورة فاطر ".. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ"، ثم الآية (165) من سورة النساء "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ..").. كذلك من المعاني أنه تعالي لم يكن أبداً، وهو الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن، مُهْلِكَ القري بظلمٍ منه، أيْ يَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، لكنَّ الذين يُعَذّبون هم يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، وأعطاهم العقول التي يُمَيِّزُون بها بين الخير والشرّ، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه في الداريْن علي قَدْر ما يفعل.. "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)" أيْ ولكلٍّ من أهل الخير وأهل الشرّ منازل ومَراتِب في الجنة والنار حاصِلَة مِمَّا عملوه مِن خيرٍ أو شرٍّ في حياتهم الدنيا، ولقد جَعَلَ سبحانه أجرهم هكذا في صورةِ درجاتٍ ليُوَفّيهم جزاء أعمالهم فلا يُظْلَمون شيئا أيْ لكي يُعطيهم حقّهم عنها وافيا تامَّاً بكلّ عدلٍ بغير أيّ نقصٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته.. ".. وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)" أيْ وليس ربك حتماً بغافلٍ عن كلّ ما يعملونه وما يقولونه هؤلاء وهؤلاء أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معهم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسب الجميع عليها في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133)" أيْ هذا بيانٌ لِغِناه سبحانه عن كلّ عَمَلٍ وعن كل عامِلٍ وأنه هو صاحب الرحمة الواسعة الدائمة التي وَسِعَت كل شيءٍ وبالتالي فمَا سَبَقَ ذِكْره من إرسال الرسل والكتب بالإسلام ليس لنفعه تعالي حتماً بل لرحمته بالناس ليَصْلُحوا بأخلاقه ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ وربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه وهو المُسْتَغْنِي عنهم وهم المُحتاجون إلي أفضاله وأرزاقه ورحماته ومَعوناته في كل شئون ولحظات حياتهم، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا!.. وهو صاحب الرحمة فهو دوْماً الرقيق الرفيق مع خَلْقه العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. ".. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133)" أي هذا مزيدٌ من التأكيد والتدليل علي أنه هو وحده الغنيّ ذو الرحمة وأنه ليس بحاجةٍ لخَلْقه وأنه القادر علي كل شيءٍ فقدرته نافِذَة لا تمنعها شيء.. أيْ إذا يريد أن يُذهبكم أيْ يُنْهِيَكم أيها الناس من الحياة الدنيا في أيّ وقت – بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره – وأن يجعل خُلَفاء مِن بَعْدكم في الأرض ما يريد من خَلْقٍ جديدٍ غيركم يَخْلفونكم مِن بَعْد فنائكم كما خلقكم أنتم من ذرِّيَّة أناسٍ آخرين كانوا قبلكم وكنتم وارِثين لهم مِن بعدهم، فيَعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، لَفَعَلَ ذلك حتماً بقول كُنْ فيكون، فهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيزٍ أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فانْتَبِهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. فهو تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان علي ذلك الذهاب بكم والإتيان بآخرين، قديراً أي كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد
ومعني "إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)" أيْ إنَّ الذي تُوعَدُونه أيها الناس في القرآن الكريم من حُدُوث يوم القيامة والبَعْث فيه أيْ إحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تُرَابَاً ومِن الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار هو آت أي قادم واقِع حادِث حتما بكل تأكيدٍ بلا أيّ كذب أو شكّ، بلا أيِّ تقديمٍ أو تأخير، فالله تعالي لا يُخْلِف وَعْده مطلقا فوعده الصدق.. إضافة بالقطع إلي قدوم ووقوع وحدوث ما تُوعَدون به في دنياكم مِن كلّ خيرٍ وسعادة لمَن يعمل بأخلاق إسلامه وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيها بمقدارٍ يُساويِ ما يَترك منها.. وبالتالي وبما أنَّ ما تُوعَدُون به سيأتي بالتأكيد، وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)" أيْ وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) – هي أنّه ليس لكم غير الله تعالي وَلِيَّا، أيْ وليّا لأموركم يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (255) من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل)، وإن اتخذتم غيره وليّا فلكم تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل)، وكذلك ليس لكم أيّ نصيرٍ ينصركم ويعزّكم ويرفعكم إذا ابتعدتم عنه ولجأتم لغيره، ستنهزمون في الدنيا، ثم في الآخرة لن ينصركم أيْ ينقذكم أيّ أحدٍ مِن عذابه لمَن يستحقّه منكم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم، ثم الآيات (121) حتي (127)، ثم الآيات (151)، (152)، (160) من سورة آل عمران أيضا، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده)، فمَن يريد إذن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد، في دنياه وأخراه، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه
ومعني "قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)" أيْ لا تَهْتَمّ كثيرا أيها المسلم المتمسّك بكل أخلاق إسلامك بعَداء مَن حولك ومَكرهم مِن المُكَذّبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم بل أخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنك عاملٌ ما كنت عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي طريق ربك وإسلامك المُسْعِد في الداريْن عاملٌ بأخلاقه ومستمرٌّ في حُسن دعوتهم وجميع الناس لهما بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وأخبرهم أنْ يكونوا هم أيضا عامِلين علي مَكَانتهم أيْ مستمرّين علي حالتهم وطريقتهم التي هم فيها ومُصِرِّين عليها من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومستمرّين علي عدائهم للإسلام وللمسلمين وللحقّ وللعدل وللخير قدْر إمكاناتهم واستطاعاتهم، وذلك لأنك تثق ثقة تامّة بسبب توكّلك التامّ علي ربك بمَن ستكون له عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، أنت أم هم، إنه أنت بالقطع، حيث أهل الخير حتما سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد، وهذا هو معني ".. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ.." إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلكم يا مُسِيئين عذاب الله الذي يذِلّكم ويُهينكم ويَفضحكم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليكم العذاب حيث تُقذفون وتُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياكم، حينها ستَعلمون وستَعرفون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن تكون له عاقبة الدار مِنّا ومنكم، مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)" أيْ لأنه بكل تأكيدٍ لا يُفلح الظالمون أي لا يَفوزون ولا يَنجحون ولا يَسعدون في دنياهم وأخراهم.. والظالم هو كل مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوعٍ من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشر أم ما شابه هذا
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)" أيْ هذا بيانٌ لبعض سَفَه المشركين – وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه – وخَبَلهم وانحطاطهم وتخريفهم بما يدعو للسخرية منهم والشفقة عليهم مِمَّا ذهبت عقولهم له من التّدَنّي في التفكير، وكل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وجَعَلَ المشركون، جعلوا لله خالقهم، مِمَّا ذَرَأ أيْ خَلَقَ هو سبحانه من الزروع والدّوَابّ، جعلوا له نصيباً أيْ جزءاً منه، فكأنهم هم يُمَلّكونه بعضاً مِن مُلْكِه ومِمَّا خَلَق!! فقالوا هذا الجزء لله بزعمهم أيْ بادِّعائهم الكاذب أنهم يُعطونه له سبحانه حيث ينفقونه علي المحتاجين ويُسَمُّون هذا الجزء الذي للخير هو لله وهو كذب واضح مفضوح منهم ومجرّد ادّعاء لأنهم لا يعملون بما يقولون حيث لا يُوفون بوعودهم في الإنفاق في الخير إلا بما يُحَقّق لهم فَخْرَاً وتَعَالِيَاً علي الآخرين وسُمْعَة وجَاهَاً ونحو هذا ولأنَّ جَعْل جزءاً لآلهةٍ غيره تعالي ليس حتماً أبداً من شَرْعه كما يَدَّعون كذباً وزُورَاً وإنما هم الذين شرعوه لأنفسهم وغيرهم من المشركين أمثالهم لأنَّ المُلْك في الأصل كله لله خالقه ومِن المُفْتَرَض أن يُنفقوا كما يُوَجّههم ويأمرهم صاحب المُلك فيما ينفقون لا كما يُشَرِّعون هم وبالتالي فهم مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. وهذا لشركائنا أيْ وهذا الجزء الآخر هو لآلهتنا التي نعبدها نُقَدِّمه لها لخِدْمتها ولمَن يَخدمونها ويعبدونها نَتَوَسَّل به إليها لتَرْضَيَ عنّا فنحيا برضاها آمنين من غضبها وعذابها وقطعها الأرزاق عنّا!!.. ".. فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ.." أيْ وحتي هذا السَّفَه الذي يفعلونه لم يكونوا عادِلِين فيه بل كانوا ظالمين!! وهذا هو المُتَوَقّع منهم حتماً لأنَّ مَن ظَلَمَ بألاّ يَتّبِع الحقّ بأنْ عَبَدَ غير الله تعالي يُتَوَقّع منه قطعا أن يكون ظالما في غالب أو حتي كل شئون حياته!.. أي فما كان من هذا الحرث وهذه الأنعام من القِسْم الذي يُتَقَرَّب به إلى شركائهم أيْ أصنامهم فلا يَصِل إلى الله منه أيّ شيءٍ أيْ لا يَفعلون به أيّ خير ويَصِل كاملاً لهذه الأصنام، وما كان من القِسْم الذي هو لله أيْ للخير فإنهم يَجُورُون عليه ويأخذون بعضه أو كله أحيانا أو غالبا أو دائما فلا يفعلون به خيراً ويُوصلونه إلي أصنامهم لخدمتها وصيانتها وصناعتها ولمَن يخدمونها ويعبدونها!!.. ".. سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)" أيْ ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه، ما أسوأ هذا التفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس!.. وفي هذا ذمّ شديدٌ لهم على أحكامهم وأفكارهم الفاسدة التي تُخالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. إنهم بكل تأكيدٍ سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم
ومعني "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَهِهم وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم.. أيْ وكما زَيَّنَ أيْ حَسَّنَ شركاؤهم أيْ شركاء هؤلاء المشركين أيْ شياطينهم – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلِّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – ورؤساؤهم وزعماؤهم أن يُشركوا بالله فيَعبدوا الأصنام وأن يجعلوا لله نصيباً ولأصنامهم نصيباً مِمَّا ذَرَأ من الحرث والأنعام كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) زَيَّنُوا كذلك لكثير منهم قتل أولادهم بسبب الفقر أو الخوف منه أو من العار إن كانوا بناتا حيث هم مِن سَفههم يعتبرون مَن رُزِقَ ببنتٍ فهو ضعيف والتصق به عارٌ حتي يتخلّص منها أو يقتلونهم لتقديمهم للأصنام كقرابين يتقرَّبون بها إليها لتَرْضَيَ عنهم ولا تُؤذيهم وتقطع أرزاقهم، بما يَتَعارَض مع أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وسُمُّوا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل الأولاد وغير ذلك من سَيِّئاتٍ وفَظَاعاتٍ وتخريفاتٍ وبالتالي فقد أشركوهم مع الله تعالي في العبادة لأنَّ العبادة ما هي إلا الطاعة وعبادة غيره سبحانه تُعْتَبَر حتماً شِرْكا.. هذا، ولفظ "كثير" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ بعضهم كانوا يرفضون قتل أولادهم.. ".. لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.." أيْ فَعَلوا ذلك التزيين لكي يُرْدُوهم أيْ يُهْلِكوهم أيْ لِمَا يُؤَدِّي إلي هلاكهم ولكي يَلبسوا عليهم دينهم أيْ يَخْلِطوا عليهم دينهم الذي هو دين فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا والذي مِن المُفْتَرَض أن يكونوا عليه والذي هو دين الله الذي هو الإسلام أيْ يَخلطوا الحقّ بالكذب فلا يعملوا بأخلاق الإسلام ويشركوا به تعالي فيهلكوا بسبب ذلك حيث يُعَذّبون ويتعسون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. وما فعلوا ذلك التزيين إلا من أجل التّلْبِيس والتشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ.." أيْ ولو أراد الله أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ما فَعَلَ هؤلاء هذا الذي ذُكِر، أيْ هذا التزيين والقتل والشرْك وغيره من السوء، لأنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ولكنه لم يشأ ألاّ يفعلوه، للمصلحة، للاختبار (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لتَخرجوا أيها المسلمون من مثل هذه الأحداث حولكم مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة حيث ستَتَمسّكون وتعملون أكثر بإسلامكم وتَحرصون عليه وعلي نَشْره والدفاع عنه أكثر وأكثر حتي لا يمنعكم منه أعداؤكم وهو مَصْدَر سعادتكم في دنياكم وأخراكم أنتم وجميع الناس لو عملوا بكل أخلاقه.. إنه تعالي خَلَقَ وشاء نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحراراً لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وقد سَمَحَ سبحانه بوجود الشرّ وبهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صِفَة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوه ولكنْ ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. وفي هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. ".. فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)" أيْ فاتْرُك أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم وما يَكْذِبونه علي الله من كفرٍ وعداءٍ وغيره من شرور ومفاسد وأضرار فلا تَتَأثّر بأقوالهم وأفعالهم واستمرّوا علي عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه وادعوهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم واصبروا وتوكّلوا علي ربكم، فإن لم يستجيبوا ويعملوا بالإسلام، فسوف يعلمون سوء نتائج ذلك، أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم، فذرْهم إذن، أيْ اتركهم فيما هم فيه، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَه هؤلاء المشركين وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل!.. أيْ وقال المشركون مُحَدِّدِين مجموعة من الدوابّ والزروع: هذه دوابّ وزروعٌ حِجْرٌ أيْ مَحْجُورٌ أيْ مَمْنُوعٌ أكلها قد حَرَّمناها عليكم لا يأكلها إلا مَن نشاء له أن يأكلها يَقصدون الذين يخدمون الأصنام والرجال لا النساء ومَن يُريدون ويَأذنون له من أجل تحقيق غَرَضٍ مَا ككسْبِ مالٍ مثلاً أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو غيره، وذلك بزعمهم أيْ مِن ادِّعائهم الكاذب لأنه ليس حتماً أبداً من شَرْعه سبحانه وإنما هم الذين شرعوه لأنفسهم وغيرهم من المشركين أمثالهم وبالتالي فهم مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. ".. وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا.." أيْ وقالوا كذلك مُشِيرين إلى مجموعةٍ أخرى مِن دَوَابِّهم: هذه أنعامٌ حُرِّمَت ظهورها أيْ مُنِعَت ظهورها أيْ حَرَّمنا ركوبها وتحميل أحمالٍ علي ظهرها، لتقديسها لأنها ستُخَصَّص للآلهة.. ".. وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.." أيْ وقالوا أيضا هذه أنعام أيْ إبل وأبقار وأغنام ونحوها لا يُذْكَر اسم الله عليها عند الذبح وإنما يُذْكَر عليها أسماء الأصنام التي هي آلهتهم لأنها ذُبِحَت من أجلها تَقَرُّبَاً لها لتَرْضَيَ عنهم فلا تُؤذيهم وتَقطع أرزاقهم.. ".. افْتِرَاءً عَلَيْهِ.." أيْ فعلوا وقالوا كل ذلك كذباً على الله تعالي، فهم يَكْذبون عليه حيث يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنَّ هذا مِمَّا شَرَعه الله لهم وأمرهم به وهو حتماً لم يُشَرِّع مثل هذا السَّفًه.. ".. سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)" أيْ سيُعطيهم الله تعالي ومَن يَتَشَبَّه بهم عقاباً بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء افترائهم هذا الذي يَفترونه أيْ كذبهم هذا الذي يَكْذبونه، إنْ لم يتوبوا منه، بما يُناسبه، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَه هؤلاء المشركين وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل!.. أيْ وقال المشركون ما في بطون هذه الأنعام التي حَرَّمنا أكلها واستخدامها وخَصَّصناها لآلهتنا – والتي ذُكِرَت سابقا – من أجِنَّةٍ ستَلِدها هي مُبَاحَة خالصة مُخَصَّصَة للذكور مِنّا وحدهم فقط بلا مشاركةٍ من النساء يأكلونها وينتفعون بها، وحرامٌ على نسائنا فلا يأكلن وينتفعن منها، وذلك إذا وُلِدَ حيَّاً، وإنْ وُلِدَ ميتاً يشتركون فيه بالأكل والانتفاع، وهم بذلك يُضِيفون لسَفَهِهم صورة من صور ظلم النساء واحتقارهنّ!.. ".. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ.." أيْ سيُعطيهم تعالي ومَن يَتَشَبَّه بهم عقاباً بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء وَصْفِهم الكذب علي الله أيْ كذبهم عليه سبحانه حين وَصَفوا ما أحَلّه بأنه حرام وما حَرَّمه بأنه حلال فخَالَفوا شَرْعه ونَسَبُوا ذلك إليه كذباً وزُورَاً أنه هو الذي شَرَعَه، سيَجْزيهم إنْ لم يتوبوا منه، بما يُناسبه، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)" أيْ إنَّ الله تعالي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيم في التعذيب والإثابة عليم تماما بمَن يَسْتَحِقّ هذا أو ذاك وبمقدار استحقاقه
ومعني "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)" أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين قتلوا أولادهم لضعف عقولهم وجهلهم، وحَرَّموا ما رزقهم الله من بعض الأرزاق، كذباً على الله تعالي حيث يَكْذبون عليه مُدَّعِين زُورَاً أنَّ هذا مِمَّا شَرَعه لهم وأمرهم به وهو حتماً لم يُشَرِّع مثل هذا السَّفًه والجهل.. لقد خسروا حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا قد خسروا أبناءهم بقتلهم وخسروا بعض زروعهم ودوابِّهم وأموالهم إذ حَرَّموا بعضها ومنعوا استخدام أو أكل أو بيع بعضها الآخر والانتفاع به وخسروا بصورةٍ عامة حيث سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. قَدْ ضَلُّوا.." أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة لمَن يُشَرِّع شَرْعَاً يُخالِف شَرْع الله الإسلام.. أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ بسبب ذلك قد ضاعوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام.. ".. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضلالهم أيْ ضياعهم، أيْ وبالتالي أيضا ما كانوا أبداً راشِدين مُصِيبِين للخير والسعادة في فِعْلهم هذا وما كانوا مطلقا مُحَقّقِين للربح في دنياهم وأخراهم ما داموا مستمرّين هكذا علي ما هم فيه
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)" أيْ ومن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده لا غيره الذي ابتدأ خَلْق جناتٍ لمنفعتكم ولسعادتكم أيْ بساتين وحدائق فيها أنواع كثيرة مختلفة من الأشجار والنباتات، بعضها مَعْرُوشات أيْ مَرْفوعات علي ما يَحملها ويَرْفعها عن الأرض كالعَرْش، وبعضها مُلْتَصِق بها لا عَرْش له.. وخَلَقَ كذلك النخل والزرع الذي يخرج منه الحبوب مُتَنَوِّعَاً طَعْمُه عند أكله، رغم أنَّ الماء الذي يسقيهما واحد والأرض واحدة بما يدلّ علي عظيم قُدْرته وعلمه سبحانه.. وخَلَقَ أيضا الزيتون والرمان، وغيره مِمَّا يَنفع ويُسعد الناس والخَلْق.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص هذه النباتات بالذكر مع أنها من عموم الجَنّات لاشتهارها حيث الجميع يعرفها ولكثير منافعها ولأنَّ طعام كثيرٍ من الخَلْق منها.. ".. مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ.." أيْ بعض ذلك الذي ذُكِر مُتَشَابِه ظاهرياً في الشكل أحياناً مع اختلاف الأطعم والفوائد، وبعضه لا يَتشابَه، بما يدلّ علي تمام قُدْرَة خالقه سبحانه وحُبّه للناس وتكريمه وإسعاده لهم بتنويع نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف عليهم.. ".. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ.." أيْ كلوا أيها الناس من ثَمَر هذا النبات إذا خَرَجَ هذا الثمر، وهذا يُفيد أنَّ أكله حلال بمجرّد خروجه حتي ولو لم يَنْضُج إذا كان في ذلك مصلحة إلا إذا كان يَضرّ البعض فلينتظر نُضْجه، كما يُفيد تيسير الإسلام حيث جَعَل الأكل منه قبل حصاده وإخراج زكاته مَعْفِيَّاً عنه.. ".. وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ.." أيْ وأعطوا زكاته المفروضة عليكم فيه للمحتاجين يوم أن تَحصدوا وتَجمعوا هذه الثمار.. ".. وَلَا تُسْرِفُوا.." أيْ ولا تُجَاوِزوا الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتكم، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. كذلك من المعاني لا تُسرفوا في الأكل قبل حصاده فتَنتقصوا مِن حقّ المُحتاجين عند إخراج الزكاة لهم وأيضا لا تُسرفوا بإعطائهم زيادة عن حقّهم تجعلكم أنتم مُحتاجين ولكن عليكم بالتّوَازُن.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)" أيْ لأنَّ الله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً المُسْرِفين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب إسرافه المُضِرّ المُتْعِس.. فاجتنبوا الإسراف أيها المسلمون تسعدوا في الداريْن
ومعني "وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)" أيْ وهو كذلك الذي أنشأ أيْ خَلَقَ لكم، لمنفعتكم ولسعادتكم، من الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – أنعاماً حمولة أيْ يُحْمَل عليها الأشياء وتُرْكَب للانتقال ويُؤْكَل بعضها، وأنعاماً فَرْشَاً، لا يُحْمَل عليها لضعفها أو لصغر أجسامها ولكن تُستخدم جلودها وأصوافها لصناعة المفروشات والأغطية والمَلْبُوسات ونحوها ويُؤْكَل بعضها أيضا.. ".. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.." أيْ كلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)" أيْ ولا تَسِيروا خَلْف طُرُقات الشيطان الذي يأخذكم حتما للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات التامَّات في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142)" أيْ لأنه عدو مُبين أيْ واضِح لكم، أيْ ضِدَّكم يريد إضلالكم أيْ إبعادكم عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه
ومعني "ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)" أيْ هذه الأنعام التي خلقها الله تعالي ثمانية أصناف، أربعة منها من الغنم، وهي الضأن ذكوراً وإناثاً، والمعز ذكوراً وإناثاً.. "..قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ.." أيْ هذا توضيحٌ وكَشْفٌ لسَفَه هؤلاء المشركين الذين سَبَقَ ذِكْرهم وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل! إنهم كانوا يُحَرِّمون أحيانا ذكور الأنعام وأحيانا إناثها وأحيانا ما يكون في أرحامها، هكذا عشوائياً وعَبَثِيَّاً دون أيِّ سببٍ يُعْقَل!! من أجل تحقيق غَرَضٍ مَا ككسْبِ مالٍ مثلاً أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو غيره.. أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُوَضِّحَاً لهم عَبَثهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم هل حَرَّمَ الله الذّكَرَيْن للضأن والمعز فقط؟! ولماذا لم يُحَرِّم بَقِيَّة الذكور لبقية الأنعام إذَن إنْ كان سبب التحريم هو الذكورة؟! إنه من المُفْتَرَض بهذا المَنْطِق أن يكون كلّ ذَكَرٍ حرام!! أم هل حَرَّم الأنثيين للضأن والمعز فقط؟! ولماذا لم يُحَرِّم بقيّة الإناث إذَن لبقية الأنعام إنْ كان التحريم سببه الأنوثة؟! إنَّ كل أنثي يجب أن تكون حراما!! أم هل حَرَّمَ الأجِنَّة التي اشتملت عليها أرحام إناث الضأن والمعز كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟! ولماذا لم يُحَرِّم بقيّة الأجِنَّة إذَن لبقية الأنعام إنْ كان التحريم من أجل أنها أجِنَّة؟! إنَّ كلَّ جَنِينٍ يُولَد هو بالتالي حرام!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وهو يُفيد نَفْيَاً قاطِعَاً أن يكون الله تعالي قد حَرَّمَ أيَّ شيءٍ من هذا.. إنَّ هذه الانتقائيَّة والعَشْوائيّة والعَبَثِيّة والتّخَبُّطِيَّة وعدم الدِّقّة والحِكْمة في تحريمكم وتحليلكم تدلّ بلا أيِّ شكّ علي سَفَهكم وتكذيبكم وعِنادكم واستكباركم وعدم استجابتكم لشَرْع الله بأن تُسْلِموا.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)" أيْ أخبرونى بمُسْتَنَدٍ وبعلمٍ صحيحٍ يُعْتَمَد عليه، يدلّ علي أنَّ الله تعالي قد حَرَّمَ شيئاً من ذلك، إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعونه عليه سبحانه وتَنْسِبُونه إليه كذباً وزُورَاً من التحريم والتحليل، فإنْ لم تُخْبِروني به فأنتم بالتالي حتماً كاذبون جاهلون.. وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان، لأنهم لا دليل عندهم مِن عقلٍ أو مَنْطِقٍ أو علمٍ على صِحَّة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض
ومعني "وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)" أيْ هذه الأنعام التي خَلَقَها الله تعالي لمنفعتكم ولسعادتكم أيها الناس ثمانية أصناف، أربعة منها من الغنم كما في الآية السابقة، والأصناف الأربعة الأخرى هي اثنان من الإبل ذكوراً وإناثاً واثنان من البقر ذكوراً وإناثاً.. ".. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ.." (برجاء مراجعة الآية السابقة مع مراعاة أنَّ الحديث هنا عن الإبل والبقر لا الضأن والمعز).. ".. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا.." أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل كنتم أيها المشركون وأيها الذين يفعلون مثل ذلك من تحريم ما أحَلَّ الله وتحليل ما حَرَّمه حاضرين حين وَصَّاكم الله وأمركم بهذا التحريم فاستمعتم له مباشرة حيث أنتم لا تؤمنون برسولٍ يُبَلّغكم عنه تَوْصِيَّاته فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع؟! لا قطعا بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، ما كنتم حاضرين مُشاهِدين مُسْتَمِعين، فمِن أين لكم إذن هذه التشريعات السفيهة الجاهلة التي تقولونها وتفعلونها؟!.. إنه لم يَتَبَقّ لكم من إدِّعاءٍ كاذبٍ تَدَّعونه إلا أن تَدَّعُوا كعادتكم في الكذب والزّوُر والجهل هذا أو أنه أوْحاه إليكم لأنكم رُسُلٌ كَرُسِله!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. ".. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.." أيْ فلا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله كذبا أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف، كالتي سَبَقَ ذِكْرها من تحريم ما لم يُحَرِّم سبحانه وتشريع ما لم يُشَرِّع وادِّعاء أنه هو الذي شَرَعَه.. ".. لِيُضِلَّ النَّاسَ.." أيْ يُريد بذلك أن يُضِلَّ الناس أيْ يُضيعهم بأن يُبْعِدهم عن العمل بأخلاق إسلامهم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعهم فيها، فهو وأمثاله يحاولون يائسين مَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليلٍ أيْ بغير تَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)" أيْ هذا بيان أنَّ التحريم والتحليل في أيِّ شيءٍ في الوجود لا يكون إلا من الله تعالي من خلال كتبه التي يوحيها لرسله الكرام وأنَّ الأصل في كل الأشياء في الحياة أنها حلال يُبَاح الانتفاع والسعادة بها إلا إذا وَرَدَ نَصٌّ منه يُحَرِّمه فحينها يكون حراماً يُمْنَع التعامُل معه لضَرَره ولتعاسته، حيث هو وحده سبحانه المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لا أجد فيما أوحاه الله إلينا في القرآن العظيم والذي هو مَصْدَر التحليل والتحريم طعاماً مُحَرَّمَاً على آكِلٍ يريد أن يأكله من ذكرٍ أو أنثى إلاّ أن يكون هذا الطعام ميتة وهي التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة، أو يكون دماً مَسْفوحَاً أيْ مُسَالَاً مَصْبُوبَاً وهو الذي يحمل مُخَلّفات الجسم ولذا فهو مُحَرَّمٌ لضَرَره أمَّا ما يكون في بعض أنسجة الجسم كالكبد والطحال وما شابهها أو ما التصق بالعظام وغيرها فهو حلالٌ لأنَّ ضَرَره قليل أو مُنْعَدِم وللتيسير لأنَّ هناك مَشَقّة في الاحتراس منه، أو يكون لحم خنزيرٍ حيث خَلَقه تعالي لِيَتَغَذّي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا لكي يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلاّ كان شديد الأضرار.. ".. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.." أيْ فإنَّ ذلك المذكور رِجْسٌ أيْ أمرٌ مُسْتَقْذَرٌ أيْ شرٌّ وفسادٌ وضَرَرٌ يَتْبَعه تعاسات في الدنيا والآخرة يَرْفضه كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.." أيْ أو كذلك إلاّ أن يكون هذا الطعام فسقاً أيْ خروجاً عن طاعة الله والإسلام حيث أنه قد أهِلَّ لغير الله به أيْ ذُكِرَ عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تُذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)" أيْ لكنْ مع هذا فمَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لشيءٍ منها، بمعني أنه سيهلك بدونها، وهو غير باغٍ أيْ مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرض عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنَّ ربك أيها المسلم وأيها الإنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
ومعني "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)" أي هذا بيانٌ أنَّ فِعْل الشرّ وتَرْك أخلاق الإسلام يؤدّي حتماً إلي عقوبة له بما يناسبه من الله تعالي تَتَمَثّل في الحِرْمان من خيرٍ وسعادةٍ والإصابة بشرٍّ وتعاسةٍ بمِقداره، في الدنيا ثم الآخرة، فلْيَحْذَر تماما كل مسلم إذَن هذا بأنْ يفعل الخير دائما ويتوب ويرجع عن أيِّ شرٍّ سريعاً لينال تمام خيريّ وسعادتيّ الداريْن.. إنه بسبب ظلمٍ شديدٍ من الذين هادوا أيْ اليهود – والظلم قد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَنَعهم الله تعالي من بعض طيباتٍ هي في الأصل حلال، كعقوبةٍ لهم علي ظلمهم، لفترةٍ، لمصلحتهم، ليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم فتُحَلّل لهم مرة أخري فيسعدوا في الداريْن، وليكون ذلك تدريباً لهم علي تَرْك بعض الحلال، كما في حالة الصيام، فتزداد إرادة عقولهم فينطلقون بهذه الإرادة القوية في حياتهم يستكشفونها أكثر ويسعدون بها أكثر وأكثر، ولكنهم استمرّوا في بُعْدِهم عن الله والإسلام ولم يستفيقوا فازداد عقابه لهم وازدادت تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنهم مِن ظلمهم الشديد كانوا هم وليس الله تعالي يُحَرِّمون أحيانا علي أنفسهم والناس حولهم أشياء لم يُحَرِّمها سبحانه في التوراة كتَلاَعُبٍ وتحريفٍ فيها وجُرْأةٍ علي شرعه فيُحَرِّمونها في بعض الأحيان تشديداً عليهم ويُحَلّلونها لهم أوقاتاً أخري تخفيفاً عنهم لتحقيق ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَرَكهم الله فيما حَرَّموه علي أنفسهم وغيرهم بسبب إصرارهم التامّ عليه ليذوقوا تعاسات ذلك لعلهم يستفيقون فكأنه هو الذي حَرَّمَه بينما هم مَن حَرَّموه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآيات (93)، (94)، (95) من سورة آل عمران "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)").. إنهم لو كانوا استفاقوا وعادوا لربهم ولتَوْرَاتِهم في زمنها بعد أول عقاب، ولو أسلموا بعد مَجِيء القرآن الكريم، لَسعدوا حتماً في الداريْن، لكنهم باستمرارهم علي ما هم فيه سيتعسون قطعاً فيهما.. أيْ وحَرَّمنا أيْ مَنَعْنَا علي اليهود أكل كلّ ما له ظُفُر – أو ظُفْر والجَمْع أظفار وهي المعروفة الموجودة بنهاية الأصابع – والمقصود كل ما له مَخَالِب، سواء من الطيور أو الحيوانات، ومن البقر والغنم حَرَّمنا عليهم أكل شحومهما فقط إلا الشحوم التي حملتها ظهورهما أو التي توجد على الأمعاء أو التي اختلطت بعظام فيُمكنهم أكلها.. ".. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ.." أيْ ذلك الذي فعلناه بهم هو جزاءٌ أيْ عقابٌ عادلٌ بسبب بَغْيهم أيْ ظلمهم.. ".. وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)" أيْ ونحن حتماً صادقون في كل ما نقول ونفعل ونَحْكُم به، وفي جميع أخبارنا والتي منها هذا الخَبَر عنهم، ومَن يقول بما يُخَالِف قولنا فبالقطع هو الكاذب.. إننا صادقون قطعاً في كلّ ما نُشَرِّع للناس في كتبنا وعلي ألسنة رسلنا من تشريعاتٍ وأخلاقياتٍ وأنظمةٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه لا أحدَ أبداً أصدق من الله حديثا في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم (ص)، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل) إنَّ هذه الآية الكريمة هي تسلية وطَمْأَنَة للرسول الكريم (ص) ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
هذا، ومعني "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)" أيْ فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُشَجِّعَاً علي التوبة سريعا، ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – صاحب رحمة واسعة فهو دوْماً الرقيق الرفيق مع خَلْقه العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، وهو الودود أيْ الكثير الحب والرعاية والكرم لمَن آمَنَ به واتَّبَعَ أخلاق الإسلام ولكل مَن تاب من ذنوبه مهما كانت كثيرة وكبيرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! كما يُؤَكّد ذلك بقوله "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فاغتنموا ذلك، وأسرعوا بالتوبة، أيْ بالندم وبالاستغفار وبالعزم بداخل العقل علي عدم العودة للسوء وبِرَدِّ كلّ حقّ لأهله، فبذلك تعودون لربكم ولدينكم الإسلام، للخير وللسعادة، في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)" أيْ ولكنْ مع رحمته الواسعة فهو في ذات الوقت يُمْهِل ولا يُهْمِل فهو لا يُدْفَع ولا يُبْعَد عذابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا عن القوم المجرمين وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فتَنَبَّهوا لهذا واحذروا منه تماماً ولا تنخدعوا بواسع رحمته وإمهاله أيْ تَرْكه لكم لفترةٍ دون عقابٍ فتَستمرّوا وتُصِرُّوا علي سُوئِكم فليس معني تأجيل عذابكم أنكم قد أفلتم منه أو أنه لن يَحْدُث فأسرعوا بالتوبة بالعودة له وللإسلام لتسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَتَحَجَّجُون بالقضاء والقَدَر فيما تفعله من شرور! بحُجَّة أنَّ الأمر ليس بيدك! وإنما الأمر كله بيد الله ومشيئته أيْ إرادته وقد كَتَبَ عليك هذا وقَدَّره لك! فلا لَوْم ولا ذنب إذَن عليك ولا حساب!! فأين عقلك الذي أعطاك الله إيَّاه لتُمَيِّز به بين الخير والشرِّ والذي وَضَّحه لك في الإسلام؟!.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)" أيْ سيقول الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، سيقولون كذباً وزُورَاً وسَخَفَاَ وتَخْريفاً واجتراءً واعتداءً عليه سبحانه لو أراد الله ما عبدنا غيره نحن ولا آباؤنا من قبلنا ولا حَرَّمنا من شيءٍ مِمَّا حَلّله ولا حَلّلنا ما حَرَّمه، فلو شاء ذلك لَتَمَّتْ مشيئته حتماً ولَمَا فَعَلْناه!! ولكنه لم يشأ هذا بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام وغيرها وأن نُحَرِّم ما حَرَّمنا ونُحَلّل ما أحللنا وقد رضى لنا هذا وإلا لَكَانَ مَنَعَنا منه فلماذا تطالبونا يا مسلمين بأن نُسْلِم ولم يشأ الله لنا الإسلام؟!.. وكذلك هو حال بعض المنافقين الذين يظهرون الخير ويخفون الشر أو الظالمين والفاسدين الذي يتركون بعض الإسلام أو حتي كله، يدعون مثل هذه الأكاذيب وأنه تعالي هو الذي خلقهم هكذا وشاء لهم هذا!! بل البعض قد يزيد في الجرأة والتعدي وسوء الخلق فيتهمه سبحانه في قدرته علي كل شيء ويستهزي بها إذ لو كان يستطيع منعهم أو تغييرهم لقام بهذا!! تعالي عما يقولون علوا كبيرا.. إنهم يستغلون حرية اختيار عقولهم التي خلقهم عليها أسوأ استغلال! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنهم يَتَحَجَّجون لمَن يدعوهم لعبادة الله وحده بأنه هو الذي أراد لهم هذا وبالتالي فهو راضٍ عن أفعالهم ولو كان لا يرضاها ويريد مَنْعهم لَمَنَعَهم بأيّ أسلوبٍ ولَعَجَّلَ بعقوبتهم وما دام لم يَفعل أيَّاً مِن هذا فهو إذن يَرْضَيَ فِعْلهم!!.. إنَّ كلامهم هذا يدلّ علي الاستهزاء والسخرية والمُرَاوَغَة بمَن يَتَحَدَّثون معه، إضافة إلي أنهم مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون مُجادِلون لا يريدون الاستجابة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا.." أيْ هذا رَدٌّ حاسِمٌ يُبَيِّن كذب أمثال هؤلاء ويُخْرِس ألسنتهم.. أيْ كما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء الحالِيِّين فقد كذّبَ كثيرون من قبلهم السابقين لهم منذ أبيهم آدم واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك التكذيب لرسلهم حتي استشعروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارَة وشدّة وفظاعة عذابنا الدنيويّ ثم الأخرويّ، فلو كان هؤلاء الحالِيِّين صادقين في قولهم وادِّعائهم عن مشيئة الله شركهم وعصيانهم وأنه لو شاء ما أشركوا وما عصوا بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار لَمَا كان عَذّب سابقيهم فعذابه لهم يدلّ حتماً بلا أيِّ شكّ علي عصيانهم وعدم رضاه عنهم ويدلّ قطعا علي كذب هؤلاء الحالِيِّين فيما يَدَّعون كذباً وزُورَاً وأنَّ عليهم أن ينتظروا مثل المصير السَّيِّء للسابقين لهم مِن قبلهم إنْ لم يتوبوا لأنَّ إمهال الله تعالى للناس ليتوبوا من شرورهم لرحمته بهم ليس دليلاً على رضاه عَمَّا يقولون ويفعلون من سوءٍ والدليل علي ذلك أنه حين تنتهي فترة إمهاله لهم يُنْزِل بهم عذابه المُناسب لسوئهم.. ".. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كذبهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل عندكم أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد له دليل موثوق تستندون إليه فيما تَدَّعونه فتُظهروه وتُبَيِّنوه لنا؟! وبما أنهم لم ولن يُقَدِّموا دليلاً علمياً مَنْطِقِيَّاً يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ فهم بالتالي إذَن حتماً كاذبون في ادِّعاءاتهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لهم ولمَن يُشبههم، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما.. ".. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي كذبهم.. أيْ أنتم لستم على شيءٍ مَا مِن علمٍ بل ما تَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا تَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ أنتم كذلك إلاّ تَخْرصون أيْ تقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إذا لم يكن عندكم أيّ علمٍ بما تَدَّعون فالله تعالى عنده الحُجَّة البالغة الموصلة للحقّ الهادِيَة إليه أيْ له وحده الدليل القاطِع الواضِح الذي بَلَغَ أيْ وَصَلَ أعلى درجات العلم والقوة والمَتَانَة والكمال في قَطْع وهَدْم ومَنْع أيّ دعاوي كاذبة منكم ومن أمثالكم وإزالة أيّ شكوكٍ عَمَّن تَدَبَّره وتَأَمَّله بتَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ والبلوغ به أقصي درجات الحقّ والاستدلال عليه، وذلك من خلال آياته تعالي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص).. ".. فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي كذبهم، لأنه تعالي قد تَرَكَ الناس أحراراً في اختيار الخير أو الشرّ بكامل حرية إرادة عقولهم، بعد أن وَضَّحه لهم تماما في الإسلام، كما يُثْبِت الواقع ذلك، وكما يعلمونه هم تماما، وبالتالي فليس هو الذي جعلكم تُشركون وتَفعلون الشرور يا مَن تَدَّعون ذلك كذباً وزُورَاً!!.. إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..")
ومعني "قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن يُحَرِّمون ما حَلّل الله ويَدَّعون كذباً وزُورَاً أنه تعالي هو الذي حَرَّمه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هاتوا وأحضروا شُهُودَكم الذين يَشهدون لكم أنَّ الله قد حَرَّمَ هذا الذي قُمْتُم بتحريمه أيْ مَنْعه علي الناس من الانتفاع والسعادة به وادَّعَيْتُم بالكذب أنه مُحَرَّمٌ عليهم من ربهم.. فإنْ شَهِدوا كذباً وزُورَاً فلا تُصَدِّقهم لأنهم كاذبون لأنه لا يُمكن أن يَشهد بمِثْل هذا صادقٌ عادلٌ أمينٌ بل كاذب ظالم خائن غير مقبول الشهادة ولا تَقْبَل شهادتهم ولا تُوَافِقهم فيها ولا تُسَلّم لهم بها بالسكوت عليها لأنَّ السكوت عن الشهادة الكاذبة في مِثْل هذه الحالة كالشهادة بها فكأنك شَهِدْتَ زُورَاً أنت أيضاً وإنما عليك أن تُبَيِّن لهم كذبهم من خلال ما أعطاك الله تعالي من أدِلّةٍ في القرآن العظيم ومن عقلٍ بالأسلوب الذي تراه مُناسباً مُحَقّقَاً لأفضل النتائج.. هذا، وإنْ لم يُحْضِروا أحداً يَشهد بهذا فتكون دعواهم حينها إذَن كاذبة باطلة خالية من الشهود والأدِلّة لا تَسْتَحِقّ النظر فيها.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)" أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه والتي تسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم فتتعسوا فيهما، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. والذين كذبوا بآياتنا هم الذين لم يصدقوا بآيات الله والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص).. والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار لأنَّ الذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي هذا الشرّ وفِعْله، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. والذين هم بربهم يَعْدِلون أيْ بمُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام يُساوون به غيره فى العبادة ويُشْرِكون معه آلهة أخرى لا تَنفع ولا تَضُرّ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها!! لا تستطيع نفع ذاتها أو منع الضرَر عنها فكيف تنفع أو تضرّ غيرها بل العابدون لها هم أقوي منها!! يُساوون بينه سبحانه وبين آلهتهم!! والتي هي خَلْقٌ من خَلْقِه!! ظلماً وزُورَاً وانحرافاً عن الحقّ، وهم متأكّدون أنهم يعدلون عن هذا الحقّ الأكيد أيْ ينحرفون عنه، بداخل عقولهم، حيث فطرتهم تذكّرهم دائما به لأنها مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. تعالي الله عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. لقد جَمَعوا بين صفاتٍ لا تُؤَهِّلهم مُطْلَقَاً لشهادةِ حقّ ولقولِ صِدْقٍ ولعملِ خيرٍ ولا لثقةٍ فيهم واتّباعٍ لهم بل تُؤَهِّلهم لِمَا يُناسبهم من كل شرٍّ وتعاسةٍ دنيوية ثم أخروية
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أقْبِلُوا أقرأ وأذكر وأبَيِّن لكم الذي حَرَّم أيْ مَنَعَ لضَرَره ولتعاسته في الداريْن ربكم عليكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – لتَتَدَبَّرُوه بعقولكم فتَمْتَنِعوا عنه وتَتّبِعوا ما حَلّل لكم وتعملوا به حيث التلاوة هي مِن تَلَيَ الشيء أيْ جاء بعده واتّبَعه.. ".. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.." أيْ عليكم أن لا تشركوا معه شيئا آخر في العبادة أي الطاعة مِن آلهةٍ تَدَّعونها كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، فإنْ أشركتم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم، فهي لن تَضرّ ولن تَنفع أيّ أحدٍ بأيِّ شيء، فهي لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.." أيْ وعليكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً عظيماً بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ، وتُحسنوا بكل إنسانٍ كبيرٍ، فإنْ أسأتم إليهم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم، وستُحاسَبون وتُعَاقَبُون عليه بما يُناسب من كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.." أيْ وعليكم أن لا تقتلوا أولادكم بسبب فقرٍ حادِثٍ بكم أو تخافون حُدُوثه مستقبلا – أو لأيِّ سببٍ غيره بالقطع – فلستم أنتم الرازقين بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم، فالأرزاق كلها بيد خالقكم الكريم يُعطيها لخَلْقه حسب جهودهم وسَعْيهم وإحسانهم اتّخاذ أسباب ذلك وتوكّلهم عليه واستعانتهم به، لكن بمشيئته أيْ بتقديره أيْ بحكمته أيْ بما يُحَقّق مصالح الخَلْق جميعا، فهو العالِم بكل علمٍ دقيقٍ عن كل شيءٍ عنهم وهو البصير الذي يَرَيَ كل شيء، ولذا فهو يزيد هذا مِن رزقٍ مَا ويمنعه من رزقٍ آخر ويزيده لغيره وهكذا بما يُحَقّق المنافع للجميع، فلا يَتَشَكّك أحدٌ في رزق ربه من كل أنواع الأرزاق في العقل والفكر والصحة والمناصب والممتلكات والعلاقات وغير ذلك، بل يَسْعَيَ ويُحسن اتّخاذ الأسباب ويتوكّل عليه ويستعين دَوْمَاً به.. ".. وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.." أيْ وعليكم أن تَبتعدوا بُعْداً تامّاً عن كلّ الفواحش أقْصَيَ ما يُمْكِن – جمع فاحشة وهي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره – واتركوا أيّ سببٍ يُؤَدّي إليها لضمان الأمن من الوقوع فيها، سواء أكانت في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكانت ظاهرة بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل الفواحش كبيرها وصغيرها لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.." أيْ وعليكم أن لا تقتلوا أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال النفس التي حَرَّم الله قتلها، أيّ نفسٍ إنسانيةٍ من نفوس بني آدم مهما كانت مؤمنة أو غير مؤمنة كبيرة أو صغيرة مُذَكّرة أو مُؤَنّثَة قوية أو ضعيفة غنية أو فقيرة، إلا إذا كان القتل بالحقّ أيْ بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ أو بقتل محاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. فإنْ قتلتم نفساً بغير حقّ فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)" أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيها، أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَعَقّلِين العقلاء أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيَستفيدون منها ويَسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافِعَاً وتشجيعاً لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عاقِلين عامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)" أيْ وعليكم أن تَبتعدوا بُعْدَاً تامَّاً عن مال اليتيم – وهو الذي مات أبوه وهو صغير السِّنّ – لأنه أمانة عندكم بل عند المجتمع كله، وهو ضعيف لا يستطيع الدفاع عنه، إلا بالطريقة وبالحالة التي هي أحسن له نماءً وحِفْظاً، أيْ إلا إذا كنتم ستُحْسِنون فيه علي أكمل صورةٍ من صُوَرِ الإحسان أيْ الإتقان والإجادة بأنْ تَحرصوا علي تنميته اقتصاديا بما هو في مصلحة اليتيم وتَحْمُوه من المَخاطِر ونحو ذلك، وهذا إضافة بالقطع إلي إحسان كفالته ومراعاة كل شئونه عموما (برجاء مراجعة الآية (2)، (6) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.." أيْ واستمرّوا علي ذلك حتي يَصِلَ اليتيم إلي سِنٍّ راشِدٍ أيْ عاقلٍ بحيث يستطيع هو بذاته إدارة شئونه فأعطوه حينها ممتلكاته، والأمر تقديريّ يَختلف من شخصٍ لآخر.. فإنْ أكلتم مال اليتيم فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم.. ".. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.." أيْ وعليكم أن تتِمّوا الكيل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وتتِمّوا الميزان إذا وزنتم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون، بالقسط أيْ بالعدل بلا زيادةٍ أو نقصان، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما.. ".. لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." أيْ الله تعالى العادِل الكريم الرحيم الودود العالِم بتمام العلم بكلّ شيءٍ في كوْنه وعن خَلْقه لا يُكَلِّف نفساً أيْ لا يُوصِي ويُلْزِم أحداً من الناس في الإسلام إلا بما في وُسْعه، والوُسْع هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقاته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..").. والمقصود هنا في هذا الجزء من الآية الكريمة رفع الإثم عن المسلم الذي يجتهد ويحرص تماما علي العدل في الكَيْل والوَزْن لو فُرِضَ وحَدَثَ منه نَقْصٌ أو زيادة بغير تَعَمُّدٍ ولا تَهَاوُن.. مع مراعاة أنه في الواقع العمليّ عند التبادُل التجاري قد يكون من العسير أحيانا تَطابُق السلع المُتَبَادَلَة من حيث الجودة والقيمة ونحو ذلك رغم شدّة الحِرْص علي هذا وبالتالي فاليسير من عدم التطابُق غير المُتَعَمَّد يَعْفِي الإسلام عنه تيسيراً علي الناس وتحقيقاً لمصالحهم.. ".. وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.." أيْ وعليكم إذا قلتم قولاً مَا فكونوا عادِلين صادِقين فيه سواء أكان هذا القول خَبَرَاً أم شهادة أم حُكْمَاً أم وَسَاطة أم علماً أم يُؤَدِّي لعملٍ مَا في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة المختلفة، في كل زمانٍ ومكان، حتي ولو كان هذا العدل ضدّكم أو ضدّ والديكم أو أقاربكم أو معارفكم، فلا مُحابَاة لأحدٍ بما يُخالِف العدل والصدق، فإنْ لم تَعْدِلوا وتَصْدُقوا وظَلَمتم وزَوَّرْتُم في أقوالكم وأعمالكم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (135) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. إنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.." أيْ وعليكم أن تلتزموا بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فتُنَفّذوها تامَّة ولا تُخْلِفوها، مع الله ومع رسله الكرام إليكم وآخرهم محمد (ص) بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. فإنْ لم تُوفوا بعهد الله فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)" أيْ ومِمَّا وَصَّاكم الله تعالي به أنَّ هذا الإسلام هو صراط الله المستقيم حتماً بلا أيِّ شكّ أيْ طريقه المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، وهو طريقي الذي أسير فيه أنا رسوله وكل مسلمٍ يريد أن يَصِلَ إلي سعادتيّ الدنيا والآخرة، فاتّبعوه بالتالي إذَن وحده أيْ فاسْلُكوه وسِيرُوا خَلْفه وفيه ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. فإن اتّبعتم غيره مِمَّا يُخَالِفه فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم وتَعِسْتُم قطعاً فيهما علي قَدْر بُعْدِكم عنه.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.." أيْ ولا تَتّبعوا مُطلقاً الطرُق المُخَالِفَة له ذات الشرور والمَفاسد والأضرار، فتُبْعِدكم وتُشَتّتكم وتَمِيل وتَنْحِرف بكم حتماً عن طريق الله المستقيم وهو دين الإسلام، وتَتَفَرَّقون مع تَفَرُّقِها واختلافها، فيُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضكم بعضا بسببها، ولو فعلتم ذلك لضعفتم قطعاً وتَخلّفتم وانحططتم وذللتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)" أيْ ثم نُخبركم أنَّا قد أعطينا موسي الكتاب الذي هو التوراة التي فيها الإسلام الذي يُناسِب عصره – كما أعطيناك يا رسولنا الكريم محمد القرآن العظيم المناسب لكل العصور حتي يوم القيامة – تماماً أيْ إكمالاً على الذي أيْ ما أحسنَ الله به إلي الناس، حيث خَلَقهم وسَخَّرَ لهم الكوْن لينتفعوا وليسعدوا به ورزقهم من كل الخيرات ثم لم يتركهم يَتيهون بلا نظامٍ فيتعسون في دنياهم وأخراهم بل أتمَّ عليهم نِعَمه بأنْ أنزلَ لهم الإسلام ليُكْمِلهم ويُصْلِحهم ويسعدهم تمام السعادة فيهما، وأنزله كما أنزل كل كتبه منذ آدم وآخرها القرآن تماماً أيْ تامَّاً أيْ كاملاً جامِعَاً شامِلاً لإدارة كل لحظات الحياة وشئونها بأفضل وأسعد حال، وتماماً أيْ على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، وتماما أيْ مُشْتَمِلَاً علي ما هو الأحسن الذي لا يُقارَن من القواعد والقوانين والضوابط والمعاملات والمشاعر، وتماما أيْ مُتَمِّمَاً ومُكَمِّلَاً للذي أحسنَ استخدام فطرة عقله فاهتدي لخير وسعادة الإسلام فجاءه تكميلاً لهذه الهداية مُفَصِّلَاً مُوَضِّحَاً ضابِطَاً لها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فهو إذَن الهدي كله والرحمة والسعادة التامَّة في الداريْن.. ".. وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ.." أيْ وأنزلناه تِبْيَانَاً وتَوْضِيحاً ومُحْتَوِيَاً علي تفصيلاتٍ لكل القواعد والأصول التي تُنَظّم للناس كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها، لأنها من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وجعلناه هادِيَاً أيْ مُرْشِداً، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي كان رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)" أيْ لكي يكونوا بذلك من المؤمنين أي المُصَدِّقين تماماً بلقاء ربهم في الآخرة حيث الثواب والعقاب والجنة والنار، بسبب كل هذا الوضوح التامِّ للحقّ ولأدِلّته القاطِعَة في الكتاب لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لهذا اللقاء بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيسعدون بهذا في الداريْن .. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المؤمنين بلقاء ربهم المُسْتَعِدِّين دائماً بكل إحسانٍ لذلك بعملهم بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)" أيْ وهذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. فَاتَّبِعُوهُ.." أيْ فسيروا خَلْفه بالتالي إذَن وحده ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها كلها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاتَّقُوا.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كلهم كذلك مُتّبِعِين لقرآنهم مُتّقِين لربهم ليسعدوا برحماته وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
ومعني "أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)"، "أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)" أيْ مِن حِكَم إنزاله لأنْ لا تقولوا أيْ حتي لا تقولوا أيها العاصُون تَحَجُّجَاً بحُجَجٍ واهِيَة فارِغَة حين تفعلون في دنياكم الشرور والمَفاسد والأضرار وحين تُسألون عنها يوم القيامة أنَّ الكتاب الذي يُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويُبْعِدنا عن كلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما لم يَنْزِل إلاّ علي مجموعتين من قبلنا هما اليهود الذين أُنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) والنصاري الذين أُنْزِلَ عليهم الإنجيل مع رسولهم عيسي (ص) وقد كنّا عن قراءة وتَعَلّم الإسلام الذي في كتابهما في شُغلٍ ونحن ليس لنا بهما علم ولا معرفة ولا فهم لهما وغفلنا عنهما ولم ننتبه إليهما لبُعْد الزمان بيننا وبينهما ولصعوبة الحصول عليهما ولاختلاف لغتهما ونحو ذلك من حُجَجٍ ضعيفة ساقِطة ليس لها هدف إلا أنْ تُرَاوِغُوا وتَتَحايَلوا حتي لا تُسْلِموا وتستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم وعِنادكم واستكباركم وفِعْلكم للسوء، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فليس لأيِّ أحدٍ إذَن أيّ عذرٍ الآن حيث الكتاب أي القرآن الكريم بين أيديكم وما عليكم إلا العمل به.. هذا، ولقد خَصَّ تعالي التوراة والإنجيل بالذكر لشهرتهما بين بقية كتبه ولأنهما قبل الكتاب الخاتم وهو القرآن العظيم.. "أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)" أيْ هذا بيانٌ لنوعٍ آخرٍ من مُرَاوَغاتهم وحُجَجهم الضعيفة غير المقبولة التي كانوا سيَتَحَجَّجُون بها وهم يفعلون السوء لو لم ينزل القرآن الكريم وذلك حتي لا يُسْلِموا ويستمرّوا في سوئهم!!.. أي ومِن حِكَم إنزاله كذلك حتي لا تقولوا أيضا أنتم ومَن يَتَشَبَّه بكم لو أننا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الذين من قبلنا لكنّا أهدى منهم أيْ أكثر هداية منهم أي أكثر استقامة علي طريق الإسلام وعملا بكل أخلاقه وأسرع وأشدّ استجابة له منهم حيث هم يستجيبون لكن ليس بصورة تامَّة مستمرّة وليس كلهم بينما نحن سنكون أفضل منهم لأننا سنَستجيب كلنا تماماً ودائما!!.. ".. فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ هذا رَدٌّ قاطِعٌ حاسِمٌ مانِعٌ لأيِّ حُجَّة.. أيْ لا تَتَحَجَّجُوا بأيِّ صورة، لا حُجَّة لكم علي عصيانكم بعد نزول القرآن، ولا مَحلَّ لقولكم هذا، فقد جاءكم بَيِّنَة من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وهي القرآن العظيم الذي جاء به لكم وللناس جميعا رسولكم الكريم محمد (ص) والذي يُبَيِّن لكم أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة والذي هو هديً ورحمة أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فلا أحد بالتالي إذَن أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَصَدَفَ عَنْهَا.." أيْ وأعْرَضَ عنها أيْ وأعطي ظَهْره والتَفَت وانْصَرَف وابْتَعَد عنها وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَمَ نَشْرها وآذَيَ مَن يَتّبعها وحاوَلَ صَرْفه وصَدّه ومَنْعه وإبْعاده عنها.. ".. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)" أيْ سنُعْطِي الذين يُعْرِضون عن آياتنا العذاب السَّيِّء الشديد، إنْ لم يتوبوا أيْ يَرْجِعوا لربهم ولإسلامهم، بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)" أيْ كل ذلك بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء أنهم كانوا في دنياهم يَصْدِفون أيْ يُعْرِضُون
ومعني "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)" أيْ أُنْزِلَ القرآن الكريم فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون لكى يؤمنوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات – أي وَصَلَتهم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في إعراضه – بلا إيمانٍ وبلا اتّباعٍ لأخلاق الإسلام حتي تأتيهم الملائكة أيْ ملائكة الموت لقَبْض أرواحهم وإنهاء حياتهم وهم هكذا علي شَرِّهم أو ملائكة العذاب تُعَذّبهم في دنياهم أو أخراهم بما يناسب شرورهم؟! أو يَنتظرون حتي يأتي ربك أيْ عذاب ربك في الدنيا بدرجةٍ ما من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو يأتي هو بذاته العَلِيَّة يوم القيامة بهيبته وعظمته حضوراً يَليق به سبحانه فهو ليس كمثله شيء لحساب الناس والحُكْم بينهم بحُكْمه وقضائه العادل وجزائهم علي أعمالهم في دنياهم، وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أو ينتظرون حتي يأتي بعض آيات ربك أيْ بعض علامات قيام الساعة كطلوع الشمس من المغرب لا المشرق.. أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.." أيْ يوم يَجِيء بعض علامات الساعة الكبري ينتهي التكليف والعمل وتبدأ الحياة الدنيا في الانتهاء وتبدأ أولي مراحل الحياة الآخرة وبالتالي لا ينفع الإيمانُ حينئذٍ نفساً كافرة لم تكن آمَنَت من قبل ظهور هذه العلامات أن تؤمن الآن، وأيضا لن ينفع حتي النفس المؤمنة التي لم تكن قد كَسَبَت أيْ فَعَلَت في مدّة إيمانها خيراً مَا أنْ تَفعله الآن، لأنه قد أُغْلِق ملَفّ الحياة الدنيا والعمل فيها وبَدَأَ الحساب الختاميّ في يوم القيامة.. ".. قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)" أيْ قل لأمثال هؤلاء ولمَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم انتظروا مَجِيء أحد الأمور التي سَبَقَ ذِكْرها واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإننا مُنتظرون معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات (103) حتي (110) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين حتي لا يكونوا من الذين فارَقوا الله تعالي الإله الواحد والذي كان مِن المُفْتَرض أن يجتمعوا عليه فيعبدوه وحده، والذين فارقوا دينه الإسلام والذي لو اتّبعوه لاجتمعوا جميعا عليه ولأصبحوا أقوياء سعداء في دنياهم ثم أخراهم، ولكنهم تَفَرَّقوا واختلفوا وتَشَتَّتوا علي آلهةٍ كثيرة عبدوها غيره سبحانه، وجعلوا لهم أديان مُتَعَدِّدَة كلها شرّ وتعاسة لأنها مُخالِفة لدين الله الإسلام الذي كله خير وسعادة، فمنهم مَن عَبَدَ أصناما ومنهم مَن عبد كواكب ومنهم مَن عبد دوابَّاً أو نحوها أو خَلَطَ مع عبادتها بعض عبادات من اليهودية أو النصرانية أو البوذية أو ما شابه هذا مما فَرَّقَ البشرية وشَتَّتها إلي شِيَعٍ أيْ فِرَقٍ ومجموعات وطوائف صغيرة يتشيَّع أي يُؤَيِّد ويَتَعَصَّب بعضها لبعض علي باطلٍ مَا لا علي الحقّ وكل فرقة ومجموعة وطائفة من هؤلاء تفتخر وتَغْتَرّ وتتعَالَيَ علي الأخري بما لديها من قوة وعَدَد وعدَّة ومال وعلم وغيره، فيختلفون فيما بينهم ويتشاحنون ويتباغضون ويتقاطعون ويتصارعون وقد يقتتلون، فيضعفون بذلك ويتخلّفون ولا يتقدّمون ولا يتطوّرون، فيتعسون في دنياهم وأخراهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيَحذر المسلمون تمام الحَذَر أن يتشبّهوا بمِثْل هؤلاء فيَسْعوا للتفرقة بين المسلمين أو حتي بين عموم الناس والإنسانية وإلا تَعِسوا مثلهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.." أيْ أنت يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لستَ منهم أبداً وهم ليسوا منك وعليك ألاّ تَرْضَيَ مُطلقاً بفِعْلهم وتَتَبَرَّأ منه حتي يعودوا لربهم ولإسلامهم فأنت بَريء منهم ولستَ معهم في أيِّ شيءٍ من سُوئهم أيْ مُتَبَرِّيء مِنه رافض له غير مُعْتَرِفٍ به ولا راضٍ عنه ولا صِلَة بينك وبينه وأنت ضِدَّه وتُعادِيه.. كذلك من المعاني أنْ اطْمَئِنّ أنك لستَ مَسئولاً ومُؤَاخَذَاً عن أيِّ شيءٍ من إثم تَفَرَّقهم وعِصيانهم ما دُمْتَ تُحْسِن دعوتهم بما يناسبهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة.. إنهم بالتالي بحالهم هذا هم أيضا ليسوا منك في أيِّ شيءٍ أيْ بعيدون عنك وعن الله والإسلام والمسلمين غير مُنْتَسِبين مُتَّصِلِين في أيِّ شيءٍ لهم لأنهم خالَفوهم وعانَدوهم وكذّبوهم وبالتالي فقد افتقدوا كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم لأنهم قد قَطَعوا كلَّ صِلَةٍ طيّبة معهم فلا حُبّ ولا تَوَاصُل ولا رعاية من الله ولا أمن ولا عوْن ولا توفيق ولا سَدَاد ولا رزق ولا بركة ولا تيسير، وبالجملة لا سعادة، بل كل شقاء وكآبة وتعاسة.. ".. إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إنَّ أمرهم مَتْرُوكٌ إلي الله وحده لا غيره أيْ هو الذي يَتَوَلّى أمرهم أيْ جزاءهم فإنه سيَجمعهم حتماً هم وجميع خَلْقه مُحسنين ومُسِيئين يوم القيامة ثم يُنَبِّئهم أيْ يُخبرهم بما كانوا يفعلون من الشرّ والخير.. فهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِرهم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كانوا يفعلون في دنياهم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منهم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منهم شرَّاً فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)" أيْ فلْيَستبشر ولْيُوقِن كلّ مسلمٍ ذَكَراً كان أم أنثي يأتي بأيّ حسنةٍ أيْ خيرٍ مِن أيّ نوعٍ مَا فحتماً سيكون له ما هو أكثر خير منها، مِن فضل ربه وكرمه ورزقه ورحمته ووُدِّه، في دنياه حيث كل خير وسعادة تامّة تُقابِل ما قدَّمه من خيرٍ وأكثر منه كثيرا، وكلما ألْحَقَ الخير بخيرٍ يتبعه طوال يومه وعمره كلما كان عمره كله خيريا سعيدا تمام السعادة، ثم في أخراه ليَستبشِر بأنَّ الحسنة الواحدة من الخير التي قد فعلها في الدنيا سيُجازيه سبحانه عليها بعَشرة أضعافها علي الأقل، إلي أضعاف كثيرة لا تُحصَي كما وعد ووعده الصدق ".. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.." (البقرة:245)، علي قَدْر جَوْدَة الحسنة وإتقانها والصدق فيها ومنافعها ودوامها ونحو ذلك ".. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:261).. أمَّا مَن فَعَلَ سَيِّئة ولم يَتُب منها، فلا يُجَازَيَ إلا بمثلها بتمام العدل دون أيّ ذرَّة ظلم "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .." (النساء:40)، فله في دنياه من التعاسة والألم والقلق والتوتّر والضيق والاضطراب علي قَدْرها ثم في أخراه ما يُساويها من عذابٍ في النار، وقد يعفو سبحانه وهو كثير العفو والحِلْم ورحمته وَسِعَت كل شيء وتسبق دائما غضبه وهو الغفور الرحيم، بسبب دعاء الصالحين لهذا المُسِيء مثلا في جنازته أو دعاء المسلمين العام بعضهم لبعض في دنياهم أو بشفاعة الشافعين الذين أذِن الله لهم بالشفاعة يوم القيامة لكرامتهم ومنزلتهم أو ما شابه هذا.. ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنني قد أرْشَدَنِي وأوْصَلَنِي ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إلي صراطٍ مستقيمٍ أيْ إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقِ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن.. إنه طريق الله والإسلام.. ".. دِينًا قِيَمًا.." أيْ لقد هَدَانِي وعَرَّفني ديناً قَيِّمَاً – وقِيَمَاً وقَيِّمَاً بمعني واحد في اللغة العربية – أيْ دين غاية وتمام الاستقامة بلا أيِّ انحرافٍ حيث هو ناطق بكل حقّ وعدلٍ وصواب وخير وسعادة وهو ذو قِيمَة عالية وذو قِيَم أخلاقِيَّة سامِيَة تَرْقَيَ بالجميع وله قيمة فهو عظيم الشأن ويجعل كل مَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاقه ذا قيمة وسيادة في دنياه وأخراه وهو الدين الذي تقوم به الحياة فهو يُنَظّم كل لحظاتها وشئونها علي أكمل وجه مُسْعِدٍ وبدونه تضطرب وتَخْرَب وتَفْسَد وتَتْعَس.. هذا، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)" أيْ لقد هَدَانِي وعَرَّفني مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفا أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)"، "لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ كل صلواتي وأذْكَارِي، وكل نُسُكِي أيْ جميع عباداتي أيْ طاعاتي التي أعملها أثناء معاملاتي في حياتي كلها في كل شئونها كبيرها وصغيرها في كل مجالاتها المختلفة من علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وكسبٍ وبناءٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ وغيرها طيّبة وما شابه ذلك من معاملات، وكذلك موعد بدء حياتي وخَلْقِي وموعد موتي وكيفيته وجزائي بعده في الآخرة علي ما عملت، كل ذلك لله رب العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دين الإسلام – أيْ أنا أعمل كل أعمالي في دنياي خالصة له تعالي أيْ لا تكون نواياي بداخل عقلي عند أيِّ قولٍ أقوله أو أيِّ عملٍ أعمله أنْ أطلب به أيَّ سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليَراني الناس فيقولوا عنيّ كذا وكذا من المَدْح الكاذب المُضِرّ المُتْعِس للمادِح حيث غالبا ما يكون كذبا وللمَمْدُوح حيث يُؤَدّي بي إلي الغرور ومزيدٍ من الشرّ، وإنما أطلب به فقط حب الله تعالي ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يكون دائماً مُخْلِصَاً مُسْتَحْضِرَاً نوايا خيرٍ بعقله في كل أقواله وأفعاله، والإخلاص هو أن يُخَلّص عمله الخَيْرِيّ من أيِّ شوائب شَرِّيَّة مهما صغرت، وهو أيضا تَخْلِيصٌ لأنظمة الإسلام وأخلاقيَّاته من أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة له مُضِرَّة مُتْعِسَة، فلا يُعْمَل إلاّ بها خالصة تماما من أيٍّ من غيرها، كما يُفْهَم من قوله تعالي "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.." (الزمر:3).. فلو فَعَلَ المسلم ذلك كانت حياته كلها لله وكان عابداً بحقّ له وحده بلا أيّ شريكٍ يَجعله معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو غيره وكان مسلماً له بحقّ أيْ مُسْتَسْلِمَاً لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكلّ أخلاق إسلامه في كل شئون حياته ثابتاً دائماً عليها وكان مُوفِيَاً تمام الوفاء بما وَصَّاه به وعاهَده عليه فسمع وأطاع له فانْصَلَح بذلك حاله كله وسَعد تمام السعادة في دنياه وأخراه.. وهذا هو معني "لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا شريك له في عبادتي، أيْ هي كلها خالصة لله رب العالمين بلا أيِّ شريكٍ له فيها فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وكذلك لا شريك له أبداً حتماً في كلّ مُلْكه فهو تعالي وحده الذي له كل ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ.." أيْ وبذلك الذي سَبَقَ ذِكْره أمَرَني ربي، وأمَرَ كل مسلم، أيْ وبذلك التوحيد لله في العبادة والإخلاص له فيها أمرت، فسَمَعْتُ وأطَعْتُ، فنِلْتُ كل الخير والسعادة في الداريْن، وكذلك سيَنال حتماً كل مسلمٍ يَسمع ويُطيع.. ".. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)" أيْ هذا بيانٌ لمُسَارَعَة الرسول الكريم (ص) للعمل بكل أخلاق الإسلام ودَفْعٌ لكلّ مسلمٍ ليَقتدي به فيُسارِع هو أيضا للعمل بها والثبات عليها وليكون قُدْوَة ومُشَجِّعَاً لغيره من الناس ليُسارِعوا هم أيضا للعمل بها في كل شئون حياتهم ويستمرّوا عليها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووعي وإقبال وبكل اختيارٍ دون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَرَوْا أثر الإسلام علي إسعاد حياة مَن يدعوهم وحياتهم وبالتالي يَنال الجميع ثواب دعوة بعضهم بعضاً للإسلام ويسعدون جميعا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل أطلب غير الله تعالي رَبَّاً أيْ مُرَبِّيَاً ورازِقَاً وراعِيَاً ومُرْشِداً من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره ربّ كل شيءٍ أيْ خالِقه ومَالِكه والمُتَصَرِّف فيه وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وكل شيءٍ هو مَخْلُوق ولذا فهو لا يَصلح مُطلقاً ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يكون إلاهَاً يُعْبَد فكيف نعبده أيْ نُطيعه ونَستعين به ونَتوكّل عليه ليُيَسِّر لنا كل شئون حياتنا وهو مخلوق ضعيف مثلنا ونترك عبادة الله الخالِق القادِر علي كل شيء؟!.. إنَّ المَعْبُود إذا كان مَخْلوقاً فإنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! هل يَملك أنْ يُعطي لمَن يَعبده هواءً وماءً وشمساً، أو حركة لأرضٍ ومَجَرَّات وجاذبية، أو تفاعلات كيميائية وفيزيائية لإنماء ما يُنْتَفَع به من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبَحْرِيَّاتٍ وغيرها، أو عقلاً وفكراً وجسداً وروحاً، ونحو ذلك مِمَّا لا يُمكن حصره من أساسات الحياة وأرزاقها المختلفة؟!.. كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! إنَّ الذين يفعلون ذلك قد عَطَلّوا عقولهم بالأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا إيقاظ للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُرَاوِغِين الذين لا يُسْلِمون ويعبدون مع الله تعالي آلهة أخري ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. والاستفهام والسؤال لأمثال هؤلاء هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا.." أيْ ولا تعمل كلُّ نفسٍ إنسانية عملاً مَا من خيرٍ أو شرٍّ إلا كانت نتيجته عليها هي وحدها، فلها ثواب وجزاء وعطاء ما كسَبَت من حسناتٍ بسبب أعمالها الصالحة في الدنيا تناله بما يُناسبها من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياها ثم أخراها، وعليها أيضا فيهما عقاب ما اكتسبت من سيئاتٍ بسبب أعمالها السَّيِّئة فيها بما يناسبها من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.." أيْ ولا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها حيث الوِزْر يعني الحِمْل الثقيل، أيْ لا تَحمل شخصية حِمْل شخصية أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيراً فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما.. وهذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من التأكيد علي معني الجزء السابق لأهميته ليَظلَّ مُتَذَكَّرَاً.. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)" أيْ هذا طمْأَنَة للمُحسنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم وناصرهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي ربكم لا إلي غيره –أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – رُجُعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم فيه تختلفون من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فيُبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)" أيْ وهو وحده سبحانه الذي جعلكم أيها الناس خلائف – جمع خليفة – له في الأرض ويَخْلف بعضكم بعضا جيلا بعد جيل لتنتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه، وكرَّمكم بأن وَثَقَ فيكم وجعلكم خُلَفاء نُوَّاباً عنه تعالي تُسَيِّرُون شئونها بما أوصاكم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِدوا ذواتكم وغيركم والكوْن كله.. فكونوا إذن نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادته أيْ طاعته تعالي وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكره وحده علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك تَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ثم أيضا بما أنه سبحانه قد جعلكم خُلَفاء لمن سَبَقكم من الأمم السابقة، فاعْتَبِروا إذن بما أصابهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا تفعلوا أبداً مثلهم حتي لا تتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.." أيْ وأعْلَيَ بعضكم علي بعضٍ مَرَاتِب ومَنَازِل ومستويات في الأرزاق والقوَيَ المختلفة حسبما تجتهدون في إحسان اتّخاذ أسباب تحقيق ذلك فيُيَسِّرها لكم بما يُحَقّق مصلحتكم وسعادتكم.. وفي هذا تنبيهٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم أن يَبذل أقصي ما يستطيع من جهدٍ في دنياه ليَصِلَ لأعلي درجاتها التي يريدها ثم ليَنالَ أعلي درجات الآخرة بأنْ يستحضر دائما أثناء كل جهوده نوايا خيرٍ بعقله عند فِعْلها.. ".. لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.." أيْ جَعَلكم هكذا ليَختبركم فيما أعطاكم من أرزاقٍ وقوَيً متنوعة ونِعَمٍ لا تُحْصَيَ، لكي يَتَبَيَّن المُطيع الذي يعمل بما أُعْطِيَ خيراً يُفيد ويُسعد به نفسه وغيره في دنياه وأخراه والعاصِى الذي يعمل بما أعطي شرَّاً يَضرّهم ويُتعسهم به فيهما، فيُجازِي مَن أطاعه بما يستحقّه من الخير والسعادة في الداريْن ومَن عصاه بما يستحقه فيهما من الشرّ والتعاسة علي قَدْر عِصْيانه.. إنَّ عليكم أنْ تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما.. ".. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ.." أيْ إنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك سريع العقاب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، حيث سيُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ.. وكذلك سيُجازِي ويُسَرِّع حتما بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة.. إنه تعالي يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مِثْلما يَفعل خَلْقه.. ".. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)" أيْ وإنه بالتأكيد بلا أيِّ شكّ في مُقابِل سرعة العقاب غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
المص (1)
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي فبَلّغه للناس فإنْ لم يستجيبوا لك فلا يكن أبداً في داخلك بعقلك ومشاعرك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم حَرَجٌ منه أيْ ضِيقٌ أو شِدَّةٌ أو عُسْرٌ منه بسبب عدم استجابة البعض له حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء رغم وضوح الأدِلّة لكلّ مَن كان له عقلٌ مُنْصِفٌ عادلٌ يُصيب أيَّ بَشَرٍ بالشعور بالضيق، ولا يكن في صدرك حرجٌ منه بسبب شعورك بالتقصير نحوهم من عدم استجابتهم رغم إحسان دعوتهم، ولا حرجٌ منه بسبب الخوف من التقصير في واجب دعوة الجميع له ونشره والدفاع عنه، ولا مِمَّا شابَه ذلك، فإنه ليس مَصْدَر حَرَجٍ مُطلقاً بل هو حتماً مصدر سعادةٍ وانشراحٍ لأنَّ الله تعالي ما يريد فيما يشرعه من تشريعاتٍ لكم أبداً بالتأكيد أن يجعل عليكم أيَّ ضِيقٍ أو شِدَّةٍ أو عُسْر، ولا يَلِيق ولا يُعْقَل ولا يُتَصَوَّر به ذلك مُطْلقاً بل يريد دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (6) من سورة المائدة ".. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ")، فلا تَحزن ولا تَتضايَق واصْبِر فإنّما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فَعَلْتَ ذلك وفعلتم أيها المسلمون هذا فلا تحزنوا فقد أدّيتم ما عليكم من حُسن دعوة غيركم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يُناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوماً مَا ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، ولهم أجورهم علي دعوتهم سواء استجابوا أم لا.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، وأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. لِتُنْذِرَ بِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لحِكْمَة ولهَدَف إنزاله.. أيْ أُنْزِلَ وأوحِيَ إليك لكي تُحَذّر به، أيْ بهذا القرآن العظيم، بما فيه من تحذيراتٍ، بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض أخلاقه أو كلها أو يُكذّب به أو يُعانِده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره وبما يُناسبها بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَذِكْرَى.." أيْ ولكي يكون كذلك تذكيراً دائماً للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن.. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ (2)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)" أيْ سيروا أيها الناس خَلْف ما أنزل إليكم من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وهو القرآن العظيم ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها كلها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.." أيْ ولا تَتّبعوا أولياء غيره تعالي، ولا تتّبعوا غير قرآنه الذي أُنْزِلَ إليكم دين أولياء، أي نُصَرَاء وأعْوان وأحِبَّاء، مِمَّن لا يَتّبعون القرآن وما به من أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادِلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أي تجعلونهم أولياء لأموركم وليس الله تعالي والإسلام والمسلمين الصالحين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)" أيْ لكنْ رغم كلّ ما ذُكِر إلاّ أنكم أيها البَعِيدون عن ربكم وإسلامكم المُتَّبِعُون من دونه أولياء لا تَتذكَّرون هذا كثيراً بل تتذكّرونه تَذَكّراً قليلا!!.. لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولا تتذكّرون ربكم وإسلامكم، ولا تعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. والسبب أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)" أيْ وكثيراً من البلاد أهلكنا أهلها بسبب مُخَالَفة رسلنا وعدم إسلامهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وإصرارهم علي ذلك بلا توبة أيْ عودة لربهم ولإسلامهم فجاءها أيْ فوَصَل هذه البلاد وأهلها في موعد إهلاكها بأسنا أيْ عذابنا الدنيويّ بياتاً أيْ بائِتين أيْ وهم أثناء نومهم بالليل، أو قائلين أيْ أثناء قَيْلُولتهم أيْ نومهم وقت الظهر، والمقصود أنه يأتيهم وقت استرخائهم واطمئنانهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم.. ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)" أيْ فما كان قولهم أيْ لم يكن لهم أيّ قولٍ في هذا الموقف الشديد حين جاءهم عذابنا إلا أن قالوا مُعْتَرِفين بظلمهم وسُوئهم الذي استحقّوا به العذاب نادِمين مُتَحَسِّرين مُسْتَغِيثين فَزِعِين طامِعين في الخلاص في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أو حَسْرَةٍ أو طلب نجاة إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا وغيرنا بفِعْلنا الشرّ لا الخير ولم يظلمنا الله تعالي بعذابه، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)"، " فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)" أيْ هذا بيانٌ للعذاب الأخرويّ بعد العذاب الدنيويّ الذي ذُكِر في الآيتين السابقتين.. والسؤال هو نوعٌ من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ بالنار حيث سيكون حساب يوم القيامة لأمثال هؤلاء دقيقاً وليس بتساهلٍ كالذي يكون مع المُحسنين، مع العدل التامّ بالقطع.. إنه تعالي سيَسألهم، وهو العالِم بتمام العلم بكل قولٍ وفِعْلٍ لهم وبما سيُجيبون به، ولكنَّ هدف السؤال أن يُقِرُّوا ويَعترفوا بما كان منهم وأنهم يَستحقّون بالفِعْل العذاب فلا ظلم لهم.. أيْ فبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سنَسأل الذين أُرْسِلَ إليهم رسلنا وهم جميع البَشَر وقد أرسلنا إليهم جميعا الرسل هل وَصَلَتْهم رسالة الإسلام من خلالهم فيُقِرُّون ويَعترفون ويشهدون بذلك الحقّ الذي وَصَل إليهم من رسلهم ونسألهم عن اتّباعهم والإسلام الذي كانوا يَدْعُونهم إليه ليسعدوا في الداريْن هل استجابوا لهم أم كذّبوهم وعانَدوهم وراوَغوهم واستكبروا عليهم واستهزؤا بهم وآذوهم؟!.. ".. وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)" أيْ وسنسأل كذلك بالتأكيد كلَّ الرسل في كل الأزمنة والأمكنة عن ماذا أجابَتْكم به أُمَمُكم الذين أرسلتكم إليها، هل أجابُوكم أيْ استجابوا لكم بالإيمان أيْ بالتصديق بكم وبالعمل بالإسلام أم رَدُّوا عليكم بالتكذيب وعدم العمل به؟ وهو سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤال تشريفٍ وتكريمٍ وتمييزٍ لهم عن غيرهم وذمٍّ شديدٍ وزيادةِ رُعْبٍ لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا سُئِلَ الرسول فلا شكّ أنَّ هذا إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)" أيْ وبكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ سنُخْبِر حينها الرسل والمُرْسَل إليهم، ونَقُصّ ونَتْلُو علي الجميع، تفاصيل كل ما عملوه في دنياهم من خيرٍ وشرٍّ في كل قولٍ وعملٍ ظاهرٍ وخَفِيٍّ عن علمٍ دقيقٍ وإحصاءٍ شاملٍ لأننا لا يغيب عنا شيء، فما كنا غائبين عنهم ولو لِلَحْظَة في أيِّ حالٍ من أحوالهم الظاهرة والخَفِيَّة في أيِّ وقتٍ من أوقاتهم ومكانٍ من أماكنهم فنحن معهم دائما بعلمنا وقُدْرتنا أينما كانوا
ومعني "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)"، "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)" أيْ هذا بيانٌ للعدل التامِّ يوم القيامة.. أيْ والوزن يومها للأعمال لتقديرها للجزاء عليها يكون بالحقّ أي بالعدل بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ لأيِّ أحدٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال.. هذا، وليس من الضروريّ أن يكون الوزن بالميزان ولكنَّ المقصود هو تمام العدل الحَتْمِيّ عند الحُكْم والقضاء من الله تعالي.. ".. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)" أيْ فأيّ إنسانٍ رَجَحَت كِفَّة موازين حسناته على كِفَّة موازين سيئاته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بحَسَنَة واحدة، فهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في أخراهم بعد دنياهم بسبب عملهم الخير، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أنْ يُثْقِلَ ميزان حسناته بكل خيرٍ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته.. "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن خَفّت مَوَازين حسناته عن موازين سيئاته بسبب كثرة فِعْله السوء وقِلّة فِعْله الخير بحيث رَجَحَت كِفّة موازين سيئاته علي كِفّة موازين حسناته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بسيئةٍ واحدة، فإنه يُحَاسَب علي قَدْر سُوئه، فهؤلاء حتماً هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ لأنهم قد عَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم يوم القيامة.. إنهم يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. ".. بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)" أيْ خُسرانهم لأنفسهم بسبب أنهم كانوا في دنياهم يَجْحَدون بآياتنا، أيْ كانوا لا يَقبلون ولا يَعملون ولا يَعترفون ولا يُصَدِّقون بآياتنا في القرآن العظيم، ولا بآياتنا أيْ دلائلنا علي وجودنا ومُعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كَوْننا، والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ! فهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ القرآن حقّ، والله ورسوله (ص) وإسلامه حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة وعدم الاستجابة للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وظلمهم له صور ودرجات مُتَعَدِّدَة فقد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أو شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أو نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أو اعتداءً وعدم عدلٍ أو فسادا ونشرا للشرّ أو ما شابه هذا
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)" أيْ ولقد أعطيناكم بالتأكيد أيها الناس التمكين في الأرض أيْ أسباب القوة والبقاء ما تتمكَّنُوا بها من أنواع التّصَرُّف فيها والانتفاع والسعادة بها تمام السعادة، فهي ملك لكم ومُسَخَّرَة، وأنتم مُتَمَكّنُون منها ومِمَّا فيها.. ".. وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ.." أيْ ووَفّرنا وجَهَّزنا لكم فيها كل أسباب المَعِيشَة – جَمْعها مَعَايِش، مُتَنوّعة الأشكال – السَّهْلَة المُيَسَّرَة المُمْتِعَة المُسْعِدَة، وهي ما يُمكن العَيْش أيْ الحياة به بكل سعادة، مِن عقلٍ وفكرٍ وروح وجسد وصحة وقوة، وهواء وماء وشمس وضوء وجاذبية، وبحار وأنهار، وزروع وثمار ودَوَابّ، وما يُؤْكَل وما يُصْنَع وما يُلْبَس وما يُتَّخَذ دواء وما يُتَزَيَّن به وما يُتاجَر فيه ويُتَكَسَّب ويُرْبَح منه، ونحو ذلك مِمَّا يَنفعكم ويُمَتّعكم ويُسعدكم.. ".. قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)" أيْ لكنْ رغم كل هذه النِّعَم الواضحة والتي لا يُمكن حَصْرها، فإنكم تشكرون أيها البَشَر شكرا قليلا وفي أوقاتٍ قليلة! بل بعضكم قد يكفر هذه النِّعَم أيْ لا يعترف بها بل وقد يَنْسِبها لغيره سبحانه! بل والبعض قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا!! فإيّاكم أن تكونوا كذلك، بل كونوا دوْما شاكرين لنِعَمه تعالي، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات (31)، (32)، (33) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
إن الآيات الكريمة تحكي للناس قصة الحياة الدنيا ليُحْسِنوا التّعامُل معها فيسعدوا تماما فيها ثم في حياتهم الآخرة.. لقد خَلَقَ سبحانه الإنسان من نُطْفَةٍ ثم صَوَّرَ صورته وشكله علي أحسن صورةٍ في رَحِم أمّه، وقد أسجد الملائكة لأبيه آدم كدلالة علي أنه مُكَرَّم علي جميع المخلوقات، ثم بَيَّنَ له أنَّ هناك خيراً مُسْعِدَاً لمَن يُطيع ربه ويعمل بكل ما يأمره به ويَمتنع عن كل ما ينهاه عنه، أيْ لمَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاق الإسلام، وقد تَمَثَّلَ ذلك ورُمِزَ له بطاعة الملائكة لأمر ربها بسجودها لآدم، وأنَّ هناك شَرَّاً مُتْعِسَاً لمَن يعصي أوامره، أي يترك بعض أو كل إسلامه، استكباراً أو عِنادً أو نفاقاً أو مُرَاوَغَة أو غفلة أو ما شابه هذا، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يومَاً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وقد تَمَثّلَ ذلك ورُمِزَ بعصيان واستكبار الشيطان، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كلّ خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وإبليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يئس من الرحمة وأصبح مَيْئُوسَاً منه أن يفعل خيراً، وأنَّ ابن آدم صاحب العقل الذي هو سبب تكريمه إذا انتبه لِمَا هو مَفْطُورٌ مُبَرْمَجٌ عليه موجودٌ فيه من الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف) وأحسن استغلاله والتعامُل معه في كل خير، وَجَدَ كل خير، وعاشَ في جنات وسعادات الدنيا بعيداً عن أيّ حزنٍ أو خوف، ثم في أعظم من ذلك وأخلد في جنات الآخرة، وإذا أساء استخدام عقله في أيّ شرٍّ وَجَدَ حتماً شرَّاً ولو بعد حين، وعاش حياته تعيساً كئيباً في نيران وآلام دنياه ثم أعظم منها في أخراه إنْ لم يَتُبْ، وقد يُخَلّد في هذا إنْ كان كافراً ومات علي ذلك، وأنه هو الذي يختار بمشيئته بكامل حرية إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وأنَّ مَن يترك بعض أو كل أخلاق الإسلام، ويترك التفكير الخَيْرِيّ بعقله، ويَتّبع التفكير الشَّرِّيّ فيه، والذي يُرْمَز له بوَساوِس الشيطان وإغواءاته أيْ إغراءاته، سيَهْبِط من مَكَانَة الإنسان الراقية الخيرية السعيدة إلي الصَّغَار وهو الذلّة والمَهَانَة في مُقابِل وبسبب استكباره علي شرع الله، لأنه سيَعبد أيْ يُطيع غيره سبحانه فيذِلّه هذا المَعْبُود ويستهلكه ويَسْتَنْزِف ثرواته وقوَّاته ولن يعطيه إلا الفُتات، وسيَخرج من سعادات الدنيا والآخرة مَذْمُوماً أيْ مَصْحُوبَاً بكلّ ذمٍّ وعَيْبٍ وكُرْهٍ ومَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً عن الله ورحمته وكل خيرٍ مع أمثاله المُسيئين أجمعين، وسيَفقد حياءه وتقواه بسبب كثرة سُوئه فيزداد بذلك سوءاً، وهذا قد رُمِزَ له بأنَّ السَّوْءَة، أيْ ما يُسيء إذا انكشف، أيْ العَوْرَة، قد بَدَت أيْ ظَهَرَت، وكل ذلك بسبب اتّباعه لخطوات الشيطان، أيْ لتفكيره الشَّرِّيّ، باختياره، بكامل حريته، والذي سَمَحَ به تعالي وأنْظَره أيْ أمْهَله وأبْقاه في العقل إلي يوم القيامة، لا لِيَتَّبِعه! ولكن لتظهر أضرار وتعاسات اتّباعه، إذ بالضدّ تَتَمَيَّز الأشياء، فيتمسّك أشدّ التمسّك بالخير لينال سعاداته التامَّة في الداريْن، وهذا التفكير الشرّيّ هو مع الإنسان دَوْمَاً كأنه قاعِد له في طريقه المستقيم، كأنه يأتيه من كل مكان، لكي يكون في كل لحظةٍ يَقِظَاً له حَذِرَاً من شروره، فهو سيَظلّ عدواً له ما دام علي الأرض ليظل حذراً منه فتَقْوَيَ إرادة عقله بمقاومته فيستخدم هذه الإرادة القوية في الانطلاق في الحياة يستكشفها أكثر فيَسعد أكثر فيشكر ربه أكثر فيزيده فيسعد أكثر وأكثر.. هذا، وإنْ تابَ الإنسان، أيْ اسْتَفاقَ ونَدم واستغفر ربه وعَزم بداخل عقله علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها ما استطاع إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، تابَ ربه عليه وأعانه وأعاده لطريق الخير والسعادة، فهو الغفور الرحيم.. فهذه هي قصة الحياة علي الأرض وحال الإنسان واستقراره ومَتاعه فيها، ثم موته بها، ثم خروجه منها وبَعْثه يوم البَعْث في الآخرة، حيث كل الخير لأهل الخير وكل الشرّ لأهل الشرّ
هذا، ومعني "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)" أيْ ولقد أوْجَدْناكم من عدمٍ أيّها الناس – وكذلك خَلَقْنا كلّ المخلوقات – ثم صَوَّرناكم أيْ خلقناكم بعقولكم وأجسادكم علي أحسن وأنفع وأنسب صورة مَضبوطة مُتَنَاسِقَة تُعينكم علي تمام الانتفاع والسعادة بكلّ الخيرات حولكم والتي هي كلها أرزاق منا لكم، وذلك بقُدْرتنا وكمال عِلْمنا ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق وصَوَّر هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر لكلّ مَن تَدَبَّر فيه وكان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا.." أيْ ثم قلنا للملائكة وأمرناها بعد ذلك – جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه لا تُرَيَ بالعين البَشَرِيَّة خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه – اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. ".. إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)" أيْ فيما عدا إبليس عَصَيَ ولم يَسْتَجِب، لم يسجد ولم يكن من الساجدين لآدم، فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً، وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة بقية الآيات من (12) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام).. إنه تعالي في هذه الآية الكريمة وما بعدها حتي الآية (25) يستخدم أسلوب التمثيل القصصيّ ليُوَضِّح لنا تجربة الحياة وأصولها وكيفيتها والمؤثرات فيها قبل أن تبدأ لنَعْتَبِر بها ونَسْتَعِدّ لها أحسن وأتمّ استعداد لنَنْصَلِحَ ونَكْمُل ونَسعد فيها تمام السعادة ثم بسعادة الخلود التامّة العظيمة ذات النعيم الذي لا يُوصَف في جنات الآخرة
ومعني "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)" أيْ يَذمّ الله تعالي المُستكبرين عن طاعته فلا يَتَّبِعون إسلامه ذَمَّاً شديداً فيُذَكّرنا في القرآن بسؤاله لإبليس الذي هو رمز لهم ويُمَثّلهم عن ما السبب الذي يمنعهم من هذا، من الاستجابة له حين يأمرهم بما فيه مصلحتهم وسعادتهم وهو خالقهم بيديه الكريمتين ومُوجِدهم ووَاهِب الحياة لهم ورازقهم وراعيهم ومِن طاعة تشريعه وهو الإسلام الذي أنزله إليهم في قرآنه ليُسعدهم في دنياهم وأخراهم؟! لعلهم يَستفيقون ويعودون له ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما.. هل السبب أنك قد اسْتَكْبَرْتَ يا ابن آدم يا مَن تَشَبَّهْتَ بإبليس علي خَلْق الله مِن بَشَرٍ وغيرهم في الكوْن أم كنتَ مِن المُتَعَالِين حتي علي الله ذاته؟!.. ".. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)" أيْ يُحاوِل الكافر تبرير كفره لذاته أو لغيره بتبريراتٍ كاذبة وبأدِلّةٍ ضعيفة لا قيمة لها!! إنه يَتَوَهَّم مُنْخَدِعَاً كأنه فوق الجميع وأشرف وأفضل منهم لأنه مخلوق آخر مُتَمَيِّز وليس مثلهم! فهم يُطيعون خالقهم أمّا هو فلا يُطيعه! بل قد لا يعترف بعضهم بوجود خالقٍ أصلا! أو يعترف بوجوده لكن لا يستجيب لتوجيهه وإرشاده في تشريعه بل هو يفعل ما يشاء من شرور ومَفاسد وأضرار! أو يُشْرِك معه في العبادة غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكبٍ أو نحوه! تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. وفي هذا تمام التعاسة لأمثال هؤلاء في دنياهم وأخراهم.. والسبب هو تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي الآية الكريمة ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ولا يستكبرون مثل استكبار إبليس فيكون مصيرهم جهنم وبئس المصير
ومعني "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)" أيْ هذا بيانٌ لعقاب الله تعالي للمُستكبرين المُعانِدين المُكَذّبين العاصِين وهو الخروج من رحماته وجناته وسعاداته إلي عذاباته ونيرانه وتعاساته في الدنيا ثم الآخرة، فهذا هو حتماً مصير كلّ مَن يَتَّبِع الشيطان.. لكن مَن يتوب مِن بني آدم ويَترك اتّباعه ويعود لربه ولإسلامه يتوب تعالي قطعاً عليه ويَسعد في الداريْن فهو واسِع المغفرة الذي يغفر الذنوب جميعا.. أيْ قال الله تعالى لإبليس فانْزِل من الجنة إلي الأرض بسبب عِصْيانك وتَكَبُّرك، والمقصود هبوط المُتَكَبِّر المُكَذّب المُعانِد العاصِي من السعادة إلي التعاسة في دنياه وأخراه بسبب سُوئه، وتكون درجة هبوطه وانحداره فيها علي قَدْر هذا السوء الذي يفعله.. ".. فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا.." أيْ فلا يجوز لك أن تَتَعَالَيَ في الجنة، فليس لك أن تعصي فيها، فمَا لمَن يَتَكَبَّر ويَعصي أن يكون فيها، لأنها ليست مكاناً للسوء، فهي يسكنها فقط الطيّبون المُطيعون لا الشِّرِّيرون العاصُون فهي ليست أبداً مكاناً لهم، أما الأرض فيسكنها المُطيع والعاصي، فسعادات الجنة – وكذلك الدنيا – لا تكون مُطلقاً للعاصِين بل هي للمُطيعين المُتواضعين التائبين من معاصيهم العائدين لربهم العاملين بأخلاق إسلامهم.. ".. فَاخْرُجْ.." أيْ هذا تأكيدٌ للهبوط والإبعاد والإخراج من الخير للعاصِين أمثاله.. ".. إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)" أيْ فأنت ستكون دائما، وكذلك سيكون كلّ عاصٍ يَعصي مثلك، من الذليلين المُهانين الحَقيرين، بسبب العصيان، فكلّ معصيةٍ تُهين وتُذِلّ فاعلها بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات، كما يُثبت الواقع ذلك
ومعني "قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)"، "قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)" أيْ أنَّ وجود الشرّ في الحياة الدنيا إلي نهايتها إنما هو لحكمةٍ هامّة وهي أن يُعْتَبَرَ به فلا يَفعله الإنسان لأنه قد رأيَ أضراره وتعاساته، وهذا هو معني "قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)" أيْ أمْهِلْنِي أيْ أَجِّلْنِي أي اترك الشرَّ إلي يوم البعث حين تَبْعَث بني آدم بأرواحهم وأجسادهم في الآخرة للحساب الختاميّ لِمَا عملوا.. "قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15)" أيْ أنَّ الشرَّ مَتْروكٌ مَوجودٌ دون إزالةٍ له بحِكمة الله وبعلمه إلي توقيت يوم القيامة الذي يعلمه سبحانه حين تنتهي الحياة الدنيا، وذلك للاعتبار به.. هذا، ويُراعي أنَّ جواب الله تعالى لإبليس هو إخبار عن أمرٍ قد تَحقّق بالفِعْل وليس إجابة لطَلَبه لأنه أهون على الله من أنْ يُجيب له طَلَبَا.. أيْ لقد خلقتُ مخلوقاتٍ غير بني آدم هي باقية لقيام الساعة كالسماوات والأرض وغيرها وأنت منها
ومعني "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)"، "ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)" أيْ هذا تأكيدٌ وتنبيهٌ علي استمرارِيَّة وجود الشرّ حتي نهاية الحياة الدنيا ليَتَّخِذ الناس جميعاً مزيداً من الحَذَر نحوه.. أيْ قال إبليس كما أغويتني، أي كما أضللتني، والمقصود كما جعلتني يارب سَبَباً للضلال والوقوع في الغِواية أي الشرّ والفساد لأنْ حكمتك تَطَلّبَت السماح بوجود الشرّ في الدنيا حيث فيه مصلحة بني آدم وذلك لا ليَفعلوه وإنما لكي لا يَتّبعوه بل ويُقاوموه فتزداد قوة إرادة عقولهم فيَنطلقون في الحياة بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر وأكثر وينتفعون ويسعدون بها أكثر وأكثر ثم يكون لهم بذلك في آخرتهم السعادة الأكثر والأعظم والأتمّ والأخلد، وهذا سيكون هو حال الذين لا يستجيبون لأيّ شرّ – وإنْ استجابوا أحيانا تابوا منه سريعا – ويَتّبِعون كل خيرٍ أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)" أيْ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سأجلس وسأكون مُلازِمَاً دَوْمَاً لبني آدم على طريقك القويم، وهو الإسلام، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، سأتَرَبَّص بهم وأنتظرهم كما يَتَرَبَّص وينتظر قُطّاع الطريق للسائرين فيه لأمنعهم من اتّباعه وأبعدهم عنه وأدعوهم لكل شرٍّ وفساد، في كل قولٍ وعملٍ بكل شئون حياتهم، مُجْتَهِدَاً في ذلك بلا أيّ تكاسُلٍ مُتّخِذَاً كل وسيلةٍ مُمْكِنَة.. "ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حرصه الشديد علي أداء مهمّته بنجاحٍ تامٍّ بكل الوسائل والطرُق بلا أيِّ انقطاعٍ أو تَرَاجُعٍ أو تَرَاخٍ أو يأس.. أي وسأَحْضُر وسأَجِيء لهم وأُلازِمهم من جميع الجهات والجوانب في كل أقوالهم وأفعالهم بكل مواقفهم وتصرّفاتهم لأبْعِدهم عن كل خيرٍ وأدْفَعهم لكل شرّ.. ".. وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي حرصه الشديد علي أداء مهمّته بنجاحٍ تامٍّ بكل الوسائل والطرُق بلا أيِّ انقطاعٍ أو تَرَاجُعٍ أو تَرَاخٍ أو يأس.. أيْ وسأستمرّ حتى لا يكون كثيرٌ من بني آدم ولا تَرَاهم شاكرين لك نعمك التي لا تُحْصَيَ عليهم بأن يؤمنوا بك ويُطيعوك وحدك باتّباع إسلامك وبإحسان استخدام هذه النِّعَم في كل خيرٍ لا شرّ، بل ستجدهم غير شاكرين بأن يكفروا ويَعصوا.. فلْيَحْذَره إذَن كلّ عاقلٍ حَذَرَاً شديداً ولا يَتّبعه مُطلقاً ويُقاومه علي الدوام بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما، ولْيَدْعُ غيره لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة حتي يكون الناس جميعا شاكرين لربهم مؤمنين به مُوَحِّدين له بلا أيِّ شريكٍ عاملين بإسلامهم ليسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (20) من سورة سبأ "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)"، ثم الآية (13) منها ".. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)")
ومعني "قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإخراج من الخير والسعادة للعاصِين أمثاله وبيانٌ لسوء المصير والمَرْجِع في الآخرة حيث العذاب والتعاسة علي قَدْر السوء الذي يرتكبونه، بعد تعاسة الدنيا التي كانوا فيها قطعاً والإخراج من سعادتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ومُخَالَفاتهم لإسلامهم.. أيْ قال الله تعالي لإبليس – وهو قولٌ يُقالُ لكلِّ عاصٍ – اخرج من الجنة بسعاداتها خروج مَن كان حاله وواقِعه مَذءوماً أيْ مَذْمُومَاً أيْ وأنتَ تُذَمّ بكل أنواع الذمّ أيْ تُذْكَر وتُوصَف بكل ما هو سَيّء مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليك مَكروها، ومَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً تماماً مَطروداً من رحمات وإسعادات ربك.. ".. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)" أيْ بالتأكيد مَن يَسير خَلْفك ويَستجيب لك ويُطيعك في الشرّ الذي تدعوه إليه مِن بني آدم فبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سأُدْخِل وأملأ النار منكم جميعا أيها العاصون يوم القيامة ليُعَاقَب كلٌّ منكم علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني "وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)" أيْ وبعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم زِدْناه علي هذا التكريم والتعظيم تكريماً وفضلاً كبيراً بأن قلنا له يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، أي اتّخذها مكانا للسكن وللاستقرار وللأمن، والجنة هى كل بستان ذى شجر كثير كثيف يُظلل ما تحته ويَستره، من الجَنِّ وهو سَتْر الشىء فلا يُرَيَ، وفيها كلّ مُفيدٍ مُسْعِدٍ مِمَّا يُؤْكَل ويُشْرَب ويُنْتَفَع به ومساكن طيبة وأنهار، وهذه الجنة لم يحددها الله تعالي فقد تكون جنة الآخرة المُعَدَّة للمُحسنين والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر أو مكانا طيبا كالجنة علي الأرض، وقلنا لهما كُلَاَ منها أكلاً هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاءان من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدان، لكنَّ هناك شجرة مُعَيَّنَة لا تقرباها وابتعدا تماما عنها ولا تأكلا منها فإنْ أكلتما فسَتَكُونَا بذلك من الظالمين أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. إنَّ مِن حِكَم منعهما أن يعلما ويتذكّرا دائما ولا يَنْسَيَا أنَّ في حياتهما الدنيوية المستقبلية كل ما فيها مِمَّا هو مُفيد مُسعد يكون مباحا لهما ويتمتعون به هما وذريتهما بصورة فيها رَغَد أيْ عيش هنيء طيب وافر واسع لكنَّ هناك أمورا قليلة ممنوعة لا تُبَاح لضَرَرها ولتعاستها علي البَشَر مَن ابتعد عنها ولم يقترب منها ولم يفعلها سَعِدَ في دنياه وأخراه ومَن فَعَلها تَعِسَ فيهما علي قَدْر فِعْله.. فالله تعالى رحمة منه ببني آدم لم يشأ أن يبدأ أبوهم آدم حياته في الأرض على أساسٍ نظريّ لأنَّ هناك فرقا بين الكلام النظريّ والتجربة العملية، فأبقاه لفترةٍ في مكانٍ كالجنة للتدريب العمليّ علي فِعْل الخير المُفيد المُسعد وتَرْك الشرّ المُضِرّ المُتْعِس – وهذا هو أصل دين الإسلام – أيْ ليَتدرّب علي العمل بأخلاق الإسلام ليَسعد بذلك تمام السعادة في حياته الدنيا ثم حياته الآخرة
ومعني "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)" أيْ فوسوس الشيطان لآدم وحواء بالشرّ – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب، والوَسَاوِس عموما هي خواطر الشرّ التي تأتي في التفكير العقليّ – بأنْ يأكلا من الشجرة المُحَرَّم عليهما حتي الاقتراب منها وإلا كانا من الظالِمين أيْ العاصِين المُسْتَحِقّين للعقاب لتكون النتيجة السَّيِّئة لهذا العصيان أن يُعاقبهما الله عليه بأنْ يُبْدِيَ أيْ يُظْهِرَ لهما ما وُوُرِيَ أي سُتِرَ عنهما من سوءاتهما أيْ عوراتهما، والسّوْءَة هي فَرْج الرجل والمرأة، وسُمِّيَت بذلك لأنَّ انكشافها يَسوء صاحبها، وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فقد حَدَثَ ما يُذَكّرهما بما هو راسخٌ في فطرتهما ولكنهما نَسِيَاه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وهو أنَّ الشرَّ مُتْعِسٌ وأنَّ الخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)" أيْ هذا بيانٌ للشرِّ وَسْوَسَ به إليهما.. أيْ وقال لهما كذباً وزُورَاً وخِدَاعَاً ما مَنَعَكُما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلاّ كراهية أن تكونا، وحتي لا تكونا، وإلاّ لِمَنْع أن تكونا، مَلَكَيْن أو تكونا من الخالدين الذين لا يموتون ويبقون أحياء، أيْ مَنَعَكُما عنها رغم أنَّ مَن يأكل منها يصير مَلَكاً أو خالداً، والإنسان بفطرته يحب الرُّقِيَّ إلي أعلي الدرجات ليكون له صفاتُ قوةٍ كالملائكة ويحب أيضا البقاء في الحياة لأطول فترةٍ مُمْكِنَةٍ لينتفع ويَتَمَتّع بها وقد يضعف أمام الوسائل التي تُحَقّق له ذلك، وقد جاءهما الشيطان من هذه الناحية فكان هذا هو المدْخَل لخِداعهما بإغرائهما بالأكل ومعصية الله ومُخَالَفَة وَصَاياه، وقد خَدَعهما بالفِعْل حيث استجابا له مُتَوَهِّمِين مُنْخَدِعِين بكَذِبِه أنهما بذلك يمكنهما تحقيق العُلُوّ والبقاء!!.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ حَذَرَاً شديداً من مِثْل هذا وغيره من التفكير الشَّرِّيّ الخاطِيء المُتْعِس الذي يُفَكّر فيه أحيانا بعقله ولا يَتّبعه مُطلقاً ويُقاومه علي الدوام بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)" أيْ وأقْسَمَ لهما بالله علي صِدْقه فيما يقوله لهما حتي لا يَشُكَّا مُطلقاً أنه كاذبٌ مُبَيِّنَاً إنه لهما بالتأكيد من الناصحين الصادقين الذين يَسْعون لنصحهما لِمَا فيه منفعتهما، فصَدَّقاه لأنهما لم يَتَصَوَّرَا أبداً أنَّ أحداً يمكن أنْ يَتَجَرَّأ ويُقْسِم بالله كذباً لكنه كان بالقطع يكذب عليهما ليَخدعهما ويُوقعهما في معصية الله تعالي
ومعني "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)" أيْ هذا بيانٌ لنجاح الشيطان في خِداع آدم وحواء لَمَّا نَسِيَا أنه عدوّهما لكي يَحْذَر بنو آدم كلهم من ذلك فيَتّخِذوه دوْمَاً عدوّاً لهم ليَنْجُوا من الشرّ فيَسعدوا في الداريْن.. أيْ فنَزّلهما من درجةٍ عاليةٍ هي الطاعة وسعاداتها إلى درجةٍ سافِلَةٍ هي المعصية وتعاساتها، بسبب ما غَرَّهما أيْ خَدَعهما به مِن وَساوِس.. ".. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.." أيْ فلَمَّا أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالي عن الأكل منها، مُخَالِفَيْنِ بذلك لوَصَاياه، عُوقِبَا بأنْ ظَهَرَت لهما عَوْرَاتهما بعد أن تَسَاقَط عنهما لباسهما بقُدْرته سبحانه، فخَجِلاَ وجَعَلاَ يَلْزِقَان ويُرَقّعان علي عَوْراتهما لستْرِها من ورق أشجار الجنة ورقة فوق أخرى.. وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فقد حَدَثَ ما يُذَكّرهما بما هو راسخٌ في فطرتهما ولكنهما نَسِيَاه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وهو أنَّ الشرَّ مُتْعِسٌ وأنَّ الخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)" أيْ وقال لهما ربهما تعالي حينها مُعاتِبَاً مُؤَدِّبَاً مُنَبِّهَاً لخطئهما وضَرَره وتعاسته عليهما ومُذَكّرَاً بالنهي وبعَدَاوَة الشيطان التي عليهما ألاّ يَنْسَيَاها أبداً مَدَيَ حياتهما وذامَّاً علي الانخداع بعدوٍّ وتصديقه والأمن له واتّباعه، ألم أمنعكما عن تلك الشجرة أن تأكلوا منها وأخبركما إنَّ الشيطان لكما عدوٌّ مبينٌ أيْ واضِحٌ لكما، أيْ ضِدَّكما يريد إضلالكما أيْ إبعادكما عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه؟!.. إنه لا يريد لكما أيّ خيرٍ ولا يَتَكاسَل لحظة عن محاولة إيقاعكما في الشرّ فكيف أطَعْتُمَاه وقَبِلْتما نُصْحه وهو عدوكما ودعاكما لِمَا يُخالِف وَصَايَا ربكما؟!
ومعني "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)" أيْ قال آدم وحواء مُعْتَرِفَيْن بذنْبَيْهِما نادِمَيْن مُتَوَسِّلَيْن يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال وَصَايَاه لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – اعتدينا علي نَفْسَيْنا وأسأنا لهما وأتعسناهما بفِعْل هذا السوء المُضِرّ المُتعِس وإذا لم تغفر لنا أيْ تُسَامِحنا ولا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وتُمْحُها كأن لم تكن وتُمْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وتَسْتُرْها وتُخْفيها ولا تُعَذّبنا بها فيهما فسنكون حتما بالتأكيد من الخاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث نخسر ونفقد دنيانا فنتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدنا عنك وشرعك الإسلام ونخسر قطعاً أخرانا يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورنا ومَفاسدنا وأضرارنا بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)" أيْ قال الله تعالي لهما انْزِلوا إلى الأرض أنتما وذرِّيَّاتكما بداخلكما والشيطان لتعيشوا جميعا فيها، وسيكون بعضكم لبعض عدو، أيْ سيكون الشيطان دائما عدوا لكم يا بني آدم وستَقَعُون في العداوة والتعاسة فيما بينكم لو اتّبَعْتُموه، فعليكم إذَن دوْماً أن تكونوا حَذِرِين منه أشدّ الحَذَر وأن تَتَّخِذوه علي الدوام عدوا، أيْ لا تَتَّبِعوا خطواته وتقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تتمسّكوا وتعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)" أيْ ولكم في الأرض مكان استقرارٍ وتيسيرٍ للمعيشة وتَمَتّعٍ وانتفاعٍ وإسعادٍ بما فيها لكنه ليس استقرارا دائما خالدا بلا نهايةٍ بل إلي حينٍ أيْ إلي أوقاتٍ معلومةٍ عند الله وإلي أن تأتي آجالكم بالموت، ثم جميعكم سيرجعون إليَّ لا إلي غيري يوم القيامة حيث أبعثكم بأرواحكم وأجسادكم من قبوركم لأكون الحاكم بينكم بحُكمي العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة في جنات الخلد ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ في نار جهنم علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فتَنَبَّهُوا لذلك إذَن وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فالعاقل المُتَذَكّر دائما لأنَّ استقراره فى الأرض وتَمَتّعه بنعيمها وسعادته به سينتهى وقتاً مَا لا يدرى متى هو حيث قد يكون بعد لحظة فإنه لا بُدَّ أن يكون دوْماً مُسْتَعِدَّاً علي هذا الحال الحَسَن
ومعني "قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)" أيْ قال الله تعالي في الأرض تَعيشون وتَقْضُون أيام حياتكم الدنيا وفيها تَتَوَفّون حين يحين وقتُ موتِ كل واحدٍ منكم ومنها يُخرجكم سبحانه من قبوركم يوم القيامة بعد أن كنتم تراباً ويُعيدكم ويَخلقكم أحياءً مرة أخري بتمام أجسادكم وأرواحكم للحياة الآخرة وللحساب والعقاب والجنة والنار
يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المُتَذَكّرين لنِعَم الله تعالي والتي لا يُمكن حصرها، والشاكرين لها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)" أيْ يُذَكِّر الله تعالي الناسَ ببعض قدْراته ونِعَمه ليَتَدَبَّروا فيها ليتأكّدوا أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. أيْ يا بني آدم مِن بعض مُعجزاتنا ومن تمام قدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا أننا قد أنزلنا عليكم الماء من السماء فأنبتنا به النباتات التي تَنْسِجُون من أليافها وأحْيَيْنا به الحيوانات التي تَصنعون من أصوافها وجلودها لِبَاسَاً أيْ ملابس تُوارِي أيْ تَسْتُر عَوْراتكم وأجسادكم وتحميها من البَرْد والحَرّ وتكون لكم ريشاً أيْ جمالاً وزينة وفَرْشَاً كذلك لبيوتكم حيث تَنتفعون وتَتَزَيَّنُون بها وتَسعدون.. وفي هذا تذكرة بستْر العَوْرات والاسْتِحْياء الشديد من كشفها.. ".. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.." أيْ هذا تذكيرٌ بأعظم النِّعَم علي بني آدم وأهم ما يجب عليهم أن يَتَحَلّوا ويَتَزَيَّنُوا ويَتَّصِفُوا به لأنه أساسٌ يَتَفَرَّع منه كل صفةٍ حَسَنة.. أيْ ولباسُ التقوى لله تعالى هو خيرُ لباسٍ تلبسونه يا بني آدم وهو خيرٌ من كل لباسٍ حِسِّيٍ علي جسدكم حيث يُزَيِّنكم ويَقيكم أيْ يَحميكم من كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن ويُعطيكم كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. إنَّ أفضل وأَخْيَر وأعظم النِّعَم علي بني آدم، إضافة إلي النِّعَم المادِّيَّة المَحْسُوسَة، النِّعَم المَعْنَوِيَّة، نِعَم التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة والتي تُعين علي حُسْن الانتفاع بالنِّعم المَادِّيَّة حولهم علي أكمل وأسعد وجهٍ والتي عَلّمها الله تعالي لهم في كتبه وآخرها قرآنه العظيم من خلال رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) والتي أصلها نِعمة التقوي والتي تَعني خوفه ومراقبته وطاعته وأن يجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وأن يكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.." أيْ ذلك الذي أنزله الله عليكم يا بنى آدم من النِّعم التي لا تُحْصَيَ هو من بعض دلائل قُدْرته وعِلْمه ورحمته وإحسانه عليكم وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)" أيْ لعلّ بني آدم يتذكّرون هذا، أيْ لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس، بل تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله.. إنه يريد فِتْنتك أيْ إيقاعك في الفِتَن والإغراءات والشرور المُتْعِسَة، إيقاعك في إبعادك عن دينك الإسلام.. إنَّ عليك أنْ تتذكّر دائما قصة بدء الخَلْق وتَتَّعِظ بما فيها من دروسٍ وعِبَر (برجاء مراجعة الآيات السابقات (11) حتي (25) من هذه السورة، للشرح والتفصيل)، فقد نَزَعَ عن أبويْنا لباسهما، حياءهما، تقواهما، نِعَمهما، وهكذا كلّ مَن يَتَّبعه في شرٍّ مَا، سيَذوق مراراته وآلامه وتعاساته علي قَدْر شَرّه في دنياه وأخراه.. إنه عدوٌّ مَخْفِيٌّ عنك لا تعلم مِن أين يأتيك ويَفتنك ويَمْكُر بك، وكيف، وله قَبِيله، أيْ قبيلته وأعوانه، وهم كثيرون، بعَدَد البَشَر! حيث في عقل كلّ بَشَرٍ تفكير شَرِّيّ كما ذَكَرْنا!! فاحذر منه أعظم وأشدّ الحَذَر ودائماً وفي كل لحظة، لأنه لو كان عدواً واضحاً، أو قليلا، لَكَانَ من السهل التعامُل معه.. إنَّ التحصين الأكيد ضدّ كل ذلك هو بما دَلّنا عليه ربنا، هو طريقه ورسوله (ص) وقرآنه، هو التمسّك والاعتصام بهم والتوكّل عليهم، هو العمل بكل أخلاق الإسلام، كما وَعَد سبحانه ووَعْده الصدق بقوله "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، " إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ" (النحل:99،100) (برجاء مراجعة تفسيرهما لتكتمل المعاني)، فهو تأثيره فقط علي مَن يَتَوَلّاه، أيْ مَن يَتّخذه وَلِيَّاً لأمره، يَتَصَرَّف فيه كما يشاء!! مَن يُشْرِكه مع عبادة ربه! مَن يُطيعه مِن دونه! باختياره، بكامل حرية إرادة عقله، بلا أيِّ إجبارٍ أو إكراه، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الشياطين بهذا هي حتماً أولياء أمور الذين لا يؤمنون!.. إنَّ بعض هؤلاء مِن شدّة كذبهم وافترائهم علي الله تعالي يفعلون الفواحش ويَدَّعون كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً أنَّ الله أمَرَهم وآباءهم بها!! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، إنه عَزّ وجَلّ لا يأمر إلا بكل عدلٍ وحقّ وخير، بكل أخلاق الإسلام، بكل ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن، بالعبادة أي الطاعة له وحده، بلا أيِّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، بإخلاص الدين له (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، بالصدق (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة آل عمران، ثم الآيات (116) حتي (120) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بإقامة الشعائر التي تُحَرِّك المشاعِر بالعقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل في كل مجالات الحياة المختلفة ومع الجميع كالصلاة والذكر والدعاء والسعي للمساجد ونحو ذلك.. إنه تعالي كما خَلَقَنا أوّل مرّة، سيُعيدنا مرة أخري بعد الموت يوم البعث، والإعادة قطعا أهْوَن مِن البَدْء، فلْنُحْسِن إذَن الاستعداد بالعمل بكل أخلاق إسلامنا، لنكن من الفريق المُهْتَدِي المُفْلِح السعيد في الداريْن، لا من الفريق الضَّالّ الخاسر التعيس فيهما الذي حقّ عليه الضلالة أيْ ثَبتت لأنه اختار أن يَتَوَلّي الشيطان أموره من دون الله وهو يظنّ مُتَوَهِّمَاً مُنْخَدِعَاً غافِلَاً أنه علي الهداية من كثرة فِعْله للشرّ ونسيانه للخير مِمَّا أدَّي إلي الْتِبَاس الحقائق عليه فيَرَيَ الحقّ باطلا والباطل حقّاً وذلك أشدّ درجات الضلال (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للناس من اتّباع الشيطان لأنَّ المصير الحَتْمِيّ لاتّباعه هو التعاسة التامّة في الداريْن وعليهم أن يتّخذوه دوْماً عدواً لهم ويُقاوموه ولا يَتّبعوه ويَغْلِبوه بفِعْل الخير دائما ليسعدوا تماما فيهما.. أيْ يا بني آدم لا يَخْدعكم الشيطان فيُزَيِّن أيْ يُحَسِّن لكم المعصية ويدعوكم إليها فتستجيبون له كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء فاستجابا له فأخرجهما بسببها من الجنة وسعاداتها، أخرجهما من جنة ونعيم وعِزَّة وسعادة الطاعة إلى نار وعذاب وألم وذِلّة المعصية وتعاساتها.. ".. يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا.." أيْ ونَزَعَ وأزاحَ عنهما لباسهما وأظهر لهما عوراتهما.. وإسْناد النّزْع إلى الشيطان لأنه هو الذي كان مُتَسَبِّبَاً فيه رغم أنه حَدَثَ بقدرة الله تعالي كعقوبةٍ منه لهما بسبب معصيتهما.. وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فالشرّ مُتْعِسٌ والخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير الشديد منه ومَمَّن يَتَّبعونه ويَتَشَبَّهون بشروره من أشرار الناس.. أيْ احذروه حَذَرَاً شديداً دائماً في كل لحظةٍ حتي لا يهزمكم لأنه يراكم هو وقبيله أيْ قبيلته أي أعوانه من حيث لا ترونهم أنتم، والعدو إذا أَتَىَ من حيث لا يُرَىَ كان أشدّ وأخْوَف ويحتاج إلي مزيدٍ من الانتباه والاعتناء والاحتياط والاحتراس واليقظة والاستعداد والتدريب والقوة، فهو عدوٌّ مَخْفِيٌّ عنكم لا تعلمون مِن أين يأتيكم ويَفتنكم ويَمْكُر بكم، ولا كيف يَفعل ذلك، وله مُعَاوِنِيه، وهم كثيرون، بعَدَد البَشَر! حيث في عقل كلّ بَشَرٍ تفكير شَرِّيّ!! وله أعوانه من أشرار الناس الذين تركوا أخلاق إسلامهم بعضها أو كلها فأصبحوا كالشياطين في أقوالهم وتصرفاتهم (برجاء مراجعة ما كتب تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة، لمزيد من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)" أيْ نحن جعلنا الشياطين قُرَناء أيْ أصحاب ومُلازِمِين للذين لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدُون ويستكبرون ويستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. لقد جعلنا الشياطين أولياء لأمورهم أيْ يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم إليها ويَتّبعونهم فيها فيُؤَدِّي بهم ذلك إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. إننا سَهَّلْنا لهم أصحابَ وزملاءَ سوءٍ فاسدين مُلازِمِين لهم، إضافة إلي تفكيرهم الشَّرِّيّ داخل عقولهم والمُلازِم دوْما معهم، فقاموا بتزيين أي تحسين ما بين أيديهم أي دنياهم فأحبّوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، وحَسَّنوا لهم أيضا ما خَلْفهم أيْ ما يَنتظرهم في آخرتهم حيث أوْهَمُوهم بأنه لا آخرة ولا بَعْث بعد الموت ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ليَفعلوا ما أرادوا من شرّ.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أن يكون كافرا، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، كافرين فاسدين، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهذا هو معني "وجعلنا"، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وذلك علي عكس المؤمنين بالقطع، حيث لهم أيضا تفكير شَرِّيّ بعقولهم وقُرَناء سوءٍ حولهم، ولكنهم يمنعونه ويمنعونهم ويُفَكّرون في كل خيرٍ مُسْعِدٍ، ويستعينون بربهم ويتمسّكون بقرآنهم وبكل أخلاق إسلامهم ويعملون بها، فيُحَصِّنُون ذواتهم ضِدَّ كلّ هذا، فيُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم أسباب كل خيرٍ ويَعصمهم من الوقوع في أيّ شرّ، ولو وَقَعوا استيقظوا سريعا بالتوبة فيأخذ بأيديهم سبحانه لتعود لهم سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (99)، (100) من سورة النحل "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ"، ثم مراجعة الآية (42) من سورة الحِجْر، ثم الآية (65) من سورة الإسراء، لتكتمل المعاني ولمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)" أيْ وإذا فَعَلَ السابق ذِكْرهم الذين لا يؤمنون بالله المُتّخِذون الشياطين أولياء وإذا فَعَلَ الظالمون عموماً – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – فاحشة مَا، والفاحشة هي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، تَحَجَّجَ بعضهم بحُجَجٍ ساقِطَةٍ سفيهةٍ لا يقبلها عقلٌ مُنْصِفٌ عادلٌ قائلين إننا وجدنا آباءنا وأجدادنا يَسيرون عليها ويفعلونها وإنّا على آثارهم مُقْتَدُون أيْ اتّخذناهم قدوة لنا نتّبعها فنحن علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم.. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حُجّة أو دليل!!.. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريقٍ هو ذاهِب!!.. إنهم يتّبِعونهم حتي ولو كانوا لم يُحسنوا استخدام عقولهم وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا، ولا يَهتدون أيْ لا يَسيرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة..!!.. حتي ولو كانوا لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ولا يهتدون إلى طريق الصواب!! حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا.." أيْ وهذه هي الحُجَّة الثانية وهي افتراء واجْتِراء واضح علي الله تعالي وهي أشدّ سقوطاً وسفاهة من الأولي!! فهم من شدّة كذبهم وافترائهم وجرأتهم عليه سبحانه يَدَّعون كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً أنه أمَرَهم وآباءهم بهذه الفواحش وطلبها منهم وأوْصاهم بها ورضي عنهم في فِعْلها ولو كان يكرهها منهم لمنعهم منها!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (148) من سورة الأنعام "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا..") تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الله تعالي لا يمكن أبداً ولا يَلِيق بكماله وحِكمته أن يأمر الناس بفِعْل الفحشاء التي تضرّهم وتتعسهم وهو الذي خَلَقهم لينتفعوا بحياتهم ويسعدوا بخيراته فيها؟!.. فالخالق الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ يَستحيل أن يصدر عنه إلا كل ما هو كامل حَسَن مُسْعِد.. إنَّ كلامكم هذا كذب صريح لا يقبله أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنه لا خلاف بين العقلاء في أنَّ ما تفعلونه هو سوء بدليل أنَّ بعضكم قد تَرَّفع وامتنع عن فِعْله، ثم هل يُعْقَل أن يأمر سبحانه بانتهاك حُرُماته حيث الفاحشة في ذاتها هي انتهاك لها؟! فأنتم إذَن بالتأكيد مُعانِدون تعلمون بفطرتكم وبعقولكم أين الخير ولا تَتّبعونه لتعطيلكم لعقولكم لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لأنه لا دليل لكم على أنَّ الله قد أمركم بما تَدَّعونه كذباً وزُورَاً.. ".. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)" أيْ هل تقولون على الله الكذب جَهْلاً وجَرَاءَة عليه؟! إنه ليس هناك أيّ أمرٍ من الله لكم بفِعْل الفحشاء قطعاً وإلا فأظهروه ليَظْهَرَ صِدْقكم! فأنتم إذَن بالقطع كاذبون.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أوْجَب ربي –أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وأكّد وأوْصَيَ بشدّة فلا تُخَالِفوا حتي لا تُعَاقَبوا وتتعسوا في الداريْن بل تسعدوا فيهما، أمر بالقسط أيْ بالعدل أيْ بكل أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال بكل شئون الحياة والتي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد تمام السعادة في الداريْن كل مَن يعمل بها كلها.. إنه بالعدل، بالإسلام، تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع حتماً في دنياهم وأخراهم، بينما بالظلم، بأخلاقٍ تُخَالِف الإسلام، يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون قطعاً فيهما.. ".. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.." أيْ وأمَرَكم أن تجعلوا وجوهكم – والوجه هو الذي يحمل العقل وكل الإداركات والأحاسيس والمشاعر والمقصود اجعلوا كل كِيانكم – دائما قائمة واقِفَة مستقيمة علي دين الله، أي كونوا جميعا دوْما مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً مُسَدِّدِين علي الجهة التي وَجَّهكم نحوها ربكم واختارها لكم وأرشدكم إليها، وهي جِهَة الدين، دين الإسلام، حتي تسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وكذلك يكون حالكم عند كل مسجدٍ أيْ كل مكان سجود وكل وقت سجود أيْ كل صلاة حيث تَتّجِهون فيها وفيه نحو ما وَجَّهَكم إليه ربكم وهو الصِّلَة معه وحده بلا أيِّ شريكٍ كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو غيره، إضافة إلي اتّجاهكم لقبلتكم وهي الكعبة المُشَرَّفَة وإلي أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. هذا، والسجود يعني بصورةٍ عامَّةٍ – إضافة إلي سجود الصلاة علي الجبهة – الخضوع للخالق الرازق ولتوجيهاته وإرشاداته في الإسلام والاستجابة والاستسلام لها بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراحٍ وسرور، وبالجملة فإنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو تذكير بإقامة الوجه أيْ الاستمرار بلا أيِّ انحرافٍ أو تَرَاجُعٍ عند هذا الحال، عند هذا السجود بمعناه الشامل.. ".. وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.." أيْ وأمَرَكم أيها الناس أن ادعوه أيْ اعبدوه أيْ أطيعوه وحده واسألوه واعتمدوا عليه واشكروه وحده بلا أيّ شريك، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وأن تكونوا مُخلصين مُحسنين له الدين أيْ الطاعة أيْ عند تمسّككم وعملكم بكل أخلاق دينكم الإسلام أيْ تقولوا كلّ أقوالكم وتعملوا كل أعمالكم من أجل الله وحده لا من أجل غيره، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراكم الناس فيقولوا عنكم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لكم حيث يُوقِعكم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحكم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. وأنْ تكونوا حُنَفاء أيْ مائلين عن أيِّ باطل مُتَّجِهِين دوْماً إلي كلّ حقّ.. إنه تعالي ما يأمركم إلا بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بيوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح لهم من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة بسعاداتها الخالدة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار بعذاباتها التي لا تُوصَف لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ كما أنه هو وحده لا غيره الذي بَدَأ خَلْقكم مِن عَدَمٍ أولا في الدنيا تعودون إليه بإعادة خَلْقكم بأجسادكم وأرواحكم مرّة ثانية في الآخرة لحسابكم، فادعوه وحده بالتالي إذَن مُخْلِصين له الدين.. إنَّ مِمَّا يَسْتَغْرِبه ويَتَعَجَّب منه أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه كيف يُكَذّب مَن يُكذب بوجود الله تعالي، وبصلاحية شرعه الذي أرسله للبَشَر وهو الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم، وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة؟! ألم ينظر هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يبدأ خَلْقا ما في كل لحظة سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده الخالق!! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
ومعني "فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)" أيْ حين تعودون لربكم يوم القيامة ستكونون فريقيْن، فريقاً قد أرْشَدَهم وأوْصَلَهم الله لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وسَهَّلَ لهم أسباب هذه الهداية لَمَّا اختاروها هم بعقولهم حيث قد شاؤوا أيْ أرادوا هم الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فشاء الله لهم ذلك وأذن، بأنْ وَفّقهم ويَسِّر لهم أسبابه، فهم قد اختاروا هذا الطريق أولا، بأن أحْسَنوا استخدام عقولهم، واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم والتي هي مسلمة أصلا، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه بعد ذلك (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وفريقا حقّ أيْ ثبت ووجب عليهم الضلالة لأنهم اتخذوا أسبابها أيْ لا يُوَفّقهم الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر لهم الأسباب لذلك لأنهم قد شاؤوا الضلالة ولم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام، فذلك هو سبب عدم التوفيق حيث أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه من شرور ومَفاسد وأضرار بسبب إصرارهم التامّ عليها دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.." أيْ والسبب في أنهم كانوا من الفريق الذي حقّ عليه الضلالة أنهم جعلوا الشياطين أولياء لأمرهم يَتَوَلّون أمورهم يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم إليها ويَتّبعونهم فيها، من دون الله أيْ غير الله أيْ لا يَتّخِذون الله وَلِيَّاً ولا يَتّبعونه ولا يُطيعونه باتّباع كل أخلاق شرعه الإسلام، وذلك بكامل حرية إرادة عقولهم.. والشياطين جَمْع شيطان والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، ويشمل كلّ شِرِّيرٍ من الناس الذي قوله وفِعْله سَيِّئَاً كالشيطان.. ".. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)" أيْ وهم يَفعلون ذلك يَظنّون ويَتَوَهَّمُون مُنْخَدِعِين بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أنهم مُهتدون أيْ سائرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ!!.. أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! لقد نَسوا شيئاً اسمه الخير، نَسوا أيّ خيرٍ مهما كان صغيراً أو نادرا!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! بل أحيانا من شدّة سَكْرتهم ونسيانهم وتِيهِهم وخَبَلِهم يَفعلون الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّمون أنه الهُدَي والخير والحُسْن!! وذلك أشدّ درجات الضلال.
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُتَزَيِّنَاً جميلا، بتَوَسُّطٍ واعتدال.. وإذا لم تكن مُسْرِفَاً بل كنتَ مُتَوَازِنَاً مُعْتَدِلَاً في كل شئون حياتك
هذا، ومعني "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)" أيْ يا بني آدم، يا أيها الناس، كونوا دائما مُتَزَيِّنِين جَمِيلين، بتَوَسُّطٍ وباعتدالٍ بلا إفراطٍ وزيادةٍ ولا تَفْريطٍ وتقصير، بكل أنواع الزينة المُعْتَدِلَة من ثيابٍ تستر العورة وتبهج النفس وعطورٍ ونحوها، وهذه هي الزينة المادِّيَّة، وتَزَيَّنُوا كذلك بالزينة المَعْنوِيَّة وهي التقوي والتي هي أكثر خيراً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (26) من هذه السورة سورة الأعراف ".. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.."، للشرح والتفصيل).. ".. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.." أيْ عند كلّ مكانِ ووقتِ سجودٍ، أيْ حين كل صلاة، خاصة عند كل تَجَمُّعٍ ووقته، في المساجد والأعياد والاحتفالات والاجتماعات ونحوها، وبالجملة بكلّ وقتٍ وحالٍ سواء في الصلاة أو خارجها في كل قولٍ وعملٍ لأنَّ السجود يعني بصورةٍ عامَّةٍ – إضافة إلي سجود الصلاة علي الجبهة – الخضوع للخالق الرازق ولتوجيهاته وإرشاداته في الإسلام والاستجابة والاستسلام لها بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراحٍ وسرور، ولكل مَن يفعل هذا التّزَيُّن أجره العظيم حتماً بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه لإدخاله السعادة وكل ما هو طيّب علي النفس والغير لأنَّ الله جميلٌ يحب الجمال كما وَصَّيَ بذلك الرسول الكريم (ص).. ".. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا.." أيْ وكلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَلَا تُسْرِفُوا.." أيْ ولا تُجَاوِزوا الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتكم، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم الزينة أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)" أيْ لأنَّ الله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً المُسْرِفين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب إسرافه المُضِرّ المُتْعِس.. فاجتنبوا الإسراف أيها المسلمون تسعدوا في الداريْن
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)" أيْ هذا إرْشادٌ لحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معاً ولعدم التضييق علي النفس والغير ما وَسَّعه الله تعالي وسَمَح للانتفاع والسعادة به ما دام بلا إسرافٍ ولا ذهابٍ للحرام أي الممنوع لضَرَره ولتعاسته.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَنْ هذا الذي حرَّم أيْ مَنَعَ زينة الله من الثياب وكل ما يُتَجَمَّل ويُتَزَيَّن به التي أخرج للناس من الأرض وخَلَقه لهم فيها ومنها وعليها لينتفعوا وليسعدوا به كالنباتات بأليافها والحيوانات بجلودها وأصوافها والمعادن بأنواعها ومنافعها ونحو ذلك؟!.. ومن هذا الذي قد حَرَّم عليهم الطيّبات من الرزق من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب وغيرها من أرزاقه الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقهم إيَّاها مِمَّا لا يُحْصَيَ؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هذه الزينة والطيّبات من الرزق نعمة من الله ما كان يجب أن يتمتّع بها إلا الذين آمنوا في الحياة الدنيا تكريماً لهم لأنهم هم الذين يُؤَدّون حقّها بالشكر بالقول وبالعمل بإحسانهم استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ لهم ولغيرهم بلا شرٍّ مُتْعِسٍ كما طَلَبَ ربهم ولكنْ رحمته سبحانه الواسعة شملت كذلك الكافرين والمُخَالِفين للإسلام فأعطاهم منها لأنهم خَلْقه وهو ربهم أيضا خالقهم وكافِلهم ومُرَبِّيهم لكن هذه النِّعَم ستكون خالصة يوم القيامة للمؤمنين وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم الذين سيكونون في النار يُعاقَبُون فيها علي قَدْر سُوئِهم، كما أنها ستكون خالصة تماماً من أيِّ جهودٍ تُخَالِطها كما كان يَحْدُث في الدنيا فهي صافِيَة خالدة مستقرّة بلا أيِّ مَشَقّةٍ مُتَزَايِدَة مُتَنَوِّعَة لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَا حَرَّمَ أيْ مَنَعَ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إلا فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، إلا الفواحش جَمْع فاحِشَة وهي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، ما ظهر منها وما بطن أي سواء أكانت في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكانت ظاهرة بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل الفواحش كبيرها وصغيرها لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. وَالْإِثْمَ.." أيْ وحَرَّم كذلك الشّرَّ كله عموماً أيَّاً كان نوعه وحجمه ومقداره وأثره.. ".. وَالْبَغْيَ.." أيْ وحَرَّمَ أيضا البغي وهو كلُّ عدوانٍ علي الخَلْق في دمائهم وأعراضهم وأموالهم وظلمهم وإيذائهم والتّكَبُّر عليهم وما شابه ذلك.. ".. بِغَيْرِ الْحَقِّ.." أيْ بغير العدل، لأنه أحيانا يكون الاعتداء علي الغير بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ مثلاً أو بقتل مُحاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أو بأخذ حقّ من ظالمٍ لإعطائه للمظلوم الذي تمّ ظلمه وما شابه هذا مِمَّا شَرَعَه الإسلام حفظاً للحقوق وتأميناً للناس وإسعاداً لهم.. هذا، والبغي هو نوعٌ من الإثم والفواحش، وكذلك الشرك بالله والقول عليه بغير علمٍ واللذين سيأتي ذِكْرهما، ولكنْ خُصِّصَوا بالذكْر للتنبيه والتأكيد علي شدّة سُوئهم وعقابهم في الداريْن.. ".. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ.." أيْ وكذلك حَرَّمَ أن تشركوا بالله آلهة غيره تَعبدونها أيْ تُطيعونها كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرة والعلم والرزق ونحو ذلك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.." أيْ ما لم يُنَزّل الله بإشراكه دليلا، أيْ تجعلونها وتتّخذونها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا يوجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي تقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)" أيْ وحَرَّمَ أن تقولوا علي الله شيئاً بغير علمٍ أو دليلٍ أو تَثَبُّت، ولا تقولوا أصلاً حتماً ما كان كذباً أو افتراءً أو سَفَهَاً أو تَعَالِيَاً أو عناداً أو مُرَاوَغَة أو ما شابه ذلك، سواء أكان هذا القول في شَرْعِهِ أو صفاته أو أقواله أو أفعاله سبحانه، لِمَا في ذلك من تعاستكم وهلاككم في الداريْن
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)" أيْ ولكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم، فحينما يأتي هذا الموعد، موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ، أو حتي قبله موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو حُدُوث حَدَثٍ مَا، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أيْ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو للحظة بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأن يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد
يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)" أيْ يا أبناء آدم، يا أيها الناس، إذا جاءكم رُسُلٌ منكم أيْ مِن جِنْسِكم أيْ مَبْعُوثون بَشَرٌ مثلكم مِنّي إليكم تَعرفون صِدْقهم وحُسن أخلاقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) يَقرأون عليكم ويَذْكُرون ويَرْوُوُن لكم ويُخْبِرُونكم آياتي أيْ دلالاتي ومُعجزاتي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولكم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيري تدلّ علي وجودي وكمال قُدْرتي وعِلْمي واستحقاقي وحدي للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. ".. فَمَنِ اتَّقَى.." أيْ فأطيعوهم وآمِنوا أيْ صَدِّقوا بهم فإنَّ مَن اتّقَيَ أيْ خافَ الله ورَاقَبَه وأطاعه وجَعَلَ بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وإذا عمل شَرَّاً مَا تابَ وقامَ بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)" أيْ فقطعاً مِثْل هؤلاء بالتالي حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيِّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يُوعَدون بها من ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا .." أيْ واسْتَعْلُوا عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا بها فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)" أيْ فلا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أيْ أو كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً يَصِل لهم مقدارهم من الكتاب المَكتوب الذي كَتَبه الله لهم أيْ حَكَمَ به عليهم والمُتَمَثّل في عذابٍ مناسبٍ يستحقّونه بسبب سُوئهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم والذي هو النصيب من الكتاب أيْ المِقْدار المُحَذّر منه في الكتاب الذي أنزله علي كل رسولٍ وآخرها القرآن الكريم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. كذلك من المعاني أنهم أيضا يَصِل لهم مقدارهم مِمَّا كتبه الله لهم من أرزاقٍ علي قَدْر أسبابهم وتَصرّفاتهم ومن آجالهم في حياتهم الدنيا لأنهم مِن خَلْقه وهو سبحانه ربهم الكريم الرحيم وعليه رزقهم لكنّهم إنْ تمتّعوا بدنياهم فليس ذلك بمُغْنٍ عنهم شيئا حيث سيَتمتّعون قليلا وستكون سعادتهم فيها وقتية لا دائمة سطحية لا مُتَعَمِّقَة وَهْمِيَّة لا حقيقية مَخلوطة بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا ثم يُعذّبون طويلا في الآخرة، وذلك حين تأتيهم آجالهم كما يقول تعالي ".. حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.." أيْ واسْتَمَرُّوا علي تكذيبهم هذا وما هم فيه من سوءٍ إلي أن وَصَلتهم ملائكتنا تَتَوَفّاهم بقَبْض أرواحهم لإنهاء آجالهم فجأة وهم غير مُستعِدِّين لذلك ولدخول القبر ولبَدْءِ الحساب المَبْدَئِيّ قبل النهائيّ الأخرويّ تقول لهم حينها علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي كانوا عليه سؤالا مُفْزِعَاً صادِمَاً كنوعٍ من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار التي لا تُوصَف أين ما كنتم تَدْعُون أيْ تَعبدون أيْ تُطيعون من آلهةٍ غير الله تعالي؟! هل يمكنها أن تمنع عنكم شيئا من العذاب الأليم الذي أنتم فيه؟! إنكم لو كنتم في دنياكم تعبدون بَشَراً مثلكم فهم معكم الآن في عذابكم ولو عبدتم أصناماً وأحجاراً ونحوها فهي كذلك حولكم قد أصبحت وقودا للنار!.. ".. قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا.." أيْ يَرُدُّون بكلّ بؤسٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ قائلين لقد ضاعوا وذهبوا وغابوا عنّا ولم نَعُد نَرْجوا منهم أيَّ نَفْعٍ ولن ينقذونا بأيِّ شيءٍ من عذابنا.. ".. وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)" أيْ واعترفوا علي أنفسهم أنهم كانوا في دنياهم كافرين أيْ مُكَذّبين بوجوده سبحانه وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ولكلِّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَةَ نظرهم.. وبهذا الاعتراف علي أنفسهم لم يَعُد لهم أيّ عُذْرٍ وثبتت الجريمة عليهم إذ الاعتراف سَيِّد الأدِلّة واستحقّوا بالتالي عليها العذاب الأليم الذي لا يُوصف بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)" أيْ يقول الله تعالي أو مَلَكٌ من الملائكة يوم القيامة للمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والظالمين والفاسدين ومَن تَشَبَّه بهم، ادخلوا في جملة أممٍ أيْ مجموعاتٍ عاصيةٍ مِثْلكم قد مَضَت وذَهَبَت وانتهت من قبلكم سابقة لكم من الجنِّ والإنس في النار، فأنتم مُسْتَحِقّون جميعكم العذاب كلٌّ بما يُناسب عِصيانه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ولفظ "الجِنَّ" في لغة العرب يعني كلّ ما جَنَّ من المخلوقات أيْ خَفِيَ عن الأنظار والمقصود المخلوقات التي سيَجعلها الله تعالي وقوداً للنار ولا يَراها المُعَذّبون فيها، فالبَشَر العاصون والمخلوقات غير المَرْئِيَّة التي ستكون وقوداً للنيران، سيكونان جميعهما في النار (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أنه عند أكثر العلماء ليس للجنّ رُسُل وليس منها رسل في الآية (130) من سورة الأنعام "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا.." أيْ كلما دخلت النارَ مجموعة عاصِيَة لَعَنَتْ وسَبَّتْ مَثِيلتها التي ضلَّتْ بالاقتداء بها والعمل مثلها، وهي التي دَخَلَت معها أو التي سبقتها، بما يدلّ علي شدّة التّنَافر بينهم وفظاعة العذاب والحَسْرة والندم في وقتٍ لن ينفع فيه أيّ ندمٍ بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. ".. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ.." أيْ اسْتَمَرُّوا علي هذا الحال إلي أن تَدَارَكوا وتَلاحَقوا وتَتابَعوا وأدْرَك ولَحقَ بعضهم بعضاً واجتمعوا في النار جميعا حينها تقول الأمة التي هي آخرهم دخولاً أو أقلّهم مَنْزِلَة وهم الأتْباع لأولاهم أي أوَّلهم دخولاً أو أعلاهم منزلة وهم المَتْبُوعون القادة في العصيان والفساد لأنهم أشدّ جُرْمَاً من أتْباعهم فدخلوا قبلهم أوَّلاً لأنهم هم الذين أضلّوهم فيقولون شَاكِين إلي الله إضلالهم إيَّاهم – في وقتٍ لا تنفع فيه الشكوي لأنهم اتّبعوهم في عصيانهم بكامل حرية إرادة عقولهم – يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلّونا أيْ كانوا السبب في ضلالنا أيْ ضياعنا أيْ فسادنا وإبعادنا عنك وعن إسلامنا حيث سَهَّلوا لنا الشرّ وسَبَقونا إليه فاقتدينا بهم ففعلنا الشرور والمَفاسد والأضرار التي أتعستنا في دنيانا وأخرانا، وبما أنهم السبب فيما نحن فيه فآتِهم أيْ فأعْطِهم بالتالي عذاباً ضعفاً من النار أيْ عذابا مُضَاعَفَاً منها مُناسبا لهم بسبب ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم لغيرهم، وهذا نوعٌ من رغبة الانتقام منهم، ولكلٍّ عذابه قطعا علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)" أيْ يُرَدُّ عليهم أننا قد فَعَلْنا ذلك وجازَيْنا كلاًّ بحسب سُوئه فلكلٍّ منكم عذاب مُضَاعَف لا ينجو منه أحد من الفريقين حيث يُضاعَف عقاب التابعين لاقتدائهم بغيرهم دون تَدَبُّرٍ وتَفَكُّرٍ ويُضاعَف عقاب المَتْبُوعين لضلالهم ولإضلالهم من حولهم، ولكن لا تعلمون مِقْدار وشَكْل ما جُهِّزَ لكلٍّ منكم من العذاب لأنه مُقَدَّر بكل عدلٍ علي حسب سوءِ كلّ أحد، فأنتم لا تعلمون مقدار الضعف لكل فريق منكم، فضعفكم غير ضعفهم، بالعدل، علي حسب سوء كلٍّ منكم، إذ الدار دار عذاب فهو يَتَضَاعَف ويَتَزَايَد ويَتَنَوَّع على كلِّ مَن فيها لأنه يَستحِقّ ذلك، ثم إنَّ كلاّ منكم ضَالٌّ ومُضِلّ، فأنتم أيضا أضللتم غيركم وكنتم قُدْوَة في الضلال لهم وكثّرْتم عدد الفاسدين وشجَّعْتم علي الفساد ولكن لَا تعلمون سريان هذا الشرّ مِن جيلٍ لآخرٍ بسببكم فكلٌّ يُضِلّ مَن بَعْده بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور مباشرة أو غير مباشرة، ولا تعلمون كذلك أنَّ مَن يُحاسبكم دقيق في حسابه لا يفوته شيء ويعطي كل إنسان حقه تماما.. إنكم لا تعلمون أنَّ مُضَاعَفة العذاب هي عليكم أنتم أيضا!
ومعني "وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)" أيْ وحينها تقول الأمّة التي هي أوَّلهم دخولاً أو أعلاهم مَنْزِلَة وهم المَتْبُوعون القادة في العصيان والفساد لأنهم أشدّ جُرْمَاً من أتْباعهم فدخلوا قبلهم أوَّلاً لأنهم هم الذين أضلّوهم للأمّة التي هي آخرهم دخولاً أو أقلّهم مَنْزِلة وهم الأتْباع، أيْ قال المَتْبُوعون للأتْباع لهم فإذا كنتم قد ضللتم مثلنا فليس لكم علينا أيّ فضلٍ وتَمَيُّزٍ لكي تطلبوا من الله تخفيف العذاب عليكم وزيادته علينا فأنتم ضَلَلْتم كما ضَلَلنا والعذاب للضلال وقد تساوَيْنَا في ذلك بفِعْل أسبابه وإذا كنّا قد أضللناكم واتّبعتمونا في ضلالنا فأنتم قد أضللتم غيركم واتّبعوكم في ضلالكم كما اتّبعتمونا فكلنا مُتساوون إذَن في استحقاق العذاب لأننا لم نُجْبِركم على العصيان ولكنكم أنتم الذين عصيتم باختياركم بكامل حرية إرادة عقولكم.. ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)" أيْ فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تعملون وتقولون في دنياكم من شرور ومَفاسد وأضرار واسْتَمَرّيتم وأصْرَرْتُم عليها حتي موتكم.. وهذا الجزء من الآية الكريمة هو إمّا قول الله تعالي لهم جميعاً أو استكمالاً لقول أوُلاهم لأخْراهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)" أيْ إنَّ الذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا .." أيْ واسْتَعْلُوا عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا بها فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.." أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لا يُمكن أبداً ويَستحيل أن تُفتح لهم أبواب الرحمة والمغفرة والبركة من الله تعالي في الدنيا والآخرة، فهم لا يُقْبَل لهم أيُّ دعاءٍ فيُستجاب له إنْ كانوا يَدْعُون ولا أيّ عمل خيرٍ فيُجازون عليه بنزول الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم لو كانوا يفعلونه! ولا يُرْحَمون قطعاً من تعاسات الدنيا التي هم فيها بسبب سُوئهم والذي هو نتيجة طبيعية مُتَوَقّعة لبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، وحتماً لا يدخلون الجنة مطلقاً يوم القيامة وهم كذلك يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار دون توبة، بل يدخلون النار، وتستمرّ هذه الاستحالة إلي أنْ يَلِجَ أيْ يَدخل الجمل في ثُقْب الإبرة!! وهو أمرٌ لن يحدث أبداً قطعا!! بما يدلّ علي أنه ليس لهم أيّ أملٍ في أيِّ سعادة حقيقية دنيوية وأخروية.. فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)" أيْ وهكذا دائماً وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للمجرمين بما يُناسب جرائمهم.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إننا نُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)" أيْ لأمثال هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها ومَن يَتَشَبَّه بهم مِهادٌ من نارِ جهنم أيْ فِراش ومُستقرّ يَفترشونه ويَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "مِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! كما أنَّ لهم منها غواش جَمْع غَاشِيَة وهي ما يغْشي أيْ يُغَطّي أيْ لهم أغطية منها تُغَطّيهم من فوقهم، والمقصود أنَّ عذاب النار المُتَنَوِّع الذي لا يُوصَف مُحيط بهم من كل مكانٍ لا يمكنهم أبداً الخلاص منه فليس لهم أيّ مخْرج أو مَهْرَب أو مَلْجأ.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)" أيْ وهكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا للظالمين بما يُناسب ظلمهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم، حيث قد وُصِفُوا سابقا بالمُجرمين ثم بالظالمين للتأكيد علي شدّة سُوئهم وشدّة الغضب عليهم وعذابهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." أيْ لا نُلْزِم أحداً بفِعْلٍ إلاّ بمَا في وُسْعِه، والوُسْع هو ما يستطيعه الإنسان بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يَبْقَيَ له من طاقته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..").. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تنبيهٌ أنَّ الإيمان والعمل الصالح هو مِن وُسْع بني آدم وطاقتهم وغير خارج عن قُدْرتهم، وتذكيرٌ أنَّ الجنة مع عِظَم قَدْرها يُمكن التّوَصُّل إليها بكل سهولةٍ بأيِّ عملِ خيرٍ سَهْل في حدود الطاقة من غير مَشَقّةٍ ولا صعوبة، وهذا تشجيع كبير لهم علي اكتساب نعيمها الخالد الذي لا يُوصَف بما تَسعه طاقتهم ويَسهل عليهم.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)" أيْ هؤلاء هم حتما المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)" أيْ واستكمالاً لنعيمهم ولإسعادهم ومن رحمتنا وكرمنا وفضلنا وإنعامنا وإحساننا قَلَعْنَا وأخْرَجْنا وأذْهَبْنا ما في عقولهم ومشاعِرهم من أيِّ غِلٍّ أيْ عَدَاءٍ وكُرْهٍ وانتقامٍ وغِشٍّ ونحوه مثلما كان يَحدث بين الناس في دنياهم فهُم في الجنة في تمام الصفاء والنقاء والتّآخِي والتَّحابّ في كلّ خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وارتياحٍ وسرورٍ ونعيمٍ تامٍّ عظيمٍ خالدٍ لا يُوصَف.. "..تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ.." أي وهم فيها إضافة إلي ذلك النعيم النفسيّ الكامِل السابِق ذِكْره في نعيمٍ ماديٍّ كاملٍ مُسْعِدٍ تمام السعادة حيث حالهم وواقعهم أنهم في جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منهم كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.." أيْ وعندما يدخلون الجنة ويَرَوْن نعيمها الهائل الذي لم يَروا مثله من قبل يقولون مَغْمُورين بالسعادة شاكرين لِمَا نالوا الحمد لله الذي أرْشَدَنا وأوْصَلَنا لهذا الإسلام والعمل بأخلاقه في دنيانا والذي هذا النعيم العظيم الخالد هو جزاؤه في أخرانا، وما كنا أبداً لِنُرْشَد ونَصِل لذلك بأنفسنا وباستطاعتنا لولا أنْ أرْشَدنا وأوْصَلنا الله ربنا خالقنا الرحيم الودود وذلك من خلال إرسال رسله الكرام إلينا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه التي فيها الإسلام الذي يُصلحنا ويُكْملنا ويُسعدنا تمام السعادة في الداريْن وآخرها القرآن العظيم ووَفّقنا وسَهَّل لنا أسباب اتّباعه والعمل بأخلاقه عندما اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا والتي أعطانا إيّاها لنهتدي بها حيث من خلالها نَتَدَبَّر في آياته في كتبه وآياته المُعْجِزَة في كوْنه ومخلوقاته كلها وأنفسنا ذاتها والتي أعطانا بداخلها فطرة هي أصلا مسلمة مُبَرْمَجَة منه تعالي علي الإسلام والحقّ والعدل والخير وعلي معرفته سبحانه وعبادته أيْ طاعته وحده بلا أيِّ شريكٍ وعلي النفور والابتعاد عن غير ذلك ومقاومته والبُعْد عن كل شَرٍّ وكراهيته لأنه مصدر كل تعاسةٍ في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ.." أيْ وحينها أيضا يقولون من فَيْضِ سرورهم وشكرهم لربهم لإرساله رسله لهدايتهم مُتَلَذّذِين بهذه الذكري الطيّبة شاهِدين مادِحين لهم علي صِدْق وحُسْن ما قَدّموه لهم لقد جاءتنا رسل ربنا بالصدق فاهتدينا بإرشادهم ولم يَكْذِبوا علينا في أيِّ شيءٍ أخبروه لنا إذ قد ظَهَرَ صِدْقهم ووجدنا ما صَدَّقناهم فيه في دنيانا حقّاً وصِدْقَاً ووَاقِعَاً في أخرانا حيث نعيم لا يُوصَف للمُحسنين وعذاب شديد للمُسيئين.. ".. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)" أيْ ونادَيَ عليهم الله تعالي استكمالاً لتمام التكريم والتشريف والتهنئة وزيادة في إسعادهم قائلا أنَّ تلك الجنة التي تَرونها والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر هي التي سَمعتم بها ووُعدتم بدخولها في دنياكم وهي التي قد أُعْطِيتم ومُلِّكْتُم إيَّاها الآن كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، وهي ملك خالد لكم، من عظيم فضلي ورحمتي عليكم، بسبب الذي كنتم تعملونه من خيرٍ وَصَّيتكم به في الإسلام أثناء حياتكم الدنيا
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)" أيْ ونادَىَ أهل الجنة بعد دخولهم واستقرارهم فيها في درجاتهم علي حسب أعمالهم علي أهل النار قائلين لهم وهم في قِمَّة سعادتهم فَرِحين بحالهم إنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من خلال كتبه صِدْقَاً من إثابة أهل الخير بكل خيرٍ وسعادةٍ فهل وجدتم أنتم أيضا وتأكّدتم وعَلِمْتُم الآن ما وعدكم ربكم صِدْقَاً من عقاب أهل الشرِّ بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب شرورهم التي عملوها في دنياهم؟.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد بإذنٍ من الله تعالي كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ لهم مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار.. ".. قَالُوا نَعَمْ.." أيْ قال أهل النار نعم، بكلّ خِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ، فهم لا يملكون إلا الشهادة بالحقّ بقول نعم، بكل حَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ حيث لا نفع لهذا الندم فقد فات الأوان وبدأ العذاب.. لقد يَئِسوا من أيِّ خيرٍ واعترفوا علي أنفسهم بأنهم مُسْتَحِقّون للعذاب ولم يُظْلَموا.. هذا، وتواصُل أهل الجنة مع أهل النار يتمّ بقُدْرته سبحانه القادر علي كل شيء.. ".. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)"، "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)" أيْ فحينها يُنادِى مُنَادٍ من الملائكة بين أهل الجنة وأهل النار قائلاً مُذَكِّرَاً بالحقيقة الثابتة أنَّ لعنة الله أيْ الطرد والإبْعاد من رحماته وإسعاداته في الآخرة هي حَتْمِيَّة مُتَحَقّقَة مُسْتَقِرَّة علي الظالمين بما يُفيد مزيداً من التّيْئِيس لهم والقَطْع لأملهم في النجاة من العذاب، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)" أيْ هؤلاء الظالمون من بعض صفاتهم أنهم هم الذين في دنياهم يَمنعون الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وكذلك يُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي يُريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، وكذلك يُريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن يستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)" أيْ وهم أيضا في دنياهم لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة وبلقاء الله فيها وبالبعث بعد الموت بالأجساد والأرواح وبحسابه سبحانه وثوابه وعقابه وجنته وناره بل وبعضهم يُكَذّب بوجوده هو ذاته!! تعالَيَ عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا، والذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي الشرّ وفِعْله.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه
ومعني "وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)" أيْ وبين أهل الجنة وأهل النار حاجِزٌ عظيم يفصل بينهما، وعلى الأعراف – جَمْع عُرْف وهو أعلي الشيء مثل عُرْف الديك – أيْ الأعالي من هذا الحاجز العالي الضخم العريض يوجد رجال يعرفون كلاًّ من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم حينما ينظرون إليهم من علي هذا الحاجز، كبياض وجوه أهل الجنة بسبب نعيمهم وسعادتهم، وسواد وجوه أهل النار لعذابهم وتعاستهم، وهؤلاء الرجال هم الذين في دنياهم قد استوت تماماً حسناتهم وسيئاتهم يرجون وينتظرون رحمة الله تعالى بعد حسابهم وهم سيدخلون الجنة حتما برحمته سبحانه لكن من تمام العدل تأخيرهم لفترةٍ وأن يدخلوا أدني درجاتها حتي لا يتساووا مع مَن سيَدخلونها برحمته أيضا لكن درجاتهم ومنزلتهم فيها علي قَدْر أعمالهم وأقوالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا والتي زادَت عن سيئاتهم.. هذا، وعند بعض العلماء هؤلاء الرجال عبارة عن ملائكة هي التي تَتَحَدَّث تُرَيَ في صورة رجال.. ".. وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)" أيْ ونادى رجال الأعراف أهل الجنة بالتّحِيَّة قائلين لهم سلام عليكم مُهَنّئِين مُرَحِّبين، ورجال الأعراف هؤلاء لم يدخلوا الجنة بَعْد وهم يَأْملون ويَحْرِصون حِرْصَاً شديداً ويَرْغَبُون رَغْبَة كبيرة في دخولها بالقطع
ومعني "وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)" أيْ وإذا حُوِّلَتْ وكلّما تَحَرَّكَت أبصار رجال الأعراف جِهَة أهل النار قالوا مُسْتَعِيذين بالله من سوء وفظاعة ما رأوا من أحوالهم مُتَوَسِّلِين إليه داعِين إيَّاه يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تجعلنا في العذاب مع هؤلاء القوم الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، ولفظ "صُرِفَت" يُفيد أنهم لا يَقْصِدون النظر إليهم مثلما قَصَدُوا مع أهل الجنة للطمع في نَيْل مِثْل نعيمهم بل ينظرون لهم بصورةٍ عارِضَةٍ استثنائيةٍ كنظرٍ شبيهٍ بفِعْل مَن يَدْفَعه على الفِعْل دافِعٌ ماَ، وذلك لأنّ النّفس وإنْ كانت تكره المناظِر السيّئة فإنّ حبّ الاستطلاع يَدْفعها إلي أن توجّه النّظر إليها أحيانا لتحصيل ما هو مجهول لها، لِيَعْتَبِروا وليشكروا ربهم كثيراً عند نجاتهم
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)" أيْ ونادى أهل الأعراف رجالا من أهل النار يعرفونهم بعلاماتٍ وملامح خاصّة تُمَيِّزهم من شِدَّة سوء حالهم وهم بصُوَرِهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا حيث كانوا أصحاب وَجَاهَةٍ وقوةٍ وغِنَىً فيها وكانوا سَيِّئين وقادة في الشَّرِّ فأصبحوا لذلك أشدّ عذابا بالنار فعرفوهم بهذا وبإخبار الله تعالي لهم، فيقولون لهم على سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار ولإشعارهم بكلّ خِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ من أيِّ خيرٍ حيث لا نفع لأيِّ نَدَمٍ فقد فات الأوان وبدأ العذاب، قالوا لهم حين رأوهم مُنْفَرِدِين في العذاب بلا ناصِر ولا مُعِين ولا مُغِيث ما أغني عنكم أيْ ما نَفَعكم بأيِّ شيءٍ ولا أفادكم ولا نَصَرَكم ولا مَنَع عنكم أيِّ شيء من عذاب الله جَمْعُكم في الدنيا للأموال وللرجال وللقُوَيَ المختلفة، وما نَفَعَكم كذلك ما كنتم تستكبرون فيها أيْ تَسْتَعْلُون عن الإيمان بالله واتّباع أخلاق الإسلام وتستهزؤن بها فلم تَستجيبوا لها وكنتم من الكافرين أيْ المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أيْ عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. لقد صِرْتُم بسبب ذلك في هذا العذاب الذي لا يُوصَف
ومعني "أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)" أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد لهؤلاء المُستكبرين السابق ذِكْرهم والإشعار لهم بكل ألمٍ وخِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار حيث يَلْتَفِت ويُشِير أصحاب الأعراف إلي أهل الجنة الذين كانوا يَستكبرون عليهم في دنياهم ويُؤذونهم ويَسخرون منهم بسبب إيمانهم ثم يقولون للمُستكبرين هل أهل الجنة هؤلاء المُنَعَّمِين بالنعيم الذي لا يُوصَف هم الذين كنتم تَحلفون في الدنيا جَهْلاً وكذباً وكِبْرَاً أنهم لا يشملهم الله بأيَّ رحمةٍ في الآخرة مهما صغرت، إنْ كان هناك آخرة من وِجْهَة نظركم؟!.. وإنْ وُجِدَت فستكون لكم لأنكم أنتم أهل الشرف والسيادة وأنتم الأحقّ بها منهم!!.. لقد أغلقتم عقولكم ولم تُحْسِنوا التفكير حيث تَوَهَّمْتم أنَّ مَن يَنال القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إنْ كانت موجودة، وما كان قَسَمكم ذلك إلا احتقاراً لهم وتكذيباً للرسل الذين وَعَدوهم الحُسْنَىَ في الآخرة.. ".. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)" أيْ وهنا يقول تعالي لأهل الجنة أو يقول أصحاب الأعراف لهم أو يُنادِي مُنَادٍ من الملائكة عليهم، امكثوا خالدين في نعيم وسعادات الجنة مُطْمَئِنّين سعداء مُسْتَبْشِرين دائما بما تنتظرونه من فضل ربكم، لا خوف عليكم من أمرِ شَرٍّ يستقبلكم ولا أنتم تحزنون على أمرِ خيرٍ فاتكم فلن يفوتكم أيّ خيرٍ وسعادة ولن يستقبلكم إلا كلّ خيرٍ وسعادة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. كذلك من المعاني أنه حينها يُقالُ لأصحاب الأعراف من الله أو الملائكة ادخلوا الجنة أنتم أيضا الآن لا خوف عليكم من عذاب الله ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من بعض نِعَم الدنيا
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ونادَىَ أهل النار بعد دخولهم واستقرارهم فيها في درجاتهم علي حسب أعمالهم السيئة علي أهل الجنة قائلين لهم بكل ذِلّةٍ وانكسارٍ وهم في قِمَّة تعاستهم حَزَانَيَ بُؤَسَاء بحالهم مُستغيثين بهم مُستعطفين لهم طالبين نجدتهم وعوْنهم في عذابهم الشديد الذي لا يُوصَف وقد بَلَغَ بهم العطش والجوع أشدّ الأحوال أنْ صُبُّوا علينا من الماء أو مِمَّا رزقكم الله من طعامٍ نستعين به علي ما نحن فيه، وهنا يَرُدّ عليهم أهل الجنة بما يَقطع آمالهم ويَصْدِمَهم ويزيد حَسْرتهم وألمهم وعذابهم فيقولون لهم إنَّ الله مَنَع كلاًّ منهما على الكافرين فلا ينالوهما أبدا
ومعني "الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)" أيْ هؤلاء الكافرون من بعض صفاتهم أنهم هم الذين في دنياهم قد جعلوا دينهم الحقّ الذي جاءهم به الرسول الحقّ (ص) ويُدْعَوْنَ إليه وهو دين الإسلام لَهْوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم، ولعباً أي عَبَثاً أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف! أي لا يستفيدون منه أيّ فائدة وهو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن! أيْ يتعامَلون معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به.. وغَرَّتهم الحياة الدنيا أيْ وخَدَعَتْهُم فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)" أيْ فإنْ كان الحال كذلك، فاليوم، يوم القيامة، لم يَبْق لهم إذَن إلا جزاء أعمالهم السيئة حيث ننساهم، والله تعالي لا يَنْسَيَ، فالمعني إذَن نُهملهم ونَتركهم في عذاب النار الذي لا يُوصَف كما نَسوا هم في دنياهم وكذّبوا لقاء يومهم هذا وهو يوم القيامة ولم يستعِدّوا له بفِعْل الخير وترْك الشرّ، فهذا هو سبب النسيان لهم، وبسبب كذلك أنهم كانوا بآياتنا يَجْحَدون أيْ يُنكرون ويُكَذّبون بألسنتهم بآيات الله مع تأكّدهم بدواخلهم بأنها الحقّ والصدق والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتبه وآخرها القرآن العظيم تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يد رسله لتأكيد صِدْقهم، وذلك حتي لا يَتّبِعوا الإسلام هم وغيرهم، فهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ القرآن حقّ، والله ورسوله (ص) وإسلامه حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة وعدم الاستجابة للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا النسيان تمام التّيْئِيس لهم مِن أيّ أملٍ في الخروج مِن عذاب النار وذلك لتعذيبهم نفسياً إضافة لعذابهم الجسديّ
ومعني "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ أنَّ بعض المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبّه بهم يَكفرون بالقرآن العظيم ولا يَتّبعون الإسلام ليس عن جهلٍ أو نسيانٍ مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُكَذّبون عن علمٍ وعِنادٍ وتَعَمّدٍ فهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ الرسول الكريم محمد (ص) الذي أوُحِيَ إليه به هو الصادق الأمين وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ولقد أتيناهم بكتابٍ أحضرناه وأعطيناه وأنزلناه لهم مُوُحَي من عندنا هو القرآن العظيم جاءهم به الرسول الكريم محمد (ص) مَكتوب مُدَوَّن يُرْجَع إليه في كل وقت أنزلناه بحكمتنا وبرحمتنا للناس جميعا ومن صفاته أننا قد فَصَّلنا آياته أيْ بُيِّنَاها ووُضِّحَناها وجعلناها مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بأخلاقه كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكان وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول (ص) "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (أخرجه مسلم).. ".. عَلَى عِلْمٍ.." أيْ مُشْتَمِلَاً علي علمٍ كثيرٍ عظيم، وتَمَّ بكل علمٍ مِنّا دقيقٍ تامٍّ كاملٍ شاملٍ وبكل حِكْمةٍ بلا أيّ عَبَثٍ لأننا لا يغيب عنّا شيء، وجاء علي أكمل وجهٍ وأحسنه وأتقنه لأننا عالمون بتمام العلم بكل أحوال الخَلْق في كل زمان ومكان وما يُسعدهم فليس تفصيله تفصيل غير عالمٍ بالأمور فيجهل بعضها فيَحكم حُكْماً غير مناسب بل تفصيل العالِم الرحيم بكل شيءٍ سبحانه.. ".. هُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وهو هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)" أيْ أُنْزِلَ القرآن الكريم فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون لكى يؤمنوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات – أي وَصَلَتهم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في إعراضه – بلا إيمانٍ وبلا اتّباعٍ لأخلاق الإسلام حتي يأتيهم تأويله أيْ تأويل القرآن وهم كذلك علي حالهم السيء أي يأتيهم المَآل أيْ المَصِير الذي بَيَّنه الله فيه ويَظهر ويَقع ويَحْدُث ما تَوَعدَّهم به لمَن يكون هكذا وهو العذاب والتعاسة في الداريْن علي قَدْر سوئه؟! وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.." أيْ يوم يَحضر ويَقَع ويَحْدُث هذا المَآل، هذا المصير، من عذابِ وتعاسةِ المُسيئين ونَصرِ ونعيمِ وسعادةِ المُحسنين، في الدنيا ثم الآخرة، يقول الذين نَسُوا القرآن مِن قَبْل وقوع هذا المَآل فتركوه وأهملوه ولم يتذكّروا ما فيه ويعملوا به، نادِمين مُتَحَسِّرين ذليلين مُعترفين بذنوبهم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم حيث قد وَقَع ما كان حَذّرهم منه فلم يَحْذَروا ونَسُوا واستهانوا واستهزأوا، قالوا مُقِرِّين بأنه تَبَيَّنَ ووَضَحَ أنه قد جاءت رسل ربنا في قرآنه بالصدق في كل ما فيه وما أخبروا به ولكننا الذين لم نَتّبعهم، مُتسائلين مُسْتَغِيثين فهل لنا الآن وقت وقوع العذاب أيّ شفعاء جَمْع شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنا وينقذنا مِمَّا نحن فيه أو نرجع إلي ما قبل وقوع العذاب أو إلي الدنيا – عندما يُحَاسَبون ويُعَذّبون يوم القيامة – فنَعمل خيراً غير الذي كنا نعمله من شرّ؟! فلا يَجدون شفيعاً قطعاً حينها ولا عودة حتماً من الآخرة عند حدوثها.. ".. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم أنفسهم حيث قد خسروا حتما في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سُوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكون الكافرون منهم مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم ما كانوا يعبدون غير الله تعالي في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ ربّكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – الذي عليكم أن تعبدوه وحده أيْ تطيعوه هو الله تعالي الذي وحده لا غيره خَلَق أيْ أوْجَد مِن عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.." أي قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. " .. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ.." أيْ يجعل الليل يُغَطّي النهار فيَذهب بنوره ويَصِير الكوْن مُظلماً بعد أن كان مُضيئاً، ويجعل النهار يُغَطّي الليل فيَصير الكوْن مضيئا بعد أن كان مظلما، يَطلبه حثيثاً أيْ يأتي كلُّ واحدٍ منهما وراء الآخر سريعاً مُجتهداً في ذلك كالطالِب له الذي يريد الوصول إليه لا يَفصل بينهما شيءٌ بانتظامٍ وتَتَابُعٍ ودَوَامٍ بلا انقطاع، وخَلَقَ للخَلْق الشمس والقمر والنجوم بكل منافعها مُسَخَّراتٍ بأمره أيْ مُسَيَّرَاتٍ بتَسخيره وتدبيره وبتَحَكّمه وبإدارته لها وبحُكْمه وبتصريفه فهي خاضعات تماما لتَصَرَّفه مُنْقادات لإرادته كما يشاء.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته تعالي بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. هذا، والنجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ يُسْتَرْشَد بمواقعها لمعرفة الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البرّ والبحر بما يَهدي الناس ويُرْشدهم ويُوصلهم إذا ساروا في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث يريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، إضافة إلي أنها زينة للسماء وتخفيف لظلمتها مساءً فلا تكون مُخِيفَة.. إنَّه بالشمس والقمر والنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.." أيْ هو تعالي وحده الخالِق الذي له المُلْك كله والتّصَرُّف والتدبير كله والرعاية كلها، هو الذي له الخَلْق لأنه خَلَقهم وله الأمر لأنه يأمر في خَلْقه بما يشاء بكمال علمه وتمام قُدْرته حيث يأمر الكوْن بالعمل الذي خَلَقه وحَدَّده له لمصلحة الخَلْق ويأمر الناس بما يشرعه لهم من شَرْعه الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن، فهو المُوجِد المُتَصَرِّف المُطَاع في هذا الكوْن ومن كل المخلوقات.. هذا، ولفظ "أَلَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من البيان والتوضيح والتدْليل والتأكيد أنه سبحانه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة حيث تَجْرِي وتَتَحَرَّك في كل لحظةٍ أوامره في الكوْن كله وتنفذ إراداته وتصرّفاته وأحكامه فيه مُتَمَثّلَة في رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا والجُزَيْئَات والذرَّات وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، وهو أيضا المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال تشريعاته في كتبه وآخرها قرآنه الكريم، فلْيَعبدوه أيْ يطيعوه إذَن وحده وليتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)" أيْ تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين، أيْ فاسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كل شيء علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. كذلك ستَسعد حتماً إذا لم تكن من المُفْسِدين.. وإذا كنتَ من المُحْسِنين
هذا، ومعني "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)" أيْ اسألوا واعبدوا أيْ أطيعوا ربكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – يُعْطِكم ويَتَقَبَّل عبادتكم فيُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. إنَّ الله تعالي سيَستجيب حتما لكلّ مَن يَدْعوه إمَّا عاجلا أو آجلا في التوقيت الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقت له ولمَن حوله، وسيَستجيب بالصورة التي طَلَبَها تماما أو بصورة أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنه أو بكلّ ذلك، فليس هناك إذَن دعوة خاسرة! بل كلها مَكاسِب.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لابُدَّ مِن إحسان اتِّخاذ الأسباب مع الدعاء، فلا رزق مثلا دون سَعْيٍ حلالٍ له مهما كان شكل أو نوع الدعاء! وهكذا مع كل صور ومُتَطَلّبات الحياة، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام والتي كلها رُشْد وسعادة في الدنيا والآخرة.. كذلك يُرَاعَيَ أنَّ مَن يَدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُستجاب له قطعا وهو آثِم كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لابُدَّ يَنصرها العدل الكريم حتي ولو كانت من غير مسلم إقامة للعدل في الأرض ليَأْمَن الخَلْق.. هذا، وبما أنَّ "الدعاء هو العبادة" كما قال (ص) فمِن معاني الآية الكريمة كذلك أنَّ الله تعالي يُجيب أي يتقبل حتما ووَعْدَاً عبادة مَن يُخْلِص له العبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً.." أيْ ادعوه واعبدوه تَضَرُّعَاً أيْ عَلَنَاً بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ وادعوه كذلك خُفْيِة أيْ في الخفاء وإسراراً بدواخلكم، أيْ في كل الأحوال وبكل الصور والأشكال سِرَّاً وعَلاَنِيَة فإنه سبحانه حتماً يَسمع الدعاء ويُجيبه بما فيه المصلحة، فالإنسان لا يَقْوَيَ إلا بقوة وعَوْن ربه له القادر علي كل شيء.. إنَّ أفضل الدعاء هو ما كان تَضَرُّعَاً وخُفْيَة، أيْ بتَضَرُّعٍ أيْ فيه سكون واحتياج وطَلَب واجتهاد وإخلاص وتَقَرُّب ورغبة وأمل وفرحة ولجوء وتَوَسُّل وسؤال واضطرار، وكان بخُفْيَة أيْ في السِّرِّ لأنه يكون أقرب إلي الحب والتواصُل والشكوي والإخلاص أيْ البُعد عن أيِّ رياءٍ أيْ طَلَب سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو مدحٍ أو غيره بل حباً في الله ويقيناً أنه وحده الذي يُجيب إمّا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة بتيسير بعض عباده ليُجيبوا طَلَبَ مَن يدعو.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)" أيْ ولا تَعتدوا أبدا بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء مهما كانت، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب اعتداءه.. إنه بانتشار الاعتداء يتعس الجميع في الداريْن وباختفائه بنشر الخير يسعدون فيهما.. هذا، وعدم الاعتداء مطلوب حتي في الدعاء لأنه أحيانا يكون فيه بعض اعتداء مثل المُبَالَغة والتفصيل المُطَوَّل فيه والصراخ والرياء أثناءه والطلب لمعصيةٍ أو لمستحيلٍ لا يُقِرّه عقل وما شابه ذلك
ومعني "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)" أيْ وامتنعوا تماما أيها الناس عن الإفساد في الأرض أينما تَوَاجَدتم بفِعْل ونَشْر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها، والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الدنيا والآخرة وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما، فإنه بالخير يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالفساد والشرّ يتعسون حتما فيهما.. ".. بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ بعد إصلاح الله إيَّاها بنظام وأخلاق الإسلام الذي أرسله لكم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ليُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في الداريْن.. لقد خلق الله تعالي الأرض في الأصل صالحة، وللصلاح، أيْ للسعادة فيها وللانتفاع التامّ بخيراتها، ولن يتمَّ ذلك علي أكمل وجهٍ إلا بما شَرَعه لتنظيمها وحُسْن إدارتها، أيْ بالإسلام، لأنه هو العالِم بخَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُسعدهم، فلا تفسدوها باتّباع نظام غيره مُخَالِف له فتتعسوا.. هذا، والإفساد ضَرَرٌ وتعاسة سواء بعد الإصلاح أو في الفساد ولكنه بعد الإصلاح أشدّ فظاعة وسوءاً وضرراً وتعاسة من الإفساد على الإفساد، فإنَّ وجود الإصلاح أكبر حُجَّة على المُفْسِد إذا هو لم يحفظه ويسير عليه فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟! لقد بذل بالتأكيد فساداً كبيراً لكي يُحَقّق ذلك ولذا فلا عذر له في فساده بل عقابه أشدّ في الداريْن! ولهذا خَصَّ الله تعالي بالذكر والتنبيه والتحذير الإفساد بعد الإصلاح.. ".. وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا.." أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ مِمَّا هو مطلوبٌ أثناء الدعاء والعبادة لزيادة الإحسان إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من التّضَرُّع والخُفْيَة.. أيْ واسألوا الله واعبدوه أيْ أطيعوه أيها الناس وحالكم دائما حين تَدْعوه وتَذْكُروه وتَعبدوه يكون مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) أيْ خوفاً من تقصيركم في شيءٍ مَا أو من خيرٍ مَا قد تركتموه وكان من المُمكن أن تفعلوه أو من شرٍّ ما قد فعلتموه أو نحو هذا فتخافوا حساب ربكم، وطمعاً في عفوه ومغفرته ورحمته ورضاه وحبه وأمنه وعوْنه وتوفيقه ورزقه وسعادته في الداريْن.. ".. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)" أيْ بكل تأكيد بلا أيِّ شكّ رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ والتي تَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ في جنته التي فيها رحماته وخيراته وأنْعُمه التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وحيث أهل الجنة في هذه الرحمات والخيرات والجنات بنعيمها التامّ خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. ".. قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)" أيْ كل هذا الذي سَبَقَ ذِكْره من صُوَر رحمة الله هو أمرٌ قريبٌ جداً مُحَقّقٌ حتماً من كل المُحسنين وهم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. إنه كلما كان المسلم أكثر إحساناً كلما كان أقرب إلى رحمة الله وكلما كان الله قطعاً قريباً منه برحمته، وفي هذا تشجيعٌ شديدٌ علي الإحسان، فمَن كان يريد أن تقترب منه رحمة الله فعليه بالتالي إذَن بالإحسان، فرحمة الله أيْ إحسانه وإعطاؤه الخير وإنعامه بكل النّعَم التي لا تُحْصَيَ في الداريْن هو لِمِثْل هؤلاء، فالمسافة بين الرحمة وبين مَن يطلبها قريبة جداً إنْ قَدَّمَ لها ثمنها وهو العمل الصالح بكل أخلاق الإسلام وعدم الإفساد، وهو تعالي يُعطيها لهذا الذي يَسْتَحِقّها دون حسابٍ ودون تأخير، وكلما زاد من إحسانه كلما ازداد قُرْبَاً من الرحمة وازداد ضَمَانَاً لها وكلما ازدادت هي قُرْبَاً منه، حتي إذا أتمّ إحسانه تَمَّتْ الرحمات كلها كاملات مُسْعِدات.. هذا، وكل من آمن بالله فقد أحسن قطعاً، وله درجة من درجات القُرْب من رحمة الله علي قَدْر ما يُقَدِّم من خيرٍ وإحسان
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي يُطْلِق ويَبْعَث ويُحَرِّك الرياح لتكون تبشيراً بين يدي رحمته أيْ مُقَدِّمَة لرحمته حينما يَرَي الناس الرياح المعتدلة ذات النسيم فإنهم يستبشرون برحماتٍ ثم رحماتٍ متتالياتٍ من ربهم الرحيم الودود الكريم حيث سيأتي المطر بالماء الطيّب المُفيد المُسْعِد الذي به حياتهم لا الشديد المُضِرّ المُتْعِس المُهْلِك.. ".. حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.." أيْ فإذا حَمَلَت الرياح سُحُبَاً ثقيلة من كثرة ما تحمله فيها من ماء، قُدْنا هذا السحاب المُحَمَّل بالماء ونَشرناه في السماء في أيّ مكانٍ واتّجاهٍ نشاؤه يميناً ويساراً إلي حيث البلد الذي أرضه ميتة أيْ لا نبات فيها ولا زرع، فنُنْزِل به وعليها ماء المطر فيُحييها ويُخرِج خيرها من كل الزروع والنباتات والثمرات المُفيدات المُسْعِدَات بعد أن كانت لا حياة فيها.. ".. كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى.." أيْ كما أننا قادرون علي إحياء الأرض بعد موتها كما تَرَوْنَ ولا يُنْكِر ذلك كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فنحن أيضا بالمِثْل تماما كذلك قادرون قطعا علي أن نخرج الموتي يوم القيامة أي علي بَعثكم أيها الناس مرة أخري وإحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا، حيث نُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ونزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو نعفو، فأحسِنوا إذن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)" أيْ والبلد الطيّب النقيّ الجَيِّد الحَسَن التُّرْبَة إذا نزل عليه المطر يَخْرج نباته طيِّبَاً مُيَسَّراً نامِيَاً نافعاً مُسْعِدَاً بإذن ربه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، أمّا البلد الرديء التربة كأن تكون مُتَحَجِّرة أو مَالِحَة أو نحو هذا فإنَّ نباته لا يَخرج إلا نكداً أيْ رديئاً قليلاً بصورةٍ عَسِيرَةٍ صعبةٍ لا نفع فيه يكون سبب نَكَدٍ أيْ شرٍّ وغَمٍّ لصاحبه.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة مزيدٌ من بيان قُدْرَة الله تعالي حيث يخلق الأرض متنوعة وتنبيهٌ لحُسْن الانتفاع بها حيث منها أراضٍ طيبة صالحة للزراعة وأخري لا تصلح لها ولكن صلاحيتها تكون لشيءٍ آخر فمَا مِن مكانٍ إلا وفيه من خير الخالق الكثير الذي لا يُحْصَيَ فانتبهوا لذلك وأحسنوا الانتفاع بها.. وفيه كذلك تنبيهٌ أنَّ الصلاح يؤدي حتما لكل خيرٍ وسعادة في الداريْن بينما الفساد والخبث لا يؤدي إلا لكل نَكَدٍ وشرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فالصالحون وبيئتهم الصالحة ومجتمعهم الصالح العاملون بأخلاق الإسلام تجد أحوالهم وأرضهم دائما مبارَكة تُنْتِج خيراً مُسْعِدَاً لهم بإذن الله، بينما العكس صحيح كما يُثبت الواقع ذلك كثيراً حيث الفاسدون البعيدون عن ربهم وإسلامهم أحوالهم وأرضهم في الغالب لا بركة فيها أيْ لا سعادة تامة بها بل سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيراً ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم.. وفيه كذلك تشبيهٌ للمؤمن وللكافر، بمعني أنَّ المؤمن إذا نَزَلَت عليه آيات الله في قرآنه الكريم أيْ استمع إليها، انتفع بها حيث يَتَدَبّر فيها ويعمل بها فتُثْمِر فيه حياة صالحة مُبَارَكَة أيْ مُتَزَايِدَة في كل خيرٍ سَهْلَة سعيدة، كما يَنزل الماء علي الأرض الطيبة فتُثمر خيراً كثيراً، أمّا الكافر فلا ينتفع بذلك ولذا فحياته فاسدة صعبة عَسِيرَة تعيسة.. ".. كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التّصْرِيف أيْ التنويع والتّعَدُّد والتكثير من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، وكما صَرَّفنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم الذين يشكرون اللّه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأعظمها إرشادهم بقرآنه للإسلام الذي يُسعدهم فيُؤمنون به ويَتَدَبَّرون فيه وفي كل النّعَم ويَعتبرون به وبها ويُطيعونه باتّباع أخلاقه.. إنهم يَشكرونه تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه عليهم وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وهم بذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. إنهم هم الذين ينتفعون بتصريف الآيات لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وعاد وثمود وشعيب وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة العنكبوت وهود والمؤمنون وإبراهيم وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)" أيْ لقد بعثنا رسولنا الكريم نوحا إلي مَن يُقيم فيهم ومَن حوله مِن الناس ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام، حيث هو وحده الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!! وحيث هذا الإسلام هو الذي يُنَظّم لكم كل لحظات حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. هذا، ولفظ "يا قوم" يُفيد تذكيرهم بأنه منهم وهم منه وهو أخوهم وهو يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لنفسه، من أجل تحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربه، وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، الإسلام.. ".. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)" أيْ هذا بيانٌ لخوفه وحرصه الشديد عليهم.. أيْ إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ لِعِظَمِ وشِدَّةِ ما يَحْدُث فيه هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ وذلك إذا عَبَدْتم غيره، إذا ظلمتم أنفسكم ومَن حولكم فأتعستموها وأتعستموهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إنه عذاب عظيم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه نحن نُشاهِد ونَعلم ونُوقِن أنك بالتأكيد في ضياعٍ واضحٍ!! أيْ في خطأٍ وابتعادٍ عن طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة!! إنهم من شِدَّة سُوئهم لم يَكْتَفوا بتكذيبه وعدم الاستجابة له عند دعوتهم لعبادة الله تعالي وحده بل تَعَدّوا عليه بما يُؤذيه بوصفه ظلماً وكذباً وزُورَاً وسَفَهَاً بالضلال وليس أيّ ضلال بل الضلال الواضح!! إنهم يَرَوْنَ الصالح المُصْلِح فاسداً مُفْسِدَاً!!
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)" أيْ فصبر نوح (ص) عليهم وتَحَمَّل أذاهم وأجابهم بكل عَقْلانِيَّةٍ وحِكْمَةٍ وأدبٍ وحبٍّ لعلهم يُحسنون استخدام عقولهم ويعودون لفطرتهم المسلمة أصلا بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قائلا لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي ليس بي أيّ ضلالٍ ولو حتي ضلالة واحدة وليس الضلال المُبين كما تَدَّعون عليّ ولكنني مَبْعُوثٌ من ربِّ العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – لكي أبلغكم الإسلام لتسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فأنا بالتالي إذَن في أعلي درجات الهُدَيَ ولا يُمكن ولا يُعقل أن أكون في ضلالٍ وأن يكون ما أدعوكم إليه من عنده سبحانه ضلالاً وهو يريد هدايتكم لكل خيرٍ وسعادة
ومعني "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)" أيْ ولكني رسولٌ من ربِّ العالمين أرسلني إليكم فأنا أبَلّغكم وَصَايَا ربي ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام والتي أوْحاها إليَّ، وأنصح لكم أيْ أرْشدكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي يَسعد الجميع بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهو (ص) لا يَكتفي بتبليغها بل يُضيف إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها.. ".. وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)" أيْ وأعلم مِن عند الله وليس مِنّي مَمَّا أوْحاه إليَّ وعلّمني إيّاه من الإسلام ما لا تعلمون أنتم، فأنا أبلّغكم وأنصحكم عن علم، فاستجيبوا لي بالتالي إذَن لتسعدوا في دنياكم وأخراكم وإلا تعستم فيهما إنْ لم تستجيبوا.. وفي هذا تنبيهٌ لكلّ مسلمٍ أنْ يَتَشَبَّه بالرسل الكرام فيكون داعياً لله وللإسلام مُبَلّغَاً ناصحاً عالِماً بما يدعو إليه ليُحقّق أفضل ما يُمكن من نتائج ويَنال أعظم الأجر مثلهم
ومعني "أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)" أيْ وهل اسْتَغْرَبْتُم أنْ وَصَلَكم ذِكْرٌ من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – أيْ كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.." أيْ علي لسان رجلٍ منكم أُرْسِلَ أيْ بُعِثَ إليكم من ربكم ليكون رسولاً أيْ مَبْعُوثاً يكون منكم أيْ بَشَرَاً مثلكم وليس مَلَكَاً، وهذا من رحمات الله بالناس ليكون قُدْوة لهم حيث عرفوا صِدْقه وأمانته لأنه منهم يعيش معهم فيُصَدِّقونه بسهولة ويَثِقُون به ويُطَبِّق هو الإسلام عمليا في واقع الحياة بينهم فيسهل عليهم هم أيضا تطبيقه مثله بينما المَلَك له طاقات ليست مِثْلهم فيُمكنهم أن يَتَحَجَّجُوا بعدم التطبيق أنه لا طاقة لهم مِثْله.. ".. لِيُنْذِرَكُمْ.." أيْ لكي يُنْذركم بهذا الذكْر أيْ يُحَذّركم بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، ولكي يُبَشِّركم كذلك بتمام الخير والسعادة فيهما لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه.. ".. وَلِتَتَّقُوا.." أيْ ولكي تَتّقوا أيْ تخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)" أيْ ولكي تُرْحَموا، أيْ وليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ مَجِيء الذكْر علي رجلٍ منكم أمرٌ لا ينبغي أبداً التَّعَجُّب منه مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! بل هو مِمَّا يستوجب الشكر لربنا، لأنه لإسعادنا ولرحمتنا في دنيانا وأخرانا، لا أنْ نَعْجَب منه ونُكَذّب به ونُعْرِض أيْ نبتعد عنه!!
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)" أيْ فلم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فكان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)" أي فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن أنجيناه من الغَرَق هو والذين آمنوا معه أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، في الفلك أيْ بأنْ حَمَلْناهم في السفينة التي صَنَعَها بوَحْيٍ وتعليمٍ وعوْنٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وأمنٍ مِنّا، وأغرقنا بمياه الطوفان الغزيرة التي جاءتهم من السماء فوقهم ومن الأرض تحتهم الذين كذّبوا أيْ لم يُصَدِّقوا بآياتنا أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا أم آيات في كتبنا تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)" أيْ لأنهم كانوا قوما عُمْي الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أيْ إدراك العقل الذي به يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون، أيْ عَمِيَت عقولهم فلم تُبْصِر الحقّ والعدل والخير والسعادة، عَمِيَت عن اتّباع أخلاق الإسلام في دنياهم فتعسوا بالتالي فيها ثم في أخراهم، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً إلى قومه داعياً إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم عادٍ – وهم الذين كانوا يعيشون بمنطقةٍ تُسَمَّيَ الأحقاف وهي الأرض الرملية جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت واليمن – أخاهم رسولنا الكريم هوداً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)" أيْ ألَاَ تُحْسنون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه نحن نُشاهِد ونَعلم ونُوقِن أنك بالتأكيد في سفاهةٍ أيْ في سَفَهٍ أيْ ضعفِ عقلٍ وتعطيلِ ذِهْنٍ وتسطيحِ فِكْرٍ ورداءةِ رأيٍ بلا حُسْنِ تَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ وتَصَرُّفٍ في الأمور، وكذلك يَغْلِب علي ظننا أنك من الكاذبين في ادِّعائك أنك رسولٌ من عند الله يُوحِي إليك تشريعاته التي تُبَلّغنا بها.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح سَفِيهاً كاذباً فاسداً مُفْسِدَاً!!.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)" أيْ فصَبَرَ هود (ص) عليهم – كما صَبَرَ نوح (ص) علي قومه من قبله – وتَحَمَّل أذاهم وأجابهم بكل عَقْلانِيَّةٍ وحِكْمَةٍ وأدبٍ وحبٍّ لعلهم يُحسنون استخدام عقولهم ويعودون لفطرتهم المسلمة أصلا بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قائلا لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي ليس بي أيّ سفاهة كما تَدَّعون عليّ ولكنني مَبْعُوثٌ من ربِّ العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – لكي أبلغكم الإسلام لتسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فأنا بالتالي إذَن في أعلي درجات الهُدَيَ والصدق ولا يُمكن ولا يُعقل أن أكون في سَفَهٍ وأن يكون ما أدعوكم إليه من عنده سبحانه سَفَهَاً وكذباً وهو يريد هدايتكم لكل خيرٍ وسعادة ثم هو لا يمكن أن يتركني أكذب عليه دون كَشْف كذبي ومَنْعِي بل وإهلاكي ثم أنا أخوكم ومنكم وأنتم مِنّي وتعرفون صِدْقي وأريد مصلحتكم كما أريدها لنفسي والرائد لأمرٍ مَا لا يمكن أبداً أن يكذب علي أهله أو يخدعهم لأنَّ مصيره مرتبط بمصيرهم في النفع والضرر
ومعني "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)" أيْ قال لهم كما قال نوح (ص) سابقاً وكما يقول كلُّ رسول: ولكني رسولٌ من ربِّ العالمين أرسلني إليكم فأنا أبَلّغكم وَصَايَا ربي ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام والتي أوْحاها إليَّ، وأنا لكم فيما أدعوكم إليه من عبادة أيْ طاعة الله وحده والعمل بكل أخلاق إسلامه ناصح أيْ مُرْشِد لكم لكل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، وأمين أيْ بكل أمانةٍ وصدقٍ دون أيّ خيانةٍ أو كذبٍ أو تغييرٍ أو نُقْصَانٍ فيما طلبه مِنّي بإرساله وتوصيله إليكم.. أبلّغكم بكلّ قدوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، حتي يَسعد الجميع بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهو (ص) لا يَكتفي بتبليغها بل يُضيف إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها
ومعني "أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)" أيْ قال لهم كما قال نوح (ص) سابقاً.. أيْ وهل اسْتَغْرَبْتُم أنْ وَصَلَكم ذِكْرٌ من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – أيْ كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.." أيْ علي لسان رجلٍ منكم أُرْسِلَ أيْ بُعِثَ إليكم من ربكم ليكون رسولاً أيْ مَبْعُوثاً يكون منكم أيْ بَشَرَاً مثلكم وليس مَلَكَاً، وهذا من رحمات الله بالناس ليكون قُدْوة لهم حيث عرفوا صِدْقه وأمانته لأنه منهم يعيش معهم فيُصَدِّقونه بسهولة ويَثِقُون به ويُطَبِّق هو الإسلام عمليا في واقع الحياة بينهم فيسهل عليهم هم أيضا تطبيقه مثله بينما المَلَك له طاقات ليست مِثْلهم فيُمكنهم أن يَتَحَجَّجُوا بعدم التطبيق أنه لا طاقة لهم مِثْله.. ".. لِيُنْذِرَكُمْ.." أيْ لكي يُنْذركم بهذا الذكْر أيْ يُحَذّركم بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، ولكي يُبَشِّركم كذلك بتمام الخير والسعادة فيهما لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ مَجِيء الذكْر علي رجلٍ منكم أمرٌ لا ينبغي أبداً التَّعَجُّب منه مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! بل هو مِمَّا يستوجب الشكر لربنا، لأنه لإسعادنا ولرحمتنا في دنيانا وأخرانا، لا أنْ نَعْجَب منه ونُكَذّب به ونُعْرِض أيْ نبتعد عنه!!.. ".. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً.." أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، حيث جعلكم خُلَفاء أيْ أتَيْتُم خَلْفَ ومِن وَراء ومِن بَعْد قوم نوح الذين أهلكهم وأزالهم منها بأنْ أغرقهم بالطوفان بسبب كفرهم وعدم اتّباعهم للإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار لتكونوا أنتم مُسْتَخْلَفِين في الأرض بَعْدهم مُتَمَكّنِين منها تَتصرَّفون فيها وتنتفعون وتسعدون بكل خيراتها – وفي هذا تذكيرٌ أيضا لهم بألاّ يفعلوا مِثْلهم حتي لا ينالوا مصيرهم ويَتعسوا في الداريْن – وحيث زادكم في الخَلْق بَسْطَة أيْ زادكم في المخلوقات سَعَة ووَفْرَة وقوة وضخامة في الأجسام والمُلْك والسلطان والنفوذ والإمكانات.. ".. فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَذَكُّر النّعَم وشكرها ليزيدها ويديمها سبحانه.. أيْ فإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم وإذا عرفتم ذلك فبالتالي إذَن إنْ ذَكَرْتم نِعْمَة أنْ جعلكم خُلَفاء من بعد نوح وأنْ زادكم في الخَلْق بَسْطة فاذكروا أيضا كل نِعَم الله الكثيرة الأخري التي لا تُحْصَيَ واشكروها وأعظمها نعمة إرسال الرسل بالإسلام فاشكروه عمليا بإسلامكم لعلكم تفلحون أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الشاكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)" أيْ قابَلوا دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والموعظة الحسنة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء حيث قالوا له هل أتَيْتَنَا لكي نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا من آلهةٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها؟!! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وقالوا له أيضا مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله أنّنا مُصِرّون مُستمرّون علي ما نحن فيه ولو كنتَ صادقاً فيما تدَّعِيه كذبا وزُورَاً فأحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا!
ومعني "قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)" أيْ قال هود لقومه قد حقَّ ووَجَبَ عليكم من عند ربكم رجس أي مُسْتَقْذَر أيْ شّرّ وعذاب دنيويّ وأخرويّ.. وغضب فلا يُحِبّكم ولا يُوفّقكم ولا يُيَسِّر لكم أموركم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المَثَل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ اسْتَحَقّوا شِدَّة كراهيته لأفعالهم وانتقامه منهم بعقابهم إضافة لِلَعْنَتِه لهم أيْ طَرْدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده، وهذا الغضب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم أولا يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم .. وهذا الرجس والغضب لا بُدّ حتماً أن يقع ويَحْدُث وعليهم أن يَتَوَقّعوه في أيِّ وقتٍ بسبب إصرارهم على التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء واستمرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.." أيْ قال لهم هود بكلّ قوّةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ هل تُجَادِلونني – والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم – في أسماءٍ سَمَّيْتُموها أي في أصنامٍ سَمّيتموها أنتم وآباؤكم آلهة؟! عبدتموها وغيرها من الآلهة غير الله تعالي والتي ما هي إلا عِبَارَة عن مجرّد فقط أسماء وليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القدرة والعلم والرزق ونحو ذلك لكنكم أنتم وآباؤكم الذين سمَّيتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمور هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا توجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح!!.. هذا، والاستفهام والسؤال في هذا الجزء من الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)" أيْ فوَقَعَ عذابنا فأنجينا هوداً هو والذين معه من المؤمنين أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وقطعنا دابِرَ القوم الذين كذّبوا بآياتنا، ومعني دابر أيْ آخر، والدُّبُر هو المُؤَخّرة، أيْ فأبَدْنَاهم جميعاً عن آخرهم بحيث لم نُبْقِ منهم أحداً وانتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، والذين كذّبوا بآياتنا هم الذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تكذيبهم، أيْ كانوا مُكَذّبين وما كانوا أبداً مُصَدِّقين بل مُصِرِّين علي التكذيب مُسْتَمِرِّين عليه.. وفي هذا أيضا تنبيهٌ على أنَّ الإيمان هو الفارق بين النجاة والسعادة في الداريْن وبين الهلاك والتعاسة فيهما
ومعني "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً إلى قومهما لكي يَدْعُوَا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم ثمود – وهم الذين كانوا يعيشون شمال الجزيرة العربية في منطقة الحِجْر التي تقع بينها وبين الشام – أخاهم رسولنا الكريم صالحا فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ قد وَصَلَتْكم مُعْجِزَة واضِحَة الدلالة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – تُبَيِّن لكم صِدْق أني رسولٌ من عنده مُؤَيَّدٌ منه وتَدُلّ علي صِدْق ما أدعوكم إليه من إسلام.. ".. هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً.." أيْ هذا توضيحٌ لهذه البَيِّنَة.. أيْ هذه التي تَرَوْنها وأُشِيرُ إليها هي ناقة الله والتي جعلها سبحانه لكم آية أيْ علامة لكم على صِدْقِى.. وقد أضاف في كلامه الناقة إلى الله لتعظيم شأنها حتي لا يَتَجَرَّأ أحدٌ بالاعتداء عليها ولأنه سبحانه خَلَقَها بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق حيث هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، ولأنها كانت كأنها عاقلة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعي وللشرب وتترك لهم أوقاتاً أخري يرعون هم فيها دوابهم.. ".. فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)" أيْ ولكوْنها آية عظيمة فعَظّموها بالتالي إذَن فذروها أيْ فاتركوها تأكل في أرض الله حيث هي ناقته والأرض أرضه ولا تلمسوها بأيِّ أذي فيُصيبكم بسبب ذلك عذابٌ مؤلمٌ مُوجِعٌ شديدٌ في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم من أيِّ اعتداءٍ عليها بأيِّ صورةٍ من الصور
ومعني "وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، حيث جعلكم خُلَفاء أيْ أتَيْتُم خَلْفَ ومِن وَراء ومِن بَعْد قوم عادٍ الذين أهلكهم وأزالهم منها بسبب كفرهم وعدم اتّباعهم للإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار لتكونوا أنتم مُسْتَخْلَفِين في الأرض بَعْدهم مُتَمَكّنِين منها تَتصرَّفون فيها وتنتفعون وتسعدون بكل خيراتها – وفي هذا تذكيرٌ أيضا لهم بألاّ يفعلوا مِثْلهم حتي لا ينالوا مصيرهم ويَتعسوا في الداريْن – وبَوَّأكم في الأرض أيْ مَكّنكم فيها وسَهَّل لكم كل الأسباب التي توصلكم إلي ما تريدون من منافع وسعادات فتَبْنون بتيسيره وعوْنه وفضله ورزقه في سهولها قصوراً فخمة جميلة وتنحتون الجبال فتجعلون منها بيوتاً آمِنَة حَصِينَة تسكنونها فأنتم إذَن في رفاهِية مُتَنَوِّعَة وَفِيرَة.. ".. فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَذَكُّر النّعَم وشكرها ليزيدها ويديمها سبحانه.. أيْ فإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم وإذا عرفتم ذلك فبالتالي إذَن إنْ ذَكَرْتم نِعْمَة أنْ جعلكم خُلَفاء من بعد عادٍ وأنْ بَوَّأكم في الأرض فاذكروا أيضا كل نِعَم الله الكثيرة الأخري التي لا تُحْصَيَ واشكروها وأعظمها نعمة إرسال الرسل بالإسلام فاشكروه عمليا بإسلامكم، ولا تَعْثوا في الأرض مُفسدين أيْ وإيَّاكم والعَثْو وهو الإفساد ونَشْر الشَّرِّ في الأرض بكل صُوَرِه المادية والنفسية فتَسيرون فيها مُفْسِدين لكلِّ شيءٍ مُسْتَخْدِمِين هذه النِّعَم فيتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ولكنْ استخدموها في كل خيرٍ لتسعدوا فيهما
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين استكبروا من قومه أيْ اسْتَعْلُوا علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَسْتَرِدُّوا حقوقهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذها، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لمَن آمَنَ من الذين استضعفوهم واستهانوا بهم لقِلّة مَكانتهم وممتلكاتهم حيث هذا هو مقياسهم الذي يَقيسون به قيمة الأشخاص وقد كان المُسْتَضْعَفون منهم مؤمنون ومنهم كافرون فخاطَبوا المُستضعفين المؤمنين فقط قائلين لهم مُسْتَعْلِين عليهم ساخرين منهم مُشَكّكين لائِمِين مُهَدِّدِين لهم هل تعتقدون بحقّ أنَّ صالحاً مُرْسَلٌ من ربه إلينا؟.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين استكبروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه.. ".. قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)" أيْ فأجابوهم بكل حَسْمٍ ووضوحٍ واستعدادٍ لتَحَمُّل ما قد يحدث لهم مُستعينين بربهم – وهذا هو حال المؤمنين في كل عصر – نحن مُصَدِّقون بما أرسله الله به مُتَّبِعُون لشَرْعه الإسلام
ومعني "قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)" أيْ قال الذين اسْتَعْلوا بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ وعِنادٍ وإعلانٍ لتكذيبهم وإصرارٍ علي سُوئهم نحن بالذي صَدَّقتم به – وهو ما أُرْسِلَ به رسولهم الكريم صالح (ص) ويدعو إليه من عبادة الله تعالي وحده واتّباع شَرْعه الإسلام – مُكَذّبون به غير مُتّبِعِين له
ومعني "فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)" أيْ فذبحوا الناقة التي كانت آية عظيمة لهم مُتَحَدِّين بذلك الله تعالي ورسوله (ص) مُعْلِنِين حربهم عليهما مُسْتَكْبِرين مُعانِدين مُكَذّبين مُسْتَخِفّين بتحذير رسولهم الشديد لهم أن يمسوها بسوءٍ فيأخذهم بسبب ذلك عذاب أليم، وعَتَوْا بذلك عن أمر ربهم أي وتَكَبَّروا وظلموا وخالَفوا أمر الله وهو اتِّباع الإسلام وعصوه وتركوه واستهانوا به وتَمَرَّدوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصرّوا تمام الإصرار عليها، وقالوا يا صالح مُنَادِينَ إيّاه باسمه بدلاً أن يقولوا يا رسول الله تكذيباً له وتقليلاً من شأنه وتَرَفّعَاً عليه – مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله مُتَبَجِّحِين أنهم مُصِرّون مُستمرّون علي ما هم فيه – أحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا! إنْ كنتَ صادقاً فيما تدَّعِيه كذباً وزُورَاً أنك من المُرْسَلِين أيْ المَبْعُوثين من عند إلاهِك!
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)" أيْ فابْتَعَدَ عنهم وقال مُخَاطِبَاً لهم ذامَّاً إيّاهم بعدما أهلكهم اللّه تعالي بعذابه ليكون خطابه عِبْرَة لغيرهم ليَتَّعِظوا فلا يَفعلوا فِعْلهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا مِثْلهم فيهما، أو قال ذلك الخطاب قبل هلاكهم تاركِاً إيّاهم للمصير الذي أوقعوا فيه أنفسهم باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب مُخالفتهم شرع الله الإسلام ومُحاولتهم مُحارَبته مُتَحَسِّرَاً على ما فاتهم من الإيمان والسعادة يا قوم لقد أبلغتكم أيْ أوْصَلت لكم رسالة ربي أيْ وصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام كاملة غير مَنْقُوصَة، ونصحت لكم أيْ وأرْشدتكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي تسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فلم أقْتَصِر علي تبليغها بل أضفتُ إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها بالترغيب وبالترهيب حسبما يُناسبكم، ولكنْ مِن شِدَّة إصراركم علي سُوئِكم واستعلائكم وعِنادكم وفسادكم وإغلاقكم لعقولكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة وَصَلْتُم إلي مرحلة أنكم لا تُحِبّون مَن ينصحكم ولا تَسمعون ولا تَقبلون نُصْحه لكم للخير وللسعادة وأصبح شأنكم الاستمرار على كُرْهِهم وعداوتهم وعدم اتّباع نصائحهم المُسْعِدَة والسَّيْر خَلْف أهوائكم المُتْعِسَة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)" أيْ واذكر يا رسولنا الكريم محمد (ص) ويا كل مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حدث للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه، اذكر حين قال رسولنا الكريم لوط (ص) لقومه ناصحا ولائما لوْما شديدا علي أنهم يأتون أي يفعلون فاحشة أي شرّا فظيعا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً لهم ولغيرهم ما فعلها أيّ أحدٍ من الناس السابقين ولكنْ فعلوها هم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)" أيْ هذا توضيحٌ لهذه الفاحشة.. أيْ إنكم تُضاجِعُون وتُجامِعُون الرجال في أدْبَارهم وتشتهونهم بدلاً من أزواجكم النساء، وهو فُحْش لم يفعله أحدٌ قبلكم ولا حتي الحيوان!.. ".. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)" أيْ ليس الأمر أنكم تأتون الفاحشة استثناءً ثم تتركونها وتتوبون إلي الله منها بل أنتم قوم مُسرفون فيها أيْ مُتَجاوِزون لحدود الله مُتَجَرِّئون علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس مُتَعَدّون علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلكم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ مُكْثِرون مُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات لا تقفون عند حدٍّ لها ولا تفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لكم بعض عُذْرٍ تعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار
ومعني "وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)" أيْ ولم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم لوط (ص)، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه! لقد تَصَرَّفوا تَصَرُّفَاً يدلّ علي مَدَيَ ما وصلوا إليه من شرٍّ وتَبَجُّحٍ وإصرارٍ وخَبَلٍ حيث قال بعضهم لبعضٍ أخرجوا واطردوا لوطاً ومَن آمن معه بالإسلام من قريتكم، وعَلّلوا وبَرَّرُوا ذلك بأنهم أناس يَتَطَهَّرون!! فهذه جريمتهم!! يَتنظّفون ويَتَعَفّفون فلا يَفعلون مِثْلهم!! إنهم مِن شِدَّة شَرِّهم وإغلاقهم لعقولهم قد قَلَبُوا الحقائق فأصبح عندهم الخير شرَّاً والشرّ خيرا!! إنهم يَسْخَرون من طهارتهم ولا يطيقون أن يبقي بينهم طاهراً أخلاقِيَّاً يُذَكّرهم بالطهر والأخلاق فهم لا يُبقون معهم إلا مَن كان مِثْلهم قَذِرَاً لا أخلاقياً مُنْغَمِسَاً في كلّ سوء!!
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)" أيْ فوَقَعَ عذابنا فأنجينا لوطاً هو وأهله، والمقصود بأهله أسرته المؤمنة والمؤمنين به أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، أنجيناهم برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، إلا امرأته كانت من الغابرين أي الباقين في العذاب فلم نُنْجِها لأنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتكبي الفواحش
ومعني "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)" أيْ وأنزلنا عليهم مطراً من السماء لم يكن ماءً بل كان – كما جاء في آيات أخري – حجارة صلبة شديدة مُلْتَهِبَة جاءت بأعلي ما في بيوتهم من الأسقف إلي الأسفل علي رؤوس مَن فيها فدَمَّرتهم جميعا، فكان عقاباً مناسباً لجرائمهم الشنيعة حيث قَلَبُوا أوضاع الأخلاق فقَلَبَ الله عليهم بلدهم بل وحياتهم كلها.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المجرمين – وهم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المجرمين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً وصالحاً إلى قومهم لكي يَدْعُوا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قبيلة مدين – وهم الذين كانوا يعيشون جنوب الشام – أخاهم رسولنا الكريم شعيباً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ قد وَصَلَتْكم مُعْجِزَة واضِحَة الدلالة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – تُبَيِّن لكم صِدْق أني رسولٌ من عنده مُؤَيَّدٌ منه وتَدُلّ علي صِدْق ما أدعوكم إليه من إسلام.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ القرآن الكريم لم يَذكر آية مُحَدَّدَة خاصة بالرسول الكريم شعيب (ص)، فليست كل مُعجزات تأييد الرسل الكرام مَذكورة.. ".. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم فعليكم بالتالي إذَن أن تتِمّوا الكيل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وتتِمّوا الميزان إذا وزنتم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون، بالعدل بلا زيادةٍ أو نقصان، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما.. ".. وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيفاء بكل الحقوق وتعميمها لتشملها كلها وليس في الكيْل والميزان فقط.. أيْ ولا تُقَلّلوا للناس قيمة أشياءهم التي يملكونها سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، في كل شئون حياتهم، صَغُرَت أم كَبُرَت، فتنقصوهم حقوقهم فتظلموهم.. ".. وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ وامتنعوا تماما أيها الناس عن الإفساد في الأرض أينما تَوَاجَدتم بفِعْل ونَشْر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها، والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الدنيا والآخرة وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما، فإنه بالخير يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالفساد والشرّ يتعسون حتما فيهما.. ".. بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ بعد إصلاح الله إيَّاها بنظام وأخلاق الإسلام الذي أرسله لكم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ليُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في الداريْن.. لقد خلق الله تعالي الأرض في الأصل صالحة، وللصلاح، أيْ للسعادة فيها وللانتفاع التامّ بخيراتها، ولن يتمَّ ذلك علي أكمل وجهٍ إلا بما شَرَعه لتنظيمها وحُسْن إدارتها، أيْ بالإسلام، لأنه هو العالِم بخَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُسعدهم، فلا تفسدوها باتّباع نظام غيره مُخَالِف له فتتعسوا.. هذا، والإفساد ضَرَرٌ وتعاسة سواء بعد الإصلاح أو في الفساد ولكنه بعد الإصلاح أشدّ فظاعة وسوءاً وضرراً وتعاسة من الإفساد على الإفساد، فإنَّ وجود الإصلاح أكبر حُجَّة على المُفْسِد إذا هو لم يحفظه ويسير عليه فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟! لقد بذل بالتأكيد فساداً كبيراً لكي يُحَقّق ذلك ولذا فلا عذر له في فساده بل عقابه أشدّ في الداريْن! ولهذا خَصَّ الله تعالي بالذكر والتنبيه والتحذير الإفساد بعد الإصلاح.. ".. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)" أيْ هذا كله الذي أوُصِيكم به من أخلاق الإسلام هو حتماً خير لكم في دنياكم وأخراكم لأنه يصلحكم ويكملكم ويسعدكم تمام السعادة فيهما فسارعوا بالاستجابة لي إنْ كنتم مُصَدِّقين ما أقوله لكم ومُنتفعين بهذا الخير الذي أرْسِلْتُ به إليكم من ربكم.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)" أيْ ولا تَجْلِسوا وتَقِفوا وتَتَوَاجَدوا بكل طريقٍ من طرق السَّيْر تُهَدِّدون وتُخيفون الناس بأخذ ممتلكاتهم أو إيذائهم أو قتلهم أو فرض ضرائب عليهم أو ما شابه هذا من أفعال قُطّاع الطرق ولا تقعدوا أيضا بكل طريق من طرق الوصول لطاعة الله ولمعرفة الإسلام وللعمل الصالح توعدون وتصدون عن سبيل الله أيْ تُهَدِّدون وتَمنعون عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مَن آمَنَ به أيْ صَدَّقَ بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه؟!.. تَصُدُّونه قَدْر استطاعتكم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وتُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي تريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، وكذلك تريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن تستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ.." أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، حيث كنتم سابقاً قليلاً في العدد مُسْتَضْعَفِين فقراء لا قيمة ولا وزن ولا تأثير لكم فكثَّركم فأصبحتم شعباً أقوياء عزيزين مُتَمَتّعين بكثيرٍ من الأرزاق والقوَيَ والصحة والأموال والمُمتلكات والذرِّيَّات وغيرها ولم يُصبكم بما يُضعفكم ويُقَلّلكم من أمراضٍ وحروب ونحوها.. ".. وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)" أيْ وانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُفسدين – أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المُفسدين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وإنْ كان مجموعة منكم صَدَّقوا بالذي أرسلني الله به إليكم لتَعبدوه أيْ تطيعوه وحده وتعملوا بأخلاق إسلامه فاتّبَعُوني علي هذا ومجموعة أخري لم تُصَدِّق بذلك فعَبَدَت غيره تعالي وخَالَفَت الإسلام ففَعَلَت الشرور والمَفاسد والأضرار، فنحن بالتالي مُتخاصمين نحتاج إلي مَن يَحكم ويَفصل بيننا فانتظروا إذَن حتي يحكم الله بيننا وبينكم بحُكْمه العادل لنُشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. ".. وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)" أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك
التفسير السعيد للقرآن المجيد
الجزء التاسع
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين استكبروا من قومه أيْ اسْتَعْلُوا علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَسْتَرِدُّوا حقوقهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذها، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا رَدَّاً علي نصائحه ووصاياه لهم بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ وعِنادٍ وإعلانٍ لتكذيبهم وإصرارٍ علي سُوئهم وبكل غِلْظةٍ وغضبٍ وتهديدٍ وتأكيدٍ سنُخرجك ونَطردك بالتأكيد يا شعيب والمؤمنين معك من بلدنا أو تَرْجعوا إلي ديننا الذي نحن عليه فتكفروا بربكم وتتركوا دينكم الإسلام وحينها لا نفعل ذلك ونترككم بيننا، فاختاروا بين هذين الأمرين.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم شعيب (ص)، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!.. ".. قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)" أيْ قال لهم شعيب مُتَعَجِّبَاً رافضاً هل تجبروننا على الكفر مثلكم واتّباع دينكم حتى ولو كنا كارهين له لاعتقادنا الكامل بفساده التامّ حيث هو مُتْعِسٌ مُضِرٌّ لأنه مُخَالِفٌ لكلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! لا لن نعود إليه أبداً بأىِّ حالٍ من الأحوال.. إنكم كيف تَعْرِضون علينا هذا العَرْض ونحن أمر الإسلام مَحْسُوم تماما عندنا لا ذرّة تَرَاجُع عنه؟! وإنما مِثْل هذا يكون لمَن يُظْهِر لكم أيَّ شيءٍ من رغبةٍ فيه!! ولكننا أعْلَنّا أننا كارهين له تماما!! إنَّ أمركم عجيب حيث لم تعقلوا أنَّ أمر الدخول في اعتقادٍ مَا لا بُدَّ أن يكون اختياريَّاً لا إجباريَّاً بالإكراه لأنه لن يكون اعتقاداً حقيقياً راسِخَاً في حالة الإكراه بل ظاهرياً ثم إكراهكم يدلّ علي أنَّ دينكم هذا ليس بحقٍّ لأنه لو كان حقّاً يقبله العقل فلن يحتاج لأيِّ إكراهٍ بل سيَسْعَيَ إليه كل عاقل
ومعني "قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)" أيْ ثم قال لهم ما يُفيد قَطْع أيِّ أملٍ لديهم في عودة المسلمين عن الإيمان إلي الكفر: بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد اخْتَلَقْنا علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا إنْ رجعنا إلي دينكم الذي أنتم عليه فنكفر بربنا ونترك ديننا الإسلام بعد أنْ أنقذنا الله من اتّباع مثل هذا الدين الفاسد المُضِرّ المُتْعِس برحمته وكرمه وإنعامه وإحسانه علينا بأنْ أرسل الإسلام إلينا والمُسْعِد لنا في الداريْن فأحْسَنَّا استخدام عقولنا التي أعطانا إيَّاها والتي عندكم مثلها ولكنكم لم تُحسنوا استخدامها فاخترنا الإسلام فيَسَّر لنا أسباب اتّباعه والتمسّك والعمل به والثبات عليه لَمَّا اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا.. ".. وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا.." أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً لنا ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل وسيكون حتما سَفَهَاً وخطأ وتَخَبُّطَاً وتعاسة في الداريْن أن يرجع أحد أبداً إلي ملتكم الفاسدة المضرة المتعسة هذه بعدما ذاق سعادة الإسلام، وفي هذا مزيدٌ من قَطْع أيِّ أملٍ لديهم في عودة المسلمين عن الإيمان إلي الكفر.. ".. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا.." أيْ إلا أن يريد الله ربنا وخالِقنا لنا الضلالة بعد الهداية ويكون ذلك حتماً بلا أيِّ شكّ بعملٍ مِنّا حيث نختار نحن بكامل حرية إرادة عقولنا البُعْد عن ربنا وديننا الإسلام ونفعل الشرور والمَفاسد والأضرار من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ونستمرّ ونُصِرّ علي ذلك مُغْلِقِين لعقولنا بلا أيِّ استيقاظٍ بتوبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لهما وبالتالي يتركنا لَمَّا يَرَانا مُصِرِّين دون أيِّ خطوة نحو الخير حتي يساعدنا علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لذلك بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. إنَّ أحداً لن يؤمن بأيِّ حالٍ من الأحوال إلاّ في حالة أن يشاء هو أولا بكامل حرية إرادة عقله الهداية لله وللإسلام ويَتّخِذ أسباب ذلك بأنْ يُحْسِن استخدامه ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فحينها يَشاء الله له ذلك بأنْ يُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الهداية لله وللإسلام وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.." أيْ قد أحاط عِلْم ربنا بالأشياء كلها فلا تَخْفَيَ عليه خافِيَة في كل كَوْنه وخَلْقه ولا عِلْم لآلهتكم بأيِّ شيءٍ منها، فلا يُسْتَبْعَد أن يكون في عِلْمه أن يَحْدُث لبعضنا ضلالة بعد هداية، فإنَّ ذلك إنْ حَدَث فإنه يَقع بقُدْرَة ربنا وإرادته لحكمةٍ مَا لا بقدرة أصنامكم أو إرادتها، فإنْ يكن سَبَقَ في علمه أنّ بعضنا يعود في مِلّتكم فلا بُدّ أن يكون وإلاّ فهُمْ غير عائدين حتماً فيها.. ".. عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.." أيْ علي الله وحده اعتمدنا في كل شئون حياتنا لنسعد في دنيانا وأخرانا (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، اعتمدنا عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفينا كفاية تامّة ولن نحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقنا القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لنا الرحيم بنا هو وكيلنا، أيْ الحافظ لنا المُدافِع عنا، فهل نحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! إننا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولذا فنحن مُطمئنّون اطمئنانا كاملا ومُسْتَبْشِرون ومُنتظرون دائما لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنيانا ثم أخرانا.. ".. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ.." أيْ ندعوك ونسألك ونَتَوَسَّل إليك يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – احكم بيننا وبين قومنا بالعدل، وجازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يَسْتَحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)" أيْ فأنت خير الحاكمين، أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه تعالي يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك
ومعني "وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)" أيْ وقال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا للمؤمنين ولغيرهم من عموم الناس وهم مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه مُحَذّرين مُهَدِّدِين إذا سِرْتُم خَلْفَ شعيب ستكونون بالتالي إذَن بالتأكيد خاسرين!!.. ستَخسرون يا غير المؤمنين مكاسبكم من تطفيف الكَيْل والميزان وأكل حقوق الآخرين وتَخسرون شَرَفكم ومَجْدَكم باتّباع غير دين آبائكم وأجدادكم وستَخسرون أنتم أيضا أيها المؤمنون إغراءاتنا المُتَعَدِّدَة لكم لكي لا تؤمنوا إضافة ما سيُصيبكم منّا مِن أذَيً كطردٍ من بلادنا ونَفْيٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو تهديدٍ أو تعذيبٍ أو سجنٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح السعيد في نفسه المُسْعِد لغيره خاسراً!!.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)" أيْ الذين لم يُصَدِّقوا شعيباً وما أبْلَغهم به من إسلامٍ أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وهَدَّدوه وأنذروه هو والمؤمنين معه بالإيذاء والإخراج من بلدهم إنْ لم يكفروا مثلهم، عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا فلم يَبْق لهم أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها.. ".. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)" أيْ لم يكن حتماً المؤمنون الخاسرين كما ادُّعِيَ عليهم سَفَهَاً وخَبَلاً وكذباً وزُورَاً بل هؤلاء الذين كذّبوا شعيباُ كانوا قطعا هم الخاسرين خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سبحانه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، وتكرار جملة "الذين كذّبوا شعيبا" هو أسلوب يستخدم في اللغة العربية لبيان مزيدٍ من الذمِّ واللّوْم الشديد والتأكيد والتَّعَدُّد والتفظيع لِمَا عُوقِبُوا به مع مزيدٍ من الوعظ والتأثير والتنبيه للمُستمع لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتّعاظ فلا يَفعل مِثْلهم حتي لا يتعس تعاستهم في الداريْن
ومعني "فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)" أيْ فابْتَعَدَ عنهم وقال مُخَاطِبَاً لهم ذامَّاً إيّاهم بعدما أهلكهم اللّه تعالي بعذابه ليكون خطابه عِبْرَة لغيرهم ليَتَّعِظوا فلا يَفعلوا فِعْلهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا مِثْلهم فيهما، أو قال ذلك الخطاب قبل هلاكهم تاركِاً إيّاهم للمصير الذي أوقعوا فيه أنفسهم باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب مُخالفتهم شرع الله الإسلام ومُحاولتهم مُحارَبته مُتَحَسِّرَاً على ما فاتهم من الإيمان والسعادة يا قوم لقد أبلغتكم أيْ أوْصَلت لكم رسالات ربي أيْ وصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام كاملة غير مَنْقُوصَة، ونصحت لكم أيْ وأرْشدتكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي تسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فلم أقْتَصِر علي تبليغها بل أضفتُ إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها بالترغيب وبالترهيب حسبما يُناسبكم، ولكنْ مِن شِدَّة إصراركم علي سُوئِكم واستعلائكم وعِنادكم وفسادكم وإغلاقكم لعقولكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة وَصَلْتُم إلي مرحلة أنكم لم تقبلوا النصح ولم تستمعوا للخير وللسعادة الذي فيه وأصبح شأنكم الاستمرار على كُرْهِكم وعداوتكم لمَن يَنصحكم وعدم اتّباع نصائحهم المُسْعِدَة والسَّيْر خَلْف أهوائكم المُتْعِسَة في دنياكم وأخراكم، حتي هَلَكْتُم، فكيف آسَيَ أيْ أحزن علي قومٍ كافرين أيْ مُكَذّبين مِثْلكم بذلتُ أقْصَيَ جهدٍ مُمْكِن معهم لهدايتهم ونجاتهم ولكنهم كرهوا النصح ورفضوه تماما واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما فيه هلاكهم؟! لا، لن آسَىَ بالتالي عليهم حيث هم ليسوا أهْلَاً للحزن عليهم لأنهم مُسْتَحِقّون لِمَا نَزَلَ بهم، بل قد ارتاح أهل الخير منهم وسعدوا بغيابهم
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)" أيْ وما بَعَثْنا في أيِّ بلدةٍ من البلدان أيَّ نبيٍّ من الأنبياء يدعو مَن فيها إلى الله والإسلام ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم فكَذّبوه إلا عاقبنا أهلها بالبأساء أيْ بالبؤس كفقرٍ وغيره وبالضَّرَّاء أيْ بالضرَر كمرضٍ ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَضَرَّعُونَ" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَضَرَّعوا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان حتماً يُرَاجِع ذاته كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتضرّعوا، أيْ لكي يلجأوا إلينا ويَدْعُونا ويَرجونا ويَطلبوا عَوْننا وتوفيقنا وتَيْسيرنا ورزقنا وقوَّتنا وأمننا وحُبّنا ورضانا وإسعادنا لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدونا أي يطيعونا وحدنا ويَخضعوا ويَستسلموا لنا ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَضَرِّعين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)" أيْ ثم لَمَّا لم يَنفع معهم هذا النوع من الاختبار بالبأساء والضراء حيث لم يَتَضَرَّعوا ولم يعودوا لربهم ولإسلامهم اختبرناهم بنوعٍ آخرٍ من الاختبار رحمة منّا وإمهالاً لهم لا إهمالا لعلهم به يستشعرون نِعَم ربهم عليهم التي لا تُحْصَيَ فيشكرونه بأن يعودوا له ولإسلامه ليسعدوا في الداريْن حيث غَيَّرنا وحَوَّلنا مكان الحالة السيئة الحالة الحسنة أيْ أعطيناهم بَدَلَ ما كانوا فيه من البؤس والضرر في الأنفس والممتلكات السلامات والتيسيرات والعافيات والخيرات والأرزاق حتي عفوا أيْ إلي أن كثروا ونَمُوا في أنفسهم وذرِّيَّاتهم وأموالهم وممتلكاتهم.. ".. وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ.." أيْ وبَدَلَ اتّعاظهم بالأحداث التي تَحْدُث حولهم من اختبارات الله تعالي لهم بالضَّرَّاء أحيانا أيْ بما يَضُرّ – كما في الآية السابقة – وبالسَّرَّاء أيْ بما يَسُرّ أحيانا أخري والتي تدعو كل عاقلٍ للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو خطأ وتَرْكه والشكر لِمَا هو صواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادته في دنياه وأخراه إذا بهم لم يستفيدوا لا بهذا ولا بذاك أيْ لم يَتَضَرَّعوا بالضَّرَّاء ولم يشكروا بالسَّرَّاء بل قالوا بكل جهلٍ وغَفْلةٍ وإنكارٍ لنِعَم الله ونسيانٍ له ولها وإغلاقٍ لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لمَن يَعِظهم ويُذَكّرهم بالعودة لربهم ولإسلامهم قد مَسَّ أيْ أصاب آباءنا سابقا الشرّ والخير مثل ما أصابنا الآن وتَنَاوَب عليهم هذا وذاك فنحن أيضا يَتَنَاوَب علينا هذا أوقاتاً وذاك أوقاتاً أخري فهكذا كانت دائما عادة الزمن قديما وحديثا لنا ولآبائنا فهذا أمرٌ طبيعيٌّ عاديٌّ قد جَرَت به العادة وتفرضه الطبيعة وتَقَلّبات الزمن ولا علاقة له بعقابٍ من الله علي كفرٍ به وإنكارٍ لنِعَمه أو ثوابٍ منه علي إيمانٍ وشكرٍ له كما يقول الرسل والدعاة من بعدهم!! فلنستَمِرّ إذَن علي ما نحن عليه من عبادة آلهتنا كما كان آباؤنا فإنهم لم يتركوا دينهم بسبب ما أصابهم من أيِّ ضَرَّاء بل أصَرُّوا علي ما هم فيه!!.. وفي هذا بيانٌ لحالهم السَّيِّء حيث عدم المبالاة والاستهتار والاستمرار بكل إصرارٍ علي التكذيب وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. ".. فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ عاقبناهم بالعذاب الدنيويّ – قَبْل الأخرويّ – فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه.. إنه عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)" أيْ ولو أن الناس في البلاد صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، واتّقَوْا أيْ وخافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، لو أنهم فعلوا ذلك لأعطيناهم ووَسَّعنا عليهم ويَسَّرنا لهم خيرات ورحمات كثيرات مُستمرّات مُتَزَايِدات مُسْعِدات مُيَسَّرَات بلا مَشَقّات من كل الجهات في كل شيء فيهم وحولهم، في عقولهم وأفكارهم وأجسادهم وقوّاتهم وطموحاتهم وصحبتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم وحياتهم حولهم من مطر ونبات وثمار وأنعام وأرزاق وأمان وسلامة من آفات ومصيبات وأحزان وأمراض ونحو ذلك، ولَعَاشوا آمنين مطمئنين سعيدين مُنتفعين تمام الانتفاع بكل خيراتِ ربهم النافعة المُسْعِدَة في كل شئون حياتهم بكل لحظاتها، وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه.. إنَّ هذا بيانٌ لجَنّاتِ وسعاداتِ الحياة الدنيا التي يَعِدُهم بها الله تعالي الذي لا يُخْلِف الوَعْد أبداً والتي سيَعيشون فيها لو عملوا بكل أخلاق الإسلام حيث كل خيرٍ ورزقٍ وأمنٍ وسعادة، إضافة بالقطع إلي وَعْدهم بجنات وسعادات الآخرة.. وخلاصة القول أنهم سيَعيشون حتماً دائماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)" أيْ ولكنهم لم يؤمنوا ولم يَتّقوا فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ عاقبناهم بعذابٍ دنيويّ – قَبْل الأخرويّ – بسبب وبمقدار ما كانوا يعملون من سوء.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم
ومعني "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)"، "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)"، "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)" أيْ هل اطمأنَّ الناس في البلاد، العُصَاة منهم، الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، الذين عرفوا الإسلام ووَصَل إليهم ولم يُسلموا أو أسلموا ولم يَعملوا بأخلاقه، أن لا يَصِلَ إليهم عذابنا الدنيويّ في مُقابل وبمِقْدار سُوئِهم بياتاً وهم نائمون أيْ بائِتين أيْ وهم أثناء نومهم بالليل أو بالنهار، والمقصود أنه يأتيهم وقت استرخائهم واطمئنانهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ والإيقاظ لهم.. أيْ وكذلك هل هم آمِنون مِن أنْ يَصِلَ إليهم عذابنا نهاراً وهم في حال انشغالهم بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين؟! هل أَمِنُوا وهم قد فَعَلوا ما يَسْتَحِقّون عليه هذا العذاب؟!.. والمقصود أيضا أنه يأتيهم وقت انشغالهم بأعمالهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم، مِثْل أثناء بَيَاتِهم كما في الآية السابقة، وهذا يُفيد أنَّ العذاب واقعٌ بهم حتماً بكل تأكيدٍ لأنهم إنْ أَمِنُوا وقتاً فلن يَأمنوا الآخر.. "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الذمِّ والإيقاظ لهم.. أيْ هل أَمِنُوا النجاة من مكر الله أيْ مِن تدبيره العقاب والعذاب لهم بما يُناسبهم من حيث لا يشعرون والذي يَخْفَىَ عليهم وعلى الناس جميعاً ما هو وكيفيته وتوقيته؟! أيْ يكون فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه.. إنه عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. ".. فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)" أيْ فإنه بالتأكيد لا أحد يأمن أيْ يَسْتَشْعِر الأمان والطمأنينة فلا يَحذر تدبير الله له بعقابه فجأة من حيث لا يَشْعُر بما يُناسبه من عذابٍ دنيويّ وأخرويّ في مُقابِل شروره ومَفاسده وأضراره ويستمرّ ويُصِرّ عليها بلا أيِّ توبةٍ مُتَجَاهِلاٍ حُدُوثَ عذابه أو غافِلاً مُنْشَغِلاً عنه أو مُعتمداً علي رحمة الله له أو كان كافراً أيْ مُكَذّباً به أصلاً أو ما شابه ذلك إلا كان حتماً من القوم الخاسرين فإنه لا يفعل ذلك إلا هم لأنه سيُعَذّب قطعاً ببعض العذاب في دنياه ثم سيَستكمله بما هو أشدّ منه في أخراه إنْ لم يَتُب.. إنه سيَخسر بسبب استمراره علي سُوئه وبعدم اتّعاظه بما حَدَثَ ويَحْدُث من عذابٍ لأمثاله.. إنَّ أمثال هؤلاء هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)" أي وهل لم يَتَبَيَّن ويَتَّضِح لهؤلاء الذين يعيشون على الأرض التي ورثوها مِن بعد أهلها السابقين المُهْلَكِين الذين عُوقِبُوا وعُذّبُوا بسبب معاصيهم، ففَعَلوا مِثْلهم، أننا لو نريد – أيْ حتماً في قُدْرتنا – أنزلنا بهم العقاب وعَذّبناهم بسبب ذنوبهم هم أيضا كما أنزلناه بأولئك المُهْلَكِين؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. فلْيَتَّعِظ إذَن هؤلاء الأحياء الذين يَرِثون مَن قَبْلهم ولا يَفعل أحدٌ منهم مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم ولْيُحسن التعامل مع هذا الميراث واستخدامه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد به في الداريْن.. ".. وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.." أيْ وكذلك لو نشاء نطبع علي عقولهم بسبب هذا، أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)" أيْ فهم بالتالي لذلك، بسبب إصرارهم علي سُوئِهم هذا، لا يستمعون لنصائح ووصايا الإسلام سماع تَعَقّل وتَعَمُّق وتَدَبُّر فينتفعون بما يسمعونه ويعملون به لكي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أي كأنهم لم يسمعوا شيئا! وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. وفي هذا مزيدٌ من الذمّ واللّوْم الشديد لهم ولأمثالهم والتحذير مِن التَّشَبُّه بهم لتَجَنُّب تعاساتهم في الداريْن
ومعني "تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)" أيْ تلك البلاد التي سَبَقَ ذِكْرها، كقُرَىَ قوم نوحٍ وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرها، والتي أهلكناها بسبب تكذيبها وعنادها واستكبارها واستهزائها وفِعْلها الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارها عليها بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوع عنها لربها ولدينها الإسلام، نَقَصُّ أيْ نَذْكُر ونَرْوِي لك يا رسولنا الكريم ولكل مسلمٍ ولكل عاقلٍ بعض أخبارها، لْيَتَّعِظ بها مَن يريد الاتّعاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم بل يفعل كلّ خيرٍ ويترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعد بذلك في دنياه وأخراه، ولتكون قصصها طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.." أيْ وليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.." أيْ فلم يكن من حالهم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم بما كانوا قد كَذّبوا به قبل رؤيتها منهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)" أيْ هكذا دائما، وبمِثْل ذلك الطّبْع الشديد المُحْكَم الذي طَبَعَ الله به على عقول أهل تلك القرى المُهْلَكَة التي سَبَقَ ذِكْرها، يَطبع الله علي عقول الكافرين حالياً ومُستقبَلاً في أيِّ زمانٍ ومكان، وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشكلة ليست في البَيِّنَات وفي كثرتها أو قِلّتها وإنما في عقولهم هم!!
ومعني "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)" أيْ وما كان لأكثر هذه الأمم التي نُعاقبها ونُهلكها بسبب تكذيبها وفِعْلها للسوء وإصرارها عليه أيّ وفاءٍ بعهدٍ ولذا استحقوا ما يُناسبهم من العقاب والعذاب والإهلاك، أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)" أيْ وكان أكثرهم خارجين عن طاعة الله والإسلام فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار فاسْتَحَقّوا ما يَحِلّ بهم من عذابٍ دنيويّ ثم أخرويّ.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته (ص) في سورة البقرة والمائدة وطه والشعراء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)" أيْ ثم أرسلنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين سَبَقَ ذِكْرهم رسولنا الكريم موسي بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. بعثناه إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها ومَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَظَلَمُوا بِهَا.." أيْ فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر أيْ التكذيب بها والعِناد لها والاستكبار عليها والاستهزاء منها حيث أتعسوا ذواتهم وأتعسوهم بعدم الاستجابة لها وببُعْدهم عن ربهم ودينهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستحقّوا بذلك عقابه تعالي بتعذيبهم وإتعاسهم بل وإهلاكهم لَمَّا أصَرُّوا علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوع له ولإسلامهم.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُفْسِدين – أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المفسدين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)" أيْ وقال موسى لفرعون مُحَاوِرَاً مُبَلّغَاً إيّاه ومَن حوله إني مَبْعُوث من الله رب العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، وذلك لكي أدعوكم إلى الله والإسلام لتسعدوا به في دنياكم وأخراكم.. وهذا يعني ضِمْنَاً أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه
ومعني "حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)" أيْ حقٌّ وواجبٌ عليَّ ألاّ أقول على الله إلاّ الصدق في كل ما أبلّغكم به لأنه إذا كان هذا مقامه أنه رب العالمين وأنا قد اختارني رسولاً له إليكم فواجب عليَّ أن لا أكذب عليه لأني لو قلت غير الحقّ عاقبني وأهلكني فوراً لأنه حتماً لن يسمح لرسوله أن ينشر كذباً وسوءاً أو لأحدٍ أن يَدَّعِيَ كذباً أنه رسوله من غير أن يمنعه! وهذا الذي قاله موسي (ص) من المُفْتَرَض أن يجعلهم يثقون فيه ويستجيبون له ويُسْلِموا.. ".. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ وقد أحضرتُ لكم آية من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسولٌ منه وصِدْق ما أبلّغكم به، والمقصود المُعجزات التي أيَّدَه الله تعالي بها وأهمها تَحَوُّل عصاه عند إلقائها إلي ثعبان حقيقيّ وليس وَهْمَاً كما يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم.. ".. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)" أيْ فأطْلِق يا فرعون معي بني إسرائيل وحَرِّرهم من أن يكونوا عبيداً لك واتركهم ليخرجوا أحراراً من تحت حُكْمك ليذهبوا معي إلي بلدٍ آخرٍ غير بلدكم يمكنهم فيها عبادة ربنا وربك، فاتركهم ليأتوا معي إلي عبادة الله تعالي وحده ولا تمنعهم من ذلك، أطلقهم وغيرهم مِمّن تستعبدهم من أهل مصر ليخرجوا من حياة العبيد والذلّة والتعاسة معكم إلي حياة الأحرار والعِزّة والسعادة التامّة في الداريْن مع الله والإسلام.. وهكذا هو حال الدعاة دائما بعد الرسل الكرام مع مَن حولهم، إعزازهم وتحريرهم من الشرّ وتوصيلهم إلي الخير وإسعادهم فيهما
ومعني "قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)" أيْ قال فرعون لموسي إنْ كنتَ قد حضرتَ بمُعجزةٍ تشهد بصِدْقك مِن عند مَن أرسلك كما تَدَّعِى فأحْضِرها لتُثْبِتَ بها صِدْقك إنْ كنتَ من الصَّادِقِينَ فيما تَدَّعِيه أنك رسولٌ من ربِّ العالمين وأنك لا تقول إلا الحقّ
ومعني "فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)"، "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)" أيْ فرَمَيَ موسي عصاه التي يَرْتَكِز عليها فإذا هي تَتَحَوَّل إلي ثعبانٍ واضحٍ يَتَبَيَّن لمَن يراه أنه حقيقيٌّ ضخمٌ يتحرّك وليس وَهْمَاً كما يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم.. "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)" أيْ وأخرج يده من جيبه بعد أن أدخلها فيه فإذا هي شديدة البياض علي غير العادة كأنَّ لها ضياءً للناظرين إليها مِمَّن حوله، فإذا أدخلها فيه مرة أخري عادت لطبيعتها
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)"، "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حول فرعون – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا إنَّ هذا أيْ موسي بالتأكيد ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر، قاصدين بذلك إبعاد الناس عن تصديق أنه رسول من عند الله تعالي مُؤَيَّدٌ بمعجزاتٍ منه وعن التفكير في الحقّ الذي جاء به إضافة لتحريض فرعون والجميع عليه للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحهم ومناصبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا، رغم أنهم في زمنٍ كَثُر فيه السَّحَرَة ويعلمون تمام العلم هم وفرعون أنَّ تَحَوُّل العصا ليس بسحرٍ مُطلقا.. "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)" أيْ ولم يَكْتَفُوا بهذا القول الكاذب الذي قالوه أنَّ موسي ساحرٌ عليمٌ بل بدأوا يُثيرون الناس ضِدَّه ويُخَوِّفونهم منه ليَقِفوا فى وجهه ويمنعوه من نشر الإسلام فقالوا يريد هذا الساحر أن يخرجكم من بلدكم وطنكم وينهب منكم مُلْككم وسلطانكم علي أرضكم وممتلكاتكم ويكون هو السلطان عليكم يتحكّم فيكم وفي خيراتكم ويَستعبدكم، فماذا تأمرون لتَجَنُّب هذا الخطر الشديد؟ أيْ فما رأيكم وبماذا تُشيرون في أمر التخلّص منه؟ وهذا التساؤل قد يكون منهم استكمالا لكلامهم وتحذيرهم أو من كلام فرعون أو منهما الاثنين معا أثناء تحاورهم لتحضير خططهم ضدّه.. إنَّ هذا هو دائما أسلوب المُسْتَبِدِّين وأعوانهم، الخِداع والقَهْر والقمع، ليظلّوا حاكِمين ناهِبين لثروات وجهود الشعوب، لكنَّ الشعوب بلجوئها لربها وتمسّكها وعملها بأخلاق إسلامها وتَوَحّدها وصبرها ومقاومتها تَغْلِب الظالمين دَوْمَاً كما يُثْبِت التاريخ ذلك
ومعني "قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)"، "يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)" أيْ قال الملأ من قوم فرعون مُشِيرين عليه: أخِّر وأجِّل أمره وأمر أخيه الذي يعاونه في دعوته ولا تتعجَّل بالقضاء والبَتِّ في شأنهما وماذا تفعل فيهما، أيْ أشاروا عليه بتأخير المُواجَهَة معهما بعض الوقت وخلال هذه الفترة يبعث أعوانه إلي كل المدن من أجل أن يحشر أيْ يجمع منها الناس وكل ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر حتي يكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحرٍ مِثْله وأشدّ فينكشف أمره أنه ساحر لا رسول ويتّضِح كذبه للجميع فلا يَتّبِع أحدٌ الإسلام الذي يدعوهم إليه.. هذا، وطَلَب المَشُورَة وأمْهَر السَّحَرَة يَهْدِم عند كل عاقلٍ فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي لأنه لو كان كذلك لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا استشارةٍ ولا مساعدةٍ من أحد!!
ومعني "وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)"، "قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)" أيْ وحَضَرَ السحرة لفرعون قالوا له هل لنا أجر إنْ كنّا نحن المُنتصرين؟! قال بلا تَرَدُّد لشدَّة احتياجه إليهم نعم، لكم أجر ماديّ عظيم لو انتصرتم عليه وآخر معنويّ فإنكم ستكونون بالتأكيد من المُقَرَّبين مِنّا تنتفعون بهذه المَنْزِلَة القريبة لنا من مناصبنا وخيراتنا وإحساناتنا عليكم، وهذا لمزيدٍ من تشجيعهم ليبذلوا أقصي طاقاتهم ومهاراتهم لمواجهة موسي (ص).. إنها صفقة تبادل منافع وتعاون ضدّ الإسلام لمنع انتشاره!! وهي صفقات تَحْدُث في كل عصرٍ حيث يتعاون أهل الباطل ضد أهل الحقّ والذين هم حتماً المنتصرون بتأييد الله تعالي لهم كما يثبت الواقع ذلك دائما.. إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين كالآيتين السابقتين تَدُلّان علي مزيدٍ من هَدْم فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي عند كل عاقلٍ لأنه ظَهَرَ ضعيفاً مُحتاجاً للسحرة فلو كان ربّاً لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا مساعدةٍ!! كما تُظْهِران أنّ السحرة يعلمون تماماً أنه ليس بربهم ولكنهم يُسَايِرونه خوفاً من بَطْشه بهم وانتفاعاً منه وأنهم كاذبون دَجَّالون إذ لو كان سِحْرهم حقيقياً يُغَيِّر الأشياء حقيقة لحَوَّلوا مثلاً التراب ذهباً ولَمَا احتاجوا أجراً منه بل ولَنَقَلوا مُلْكه إليهم وأصبحوا هم الملوك وهو عَبْدهم!!
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)" أيْ فلمَّا حَضَروا مع موسى (ص) بحضور الناس بعد الوعود التي وُعِدُوا بها قالوا له إظهاراً لثقتهم التامّة بأنهم غالبون وإرضاءً لفرعون وتَحَدِّيَاً له وتَعَالِيَاً عليه واستهانة به وغروراً بقُدْراتهم لك أن تختار إمّا أنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما معك من سِحْرٍ وإمّا أن نكون نحن البادئين بالإلقاء ففي كلتا الحالتين نحن على ثقةٍ كاملةٍ من هزيمتك
ومعني "قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)" أيْ بفِطْنَة النّبُوَّة وبوَحْيٍ من الله تعالي وتوفيقٍ منه طَلَبَ موسي (ص) منهم البدء ليستكشف ما عندهم وليكون تأثيره أقوي علي الناس حينما يُلقي هو عصاه في النهاية فتقضي علي كل أسحارهم، فقال لهم مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم ألقوا أنتم سِحْركم أولا، فلمّا ألقوه خَيَّلُوا إلى أبصار الناس ومَوَّهُوا عليهم أنَّ ما فعلوه حقيقة وما هو إلا خيال، وهكذا هو السِّحْر ما هو إلا أوْهام وتَخَيّلات ليست حقيقية يقوم بها الساحر تُؤَثّر علي عقل مَن يراه فيَتَوَهَّم بوجودها، واسْتَرْهَبُوهم أيْ وخَوَّفوهم خوفاً شديداً بسبب قوة تأثير سِحْرهم، وقاموا بسحرٍ قويٍّ كثيرٍ مظهره كبير وتأثيره في أعينهم وعقولهم ومشاعرهم شديد ولم يوجد له مَثِيل في هذا المجال
ومعني "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)" أيْ وحينئذ أبْلَغنا إلي موسي أن ارْمِ عصاك فإذا هي تبتلع بسرعةٍ ما يفعلون من إفكٍ أيْ كذب، لأنَّ السحر ما هو إلا بعض حركات خفيفة سريعة يقوم بها الساحر بعد أن يتدرَّب عليها يمكنه بها أن يُحْدِث بعض تَهَيُّئات عقلية كاذبة ليست حقيقية فيمَن يشاهده ويخدعه بها وليس أكثر من ذلك.. وفي هذا بيانٌ أنَّ أيَّ إفكٍ يُخيف الناس يَسقط دائما سريعا أمام الحقّ بقُدْرة الله تعالي القادر علي كل شيء، وأنه سبحانه هكذا دوْمَاً يُثَبِّت الصالحين الدعاة لله وللإسلام في كل مواقف حياتهم ما داموا دائمي التواصُل معه والتوكّل عليه
ومعني "فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)"، "فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)" أيْ فحَدَثَ وظَهَرَ الحقّ للجميع أنَّ موسي ليس ساحراً بل رسول من ربّ العالمين بصدقٍ كما يقول وأنَّ ما يدعوهم إليه من إسلامٍ هو بالفِعْل الصدْق الذي يُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، وكان الدليل علي ذلك أمامهم جميعاً قاطِعَاً حاسِمَاً، وانتهي وزالَ ما كانوا يعملون من كذبٍ وخِداعٍ بواسطة سِحْرهم.. "فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)" أيْ فهُزموا عند ذلك الوقت والمكان، أيْ فرعون ومَلَؤُه وقومه وسَحَرَتُه ومُؤَيِّدُوه، ورَجعوا ذليلين مُنْكَسِرين مُنْهَزِمين أمام ظهور الحقّ.. وهكذا الحقّ دائماً ينتصر وأهله ينتصرون، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه تعالي مناسباً مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم وللكوْن كله، حينما يُحسنون اتّخاذ أسباب النصر بكل ما استطاعوا
ومعني "وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)"، "قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)"، "رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)" أيْ وأُسْقِطَ السَّحَرَة ساجدين سريعاً لله تعالي علي جباههم بلا أيِّ تَرَدُّدٍ لأنهم علموا أنَّ مَا حَدَثَ ليس سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك، ولفظ "أُلْقِيَ" يُفيد كأنَّ أحداً قد ألقاهم وهو الحقّ المُبْهِر الذي حَدَثَ أمامهم والذي أيقظ إيمانهم الفِطْريّ بعقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) بأنْ أزالَ الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهكذا سيكون حال كل مَن ابتعد عن الله والإسلام إذا أزاحَ هذه الأغشية بأنْ أحسنَ استخدام عقله وعادَ لنداء الفطرة بداخله فإنه لابُدَّ أن يهتدي لربه ولدينه وأن يسعد بذلك تمام السعادة في الداريْن.. لقد سَجَدوا قائلين آمَنّا أيْ صَدَّقنا بربّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، وقولهم هذا يعني أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه هو أيضا أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه.. ثم قالوا بعدها واصِفِين مُحَدِّدِين إيَّاه بأنه هو ربّ موسي وهارون كمزيدٍ من التوضيح والتأكيد علي إيمانهم بالله تعالي حتي لا يَتَوَهَّم فرعون أو غيره أنهم يؤمنون به أو هم قد سجدوا له حيث هو يعتبر نفسه ربّ العالمين!!
ومعني "قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)" أيْ حينها اشْتَدّ غضب وغَيْظ الطاغية المُسْتَبِدّ فرعون حيث ظهرت هزيمته التامّة أمام الناس الذين يَتَوَهَّمون أنه ربهم وكان يَخدعهم دائما بذلك فانكشف أمره وضعفه بل وذِلّته، فأراد أن يُعَوِّض هذا النقص الذي أصابه بإلقاء التشكيكات والتهديدات!! لقد أصابه الخوف علي مُلْكِه، إذ كيف يؤمنون بربٍّ غيره ثم بعدها لا يعتبرونه مَلِكَاً عليهم ويُزيحونه ويأتون بغيره؟! لقد صُدِمَ بهذا صَدْمَة شديدة لأنه اعتاد أنَّ الجميع عبيدٌ له لا يتحرّكون ولا حتي يفكّرون إلا فيما يأمرهم ويأذن ويسمح لهم أن يتحرّكوا أو يفكّروا فيه!! إنَّ هذا هو دائما حال المُسْتَبِدِّين المُستكبرين، إنهم ما يزدادون بالآيات الواضحات إلا عناداً ومحاربة لله وللإسلام وللدعاة إليهما، من أجل الحفاظ علي مُلْكهم حتي لا يضيع لأنه لو أسلم الناس وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لن يستطيع خداعهم ونهب خيراتهم وثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام يُعَلّمهم حفظ حقوقهم والآخرين والدفاع عنها وحُسن اختيار رؤسائهم وأن يكون أمرهم شوري بينهم دائما في كل شئون حياتهم لا بأمر واحدٍ فقط هو حاكم عليهم بالقوة يَظلمهم ويذلّهم ويَسرقهم.. لقد قال لهم رافضاً فِعْلهم ذامَّاً مُهَدِّدَاً هل آمنتم أيْ صَدَّقتم به أيْ بالله وبموسي وبما جاء به من إسلامٍ قبل أن أعطيكم الإذن بذلك؟!.. ".. إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا.." أيْ إنَّ هذا الفِعْل الذي فعلتموه هو بالتأكيد تدبير دَبَّرْتُمُوه مع موسي وأنتم لا زلتم في المدينة قبل أن تأتوا للساحة التي أقيم فيها هذا المشهد وليس لقوة دليله حيث اتفقتم مُسبقاً علي أن تنهزموا أمامه وينتصر هو فتَتّبعوه ثم يتّبعكم الناس وهدفكم الأخير السَّيِّء هو أن تخرجوا أهل البلد منها لتنفردوا بخيراتها أنتم وموسي وأهله بني إسرائيل، وهو يعلم تماما أنهم لم يَروا موسي من قبل إلا في هذا الموقف وأنهم بذلوا أقصي جهدهم حتي انهزموا وتَبَيَّن لهم الحقّ فاتّبعوه بما يدلّ علي شدّة كذبه ولكنّه يهدف من هذا القول تشكيك الناس في أنَّ إيمان السحرة ليس عن قوة دليل موسي وإنما عن مُؤَامَرَة معه حتي لا يؤمنوا هم أيضا إضافة إلي تخويفهم أنه والمؤمنين معه يهدفون إلى إخراجهم من أوطانهم وبالتالي فعليهم أن يتمسّكوا بشدّة بدينهم والذي هو عبادة فرعون وأن يُعادوهم ويَمنعوهم من نشر إسلامهم الذي سيكون ضَرَرَاً عليهم بإخراجهم وتَرْك ممتلكاتهم، وهذه دائما هي وسيلة المُسْتَبِدِّين حينما يرون وَعْي الناس يزداد وقد يتمسّكون ويعملون بأخلاق إسلامهم ويطالبون بحقوقهم يبدأون في خداعهم وتصوير أنَّ ما يحدث من ظهور الحقّ وانتشاره ما هو إلا مؤامرة عليهم، وليس علي المُستبدين، فهُم من أنْزَه الناس الزاهدين في المُلْك ولا يريدون إلا مصلحتهم وخدمتهم وحفظ استقرارهم واستقلالهم وممتلكاتهم!! وأيّ استقرارٍ واستقلال وأملاك يقصدونها مع كل هذا الاستعباد والذلّ والفقر الذي أوجدوهم فيه بسبب سوء حُكْمهم واستبدادهم وظلمهم؟! إنه أسلوب خبيث لمَنْعهم من اتّباع الإسلام وعليهم أن ينتبهوا له.. لكنَّ البعض مِن شدّة خوفهم ومن طول اعتيادهم وتربيتهم علي الذلّة يُصَدِّقون ذلك! بل والبعض من أصحاب المصالح الفاسدة المُقَرَّبين للمُستبدين الخائفين أيضا علي مصالحهم يُهَلّلون لهم ويساعدونهم ويشكرونهم!!.. ".. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)" أيْ فسوف تَرَوْن ما سأفعل بكم نتيجة لِمَا فَعَلْتم من سوء.. فهو كعادة الجَبَابِرَة يُهَدِّدهم بعذابٍ شديدٍ مُتَنَوِّعٍ سيُوقعه عليهم لمُخالَفتهم إيّاه
ومعني "لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)" أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما هَدَّدَهم بأنْ يُريهم إيّاه.. أيْ بالتأكيد سأُقَطّع أيديكم وأرجلكم أيها السحرة من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن أيْ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو اليد اليسرى والرجل اليمنى ثم لأعلّقنَّكم جميعاً أي كل واحدٍ منكم فلا أترك أيَّ أحدٍ على أخشابٍ علي شكل صليبٍ وأنتم علي هذه الحالة الفظيعة سواء كنتم أحياءً حتي تموتوا أو بعد موتكم لتكونوا عِبْرَة لمَن تُحَدِّثه نفسه بالكَيْد لنا أو بالخروج على حُكْمِنا وعبادتنا والإيمان بربّ موسي وهارون، بما يدلّ علي شدّة ظلمه وتَكَبُّره وقسوته مع أبرياء مثلهم لم يرتكبوا أيّ جريمة إلا إيمانهم بربهم خالقهم.. هذا، وعند بعض العلماء أنّ الله تعالي قد نَجّاهم منه بزرع الرَّهْبة في داخله وانشغاله عنهم وذلك لقوله تعالي في آية أخري ".. فَلَاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" (القصص:35)
ومعني " قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)" أيْ فنَطَقَت فطرة العقل، فطرة الإيمان بداخل هذا العقل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لمَّا رأيَ السحرة الحقّ واستفاقوا، فأحسنوا استخدام عقولهم، قالوا كأفضل مؤمنٍ ثابتٍ يقف في وجه الباطل والظلم ما استطاع ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كَتَبَ الله له، وأنّ الأمر في سبيل الله، وله أجره العظيم علي إحدي الحُسْنَيَيْن، إمّا النصر وإمّا الشهادة، قالوا لفرعون ومَن حوله إنا إلي ربنا راجعون، إلي نعيمه وجنته ورحمته التامّة أفضل من إذلالك وظلمك.. إنهم بذلك يُعْلِنون أنهم مُستعدّون لكل شيءٍ ولا يخافون الموت لأنه استشهاد في سبيل الله ولا يخافون فرعون وما يصدر عنه بل يستهينون به، وذلك لأنهم يطمعون في تحصيل ما عند ربهم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)" أيْ وأنت لا تكره مِنّا وتعِيب علينا شيئاً سَيِّئاً تعتبره أنت نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومصيبة لك؟! إنك لا تعيب علينا وترفض مِنَّا إلا خيراً عظيماً بل وتنتقم مِنّا بسببه! إلاّ أنْ آمَنّا أيْ صَدَّقنا بآيات ربنا – أيْ مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لمَّا وَصَلَت إلينا مع رسوله الكريم موسي، وهي المُعجزات التي رأوها حَدَثَت أمام الجميع علي يده وأكّدَت صِدْقه والتي من المُفْتَرَضِ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُؤمن بها ويَعمل بأخلاق الإسلام التي يُدْعَيَ إليها ليسعد في الداريْن.. إنَّ ما تعتبره ذَمَّاً لنا وعَيْبَاً فينا ومُسْتَحِقّاً لكراهيتك لنا هو علي العكس تماما فخر لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. وفي هذا تذكيرٌ له بخطئه لعلّه يستفيق ويُصَحِّحه.. ".. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.." أيْ بعد حديثهم له تَوَجَّهُوا لله تعالي بالدعاء ليُؤَيِّدهم قائلين يا ربنا أَفِضْ واصْبُبْ علينا صبراً كثيراً غزيراً تامَّاً يَعُمّنا ويُحيطنا ويَملأنا تماماً ثقة بنصرك وصُمُودَاً وتَحَمُّلاً للشدائد.. ".. وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن نكون مسلمين علي دين الإسلام لا علي أيِّ دينٍ آخرٍ عندما تتوفّانا وتَقْبِض أرواحنا وتنهي آجالنا في دنيانا، أيْ مُسْتَسْلِمين لوَصَايَاك وتشريعاتك أيْ مُتمسّكين عامِلين بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتنا ثابتين دائما عليها مُخْلِصين مُحْسِنين أثناء ذلك، والمقصود ضِمْنَاً طَلَبَ الاستمرار عليها دون أيّ تراجعٍ حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)" أيْ وبعدما حَدَثَ من نصرٍ ساحِقٍ للحقّ، للصدق والخير، لموسي وهارون وللإسلام بإسلام السَّحَرَة وكثيرٍ مِمَّن كانوا حاضرين، وهزيمة ساحِقَة مُذِلّة للباطل، للكذب وللشّرّ، لفرعون ومُؤَيِّديه، قال الملأ من قوم فرعون أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حول فرعون – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا قاصِدِين تحريض فرعون والجميع علي موسي للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحهم ومناصبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا، أتَذَر أيْ هل تترك موسي وقومه من بني إسرائيل الذين آمنوا معه بالله واتّبعوا الإسلام ليُفسدوا في الأرض التي تحكمها من خلال تغيير دين أهلها ليعبدوا الله وحده ويعملوا بأخلاق دينه الإسلام ويَذَرَك وآلهتك أيْ ويترك عبادتك وعبادة آلهتك فيَظْهَر لهم ضعفك وضعفهم فيضعف بالتالي مُلْكك وتفقده وينتقل إليهم؟ حيث كان قد صَنَعَ للناس أصناماً صغاراً وجعلها آلهة منه لهم وأمرهم بعبادتها تَقَرُّبَاً إليه وسَمَّيَ نفسه هو الربّ الأعلى لها ولهم!!.. وكان أحيانا يَتّخِذ بعض الكواكب آلهة له يعبدها هو وبعضهم.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح فاسداً مُفْسِدَاً!!.. ".. قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ.." أيْ قال فرعون الطاغِيَة المُسْتَبِدّ الظالِم مُطَمْئِنَاً لهم أنه سيَتّخِذ من الإجراءات ما يَحمي به مُلْكه ومصالحهم والتي هي إجراءات قَمْعِيَّة لاإنسانِيَّة يَفعلها غالباً كلّ طاغية لحماية سلطانه وما يَنْهَبه بغير حقّ خاصة عند شعوره بضعف حُكْمه واهتزازه، سنقتل أبناءهم كلّما أنْجَبوا لإضعاف قوّتهم فلا يُطالِبون بحقوقهم ويَثورون علينا ونَسْتَحِيي نساءهم أيْ نُبْقيهنَّ أحياءً للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندنا.. هذا، ولم يَقُل سنَقْتُل موسى لعِلْمه أنه لا يَقْدِر عليه بل كان يخافه خوفاً شديداً بعدما رأيَ معجزة انقلاب العَصَيَ لثعبانٍ قد يهلكه إذا سَلّطه عليه.. ".. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي قُدْرته على ذلك وإذلاله لهم ومزيدٌ من الطمْأَنَة للملأ حوله الذين خافوا علي مصالحهم بعدما حَدَث.. أيْ ونحن أعلي منهم غالِبون مُذِلّون لهم مُسيطرون عليهم بحُكْم المُلْك والسلطان نستطيع استئصال من نريد وإبقاء من نريد مَذْلُولِين مَقْهُورِين كما كنّا ما تغير شيءٌ من حالنا فهم الضعفاء الأذِلّاء ونحن الأقوياء الأعزاء فلا خروج لهم عن حُكْمِنا ولا قُدْرَة لهم علي ذلك
ومعني "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)" أيْ حينها يُوصِي الرسول الكريم موسي (ص) قومه بني إسرائيل الذين آمنوا معه بأفضل علاجٍ في مِثْل هذه المواقف وغيرها والذي ليس له بديل والذي علي كل مسلم أن يعمل به دائما مع مزيدٍ منه إذا حَدَثَ له ما يُسِيء ويُخيف، يُوصِيهم بالاستعانة بالله وبالصبر.. أي قال موسي لقومه مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً اطلبوا عوْن الله وتأييده بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبه والتوكّل أي الاعتماد عليه في كل شئونكم فهو سيُعينكم حتماً إمّا مباشرة بتقويتكم وإمّا بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه القادر علي كلّ شيءٍ العالِم به.. ".. وَاصْبِرُوا.." أيْ وكونوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد يصيبكم أحيانا من أذي مِمَّن تدعوهم، وكونوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وإنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ( برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.." أيْ فإنَّ هذه الأرض كلها مِلْكٌ لله وحده خالِقها لا لفرعون ومَلَئِهِ أو غيرهم وهو تعالي يُعطيها ويُمَلّكها لمَن يشاء مِن خَلْقِه كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، علي حسب حِكْمته وعِلْمه وإرادته بما يُصْلِح الناس ويُسعدهم، وسيُوَرِّثها لكم حتماً وسيُنْهِي سُلطان الظالمين إنْ استعنتم به وصَبَرْتم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسباً مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم.. ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)" أيْ وبكل تأكيد فالعاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً للمتّقين أي للذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)" أيْ قال بنو إسرائيل لموسي (ص) مُسْتَشْعِرِين الحُزْن والضعف وبعض التّمَلْمُل البَشَرِيّ والاسْتِبْطَاء لتَحَقّق الوعد لهم بالنصر والتمكين مُشْتَكِين له ليدعو الله لهم ليُقَوِّيهم وليُنَجِّيهم وليَنْصرهم، لأنهم كانوا حديثي عهدٍ بالتّعامُل مع الله وعوْنه ونصره وتَوَهَمُّوا أنَّ وعود موسي ستتحقّق علي الفور وليس في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُحَقّقاً أفضل وأسعد نتائج لهم ولمَن حولهم، قالوا لقد آذانا فرعون سابقا باسْتِعْبادنا وتَسْخِيرنا في خدمته وبقتل أبنائنا واستحياء نسائنا من قبل أن تحضر إلينا كرسولٍ من الله بالإسلام حيث نجَّاك من محاولة قتله لك وأنت مولود بمعجزةٍ منه وأصبحتَ رسوله وكذلك الآن من بعد ما جئتنا يُحاول إعادة الأمر مرة أخري بإذلالنا وقتلنا كما فَعَلَ بنا ذلك الوقت، فقال (ص) مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً مُذَكّرَاً بطَلَب عوْن الله وتأييده بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبّه والتوكّل أي الاعتماد عليه في كل شئونهم فهو سيُعينهم حتماً لعل ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أنْ يُبيد عدوكم الذي يُعاديكم ويُؤذيكم ويَمنعكم من عبادته وحده واتّباع أخلاق دينه الإسلام ويَستخلفكم في الأرض بعد إبادته أيْ ويجعلكم خُلَفَاء له عليها لتَتَصَرَّفوا فيها وتُديروها بإحسانٍ فتنتفعوا وتسعدوا أنتم وغيركم بكل خيراتها، كما فَعَل مع السابقين الصالحين، ويجعل الإسلام الذي اختار هو نظامه للبَشَر ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم مُتَمَكّنَاً في الأرض أيْ ثابِتَاً قوياً مُنْتَشِرَاً ذا مَكَانَة وعِزَّة ورِفْعَة وتتمكّنوا أنتم وجميع الناس من فهمه وتَدَبُّره والعمل بكل أخلاقه لتسعدوا بذلك في الداريْن ويمنع عنكم أيّ خوفٍ بل ويُبْدَله لكم أمناً واستقراراً تامّيْن دائمَيْن دون أيّ ذرّة قَلَقٍ أو تَوَتّر أو اضطراب بحيث يمكنكم عبادة الله وحده بكل يُسْرٍ وأمان.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)" أيْ فيَرَىَ ما تعملون من خيرٍ أو شرٍّ في كل أقوالكم وأفعالكم، هل ستُحْسِنون فيها فيُحْسِن إليكم بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم أم تُسِيئون فيُجازيكم بما يناسب إساءاتكم بكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟ وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ لهم علي استشعار مراقبة الله تعالي علي الدوام فيَدفعهم هذا لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كما أنه تحذيرٌ وتنبيهٌ شديدٌ ألاّ يفعلوا مثل فرعون ومَلَئِه وأشباههم من كفرٍ وظلمٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار حتي لا يكون مصيرهم مثلهم فيتعسوا تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أنواع العذاب الذي عَذّب الله به آل فرعون بسبب ظلمهم وفِعْلهم للسوء ليكون عِبْرَة لكل مَن أراد الاعتبار فلا يَفعل مِثْلهم مطلقاً حتي لا يكون مصيره مثل مصيرهم فيتعس تعاساتهم في الداريْن.. أيْ ولقد عاقبنا قوم فرعون وهو معهم بجَدْبِ وقَحْطِ وشدّة السنين أيْ بجفافٍ من الماء لفتراتٍ وبيُبْسٍ للأرض فلا تُخْرِج زرعاً وبنقصٍ من الثمار والحبوب لنباتاتها حيث أصابتها الآفات وبضيقٍ وآلمٍ ومرضٍ وفقرٍ وجوعٍ وتعاسةٍ في المَعيشة عموماً في كل شئون حياتهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَذكّروا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان العاقل حتماً يُرَاجِع ذاته ويُصَحِّحها كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتذكّروا، لكي يتذكّروا ولا ينسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه دائماً ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك دوْمَاً مُتَذَكّرين لربهم بلا أيِّ نسيانٍ عابدين له وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)" أيْ فإذا وصلت إليهم من فضل الله وكرمه الحالة الحسنة التي يستحسنونها ممثلة في السلامة والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذريات والماليات والممتلكات وما شابه هذا، وكثيرا ما تكون هذه الحالة الحسنة، فبَدَلَ اتّعاظهم بالأحداث التي تَحْدُث حولهم من اختبارات الله تعالي لهم بالضَّرَّاء أحيانا أيْ بما يَضُرّ – كما في الآية السابقة – وبالسَّرَّاء أيْ بما يَسُرّ أحيانا أخري والتي تدعو كل عاقلٍ للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو خطأ وتَرْكه والشكر لله لِمَا هو صواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادته في دنياه وأخراه إذا بهم لم يستفيدوا لا بهذا ولا بذاك أيْ لم يَتذكروا ويتعظوا بالضَّرَّاء فيعودوا لربهم ولإسلامهم ولم يشكروا بالسَّرَّاء بل قالوا بكل جهلٍ وغَفْلةٍ وإنكارٍ لنِعَم الله ونسيانٍ له ولها وإغلاقٍ لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لنا هذه أيْ هذه الحالة الحسنة حق لنا ونستحقها بالتأكيد ونحن مستحقون تماما لها لما لنا من امتيازٍ على الناس بسبب علمنا وفكرنا وتخطيطنا وجهدنا وعملنا ناسين فضل الله عليهم وتيسيره لأسباب ذلك حولهم وكان من المُمكن منعها عنهم غافلين عن شكره على نِعَمه التي لا تُحْصَيَ فيُؤمنون به ويعملون بإسلامه ليزيدهم نِعَمَاً علي نِعَم.. ".. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.." أيْ وهذا مزيدٌ من البيان – كما في الآية السابقة (130) – لعدم تَذَكّرهم واتّعاظهم بالضَّرَّاء فيعودوا لربهم ولإسلامهم حيث الشدائد جعلتهم ينسبون أسبابها إلى غيرهم بَدَلَ أن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم رغم أنه من المُفْتَرَض أنَّ الشدّة تَجعل الإنسان العاقل حتماً يُرَاجِع ذاته ويُصَحِّحها كما يُثْبِت الواقع ذلك.. أيْ وإنْ حَدَث كاستثناءٍ للحالة الحسنة والتي هي أغلب أحوالهم، وأصابتهم سيئة مَا، أيْ حَدَث لهم شَرٌّ مَا، يتشاءموا بموسي وبمَن معه من المؤمنين وبوجودهم بينهم وبما يدعونهم إليه من عبادة الله تعالي وحده واتّباع أخلاق الإسلام ويعتبروا أنهم هم سبب ومصدر كل شُؤْم أيْ شرٍّ وتعاسة لهم وكلما رأوهم تَوَقّعوا نزول شرٍّ مَا بهم ولو لم يكونوا معهم لَمَا كان أصابهم مَا أصابهم!! فهم يُغْلِقون عقولهم عن أنَّ ظلمهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار هو الذي أدَّىَ بهم إلى ما نالهم لأنّ مَن يزرع سوءا لابُدَّ أن يحصد سوءاً في دنياه وأخراه كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. إنهم أيضا يَتَوَهَّمون أنهم بذلك يُشَكّكون الناس في الإسلام ورسوله الكريم موسي (ص) فلا يَتّبعه أحدٌ أو يَتّبعونه بتَشَكّكٍ وتَذَبْذبٍ!.. ".. أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ ليس الأمر كما تَصَرَّفوا من تَشَاؤمٍ من موسي والمسلمين لكنَّ تشاؤمهم مكتوب عند الله في علمه أنهم سيفعلون الشرّ وسيجدون في مقابله حتماً شرَّا، فحسبما يزرعون يحصدون، فليس موسي (ص) والمسلمون السبب.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)" أيْ ولكنَّ كثيراً مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون هذا ولذلك فَعَلُوا ما فَعَلُوا، أيْ لا يعقلون، أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)" أيْ وقالوا لموسي (ص) مهما تُحْضِر لنا من أيِّ دلالَة ومُعجزة تدلّ علي صِدْقك أنك رسولٌ من ربك مُؤَيَّد منه وعلي صِدْق ما تُبِلّغنا به، سواء تَحَوُّل عصاك عند إلقائها إلي ثعبانٍ أو إخراج يدك من جيبك بيضاء كأنَّ لها ضياء أو أيِّ آيةٍ غير ذلك من أجل أن تسحرنا بها أىْ تَلْفِتَنا وتُبْعِدنا بها عمَّا نحن فيه فمَا نحن لك بمُصَدِّقين ولا للإسلام بمُتّبِعِين.. إنهم يعتبرون مُسبقاً أنَّ أيَّ آيةٍ مهما عَظُمَت فهي بالنسبة لهم سِحْر ووَهْم كما يُوهِم السَحَرَة بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم وبالتالي فلن تُؤَثّر فيهم بأيِّ هداية لأيِّ خير!! فهم لن يؤمنوا بأيِّ آيةٍ ولا به ولا بربّه ولا بدينه!! رغم علمهم أنَّ مَا يأتي به من آياتٍ ليست سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك ورغم أنهم قد رأوا أمامهم أمهر السحرة يسجدون له مؤمنين!!.. إنَّ هذا يدلّ تماما علي وصولهم لأقْصَيَ درجات غَلْق العقول والإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والاستمرار في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة مع كل هذا الإصرار علي الشرِّ بلا أيِّ بادِرَةِ خيرٍ منهم ليُعينهم الله عليها ويزيدها لهم أن أصابهم تعالي بمزيدٍ من العقاب لعلهم يستفيقون حيث الغَفْلَة العميقة تحتاج لإيقاظٍ أشدّ، ولم يستطع حينها فرعون مُدَّعِي أنه ربهم الأعلي أيّ إنقاذٍ لهم!!.. أيْ فبعثنا عليهم الطوفان وهو ما يَطوف بالشيء بصورةٍ شديدة والمقصود الماء الغزير المُهْلِك الذي خرج من الأرض ونزل من السماء وغمَرهم من كل مكانٍ فأضَرَّهم وآذاهم في نفوسهم ومساكنهم وزروعهم ودَوَابِّهم وتجاراتهم وممتلكاتهم، كما يُقْصَد بالطوفان أيضا الأمراض والأوْبِئَة العامة ونحوها.. وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأعشابهم وتَرَكَ أرضهم لا شيء فيها.. والقمل وهو النوع المعروف من الحشرات المؤذية التي تؤذي شعر الرأس والجسد وهو أيضا السُّوس الذي يأكل حبوبهم.. والضفادع التي آذتهم إيذاءً شديداً حيث مَلَأَت أنهارهم وصَعَدَت لكلّ مكانٍ في أرضهم وانتشرت داخل بيوتهم وأزعجتهم في معاشهم وكل أعمالهم وضايقتهم بأصواتها وحركاتها أثناء نومهم.. والدم أيْ أصبناهم ببعض أمراض الدم كالنزيف ونحوه أو أصبح ماء أنهارهم دَمَاً بموت كائناتٍ فيه فأصبحوا يشربون الدم ويستخدمونه لأغراضهم بَدَلَ الماء.. ".. آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ.." أيْ لقد كانت هذه دلالات ومُعْجِزات واضحات أصبناهم بها تدلّ علي صِدْق رسولنا الكريم موسي أنه رسولٌ من عندنا مُؤَيَّد مِنّا وعلي صِدْق ما يُبَلّغهم به من عبادتنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ ومن العمل بكل أخلاق إسلامنا ولا تلتبس على أيِّ عاقلٍ أنها بعض آياتنا حيث لا يَقْدِر عليها غيرنا وليست سِحْرَاً كما يَدّعون وهي بسبب غضبنا عليهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يزيلها عنهم إلا نحن بقُدْرتنا حينما يعودون لعبادتنا ولدينهم الإسلام.. هذا، ومن معاني مُفَصَّلات أيْ مُنْفَصِلات قد فُصِلَ بينها في أوقات حدوثها ولم تَحْدُث كلها في وقتٍ واحدٍ ليكون بين كلّ آيةٍ والأخري زمن لتَرْك فرصة لهم لعلهم يعودون للخير.. ".. فَاسْتَكْبَرُوا.." أيْ رغم كل هذه الآيات المُفَصَّلات تَرَفّعوا فاسْتَعْلُوا عن التصديق بها وتعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا ويؤمنوا ويعملوا بالإسلام بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي استكبارهم.. أيْ وأجْرَمُوا لأنهم استكبروا ولم يؤمنوا بهذه الآيات المُفَصَّلات.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن تأتيهم هذه الآيات قوما مجرمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يستكبروا ولا يؤمنوا بها ويَتَعَالوا ويَتَطاوَلوا علي الله ورسله وآياته وتشريعاته، فهم مُصِرُّون تماماً علي إجرامهم، والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)" أيْ وكلما حقَّ ووَجَبَ ونَزَلَ عليهم من عند الله الرِّجْز أي المُسْتَقْذَر أيْ الشّرّ والعذاب الدنيويّ السابق ذِكْره قالوا بتَذَلُّلٍ واستعطافٍ لشدّة تأثيره فيهم وتألّمهم به يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحقِّ ما أوْحَىَ به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة وبسبب ما وعدك به من استجابة الدعاء وبما علّمك وأودع عندك من الأسرار وبسبب عهده عندك وهو النبوة والكرامة أيْ أنك رسوله يستجيب لدعائك ويؤيدك ويُكرمك، أن يَرْفَع عنّا هذا العذاب الشديد.. وهذا اعترافٌ ضِمْنِيٌّ منهم بصِدْق موسي (ص) وبأنَّ فرعون ليس ربهم الأعلي كما يَدَّعِي لأنهم لو كانوا متأكّدين من ذلك للَجَأوا إليه ليُنقذهم لا إلي موسي الذي لا يُصَدِّقونه ويُعادونه!.. ".. لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)" أيْ نَعِدُك ونُؤَكّد لك أنه إذا أزَلْتَ عنّا العذاب سنُؤمن بالتأكيد لك أيْ نُصَدِّق بك ونُسْلِم وسنَبْعَث معك بني إسرائيل استجابة لطَلَبك ليكونوا أحراراً من تسخيرنا لهم ليَخرجوا معك من بلدنا إلي حيث تريدون بلا أيِّ اعتراضٍ أو مَنْع
ومعني "فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)"، "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)" أيْ لكنهم كاذبون، لا قَصْدَ لهم إلاّ زوال ما حَلَّ بهم من العذاب ولا يقصدون أن يؤمنوا، فلمّا أزَلْنَا عنهم العذاب إلي وقتٍ مُحَدَّدٍ هم واصِلون إليه بالتأكيد وهو الوقت الذي أُجِّلَ لهم أي الوقت الذي حَدَّدناه للعذاب التالي والذي هو الآية التالية من الآيات المُفَصَّلات التي سَبَقَ ذِكْرها كالطوفان ثم الجراد ثم القُمَّل وما بعدها من آياتٍ وذلك إذا لم يستجيبوا ويُسلموا بعد العذاب الأول لكي نترك لهم فُرْصَة من رحمتنا ليعودوا للخير بتنفيذ وعدهم وهو أيضا الوقت الذي حَدَّدُوه هم لموسي بعد أول عذابٍ لكي يؤمنوا إذا رُفِعَ عنهم ويُطلقوا بني إسرائيل أحرارا لا يسخرونهم لخدمتهم ويرسلوهم معه حيث شاءوا فإنهم لا يستمرّون حتي لنهاية هذا الوقت المُحَدَّد أيْ لا يستمرّون علي وعدهم يُفَكّرون ويَتَمَهَّلُون ويحاولون تنفيذه بل بمجرّد إزالة العذاب ينكثون أيْ يَنقضون عهدهم فلا يُوفون لموسي بشيءٍ فلا يُسلمون ولا يطلقون بني إسرائيل أحرارا!! فنُصيبهم بالعذاب التالي ليستفيقوا فيطلبون دعاء موسي فنكشفه عنهم وبمجرّد كشفه لا يوفون بعهدهم له بالإسلام وإطلاق بني إسرائيل، وهكذا، ولفتراتٍ طويلة، بما يدلّ علي شدّة كذبهم في وعدهم وإصرارهم التامّ علي إخلافه والاستمرار علي ما هم فيه من كفرٍ ومُرَاوَغَة، وبالتالي اسْتَحَقّوا هذا العذاب الحاسم المُهْلِك بعد طولِ دعوةٍ لهم وصبرٍ عليهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة) وهو "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)" أيْ فكذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أن انتقمنا منهم حين بَلَغُوا الأجل المُحَدَّد لإهلاكهم أيْ فعاقبناهم وعذّبناهم وأهلكناهم في الدنيا – قبل عذاب الآخرة – بأنْ أغرقناهم في البحر بسبب أنهم استمرّوا وأصَرُّوا علي أن كذّبوا بآياتنا أيْ لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسولنا الكريم موسي وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا والتي منها التوراة التي أوحيناها إليه – وآخرها القرآن الكريم – تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)" أيْ وبسبب أنهم كانوا عنها مُنْشَغِلِين تائهين غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِين أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)" أيْ ومِن فضلنا وكَرَمنا ورحمتنا ووفائنا بوعودنا التي لا نُخْلفها مُطلقاً أعطينا ومَلّكْنَا وحَوَّلْنَا ما كان فيه فرعون وقومه مِن نِعَمٍ بعد إهلاكهم إلي غيرهم مِمَّن يستحِقّونها مِن العابدين لنا وحدنا بلا أيّ شريكٍ المتمسّكين بأخلاق إسلامهم ليتصرّفوا فيها بالخير كما يشاؤون كالميراث الخالص لهم كما يمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، أورثنا القوم الذي كانوا يُسْتَضْعَفون وهم بنو إسرائيل وهم المؤمنون المُستضعفون المَظلومون الذين أذَلّهم فرعون وأعوانه بمصر التي يحكمها وأذاقهم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والمَهَانَة ونحوها والعذاب الجسديّ باستخدامهم عبيدا مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل وَصَلَ به التّعَاِلِي والتّعَدِّي والفجور أنه كان يذبح أبناءهم لإضعاف قوّتهم فلا يطالبون بحقوقهم ويستحيي نساءهم أي يُبقيهنّ أحياء للخدمة وليكنّ جواريِ عنده، أورثناهم مشارق الأرض ومغاربها – حيث بدوران الأرض وبحركة الشمس فإنها تُشرق في مكانٍ ثم آخر فلها إذَن مَشارق كثيرة يوميا وتَغْرُب في المقابِل في مَغارِب كثيرة – والمقصود أورثناهم المساحات الواسعة منها شرقاً وغرباً كمصر والشام وغيرهما والتي باركنا فيها أي أنزلنا عليها البركة وهي النموّ والزيادة في كل أنواع الخير النافع المُسْعِد بكل مجالات الحياة المختلفة في الأوقات والأرزاق والقُوَّات والسعادات.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ ولا يَتَشَبَّه بالكافرين الظالمين الفاسدين حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه بل يتشبه بالمؤمنين الصالحين ليسعد مثل سعاداتهم فيهما.. ".. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.." أيْ ولقد وَفّتْ ونَفَذَت كلمة ربك أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – ومَضَتْ وحَدَثَتْ واكْتَمَلَتْ علي بني إسرائيل تامّة كاملة وهذه الكلمة هي وَعْده لهم بالنصر والتمكين التامّ الكامل في الأرض حيث جعلهم أئمة أيْ قادة أعِزَّة سادة مُلوكاً يقودون مَن حولهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وجعلهم يرثون أملاك الظالمين وينتفعون ويسعدون هم ومَن حولهم بها، ومَكَّنَ لهم أيْ جعل لهم مَكانا ومُلكا ومَكَانَة ونفوذا وسلطانا يديرون به أرضا يعيشون عليها، يديرونها بشرع الله، أي بنظام الإسلام وبأخلاقياته (برجاء مراجعة الآيات (60) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها)، فينشرون كلّ خيرٍ وحقّ وعدل وسعادة لكل الأرض.. وكل ذلك ما داموا مُستمرّين علي الإيمان بربهم والتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم، فإن ابتعدوا عنهما فلا شيء لهم من ذلك قطعا بل سيتعسون وسيهلكون في الداريْن تماما كأيّ ظالمٍ مُفْسِد!.. وكذلك هو حال كل الصالحين الصابرين حتما إذ يُمَكّن لهم وينعمون في أرض الله ويسعدون بخيراتها ما داموا مستمرّين علي ارتباطهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، ومعني ".. الْحُسْنَى.." أيْ وصِفَة كلمة ربك أنها الحُسْنَىَ أيْ علي أحسن الأحوال وأسعدها لأنَّ فيها كل النصر والعِزّة والكرامة والرِفْعَة والسعادة لهم حيث هي قد أوْصَلتهم إلي أحسن أحوالهم وأبْرَكها وأعظمها سعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. بِمَا صَبَرُوا.." أيْ بسبب صَبْرهم، حيث كانوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد أصابهم من أذَيَ وظلم فرعون وقومه، وكانوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وكانوا إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ( برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأبَدْنَا وأهْلَكنا ما كان يعمل فرعون وقومه من مصانع ومتاجر وغيرها وما كانوا يعرشون أيْ يُنْشِئون من بساتين ذات نباتات بعضها مَرْفوعات علي ما يَحملها ويَرْفعها عن الأرض كالعَرْش، وكذلك يعرشون بمعني ما كانوا يَبْنُون من قصور ومَبَانٍ وقِلاعٍ وهياكل ونحوها
ومعني "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)" أيْ واجْتَزْنَا وتَخَطّيْنا وعَبَرْنَا بفضلنا وكرمنا ورحمتنا وقُدْرتنا ببني إسرائيل البحر بعد أن حَرَّرْناهم ونَجَّيْناهم من ظلم فرعون وأغرقناه بمُعجزتنا هو وجنوده فيه فمَرُّوا علي قومٍ يُقيمون مُلازِمِين مُداوِمِين مُواظِبين عند تماثيل ينحتونها بأيديهم من أحجارٍ أو غيرها ويتّخذونها آلهة يعبدونها أيْ يطيعونها غير الله تعالي!!.. ".. قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ.." أيْ فلما شاهدوهم قالوا بكل جَهْلٍ وسَفَهٍ وعدم تَفَكُّرٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَمُّقٍ في الأمور يا موسي اجعل لنا مَعْبُودَاً نعبده أيْ نُطيعه يكون تمثالاً صَنَمَاً كما لهم معبودات أيْ تماثيل أصنام!!.. ".. قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)" أيْ قال لهم موسي مُوَجِّهَاً مُوَضِّحَاً مُحَذّرَاً مُتَعَجِّبَاً رافِضَاً لائِمَاً لَوْمَاً شديداً إنكم قوم تجهلون أيْ لا تَعرفون ما يضرّكم وما ينفعكم، ولا تُدركون ما هو واضح وصدق وعدل وخير، لا تُحسنون استخدام عقولكم، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهماً جيداً فلا يَتدبّرون في الأمور، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ!.. إنكم قوم تجهلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله والعاقل لا يفعل ذلك.. تجهلون الإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بكل أخلاقه.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم.. إنكم كالجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ.. إنكم تطلبون عبادة غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه بَعْد كلّ الذي شاهدتموه بأعينكم من الآيات أي الدلالات المُعجزات الدالاّت على أنَّ الله تعالي واحد لا شريك له وعلي صِدْق ما جئتكم به من إسلامٍ وتريدون اتّباع غيره فتفقدون سعادتكم في دنياكم وأخراكم.. إنكم تجهلون كل ذلك وبكلّ ما يستحِقّه سبحانه من حبٍّ وطاعةٍ وتعظيمٍ وشكرٍ وتوكّلٍ واعتمادٍ عليه.. هذا، وَوَصْفهم بالجهل مناسب تماما لحالهم البائس في سَفَهِ وتَخْرِيفِ طَلَبِهم عبادة غير الله تعالي والذي لم يكن إلاّ بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يستخدموها في حُسْن العلم والبحث والتدبّر والاستجابة لِمَا في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم لو كانوا علي أقلّ قدْرٍ من العقل المُنْصِف العادِل ومن العلم ما طَلَبوا مثل هذا الطلَب السَّفِيه التافِه!!
ومعني "إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير لهم منهم والتنفير من التّشَبُّه بهم.. أيْ إنَّ هؤلاء الذين تَرَوْنَهم يعبدون الأصنام وغيرها وكلّ مَن لهم دين أيْ نظام غير الإسلام مُتَبَّر أيْ مُهْلَك مُدَمَّر ما هم فيه من هذا الدين الفاسد المُضِرّ المُتْعِس في الداريْن وباطل أيْ زائل تماما ما كانوا يعملون من عبادة الأصنام وغيرها، أيْ أنَّ الله تعالي سيُهْلِك كل دينٍ فاسدٍ وكل صَنَمٍ وسيُدَمِّره وسيَكشف سَفَهَه وسيُضْعِف تأثيره وسيَمحوه بنشر الإسلام علي يد المسلمين.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)" أيْ قال لهم موسي (ص) هل أطلب لكم غير الله تعالي معبوداً والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره ربّ كل شيءٍ أيْ خالِقه ومَالِكه والمُتَصَرِّف فيه وراعِيه وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وكل شيءٍ هو مَخْلُوق ولذا فهو لا يَصلح مُطلقاً ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يكون إلاهَاً يُعْبَد فكيف نعبده أيْ نُطيعه ونَستعين به ونَتوكّل عليه ليُيَسِّر لنا كل شئون حياتنا وهو مخلوق ضعيف مثلنا ونترك عبادة الله الخالِق القادِر علي كل شيء؟!.. إنَّ المَعْبُود إذا كان مَخْلوقاً فإنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! هل يَملك أنْ يُعطي لمَن يَعبده هواءً وماءً وشمساً، أو حركة لأرضٍ ومَجَرَّات وجاذبية، أو تفاعلات كيميائية وفيزيائية لإنماء ما يُنْتَفَع به من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبَحْرِيَّاتٍ وغيرها، أو عقلاً وفكراً وجسداً وروحاً، ونحو ذلك مِمَّا لا يُمكن حصره من أساسات الحياة وأرزاقها المختلفة؟!.. كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! إنَّ الذين يفعلون ذلك قد عَطَلّوا عقولهم بالأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا إيقاظ للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُرَاوِغِين الذين لا يُسْلِمون ويعبدون مع الله تعالي آلهة أخري ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. والاستفهام والسؤال لأمثال هؤلاء هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)" أي وكيف أبْغِيكم إلاَهَاً غير الله والحال والواقع أنه فَضَّلكم ومَيَّزَكم على كلّ الناس في زمنكم.. وذلك التفضيل بكثرة الأنبياء قَبْل موسي (ص) منهم ولهم والكتب المنزَّلة عليهم معه ومعهم كالتوراة وما قبلها والتي تُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ثم يقومون هم بقيادة الآخرين ودعوتهم لهذا الخير فينالون مَكَانَتَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة، وكذلك تفضيله لهم بإهلاك عدوهم وإعزازهم بعد ذِلّتهم منه واختصاصهم بمعجزاتٍ مُتَمَيِّزاتٍ أيَّدَه بها تُعينهم علي الإيمان بربهم واتّباع شرعه الإسلام.. فمِن المُفْتَرَض بالتالي إذَن عند كل عقلٍ مُنْصِفٍ أن تُقابِلوا ذلك التفضيل بشكره تعالي بأنْ تتمسّكوا بعبادته وحده وتعملوا بأخلاق الإسلام ليزيدكم خيراً وسعادة، لا أن تعبدوا غيره كأصنامٍ وغيرها!
ومعني "وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)" أيْ هذا مزيدُ تذكيرٍ من الله تعالي بالنِّعَم علي بني إسرائيل وتفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أنقذناكم مِمَّا كنتم فيه من البلاء العظيم حيث استعبادكم من فرعون ملك مصر الظالم وأهله وأعوانه من أصحاب النفوذ والسلطان الذين كانوا يَسُومونكم أيْ يُذِيقُونكم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامكم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل كانوا يُذَبّحون أبناءكم لإضعاف قوّتكم فلا تُطالِبون بحقوقكم ويَسْتَحْيُون نساءكم أيْ يُبْقُونهنّ أحياء للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندهم..".. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)" أيْ وفي هذا العذاب اختبار لكم من ربكم وفي إنقاذكم منه عطاء وخير عظيم، يَتَطَلّب شكره تعالى بأنْ تتمسّكوا بعبادته وحده وتعملوا بأخلاق الإسلام ليزيدكم خيراً وسعادة، لا أن تعبدوا غيره كأصنامٍ وغيرها!.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا.. لقد ذَكّرهم بأنَّ شكر النعمة يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما كفرها، أيْ إنكارها، بل والكفر بالمُنْعِم سبحانه أيْ التكذيب بوجوده وعدم اتّباع شرعه الإسلام، لا بُدَّ حتما نتيجته عذاب شديد ، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليشكر ربه علي نِعَمِه وأفضاله التي لا تُحْصَيَ والتي منها النجاة من ظلم الظالمين والانتصار عليهم وإسعاد الخَلْق بإهلاكهم والخلاص منهم والأمان والاستقرار للنفس والأهل والأعراض والأموال وللمجتمع عامة
ومعني "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)" أيْ وهذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ وأعطينا موسي رسولنا إليكم الوَعْد أن يأتي لمدة أربعين يوما عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمكم إيّاها لتكون إرشاداً لكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. لقد كانت مدّة هذه الدورة التدريبية التي واعَدَ فيها الله تعالي موسي (ص) ثلاثين يوماً لكنْ لَمَّا ذاق حلاوة وسعادة هذه الأيام سأله سبحانه وهو الكريم الودود المُنْعِم زيادتها عشرة أيام أخري فاستجابَ لطَلَبه برحمته وفضله ووُدِّه فتمَّ ما وَقّتَه الله له لتكليمه ولتعليمه أربعين يوما، وذِكْر ذلك التفصيل هو لبيان الرحمات والمَحَبَّات والاستجابات بين الخالق والصالحين من خَلْقه.. ".. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)" أيْ وقال موسي لأخيه هارون عند تَوَجُّهه للموعد مع الله تعالي مُوصِيَاً إيّاه حِرْصَاً وشَفَقة علي مصلحتهم وسعادتهم كُنْ نِعْمَ الخليفة لي في أهلي وأحبائي حتي أرجع وكن مُصْلِحَاً بينهم بأن تدعوهم لطاعة الله وعدم معصيته ولكل صلاحٍ أيْ لكل خيرٍ وعدلٍ وصدقٍ وسعادةٍ وبأنْ تُصْلِح كل ما يحتاج إلي إصلاحٍ من كل شئون حياتهم واحذر تماما أن تسير أو يسير أحدٌ في طريق المُفسدين ويُطيعهم ويَفعل مِثْلهم ولكن اجتهد في إصلاحهم بكل قدوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حسنة، والمُفسدون هم الذين يفعلون كل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)" أيْ ولمَّا حَضَرَ ووَصَلَ موسي للتوقيت الذي وَقّتْنَاه وحَدَّدْناه له عند جبل الطور بسيناء بمصر وكلّمه ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام – أيْ خاطبه مباشرة بلا واسِطَةِ مَلَك حيث أوْصاه بوصاياه في التوراة لتكون إرشاداً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، اشتاق أكثر لرؤية حبيبه خالقه تعالي بعد سماع كلامه، فقال ربّ أرِني ذاتك العَلِيَّة لكي أنظر إليك فأزداد شَرَفَاً وسعادة بعدما شرَّفتني وأكْرمتني وأسعدتني بسماع كلامك.. قال تعالي لموسي (ص) مُسَلّيَاً مُكْرِمَاً له مُتَلَطّفَاً معه مُعَظّمَاً لأمر الرؤية لن تستطيع وتَتَحَمّل وتطيق رؤيتي فأنتم البَشَر لستم مُؤَهَّلِين بخِلْقتكم هذه التي خَلَقْتكم عليها لأنْ تروني أبداً في الدنيا – أمّا في الآخرة فرؤيته سبحانه ستكون من نِعَمه عليهم – ولتقتنع أكثر يا موسي ورحمة مِنّي بك ولأبَيَّنَ لك أنك لن تطيقها انظر إلى الجبل، جبل الطور بسيناء الذي أمامك، والذي هو أقوى منك، فإنْ ثَبَتَ مكانه حين أظهر له ولم يَتَفَتَّت من هذا الظهور فسوف تراني أنت أىْ فسَتَثْبت لرؤيتى إذا ظَهَرْتُ لك وإنْ لم يستقرّ فإنك لن تراني.. فلمّا ظَهَرَ ربه للجبل على الوجه اللائق به تعالى جعله مَدْكُوكَاً مُهَدَّمَاً مُفَتَّتَاً مُستوياً بالأرض فنَبَّهَ سبحانه بذلك على أنَّ الجبل مع شِدَّته مادام لم يستقرّ عند هذا التّجَلّي فالإنسان مع ضعف بنيانه أوْلَىَ بألاّ يستقرّ.. وسَقَطَ موسى مَصْعُوقاً أيْ كمَن صُعِقَ بصاعقةٍ أيْ مُغْمَي عليه لفترةٍ من هَوْل وشدّة وصَدْمَة ما رَأَىَ.. فلمّا عادَ له وَعْيُه واستيقظ من إغمائه وغَيْبُوبته تَبَيَّنَ له عملياً أنه لن يَتَحَمَّل هذه الرؤية فسبَّح ربه أيْ نَزّهَه عن كل ما لا يَليق به استشعاراً لعظيم قُدْرَته واستغفر عن طلبه الذي لم يكن مُناسبا، رغم أنه ليس بذنب! بل حبّ وشوق! ولكنْ هكذا دائما هو حال الرسل الكرام، والصالحين من بعدهم المُتَشَبِّهين بهم، يحرصون علي ألاّ يَصْدُر منهم أيّ ذرّةٍ مِن شُبْهَةِ خطأ! ليَحيوا دوْمَاً أنقياء سعداء ويَلقوا ربهم في أخراهم علي أشدِّ نَقَاوَةٍ وأعظم سعادة، وأكّدَ كمال إيمانه بما استكمله له ربه مِمّا كان لا يعلمه قبل ذلك قائلا ".. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)" أيْ هذا بيانٌ لمُسَارَعَته (ص) للعمل بكل أخلاق الإسلام ودَفْعٌ لكلّ مؤمنٍ ليَقتدي به فيُسارِع هو أيضا للعمل بها والثبات عليها وليكون قُدْوَة ومُشَجِّعَاً لغيره من الناس ليُسارِعوا هم أيضا للعمل بها في كل شئون حياتهم ويستمرّوا عليها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووعي وإقبال وبكل اختيارٍ دون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَرَوْا أثر الإسلام علي إسعاد حياة مَن يدعوهم وحياتهم وبالتالي يَنال الجميع ثواب دعوة بعضهم بعضاً للإسلام ويسعدون جميعا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)" أيْ قال تعالي لموسي (ص) مُسَلّيَاً مُكْرِمَاً له مُتَلَطّفَاً معه مُعَوِّضَاً إيّاه عمَّا أصابه من عدم الرؤية فكأنه سبحانه يقول له إنْ كنت منعتك رؤيتي وكان ذلك لمصلحتك لعدم تَحَمّلك إيّاها فقد أعطيتك من النِّعَم العظيمة التي لا تُحْصَيَ والتي فيها كل المصلحة والسعادة لك ولغيرك فاشكرها وأوْصِهم بشكرها بإحسان استخدامها لأحفظها لك ولهم وأزيدك وأزيدهم منها.. ثم بَيَّنَ له أعظم هذه النّعَم قائلا له يا موسي إنى اخترتك وفَضَّلتك على الناس الموجودين في زمانك – لأنَّ الرسل كانوا قبل موسى وبعده وكلهم مُخْتَارُون مُفَضَّلون بسبب حُسْن وكمال خُلُقِهم ليكونوا مَبْعُوثين من الله للناس ليُعَلّموهم الإسلام – برسالاتي أيْ بوصَايَاي ومَوَاعِظي وتشريعاتي وأنظمتي وأخلاقيَّاتي في التوراة لتبليغها لهم والتي فيها الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، واخترتك كذلك بكلامي أيْ بتَكْلِيمي إيّاك مباشرة بغير واسطةِ مَلَك ولم أفعل ذلك مع أيِّ رسولٍ غيرك.. ".. فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن خُذ ما أعطيتك إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابك التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، خُذوها كلكم بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، ولا تَنْسوها وتَدَبَّروها واقرأوها وتَعَلّموها وتَدَارَسُوها واعملوا بها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)" أيْ وكن من الشاكرين لي علي نِعَمي والتي لا يمكن حصرها والتي أعظمها نعمة الإسلام، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمدي وبعملك بأن تعمل بها في كل شئون حياتك وتدعو غيرك لها لتسعدوا جميعا في الداريْن، وبأن تستخدموا كل النعم الأخري في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدْتُ ووَعْدِي الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)
ومعني "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)" أيْ وهذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل والناس ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ وكتبنا وشَرَعْنا وفَرَضْنا له وللناس لكي يُبَلّغهم ويُعَلّمهم إيّاه في ألواح كتاب التوراة أيْ أوراقها من كل شيءٍ يحتاجون إلي معرفته من الحُسْن والسُّوء ليكون ذلك موعظة أيْ تَذْكِرَة وتَوْصِيَة لهم تُؤَثّر في عقولهم ومشاعرهم بالترغيب أو الترهيب لتَدْفعهم للعمل بها، كما كتبنا له فيها تفصيل كل شيءٍ من أخلاق وأحكام وقوانين الإسلام التي تُناسِب زَمَنهم لتكون التوراة تِبْيَانَاً وتَوْضِيحاً ومُحْتَوِيَة علي تفصيلاتٍ لكل القواعد والأصول التي تُنَظّم للناس كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث تُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيها من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها، لأنها من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ.." أيْ وقلنا له خُذ التوراة التي فيها أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيْ خُذوها كلكم بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، ولا تَنْسوها وتَدَبَّروها واقرأوها وتَعَلّموها وتَدَارَسُوها واعملوا بها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا.." أيْ وأَوْجِب وأكِّد علي أهلك وأحبائك والناس عموماً وأوْصِهم بشدَّة فلا يُخَالِفوا حتي لا يُعَاقَبوا ويَتْعَسُوا في الداريْن بل يسعدوا فيهما أنْ يأخذوا بأحسنها أيْ بأنْسَبِها أيْ بأنْسَبِ تَصَرُّفٍ في كل موقفٍ بما يُحَقّق المصلحة والكمال والسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم وبما يُحَقّق الثواب الأحْسَن والأعظم، لأنَّ الإسلام كله حَسَن مُسْعِد فليس فيه شيء أحْسَن من آخر فليأخذوا بأحسنها أيْ بها كلها إذَن!! فلفظ الأحْسَن هنا يفيد المُبَالَغَة في الحُسْن.. إنَّ مِمَّا يُرْشِد إليه هذا الجزء من الآية الكريمة ضِمْنَاً أن اجتهدوا دوْما قدْر استطاعتكم في ترْك ما هو أقلّ حُسْنَاً وابتعدوا تماما عن كلّ ما هو سَيِّءٍ مُخَالِفٍ للإسلام من أقوال الناس حولكم.. وفي هذا تشجيعٌ لكلّ مسلمٍ ليَجتهد ويحاول أن يَصِلَ دائما لمرحلة الكمال ما استطاع في كلّ شئون حياته ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ولينال تمام الثواب في أخراه.. ".. سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)" أيْ سأريكم يا قوم موسى ويا أيها الناس ويا أيها العقلاء، في دنياكم أمامكم وأثناء أسفاركم، دار الخارجين على طاعتنا وديننا الإسلام، وما صارَت إليه من الخراب والدمار بعذابنا إيّاهم لتَعْتَبِروا فلا تُخَالِفوا حتى لا يُصيبكم ما أصابهم، كذلك كل مَن فَسَقَ منكم فإني سَأُرِيه في الآخرة دار الفاسقين وهي النار التي أعْدَدْناها ليُعَذّب فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم بل يَفعل كل خيرٍ ويَترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)" أيْ سأُبْعِد وسأَمْنَع عن فهْم وتَدَبُّر آياتي – أيْ دلالاتي الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلي وأنهم من عندي وأني وحدي المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديني الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه – وعن الاستفادة منها والتّقَبُّل لها والاعتبار والعمل بها لتحقيق سعادتيّ الداريْن، عقول الذين يتكبّرون في الأرض أيْ يَسْتَعْلون علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم ويستهزؤن فلا يستجيبون لها فكانوا بالتالي من العاصِين والمُكَذّبين والمُعاندين والمُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. هذا، ومن معاني صَرْفِهم عن الآيات أيضا أيْ مَنْعِهم عن مَنْع انتشارها وإن اجتهدوا وذلك بإعلائها من خلال عوْن المسلمين علي نشرها أو بإضعافهم وإهلاكهم بجنوده سبحانه التي لا يعلمها إلا هو.. ".. بِغَيْرِ الْحَقِّ.." أيْ بكل اعتداءٍ وظلم، لأنَّ العِزَّة تكون بحقّ حينما تُسْتَخْدَم في إقامة العدل بين الناس وحفظ حقوقهم ومنع أيّ أحد من الاعتداء عليهم وبالتالي إسعادهم في دنياهم وأخراهم، وأيضا قد تَكَبَّروا بغير استحقاقٍ لهذا التّعالِي لأنهم بَشَرٌ كبقية البَشَر ينتظرون جميعا رزق ربهم ولا زيادة لهم عليهم والجميع يَمرض ويَضعف ويَشيخ ويموت فلم يكن لهم إذن أيّ حقٍّ في أن يتكبَّروا!.. وكذلك تكبّروا بكلّ ما هو ليس بحقّ أيْ تكبروا بالباطل وبفِعْله أيْ بالتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. وهذا الصَّرْف للعقول ليس حتماً إكراهاً وإجباراً من الله تعالي أو ظلماً منه لهم!! حاشَا لله وهو الذي يريد الهداية لجميع خَلْقه والذي ما خَلَقَهم إلا لإسعادهم، ولكنهم هم بالقطع السبب فيه، فهو بسبب إصرارهم التامِّ علي غَلْق عقولهم، فهم لمّا مَالُوا وانحرَفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير أَمَالَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الزَّيْغ أي الانحراف والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الزائغين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذاباً مُناسباً لشرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه تعالي يتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن يُيَسِّر لهم أسبابه وبأن يُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ويتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا).. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتوضيح لبعض أسباب صَرْفهم والبيان لبعض صفاتهم ولِمَا هم عليه من الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل السوء.. أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم أيّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّهم لا يؤمنون بها أيْ لا يُصَدِّقون بها مهما كانت من حيث العَظَمَة والوضوح والحَسْم، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في إغلاق عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فإنّ كثرة الآيات وتنوّعها تُفيد فقط مَن كان طالباً للحقّ بصِدْقٍ ولكنه جاهلٌ أو مُتَشَكّكٌ أو سَيّء الفهم فإذا خَفِيَت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيرها فيُؤمِن.. ".. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.." أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة كذلك أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم طريق الهُدَيَ والصلاح والصواب أيْ طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والصدق والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لا يتّخِذوه طريقاً يسيرون فيه.. ".. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.." أيْ ومِن صفاتهم وأحوالهم السَّيِّئة أيضا أنهم إنْ يُشاهِدوا ويَظْهَر لهم ويُدْرِكُوا ويَصِل إلي عِلْمهم طريق الغِوَايَة أيْ الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة في الداريْن وهو كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ للإسلام يتّخِذوه طريقاً يسيرون فيه باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)" أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره من التّرْك لسبيل الرُّشْد والاتّباع لسبيل الغَيّ يَحدث منهم بسبب أنهم لم يُصَدِّقوا بآياتنا الدَّالّة على بُطْلان وفساد ما هم فيه (برجاء مراجعة معني آياتي في أول الآية الكريمة) وبسبب أنهم كانوا عنها غافلين أيْ مُنْشَغِلِين تائهين غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِين أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)" أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ.." أيْ والذين لا يُصَدِّقون بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم بأجسادهم وأرواحهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ففَعَلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنَّ الذي لا يُؤمن بذلك يفعلها حيث لا حساب من وجهة نظرهم، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. ".. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)" أيْ هل جُزُوا بغير ما كانوا يعملون؟! أي لم يُجازوا أي يُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملوه في دنياهم، ولكن بمِثْله، أي لم يُظلَموا ولو بمقدار ذرّة وإنما عُومِلُوا بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالهم السَّيِّئَة
ومعني "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)" أيْ وجَعَلَ قوم موسي أيْ بَنُو إسرائيل مِن بعد ذهابه وأثناء غيابه عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمهم إيّاها لتكون إرشاداً لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ومِن بعد حالهم الذي شاهدوا فيه تلك المُعجزات التى تَبَيَّنَ بها صِدْقه فيما يُبَلّغهم عن الله، جعلوا مِن ذَهَبِهم الذي تستخدمه النساء في التّحْلِيَة والزينة جَسَدَاً علي شكلٍ كان عِجْلاً له صوت حينما يمرّ الهواء في التجاويف التي فيه، جعلوه وهو الذي صَنَعوه بأيديهم إلاهاً لهم يعبدوه أيْ يطيعوه غير الله تعالي!!.. ".. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ.." أيْ هل لم يُشاهِد هؤلاء السفهاء ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل أنه ليس له أيّ صفةٍ من صفات الإله الذي لا بُدّ أن يَتّصِف بكل صفات الكمال الحسني من الخَلْق والرزق وتمام العلم وكمال القُدْرَة علي كل شيء والسمع والبصر والكلام والحِكْمَة والمُلْك ونحو هذا، فهو صَنَم! عِجْل!! جماد! لا يتكلم ولا يُرْشِد لأيِّ طريق خيرٍ وأمنٍ وسعادة!! لا ينفع ولا يضرّ ولا يرزق ولا يَخْلق ولا يُحي ولا يُميت ولا يَملك الدفاع عن نفسه لو قام بكسره وإيذائه طفل!! إنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! كيف يعبد مَخْلوقٌ مَخْلوقاً مثله بل هو الذي صَنَعَه؟! إنه حتي لا يستطيع ما يستطيعه أيّ بَشَرٍ من الكلام والتوجيه لفِعْلٍ مَا فكيف سَاوُوه بخالق الأجسام والقوَىَ والإمكانات؟!.. هل عَمُوا عن هذه الحقائق؟! هل أصابهم الجنون؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الله تعالي وحده هو النافع الضارّ).. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ذَمِّهم.. أيْ حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هم بهذا الاتّخاذ للعجل إلاهاً غير الله تعالي كانوا ظالمين لأنفسهم بفِعْلهم الدنِيء هذا حيث عبدوا عِجْلا!! لقد تَركوا عبادة خالقهم الذي أنجاهم وأنعم عليهم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقهم ورَعاهم وأَمَّنَهم وأرْشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بدلاً أن يعبدوه ويشكروه!!.. لقد كانوا من الظالمين قطعاً أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن يعبدوا العِجْل ظالمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يفعلوا ذلك، فهم مُصِرُّون تماماً علي ظلمهم، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)" أيْ ولمَّا سَقَطَ تفكيرهم من عقولهم إلي أيديهم وصارَ فيها، وذلك لأنَّ مَن يَقع في خطأٍ يُنْدَم عليه يَضرب كَفّاً على كَفٍّ وأحيانا يَعَضّ يديه، وهو تعبيرٌ عند العرب يدلّ علي الخطأ، علي الندم والحَسْرَة والهَمّ علي فِعْل شيءٍ مَا، أيْ ولمَّا نَدِمُوا واستشعروا بعقولهم وأدْرَكوا وعَلِموا وتَبَيَّنَ وظَهَرَ لهم أنهم قد ضَلّوا أيْ بَعُدوا وانحرفوا عن الصواب، قالوا نادِمين مُتَحَسِّرين إذا لم يرحمنا ربنا بقَبول توبتنا ويَسْتُر بها لنا ذنوبنا فيُسامحنا فلا يُعاقبنا عليها ويَمْحُها كأن لم تكن ويَمْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، سنكون حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ من الخاسِرين خسارة ليس بعدها خسارة حيث سنُمْنَع بالقطع من كلّ خيراته وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أننا سنُصاب في حياتنا بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتنا سَنَنَال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة
ومعني "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)" أيْ ولمَّا عادَ موسي (ص) إلي بني إسرائيل بعد مدة الأربعين يوما التي قضاها عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمهم إيّاها لتكون إرشاداً لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم حيث كان قد تَرَكهم مع هارون وذهبَ هو لتَلَقّي الوَحْي من الله تعالي، وكان غضباناً وحزيناً حيث أوْحَيَ سبحانه إليه قبل رجوعه بما فعلوه من عبادة العِجْل، قال ذامَّاً لهم ليُوقِظهم من غَفْلتهم ما أسوأ خِلافتكم لي مِن بَعْد غيابي عنكم ومِن بعد ما رأيتم مِنّي من عبادة الله تعالي وحده حيث تَرَكْتُم عبادته وعَبَدْتم عِجْلا، هل استعجلتم أمر ربكم بانتظاري أربعين يوما حافِظين لعهدكم معي بعبادته حتي آتيكم بالتوراة فلم تنتظروا وتستكملوا هذه المدّة وأخْلَفتم وَعْدكم وخَالَفْتم أمره وعبدتم العجل؟! هل اسْتَبْطَأْتم مَجيئي رغم أني لم أتأخّر عن موعدي؟! هل تركتم أمر ربكم؟! وهل استعجلتم طَلَبَ عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره وأنتم تعلمون أنكم لو فعلتم ذلك سيُعَجِّل وسيُسَرِّع عقابكم حتما؟!.. ".. وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ.." أيْ وتَرَكَ ووَضَعَ من يده ألواح كتاب التوراة أيْ أوراقها المكتوب فيها تعاليم الإسلام ليَتَفَرَّغ لمناقشة الذين غَيَّرُوا وبَدَّلُوا من بَعْده وعَبَدوا غير الله تعالي.. ".. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ.." أيْ وأمْسَكَ برأس أخيه هارون ليَجُرُّه ويَشُدُّه منه إلي ناحيته إظهاراً للغضب مِمَّا حَدَثَ لتَوَهُّمه أنه قد قَصَّر في مَنْعهم عَمَّا فَعَلوا وهو الذي قد أوْصَاه بأن يكون نِعْم الخليفة بَعْده فيهم ويُصْلِح ولا يَتّبع سبيل المُفسدين.. ".. قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)" أيْ قال هارون لموسي يا ابنَ أمِّي أيْ يا أخي، مُذَكّرَاً إيّاه بالأمّ رمز الحنان وبعاطفة الأُخُوَّة ليُرَقّق مشاعره نحوه ولِيُخَفّف من غضبه وحُزْنه ولِيُوَضِّح عدم تقصيره وبذله لجهده أقْصَيَ استطاعته المُمْكِنَة، إنَّ القوم حين فَعَلوا ما فَعَلوا من عبادة العِجْل قد اعتبروني ضعيفاً بينهم لقِلّة أنصاري فيهم فلم يهتمّوا بنصائحي ولم يستجيبوا لها ولم يكن معي من الأنصار ما أمنعهم بهم عن هذا العمل الدنيء بل وقارَبُوا قتلى وأوشكوا عليه وهَمُّوا به لَمَّا نهيتهم عن ذلك ونصحتهم بعبادة الله تعالي، بسبب شِدَّة غفلتهم عن الحقّ وتَجَمّعهم علي الباطل، فلا تظنّ مطلقاً أني قد قَصَّرْت أبداً في دعوتهم للخير ومَنْعهم عن الشرِّ ما استطعت، فلا تُفْرِح بيَ الأعداء بمَا تَفعل معي فإنهم حريصون علي تَأَلّمِي مُتَمَنُّون لذلك وللخِلاف بيننا ومِن شأن أُخُوَّتنا أن تكون ناصِرَة مُعِينَة حين يكون هناك أعداء، وهذا مزيدٌ من اسْتِحْضار عاطِفَة الأخُوَّة لطَلَب عدم العقاب، وحتي لا يَتَوَهَمَّوا بعقابه أنه هو المُخْطِيء وأنهم هُم الذين علي الصواب، ولا تَجعلني مع جُمْلَة القوم الظالمين وهم عَبَدَة العِجْل وتظنني واحداً منهم مع تَبَرُّؤي من أفعالهم فأنا لست معهم بالقطع فتُعامِلني كما ستُعامِلهم
ومعني "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)" أيْ قال موسى (ص) لَمَّا تَبَيَّن له عُذْر أخيه هارون وأنه لم يُقَصِّر ربِّ اغفر لي ما صَنَعْتُ بأخى إنْ كنتُ قد أسأتُ إليه واغفر لأخى إنْ كان قد قَصَّر في حُسن خِلافتي فيهم مِمَّا أنت أعلم به مِنّى، اغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، وأدخلنا في رحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء والتي وعدت بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت أرحم الراحمين أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)" أيْ إنَّ الذين جعلوا العجل – أو غيره – إلاهَاً ليَعبدوه أيْ يُطيعوه غير الله تعالي سيَصِل لهم وسيَشملهم وسيُحيط بهم وسيأخذون حتماً غضبٌ من ربهم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كُرْه منه لهم كراهية شديدة لفِعْلِهم وانتقام منهم بعقابهم بما يُناسِبهم في الداريْن، وسيَنالهم كذلك ويُلازِمهم وسيَحصلون علي ذِلّة في حياتهم الدنيا أيْ حَقَارَة ومَهَانَة وضعف أين مَا وُجِدُوا في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أفراداً أو مجموعات، بسبب كفرهم به وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبة.. إنهم سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيراته وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصَابُون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)" أيْ وهكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا للمُفْتَرِين بما يُناسب افترائهم.. والمُفترون هم الذين يَختلقون كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير كتبه وآخرها القرآن الكريم! أو يُحَرِّم ما لم يُحَرِّمه سبحانه ويُشَرِّع ما لم يُشَرِّعه ويَدَّعِي أنه هو الذي شَرَعَه أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم، حيث قد وُصِفُوا بالمفترين للتأكيد علي شدّة سُوئهم وشدّة الغضب عليهم وعذابهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)" أيْ والذين فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ثم قاموا بالتوبة من بعد فِعْلها وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وآمَنوا إنْ كانوا غير مؤمنين – أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بأخلاق الإسلام – وجَدَّدوا التمسّك بإسلامهم إنْ كانوا قبل عَمَلها مؤمنين واستمرّوا وداوَموا وثَبتُوا علي كل أخلاقه واسْتَكْمَلُوا ما قد يرونه فيهم ناقصاً منها وصَحَّحُوا سريعاً ما قد يَحدث منهم من أخطاء أو تقصيرات أو هفوات تائبين منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل، فإنَّ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من بعد توبتهم بالتأكيد حتماً غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)" أيْ وعندما سَكَنَ وذَهَبَ عن موسى الغضب الذي أصابه وعادَ إليه الهدوء لَمَّا اطمَئَنَّ لعدم تقصير أخيه هارون ولتوبة قومه أخذ الألواح أيْ أوراق التوراة المَكْتُوب فيها تعاليم الإسلام بعد أن كان قد وَضَعها وتَرَكها عند غضبه، وفي نُسْخَتِها أيْ وفيما نُسِخَ أيْ كُتِبَ فيها هديً ورحمة أيْ إرْشاد لتمام الخير والسعادة في الداريْن وبالتالي فهي رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ بها وعمل بكل أخلاقها.. ".. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)" أيْ لكنَّ الذين سيَنتفعون بأخلاقها ويعملون بها فيسعدون في دنياهم وأخراهم هم فقط الذين يَرْهَبون أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وكالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولها ولإسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (150) من سورة البقرة ".. فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)" أيْ وانْتَقَيَ وتَخَيَّر موسي (ص) من قومه بني إسرائيل سبعين رجلا للتوقيت الذي وَقّتْنَاه وحَدَّدْناه له عند جبل الطور بسيناء بمصر لتكليمه ولإيحاء التوراة إليه لتكون بما فيها من إسلامٍ إرشاداً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وذلك ليشهدوا معه هذا الحَدَث العظيم ويكونوا شهوداً لبَقِيَّتهم علي صِدْقه بعد عودتهم، وعند بعض العلماء أنهم لم يذهبوا مع موسي عند تكليم الله تعالي له وإنما اختارهم بعد عودته وبعد عبادة بني إسرائيل للعجل وهم كانوا من صَفْوَتهم ولم يَعبدوه مِثْلهم فأخذهم كمَندوبين عن بقية بني إسرائيل لكي يستغفروا الله تعالي عند الجبل وهو المكان المُقَدَّس للتوبة عنده مِمَّا فَعَلَه قومهم من عبادة العجل، فأخذتهم الرَّجْفة حينها وهي ارْتِجَافَة شديدة في أجسامهم ومشاعرهم مِمَّا رأوه من أنَّ موسي قد أغمي عليه لما تَجَلّي الله للجبل فجعله دَكّاً بعد كلامه له وطلبه لرؤيته علي الرأي أنهم كانوا معه عند وَحْي التوراة إليه، أو لأنَّ بعضهم قد طَلَبَ رؤية الله مثل موسي فحَدَث لهم مِثْلما حَدَث له، أو أثناء استغفارهم علي الرأي أنه أخذهم للجبل مرة أخري للاستغفار بسبب شعورهم بتقصيرهم في مَنْع قومهم من عبادة العجل، وهنا دَعَا موسي الله تعالي مُتَوَسِّلَاً قائلاً له ربّ لو شئت أهلكتهم وأنا معهم من قبل مَجيئنا الآن في أيِّ وقتٍ تشاء حسبما تَتَطَلّبه حِكْمتك وهو قولٌ لبيان الاستسلام التامّ لتقديرات الله تعالي فهي دائما الخير لعباده ولاسْتِجْلاب عَفْوَه لأنه يعني لا تهلكنا فأنت تَقْدِر علي كلّ شيءٍ ولو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلتَ في مُقابِل ما فعلوه من سوءٍ سابق لكنّك عافَيْتَنا وأنقذتنا وأغرقتَ عدونا فافعل بنا الآن كما عَوَّدْتنا فذلك حتماً ليس ببعيدٍ عن عظيم كرمك وإحسانك، ثم هم الصفوة وبقاؤهم هو نُصْرة معي للإسلام والمسلمين، ثم حتي لا يَشُكّ بي بَقِيَّة بنو إسرائيل أني قد أحضرت هؤلاء السبعين منهم من أجل إيذائهم وإهلاكهم فلا يقبلوا نصائحي لهم بعد ذلك بعد عودتنا لهم أمَّا لو أَمَتَّنَا قبل ذلك أمامهم فسيرون أنها حكمتك وتقديرك وأموت وقد أدَّيت مهمّتي معهم فيستمرّون علي ما نصحتهم به من إسلامٍ من غير شكّ بي فإهلاكك لهم قبل هذا الموقف أخَفّ عليَّ من إهلاكك لهم الآن وبالتالي فأسألك يا رب وأنت قد رحمتهم من ذنوبٍ كثيرة ارتكبوها فيما سَبَق أن ترحمهم الآن كما رحمتهم من قبل كما مُعْتَادٌ مُتَوَقّعٌ من كرمك الذي لا يُحْصَيَ ليَبْقوا سَنَدَاً لي مع أخي بعد مُساندتك لنا، وأنت العدل الذي لا يُؤاخِذ أبداً أحداً بذنبِ آخر فأنت لن تهلكنا بما فَعَل السفهاء ضِعاف العقول مِنَّا الذين عبدوا العجل.. هذا، واستفهامه (ص) بقوله أتهلكنا هو للنفي أيْ لن تفعل حتماً لأنك أعدل العادلين.. ".. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ.." أيْ هذه مَعْذِرَة من موسي (ص) لله تعالي عن فِعْل السفهاء من قومه.. أيْ ما هذه الأمور الشنيعة كلها التي صَدَرَت من بني إسرائيل كعبادة العِجْل واشتراط رؤيتك قبل الإيمان بك وما شابه هذه السيئات الفظيعات إلا هي فتنتك أيْ اختبارك لهم حيث قد أوْجَدْتَ بينهم مَن يصنع لهم العجل وعَلِمُوا كلامك لي فطلبوا ما لا ينبغي وهو رؤيتك بل اشترط بعضهم حدوثها قبل إيمانهم بك، فهم لم ينجحوا في الاختبار وأدركوا أنَّ عليهم مراجعة ذواتهم وإحسان استخدام عقولهم وتصويب أحوالهم، بينما نجح آخرون واستفادوا من هذه الاختبارات زيادة في إيمانهم وتمسّكهم بأخلاق إسلامهم.. وأنت سبحانك هكذا دائما لا تُوَفّق للهداية لك وللإسلام ولا تُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لك وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عنك والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم تَشَأ له الهداية وتَرَكته فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي تُعِينه علي بقية الخطوات وأنت الذي قد نَبَّهتَ لهذا بقولك "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.."(الرعد:11)، فكأنك تعالي أنت الذي أضللته لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكته سبحانك ولم تُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّك تشاء له ذلك وتأذن، بأنْ تُوَفّقه وتُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فتشاءه وتُسَهِّله سبحانك له وتُمَكّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ").. ".. أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)" أيْ وليس لنا غيرك أبداً فأنت وَلِيّنا أيْ وَلِيّ أمرنا تَتَوَلّاه لنا بما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا وبالتالي فأعِنّا علي عدم الوقوع في الفتن والنجاح فيها والخروج منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في الدارينْ فأنت وحدك المُتَوَلّي لأمورنا في كل شئون حياتنا ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لنا، أيْ مُحِبّنا وراعينا وناصرنا ومُعِيننا وحَلِيفنا وحافظنا ومانِعنا من الضرَر ومُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينك الإسلام، ومَن كنتَ يا الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث ستُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وما دمتَ أنتَ وَلِيّنا فكذلك بالتالي فاغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، وأدخلنا في رحمتك الواسعة التي وَسِعَت كل شيء والتي وَعَدْتَ بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت خير الغافرين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! لأنَّ كلّ غافِرٍ غيرك يغفر لغرضٍ مَا أمّا أنت يا وَلِيّنا فمغفرتك لا لطَلَب عِوَضٍ أو غرضٍ وإنما هي لفضلك وكرمك الخالص بلا مُقابِل، ولا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
ومعني "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)" أيْ وندعوك كذلك يا وَلِيّنا أن اقْسِم واجْعَل وحَقّق وأثْبِت لنا واعْطِنا دوْمَاً بفضلك وكرمك ورحمتك في هذه الدنيا حالة حَسَنَة حيث كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في كل شئون حياتنا في كل لحظاتها واقْسِم وأوْجِب لنا في الآخرة أيضا حالة حسنة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر من النعيم الخالد في أعلي درجات الجنات، وذلك بأنْ تُيَسِّرَ لنا فِعْل كلّ خيرٍ وتُقَوِّنا عليه عند فِعْله وتُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب سعادتيّ الدنيا والآخرة معا).. ".. إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ.." أيْ نسألك هذا لأننا قد تُبْنا ورَجَعْنا إليك وإلي أخلاق إسلامنا في كل شئوننا وعند تقصيرنا بطَلَب التوبة من كل تقصيرٍ وذنبٍ والعَوْن علي العودة لكل خير.. ".. قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ.." أيْ هذا بيانٌ وتوضيحٌ لِمتي يكون العذاب ومتي يكون الثواب.. أيْ قال الله تعالي عقابي بالعذاب أوَجِّهه نحو مَن أريد وهو الذي يفعل الشرور والمفاسد والأضرار، أعذبه إنْ لم يَتُب منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.." أيْ وفي ذات الوقت لقد أحاطَت رحمتي بالأشياء كلها فلا تَتْرُك منها شيئاً في كل كَوْننا وخَلْقنا فهي ليست للبَشَر فقط بل كل ما في الكوْن يسير برحمتنا وتدبيرنا، وكله في النفع والخير والمصلحة والسعادة، فمَا مِن مخلوقٍ في دنياكم إلاّ وقد غَمَرته وأفَاضَت عليه رحمتنا مُمَثّلَة في أفضالنا وأرزاقنا وإحساننا عليه، والتي نُعطيها أيضا حتي للعصاة والكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، لأنهم خَلْقنا وعلينا رعايتهم، ثم رحمتنا دائما تَسْبِق غضبنا وتَصِل لكلّ تائبٍ يعود للخير، مهما عَظُم ذنبه وشَرّه، فنُعِينه ونُوَفّقه لأسباب الخير ونُسْعِده، لكنَّ الرحمة الخاصَّة العظيمة التامَّة التي تُؤَدِّي في الدنيا لكل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في الآخرة لأعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، هذه الرحمة لا تكون لأيِّ أحد ".. فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)" أي فسأجْعَلها وسأقْسِمها وسأُحَقّقها وسأثْبِتها وسأعْطيها دوْمَاً حتماً بالتأكيد بفضلنا وكَرَمنا ورحمتنا للذين يتّقون أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وكذلك سأكتبها للذين يُؤْتُون الزكاة أيْ يُعْطُون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال – مع العمل بكل أخلاق الإسلام الأخري – وكانوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. وكذلك بالقطع سأكتبها للذين هم بآياتنا يؤمنون أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل
ومعني "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" أيْ إنهم هم الذين يسيرون خلف الرسول الكريم محمد (ص) وخَلْف القرآن العظيم والإسلام الذي جاء به ويعملون بكل أخلاقه في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنهم مُتأكّدون تماما بلا أيِّ شكّ من صِدْقه وصدق ما جاءهم به وذلك للأسباب الآتية: أولا لأنه نبيٌّ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب ثم يأتي بهذه المُعجزة، القرآن، الذي يَصلح لكل الناس في كل الأماكن وكل العصور إلي يوم القيامة رغم كل التّغَيُّرات الهائلة للبَشَرِيَّة، فهذا يدلّ قطعيا أنه ليس من عنده (ص) ولا من عند أيِّ بشر آخر – والرسول هو الذي يُرْسَل إلي الناس بكتابٍ أُوُحِيَ إليه من خالقهم فيه وصاياه وأخلاقيّاته وأنظمته ليعملوا بها ليسعدوا بذلك في الداريْن، أمّا النبي فهو ليس معه كتاب وإنما يُنَبّئهم بما يُوحَيَ إليه من الله فيُذَكّرهم بتعاليم في كتبٍ سابقة ولأنبياء ورسل سابقين – وثانيا لأنه هو الذي يَجده اليهود والنصاري مَذْكُورَاً عندهم في التوراة كتاب اليهود والإنجيل كتاب النصاري بما يُؤَكّد للمسلمين صِدْقه حتي عند غير المسلمين وبما لا يترك أيّ حُجَّة لأحدٍ من هؤلاء أن يُكَذّبه فلا يَتّبعه ويُسْلِم، فإنْ كانوا يؤمنون بموسي (ص) وعيسي (ص) فعليهم بالتالي إذَن الإيمان بمحمد (ص) كما أوْصَتهم كتبهم ورسلهم، ثم لو لم يكن مكتوباً فيها لَكَانَ ذِكْر هذا الكلام في القرآن من أعظم المُنَفّرات لليهود والنصارى وغيرهم عن قبول قوله (ص) والعاقلُ لا يسعى لِمَا يُؤَدِّي إلي تقليل شأنه وتنفير الناس عن قبول قوله بالكذب وبما أنَّ بعضهم مِمَّن أسلموا اعترفوا بأنه مكتوبٌ عندهم فهذا يدلّ قطعا علي صِدْقه (ص).. وثالثا لأنه (ص) يأمر الناس بالمعروف ويكون هو أوَّلَ وأدْوَمَ مَن يعمل به وينهاهم عن المنكر ويكون أول وأدوم من يتركه وكذلك يحلّ لهم الطيِّبات أيْ يسمح بها ويُحَرِّم عليهم الخبائث أيْ يمنعها فلو كان كاذبا لخَالَفَ فِعْله قوله أو لقالَ وفَعَلَ مَا يُخالِف العقل والفطرة! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والمعروف هو كل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة، وهو كلّ أخلاق الإسلام، والمنكر هو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن، والطيبات هي النافعات لا الضارَّات من كل شيءٍ التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقهم الله تعالي إيّاها وخلقها في الأرض والتي أحلها لنفعها ولإسعادها والتي لم يحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، والخبائث هي عكسها وهي التي حرمها سبحانه لضَرَرها ولتعاستها علي الناس من المأكولات والمشروبات والمَلْبُوسات وغيرها ومن الأقوال والأفعال والأموال والمُمتلكات ونحوها.. وكذلك هو يَضَع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم أيْ يُزيل ويُذْهِب ويَرْفَع عن الناس خاصَّة مَن يؤمن به مِن خلال دينه الإسلام السَّهْل السَّمْح المُيَسَّر أيَّ إصْرٍ أيْ ثقلٍ – والإصْر هو الشيء والعِبْء الثقيل الذي يثقل على الإنسان ويُتْعبه ويجعله في شقاءٍ وتعاسة – وأيَّ أغلالٍ أيْ قيود كانت عليهم من أنظمةٍ مُخَالِفةٍ للإسلام لأنَّ كلّ الإسلام أخلاقيّات وقواعد وضوابط لنَشْر كلّ خيرٍ ومَنْع أيّ شرٍّ وكله يُسْر وسعادة في الدنيا قبل الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، والآية (286) منها أيضا "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم سابقا أيها الناس فبالتالي إذَن حتماً الذين صَدَّقوا به وبما جاءهم به من إسلامٍ واتّبعوه وعَمِلوا بكل أخلاقه، وعزّروه أيْ وعظّموه وأدّوا له ما يَسْتَحِقّه من احترامٍ وطاعةٍ وحَمُوُه مِن كل مَن يُعادِيه، ونَصَرَوه أيْ قَوَّه وعاوَنوه ودافَعوا عنه ونَصَروا الإسلام والحقّ والعدل والخير دائما بكل الوسائل المُمْكِنَة، واتّبعوا أيْ ساروا خَلْف وعملوا بكل أخلاق القرآن العظيم في كل شئون حياتهم والذي هو النور الذي يُضيء الدنيا والآخرة لأنه السبب لهداية البَشَر أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في حياتهم وآخرتهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، هؤلاء لا بُدَّ قطعاً هم المفلحون أيْ الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. والعكس بالقطع صحيح
ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني مَبْعُوث الله إليكم جميعا لا إلي بعضكم فقط وهو الذي يَتّصِف بأنَّ له تعالي وحده مُلْك السماوات والأرض وكل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وهو الذي يُحيي ويُميت أيْ سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، وإنْ كانت مُتَحَرِّكَة، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها وإنْ كانت مُقِيمَة ساكِنَة، فلا يَمنع عن الموت قعود، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مما يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وانطلقوا بكل هِمَّةٍ واستبشارٍ للدفاع عن إسلامكم بكل صور الدفاع ضدّ المعتدين وللسعى فى طَلَب رزق ربكم الحلال بإحسانِ اتّخاذ أسبابِ ذلك لِتَتِمّ سعادتكم فيهما حيث الإقدام بحَذَرٍ وبحُسْنِ أسبابٍ لن يُقَصِّر عُمْرَاً والجُبْن والتخاذل لن يُطيله!.. ".. فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم أيها الناس فبالتالي إذَن صَدِّقوا بوجود الله تصديقاً حقّاً بأن تعبدوه أيْ تُطيعوه وحده بلا أيِّ شريكٍ وصَدِّقوا بحسابه وعقابه وجنته وناره، وصَدِّقوا كذلك برسوله النبيّ الأُمِّي أيْ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وإعادة ذِكْر هذا الوَصْف له (ص) للتأكيد التامّ علي أنه قد أتَيَ بهذه المُعجزة، القرآن، الذي يَصلح لكل الناس في كل الأماكن وكل العصور إلي يوم القيامة رغم كل التّغَيُّرات الهائلة للبَشَرِيَّة، بما يدلّ قطعيا أنه ليس من عنده (ص) ولا من عند أيِّ بَشَر آخر، وهو (ص) الذي يَتّصِف بأنه يُصَدِّق بالله وكلماته أيْ قرآنه الكريم وبكل كلامه في كل كُتُبه المُنَزّلَة السابقة لأنها كلها أصولها واحدة حيث فيها الإسلام لكنْ بما يُناسب كل عصر، وكذلك يُصَدِّق بكل كلماته الكَوْنِيَّة التي يُكوَّن الله بها ما شاء من المخلوقات إذ بها يقول للشيء كُنْ فيكون، ولذا فمَن كانت هذه صفاته فهو جديرٌ حتماً بأنْ يُتّبَع موثوقٌ فيه تماما ورسالته كاملة شاملة ولذلك اتّبِعوه أيْ سيروا خَلْفه وخَلْف القرآن العظيم والإسلام الذي جاء به واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُهتدين أيْ لكي تهتدوا، أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)" أيْ ومِن بني إسرائيل، من اليهود في زمن موسي (ص)، مجموعة مؤمنة ثابتة علي إيمانها يرْشدون أنفسهم والناس حولهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، يَهدونهم بالحقّ أيْ بالإسلام الذي في التوراة، بأنْ يعملوا هم به ويدعوهم إليه ويُعَلّموهم إيّاه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وبه أيضا يسيرون في كل أحكامهم فلا يظلمون أحداً وإنما يَعْدِلون في كل شئون حياتهم حتي ولو علي أنفسهم، فهم يَتَحاكَمون إليه وهو مَرْجِعهم دائماً في كل قولٍ وفِعْل.. إنَّ بني إسرائيل في وقت موسي (ص) وبعده لم يكونوا كلهم أشراراً بل كان منهم أخيارٌ علي خيرٍ عظيم.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ منهم مَن قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهذا كذلك يُفيد ويُنَبِّه ضِمْنَاً أنَّ كل الناس بالقطع فيهم الخير في فطرتهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أحسنَ المسلمون دعوتهم لله وللإسلام لاستجابوا ولسعدوا ولنَالَ الجميع الأجر العظيم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)"، "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)"، "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)" أيْ هذا بيانٌ لبعض نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي بني إسرائيل والتي من المُفْتَرَض أن تُقابَل بشُكْرها بمزيدٍ من تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم الذي في التوراة، فمَن شَكَرَها استمرَّت وزادَت من الكريم الرَّزّاق.. ولكنَّ البعض منهم لم يُحسنوا شُكْرَها فتَرَكوا العمل بالإسلام بعضه أو كله، فعلي كل مسلمٍ ألاّ يَتَشَبَّه بهم حتي لا يَتعس مِثْلهم في الداريْن.. لقد عَلّمهم الله تعالي النظام، فكلّما كَثر العَدَد، تُقَسَّم الأرض ويُقَسَّم الناس إلي مجموعات، ولهم قياداتهم ومسئولون عنهم، لكي يُحسنوا إدارة شئونهم علي أكمل وجه، ويكون بينهم التوافق والتفاهُم والتعاون والتكامل والتَّحَابّ لا التصارع والتشاحن والتقاتُل والتباغُض، في المَأكل والمَشْرَب والمَسْكَن والتعليم والعمل والإنتاج والكسب ونحو ذلك.. أيْ وقَسَّمْنَا بني إسرائيل اثنتي عشرة أسباطا أيْ قبائل جمع قبيلة، والأسباط هم الأحفاد لإسرائيل وهو الإسم الآخر للرسول الكريم يعقوب (ص) – جَمْع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – وجعلناهم أمماً أيْ مجموعات من هذه القبائل فكل سِبْط أمة مُسْتَقِلّة عن الأخري.. ".. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.." أيْ وأعلمنا موسي عن طريق الوَحْي حين استسقاه بنو إسرائيل أيْ طلبوا منه السَّقْي أيْ الحصول علي الماء الذي يَسْقِيهم أيْ يَشربونه والذي به يَحْيون بأن يدعو الله تعالي بذلك فاستجبنا برحمتنا وكرمنا لطَلَبه ودعائه وقلنا له اضرب الحجر بعصاك التي معك لتكون مُعْجِزَة أخري أمامهم ليُصَدِّقوه أنه رسولنا ويَتَّبِعوا ما جاءهم به من الإسلام حيث انْبَجَسَتْ أيْ انْفَجَرَت وتَدَفّقَت من هذا الحجر اثنتا عشرة عَيْنَاً من الماء بعَدَد قبائلهم ومجموعاتهم لأنهم كانوا بهذا العدد فعَرَف كل قوم منهم مَشْرَبهم أيْ مكان شُرْبِهم فاطمأنوا واستقرّوا وشربوا وانتفعوا وسَعِدوا ولم يَحدث التّزَاحُم والتّنازُع بينهم.. هذا، والانْبِجَاس هو خروج الماء من مكانٍ بقِلّةٍ والانفجار خروجه بكثرة، فهو درجة تَحْدُث قبل الانفجار، فالعيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.. ".. وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.." أيْ وجعلنا الغَمَام أيْ السحاب مُظَلِلاً عليهم كالمَظَلّة ليَقيهم من حَرِّ الشمس، وأنزلنا عليهم من السماء ماءً ليُنْبَت المَنَّ وهو يشمل جميع ما مَنَّ الله به على خَلْقه أيْ أعطاهم إيَّاه من أرزاق ولكي يَحْيَي به السلوي الذي تأكلونه وهو طائر يشبه السّمَّان لحمه طيّب لذيذ وصَيْده سَهْل.. ".. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.." أيْ وقلنا لهم رحمة بهم كلوا واشربوا من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناكم إيَّاها.. ".. وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)" أيْ وما ظلمونا بعدم شكرهم لكلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ وبعدم اتّباعهم لأخلاق الإسلام، لأنَّ الخَلْق جميعاً لن يُمكنهم حتما ضرِّى فيَضِرُّونى أو نَفْعى فيَنفعونى إذ لا يُقارَن الخالِق القادِر علي كل شيءٍ العالِم تماما به بمخلوقاته، ولكنهم في الحقيقة قطعا يَظلمون أنفسهم لا يَظلموننا لأنَّ ضَرَرَ الظلم وشقاءه واقعٌ عليهم لا علينا حيث كانوا من الظالمين أيْ العاصِين لنا المُعْتَدِين علي وَصَايَانا بمُخالَفتها الذين يُتْعِسون أنفسهم ومَن حولهم في دنياهم وأخراهم بِفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من النّعَم التي لم يشكروها والوَصَايَا المُسْعِدَة التي لم يعملوا بها.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قلنا لهم بعد إنقاذهم من ظلم فرعون اسكنوا في هذه البلدة من بلاد أرضنا حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء وتأكلون منها أكلاً هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاؤون من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدون.. ".. وَقُولُوا حِطَّةٌ.." أيْ وقيل لهم أيضا قولوا سائلين الله تعالي دائما في دعائكم أن يَحُطّ أيْ يَضَعَ ويُسْقِط ويَمْحُو عنكم ذنوبكم كأنْ لم تكن ويَعفو عنها ولا يُعاقِبكم عليها بعد توبتكم منها.. ".. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا.." أيْ وقيل لهم كذلك كونوا دوْمَاً عند دخولكم إليها من بابها ومدْخلها وأنتم مقيمون فيها وفي كل أحوالكم وشئون حياتكم سجدا أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين مُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو السجود له بتَوَاضُعٍ وخُشوع وسُكُون في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)" أيْ فإنْ فَعَلْتم ذلك الذي نُوصِيكم به فإننا حتما بعظيم رحمتنا وكرمنا بكم نغفر لكم ذنوبكم صغرت أم كبرت حتي ولو كانت عظيمة كثيرة- والخطيئات جَمْع خطيئة وهي الذنب العظيم- وأيضا سنَزيد المُحسنين منكم مِن كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وسنَزيدهم إحسانا على إحسانهم حيث سنُعِينهم وسنُيَسِّر لهم كل أسباب أن يفعلوا خيراً أكثر وأكثر بإحسانٍ أيْ إتقانٍ أكثر وأكثر فيَزدادون خيرا وسعادة وتَتَضَاعَف أجورهم في الداريْن، فكلّ خيرٍ يفعلونه سيُؤَدِّي بهم إلي فِعْل مزيدٍ من الخير، وبالتالي ستكون حياتهم الدنيوية والأخروية كلها خيراً في خيرٍ وسعادة علي سعادة، فهذا وَعْدٌ علينا لن يُخْلَف مُطْلَقَاً.. والمُحسنون هم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)" أيْ ولكنَّ الذين ظلموا من بني إسرائيل، أيْ عَصوا الله واعتدوا علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يَظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأنْ يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لم يلتزموا بما قِيلَ لهم في التوراة، فغَيَّروا في قول الله تعالي الذي قاله لهم فيها، غَيَّروا وبَدَّلُوا وحَرَّفوا وخَرَّفوا بلا أيِّ مُبَالَاةٍ أو خوفٍ في قواعد الإسلام وأخلاقِيَّاته ولم يلتزموا ويعملوا بها، وقالوا قولاً وأقوالاً كثيرة غيره من عند أنفسهم مُخَالِفَة له وفَسَّرُوه بغير ما يُرادُ منه لكي يُبَرِّرُوا لأنفسهم فِعْل الشرور مُدَّعِين كذباً وزُوراً أنها من قول الله وأوامره!! وذلك لأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لظلمهم هذا، وبسبب أنهم كانوا يظلمون هكذا أيْ يفعلون كل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، بَعَثْنا وأنزلنا عليهم رِجْزَاً من السماء أيْ عذاباً من عندنا بدرجةٍ ما بما يُناسب شرورهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم ، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل أبداً مِثْلهم ليسعد في الداريْن وإلا تعس كتعاستهم ونالَ مصيرهم فيهما
ومعني "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي يَخْتَبِر بعض البلدان التي يغلب عليها الفساد ببعض الاختبارات لإفاقتهم، لمصلحتهم، لتربيتهم علي تقوية إرادة عقولهم فيمكنهم تدريجيا مقاومة الشرّ فيعودوا مع الوقت للخير.. فالبعض يَستجيب، ويُصَحِّح حاله عند اختباره، فيفوز، ويسعد، في دنياه وأخراه.. والبعض الآخر يستجيب بدرجةٍ قليلة، فيفوز فوزا قليلاً، والبعض قد لا يستجيب مطلقاً ويظلّ علي فساده بل وقد يزداد فيه فيتعس فيهما تمام التعاسة.. أيْ واسأل مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل مُذَكّرَاً إيّاهم لكي تَتّعِظوا جميعاً عن البَلْدَة التي كانت حاضِرَة البحر أيْ قريبة منه مُشْرِفَة عليه والتي كان بها بعض بني إسرائيل حين كانوا يعتدون في يوم السبت على حُرُمات الله، حيث أمرهم تعالي أن يُعَظّموا يوم السبت ولا يصيدوا فيه سمكاً، فاختبرهم سبحانه، حيث كانت حيتانهم أي الأسماك الموجودة في تلك الناحية التي هم فيها تأتيهم يوم السبت شُرَّعَاً أيْ شارِعَة ظاهرة طافية على وجه الماء كثيرة قريبة منهم، وإذا ذهب يوم السبت تذهب الأسماك ولا تأتيهم إلا السبت الذي بعده، فكانوا يحتالون على صيدها بأن يحبسوها يوم السبت في حفائر ويصطادونها في يومٍ بعده.. لقد اعتدوا علي وَصَايَا وأوامر الله تعالي فخَالفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعِه للصيد في هذا اليوم تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي ينطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منهم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام بعضهم بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!!.. ".. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)" أيْ هكذا بمِثْل هذه الاختبارات نَختبرهم بسبب فِسْقهم المستمرّ أيْ بسبب أنهم كانوا باستمرار يخرجون عن طاعة الله والإسلام ويفعلون الشرور والمفاسد والأضرار، فنَخْتَبِرهم وأمثالهم لإفاقتهم، لمصلحتهم، لتربيتهم علي تقوية إرادة عقولهم فيمكنهم تدريجيا مقاومة الشرّ فيعودوا مع الوقت للخير فيسعدوا ولا يتعسوا، نَخْتَبرهم ليَظْهَر منهم المُحْسِن مِن المُسِيء.. إنَّ أسلوب الله تعالي مع الناس والذي يُثْبِته الواقع أنّه مَن أطاعه بأنْ عمل بأخلاق إسلامه سَهَّل له دوْمَاً أموره وأسعده في دنياه وأخراه، ومَن عصاه أدَّبه باختباراتٍ فإنْ لم يَرْجِع واستمرّ في سُوئه استحقّ أن يُعَذّبه فيهما علي قَدْر شرِّه
ومعني "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قالت مجموعة من هذه البلدة السابق ذِكْرها لمْ تَعْص الله تعالي لكنها في ذات الوقت لم تَنْصَح العاصِين أو نَصَحَتهم ولم تستمرّ ويَئِسَت من إصلاحهم بل قالت لمجموعة أخري من الصالحين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم الذين يجتهدون في نُصْح العصاة ما استطاعوا بتَرْك مَعاصيهم والعودة للعمل بالإسلام ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما: لماذا تَنْصَحون أُنَاسَاً مَعْلُومٌ ومُؤَكَّدٌ أنَّ الله – كما هو أسلوبه غالِبَاً مع أمثالهم – مُهْلِكهم أيْ مُسْتَأصلهم تماما من الحياة ومُطَهِّر الأرض ومُرِيح الناس منهم لشدَّة سُوئهم أو مُعَذّبهم بلا إهلاكٍ في دنياهم عذاباً شديداً مناسباً لاستمرارهم علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وعدم استجابتهم للنصْح ثم بما هو أشدّ في أخراهم؟! فلا فائدة إذَن في وَعْظِكم إيّاهم!.. وسؤالهم إمّا للرفض أو للتّعَرُّف منهم علي الهدف.. ".. قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)" أيْ قال المُصِرُّون علي بَذْل ما أمْكَنَ مِن جهودٍ في نُصْح غيرهم بما يُناسبهم المُستمرّون علي ذلك دائما، قالوا لمَن يَطلبون منهم وَقْف نُصْحِهم: نَعِظهم لكي يكون هذا الوَعْظ اعتذاراً إلي ربكم أيْ ليكون عُذْرَاً لنا عند ربنا حين يسألنا عنهم يوم القيامة هل وَعَظْناهم بما نستطيع أم لا فنكون مِمَّن لم يُقَصِّر في تنفيذ ما فَرَضَه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قد قمنا بما علينا ما استطعنا من حُسْن دعوتهم بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وكذلك لعلهم بهذه الدعوة لله وللإسلام يتقوّن أيْ يَخافون ربهم ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وذلك لأنَّ الأمل في عَوْدة كل إنسان لربه ولإسلامه موجود دائما بسبب وجود فطرة عقله المسلمة أصلا بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك مهما كثر فساده، لو أحسنَ استخدام هذا العقل، ولو تَمَّ إحسان دعوته، ولقد استجاب كثيرون كان الأمل فيهم مُنْعَدِمَاً تقريباً وحَسُن إسلامهم كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً في كل زمانٍ ومكانٍ والأمثلة أكثر من أن تُحْصَيَ، فكل داعي لله وللإسلام لا ييأس أبداً مِمَّن يدعوهم فلعلهم بإذن الله يستجيبون، وله أجره في الداريْن علي كل حالٍ سواء استجابوا أم لا
ومعني "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)" أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة الخَيْرِيَّة السعيدة للصالحين النّاهِين عن الشرّ والنتيجة الحتميّة الشّرِّيَّة التعيسة للفاسدين العاصين الظالمين المستمرّين علي سُوئهم.. إنه بيانٌ لحال السعداء في دنياهم وأخراهم وحال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ فلمَّا تَرَكَ العاصُون ما وُعِظُوا به مِن الصالحين منهم وأهملوه ولم يتذكّروه ويعملوا به، واستمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه من سوء، أنقذنا الصالحين الناصحين الذين يمنعون عن السوء بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ من أيِّ عذابٍ ينزل علي المُسِيئين حولهم، وعاقبنا الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، عاقبناهم بعذابٍ بَئيسٍ أيْ شديدٍ مُؤْلِمٍ – من البَأس وهو الشدّة – والذي يُؤَدِّي حتماً إلي كل بُؤْسٍ وضَرَرٍ وشقاءٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة، بما كانوا يفسقون أيْ بسبب وبمقدار ما كانوا يَخْرُجون عن طاعة الله والإسلام ويَفعلون السوء ويستمرّون علي فِعْله بلا توبةٍ منه.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. هذا، ويُلاحَظ أنَّ الله تعالي قد سَكَتَ عن ذِكْر ما حَدَثَ للمجموعة التي سَكَتَت فلم تَنْه عن المنكر ولامَت مَن كان يَنْهَيَ عنه لكنها كَرهته ولم تَفعله بما يدلّ علي أنَّ حال كلّ واحدٍ منهم مَتْروك له سبحانه هل له عَذْر مَقْبُول عنده فلا يُعاقِبه علي ما سَكَتَ عليه في الداريْن أم غير مَقبول فيُعاقِبه بما يُناسب فيهما
ومعني "فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)" أيْ فحينما تَكَبَّروا علي الذي مُنِعُوا منه وظلموا وخالَفوا أمر الله وهو اتِّباع الإسلام وعصوه وتركوه واستهانوا به وتَمَرَّدوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصرّوا تمام الإصرار عليها، جعلناهم بقولنا للشيء كُنْ فيَكون كما نُريد قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمتنا وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم.. إنهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان
ومعني "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين تَأَذّنَ أيْ أعْلَمَ ربك أنه إذا لم يَتوبوا ويُسْلِموا ويَعملوا بأخلاق الإسلام هؤلاء اليهود وأشباههم سَيُرْسِل وسَيُسَلّط عليهم بالتأكيد طوال حياتهم حتي يوم القيامة ونهاية الحياة الدنيا مَن يُذِيقهم أشدّ أنواع العذاب السَّيِّء الشديد النفسيّ والجسديّ كالذلّة والإهانة ونحوها، فهو عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تَصْدُر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. ".. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ.." أيْ إنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك سريع العقاب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، حيث سيُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ.. وكذلك سيُجازِي ويُسَرِّع حتما بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة.. إنه تعالي يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مِثْلما يَفعل خَلْقه.. ".. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)" أيْ وإنه بالتأكيد بلا أيِّ شكّ في مُقابِل سرعة العقاب غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوْسَع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)" أيْ هذا بيانٌ لشكلٍ آخر من أشكال عقوبات الله تعالي المتنوّعة للذين سَبَقَ ذِكْرهم – ومَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمن – بسبب سُوئهم.. أيْ وقد مَزّقناهم وفَرَّقناهم في الأرض مجموعات، مُتَنَافِرَة مُتَضَارِبَة مُتَشَاحِنَة وقد تكون مُتَقَاتِلَة، بعد أن كانوا أمة واحدة قوية غنية آمِنَة هانِئَة.. لقد قطّعناهم أشدّ تقطيعٍ وتمزيقٍ وتفريقٍ حتي أصبحوا لاجئين مَذْلولين ضعيفين في بلادٍ شَتَّيَ.. ".. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ بني إسرائيل، اليهود، في وقت موسي (ص) وبعده لم يكونوا كلهم أشراراً بل منهم الصالحون الذين صَلُحَت أقوالهم وأفعالهم في حياتهم فكانت في كل صلاحٍ وخيرٍ لا فسادٍ وشرّ الذين أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ومنهم أناس دون ذلك أيْ غير ذلك أيْ غير صالحين أيْ كافرين لم يُسْلِموا أو أسلموا لكنهم فاسدون يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها حيث التعميم بوَصْف الجميع بالسوء هو نوع من الظلم الذي يرفضه ويمنعه الإسلام لأضراره وتعاساته في الداريْن.. ".. وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)" أيْ واختبرناهم بما هو حسن وما هو سيء، بالحالات الحسنات التي يستحسنونها ممثلة في السلامة والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذريات والماليات والممتلكات وما شابه هذا، وكثيرا ما تكون هذه الحالات وهي الأصل، وأحيانا واستثناءً بالحالات السيئات التي تسوؤهم ممثلة في الخوف والتعسير والفقر والمرض والضرر ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)" أي لعلهم بتلك الاختبارات يرجعون إلينا وإلي الإسلام أيْ رحمة مِنّا بهم لكي يرجعوا ليسعدوا في دنياهم وأخراهم أيْ يَستفيقوا ويستقيظوا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويزيحوا الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره لأنَّ هذه الاختبارات تدعو العقلاء للتفكّر والاعتبار والتصويب لِمَا هو شرّ وخطأ وتَرْكه والشكر لله لِمَا هو خير وصواب والزيادة منه لتَتِمّ سعادتهم في حياتهم وآخرتهم وذلك حين يرون حُسْن وسرور حال الصالحين وسُوء وغَمّ حال مَن هم دون ذلك.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك عابدين لربهم متمسّكين بإسلامهم فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن مُنتفعين ممّا يُصيبهم في دنياهم مِن خيرٍ فيشكروه ليزيدهم ربهم منه ولا يمنعه عنهم بعدم شكره أو سوءِ استخدامه ومِن سوءٍ بسبب أفعالهم السَّيِّئة فيكونوا مُصَوِّبين دوْما لأخطائهم ليَنْجُوا من تعاساتها الدنيوية والأخروية
ومعني "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة سُوءِ الذين يَبيعون دينهم الإسلام فلا يعملون به كله أو بعضه من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويَستهينون بذلك ولا يُقَدِّرون نتائج شرورهم بل يَتَوَهَّمون من شِدَّة إغلاقهم لعقولهم وسوء تفكيرهم أنَّ الله تعالي لرحمته الواسعة سيَغْفِر لهم بالتأكيد رغم استمرارهم وإصرارهم علي ما هم فيه بلا توبةٍ ولا عملِ خيرٍ!! وهذا البيان والتوضيح هو تحذيرٌ شديدٌ حتي لا يَتَشَبَّه بهم أيُّ أحدٍ فيتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه ولا يسعد أبداً فيهما.. أيْ فجاء مِن بعد هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرُهم والذين كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ويستفيدون من الابتلاءات فيَرجعون لله وللإسلام، جاء مِن بَعْدهم خُلَفاء سَيِّئُون شديدوا السُّوء، حيث قد أخذوا وانْتَقَلَ إليهم من آبائهم وأجدادهم الكتاب وهو التوراة الذي فيه الإسلام الذي كان يُناسب عصرهم، ولكنهم لم يعملوا به، فهُم يَأخذون حُطام هذا الشيء الأدني أيْ الأسفل الأقلّ وهو الدنيا أيْ يَتركون أخلاق إسلامهم ليَحصلوا علي ثمنٍ عارِضٍ أيْ زائلٍ يُعرَض لهم من أثمان الدنيا الرخيصة كأموال ومناصب ونحوها ويقولون مع ذلك، مع إصرارهم علي فِعْل هذا وانغماسهم فيه بلا أيِّ توبةٍ مُعترفين تماما بأنهم مُذنبون، يقولون سَفَهَاً وخِدَاعَاً لأنفسهم سيَغفر الله لنا مُؤَكّداً كل ذنوبنا، لأنهم من أكاذيبهم وافتراءاتهم وتخريفاتهم وأمْنِيَّاتهم وأوْهامهم التي قالوها ويقولونها اسْتِخْفافاً بعذاب الله أنه لن تَمَسَّنا النار في الآخرة مهما فعلنا من شرور ومَفاسد وأضرار إلا أياماً معدودات قليلات يُمكن عَدَّها ويُمكننا تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها، وأننا أبناء الله وأحباؤه، وما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وأمْنِيَّات وأوْهام!!.. وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ الشديد لهم ولأمثالهم.. ".. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ.." أيْ هذا بيانٌ أنهم مِن المُصِرِّين لا من التائبين.. أيْ والحال والواقع أنهم إنْ يأتهم عَرَضٌ حرامٌ آخرٌ مِثْل الذي أخذوه سابقا يأخذوه مرة أخري بلا أيِّ توبة، فهم مُصِرُّون على الذنب عائدون إلي مثله غير تائبين منه، وكلما أتاهم مَكْسَبٌ حرام أخذوه ومَنُّوا أنفسهم بالمغفرة كذباً على الله تعالى حيث هم لا يتوبون، لأنَّ التوبة الصادقة تَتَطلّب الاستغفار باللسان والندم بالعقل والعزم بداخله علي عدم العودة ورَدّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب متعلقا بهم، وهم لا يفعلون ذلك، فالذي مِن حقّه أن يقول سيُغْفَر لنا هو مَن امتنع وندم.. هذا، ومَن تاب توبة صادقة من ذنبٍ مَا ثم عاد إليه ثم تابَ منه يتوب الله عليه حتي ولو عاد له كثيراً ما دام في كل مرةٍ ينوي بصدقٍ عدم العودة، لكن عليه الاجتهاد في تَرْكه ليَتَجَنّب تعاساته.. ".. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ.." أيْ هل لم يُؤْخَذ عليهم العهد والوَعْد المُؤَكّد في الكتاب أي التوراة حين آمنوا أن يعملوا بما فيه وأن لا يقولوا علي الله إلا الصدق في كل قولٍ وأن لا يعملوا إلا بالخير في كل عملٍ وقد قرأوا وفهموا وعلموا تماما ما فيه من إسلامٍ يُرْشِدهم لقول الصدق لا الكذب وفِعْل الخير المُسْعِد في الداريْن لا الشرّ المُتْعِس فيهما؟! لقد أخذ الله تعالي عليهم الميثاق بالفِعْل وهم دارِسُون لِمَا هو مطلوبٌ منهم ولكنهم مع كل ذلك لم يعملوا بأخلاق كتابهم وخالَفوا عهدهم معه سبحانه فلم يُوفوا به مُتَعَمِّدِين واعِين لا جاهِلين أو ناسِين بما يدلّ علي شِدَّة سُوئهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)" أيْ والدار الآخرة حتماً بسبب أنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، هي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين، حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف، هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ الدنيا الزائل يوماً مَا، ولكنها ليست لأيِّ أحدٍ بل هي فقط للذين يتّقون أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)" أيْ والذين يَتَمَسَّكون دائما منكم أيها الناس بكل أخلاق الكتاب بأنْ يعملوا بما فيه كله في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم بكل قوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنه لسعادتهم، الكتاب الذي أنزلناه إليكم مع كل رسولٍ في كل زمنٍ وفيه الإسلام الذي يُناسب عصركم والذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وآخر كتاب هو القرآن العظيم، ووَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. هذا، وقد خُصَّت الصلاة بالذكْر مع أنها مِن كل ما يُتَمَسَّك ويُعْمَل به من الكتاب للتنبيه علي أهميتها وآثارها المُسْعِدَة.. ".. إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)" أيْ وبسبب تَمَسُّكهم وصَلاحهم فنحن لا يمكن أبداً أن نُضِيع ونُذْهِب أجر المُصْلِحين وهم الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون أنفسهم وغيرهم بالصلاح وبالخير الذي بالإسلام ولكنْ نُعْطِيه لهم كاملا علي قَدْر أعمالهم بل ونُنمِّيه ونزيده أضعافاً مُضَاعَفَة بلا حسابٍ من فضلنا وكرمنا ورحمتنا وحُبِّنا لهم، في دنياهم أولا حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بنا وعملهم بأخلاق إسلامهم، ثم في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد
ومعني "وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين رفعنا بقوة فوق بني إسرائيل جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي (ص) وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا، وتَوَهَّمُوا حينها بل علموا وتأكّدوا أنه واقعٌ ساقِطٌ عليهم لأنَّ الجبل لن يبقي مُعَلّقَاً ففَزِعُوا لذلك، والتعبير بالظنّ لأنه لم يَقَعْ بَعْدُ بالفِعْل، فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منهم وتأييداً لصِدْق رسولنا ليتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه، فالأمر هو تَرْغيب وتَرْهيب لهم للعمل بأخلاق الإسلام التي في التوراة.. ".. خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ.." أيْ وقلنا لهم وأوْصَيْناهم أن خُذُوا ما أعطيناكم إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابكم التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، واذكروا ما فيه من أخلاقيَّات وتشريعات وأنظمة ولا تَنْسوه وتَدَبَّروه واقرأوه وتَعَلّموه وتَدَارَسُوه واعملوا به كله في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)" أيْ لعلكم بذلك تتقوّن، أيْ لكي تَتّقوا، أيْ تَخافوا ربكم وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنُون التعامُل مع الفِطْرة.. إنها الميزان والمقياس الذي جعله الله تعالي في عقل كل إنسانٍ لِيَزِنَ به ولِيَقِيسَ عليه كل أقواله وأفعاله.. إنها مقياس الخير والشرّ.. فإنْ فَكّرَ العقل في خيرٍ مَا، سَمَحَت له به وأعطته الإذن في الاستمرار فيه، وفرحت به، وشعر العقل داخل مشاعره بارتياحٍ واطمئنانٍ وسعادة.. والعكس صحيح.. فإنْ فكّر العقل في شرٍّ مَا، لم تَسْمَح له به ولم تُعْطِه الإذن في الاستمرار فيه وحزنت به وقاوَمَته وتَصَارَعَت معه لمَنْعه وإيقافه وإعادته للتفكير الخَيْرِيِّ في أسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وشعر العقل بقَلَقٍ واضطرابٍ وعدم أمانٍ وكآبةٍ وتعاسة.. وهذا هو مِمَّا يُفْهَم من حديث الرسول (ص) "اسْتَفْتِ قلبك.." (جزء من حديث أخرجه أحمد)، وحديثه "البِرّ حُسْن الخُلُق، والإثم ما حَاكَ في صدرك وكرهتَ أن يَطّلِعَ عليه الناس" (أخرجه مسلم).. هذا، والقلب والصدر والعقل والروح والنفس والبصيرة كلها مرادفات لمعني واحد في الإسلام والقرآن وهو العقل، عند كثير من العلماء.. إنَّ الفطرة مَفْطُورَة ومُبَرْمَجَة من خالقها، أيْ بَدَأهَا وأنشأها، علي أخلاق الإسلام، علي كل خيرٍ مُسْعِدٍ، علي أنَّ الله تعالي واحدٌ لا شريك له، وأنه ربُّ كلِّ شيءٍ يُرَبِّيه ويَرْعَاه، وذلك حُبَّاً من الخالق لخَلْقه ورحمة بهم ليَسْهُل عليهم اتّباع الإسلام ليسعدوا به في حياتهم الدنيا حيث يُنَظّم لهم كل شئونها في كل لحظاتها علي أكمل وجهٍ فيُصلحهم ويُكلمهم ويُسعدهم فيها تمام السعادة ثم في آخرتهم حيث السعادة الأتَمّ والأعظم والأخْلَد.. وهذا هو ما يُؤَكّده حديث الرسول (ص) "كلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علي الفِطْرة.." (جزء من حديث أخرجه ابن حبان).. إنَّ الفطرة من أهم النّعَم علي الإنسان، ليكون دائما علي خيرٍ وحقّ وعدلٍ وصوابٍ وسعادة.. إنها لا تَتَبَدَّل أبداً ولا تَتَغَيَّر مهما فَسَدَ عقله، وهذا هو وعده تعالي الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما يقول ".. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم:30) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وذلك من رحماته وأفضاله سبحانه علي بني آدم حتي يَظلّوا دائما لديهم الأمل في كل لحظة للعودة للخير وللسعادة مهما أساءوا، لكنْ إنْ اسْتَفَاقَت عقولهم واستجابَت لنداء الفطرة التي فيها والتي هي دَوْمَاً تنادي هذه العقول لكلّ خير.. إنَّ كل إنسان بينه وبين ذاته يشهد بالحقّ علي هذا، أنه مولود وبداخله هذا الميزان والمقياس، هذه الفطرة، كما يُؤَكّد ذلك تعالي بقوله "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا"، "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس:7،8) أيْ بَيَّنَ لها أين الخير وأين الشرّ وعَرَّفها بهما، فلا حُجَّة إذَن لأحدٍ أن يقول أنه لا يعلم أين الخير وأين الشرّ، ثم يأتي الإسلام مع الرسل الكرام بعد هذه الفطرة لِيُؤَكّد هذا الخير ويُذَكّر به ويُوَضِّحه ويُفَصِّله وليُعطي من الوسائل ما يُعِين علي اتّباعه وعلي تَجَنّب كل شرّ.. فمَنْ وَصَلَه الإسلام وعَلِمَ به يُحَاسَب عليه يوم القيامة، ومَنْ لم يَصِله ولم يَعْلَم به فيُحاسَب علي الفطرة، أي يُجَازَيَ خيراً علي مَا قَدَّمَ مِن خيرٍ كان يَعرفه من خلال فطرته، ويُجازَيَ شَرَّاً – أو يُعْفَيَ عنه – علي ما قَدَّم مِن شَرٍّ كان يَعرفه بفطرته، وهذا من معاني قوله تعالي ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء:15).. إنَّ الفطرة – أو النفس – هي مع العقل إذَن، إذا كان في خير، وليست ضِدّه، إلا إذا كان في شرّ.. فمَن كان بعقله في خيرٍ دائما، فسيَجد حتماً السَّلاَسَة واليُسْر والسعادة دَوْمَاً.. والعكس صحيح قطعاً.. إنَّ أصل عقلك – نفسك – أيها الإنسان علي الخير، والشرّ استثناء دَخِيل عليه ضعيف أمامه ليس له مكانٌ فيه، فيَسْهُل عليك بالتالي مقاومة هذا الشرّ ومَنْعه، وليس العكس، أيْ ليس عقلك (نفسك) علي الشرّ، والخير استثناء، فيَصْعُب دخوله إلي هذه النفس الشرِّيرَة!!.. إنَّ دَوَام تَذَكّر هذا سيَجعلك دَوْمَاً أقوي في اتّجاه الخير، والشرّ هو الأضعف بالنسبة لك، ويَسْهل عليك أنْ تَغْلبه ولا تَتّبعه بل وتَمنعه وتَنْشُر خيرك، كما يقول تعالي مُؤَكّدَاً ذلك ".. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا" (النساء:76).. وبذلك يَسْهُل اتّباعك للإسلام، وتَسْهل حياتك.. وتَسْعَد في الداريْن.. فلا تَظلم إذَن النفس أبداً وتَتّهمها بأنها شَرِّيَّة لا خَيْرِيَّة!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة قصة الحياة وحِكْمَة سَمَاح الله تعالي بوجود الشرّ فيها في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)"، "أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخرج ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من ظهور بني آدم كلهم، ذرِّيَّاتهم كلها، حيث أخرج من ظَهْر آدم بعدما خَلَقه كلَّ ذرِّيَّته قبل أن يُولَدُوا والتي ستكون في الحياة الدنيا حتي نهايتها وقيام يوم القيامة، كما وَضَّحَ ذلك الرسول (ص) في بعض أحاديثه، بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه وبكيفيةٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه القادر علي كل شيء – والظهور جَمْع ظَهْر وهو الصُّلْب أيْ العمود الفقريّ علي اعتبار أنَّ الخِصْيَتَيْن وهما مصدر المَنِيّ الذي يتكون منه الإنسان باتّحاده مع بويضة المرأة تكونان عند تكوينهما في الجنين في هذا المكان قبل أن تَنْزِلا إلي موضعهما المعروف بين الفخذين عند الولادة، كما وَضَّحَ هذا علماء الأَجِنَّة، إضافة إلي أنَّ أوعيتهما الدموية وأعصابهما التي تُغَذّيهما لكي تُفْرِز المَنِيّ عند سِنّ بلوغ ذلك أصلهما من هذا المكان أيضا فكأنه يخرج منه – وأشهدهم علي أنفسهم أيْ وجَعَلَهم يَشهدون علي أنفسهم بسؤاله إيّاهم ليُقِرُّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم هل أنا لست بربكم؟ فيُقِرُّون مُعْتَرِفِين مُسَارِعِين بالإجابة بسبب وضوح الأمر غاية الوضوح بحيث لا يُمكنهم غير الاعتراف وبسبب مَا وَضَعه فيهم من فطرةٍ مُسْلِمَةٍ مُعْتَرِفَةٍ بكل حقّ قائلين نَعَم نَشْهَد ونَعترف أنك وحدك ربنا ولا مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيرك.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي ما يكون بعد الاستفهام أيْ لنَفْي "ألست بربكم" والذي يعني تصديق أنه ربهم.. ".. أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)" أيْ فَعَلْنا هذا مَنْعَاً من أن تقولوا يوم القيامة يا بني آدم يا مَن عَبَدَ منكم غيرنا وعَصَانا وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار مُتَحَجِّجِين مُحَاوِلِين الاعتذار عن سُوئكم إنّا كنّا عن هذا الأمر وهو عبادتك وحدك والعمل بأخلاق دينك الإسلام كلها غافِلين أيْ لم نَنْتَبه إليه ولم نَعْرِفه ولم نَدْرِ به، فليس لكم بالتالي إذَن أيّ عُذْر.. وذلك لأنهم ما داموا قد خَلَقهم الله تعالي على الفِطْرة التي تُذَكّرهم دائما به وبدينهم، وخَلَقَ لهم عقول تُفكّر، وجَعَلَ أمامهم في كلِّ شيءٍ من مَخْلوقاته المُعْجِزَة ما يدلّ على وجوده وكمال قُدْرَته وعِلْمه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ، وأرسل إليهم الرسل ومعهم كتبه التي فيها الإسلام فعَلّموهم إيّاه وبَشّرَوهم وأنْذَرَوهم، فقد انتهت بالتالي أيُّ حُجَّةٍ لأيِّ أحد، وسيُحَاسَب بكل عدلٍ وبما يُناسِب علي ما عمل في حياته الدنيا من خيرٍ أو شرّ.. هذا، ورحمة الله واسعة لمَن يَتوب ويَعود له ولدينه في حياته قبل موته.. "أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)" أيْ وفَعَلْنا ذلك أيضا مَنْعَاً لكم من أن تَتَحَجَّجُوا وتُحاولوا الاعتذار عن سُوئكم بحُجَّة أخري بأن تقولوا يوم الحساب إنَّ آباءنا هم الذين أشركوا مِن قَبْلِنا وكنا ذرِّيَّة لهم فاقْتَدَيْنا بهم ونَشَأنا علي طريقتهم بسبب أنهم آباؤنا وأجدادنا وحال الذرِّيَّة الاقتداء بالآباء وكنا جاهِلين ببطلان وسوء شِرْكهم وأنك وحدك الإله بلا شريك مُحْسِنين الظنّ بهم أنهم علي صواب فنحن بأنفسنا وحدنا من غيرهم لا نعرف أين الحقّ والصواب وطريق التوحيد وكيفية الاستدلال عليه، فهل تُعَذّبنا بما فَعَلَ آباؤنا هؤلاء المُبْطِلون أي المُتَعَمِّقون في الباطل أيْ في كلّ ما هو ضدّ الحقّ أي في كلّ كذبٍ وضلالٍ وشرٍّ وضياعٍ والذين هم كل أقوالهم وأفعالهم واضحة البُطْلان، أيْ أهل الباطل المُتمسّكون العاملون به، أيْ أهل الشرّ والفساد الذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، فأنت يا ربنا حكيم وعادل وقد وَعَدْتَ أنك لا تُؤَاخِذ أحداً بجريمة غيره فلا تُعاقبنا نحن الأبناء بفِعْل الآباء ونحن قد سِرْنا في طريقهم فالحُجَّة إذَن عليهم لا علينا بما شَرَعُوا لنا من الباطل فكيف تُؤَاخِذنا نحن؟!.. والمقصود من الآية الكريمة أنَّ حُجَّتكم الثانية هذه أيضا – والحُجَّة الأولي كما في الآية السابقة أنهم كانوا غافِلين – بالتالي إذَن غير مَقْبُولة مُطلقاً منكم ولا مِمَّن يَتَشَبَّه بكم ويَفعل مِثْلكم ولن تُعْفوا قطعاً من المسئولية ولن تُنْقَذوا من العذاب ما دُمْتُم قد خَلَقكم الله تعالي على الفِطْرة التي تُذَكّركم دائما به وبدينكم، وخَلَقَ لكم عقول تُفكّر، وجَعَلَ أمامكم في كلِّ شيءٍ من مَخْلوقاته المُعْجِزَة ما يدلّ على وجوده وكمال قُدْرَته وعِلْمه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ، وأرسل إليكم الرسل ومعهم كتبه التي فيها الإسلام فعَلّموكم إيّاه وبَشّرَوكم وأنْذَرَوكم، فقد انتهت بالتالي أيُّ حُجَّةٍ لأيِّ أحد، وسيُحَاسَب بكل عدلٍ وبما يُناسِب علي ما عمل في حياته الدنيا من خيرٍ أو شرّ.. إنكم كيف تَتّبعونهم حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنكم قد عَطّلتم عقولكم بسبب الأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ورحمة الله واسعة لمَن يَتوب ويَعود له ولدينه في حياته قبل موته
ومعني "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، وكذلك لعلهم بهذا التفصيل يرجعون أيْ لكي يرجعوا أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم وأشباههم إلي ما وضعناه في فِطْرتهم والتي هي مسلمة أصلا وإلي إحسان استخدام عقولهم فيستفيقوا ويعودوا إلينا وإلي إسلامهم لتتمّ سعادتهم في الداريْن ولا يتعسوا فيهما لو استمرّوا علي ما هم فيه من سُوء.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك عابدين لربهم متمسّكين بإسلامهم فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن مُنتفعين ممّا يُصيبهم في دنياهم مِن خيرٍ فيشكروه ليزيدهم ربهم منه ولا يمنعه عنهم بعدم شكره أو سوءِ استخدامه ومِن سوءٍ بسبب أفعالهم السَّيِّئة فيكونوا مُصَوِّبين دوْما لأخطائهم ليَنْجُوا من تعاساتها الدنيوية والأخروية
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)" أيْ هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ للإنسان ألاّ يَتَفَلّت من الإيمان بآيات الله تعالي والعمل بكل أخلاق الإسلام وألاّ يَقْبَلها وهي التي تُوافِق فِطْرته والتي هي مسلمة أصلا كما ذُكِرَ في الآية (172) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) ويَقبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهي تُحيط به من كل جانبٍ مُلاَزِمَة له كما يُحيط الجِلْد بالجسم لو تَدَبَّر أيّ مخلوقٍ مُعْجِزٍ حوله في كوْنه سبحانه وتَدَبَّر آيات قرآنه العظيم، وإلاّ لو تَفَلّت ولم يَقْبَل وكَفَرَ أو أسلمَ لكنْ لم يعمل بالإسلام كله أو بعضه لَتَعِسَ تعاسة في الداريْن بمِقدار بُعْده عن ربه وتَرْكه لدينه.. أيْ وأيضا اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ الذي آتيناه آياتنا فانْسَلَخَ منها لينتفعوا بما في هذا الخبر من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما، أيْ الذي أعطيناه وعلّمناه وفَهّمناه برحمتنا وفضلنا وكرمنا آياتنا – من خلال ما أعطيناه من عقلٍ وحواسّ وفطرةٍ ورسلٍ وكُتُبٍ ودعاةٍ لله وللإسلام وتيسيرٍ لأسباب المعرفة والعلم حوله – أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، لكنه لم يَنتفع ويَسْعَد بكل هذه الآيات بل انْسَلَخَ منها أيْ خَرَجَ وتَجَرَّدَ منها وخَلَعَها كما يَخرج من مَلابسه ويَخلعها ويَنْزعها والمقصود أنه تَرَكَها وأهملها ولم يَتَذَكّرها ويَتّعِظ ويعمل بها ونَسِيَ ما ذَكّره ربه به من خلال رُسُله وكُتُبه التي أرسلها معهم إليه من العمل بأخلاق الإسلام وأعْرَض عنه أيْ أعْطَيَ ظَهْرَه والتَفَت وانْصَرَف وابْتَعَد وفارَقه ولم يَبْقَ له به أيّ اتّصال، وقد يكفر، وما كل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله وذلك بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)" أيْ فلمّا انْسَلَخَ منها أتْبَعه الشيطان كنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ لانْسِلاخه – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟) – أيْ لَحِقَه وأدْرَكه ولازَمَه وسَيْطر واسْتَوْلَيَ عليه وكان دائم التواصُل معه يُوقِعه دَوْمَاً في الشرّ فأصبح أيْ صارَ بالتالي من الغاوين أي الضالّين أيْ الفاعِلين لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن، وذلك لأنه قد افتقد الحَصَانَة التي تَحْميه وتُوَجِّهه لكل خيرٍ مُسْعِدٍ وهي آيات ربه ومَعُونته وأخلاق إسلامه.. هذا، ولفظ "فأتْبَعه" هو مُبَالَغة في ذمِّ هذا الإنسان وتحقيره حيث يُفيد أنه كالقائد للشيطان والشيطان هو الذي يَتْبَعه!!
ومعني "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالِمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! ولو شاء ألاّ يَنْسَلِخَ أحدٌ مِن آياته مَا أنْسَلَخَ أبداً! ولو شاء أن يرفع الناس جميعا إلي أعلي درجات السعادة في دنياهم وأخراهم لفَعَل بالقطع! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. وخلاصة القول أننا لو شئنا لرفعناه أيْ لرفعنا هذا الذي انسلخ من آياتنا الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة إلي أعلي درجات الصالحين السعداء في الدنيا والآخرة لَفَعَلْنا فلا يَصْعُب علي قُدْرتنا شيء ولكننا نفعل ذلك إذا أراد هو هذا الارتفاع أولا واتّخذ أسبابه بأنْ أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لفطرته وبدأ بالعمل بهذه الآيات أيْ بأخلاق الإسلام فنشاء له حينها الرِّفْعَة بها بأن نُوَفّقه لعمله بها ونُيَسِّر له أسباب ذلك ونزيده توفيقاً وتيسيراً حتي يَصِلَ إلي تمام العمل بكلها وكمال الصلاح في الداريْن.. ".. وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.." أيْ ولكنه هو الذي لم يَشَأ لنفسه ذلك واختار في المُقابِل بكامل حرية إرادة اختيار عقله أنْ أخلد إلي الأرض أيْ سَكَنَ وأقامَ فيها، والمقصود أنه نَزَلَ إلي ما هو أسفل ولم يُرِدْ ولم يَخْتَرْ ما هو أعلي وأرْقَيَ وأسْمَيَ، أيْ سَكَنَ وأقام ودَاوَمَ في أحَطّ وأخَسّ وأحْقَر وأتْعَس تَصَرُّفات ولم يَقْبَل بأرْقاها وأعلاها وأطهرها وأسعدها، أقام في كل شرٍّ وسُوءٍ وتعاسة، وبكل إصرارٍ واستمرار.. واتّبَعَ هَوَاه أيْ سارَ خَلْفَ أفكاره الشَّرِّيَّة في عقله باختياره ففَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار.. فيشاء له حينئذٍ ربه ذلك، أيْ يَتركه فيه ولا يُعينه، ما دام لم يُظْهِر هو أيَّ بادِرَةِ خيرٍ ولو بخطوةٍ نحو هذا الخير حتي يُساعده سبحانه عليه وعلي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. ".. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ.." أيْ فمَثَلُ هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وكان إيتاء الآيات وعدم إتيانها بالنسبة له سواء فلا تُؤَثّر فيه ولا يَنتفع ويَنصلح بها بل يَبْقَيَ علي حاله يَخْلد إلي الأرض ويَتّبِع هواه، كمَثَل الكلب إنْ تَشُدّ عليه وتُشير إليه بتهديدٍ وتُطارِده يَلْهَث، أيْ يَتَنَفّس بشِدَّة نَفَسَاً سريعاً مُتَقَطّعَاً مع إخراج لسانه من التّعَب، وإنْ تركته على حاله يَلْهَث أيضا، فهو دائم اللّهْث في الحالتين، لأنَّ اللّهْثَ تَصَرُّفٌ وفِعْلٌ من أفعاله، فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظلّ علي سُوئه سواء اجتهدْتَ أيها المسلم الصالح في دعوتك له لله وللإسلام أو أهملته.. إنه يَلْهَث ويجري دائما وراء شروره ومَفاسده وأضراره، وحيرته ومَشَقّته بسبب سُوئه لا تنقطع.. إنه في أسوأ حالٍ وعلي أسوأ صورة، إنه ستكون عليه بَلادَة كبلادة الدوابّ، كالكلب، في أقبح أحواله وأوضاعه ومَنَاظِره حين يكون لسانه خارج فمه ولُعَابه يَسيل من جانبيه كالمجنون، لأنه قد ألْغَيَ عقله وهو أهم ما يُمَيّزه كإنسان.. إنه لن يعود للخير وللسعادة إلا إذا استفاق وأحسنَ استخدام عقله وتابَ وبدأَ بالعودة لآيات ربه فحينها يَتوب عليه ويُعينه ويزيل عنه آثار سُوئه المُتْعِسَة ويُسعده في الداريْن.. ".. ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا.." أيْ ذلك الوَصْف هو وَصْف جميع الذين كذّبوا بآياتنا المُنَزّلَة في كتبنا وآخرها القرآن العظيم علي رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص)، في كل زمانٍ ومكان، حيث لم يُصَدِّقوا بها ولم يعملوا بما فيها بل خَالَفوها وفَعَلوا كلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ في الداريْن.. ".. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، فاقرأ بالتالي إذَن علي الناس واذكر وارْوِ لهم وأخْبِرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من بَعْده المَقْصُوص عليك من جِهَتنا في قصص – جمع قِصَّة – القرآن الكريم من مِثْل هذه الأحوال والأخبار والأحداث والأمثال والدروس والعِبَر، لعلهم يتفكّرون أيْ لعلهم بذلك يَتفَكّروا أيْ لكي يتفكّروا أيْ يُحسنوا استخدام عقولهم ويَتدبَّروا ويَتعمَّقوا في الأمور فيَصِلوا حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدوا بذلك تماما في دنياهم وأخراهم.. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا الدنيا والآخرة في تمام التعاسة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين لقرآنهم عامِلين به كله
ومعني "سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لشِدَّة سُوئهم والتأكيد عليه.. أيْ ما أسوأ مَثَل وحَال أولئك القوم الذين كذّبوا بآياتنا المُنَزّلَة في كتبنا وآخرها القرآن العظيم علي رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص)، في كل زمانٍ ومكان، إذ لم يُصَدِّقوا بها ولم يعملوا بما فيها بل خَالَفوها وفَعَلوا كلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ في دنياهم وأخراهم، ما أسوأهم حيث شُبِّهُوا بالكلاب كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، ويظلمون أنفسهم قبل أيّ أحدٍ آخرٍ بسبب تكذيبهم هذا وفِعْلهم للسوء المُهِين المُضِرّ المُتْعِس لأنَّ ضَرَرَ ذلك وشقاءه واقعٌ عليهم أولا حتماً حيث سيُعَاقَبون بكل تأكيدٍ بما يستحِقّون يوما مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. وفي هذا تحقيرٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)" أيْ مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله، فمِثْل هذا هو الذي وَصَلَ للهداية الحقيقية المُؤَكّدَة في الحياة، إنه هو المُهْتَدِي بحقّ وبجَدٍّ وبكل تأكيدٍ ولن يستطيع أيّ أحدٍ أن يُضِلّه، إنه بالقطع السعيد السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، لأنَّ الله خالِقه سيكون هو وَلِيّه أيْ وَلِيّ أمره يَتَوَلّيَ كلّ أموره وشئونه فيهما (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)" أيْ فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)" أيْ ولقد خَلَقْنا للنار يوم القيامة كثيراً من الجنّ، ولفظ الجنّ في لغة العرب يعني كلّ ما جَنَّ من المخلوقات أي خَفِيَ عن الأنظار والمقصود والله أعلم المخلوقات التي سيَجعلها الله تعالي وقوداً للنار ولا يَراها المُعَذّبون فيها.. وأيضا خَلَقْنا للعذاب فيها كثيراً من الإنس – أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس – وليس المفهوم أنه سبحانه خَلَقهم ليُعَذّبهم حاشَاه تعالي وإنما للانتفاع بالحياة والسعادة فيها ولكنهم أفسدوها حيث لم يُطيعوه حينما أوْصاهم بالعمل بكل أخلاق الإسلام في كتبه مع رسله والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم وبَشّرَهم بالجنة لمَن يَعمل بها حيث سيَسعد في دنياه ثم أخراه وحَذّرهم بالعقاب بعذاب جهنم لمَن يُخَالِفوا فكذّبوا بذلك ولم يُصَدِّقوه وعانَدُوا واستكبروا واستهانوا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لأنفسهم ولغيرهم فاستحقّوا دخولها وعذابها بقَدْر ما يُناسِب مَساوِيء كلٍّ منهم بكلِّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا.." أيْ هذا بيانٌ لصفات المُعَذّبين بها ولأسباب عذابهم لكي يَحذرها تماماً ولا يَفعلها مُطْلَقَاً أيُّ عاقلٍ حتي لا يكون مصيره تعيساً مِثْلهم في الداريْن بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ لهم عقولٌ لا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يُدْركون ولا يَفهمون ولا يَعلمون بها الحقّ والخير، ولهم أعْيُن لا ينظرون بها نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى معجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم فهُم لهم عيون تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. ".. أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم كالبهائم التي لا تَعْقِل شيئا حولها والتي لا يشغلها إلا الأكل والشرب والتناسُل! لعدم انتفاعهم بما وَهَبهم الله تعالي من عقولٍ للتّدَبُّر، بل هم أضَلّ منها! أيْ أسوأ حالاً، لأنه علي الأقلّ هذه الأنعام التي لا تعقل شيئاً لها بعض عقلٍ وإدراكٍ تستجيب به لراعِيها الذي يَرْعاها حين يهديها ويُوَجِّهها للخير حيث مكان طعامها وشرابها وأمنها وحمايتها من الخطر وهي تَتّجه دائما نحو ما ينفعها وتَتَجَنّب ما يَضرّها بفطرتها التي خَلَقها فيها خالقها الكريم إضافة إلي أنها تنفع الإنسان بألبانها ولحومها وجلودها وغيرها، أمَّا هم فليسوا كذلك مُطلقا!!.. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)" أيْ هؤلاء قطعاً مُؤَكّدَاً هم التّائهون النّاسُون الضائعون اللّاهُون الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسون في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التعامُل مع أسماء الله تعالي وصفاته، فكلها الحُسْنَيَ، بمعني الكمال وتمام الحُسن، فإنْ كان الله تعالي قادرا فهذا يعني تمام القُدْرَة علي كل شيء، وإنْ كان حكيما فمعناه تمام الحكمة بوَضْع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وهكذا.. ولذا، فعندما تدعوه تأتي بما أمكن بما يُناسِب دعاءك، فلعلّ هذا قد يكون أقرب للإجابة، وإنْ كان أيّ دعاءٍ مِن أيِّ محتاج له سبحانه الكريم الودود سيكون مُجَابَاً بإذنه تعالي (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء، وكيفية اتَّخاذ أسباب الإجابة، وسعاداته في الداريْن)، فمثلا إنْ كنتَ تريد رزقا تقول ارزقني يا رزَّاق وإن أذنبتَ ذَنْبا فاستغفر الغفور الرحيم، وهكذا.. كذلك تَتَعَبَّد له، أيْ تُطيعه، بهذه الأسماء والصفات الحسني، في كل أقوالك وأفعالك في كل مواقف حياتك، بمعني أنه إذا كان سبحانه سميعا بصيرا فلا تَقُلْ ولا تفعل إلا خيرا لأنه يَسمعك ويُبْصِرك، وإذا كان مُنتقما من كلّ ظالمٍ فكن عادلا لا تظلم أحدا بأيِّ ظلم حتي لا ينتقم منك له، وهكذا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه بأيِّ اسمٍ تَدعوه وتتعامَل معه به سبحانه فقد حَصَلَ المقصود من حُسْنِ تواصُلك معه وحبك له وحبه لك واعتمادك عليه وعوْنه وإسعاده لك، فكلها أسماؤه تعالي وصفاته، وكلها حَسَنَة، وليس له اسم أو وَصْف غير حَسَنٍ!.. وإيَّاك ثم إيّاك أن تكون مُلْحِدَاً، أيْ مُنْحَرِفاً عن الحقّ مُتَّجِهَاً للباطل، مُنْحرفا عن الله والإسلام متجها لغيرهما، وإلا تَعِسْتَ في دنياك، ثم في أخراك بما هو أعظم وأتمّ وأخلد
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)" أيْ ولله تعالى وحده جميع الأسماء التي تدلّ على أحسن المعاني وأكمل الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فسَمُّوه واذْكُرُوه ونادُوه واعبدوه بها (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، للشرح والتفصيل).. ".. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُكوا أيها المسلمون ولا تُقْبِلوا علي ولا تَتَأَثّروا وتَنْشَغِلوا كثيراً بالذين يَمِيلُون عن الحقّ والعدل والصواب في أسمائه تعالي، بأيّ صورةٍ من صور الإلحاد أي المَيْل في أثناء التعامُل معها، سواء أكان تكذيبا وعِنادا لها أم استكبارا عليها واستهزاءً بها أم عدم عملٍ بأخلاقها أم تحريفها وتحويلها عن معناها المُراد منها أم ما شابه هذا.. والمقصود أن اتركوهم فلا تُقْبِلوا عليهم لكي يستشعروا اعتراضكم ورَفضكم لأقوالهم وأفعالهم السيئة فإنَّ هذا قد يُوقِظهم فيَعودون لربهم ولإسلامهم لكنْ مع ذلك وفي ذات الوقت عِظْوهم أيْ ذَكّروهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْوهم فيما بينكم وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحوهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عِظْوهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما.. ".. سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)" أيْ ذَرُوهم فإنهم سيُعَاقَبون جَزاء وفي مُقابِل وبمِقْدار أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها في دنياهم من كفرٍ بالله وإلحادٍ في أسمائه وتكذيبٍ برسله وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلم، سيُجزون – إنْ لم يتوبوا وأصَرُّوا علي ما هم فيه – في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومِن الذين خَلَقنا في كل زمانٍ ومكانٍ مجموعة مؤمنة ثابتة علي إيمانها يرْشدون أنفسهم والناس حولهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، يَهدونهم بالحقّ أيْ بالإسلام الذي في القرآن العظيم، بأنْ يعملوا هم به ويدعوهم إليه ويُعَلّموهم إيّاه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وبه أيضا يسيرون في كل أحكامهم فلا يظلمون أحداً وإنما يَعْدِلون في كل شئون حياتهم حتي ولو علي أنفسهم، فهم يَتَحاكَمون إليه وهو مَرْجِعهم دائماً في كل قولٍ وفِعْل.. إنَّ الناس ليسوا كلهم أشراراً بل منهم حتماً أخيار علي خيرٍ عظيم.. وهذا يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ منهم مَن قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم له فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهذا كذلك يُفيد ويُنَبِّه ضِمْنَاً أنَّ كل الناس بالقطع فيهم الخير في فطرتهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أحسنَ المسلمون دعوتهم لله وللإسلام لاستجابوا ولسعدوا ولنَالَ الجميع الأجر العظيم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)"، "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السُّعَداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التُّعَسَاء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)" أيْ سَنُقَرِّبهم من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجهة التي لا يعلمون أنَّ العذاب سيأتيهم منها، أي من حيث لا يشعرون أنه استدراج بل يَتَوَهَّمون أنّ ذلك تفضيل وتكريم لهم علي غيرهم مع أنه سبب هلاكهم، وذلك من خلال أننا نَمُدّهم بالنِّعَم وأسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمونها في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سببا لعذابهم ولهلاكهم، وكذلك نُسَهِّل لهم أنْ يَتَصَرَّفوا تَصَرُّفاتٍ ويقولوا أقوالا يتوهّمون أنَّ فيها خيرا لهم فإذا بها تضرّهم وتُعذّبهم وتهلكهم، وهذا لون من ألوان كَيْدِى القويّ لهم والذى لا يَتَنَبَّه له أمثال هؤلاء، وذلك حتي لا يمكنهم الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حسرتهم وألمهم والاستهزاء بهم وبكل ما يملكون من قُوَيَ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام منهم فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)" أيْ وأُمْهِل لهم، أيْ وأتركهم لفترةٍ كافية، دون إهمالٍ حتماً، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشفقة عليهم، فإذا لم يعودوا وأصَرّوا علي ما هم فيه، سيكون هذا الإمْهال هو لزيادة شَرِّهم وبالتالي زيادة عقابهم في دنياهم وأخراهم، فإنَّ ذلك هو كَيْدِي بهم أيْ تَدْبِيري ضِدَّهم واسْتِدَراجِي لهم فإنه حتما قويّ شديد لا يُطاق ولا يُمْنَع وهو مُمْلَيَ عليهم لا يستطيعون الفرار والإفلات منه مُطلقا، بسبب سُوئِهم وإصرارهم عليه
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتفكّرون فيما جاء به الرسول (ص)، في القرآن العظيم، في الإسلام، فيما فيه من وَصَايا وأنظمة وتشريعات وأخلاقِيَّات، تُسْعِد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها في جميع الأماكن والعصور حتي يوم القيامة رغم المُتَغَيِّرات الهائلة للبَشَرِيَّة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فهل هذه المُعجزة الربَّانِيَّة، وهذا الرسول الكريم الصادق الأمين (ص)، بهما جنون؟!! إنه يُنْذِر كلّ مَن يُعْرِض عنهما ويُكَذّب بهما بالتعاسة في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْده منهما، ويُبَشِّر مَن يتمسّك بهما بالسعادة التامّة فيهما.. وستَسعد كذلك إذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)" أيْ هل لم يَتَفَكّر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا ومَن يَتَشَبَّه بهم فيَتَدَبَّروا بعقولهم ويَعلموا أنه ليس بصاحبهم – أيْ الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو المُصَاحِب المُلاَزِم لهم ويعرفونه تماما ولا يَخْفَىَ عليهم من حاله الحَسَن شيء – أيّ جنونٍ وأنَّ الذي يدعوهم إليه هو ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. هل لم يتفكّروا فيما جاء به، في القرآن العظيم، في الإسلام، فيما فيه من وَصَايا وأنظمة وتشريعات وأخلاقِيَّات، تُسْعِد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها في جميع الأماكن والعصور حتي يوم القيامة رغم المُتَغَيِّرات الهائلة للبَشَرِيَّة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، في هذه المُعجزة الربَّانِيَّة، وفي هذا الرسول الكريم الصادق الأمين (ص) أكمل الناس خلقا وعقلا، هل بهما جنون؟! هل بَلَغَت بهم السَّطْحِيَّة التي هم فيها وبَلَغَ بهم تعطيل العقول إلي هذا الحَدّ حتي لا يتفكّروا في ذلك؟!! إنه ليس قطعا أبداً بمجنونٍ كما يَدَّعون كذباً وزوراً، فهُم مِن شِدَّة كراهيتهم له وللإسلام وسوء أخلاقهم يَطْعَنُون فيه (ص) محاولين يائسين تشويه صورته وصورة القرآن الكريم لتنفير الناس عنه فلا يَقبلون منه دين الإسلام بقولهم كذبا وزورا وسوء أدبٍ أنه مجنون أىْ مُخْتَلِط في عقله لا يُدْرِك ما يقول بسبب ذِكْره للقرآن وعمله بأخلاقه!! وهم يعلمون تمام العلم أنه (ص) هو الصادق الأمين كما كان يُطْلِق عليه المُصاحِبُون له في زمنه ذلك هم بأنفسهم ويعلمون أنه هو أحسنهم وأكملهم خُلُقاً وعَقْلاً!! كما أنه بالقطع ليس مجنوناً لأنَّ للمجنون صفات يعرفها الجميع كالتخريف وعدم الإدراك وسوء التصرّف ونحو ذلك.. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)" أيْ هذه فقط هي مهمّته ومهمّة المسلمين من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)" أيْ هذا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل لم يَنظر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا ومَن يَتَشَبَّه بهم نَظَر تَأَمُّلٍ واعتبارٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ في مُلْك السموات والأرض وفيما خَلَقَ الله من أيِّ شيءٍ فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا هو وحده الخالق القادر علي كل شيء – والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك أي المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة – ليَستدلّوا بذلك علي تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه فيتأكّدوا تماما أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة؟!.. ".. وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ.." أيْ وهل لم يَنظروا ويَتفكّروا أيضا في أنه من المُحْتَمَل أن يكون قد اقترب موعد موتهم فيَدفعهم ذلك إلي المُسَارَعَة في التوبة واتّباع الإسلام قبل مفاجأة الموت لهم وهم في أسوأ حالٍ هكذا حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفِعْل للشرور والمَفاسد والأضرار فيَصِيروا بالتالي لو ماتوا علي ذلك بلا توبةٍ إلي عذاب الله الذي لا يُوصَف والذي يَسْتَحِقّوه بما يُناسبهم؟!.. ".. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فإذا لم يُؤمن المُكذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يشبههم بحديث الخالق العظيم ورسوله الصادق الأمين وبمِثْل هذه الآيات الكوْنية والقرآنية علي أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فبأيّ كلامٍ ودليلٍ يُصَدِّقون به بعد ذلك إذَن؟!! لا شيء قطعا لأنه لا بَيان وتوضيح حتما أكثر من هذا البيان!! لأنَّ المشكلة بكل وضوح فيهم وليست في الأدِلَّة حيث هم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)" أيْ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نبه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن هذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! إنه حتماً لا هادِي أيْ مُرْشِد له، أيْ لن يَقْدِر أيُّ أحدٍ أنْ يهديه!! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)" أيْ ويَتركهم أمثال هؤلاء الضالّين في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن يُيَسِّر لهم أسبابه وبأن يُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ويَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا).. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)" أيْ كلّ الناس يَستَفْسِرون ويَسْتَخْبِرون ويسألون المسلمين وغيرهم عن ما هي الساعة وأيّ وقتٍ يكون إرْساؤها أيْ استقرارها وثبوتها وحُدوثها، كما تُرْسِيِ السفينة علي المَرْسَيَ عند نهاية رحلتها، وهل هي صدق أم كذب ونحو هذا من أسئلة مختلفة، فالمسلمون يسألون عنها لكي يُحسنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وليَحْيُوا حياتهم مُتَعَلّقِين بها مُتَشَوِّقين لخيراتها ولسعاداتها، والمُكَذّبون والمُعاندون والمُستكبرون والمُستهزؤن ومَن يشبههم يسألون عنها اسْتِبْعادَاً لها وتكذيبا لحدوثها وسُخرية منها، والمُتَرَدِّدون بين الإسلام وغيره من الأنظمة والأديان يسألون عنها لعلهم يَتَثَبَّتُون ويهتدون للخير وللسعادة، وهكذا.. والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ علم موعد حُدُوثها وقيامها أيْ موعد يوم القيامة عند ربي وحده – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وليس عندي ولا عند أيّ أحدٍ مِن الخَلْق أيّ شيءٍ منه.. أي رُدُّوا علي السائلين أيها المسلمون وقولوا لهم إنّ وقتها في علم الله تعالي وحده، وحتي رسله الكرام لم يعلم أيّ أحدٍ منهم موعدها، وهذا مِن رحمته سبحانه وحبّه لخَلْقه، لكي يَتوَقّعوها في كلّ وقتٍ فيُحسنوا الاستعداد الدائم لها بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ فيسعدوا بذلك، ومَن يَدري ويعلم فلعلّ موعدها أو موعد ساعة السائل قريب، أي نهاية أجله في الحياة وموته قد اقترب، ومَن ماتَ فقد جاءت ساعته وقامت قيامته، حيث الموت يأتي فجأة وكل ما هو آت فهو قريب حتما حتي لو تُوُهِّمَ أنه بعيد.. ثم مِن رحمته كذلك بعدم إعلام أحدٍ بها أو بموعد موته أنه لو كان أحدٌ يعلم ما يَحدث في اللحظة المستقبلية لَفَقَدَ الإنسان هِمَّته ونشاطه ولَقَعَدَ يَنتظر ما يعلمه أنه سيَحدث له!! ولَفَقَدَ بالتالي مُتعة الحياة وتنافسها والانطلاق والسعي فيها واستكشافها والتمتُّع بخيراتها والسعادة بها هي والآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها باستصحاب نوايا خيرٍ بعقله عند كل أقواله وأفعاله الدنيوية.. إنه مِن الحِكمة عدم السؤال عن توقيتها بل السؤال عن كيفية الاستعداد لها، بالعمل بكلّ أخلاق الإسلام وبحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ.." أيْ لا يُظْهِرها في وقتها الذي حَدَّدَ أن تقوم فيه إلا هو سبحانه لا أيّ أحدٍ غيره، بما يُفيد التأكيد علي الاستمرار في إخفائها إلى حين قيامها والتيئيس التامّ من إظهار موعدها.. ".. ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.." أيْ اشْتَدَّتْ وعَظُم وَصْفها علي كل مخلوقٍ فيهما، لشدّتها وفظاعة أحداثها، علي البَشَر حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، وعلي السموات والأرض ذاتهما حيث الانشقاق والتناثر والاضطراب والتغيير والتبديل.. إنها شديدة مُخِيفَة علي المُيسيئين إذ ينتظرون كل شرٍّ وتعاسةٍ، يَسِيرة يُخَفّفها الله علي المُحسنين إذ ينتظرون كل خيرٍ وسعادة.. ".. لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً.." أي لا تحضركم ولا تَجِيء إليكم ولا تَحْدُث لكم إلا فجأة.. وبالتالي فالعاقل إذَن هو مَن يُحْسِن الاستعداد لها قبل مَجيئها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وذلك حتي لا يُفاجَيء بحضورها وهو غير مُسْتَعِدٍّ لها ولما فيها من حساب.. ".. يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا.." أيْ يسألونك كأنك عالِمٌ بها، كأنك بالَغْتَ في السؤال عنها حتى علمتها، ولكنك لستَ كذلك، ولفظ حَفِيّ في اللغة العربية مأخوذ من حَفى عن الشيء أيْ بَحَثَ وسألَ عنه بتَتَبُّعٍ واسْتِقْصاءٍ وحِرْصٍ حتي عَلِمَ به، كما أنه مأخوذ من الحَفاوَة أيْ المُبَالَغَة في السؤال عن الآخرين والاهتمام بهم والإكرام لهم فكأنَّ بينه وبين الساعة مَوَدَّة تجعله يعرف الكثير من التفاصيل عنها ومنها موعد حُدُوثها، والمَعْنَيَان مُتَقَارِبان ونتيجتهما واحدة أنه يعلم وقتها فلْيُخْبِر به إذَن، والأمر ليس هكذا.. ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ اذكر لهم مُؤَكِّدَاً حاسِمَاً الإجابة إنَّ علم موعد حُدُوثها وقيامها عند الله وحده وليس عندي ولا عند أيّ أحدٍ مِن الخَلْق أيّ شيءٍ منه، حتي يَنشغلوا بما هو أهمّ وهو حُسْن الاستعداد لها لا موعدها.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)" أيْ ولكن أكثر الناس لا يُدْرِكُون أنَّ الله لم يُعْلِم أحداً بموعدها ويَتَوَهَّمون أنَّ عِلْمها يوجد عند بعض خَلْقه، ولا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يستطيعون استخراج حِكَمَه وهو القادر الحكيم العليم فيما يُخْفِيه من الغيب الذي يَغيب عنهم (برجاء مراجعة هذه الحِكَم التي ذُكِرَت مع تفسير قوله تعالي ".. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي.."، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية (179) من سورة آل عمران ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.."، لتكتمل المعاني).. كذلك كثير من الناس لا يعلمون أنها واقِعَة حتماً لأنهم يُكَذّبون بها.. هذا، ولفظ أكثر يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها – لأنَّ البعض يعلم قطعاً هذه الحِكَم
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني لا أَقْدِر ولا أمتلك وليس بيدي مُطلقاً جَلْب وإحضار لنفسي أيّ نفعٍ أيْ خيرٍ ولا مَنْع أيّ ضرٍّ أيْ شرٍّ إلا الذي شاء اللَّه من ذلك فيُمَلّكنى ويُعطيني هذا النفع أو يَمنع عني هذا الضرّ بتوفيقه وتيسيره، فلا يَأتيني خيرٌ إلا منه ولا يَدْفع عني شرّاً إلا هو، فكل الأمور مُفَوَّضَة مَوْكُولَة مَتْرُوكَة إليه، فما شاء أن يَحْدث لا بُدَّ حتماً أن يَحْدُث لأنه هو وحده الذي يملك كل أسباب النفع والضرّ والهداية والضلال ولو مَنَعَ كل القُوَيَ والطاقات والإدراكات عن خَلْقه لتَوَقّفَت الحياة تماما وما نَفَعَ أحدٌ أحداً أبداً بخيرٍ مَا وما اهتدي لصوابٍ وما أضَرّ أحدٌ أحداً وما مَنَعَ عنه ضَرَرَاً مَا وَقَعَ به، فهو سبحانه النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. إنه تعالي وحده الذي ينفع، إمّا مبَاشَرَة بأنْ يَصِلَ الإنسان بعقله الذي وَهَبَه له إلي ما يريد من سعادةٍ في دنياه وأخراه ويُحسن اتّخاذ أسباب ذلك ما استطاع فيُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويُيَسِّر له الأسباب، وإمّا بصورةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر له آخرين لعَوْنه.. وإنْ أصابه ضَرَرٌ مَا، فلْيُراجِع ذاته وأسبابه التي اتّخذها لتصحيح الأمور (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ كُلّاً من النفع والضرر هو مِمَّا يشاء الله تعالي للإنسان حسبما يشاء ويختار هو بكامل حرية إرادة عقله من أسباب هذا أو ذاك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الإنسان لنفسه يجتهد قَدْر استطاعته أنْ يُحَقّق النفع والسعادة له وأن يمنع الضرر والتعاسة عنه باتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة لذلك، لكن لن تَتَيَسَّر هذه الأسباب ولن تتحقّق نتائجها إلا إذا شاء الله تعالي، أي إذا يَسَّرها ووَفّق فاعِلِيها ومُتّخِذيها ولم يمنعهم أو يمنعها بشيءٍ من الأشياء، فإذا كان هذا حاله مع نفسه أقرب شيءٍ إليه فكيف ينفع أو يضرّ غيره؟! أو كيف إذَن سيأتي مثلاً بعذابٍ أو هلاكٍ له؟! أو كيف سيأتي هو بقيام الساعة أو بمُعجزةٍ خارِقَةٍ مثلاً وهو ما قد يطلبه منه بعض الكافرين والمُكَذّبين والمُعانِدِين والمُسْتَكْبرين والمُسْتَهْزِئين تَعْجيزاً له وتشويشاً عليه لأنه مسلم يدعوهم لأنه يُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن مِثْله؟!!.. ".. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ.." أيْ ولو كنتُ أعلمُ ما غابَ عني من مستقبلٍ آتٍ لاسْتَزَدْتُ من كل الخير لعلمي بأسبابه وما أصابني أيُّ شرٍّ لأني كنتُ سأسْتَعِدّ بأنْ أتَجَنَّب أسباب حُدُوثه قبل أن يَحْدُث لي، ولكنَّ الأمر ليس كذلك مُطلقاً، فهو سبحانه وحده لا غيره عالم الغيب أيْ العالِم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم.. ".. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.." أيْ ما أنا إلا نذيرٌ أي مُحَذّرٌ من تمام الشرّ والتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض الإسلام أو كله أو يُكذب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وبشيرٌ أيْ مُبَشّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة فيهما لمَن عمل بكلّ أخلاقه.. أيْ هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – وليس من مهمّتى ومهمّتهم معرفة علم الغيب والإخبار به، وليَتَحَمَّل الذين لا يَستجيبون ولا يَتّبِعون أخلاق الإسلام إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع بهذا الإنذار والتبشير هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عن ربهم وقرآنهم وإسلامهم، إلا إذا استفاقوا وعادوا إليهم
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات (103) حتي (110) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا تأكّدتَ أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون (برجاء مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات (187)، (221)، (226)، (227) منها أيضا، ثم الآية (195) من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية)
هذا، ومعني "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" أيْ الله تعالي، المستحق وحده للعبادة بلا أيِّ شريك، العالِم بالغيب، العظيم الشأن، الذي ليس كمثله شيء، هو الذي خلقكم أيها الناس أيْ أوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وكلكم عنده متساوون فلا يتكَبَّرَ أحدٌ علي غيره ولا يَفْضُل أحدٌ أحداً إلا بعمل الخير، وخَلَقَ مِن هذه النفس زوجها حواء من جنسها ونوعها وصنفها أيْ إنسانا مثلها وليس نوعا آخر لا يمكنها التعايش معه، وأيضا خَلَقه منه أي مِن آدم لمزيدٍ مِن الاستشعار بأنَّ هذا المخلوق هو جزء منه مُكَمِّل له فيزداد حبا له وتمسّكا به، ليَسْكُن إليها، أي لكي يَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أي ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة – من خلال المودة أي المحبة والرحمة أي اللين والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما، ليحدث التآلُف والتحابّ والالتئام والسرور التامّ بينهما لأنهما من بعضهما، وهذه معجزة عظيمة لأنها هي المرأة الوحيدة التي خُلِقَت من رجلٍ بينما بقية الأنفس يخلقها سبحانه بعد ذلك من التزاوُج بين الرجال والنساء والذي به بَثّ منهما أيْ نَشَرَ في الأرض رجالاً كثيرين ونساءً كثيرات.. وكل هذا هو من بعض دلائل تمام قُدْرته وكمال علمه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ.." أيْ فلمّا جَامَعَ زوجٌ زوجته حيث كان فوقها كالغِشاء والغِطاء – ويُلاَحَظ استخدام القرآن الكريم لألفاظٍ طيِّبةٍ عَفِيفةٍ لمِثْل هذه الأمور تعليماً للبَشَر حُسْن الخُلُق في كل أقوالهم وأفعالهم – حَمَلَت منه جَنِينَاً خفيفاً فاستمرّت به مُتَحَرِّكَة حركتها العادِّيَّة بلا تَثَاقُلٍ لخِفّة الحمل في أشهره الأولي وكذلك استمرّت به إلى وقت ميلاده من غير إسقاط.. ".. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" أيْ فحين صارَت ثَقيلة بسبب نُمُوّ حملها وثقله واقتربت من ولادته، دعا الزوجان الله ربهما – أيْ مُرَبِّيهما وخالقهما ورازقهما وراعِيهما ومُرْشِدهما من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهما ويُكملهما ويُسعدهما تمام السعادة في دنياهما وأخراهما – مُشْفِقَيْن بفطرتهما بشعور الأُمُومَة والأُبُوَّة علي مولودهما مُحِبَّيْن له مُهْتَمَّيْن به قائِلَيْن إذا أعطيتنا مولوداً صالحاً أيْ سليماً في خِلْقته تامّاً لا نقص في عقله وجسده صالحاً للأعمال الإنسانية النافعة المُسْعِدَة صالحاً للعمل بأخلاق الإسلام فيكون صالحاً في دينه مسلماً نافعاً سعيداً، سنكون بالتأكيد من الشاكرين لك علي نِعَمك التي لا يمكن حصرها، بعقولنا باستشعار قيمتها وبألسنتنا بحمدك وبأعمالنا باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، حتي نجدها دائما باقية وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدْتَ ووَعْدك الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)
فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُتَذَكّرَاً دائماً ميثاقك مع ربك، أيْ عهدك ووَعْدك معه، فلا تُخْلِفه (برجاء مراجعة الآية (7)، (12) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)" أيْ هذا بيانٌ للحال القبيح للمشركين من بني آدم وحواء – أي الذين يعبدون مع الله آلهة غيره – حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ مُطلقاً وإلا تَعس تعاساتهم في الداريْن بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ فلمّا أعطي الله تعالي الزوج والزوجة من المشركين مولوداً صالحاً كما يريدان أيْ سليماً تامّاً في خِلْقته جَسَدَاً وعقلاً، جَعَلاَ لله سبحانه شركاء فيما أعطاهما من أبناء وغيرهم من النّعَم التي لا تُحْصَي حيث نَسَبُوا هذا العطاء الكريم إلى الأصنام وغيرها من الآلهة التي يعبدها أمثال هؤلاء المشركين السفهاء أو إلى الطبيعة كما يَدَّعِي البعض كذباً وزوُرَاً أو إلى غير ذلك مِمَّا يَتَنَاقَض مع إفراد الله تعالى بالعبادة والشكر، بل وأبْعَدَا هذا المولود إلي عبادة غير الله والعمل بالإسلام الذي هو في فطرته والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشركين في فترات الشدائد والمَخَاوِف يَلجأون بالدعاء والسؤال إلى الله تعالي وحده لا إلي أيِّ أحدٍ غيره، يدعونه بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ، يدعون خالقهم وحده وقتها بكل إخلاصٍ أيْ صِدْقٍ في دعائهم وفي طاعتهم له مُخْلِصين مُحْسِنين ويَتركون ويَلْفِظون ويَنسون آلهتهم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! إنهم حينها يَنسون بل يحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلِّ شيءٍ لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيِّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنهم يدعونه حينها قائلين وَاعِدِين وَعْدَاً لئن أنْقَذنا الله مِمَّا نحن فيه فسنكون بكل تأكيدٍ من الشاكرين له بأن نعبده أيْ نطيعه وحده بلا أيِّ شريكٍ له في العبادة وبأنْ نَتّبِع دينه ونظامه الإسلام كله بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له، لكنهم بعد أن ينقذهم وفي حال الرخاء يُشركون معه في العبادة أي الطاعة غيره مِمَّا لا يَمنع شَرَّاً ولا يُحَقّق خيراً، مُخْلِفين بذلك وَعْدَهم، فبَدَلاً أن يشكروه تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي منها نعمة نجاتهم مِمَّا هم فيه إذا هم يُشركون!! أيْ يعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب بعضهم النجاة لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض الناس من المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حُدُوث ضَرَر وخوف مَا يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتَرْكهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم! فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)" أيْ فتَعَاظَم الله وارتفع وابتعد عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)"، "وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)"، "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل يُشْرِكون في العبادة مع الله تعالي آلهة كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها لا تَخْلُق أيْ لا تُوجِد مِن عدمٍ أيّ شيءٍ وهي مَخْلوقة من مخلوقات الله أصلا؟!.. إنها لا تَضرّ أحدا ولا تنفعه بأيِّ شيءٍ حيث هي كما يري الجميع واقعا لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟!.. أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! كيف يَلِيق بسليم العقل أن يجعل المَخلوق العاجِز شريكاً للخالق القادر؟! إنه لا مُقَارَنَة حتماً عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! ولكنه التعطيل لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العَجْز والاحتياج المُنَاقِضَيْن لاستحقاق الألوهِيَّة.. أيْ ولا يمكنها هذه الآلهة بالقطع لعابِديها نصراً مَا مِن أيِّ نوعٍ في أيِّ مجالٍ ولا أنفسها تَنْصُر إنما العابدون لها هم الذين ينصرونها! فهي في غاية العَجْز والذلّة فكيف تكون آلهة؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيء (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)" أيْ هذا بيانٌ لتمام عَجْز هذه الآلهة حتي عَمَّا هو أقلّ وأسهل مِن نصر نفسها وغيرها وهو مُجَرَّد الدلالة على مطلوبٍ مَا مِن غير تحقيقه للطالِب!.. أيْ وإنْ تدعوا هذه الآلهة أيها العابدون لها لتُرْشِدكم إلي ما تريدون لا تَتّبِعكم إلي هذا الذي تريدونه فتُجيبكم إيّاه، فهي لا تَنفع بشيء، وأيضا لا تَنتفع بشيء، فلو فُرِضَ ودعاها أحدٌ لهُدَيً أيْ رشادٍ وخيرٍ مَا لا تَتّبعه! فهي لا تَهْدِي ولا تُهْدَي ولا تُرْشِد ولا تُرْشَد ولا تُفِيد ولا تَستفيد! لأنها لا تعقل!.. كذلك من المعاني أنكم إنْ تدعوهم – أيْ تَدعو المشركين – أيها المسلمون، إلي الهُدَي أي الإسلام، لا يَتّبعوكم، لشِدَّة إغلاقهم لعقولهم.. ".. سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ يستوي دعاؤكم لها ولهم وسُكُوتكم عنها وعنهم، فلا يتغيَّر الحال في الحالتين، لأنه لا عقل لها ولهم!
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْزها مع الدعوة لأمثال هؤلاء للتّفَكُّر والتّعَقّل لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولأخلاق إسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسُوا فيهما.. أيْ إنَّ الذين تعبدون غير الله أيها المشركون وتُسَمُّونها كذباً وزُورَاً آلهة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة) هم عباد أمثالكم أيْ مَمْلُوكون لله ربهم مَخْلُوقون مثلكم حيث أنتم أيضا مملوكون له مخلوقون من مخلوقاته، فلا فرق بينكم وبينهم فكلكم عبيد للّه مملوكون، فكيف يَعبد عبدٌ عبدَاً مِثْله عاجِزَاً عن النفع والضُّرّ مِثْله؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. ".. فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْزها كما أنه ذمّ ولوْم شديد ورفض تامّ وتَعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فاعبدوهم واسألوهم جَلْب نَفْعٍ مَا أو مَنْع ضُرٍّ مَا ولتَسْتَجِب لكم إذَن إنْ كنتم صادقين في ادِّعائكم أنها آلهة قادرة علي ذلك! فإنْ لم تَسْتَجِب، ولن تستجيب حتماً، فأنتم إذَن بالتالي كاذبون وهي ليست آلهة ولا تستحقّ العبادة.. والأمر في هذا الجزء من الآية الكريمة هو للتّعْجِيز، لإظهار عَجْز هذه الآلهة ولإظهار كذب وسَفَه مَن يعبدونها.. وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان، لأنهم لا دليل عندهم مِن عقلٍ أو مَنْطِقٍ أو علمٍ على صِحَّة ما يَدَّعُون
ومعني "أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)"، "إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنه مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي.. أيْ بالعقل والمَنْطِق والانْصاف فإنَّ هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تملك أصلاً أقل أسباب القوة والقُدْرَة علي النفع والضرّ كالأرجل للمشي والأيدي للعمل بقوةٍ والأعين للنظر والآذان للسمع ونحو هذا، فكيف تَرْقَيَ لأنْ تكون آلهة تُحَرِّك الكوْن وتَدَبُّر شئون كلّ الخَلْق؟!! أيُّ سَفَهٍ وانْحِطاطٍ هذا الذي هم فيه؟!!.. كيف تعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة كتمام القُدْرَة وكمال العلم والسمع والبصر والرزق والنفع والضرَر وغير ذلك بل هو مخلوق مثلكم بل هو أضعف منكم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. ".. قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي كما أنه ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن إضافة إلي مزيدٍ من التَّحَدِّي لهم وإظهار ضعفهم وعَجْزهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لأمثال هؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم اسْتَدْعُوا وأحْضِروا ونادُوا وهاتُوا واطلبوا واسْتَجْمِعوا آلهتكم التي تدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة واستعينوا بها عليَّ وابذلوا كل جهودكم ثم كيدونِ جميعاً متعاونين أنتم وشركاؤكم أيْ افعلوا بي المَكَائِدَ بكل أشكالها أيْ دَبِّرُوا ضِدِّي ما يُوقِع بي الشرّ والهلاك باستخدام كل إمكاناتكم مُحاوِلِين إيذائي بالقول والفِعْل ولا تُنْظِرونِ أيْ ولا تُمْهِلونِ أيْ ولا تَتْرُكُونِ وتُؤَخّرونِ لأيِّ فترةٍ بل عَجِّلوا بذلك فإني لا أهتمّ بكل هذا لأني مُتَوَكّلٌ علي الله مُعتَمِدٌ عليه مُعْتَصِمٌ به ومَن كان كذلك فلن يخاف شيئاً من المخلوقين جميعاً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (122) من سورة آل عمران ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" ، والآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، والآية (81) من سورة الأنعام "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ..".. ثم مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن أنَّ النافع والضارّ هو الله تعالي وحده).. "إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)" أيْ وذلك لأنَّ وَلِيَّ أمري الذي يُديره لي علي أكمل وجهٍ فيُحِبّني ويَرْعاني وينصرني ويُعينني ويُؤَيِّدني ويُوَفقني ويُؤَمِّنني ويُسعدني هو الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ مالِك المُلك القويّ المتين الذي له كل صفات الكمال الحسني الذي نَزَّل القرآن العظيم الذي فيه التأكيد التامّ بأنه وَلِيِّي وناصري لأني رسوله وبأنه وَلِيّ وناصر كل مسلمٍ يعمل بإسلامه ويتوكل عليه وبأنَّ شركاءكم لا يستطيعون نصركم أو حتي نصر أنفسهم.. ".. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)" أيْ وكذلك عدم الخوف من شركائكم لأنه هو مِن عادته وشأنه وأسلوبه تعالي دائما أنه يتولّي الصالحين وينصرهم ولا يتولّي الفاسدين ويهزمهم.. فهنيئاً للمسلمين الصالحين هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة وتَبْشِيراً لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)"، "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)" أيْ وهذا مزيدٌ من البيان لأسباب عدم المُبالاة بآلهتهم والخوف منها ومزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي كما أنه ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن إضافة إلي مزيدٍ من التَّحَدِّي لهم وإظهار ضعفهم وعَجْزهم.. أيْ والذين تعبدون غيره تعالي أيها المشركون لا يستطيعون نصركم بأيِّ نوعٍ من أنواع النصر في أيِّ مجالٍ ولا أنفسهم ينصرون إنما العابدون لهم هم الذين ينصرونهم! فهم في غاية العَجْز والذلّة فكيف يكونون آلهة؟! إنَّ النافع والضَّارّ بحقّ هو الله تعالي وحده القادر علي كل شيء (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول لا يستطيعون بَدَلَاً عن لا تستطيع والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك وليُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)" أيْ وإنْ تدعوا هذه الآلهة أيها العابدون لها لتُرْشِدكم إلي ما تريدون لا تَسمع إلي هذا الذي تريدونه سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ فتُجيبكم إيّاه، فهي لا تَنفع بشيء، وأيضا لا تَنتفع بشيء، فلو فُرِضَ ودعاها أحدٌ لهُدَيً أيْ رشادٍ وخيرٍ مَا لا تسمعه ولا تَتّبعه! فهي لا تَهْدِي ولا تُهْدَي ولا تُرْشِد ولا تُرْشَد ولا تُفِيد ولا تَستفيد! لأنها لا تعقل!.. كذلك من المعاني أنكم إنْ تدعوهم – أيْ تَدعو المشركين – أيها المسلمون، إلي الهُدَي أي الإسلام، لا يسمعوا آيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، وذلك لشِدَّة إغلاقهم لعقولهم.. ".. وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)" أيْ وكذلك تُشاهِد هذه الآلهة من الأصنام والأحجار وما يُشبهها أيها الناظر إليها المُتابِع لحالها كأنها تنظر إليك بما تَمَّ تشكيله فيها من شكل العيون ولكنها في الواقع لا تري شيئاً لأنها ليست عاقلة تعقل صُوَر ما أمامها.. وأيضا هذا هو حال المشركين تراهم ينظرون إليك ولكنهم لا يُبصرون بمعني أنَّ لهم أعْيُن لا ينظرون بها نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى معجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم فهُم لهم عيون تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم (ص) حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. كذلك ستَسعد كثيراً إذا كنتَ من الذين يُحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الذين لا يُقابِلون الجَهْل وسوء القول والفِعْل بمِثْله
هذا، ومعني "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)" أيْ اقْبَلْ وتَنَاوَل العفو وهو التيسير أيْ عامِلْ به غيرك واعْمَلْ وتَخَلَّقْ به أنت في كل شئون حياتك، في كل أقوالك وأفعالك، مع ذاتك ومع الآخرين، حتي مع الحيوانات والنباتات والجمادات وكل الأشياء! خُذْ بما يَسْهُل علي الذات فِعْله وتَفْعَله بحبٍّ ورغبةٍ وتَشَوُّقٍ ويمكنها المُدَاوَمَة عليه بلا انقطاعٍ وبلا أيِّ مَشَقّةٍ أو ببعض مشقةٍ لكنها مُتَحَمَّلَة مُحَبَّبَة للفطرة بداخلها مُوَافِقَة مُسْعِدَة لها.. هذا، ومن العفو عدم تكليف أحدٍ بأكثر مِمَّا يُعْلَم من قدرته وطاقته، والتّجَاوُز عن بعض النقص والتقصير المَقبول المُحْتَمَل، ومراعاة قُدْرات الصغير والضعيف والفقير ونحوهم، ومعاملة الجميع بِرِقّةٍ ولُطْفٍ ويُسْرٍ بما يَشرح صدورهم ويسعدهم.. كذلك من معاني العفو مُقابَلَة المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان الأمر الذي يُؤدّي إلي كثيرٍ من المصالح والسعادات ومَنْع كثيرٍ من المفاسد والتعاسات للمُسَامِح ولمَن يُسَامِحه وللجميع، وإنَّ الذي يَعفو ويُسامِح هو الأقوَيَ والأعَزّ والأعلي والأحسن والأصْفَيَ بَالَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي (برجاء أيضا مراجعة الآية (134) من سورة آل عمران ".. وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.."، والآية (34) من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وأيضا من معاني العفو، العفو في الإنفاق، أيْ أنْفِقوا العَفْوَ وهو ما تَيَسَّر وخارِج زائِد مَتْرُوك عن احتياجات المُنْفِق وضروراته ولا يَصْعب عليه إنفاقه، والأمر يختلف من فردٍ لآخر حسب تقديره، وإلا كان الإنفاق مُضِرَّاً له شَاقّاً مُتْعِسَا! فليس من المعقول أو المقبول أن يُسْعِد الآخرين ويُتْعِس ذاته! فذلك مِن تَوَازُن الإسلام ليَسعد الجميع.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُوصِي بأنْ يكون المسلم من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين لأنّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ.." أيْ وأَوْصِي نفسك وغيرك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. هذا، والأمر بالمعروف يشمل ضِمْنَاً النهي عن المُنْكَر – لأنَّ الأمر بالشيء هو في الحقيقة نَهْيٌ عن ضِدّه – أيْ المَنْع منه للذات وللغير بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك الجاهلين واتركوهم أيها المسلمون وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. والجاهلون هم الذين لا يعرفون ما يضرّهم وما ينفعهم، ولا يُدْرِكون ما هو واضح وصدق وعدل وخير، فهم لا يُحسنون استخدام عقولهم، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهماً جيداً فلا يَتدبّرون في الأمور، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ!.. إنهم يَجهلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله والعاقل لا يفعل ذلك.. إنهم يجهلون الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. إنهم كالجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ.. إنَّ بعضهم مثلا يعبدون غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه بَعْد كلّ الذي شاهدوه بأعينهم من الآيات أي الدلالات المُعجزات الدالاّت على أنَّ الله تعالي واحد لا شريك له وعلي صِدْق ما جاءهم به الرسول الكريم محمد (ص) من إسلامٍ ويريدون اتّباع غيره فيفقدون سعادتهم في دنياهم وأخراهم.. إنهم يجهلون كل ذلك وبكلّ ما يستحِقّه سبحانه من حبٍّ وطاعةٍ وتعظيمٍ وشكرٍ وتوكّلٍ واعتمادٍ عليه.. إنَّ هذا الجهل لم يكن إلاّ بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يستخدموها في حُسْن العلم والبحث والتدبّر والاستجابة لِمَا في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم لو كانوا علي أقلّ قدْرٍ من العقل المُنْصِف العادِل ما فعلوا ما يفعلون وما قالوا ما يقولون!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُوَجِّه ويُوصِي المسلم ألاّ يُقابِل جَهْل جاهلٍ مَا بجهلٍ مِثْله، أيْ إنْ آذاه بقولٍ أو فِعْلٍ فلا يُؤذيه، وإنْ ظَلَمه فلا يَظلمه بل يَعْدِل معه، وإنْ حَرَمه شيئا فلا يَحْرِمه، وإنْ قاطَعه فلا يُقاطِعه بل يَتَوَاصَل معه ما أمكن، وعليه ألاّ ينشغل بإساءاته فيشغله هذا الجاهل عَمَّا يُفيده ويُسعده في الداريْن ويَستهلك جهوده وأوقاته ولكنْ عليه أنْ يهتمَّ وينشغل بحُسْن دعوته لله وللإسلام
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)" أيْ وإنْ أَلْقَيَ الشيطان في فِكْرك أيها المسلم نَزْغَة من نَزَغَاته أيْ وَسْوَسَة من وَسْوَسَاته، والنزْغ هو أيّ كلامٍ يُراد به الشرّ والإفساد سواء أكان سِرِّيَّاً أم عَلَنِيَّاً، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْماً لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيرا فله كل الخير ومن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.." أيْ فحينها وفوراً الْجَأ إلي الله وتَحَصَّن به واعتَمِد عليه وادْعُوه أن يساعدك علي مقاومة خواطر الشرّ بعقلك حينما تفكر فيها ولا تُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة.. ".. إِنَّهُ سَّمِيعُ الْعَلِيمُ (200)" أيْ لأنه وحده سبحانه الذي يسمع تماما كلّ طلباتك وأقوالك وطلبات كل خَلْقه ويعلم بتمام العلم احتياجاتكم جميعا، وهو وحده القادر حتما علي إبعاد هذه الوساوس عنكم وحفظكم ورعايتكم وتلبية كلّ ما تحتاجونه، فاطمَئِنّوا إذن واسْتَبْشِروا وأَحْسِنوا واسْعَدوا
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ إنَّ الذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء حتما إذا لَمَسَهم وأصابهم طائفٌ من الشيطان أيْ مَا يَطوف ويَدُور بالعقل من الفِكْر الشَّرِّيّ، فبمجرَّد مروره بعقلهم لا يستمرّون فيه بل تَذكّروا عداوة الشيطان لهم المُتَمَثّلَة في التفكير بالشرّ وتَذكّروا الاستعاذة بالله منه وتَذكّروا هيبته سبحانه خالقهم وعظمته ونِعَمه ومراقبته لهم وأوامره ونَوَاهِيه وحسابه وعقابه وجنته وناره ورحمته وغضبه وفقدانهم لرضاه عنهم وعوْنه وخَيْره وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم مع عقابه وعذابه وإتعاسه لهم فيهما بما يُناسب فِعْلهم السَّيِّء لو فعلوه، فحين تَذكّروا كل ذلك وغيره فمُبَاشَرَة وسريعاً إذا هم بسبب ذلك التذكُّر مُبْصِرون أيْ علي بَصِيرَةٍ أيْ مُدْرِكُون مُتَدَبِّرون بعقولهم الشرّ وتعاساته في الداريْن فلا يفعلونه والخير وسعاداته فيهما فيفعلونه
ومعني "وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وبعد ذِكْر حال الذين اتّقوا أنهم إذا مَسَّهم طائفٌ من الشيطان تَذَكّروا فإذا هم مُبْصِرُون، يَذْكُر تعالي حال غير المتّقين بكل صورهم وأشكالهم من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ونحوهم ويُسَمِّيهم إخوان الشيطان لأنهم مِثْله في السوء والشرّ ويَقتدون به فيقول: وإخوانهم أيْ وأمَّا إخوان الشيطان هؤلاء، يَمُدُّونهم الشياطين في الغَيِّ أيْ يُزيدونهم في الغِوَايَة أيْ في الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة في الداريْن وبالجملة في كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ للإسلام، ولا يُقْصِرُون أيْ ولا يَمْتَنِعون ولا يَتراجعون بل يستمرّون، أيْ فلا أهل السوء يَمتنعون عن سُوئهم ويكونون من المُبْصِرِين كالمُتقّين وذلك مهما وَعَظَهم الواعِظون لأنهم ليسوا من الذين اتّقوا، ولا وَساوِس الشياطين أيْ الأفكار الشَّرِّيَّة بداخل عقولهم تمتنع عنهم لأنهم يُنَمّوُنها ولا يَمنعونها، فهُم كلما وَسْوَسَ لهم الشياطين بالشرِّ أيْ وسوس لهم تفكيرهم الشَّرِّيِّ بالشَّرِّ أو وسوس لهم مَن حولهم مِن إخوانهم أي أمثالهم مِن أهل الشرِّ مِن الناس استجابوا له ولهم فيَمُدُّونهم أي يزيدونهم وَسْوَسَة ودَفْعَاً لشرٍّ أكثر وعوْنَاً عليه خطوة وراء خطوة لأنهم يَسْهُل وقوعهم في الشرِّ لأنهم لا يتّقون ولا يُقاوِمون فيزدادون استجابة ويزدادون بالتالي تدريجيا شرَّاً علي شَرٍّ حتي يهلكوا بتمام التعاسة بكل صورها في دنياهم وأخراهم بسبب اتّباعهم لخطوات الشيطان وعدم مقاومتهم وَسَاوِسَه وامتناعهم عن سُوئهم
ومعني "وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)"، " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)" أيْ هذا بيانٌ لشكلٍ من أشكال الغَيِّ السابق ذِكْره وكَشْفٌ لاستهزاء المُكَذّبين برسول الله (ص) وبالقرآن العظيم ليُحاولوا يائِسين إثبات كذبهما.. أي وإذا لم تُحْضِر لهم يا رسولنا الكريم آية من القرآن تَرُدّ علي بعض أسئلتهم في وقتٍ يُحَدِّدونه قالوا لو اخترتها أنت هذه الآية من عندك وذَكَرْتها لنا ككلّ ما تقرؤه من قرآن!! يريدون أنَّ القرآن من كلام الرسول (ص) لا من كلام الله تعالي وأنَّ ما يقوله أنه رسولٌ من عنده هو كذب!! كذلك من المعاني أنهم يَطلبون منه (ص) آية بمعني مُعجزة حِسِّيَّة أمامهم كعَصَيَ موسي مثلا فإذا لم يأتهم بها يقولون له لو اجْتَبَيْتَ بمعني لو طَلَبْتَ أنت هذه الآية التي نطلبها منك غير القرآن الذي لا نعتبره نحن معجزة وسألتَ ربك أنْ يُعطيك إيّاها بما إنك رسوله كما تَدَّعِي فلو أتَيْتَ بها لآمَنَّا بك فإنْ لم تَأْتِ بها فأنتَ إذَن كاذِب ولستَ برسول!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (109) من سورة الأنعام "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي ربي الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، وبالتالي فالإتيان بالآيات أمرٌ ليس لي ولا يُمكنني فِعْله مُطلقاً ولا أتَدَخّل فيه أصلا، لأنَّ ربي إنما أمرني باتّباع ما يُوحى إليّ من عنده فإنما أتّبِع ما يوحى إليّ منه لأني عبده وإيّاه أطيع، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟!.. وما مهمّتي أنا إلا فقط نذيرٌ مُبَيِّن مُوَضِّح لكم الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة لتسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ومُحَذّرٌ لكم من تمام التعاسة فيهما إذا خالَفتم ولم تُصَدِّقوا بربكم ولم تَتَّبعوا إسلامكم، ثم أنتم إمّا تَقبلوا فتسعدوا أو تَرفضوا فتتعسوا، بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم دون أيّ إكراه، ثم لِيَتَحَمَّل كلّ فردٍ نتيجة اختياره.. ".. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ هذا تنبيهٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ لأمثالهم وللجميع أنهم إذا كانوا يريدون آية أيْ مُعجزة فإنَّ أعظم آيةٍ هي هذا القرآن العظيم لأنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. أيْ هذا القرآن العظيم هو بصائر للناس، جَمْع بَصيرة أي إدراك العقل، أي لكي يتبَصَّروا به أي يَروا ويُدركوا ويَتدبَّروا بعقولهم ويُنير لهم طريقهم في حياتهم ويكون لهم هديً أيْ إرشاداً فيعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لهم الرحمة أي السعادة التامّة في الدنيا والآخرة.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)" أيْ هو بصائر للمؤمنين فقط، أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عن ربهم وقرآنهم وإسلامهم، إلا إذا استفاقوا وعادوا إليهم.. "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)" أيْ وبالتالي إذا قُرِيَء القرآن فاستمعوا له أيها الناس وأيها المسلمون، استمعوا لِمَا فيه من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وأنْصِتوا أيْ واسْكُتُوا بلا كلامٍ أو انشغالٍ عنها حتي يُمكنكم إحسان الاستماع باستفادة، لأنَّ فيها كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لأنّه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تماما في الداريْن.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك قارِئين للقرآن مُسْتَمِعِين له عامِلين بكل ما فيه طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
تفسير الآية (205)، (206)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذاكرين الله تعالي كثيرا في كل أحوالك طوال يومك، تذكره بلسانك تسبيحاً وتحميدا وتكبيرا وقراءة للقرآن وشكرا واستغفارا ودعاءً وغيره، وتذكره بعقلك بتَدَبُّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّكَ مَشاعِرَ الخير بداخلك فتنطلق لفِعْله علي أرض الواقع، وتذكره بعملك باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كلّ قولٍ تقوله وكل عملٍ تعمله من علمٍ وإنتاج وإنجاز وكسب وربح وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وإدارة وعلاقات اجتماعية جيدة وإنفاقٍ مِن مال وجهد وصحةٍ وغيره علي أبناءٍ وأزواجٍ وأقارب وجيران وعموم الناس، فليس عمل الخير مقصورا فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كلّ عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعةٍ، أيّ خيرٍ مُسْعِدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون حياتك كلها ذِكْرا لربك ومعه، فتسعد أعظم السعادة فيها، ثم أتمّ وأخلد في آخرتك.. وأثناء ذلك، وفي مُقابِلِه وبفضلٍ وكرمٍ من ربك، سيُيَسِّر لك كلّ أمرٍ مُعَقّد، ويَفتح أمامك كل بابٍ مُغْلَقٍ، وتُحَقّق معظم أو كل ما تريد، وتكون مِمَّن لو أقسم علي الله لَبَرَّ قَسَمَه!
هذا، ومعني "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)" أيْ ودَاوِم يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم على ذِكْر ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وكن من الذاكرين له كثيراً في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، في نفسك أيْ سِرَّاً بداخلك، كما تَذْكُره عَلَنَاً، مُسْتَشْعِرَاً مُسْتَحْضِرَاً مُتَدَبِّرَاً دَوْمَاً بعقلك عظمته ورقابته وحبه وخيره، لأنَّ الذكر في السِّرِّ يكون أقرب إلي الحب والتواصُل والتَّدَبُّر والشكوي والإخلاص أيْ البُعد عن أيِّ رياءٍ أيْ طَلَب سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو مدحٍ أو غيره بل حباً في الله ويقيناً أنه وحده الذي يُجيب طَلَب مَن يَطلب إمّا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة بتيسير بعض عباده ليُجيبوا دعاء مَن يدعوه، كما أنَّ دوام تَذَكُّره ومُراقبته تُعين علي فِعْل كل خيرٍ رغبة في عطائه بالداريْن وتَرْك كلّ شرٍّ رهبة من عقابه فيهما.. ".. تَضَرُّعًا.." أيْ بتَضَرُّعٍ أيْ بسكونٍ واستسلامٍ واحتياجٍ وطَلَبٍ واجتهادٍ وإخلاصٍ وتَقَرُّبٍ ورغبةٍ وأملٍ وفرحةٍ ولجوءٍ وتَوَسُّلٍ وسؤالٍ واضطرار.. فالتّذَلّل لله تعالي وحده هو قِمَّة العِزَّة إذ معناه عدم اللجوء إلا له القادر علي كل شيءٍ وليس لأيّ مخلوقٍ ضعيفٍ مثل مَن يلجأ إليه فيحيا بذلك المسلم عزيزاً كريماً عفيفاً سعيداً.. ".. وَخِيفَةً.." أيْ وبخوف، أيْ بخوفٍ من فقدان حبه سبحانه ورضاه ورعايته وأمنه وعونه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ في الآخرة، بسبب تقصيرٍ في شيءٍ مَا أو مِن خيرٍ مَا قد تُرِك وكان من الممكن فِعْله أو من شرٍّ ما قد فُعِل أو نحو هذا، فيَدفعهم ذلك لاستغفار الله تعالي وذِكْره ودعائه باجتهادٍ لطَلَب عَوْنه علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. فهو خوفٌ إيجابيّ دافعٌ لكل مُسْعِد.. وبالجملة فإنَّ تَضَرُّعاً وخِيفَة تعني رغبة ورهبة أيْ رغبة في سعادتيّ الدنيا والآخرة وخوفاً من عذابهما.. فحال المسلم دائما حين يَذكر ربه ويَدْعُوه ويَطلب خيره ويَسِير في كل شئون حياته يكون مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ.." ايْ واذكره مع ذِكْرك في نفسك ذِكْرَاً بلسانك يكون مُتوسِّطاً مُعْتَدِلَاً أقل من الجهر بالقول أيْ إظهاره وأكثر من الإسرار به، فإنَّ ذلك أيضا يكون أكثر عَوْنَاً علي التَّضَرُّع والخوف والإخلاص كالذكر في النفس.. هذا، وقد يَحتاج ذِكْر الله تعالي أحيانا أو كثيرا ليس إلي السِّرِّ ولا إلي الجهر المتوسط بل إلي الجهر الكثير وذلك حسبما تَتَطَلّبه الظروف والأحوال بما يُناسب وبما يُحَقّق النفع والتذكرة بالخير والسعادة للمسلم الذاكِر ولمَن حوله.. وفي هذا أيضا مزيدٌ من التوجيه للمسلم ضِمْنِيَّاً لأنْ يَحْيَا كل حياته مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء.. ".. بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.." أيْ بأوائل النهار وأواخره.. أيْ اذكره وصَلّي له واعبده وافْعَل كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتك، حين الصباح والمساء وفي كل وقت، لتَسعد تمام السعادة بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحاً بالاستعانة به سبحانه ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيداً رابِحَاً في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة.. ".. وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)" أيْ وإياك ثم إياك أيها المسلم أن تكون من التّائهين النّاسِين الضائعين اللّاهِين عن ذِكْر ربهم في حياتهم الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسين في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لذِكْره ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)" أيْ إنَّ جميع المخلوقات في الكوْن مِن ملائكةٍ وغيرها والتي هي كلها عنده في مُلكه وسلطانه وتحت تصرّفه وعلمه يرعاها ويُدير شئونها علي أكمل وأسعد وجْهٍ هي كلها لا تتعالي أبداً علي عبادته أيْ طاعته طوال الوقت وهي لا تَملّ ولا تكسل ولا تضعف لحظة بل تستلذّ وتستمتع وتسعد بها لأنها تؤدّي مهمتها التي خلقها ربها من أجلها وهي نفع وإسعاد بني آدم، وهي تُسَبِّحه أي تُنَزّهه وتُبعده عن كلّ صفةٍ لا تليق به كما قال تعالي "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)" (الإسراء:44)، وهي تَسْجُد له وحده بلا أيِّ شريكٍ أيْ تخضع وتستجيب وتستسلم لتوجيهاته وإرشاداته وتقوم بطاعتها وتطبيقها كلها بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، فهي مستديمة علي طاعته وذِكْره والسجود له.. فاجتهدوا أيها المسلمون في التشبُّه بملائكته وكلّ خَلْقه في تمام الطاعة والذكْر له وحُسن العمل لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. فالآية الكريمة هي لتَحْفِيز كلّ بني آدم علي ذلك ولتذكيرهم أنَّ مَن يستكبر عن عبادة الله تعالي فإنه بالقطع لن يضرّه شيئا فهو مالِك المُلك الغنيّ عن كلّ شيء، ولا قيمة له ولا لتكذيبه، بل هو قطعا مَن يُضَرّ، مَن سيَتعس في الداريْن ببُعده عن ربه ودينه الإسلام
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن الأنفال أي الغنائم ما حُكْمها ولمَن تكون وكيفية تقسيمها ونحو هذا، والأنفال جمع نفل، وسُمِّيَت كذلك لأنَّ الله تعالي يُعطيها نَفْلاً أيْ زيادة للمسلمين لأنهم لمَّا دافعوا عن الحقّ كانوا مُخْلِصين لم يطلبوا إلا حب ربهم ونُصْرَة دينهم أو الشهادة وجنته، ولم يطلبوا كآخرين مِمَّن يَسْعَوْن في الأرض بالشرّ والفساد والسيطرة والاحتلال، أرضاً أو مالاً أو جاهاً أو غيره، فبالتالي هي ليست في مُقَابِل، أيْ ليست أجرة للمجاهد كالمرتزقة من الجنود، وإنما عظيم أجره عند ربه، فهي زيادة على ثواب جهاده وهي بعض الأجر له في الدنيا قبل ما لا يُوصَف في الآخرة.. ".. قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.." أيْ قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم: الغنائم كلها لله والرسول من حيث المبدأ والأصل يَحْكُم فيها سبحانه بحُكْمه والرسول (ص) – والحاكِم مِن بَعْده – هو الذى يُقَسِّمها على حسب حُكْم الله وأمره فيها إذ الإسلام يعتبر أنَّ كل مَكْسَبٍ يكسبه المسلمون بعد هزيمة مَن اعتدي عليهم هو لله وللرسول والمقصود للمصلحة العامة أيْ ينتفع به الجميع مسلمون وغير مسلمين يعيشون في الدولة المسلمة، سواء أكانت أراضي أم معادن بها أم أموالا أم سلاحا أم غيره، مع مراعاة مَن شاركوا فِعْلِيَّاً في الدفاع والقتال ومَن عاونوهم بإكرامهم وإعطائهم ما يُناسب جهودهم من مَزَايا (برجاء النظر للآية (41) من السورة ذاتها للشرح والتفصيل عن كيفية توزيع الغنائم).. وفى هذه الإجابة عن سؤالهم تريبة حكيمة لهم وهم فى أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم دائما خالصا لله تعالي أيْ من أجل فقط الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أمّا الغنائم التي تأتي فعليهم ألاّ يجعلوها ضمن أهدافهم الراقية من جهادهم، وأن يُفَوِّضوا الأمر فيها لله ورسوله.. هذا، وقد سَمَحَ الإسلام بأخذ غنائم المُنْهَزِمين من المُعْتَدِين كنوعٍ من منعهم مِمَّا يَتَقَوُّون به علي الاعتداء بأخذه منهم ولتخويفهم حتي لا يعودوا لمِثْل ذلك مستقبلا.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ فخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها التّعامُل مع الأنفال فلا تُسِيئوا فيها وتَختلفوا عليها، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ.." أيْ وقوموا بإصلاح الحال بينكم، أيْ أصلحوا مَا بينكم مِمَّا قد يُوجَد مِن تَشَاحُنٍ وتَقَاطعٍ وغيره بالتّآخِي والتّحابّ والتّواصُل والتّرابُط ونحوه من أخلاق الإسلام وروابطها بينكم التي تَرْبِط بعضكم ببعض، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما.. هذا، ومن معاني إصلاح ذات البَيْن أنْ يُصْلِح المسلم ذاته التي بين جسده، أيْ يُصْلِح عقله، فيُصلح ما بينه وبين فطرته فيَعود لها أيْ لكل خيرٍ أيْ لكلّ أخلاق الإسلام، وأنْ يُصلح ما بينه وبين ربه، فيُطيعه ويَتَوَاصَل معه، ويصلح ما بينه وبين عموم الناس فيُحْسِن مُعاملتهم ويُعينهم علي الإصلاح بين بعضهم البعض، ويُصلح ما بينه وبين مخلوقات الله كلها والكوْن كله.. وذلك كله يتحقّق بتقوي الله وبطاعته وطاعة رسوله (ص) ولذا يقول تعالي ".. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها المسلمون – وأيها الناس – ما وَصَّاكم به الله ورسوله (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)" أيْ إنَّ المؤمنين بحقّ أيْ بصِدْقٍ، أيْ المُصَدِّقين بوجود الله المُتَمَسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم الذين يُريدون حقاً أن تكون عبادتهم أيْ طاعتهم مَقْبُولة ويَسعدون بها في الداريْن، من صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة، والتي علي كل مؤمنٍ أن يَقْتَدِيَ بها ويَجتهد في الوصول إليها والعمل بها، أنهم هم الذين إذا ذُكِرَ الله تعالي أمامهم أو تَذَكّرُوه هم اهْتَزَّتْ وتَحَرَّكَت وارْتَعَشَت وأشْفَقَت مَشاعِر عقولهم وأجسادهم لأيِّ شيءٍ يُذَكّرهم به سواء أكان آية من آياته أيْ معجزاته في أيِّ مخلوقٍ في كل كوْنه أم كان آية من آيات القرآن العظيم أم صفة من صفاته الكاملة الحُسْنَيَ ككمال علمه وتمام قُدْرته وعظيم مُلْكه ومُرَاقبته ونِعَمه ورحماته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وذلك الوَجَل سببه الحبّ له، والهَيْبَة منه، والشعور بعظمته وقُدْرَته وكماله، والتّحَرُّج من قِلّة أعمالهم الخَيْرِيَّة – رغم كل ما يُقَدِّمونه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمَقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير، والخوف من بعض تقصيرهم أو عدم إكمالِ وإحسانِ كلّ قولٍ وعملٍ مَا أمْكَن، والحَذَر من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليّ، وبالجملة فعقولهم دائما مُتَوَاصِلَة مع ربهم ودينهم الإسلام حَسَّاسَة مُرْهَفَة تَتَحَرَّك وتَتَفاعَل بما يُناسِب الصورة التي ذَكَرُوا الله عليها فيَستجيبون إمّا بمشاعر حبٍّ أو هَيْبَةٍ أو حَرَجٍ أو خوفٍ أو حَذَرٍ أو مُرَاجَعَةٍ للذات أو تَدَبُّرٍ أو توبةٍ أو أملٍ أو استبشارٍ أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكل ذلك، وبهذا يَحْيَوْن حياتهم في سعادةٍ تامَّةٍ ويستبشرون بما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم.. ".. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم إذا قُرِئت عليهم آيات الله تعالي في قرآنه الكريم زادتهم قوَّة في التصديق بوجوده – لتَدَبُّرهم العميق لكلّ مَعانيه – وفي أنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنَّ شرعه الإسلام هو وحده الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنه هو الذي يُوافِق العقل والفطرة، فازدادوا بهذا قوَّة وهِمَّة في حبِّ ربهم وفي العلم بدينه الإسلام والعمل بكل أخلاقه وفي الاستعداد التامّ الحَسَن بذلك للآخرة وفي الاستبشار بانتظار دوْمَاً كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، والخلاصة أنها زادتهم إسلاماً باستكمال كل أخلاقه، فعاشوا سعداء تماماً فيهما، فإسلام المسلم بالقطع يَزيد بمزيدٍ من عمله بأخلاقه ويَقِلّ بمِقْدار تَرْكه ومُخَالَفته ومَعصيته لها بعضها أو كلها (برجاء لاستكمال المعاني مراجعة الآية (4) من سورة الفتح "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.."، والآية (17) من سورة محمد "وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في قوله تعالي "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا.." (الحجرات:14) فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة.. ".. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم دائما في كل شئون حياتهم يتوكّلون علي ربهم وحده – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – أيْ يَعتمدون عليه تمام الاعتماد مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام وهو حتماً سيُيَسِّرَها لهم تمام التيسير ويُسعدهم بها تمام السعادة، في التوقيت الذي يراه في مصلحتهم وغيرهم ومُسْعِدَاً لهم ولغيرهم في الداريْن، وبالأساليب التي يراها، وستَتَحقّق لهم النتائج التي يريدونها تماما أو بصورةٍ مختلفة لكن أفضل، وذلك بتوفيقهم مباشرة لأسباب هذا، أو بطريقةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر لهم مَن يُعاوِنوهم، وسيَكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولذا فهم دائما مُطْمَئِنّون اطمئناناً كاملاً مُسْتَبْشِرون مُنْتَظِرون دَوْمَاً كل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم هم الذين يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)" أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، ويشمل الإنفاق قطعا إعطاء الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال
ومعني "أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة سابقاً هم بالقطع المؤمنون حقّ الإيمان أيْ الكامِلُون في الإيمان الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذه شهادة من الله تعالى بكمال إيمانهم، وكَفَىَ به شهيدًا، فهو أعظم شاهد ويَكفِيِ كلّ مسلم بهذه الأوصاف كفاية تامّة أنه سبحانه هو الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم فشهادته حتما هي الحقّ أيْ الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِيهم بالقطع كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، فأيّ شهادة وأجر أعظم مِن هذا؟ ولذا يقول ".. لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)" أيْ لهم مَرَاتِب ومنازِل مُتَعَدِّدَة عالية راقية عظيمة النعيم عند ربهم أيْ في عِلْمه وفي حسابه يوم القيامة، ولهم كذلك مغفرة لذنوبهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب كمال إيمانهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فستجد كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه، وإذا تأكّدتَ أنه علي كل شيءٍ قديرٌ وهو يفعل ما يشاء، حيث هذا التأكّد سيُعطيك دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في الدنيا مع حُسْن الاستعداد للآخرة من أجل أعظم وأتمّ وأخلد سعادة
هذا، ومعني "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة للمسلمين ولمَن حولهم وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لهم في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسيجدون كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقوا في باطنه، كما يقول تعالي ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:216) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ كما أنه كان الخير والمصلحة والسعادة لَمَّا تَنَازَعْتُم في تقسيم الغنائم أنْ جَعَلَ الأمر له سبحانه يُقَسِّمها بالعدل في المصالح العامة للدولة المسلمة، كذلك قد كان الخير حين اختار لكم القتال يوم غزوة بدر ولم يَخْتَر لكم أن تأخذوا التجارة (لمزيدٍ من التوضيح برجاء النظر للآية (7) من ذات السورة)، لأعظم مصلحة، لعِزِّكم ولِرِفْعَة شأنكم، لسعادتكم الدائمة في الدنيا والآخرة، لرَفْع شأن الإسلام والمسلمين وانتشاره بسببكم، لإحقاق الحقّ والخير وإظهاره وتثبيته علي أيديكم، وإبطال الباطل والشرّ وزلزلته وإضعافه والقضاء عليه، لإذلال الكافرين والمُجرمين وأمثالهم وهزيمتهم، فتنالون بفضل ربكم هذه المَكَانَة وهذا الفضل العظيم، في الداريْن.. هذا، ومعني ".. مِنْ بَيْتِكَ.." أيْ من مكان سَكَنِك وبلدك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم.. ومعني ".. بِالْحَقِّ.." أيْ أخرجك ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بسبب نُصْرَة الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وهزيمة الشرّ وأهله، وأخرجك إخراجاً مُمْتَزِجَاً بالحقّ الذي ليس فيه أيّ باطل.. ".. وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)" أيْ والحال والواقع حينها أنَّ بعضاً من المؤمنين كانوا كارهين للخروج للقتال في أول الأمر غير مُحِبِّين له غير مُقْبِلِين عليه لأنه كان مُفَاجِئَاً لهم فاحتاجوا بعض الوقت للاستعداد واستجابوا بعد استعدادهم
ومعني "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)" أيْ يُحاوِرونك هذا الفريق في الأمر الحقّ وهو قتال الكفار بعدما ظَهَرَ أنه واقِعٌ لا بُدَّ منه – وذلك قبل استجابتهم واستعدادهم بعدما علموا بعد التّحَاوُر أنه أمر الله وبالتالي فهو حتماً ناصرهم – وحالهم حينها كأنهم من شِدَّة كراهيتهم لقتالٍ مفاجيءٍ لم يستعدّوا له بَعْدُ وهو أول قتالٍ بينهم وبين عدوهم كأنما يُؤْخَذون ويُجَرُّون إلي الموت وهم ينظرون إلي أسبابه وكيفية حدوثه لهم وهذا أمرٌ بلا شكّ يَكرهه الناس أشدّ الكراهية
ومعني "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)" أيْ هذا بيانٌ لجَمِيلِ صُنْعِ الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم مِن ضعف.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المؤمنون حين يُعطيكم الله بفضله وكرمه وطَمْأَنته لكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً علي لسان رسوله (ص) لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ أنَّ إحدي الطائفتين أيْ المجموعتين هي لكم، أيْ ستَنالونها وستَحصلون عليها، إمَّا تَحصلون علي مجموعةٍ من الكفار كانت مع أبي سفيان عبارة عن قافِلَة بها تجارة، وإمَّا تَهزمون مجموعة ثانية منهم مُقاتِلَة معها سلاحها يقودها أبو جهل، وهذه الأحداث قد حَدَثَت عندما عَلِمَ المسلمون وهم في المدينة أنَّ أموالهم التي تركوها بمكة المكرمة بعد هجرتهم منها قد استولي عليها بعض أهلها وهم خارجون بها يتاجرون فيها وسَتَمُرّ عليهم قريبا منهم في مكانٍ يُسَمَّي بَدْر، فاستشارهم الرسول (ص) للخروج لها وأخْذِها من حُرَّاسِها لأنها حَقّهم، ووَعَدَهم بوَحْيٍ من الله بالظفر بها أو بخيرٍ آخر غيرها وهو عِزّتهم بإخافة عدوهم، فرَحَّبُوا بذلك لاسترداد أموالهم، لكنهم وهم في طريقهم، بَلَغَ الكفار ذلك، فابتعدوا بالقافلة، وطلبوا عوْناً، فجاءهم جيش بقيادة أبي جهل من حوالي ألف رجل ومعهم السلاح والعتاد، وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، بأسلحة شخصية خفيفة، فلمَّا عَلِمَ الرسول (ص) بذلك تَشَاوَر معهم، فكَرِه فريقٌ ملاقاتهم، لعدم استعدادهم لذلك، كرهوه كراهة شديدة كما يَكْره الإنسان أن يُؤْخَذ للموت وهو ينظر لهذا الحَدَث الذي سيُنْهِي حياته، وناقشوا الرسول (ص)، بعدما بَيَّنَ لهم الأمر وأعلمهم به وأنَّ هذا هو اختيار الله تعالي وهو لا بُدَّ حتماً سيكون الخير وسيَتحقّق النصر بإذنه سبحانه حيث قد وَعَدَهم بأحد الأمريْن إمّا أنْ يَسْتَرِدُّوا أموالهم دون قتال وإمّا أن يَحْدُث قتال وينتصروا عليهم ويصبحوا أعِزّة كِرَامَاً، وكِلاَ الأمريْن خير لهم، لكنهم كانوا يريدون غير ذات الشوكة، أيْ الأمر الأسهل، من غير شَوْك، من غير سلاحٍ وقتال، لكن بما أنَّ التجارة قد هَرَبَت – وهي الطائفة الأولي – ولم يستطيعوا أخذها، فهذه بُشْرَيَ لهم ودلالة علي أنَّ الله تعالي يريد الأمر الآخر وأنَّ وَعْدَه بأنْ يأخذوا الطائفة الأخري – طائفة الكفار الذين جاءوا لقتالهم – سيَتَحَقّق، أيْ النصر عليهم، وقد تَحَقّق حقّاً وصِدْقَاً، وانتصر الحقّ علي الباطل والمسلمون علي الكافرين والمجرمين، وتَحقّق وَعْد الله الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطلقاً، وظَهَرَت آياته تعالي أنه ".. كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة:249)، فهُم لمَّا صَبَروا واستعانوا بربهم وأحسنوا اتّخاذ ما استطاعوا وما هو مُتاح لهم من أسبابٍ انتصروا، بكلماته، بكُن فيكون، بقُدْراته، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، مهما كَرِهَ الكارهون، فماذا يفعلون أمام قُدْرة خالقهم العزيز القهَّار المُنْتَقِم الجَبَّار؟!!.. ".. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ.." أيْ ولكنَّ الله تعالى يريد أعلي وأرْقَيَ مِمَّا تريدون أنتم، يريد المصلحة والسعادة للبشريَّة كلها، فهو يعلم وأنتم لا يعلمون، يريد أن يُثَبِّت الحقّ أيْ الإسلام ويُعْلِيه وهو الذي يُصْلِح البَشَر ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه.. وفي هذا تنبيهٌ وتذكيرٌ لِمَا يُحِبّه الله للمسلم وهو أن يطلب دائما مَعَالي الأمور لا أسافِلها باذِلَاً ما استطاع من جهودٍ ليُعينه ويُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها ويَنصره ويُحَقّق له أعلي درجات سعادتيّ الدنيا والآخرة فهو القادر علي كل شيء.. ".. بِكَلِمَاتِهِ.." أيْ بأوامره إيَّاكم بقتال الكافرين وأوامره للملائكة بالقتال معكم وبقُدْراته وإراداته والتي أصلها كُنْ فيكون، وبالجملة بكلماته أيْ بكلامه في آياته بالقرآن العظيم والتي لا مُغَيِّر أبداً لها والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)" أيْ ويُريد كذلك أن يُبيد الكافرين عن آخرهم – إذ معني دابر أيْ آخر والدُّبُر هو المُؤَخّرة – ولا يُبْقِي منهم أحداً ويَنتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، وذلك من خلال عَوْنكم علي قتالهم وهزيمتهم.. والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تأييد الحقّ ونَصْره وأهله.. أيْ فَعَلَ تعالي ذلك، ويَفعل ما يُشْبهه دائما، لِحِكَمٍ عظيمة، ليُثَبِّت الحقّ وهو الإسلام ويُنْهِي ويُزِيل ويُضْعِف الباطل وهو كل ما يُخالِفه من كفرٍ وشِرْكٍ ونحوه.. ".. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)" أيْ إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين حتما بلا أيِّ شكٍّ يُحِقّ الحَقّ ويُبْطِل الباطل بتمام قُدْرته وعلمه بأنْ يَنشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد (ص) لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحاربة المُجْرمين – وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، وفي الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَستغيثون بربهم، أيْ يَطلبون إغاثته، أيْ نَجْدَته لهم، عند الشدائد، بالاجتهاد الشديد في الدعاء (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّداً بلا أيِّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتماً سينَهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِداً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، وتبشيرٌ وطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين أنتم تطلبون الإغاثَة في مواقف حياتكم أي النّجْدَة والمَعُونَة والنّصْرَة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وقد حَدَثَ ذلك أثناء غزوة بَدْر في زمن الرسول (ص)، فَاستجاب لكم دعاءكم، بلا تأخيرٍ، بأنى مُزَوِّدكم ومُعِينكم وناصِركم بألفٍ من الملائكة مُتَتَابِعَة يجيء بعضها وراء بعض لتُعينكم وتَنصركم
ومعني "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)" أيْ هذا بيانٌ لِحُبِّه تعالي للمسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم ورضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم بما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد.. أيْ وما جَعَل الله هذا الوعد بالنصر وهذا الإمداد بالملائكة – وغيره من كل أنواع الجنود والقوَيَ التي لا يعلمها إلا هو سبحانه – إلا ليكون بُشْرَىَ لكم أيها المسلمون يُبَشّركم بها أيْ خَبَرَاً سَارَّاً مُفْرِحَاً يُخبركم به بأنكم ستنتصرون حتما علي أعدائكم ما دُمْتُم أهْلَاً للنصر حيث أحسنتم اتّخاذ أسبابه ما استطعتم ولكي تَسْكُن به عقولكم ومشاعركم بداخلها فيذهب الخوف والقلق عنها وتطيب وتَسعد وتطمئنّ بتحقّق وعد الله بنصركم فيكون ذلك تشجيعا لكم للإقدام بقوةٍ علي الصعاب مُستعينين بربكم لاجئين إليه طالِبين منه عوْنه ونصره.. ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ ليس الفوز في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة إلا من عند الله تعالي وحده، لا مِن عند أيِّ أحدٍ أو مَخلوقٍ غيره، ولا مِن عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ ولا بأيِّ سببٍ غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فهو بإذنه فقط، فبسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة يحدث الانتصار بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فلا تَنْخَدِعوا بأسبابكم التي تَتّخِذونها، فصحيحٌ أنَّ الإسلام قد أمر بإحسان اتّخاذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ لكنَّ الاعتماد عليها وحدها مهما كَثُرَت وعَظُمَت دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز وهو الله تعالي خالقها، والذي هو أيضا يجعل أسباب العَدُوّ الكارِه قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيّة والتأثير، لا قيمة له حتما، ومَن يَنْخَدِع بأسبابه ووسائله التي يَتّخذها ويَنْسَيَ قُدْرَة خالقه وخالقها ومُحَرِّكها لن يفوز بالتأكيد.. إنه مَن يَعتمد علي الله وحده فهو كافِيه قطعا فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانعٍ يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، ولذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)" أيْ وذلك لأنَّ الله غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدر قبل مُلاقاة عدوكم يُغَشّيكم اللهُ النعاسَ أيْ يجعله عليكم كالغشاء والغطاء الشامل أماناً منه لكم من خوف أعدائكم أن يغلبوكم وراحة لأجسامكم وبشارة خيرٍ إليكم أنَّ الله معكم بعلمه وقُدْرته وعوْنه ونصره وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. والنعاس هو أول النوم قبل أن يثقل، فهم قد أعطاهم الله تعالي به فترة من الراحة تُهَدِّئهم وتُؤَمِّنهم وتُقَوِّيهم وتُنَشّطهم ولا تُثقلهم عن قتال عدوهم، والمعروف أنَّ مَن كان قَلِقَاً لا يمكنه غالبا أن ينام فكان هذا النعاس الذي غَشَّاهم كلهم في وقتٍ واحد كمُعجزةٍ ونعمةٍ ورحمةٍ مُطَمْئِنَةٍ مُهَدِّئةٍ مُقَوِيَةٍ منه سبحانه لهم تستحقّ التّدَبُّر والشكر.. ".. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)" أيْ واذكروا أيضا نِعَمه ورَحَماته حيث يُنَزّل عليكم من السماء ماءً لتَتَنَظّفوا وتَتَوَضَّؤا وتَغتسلوا وتَنْشَطوا وتَقْوُوا به وتَشْرَبوا منه، ولكي يُبْعِد بذلك عنكم الأفكار الشَّرِّيَّة السَّيِّئة بعقولكم كنقص الماء وغيره مِمَّا يحتاجه القتال الأمر الذي قد يُسَبِّب ضعفكم وهزيمتكم وهلاككم – والرجز هو كل أمرٍ مُسْتَقْذَرٍ أيْ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وما يَتْبَعه مِن تعاساتٍ – ولكي يَرْبِط بذلك علي قلوبكم أيْ يُثَبِّت عقولكم ويُصَبِّركم ويُطَمْئِنَكم بعلامةِ نزول الماء علي عوْنه ومَعِيَّته ونَصْره المُؤَكَّد لكم فإنَّ ثبات العقل وصَبْره وتَأكّده من نصر الله هو أساس ثبات الجسد وصبره، وهذا الربط علي العقول هو بسبب ما أفْرَغَ عليها من الصبر واليقين بالنصر.. ولكي يُثَبِّت بهذا الماء وبهذا الربط علي القلوب الأقدام فلا تَنْزِلق إلي هروبٍ وهزيمةٍ بل تَثْبُت وتَنْتَصِر، كما أنَّ الماء للأرض إذا كانت رَمْلِيَّة يُثَبِّتها فلا تَغوص فيها أقدام المُقاتلين ويَسْهُل سَيْرهم عليها
ومعني "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدر يُوحِي ويُلْهِم ويُعْطِي الأوامر ربُّك يارسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – إلي الملائكة التي أمَدَّكم بها بأني معكم بعَوْنى وتأييدى فقَوُّوا عَزائِم الذين آمَنوا وجاهَدُوا في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وذلك بتبشيرهم بالنصر وبتشجيعهم علي الثبات والصبر والإقدام والقوّة والعِزّة والتضحية لنَيْل إحدي الحُسْنَيَيْن إمَّا النصر وإمّا الشهادة وبإشعارهم بكثرة أعدادهم ليَطْمَئِنّوا أنهم ليسوا أقلّ من أعدائهم وبالقتال معهم.. وقد نَفّذَت الملائكة ذلك بأساليب وطرق لا يعلمها إلا خالقها سبحانه.. ".. سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.." أيْ هذا تأكيدٌ لطمْأَنَة المسلمين ولتَبْشيرهم وإسعادهم بأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم، وهو دليل من الأدِلّة علي أنه هو خير الناصرين، وبأَهْوَن الأسباب!.. أيْ وقولوا لهم يا ملائكتي ليزدادوا إقداماً وثباتاً أني سأقْذِف في عقول ومشاعر الذي كفروا الخوف الشديد فيكون ذلك سبباً في هروبهم وتَرْكهم لكل أسبابهم قوّتهم مهما عظمت وهزيمتهم.. فإلقاء الرعب فيهم وبينهم هو من ضِمْن جنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، وهو من الأسلحة البسيطة ذات التأثير الفَعَّال استهزاءً من القويّ العزيز بهم إذ لا داعي معهم لاستخدام قوة أكبر من ذلك!!.. ".. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فاضربوا بالتالي إذَن بقوّةٍ وإقدامٍ أيها المسلمون رؤوس أعدائكم المُعتدين عليكم التي فوق رقابهم واقطعوها والتي هي مصدر التفكير في الشرور والاعتداءات واضربوا منهم واقطعوا كل يَدٍ وأصابع تُؤذيكم وغيركم، لتُطَهِّروا الأرض من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)" أيْ ذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره من تأييدِ الله تعالي للمسلمين بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ونَصْرهم وإعزازهم وإسعادهم وأمره إيّاهم بقتل المُعتدين من الكافرين وأشباههم وإلقاء الرعب فيهم وإذلالهم وهزيمتهم في الدنيا – ثم عذابهم بما لا يُوصَف في الآخرة – هو بسبب أنهم شاقّوا الله ورسوله أيْ كانوا في شِقّ أيْ جانبٍ وهما في شِقٍّ مُقَابِل، أيْ خالَفوهما وعانَدوهما وتكبَّروا عليهما وآذوهما وعادوهما وحاربوهما والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ومَن يَفعل ذلك وغيره من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنَّ الله تعالي حتماً يُعاقِبه ويُعَذّبه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بما يُناسب في الداريْن لأنه شديد العقاب لأمثال هؤلاء وهذه هي دائما طريقته معهم.. فلْيَحْذَر المُخالِفون إذَن وليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما
ومعني "ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)" أيْ ذلك كله من الإذلال والإضعاف والهزيمة وغير هذا من عقابٍ ينزل بكم أيها الذين شاقّوا الله ورسوله هو العذاب الذي عَجَّلْتُه لكم في دنياكم فذوقوه في الحياة الدنيا أيْ فاستشعروا ألمه وتَذَوَّقوا عمليا مَرارته وشدّته وفظاعته، ولكم في الآخرة عذاب النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تعملون وتقولون في دنياكم من شرور ومَفاسد وأضرار واسْتَمَرّيتم وأصْرَرْتُم عليها حتي موتكم.. هذا، وعذابهم الدنيويّ يَشمل صُوَرَاً مُتَعَدِّدَة ودرجات مختلفة علي قَدْر سُوئهم ويَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة يشمل كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. فلْيَحْذَر المُخالِفون إذَن وليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ).. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً (برجاء مراجعة الآية (243) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن ذِلّة الجُبْن وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا قابلتم الذين كفروا وغيرهم من أعدائكم حيث كانوا زاحِفِين أيْ سائِرين مُقْتَرِبين بالتدريج نحوكم مُعتدين عليكم بالقتال كأنهم يَزحفون علي الأرض من بُطْءِ سَيْرِهم بسبب كثرة عَدَدَهم وعتادهم، فإيّاكم ثم إيّاكم أن تُعطوهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين ولكن اثبتوا واصبروا، فإنَّ الله معكم وناصركم عليهم حتماً مَا دُمْتُم أحسنتم اتّخاذ أسباب النصر من قوَيَ معنويَّة ومادِّيَّة، فقابلوهم بقوّةٍ وشجاعةٍ وإقبالٍ لا إدبارٍ فإنَّ مِن شأن المؤمن أن يكون شجاعاً لا جباناً ومُقْبِلاً لا مُدْبِرَاً، وإنَّ في ذلك نصرة وإنتشاراً للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وإسعاداً للبشرية حين تعمل بكل أخلاقه وحين تتغلّب علي الظلم والشرّ والفساد والمُفسدين، ثم الأمر ما هو إلا إحدي الحُسْنَيَيْن لكم، فإمّا النصر وسعادتيّ الدنيا والآخرة وإمّا الشهادة وأعلي درجات جناتها
ومعني "وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)" أيْ ومَن يُعْطِهم حينها ظَهْرَه فارَّاً خائفاً مُنْهَزِمَاً، إلاّ إذا كان وهو يَتَرَاجَع مُتَحَرِّفَاً لقتالٍ أيْ مُنْحَرِفَاً من أمام العدو لخِدَاعه وقتاله من جِهَةٍ أخري، أو مُنْحَازَاً مُنْضَمَّاً إلي فِرْقةٍ أخري لزيادةِ القوة والعَتَاد ضِدَّه، أو ما شابه هذا من فنون القتال مِمَّا يراه خبراء العسكرية من أجل تحقيق النصر عليه، كذلك يُسْمَح بالترَاجُع المُنَظّم المَدْرُوس، بقوّةٍ وعِزّةٍ، وليس الفِرَار وإعطاء الأدْبار للأعداء، وذلك فقط عند غَلَبَة الظنّ عند المُتَخَصِّصِين أنه سيَحْدُث الهلاك، لكثرة عدد المُعْتَدِين وعَتَادهم مثلا عن المسلمين، وذلك للمحافظة عليهم وللاستعداد للعودة مرة أخري بمزيدٍ من الاستعدادات حتي يحين الوقت المُناسب للانتصار.. ".. فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.." أيْ ومن يَفِرّ، إلا في الحالتين اللّتَيْن سَبَقَ ذِكْرهما وما يُشبههما حيث لا إثم، فقد باء أيْ انْصَرَفَ ورَجَعَ بسبب فِراره هذا مُحَمَّلاً بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً له فلا يُحِبّه ولا يُوفّقه ولا يُيَسِّر له أموره فكان في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياه أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)" أيْ ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار فيَثْبت ولا يَفِرّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. وسبب ذلك العذاب الدنيويّ والأخرويّ أنَّ الفِرار عند زَحْف المعتدين علي أراضي المسلمين دون عُذْرٍ شديدٍ مَقْبُول، كمرضٍ مُقْعِدٍ أو كِبَرِ سِنٍّ أو ما شابه هذا، هو من الكبائر، أيْ من الشرور والذنوب الكبيرة العظيمة، لأنه يؤدي إلي كل ذِلّةٍ وعار، إلي انتهاك العِرْض والأرض والكرامة والممتلكات، إلي التعاسة التامّة والمَهَانَة الهائلة في الدنيا، وهذا هو غضب الله الذي سيعيش فيه حياته مَن يَفِرّ، ولو مات علي هذه الحالة قبل أن يتوب توبة صادقة بالندم الشديد والعزم علي عدم العودة والاستغفار وتعويض هروبه بنوايا صادقة في كل خيرٍ وبعملٍ دائمٍ لنصرة الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لو مات قبل توبته فمصيره جهنم، فالإسلام لا يَسمح أبداً بمِثْل هذا، أن يُقْتَل المسلم في دُبُره لا في صدره! لِمَا في ذلك من خِسَّة وحَقَارَة، وهو الذي ما جاء إلا لرفع الشأن والعِزّة والكرامة.. والسعادة
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ إذا كنتم أيها المسلمون قد انتصرتم علي المُعتدين عليكم وقتلتم منهم مَن قتلتم فإنكم لم تقتلوهم بقوَّتكم ولكنَّ الله تعالى في الحقيقة هو الذي قتلهم ونصركم بقوّته من خلال تأييده وعوْنه لكم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو وإلقاء الرعب في قلوبهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (10) من هذه السورة ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..").. ".. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتفصيل له مِن أنَّ النصر مِن عنده تعالي وحده.. أيْ وما رَمَيْتَ حين رميت أيْ قَذَفْتَ قذيفتك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ولكنَّ الله في الواقع وحقيقة هو الذي رَمَىَ بقوّته حيث أوْصَل الرَّمْيَة التي رَمَيْتها إلى المُعتدين، فهو الذي يَحملها ويُحْسِن توجيهها ويجعلها صائبة فَعَّالَة قوِيَّة قاتِلَة لهم، بخواصِّ الطبيعة التي هو خالقها وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو، وقد كان من المُمْكِن ألاّ تُؤَثّر، بفِعْل رياحٍ أو غُيُومٍ أو سُحُبٍ أو أمطارٍ أو غيرها، فهو سبحانه – وله المَثَل الأعلي فليس كمِثْله شيء – الرَّامِي والقاتِل والمُهْلِك الحقيقيّ للمُعتدين.. فلا تَنْسوا مُطلقاً تَدَبُّر ذلك وشُكْره، ولا تَغْتَرُّوا بقوّتكم فتعتمدون عليها وحدها دون الاعتماد عليه تعالي أولاً وأخيراً، أو تعتمدون علي غيره، أو نحو هذا، وإلا لن تَنتصروا، أو ستُهْزَمُون حتما.. ".. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا.." أيْ وفَعَلَ ما فَعَلَ لكي يُنْعِمَ منه علي المؤمنين نِعَمَاً حَسَنَة طيِّبة عظيمة كثيرة مُسْعِدَة في دنياهم مُتَمَثّلَة في نصرهم وإعزازهم وإعطائهم الغنائم وإسعادهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وإتعاسهم، ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات، بسبب جهادهم، ومَن اسْتُشْهِدَ منهم فقد فاز فوزاً عظيماً، ليزدادوا بذلك شكراً وتَوَكّلاً وثَبَاتَاً علي كل أخلاق إسلامهم فيزيدهم خيراً علي خيرٍ وسعادة علي سعادة، في الداريْن.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا، والله تعالي يَبتلي أيْ يَخْتَبِر المسلمين بالنِّعَم التي لا تُحْصَيَ، دائما، لإظهار مَن يشكر ومَن لا يشكر، وببعض المصائب، أحياناً، لإظهار مَن يَصبر مِمَّن لا يصبر.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تذكيرٌ بأنه بشُكْر النعمة فإنه تعالي يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما بكُفْرها، أيْ إنكارها، فإنه ينقصها ويفنيها، وبأنَّ الصبر علي الشدائد يَخرج منه المسلمون دَوْمَاً باستفاداتٍ كثيرة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)" أيْ قد فَعَلَ كل ما سَبَقَ ذِكْره لأنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. لقد سَمِعَ وعَلِمَ سبحانه دعاء واستغاثة المسلمين فاستجاب دعاءهم وأغاثهم ونَصَرهم
ومعني "ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ ذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره مِن عوْنكم بجنودٍ لا يعلمها إلا الله ونَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم، هو نِعَمٌ منه عليكم، ويُضاف إلي كل ذلك، واعلموا أيضا، نعمة عظيمة أخري لكم، أنَّ الله مُوهِنُ كَيْد الكافرين أيْ مُضْعِف ومُفْسِد ومُبْطِل مكائدهم بكم.. وفي هذا تحقيرٌ لكلّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين في كلّ زمانٍ ومكان مهما بلغت قوّاتهم وعداءاتهم وتشجيعٌ للمسلمين على أن يتمسّكوا ويعملوا دائما بكل أخلاق إسلامهم من غير أن يخيفهم أيُّ تهديدٍ مِن أيِّ أحد، فكيد كل هؤلاء وأشباههم، أيْ مكرهم وخداعهم واعتداؤهم وإيذاؤهم ونحو ذلك، مُضْعِفه بالقطع الله تعالي بجنوده التي لا يعلمها إلا هو إلي أن يصير إلي ضياعٍ وتَلاشٍ وهلاك، فهذا هو قطعاً مصيره المحتوم، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)" أيْ إنْ تطلبوا الفتح أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبرون المُستهزؤن، أى إذا كنتم تطلبون القضاء والفَصْل والحُكْم بينكم وبين المسلمين لتعرفوا مَن الذي علي الحق ومَن الذي علي الباطل فقد جاءكم الحُكْم بالفعل بينكم وبينهم، بين الإسلام والكفر، بأنْ أَعَزّه وأعَزّهم وأعْلاهم الله ونَصَرهم وأسعدهم لأنهم علي الحقّ وأذلّ الكفر وأذلّكم وهَزَمكم وأتعسكم لأنكم علي الباطل، فقد جاءكم بالتالي بالتأكيد ما ظَهَرَ به أين الحقّ من الباطل.. ".. وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ وإنْ تَمتنعوا امتناعاً كاملاً عن تكذيبكم وعِنادكم واستكباركم واستهزائكم وفِعْلِكم الشرور والمَفاسد والأضرار وعدائكم وكَيْدكم وقتالكم للإسلام والمسلمين فهذا الامتناع وأنْ تُسْلِموا وتعملوا بأخلاق الإسلام هو خيرٌ لكم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ.." أيْ وإنْ تَرْجِعوا بعد إسلامكم لكفركم وشَرِّكم وكَيْدِكم وعدائكم وقتالكم للإسلام والمسلمين نَرْجِع لعقابكم في الداريْن كلّما عُدْتُم بما يُناسب بهزيمتكم وإذلالكم وعذابكم وإتعاسكم، ولنصر الإسلام والمسلمين فيهما وإعزازهم وإعطائهم المَكَانَة والغنائم وإسعادهم.. ".. وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ.." أيْ وحين يريد الله تعالي أن ينزل بكم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعكم حتماً وتمنع عنكم فئتكم أيْ جماعتكم التي تُعِينكم وتَنصركم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ غيرها مُعين لكم من عذاب الله أيّ شيء، حتي ولو كانت كثيرة عظيمة هائلة، فكل هذه الإمكانات والأعداد الكثيرة وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)" أيْ وأنَّ الله مُوهِن كَيْد الكافرين ويُضاف إليه واعلموا أنَّ الله مع المؤمنين.. أيْ ولأنَّ الله مع المؤمنين كان ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره.. أىْ والأمر والواقع أنَّ الله مع المؤمنين بعونه وتأييده، ومَن كان الله معه فلن يغلبه أحدٌ بالقطع مهما بَلَغَت قوّته.. أيْ وهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه أنه هو حتماً دَوْماً موجود بِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – من أجل أن يُيَسِّر لهم كل أسباب تمام النصر والتمكين والخير والسعادة في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا بيانٌ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده وتذكيرٌ بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. هذا، وعند بعض العلماء الخطاب في هذه الآية الكريمة ليس للكافرين وإنما هو للمؤمنين ويكون المعني عندهم إنْ تَستفتحوا أىْ تَطلبوا أيها المؤمنون النصر على أعدائكم فقد جاءكم الفتح أي النصر من عند الله كما طَلَبتم بالفِعْل وإنْ تَنْتهوا عن الاختلاف في أمر الأنفال وعن التّكاسُل في طاعة الله ورسوله وتَتّبعوا كل أخلاق الإسلام وتعملوا بها فهو أيْ هذا الانتهاء والاتّباع والعمل خيرٌ لكم حيث السعادة في الداريْن وإنْ تعودوا للاختلاف وللتكاسل نَعُد عليكم بعقابكم بالفشل والهزيمة وبتسليط أعدائكم عليكم ولن تغني عنكم كثرتكم شيئاً حينها مهما كثرت إنْ لم يكن الله معكم بنصره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أطيعوا الله ورسوله أي استجيبوا ونَفِّذوا ما وَصَّاكم به الله والرسول (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم في كل شئون حياتكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال عمركم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ.." أيْ ولا تُعْطوا ظهوركم لهذا الأمر وهو طاعة الله ورسوله (ص) وتَلْتَفِتوا وتَنْصَرفوا وتَبتعدوا عنه وعن الإسلام وتتركوا أخلاقه وتهملوها وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عنه مُطلقاً.. أيْ والحال والواقع أنكم تَسمعون سماعَ تصديقٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ للقرآن العظيم الذي فيه كل المَوَاعِظ والوَصَايا والنصائح والأدِلّة التي تُوجِب طاعته وتَمْنَع مُخَالَفَته لتسعدوا في الداريْن وإلا تعستم فيهما، فتَوَلّيكم في هذا الحال سيكون أمراً في غاية القُبْح حيث ستَتَشَبَّهون بأهل الكفر والعصيان
ومعني "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عنه أبداً والتّشَبُّه بالبعيدين عن ربهم وإسلامهم.. أيْ واحذروا تماما وإيّاكم ثم إياكم أيها الذين آمنوا أن تَتَشَبَّهوا مُطلقاً بالذين يَدَّعُون السَّمَاعَ للقرآن العظيم من الكافرين والمنافقين والعاصِين وأشباههم فقالوا سمعنا والحال والواقع أنهم لم يسمعوا سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ، لأنهم لم يؤمنوا به أيْ لم يُصَدِّقوا بما سمعوه فيه ولم يتأثّروا ويعملوا بأخلاقه بل تَوَلّوْا عنه فكأنهم لا يسمعون بآذانهم أصلاً وكأنهم كمَن لم يسمعه حيث سماعهم له كعَدَمِه
ومعني "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَنْع التّوَلّي عن الأمر بطاعة الله ورسوله (ص) أبداً والتّشَبُّه بالبعيدين عن ربهم وإسلامهم.. أيْ إنَّ أسوأ الدوابّ – جَمْع دابةٍ وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه، والمقصود هنا الناس الكافرون والمشركون والمنافقون والفاسدون ومَن يَتَشَبَّه بهم وتشبيههم بالدوابِّ والتي هي حتي ليست سليمة بل مُعَاقَة هو تصغيرٌ وتحقيرٌ لهم واستهانة بهم – عند الله أي في أحكامه ووَصَاياه وتشريعاته وعلمه وحسابه في الداريْن، هم أولئك الصُّمّ أيْ مَن كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سماع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. البُكْم أيْ مَن كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير.. الذين لا يعقلون أيْ مَن لهم عقولٌ لكنهم لا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يُدْرِكون ولا يَفهمون ولا يَعلمون بها الحقّ والخير.. ووَصْفهم بعدم العقل هو بيانٌ لكمال سوء حالهم وتعاستهم في الداريْن لأنَّ الأصَمَّ الأبْكَمَ إذا كان له عقل ربما فَهِمَ بعض الأمور واستجاب للإسلام بفطرته وسَعِدَ كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً أمّا إذا كان بجانب صَمَمه وبكمه هو فاقدٌ للعقل فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ أقصي درجات الحال السَّيِّء التعيس.. والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. فلا يَتَشَبَّه بهم أيُّ عاقلٍ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم
ومعني "وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)" أيْ هذا بيانٌ لاختيار هؤلاء الصُّمُّ البُكْم الذين لا يعقلون الشرَّ لا الخير أيْ الكفر لا الإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب إغلاقهم التامّ لها.. أيْ ولو علم الله وهو الذي يعلم المستقبل فيهم خيراً بأنهم سيختارون الخير وهو الإيمان لكَانَ أسمعهم الخير في القرآن الكريم أيْ عاوَنَهم وسَهَّل لهم أسباب أنْ يسمعوا الإسلام الذي فيه سماعَ تصديقٍ وقبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. فمَن يبدأ الخطوة الأولي بحُسْن استخدام عقله وباستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) يُعينه تعالي وهو الذي يحب لخَلْقه أن يُسلموا ليسعدوا في الداريْن علي بقيّة الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17)، وقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11) (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني.. ثم مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ولكنه سبحانه لم يَعلم فيهم بداخلهم شيئاً من ذلك وهو الذي يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلم يُساعِدهم ويُسْمِعهم ويُفْهِمهم.. ".. وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)" أيْ ولو علي سبيل الفرض أسمعهم سماعَ تَفَهُّمٍ وتَدَبُّرٍ، وهم على هذه الحالة البعيدة تماما عن أيِّ خيرٍ حيث الصَّمَم والبكم واللّاعقل، لتَوَلّوْا عمَّا سمعوه وفهموه من الحقّ قَصْدَاً وعِنَادَاً بعد فهمهم له أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عن هذا الإيمان وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، وهم مُعْرِضون أيْ مُتَوَلّون بلا أيِّ رجوعٍ لأيِّ خيرٍ بأيِّ حالٍ مِن الأحوال وهذا مزيدٌ من التأكيد علي حالهم السيء في تمام الإصرار علي التّوَلّي عن الإسلام والاستمرار علي ما هم فيه مِن شرّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – سارعوا بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة بكل قوةٍ أيّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنكم ستسعدون، لله وللرسول إذا دعاكم إلي ما يحييكم وهو الإسلام الذي في القرآن العظيم لأنه كالروح بالنسبة للجسد، فهو الذي يُحي البَشَر، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستؤدي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.." أيْ هذا تشجيعٌ للاستمرار التامِّ حتي الموت علي الاستجابة للإسلام وتحذيرٌ من التراجُع عنه والمُخَالَفَة له.. أيْ واعْرَفوا وتأكّدوا تماماً وتَذَكّروا دائماً أنَّ الله يَحْجِز ويَمْنَع بالإسلام بين الإنسان وعقله إذا أراد أن يَسِير في الشرّ، فاستجيبوا للإسلام لتسعدوا في الداريْن وإلا لو لم تستجيبوا له فستسيرون إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما.. ومن المعاني كذلك أنَّ الله يَمنع بالموت ما بين الإنسان وعقله بمعني أنه يُميته فلا يُحَقّق ما كان يُفَكّر به يريد تحقيقه والمقصود اغتنام كل لحظة في حياته قبل موته والذي يأتي فجأة بجَعْلِها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ له في دنياه وأخراه من خلال استجابته للعمل بكل أخلاق إسلامه.. إنه يَمنعه أحياناً أو كثيراً من تحقيق بعض أمانيه وأهدافه لمصلحته حيث يعلم أنها مستقبلا ستكون ضرراً وتعاسة عليه.. كذلك من المعاني أنَّ الله تعالي يَمنع بين الإنسان المسلم وبين عقله إذا فَكّرَ في الكفر بتحصينه منه ما دام مُتَمَسِّكَاً عاملاً بالإسلام فيُعينه ويَعصمه بتهيئة الأسباب لذلك ويمنع بين الإنسان الكافر وبين عقله أن يؤمن إذا كان مُصِرَّاً علي إغلاق عقله وكفره فلا يُيَسِّر له أسباب إيمانه، وبالتالي فكونوا دائماً مُستعينين بربكم مُتوكّلين مُعتمدين عليه شاكرين له ليُعينكم علي كل خيرٍ ويُثَبِّتكم عليه ويزيدكم منه فهو القادر علي كل شيء والمُسيطر عليه مالِك المُلك كله وإذا شاء شيئا قال له كن فيكون فمَن يُريد الكفر بعقله شاءه له ومَن يريد الإيمان بعقله شاءه له ويَسَّرَ لكلٍّ الأسباب.. وأيضا من المعاني الضِّمْنِيَّة أنَّ الله تعالي مع الإنسان قريب منه دائماً بقُدْرَته وعلمه فهو بينه وبين عقله يحفظه له ويَرْعاه ويُنَمِّيه برحمته وحبه إيّاه وإرادة إسعاده ولو أراد مَنْعه من الفكر والفهم وشَلّ حركته لَفَعَل ذلك، فليدعوه إذَن وليتوكّل عليه وليَتّقِيه في كل شئون حياته ليسعد.. وبالجملة فإنه سبحانه يُغَيِّر الأمور من حالٍ إلى حالٍ حسبما تتّخِذون من أسباب خيرٍ أو شرٍّ وبالتالي فلا يَأْمَن المُتَّقِي علي نفسه فقد يَتَغَيَّر إذا ابتعد عن ربه وإسلامه واتّخَذَ أسباب البُعْدِ بفِعْل ما يُخَالِفهما وكذلك لا ييأس الفاسد أبداً من صلاحه فمِن المُمكن قطعاً أن يستفيق لسببٍ من الأسباب حوله فيُحسن استخدام عقله فيَتَغَيَّر للخير ويُعينه ربه حتماً فليحيا المسلم إذَن مُتّزِنَاً بين الخوف من البُعْد عن الإسلام ومن عقاب الله فيَدفعه ذلك لمزيدٍ من الطاعات وبين الرجاء في رحمة الله إذا كان عاصيا فيدفعه هذا للتوبة واتّباع كل أخلاق الإسلام.. إنه من المعاني الضِّمْنِيَّة أيضا أنَّ الله تعالي من المُمْكِن أنْ يُجْبِرك أيها الإنسان علي الإسلام لأنه هو الذي خَلَقَ عقلك ومشاعِرك ويَتَحَكَّم فيهما ولكنه يريدك أن تستجيب أنت باختيارك لأنَّ المُكْرَه لا يُدْرِك قيمة الإسلام ويُخَالِفه في أيِّ فُرْصَةٍ يُمْكِنه مُخَالَفته فيها وقد يكون منافقاً ويعمل به مُرْغَمَاً وبالتالي لا يَسعد به.. إنَّ تَذَكّر ما سَبَق ذِكْره دائماً يُعطي الإنسان دفعة هائلة للاستجابة للإسلام وللانطلاق نحو كل خيرٍ وترك كل شرّ، إذ معه دائما خالِق الخَلْق يُعينه ويُوَفّقه ويُيَسِّر أموره ويُسَدِّد خُطاه، ومعه عقله وفطرته التي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويدفعه كذلك لأنْ يحيا حياته مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء وأن يسأل الله تعالي دائما التثبيت علي الإسلام لأنَّ المُتَغَيِّرات كثيرة وأنْ يَحْذَر حَذَرَاً شديداً من الغَفْلَة لأنه لو نَسِي التمسّك والعمل بالإسلام من المُمكن أن يَتَغَيَّر نحو السوء فلينتبه وليحذر وليظل مُعتصماً بالله يرجوه وبإسلامه ثم بالتواجد وسط صُحْبَة صالحة تُذَكّره دائما بكل خيرٍ وتَمنعه من أيِّ شرّ.. ".. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)" أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائماً أيضا مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه أنه إليه وحده لا لغيره تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين مِن تَرْك الدوام علي طاعة الله ورسوله والاستجابة لكل أخلاق الإسلام والتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم فينتشر الشرُّ بسبب ذلك فيَشمل المُحْسِن والمُسِيء والعادل والظالم فيَتعس الجميع في الداريْن.. أيْ وأطيعوا الله ورسوله واستجيبوا دائما له إذا دعاكم لِمَا يُحييكم وهو الإسلام وتَجَنَّبوا عذاباً لا يُصيب الذين عَصَوْا منكم فقط بالتخصيص وإنما يَعُمّ الجميع إذا سَكَتوا عن دعوتهم للخير ومَنْعهم من الشرّ وكانوا مُستطيعين لذلك.. أيْ واجعلوا بينكم وبين عذاب الفِتَن التي تَعُمّ آثارها المُضِرَّة المُتْعِسَة وعذاب ربكم في الداريْن وقاية بأنْ تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر.. إنَّ الواقع يُثْبِت أنه بانتشار الشرِّ وعدم مَنْعه ونَشْر الخير الذي بالإسلام يَتَعَذّب الناس ويَتعسون في دنياهم قبل أخراهم، وهذا هو عذاب الله تعالي لهم والذي هو بأيديهم وبسَبَبِهم، فهو لا يُصيب الذين ظلموا أيْ فَعَلوا الشرور ونشروها وحدهم خاصَّة، وإنما أيضا يَلْحَق بالصالحين الذين لم يفعلوها، حيث مثلا السرقة وقطع الطرق وعدم الأمان والأطعمة الفاسدة وتلويث البيئة بما ينشر الأمراض وغشّ السلع واحتكار بعضها لرفع سعرها وتطفيف الموازين ونشر الحروب والمُنازعات والمُشاحنات والانشقاقات والاضطرابات والضلالات والأفكار الضالّة الضَّارَّة المُتْعِسَة كالكفر والشرك والنفاق وغير ذلك من أنواع الفِتَن أيْ الشرور المختلفة والتي قد يصعب حصرها تُصيب وتَضُرّ الجميع ولا تنتقي الذين ظلموا فقط وتترك أهل الخير، فليس لها قُدْرة علي التمييز والانتقاء! فالجميع حتماً مُصابون، تعيسون في الداريْن، بعقاب الله الشديد، إذا لم يُحسن المُحْسِنون دعوة المُسِيئين بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ أحسنوا، فقد اتّقوا هذه الفِتَن وتعاساتها، أيْ جعلوا بينهم وبينها وقاية، وبينهم وبين عذاب ربهم الدنيويّ والأخرويّ كذلك وقاية، وما يُصيبهم حينها مِن بعض ضَرَرٍ فسيكون حتماً لمصلحتهم ليَخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة إذا صبروا عليه (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير السابق.. أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7).. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي تستحِقّ الشكر والتي لا تُحْصَيَ علي المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم، ومزيدٌ من التَبْشِيرٌ والطَمْأَنَة والتثبيت والتشجيع لهم أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتماً سيَنصرهم وسيُحَقِّق لهم أفضل المَكاسِب بأقلّ الجهود.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم سابقاً قليلاً في العدد مُسْتَضْعَفِين في الأرض فقراء لا قيمة ولا وَزْن ولا تأثير لكم مَقْهُورين مَذْلُولين تحت حُكْم غيركم خائفين تخافون أن يتخطّفكم الناس – والتَّخَطُّف كالخَطْف وهو الأخذ بسرعة – أيْ أن يأخذكم أعداؤكم والناس حولكم أخذاً سريعاً، والمقصود أنهم يَسْتَغِلّوكم ويَنهبون جهودكم وممتلكاتكم ويُفْقِروكم ويُشْقوكم ويُؤذوكم ويُعَذّبوكم لفظياً وجسدياً ويَسخرون منكم ويُهينوكم ويَتعالون عليكم ويُبعدوكم عن ربكم وإسلامكم بالترهيب والترغيب وبالجملة كنتم غير آمنين غير مُستقِرّين خائفين من اختطافكم وقتلكم بسبب قوة الناس عليكم وضعفكم الشديد أمامهم.. ".. فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.." أيْ فغَيَّر حالكم تماماً بأفضاله ورَحماته وقُدْرَاته بأنْ جَعَلَ لكم بَلَدَاً يكون مَأْوَي أيْ مُسْتَقَرّاً تَستقرّون وتُقيمون فيه آمِنين ودولة تحكمونها بنظام الإسلام لتسعدوا بخيراتها، وقَوَّاكم وعاوَنَكم بنصره علي أعدائكم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو وجَعَله علي أيديكم، وأعطاكم من كل أنواع أرزاقه الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقكم إيَّاها من المأكولات والمشروبات والمَلبوسات والمَرْكوبات والمُمْتَلكات وغيرها مِمَّا لا يُحْصَيَ ومِمَّا لم يكن مُتَوَفّراً لكم سابقا.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. إنَّ في هذه الآية الكريمة تذكرةٌ للمسلمين أنهم إنْ كانوا الآن في حالة قوة فعليهم أن يتذكّروا ضعفهم السابق فلا يَستضعفوا إذَن ضعيفاً فيظلموه بل يعاونوه لِيَقْوَيَ ويَنصروه، وإن كانوا في غِنَيً فيتذكّروا فقرهم سابقاً فيُغْنوا الفقير ولا يَتعالوا عليه، وإن كانوا في عِزّةٍ وأمانٍ فلْيَتَذَكّروا الذلّة والرَّهْبَة ولْيُعينوا مَن هم فيها علي الخَلاص منها، وهكذا.. فهذا هو الشكر العمليّ لهذه النّعَم إلي جانب شكرها بالعقل واللسان.. كما أنها تذكرةٌ بأنَّ مَن لم يَشكر وأساء استخدام نِعَم الله عليه في الشرّ لا الخير فقد تُسْحَب منه ويَعود مُسْتَضْعَفَا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. وإذا كنتَ عادلا تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تكونوا أبداً غير أمناء مع الله والرسول (ص) بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في أعظم أمانة منهما عندكم فلا تحفظوها وتصونوها تمام الحِفْظ والصيانة وهي دين الإسلام الذي في القرآن العظيم فتَتركوا العمل بأخلاقه بعضها أو كلها في كل شئون حياتكم وهي التي أصلا لمصلحتكم ولسعادتكم لو حافظتم عليها ولم تخونوها حيث هي تُكْمِلكم وتُصلحكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، أو بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في حُسْن دعوة جميع الناس له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، أو بأنْ تُفَرِّطوا وتُقَصِّرُوا في الدفاع عنه ضِدَّ مَن يَعتدي عليه حتي ولو بالقتال إنْ بَدَأَ هو به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، أو بأنْ تُعاوِنوا وتُناصِروا أعداء الله والإسلام والمسلمين، أو بما شابه هذا من خِيانات.. ".. وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ.." أيْ وكذلك إيّاكم ثم إيّاكم أبداً أن لا تكونوا أمناء علي كل الأمانات الأخري المَحْفوظة عندكم للآخرين حيث حِفظها وصيانتها هو جزء من حفظكم وصيانتكم لأمانة دين الإسلام فعليكم أنْ تُؤَدِّوها وتُوَفّوها أيْ تُعطوها وافِيَة كامِلَة غير مَنْقوصَة وتَرُدّوها إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم وفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم أم الحفظ للأسرار وعدم إفشائها، أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات، لأنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)" أيْ والحال والواقع أنكم تعلمون أنَّ ما تفعلون خيانة وأنكم تَخونون، وتعلمون أوامر الله ونواهيه في الإسلام وأنَّ الأمانة فرضٌ عليكم، وتعلمون عِظَمَ جريمة الخيانة وآثارها المُضِرَّة المُتْعِسَة وعقاب الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤْتُمِنَ عليها في الداريْن، فعليكم بالتالي إذَن أن تكونوا دوْمَاً أمناء وتَتَجَنَّبوا الخيانة بكل أشكالها لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما.. إنه لا يُمكن أبداً أن يكون هذا منكم وأنتم تعلمون بفطرتكم والتي هي مسلمة أصلا بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وتعلمون بعقولكم إذا أحسنتم استخدامها وكنتم مُنْصِفِين عادِلين ومِن أهل العلم والتَّعَقّل والتّدَبُّر والتّعَمُّق قيمة الأمانة وسعاداتها فلا يليق بكم إذَن أن تخونوا.. إنه لا يُتَصَوَّر منكم أن تفعلوا ذلك مُتَعَمِّدِين ليس خطأ ولا نسياناً وأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فعلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالمٍ مثلكم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابكم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. وفي ذلك حثّ ودَفْع وتشجيع لهم على اتّباع كل أخلاق الإسلام بإثارة علمهم وعقلهم وفكرهم ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن وعوْن لهم علي البُعْد التامّ عن أيِّ سَفَهٍ بمُخَالَفته وإلا تَعِسُوا تماما فيهما
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)" أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائماً وتأكّدوا تماماً وانتبهوا واحذروا أنه ليس الأموال والأولاد وكل أحداث الحياة إلا اختبار لكم يحتاج إلي حُسن تعامُلٍ معه لِيَرَيَ ويُقَيِّم كلّ فردٍ ذاته هل اتَّبَعَ الإسلام في كل مواقف ولحظات حياته أم لا؟ فإن اتَّبَعَه كله في كل مواقفها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه ثم أخراه، وليَحمد ربه ليُثيبه ويزيده، وإنْ تَرَكَ بعضه أو كله تَعِسَ فيهما علي قَدْر ما يترك، فليجتهد أن يَتَدَارَك حاله ويتمسّك ويعمل به كله لتتمّ سعادته فيهما.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فلْيَصْبِر عليه ليَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)" أيْ وتَذكّروا دوْماً ولا تَنسوا أبداً أنَّ الله عنده عطاء عظيم في الداريْن من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة وذلك لمَن أطاعه واتَّبَعَ إسلامه ولم يُخَالِفه في كل شئون حياته، فكونوا إذَن كذلك لتنالوا هذا الثواب العظيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تَتّقوا الله أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، يُعْطِكم فُرْقَاناً أيْ عقلاً راجِحَاً وعلماً نافعاً وإدراكاً واعِيَاً يُعينكم علي أن تُفَرِّقوا بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك تحيون حياتكم في سعادة تامَّة وتنتظرون مُسْتَبْشِرين آخرتكم التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. ويُكَفّر عنكم سيئاتكم أيْ شروركم الصغيرة أيْ يَسترها ويَمْحُهَا ويُزِلْها ولا يُحاسبكم ولا يُعاقبكم عليها لكثرة توبتكم منها وعودتكم إلي ربكم، ويغفر لكم شروركم الكبيرة التي فعلتموها أيْ يُسامِحكم أيضا فلا يُعاقبكم عليها ويُمْحها كأنْ لم تَكُن ويَمْح عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ويَسترها ويُخفيها فلا يُعَذّبكم بفَضْحِكم بها فيهما.. هذا، والتكفير والغُفْران كلاهما فيه معنى السّتْر والتغطية إلاّ أنَّ الغفران يُفيد أكثر معنى عدم العقاب والتكفير يُفيد أكثر ذهاب آثار السيئة، والمقصود مزيد من التأكيد علي العفو من كل الذنوب والسيئات والتي هي أيضا مُتَقَارِبَة في معانيها.. ".. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)" أيْ وهذا الذي يَتَفَضَّل به عليكم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم أي العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك.. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ عليكم وعلي كل خَلْقه من أرزاقه التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل الدائم فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللتقوي وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وفي الآية الكريمة طمْأَنَة للمُتّقين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، وتبشيرٌ وطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يَمكر بك الذين كفروا يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم من بعده، أيْ يُدَبِّرُون لك المَكَائِد السَّيِّئة في الخَفَاء ويُخادِعون لكي يُثْبِتوك أيْ يَحْبِسُوك ويَسجنوك ويُقَيِّدُوك أو يَقتلوك أو يُخرجوك خارج بلدك وكل ذلك وغيره محاولات يائسة منهم ليتخلّصوا منك فلا تستطيع دعوة الناس لله وللإسلام.. ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)" أيْ والحال والواقع أنهم يُدَبِّرون المَكَائِد في الخَفَاء ويُخادِعُون من أجل إيقاع الشرّ بك وبالإسلام وبالمسلمين، ويُدَبِّر الله تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..").. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)" أيْ وحينما تُقْرَأ علي هؤلاء الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم وتُذْكَر لهم آياتنا في القرآن العظيم قالوا مُتَمَرِّدين مُعانِدين مُستكبرين مُسِيئين الأدب مع القرآن ومع مَن يدعوهم له كالرسول الكريم (ص) في زَمَنِه وكالمسلمين مِن بَعْده في كلّ زمنٍ بسبب تكذيبهم وعِنادهم وإغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا وهم يعلمون أنهم كاذبون تماما في قولهم قد سمعنا ما تقوله ولو نشاء لقلنا مِثْل هذا القرآن لأنَّ ما هذا القرآن الذي تَتْلُوه علينا إلاّ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها والتي من السهل لنا أن نأتي بمِثْلها فهي مِثْل كلام البَشَر فأنت تأخذ من قصصهم وتتلو لنا!!.. وهذا يدلّ علي أقصي درجات الاستكبار والعِناد والجهل والإصرار التامّ علي سُوئهم دون أيِّ تفكيرٍ في الخير الذي فيه والعمل به ليسعدوا في الداريْن.. وهذا منهم قولٌ لا فِعْل قطعاً لأنهم لم يستطيعوا مُجتمعين أن يأتوا بمِثْله رغم أنَّه قد تَحَدَّاهم كثيراً ولا زال أن يأتوا بمِثْل حتي آية واحدة منه؟!! وبما أنهم لم ولن يَتَمَكّنوا من ذلك فقد ثَبَتَ بلا أيِّ شكّ أنه ليس أبداً من كلام بَشَرٍ بل هو من كلام خالقهم، لأنه لو كان مِن كلامهم أو من كلام الرسول (ص) لأَتوا بمِثْله وأفضل لأنه (ص) أمِّيّ لا يَقرأ ولا يَكتب وهناك الكثيرون مِمَّن هم أعلم وأفصح منه! ولكنه الإغلاق التامّ لعقولهم والمحاولات اليائسة للتشويش علي القرآن وتشويهه وتصويره بأنه من كلام البَشَر حتي يُبَرِّروا – بلا أيِّ مَنْطِق – عدم اتّباعه وحتي يَمنعوا غيرهم من أن يَتّبعوه ويُسْلِموا ولكنهم لن يستطيعوا مُطلقاً تحقيق ذلك فإنَّ الإسلام الحقّ الذي بالقرآن ينتشر يوميا بقوة الله وحفظه ثم بجهود المسلمين لأنه يُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ والفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)" أيْ هذا بيانٌ لشدة سَفَه الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم، فهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم يَطلبون منه (ص) ومِن المسلمين مِن بَعده بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذن كاذب والمسلمون كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِه بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين وَصَل العِناد بأمثال هؤلاء فقالوا يا ربّ – ولفظ اللهمّ قد يكونوا قالوه كنوعٍ من الاستهزاء بالمسلمين أيْ يقولون مثلهم كما يَدَّعون أنَّ لهم ربّاً لأنهم لا يؤمنون بوجود ربّ، أو بعضهم يؤمن أيْ يُصَدِّق بوجوده بالفِعْل لكن لا يَسمع له ويُطيع باتّباع الإسلام بل يَتّبع أنظمة مُخَالِفَة له – إنْ كان هذا الذي جاءنا به محمد مِن قرآنٍ وغيره هو الحقّ المُنَزّل من عندك كما يَدَّعِي فعاقبنا على تكذيبه وعدم الإيمان به بأنْ تُنَزّل علينا حجارة من السماء تُهلكنا أو تنزل علينا عذابا أليما آخر يقضى علينا، فإنْ لم تأتنا بهذا العذاب فهذا القرآن ليس بالتالي إذَن من عندك ورسولك هذا ليس بصادق!!.. إنهم يَقصدون السخرية مِمَّن يُصَدِّقون أنه حقّ وأنهم متأكّدون أنه ليس حقاً وبما أنه ليس بحقّ فبالتالي لن ينزل بمَن لم يؤمن به أيّ عذاب!.. إنَّ هذه الآية الكريمة كسابقتها تفيد مُحاولاتهم اليائسة لإثبات عدم صِدْق القرآن الكريم لتَبرير عدم اتّباعه ولمَنْع غيرهم من الإيمان به
ومعني "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)" أيْ وليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته أن يُعَذّب أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم تعذيب إهلاكٍ واستئصالٍ تامٍّ من الحياة وأنت مُقيم فيهم يا رسولنا الكريم فقد جَرَت سُنَّته سبحانه ألاّ يهلك قوماً مُكَذّبين وفيهم رسولهم والمسلمون معه وبعده الدعاة لهم لله وللإسلام حتى يُخرجهم منها بسببٍ من الأسباب حماية له ثم بعد ذلك يُعَذّب ويُهلك المُستحِقّين للعذاب بما يُناسب شرورهم.. ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)" أيْ وما كان من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويَستحيل أن يُعَذّب العصاة وهم يستغفرونه ويَمتنعون عَمَّا هم فيه من سوء، فإن لم يستغفروا واستمرّوا مُصِرِّين علي سُوئهم عَذّبهم بما يُناسبهم في الداريْن.. وفي الآية الكريمة تنبيهٌ للتمسّك والعمل بالإسلام – والذي منه الاستغفار – فهو الذي يُمَثّل وجود الرسول (ص) بين الناس بعد غيابه وهو العاصم من عذاب الله تعالي والجَالِب حتماً لكل إسعادٍ منه في الدنيا والآخرة
ومعني "وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)" أيْ ولماذا لا يُعَذّبهم الله بما يُناسب في دنياهم وأخراهم وأيّ شيءٍ يَمنعهم من عذابه وكيف لا يُعَذّبهم وقد فَعَلوا ما يَستحِقّون به ذلك فالحال والواقع أنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم يَمنعون الناس عن دخول المسجد الحرام وعبادته تعالي أيْ طاعته، يمنعونهم عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ.." أيْ هذا رَدٌّ على ما يَدَّعِيه كذباً وزُورَاً بعضهم أنهم أولياء أمر البيت الحرام يَتَوَلّون ويُديرون شئونه فلهم بالتالي أن يَصُدُّوا مَن يشاءون عن دخوله ويَسمحوا لمَن يشاءون!.. أيْ وما كان أمثالهم مُطلقاً يوماً مَا أهْلَاً لولاية البيت الحرام بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. كذلك من المعاني أنهم أبداً ما كانوا أولياء الله أيْ المؤمنين به العامِلِين بكل أخلاق دينه الإسلام الذين في المُقابِل يُحبّهم سبحانه ويَنصرهم ويَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُسَدِّد خُطاهم ويُيَسِّر لهم كل أمورهم ويَتَوَلّي كل شئونهم ويَرْضَيَ عنهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ.." أيْ ما أولياؤه الحقيقيّون، أولياء ونُصَرَاء المسجد الحرام وأولياء الله، المُستحِقّون لهذه الولاية وللتكريم بها وللنّيْل للأجر العظيم في الدنيا والآخرة بسببها، إلا المُتّقون فقط أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)" أيْ ولكنَّ أكثر هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتأكيد أنهم لا يعلمون وأنهم لا يَستحِقّون ولاية المسجد الحرام ويَستحِقّون العذاب.. أي ولم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا بالتهريج والتخريف وعدم الاحترام لقُدْسِيَّة المكان وعظمته وهيبته فلا تُفيد فاعلها شيئاً إلا سَفَهَاً وخَبَلَاً مُتَوَهِّمِين أنها صلاة مُخَالِفِين بذلك تماما صلاة إبراهيم (ص) الذين يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنهم يتّبعونه!! إنها لم تكن إلا مُكَاءً أيْ تَصْفِيراً وتَصْدِيَة أيْ تَصْفِيقَاً، وكانوا يستخدمونها في التشويش علي الرسول (ص) والمسلمين حين يريدون الصلاة والطواف ليفقدوهم تركيزهم فيهما وليَسخروا منهم.. ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)" أيْ إذا كان الأمر كذلك، فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ينفقون أموالهم وجهودهم بكل أشكالها وصورها لكي يَمنعوا الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. فسينفقون هذه الأموال والجهود في ذلك وغيره من الشرور ثم تكون عليهم مع الوقت حَسْرَة أيْ نَدَمَاً وحُزْنَاً وألَمَاً وهَمَّاً وتَعَبَاً شديداً مُتَكَرِّرَاً لأنها ضاعَت بلا فائدة حيث لم يُحَقّقوا ما يريدون ويأملون –واهِمِين – مِن الصَّدِّ عن سبيل الله، ثم بعدها يُهْزَمُون ويُذَلّون ويَخِيبون ويَتراجعون ويَضعفون ويَنقرضون لأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما بلا أيِّ شكّ سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإضافة لهزيمتهم وذِلّتهم وتعاستهم في دنياهم سيُحْشَرون أيْ يُجْمَعون إلي جهنم لا لغيرها في أخراهم إن استمرّوا علي سُوئهم بلا توبة وماتوا علي كفرهم بلا إسلام حيث شدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه).. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)" أيْ مِن شأن الله وأسلوبه أن يَختبر المسلمين ببعض الاختبارات كل فترةٍ لمصلحتهم ولسعادتهم – والتي منها اختبارهم بمحاولات صِدّ الذين كفروا وأشباههم لهم عن سبيل الله بأموالهم وجهودهم كما في الآية السابقة – حتى يُمَيِّزَ لهم الخبيث وهو المنافق الكاذب الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي الشرّ والكافر والمُشْرِك والظالِم والفاسِد ومَن يَتَشَبَّه بهم وبالجملة هو كل سَيِّءٍ رَدِيءٍ دَنِيءٍ خَسِيسٍ مُنْحَطّ كَرِيهٍ فاسدٍ فيَسهل تَجَنّبه وضَرَره والتعامُل معه بما يُناسب، من الطّيِّب وهو المؤمن الصادق العامِل بأخلاق إسلامه، وكذلك يَختبرهم حتي لا يُؤَدِّي الرخاء الدائم إلي الاعتياد علي شدّة الاسترخاء وعدم القُدْرة علي الإنطلاق في الحياة لاستكشافها (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة).. ".. وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ.." أيْ وإذا كانوا قد تَمَيَّزُوا في الدنيا فإنَّ الله بالقطع يُمَيِّزهم كذلك في الآخرة ويَجعل الفريق الخبيث مُنْضَمَّاً بعضه علي بعض فيَجعله مُتَرَاكِمَاً جميعاً كأكوام النفايات المَهِينَة التي لا قيمة لها إذ سيَتِمّ حَرْقها فيَجعله ويَقْذِفه – أيْ هذا الفريق المُتَرَاكِم – في جهنم حيث شدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. أمّا الفريق الطّيِّب فهو حتماً في جناتٍ ونعيمٍ لا يُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)" أيْ هؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك مِن الذين كفروا وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ يَتَوَقّفوا ويَمتنعوا امتناعاً كاملاً عن تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلِهم الشرور والمَفاسد والأضرار وعدائهم وكَيْدهم وقتالهم للإسلام والمسلمين بأنْ يُسْلِموا ويَتّبعوا أخلاق الإسلام يَغْفِر الله لهم ما قد سَبَقَ من شرورٍ فالإسلام يَمْحُو ما قبله والتوبة تَمحو ما قبلها أيْ يُسامِحهم فلا يُعاقبهم عليها ويَسترهم فلا يُفْضَحُوا بها ويُمْحوها ويُزيلها كأنْ لم تَكُن ويَمْحو عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن بسبب توبتهم منها.. إنَّ رحمة الله الواسعة تَسَعُ كل شيءٍ وللجميع حتي مع أمثال هؤلاء ما داموا عادوا لربهم وإسلامهم، فكيف تكون رحمته مع المسلمين التائبين؟!.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)" أيْ وإنْ يَرجعوا بعد إسلامهم لكفرهم وعدائهم وسُوئهم انتقمنا منهم ونصرنا المؤمنين عليهم فقد سَبَقَت صِفَة وطريقة وخَبَر هلاك السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن يعرفونهم ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم، فلقد سَبَقَت طريقة الله في عقاب سابقيهم أمثالهم بعدما أمْهَلَهم وصَبَرَ عليهم كثيراً وفي هزيمتهم ونَصْر المسلمين المُسْتَحِقّين للنصر، ولقد عرفوا أنه قد مَضَيَ أيْ نَفَذَ عقاب الله فيهم، فهذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما في كلّ أمثالهم الذين مضوا وذهبوا وانتهوا قبل ذلك، ولن تَتَغَيَّر مطلقا في أيّ زمانٍ ومكان إلي يوم القيامة، فأمثال هؤلاء هم عِبْرة لغيرهم، فاعتبروا إذن أيها المُكذبون وخذوا الدروس مِمَّا حَدَثَ لهم واستجيبوا لربكم ولإسلامكم لتسعدوا في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)" أيْ واسْتَمِرّوا أيها المسلمون في قتال أمثال هؤلاء المُعتدين القاتِلِين حتي لا تكون فتنة أيْ حتي تمنعوا الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والمَظالِم والجرائم والتعاسات ونحوها، لأنَّ الهدف الأسمي للقتال وللجهاد في سبيل الله ليس كما يفعل المعتدون من أجل النهب والسَّطْو والاعتداء والتدمير ونحو ذلك وإنما لكي لا تكون فتنة ولكي يكون الدين كله لله أيْ تكون كلمة الله هي العُلْيَا خالصة كلها وحدها ليس معها كلمة أخري عُلْيَا أيْ يكون الخالق العظيم ورسوله الكريم (ص) وقرآنه المجيد وإسلامه الحنيف أي الذي لا يَميل عن الحقّ والعدل والخير هم دائما المَرْجِع لكل الناس في كل مواقف ولحظات حياتهم ليسعدوا بذلك السعادة التامّة فيها ثم يكون لهم في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، لا أنْ تكون أيّ أنظمة أو ديانات أخري مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة للبَشَر في الداريْن هي العليا.. هذا، ولفظ "كله" هو لمزيدٍ من التأكيد والتنبيه علي الأهمية القُصْوَيَ لأنْ يكون الدين لله تعالي وحده ليس معه أحد غيره شريك فيه.. ".. فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)" أيْ فإنْ تَوَقّفوا وامْتَنَعُوا عن كفرهم وقتالكم وتَرَكوه وأسْلَمُوا، فإنَّ الله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون من خيرٍ وسعادةٍ علي إنتهائهم عن كفرهم وإسلامهم، في الدنيا قبل الآخرة.. وفي هذا تشجيعٌ لهم علي التوبة والإسلام، كما أنَّ فيه تحذيراً وتهديداً شديداً إنْ كان انتهاؤهم خديعة فالله بصيرٌ بهم وسيَكشفهم ويَهزمهم حتماً وينصر المسلمين عليهم
ومعني "وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)" أيْ وأمّا إنْ أعْرَضوا أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عن الإسلام وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه وقاتلوهم، فاعرفوا وتذكروا ودائما ولا تنسوا أبداً أنَّ الله مولاكم أيْ هو وحده مُتَوَلّي أموركم في كل شئون حياتكم ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لكم، أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم وحافظكم ومانِعكم من الضرَر ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام، ومَن كان الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)" أيْ ما أعظم وأفضل المولي، وما أعظم وأفضل النصير أيْ الذي يَنصركم ويعزّكم ويَرفعكم ويُعينكم ويَمنع الضرر ويُدافع عنكم في دنياكم وأخراكم، فهل تحتاجون شيئا بعد ذلك؟!! فاطمئنوا اطمئنانا كاملاً واستبشروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ فيهما
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُلْتَزِمِين بكل دِقّةٍ بنظام توزيع الغنائم في الإسلام حيث هو أعدل نظام يمنع أيّ تَشَاحُنٍ أو تَبَاغُض أو تَقَاطُعٍ وبالتالي يأمن الجميع ويطمئنون بانتشار العدل ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)" أيْ واعرفوا وتذكّروا دائما أنما كسبتم وربحتم من أيِّ كَسْبٍ وربحٍ من أعدائكم بعد هزيمتهم بقتالهم حينما يعتدون عليكم بالقتال، قلَّ أم كثر، فأنَّ خُمس مِقْداره يكون لمصالح المسلمين عموما – شكراً لله علي نَصْره ولأنَّ المجتمع كله غالبا يكون مُشارِكَاً في التجهيز للقتال بما يستطيع ولو بالدعاء – ويقوم المسئولون بتوزيعه حسب الحاجة ليشمل كل المجالات الاجتماعية والخدمية والتعليمية والصحية والاقتصادية والعسكرية والدعوية وغيرها بما يحقّق الرفاهية والتطوّر والتّقَدُّم والسعادة لجميع المواطنين مسلمين وغيرهم، وهذا هو معني ".. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.." والمسكين هو الذي لا يكفيه ما معه، وابن السبيل هو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه.. أمَّا بَقِيَّة الأخماس الأربعة والتي لم يَرِد في الآية الكريمة تصريح لأين تذهب فإنَّ المعني الضِّمْنِيّ لها أنها تكون للمقاتلين الغانِمين للغنائم لأنها أضافت الغنيمة إليهم ولأنَّ ذلك هو فِعْل الرسول (ص)، كتعويضٍ لهم عن تَفَرُّغِهم وتدريبهم وانقطاعهم للاستعداد للقتال للدفاع عن أوطانهم وحمايته ومَن فيه مِن أعدائهم، وفي مُقابِل إنفاقهم أحيانا علي بعض عَتادهم، وفي مُقابِل استعدادهم للتضحية بجهودهم وأوقاتهم وأعمالهم وحتي دمائهم في سبيل ذلك، وهو جائزة مَبْدَئِيَّة دنيويّة من الله تعالي قبل الجائزة العظمي الأخرويّة بكل تأكيد، ومَن استشهد منهم فقد فاز فوزا عظيما.. إنَّ هذه الأخماس الأربعة تُقَسَّم علي المُقاتِلين الغانِمين ومَن عاوَنَهم علي حسب الجهود التي بُذلت من كلٍّ منهم بما يُحَدِّده قادتهم الصالحون العادلون.. ".. إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ.." أيْ لو كنتم آمنتم بالله بحقّ كما تقولون، أيْ صَدَّقتم بوجود الله وتمسّكتم وعملتم بأخلاق إسلامكم وأردتم حقّاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، اجعلوا الخُمس لله ولكم الأخماس الأربعة الأخري.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. ".. وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.." أيْ وأيضا افعلوا ذلك إن كنتم آمنتم بحقّ بما أنزلنا علي رسولنا الكريم من آياتٍ قرآنية ومن ملائكةٍ لتثبيتكم وعوْنكم ومن جنودنا التي لا يعلمها إلا نحن ومن نصرٍ لكم وهزيمةٍ لأعدائكم يوم الفرقان أيْ يوم غزوة بَدْرٍ الكبري يوم تَقَابَل للقتال جَمْع المؤمنين ضدّ تَجَمُّع الكافرين وسُمِّي ذلك اليوم كذلك لأنَّ الله تعالي جعله فُرْقاناً أيْ تفريقاً وتمييزاً بين الحقّ والباطل والصواب والخطأ والخير والشرّ والسعادة والتعاسة حيث نَصَرَ وأعَزَّ ورَفَعَ ونَشَرَ الحقّ وأهله وأسعدهم وهَزَم وأذَلَّ وأخْفَضَ وحَصَر الشّرَّ وحزبه وأتعسهم.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)" أيْ والله حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. فهو يقدر علي أن ينصر المؤمنين مع قِلّتهم ما داموا أهْلَاً للنصر ويهزم الكافرين رغم كثرتهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. فعليهم أن يُدَاوِمُوا على طاعته وشكره ليزيدهم خيراً ونصراً وإسعاداً فيهما
ومعني "إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين كنتم في غزوة بدرٍ حيث أنتم بالعُدْوة الدنيا أيْ بالحافّة للوادي القريبة من مدينتكم وهم أيْ أعداؤكم بالحافة البعيدة له في مُقابِلكم والرَّكْبُ أيْ قافلة الرُّكّاب ومعهم تجاراتهم في مكانٍ أسفل من مكانكم الذي أنتم فيه، والمقصود تَذْكرتهم بمَوْضع الغزوة ومُعجزة نَصْرهم للتّدَبُّر والشكر حيث كان أعداؤهم في مكانٍ مُتَمَيِّزٍ عنهم ومعهم أموالهم التي تُقَوِّيهم علي دفاعهم عنها فهم مُستعدون للقتال بأقصي قوة حيث جاءوا من أجله في حين أنَّ المسلمين لم يكونوا مُستعِدِّين لقتالهم وبالتالي فبالمقاييس الدنيوية دون تَدَخُّل قُدْرَة الله تعالي فإنَّ النصر كان أقرب للأعداء لا لهم (برجاء لاكتمال المعاني عن غزوة بدر مراجعة الآيتين (7)، (8) من هذه السورة "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ"، "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ تقدير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة للمسلمين ولمَن حولهم وللخَلْق جميعا حتي وإنْ ظَهَرَ لهم في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسيجدون كل الخير مع الوقت تدرجياً إنْ تَعَمَّقوا في باطنه، كما يقول تعالي ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:216) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ولو اتّفقتم علي موعدٍ للقتال وعَلِمْتم حالهم وحالكم لتَخَلّفتم عن الموعد خوفاً من قوَّتهم وعدم الانتصار عليهم لقِلّة عددكم وعَتادكم وعدم استعدادكم.. وفي هذا مزيدٌ مِن تَذْكِرَتهم بضعفهم وبمُعجزة نَصْرهم لعَوْنهم علي مزيدٍ من التّدَبُّر لقُدْرَة ربهم وشكره.. ".. وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.." أيْ ولكنْ جَمَعَكم الله علي غير موعدٍ فيما بينكم لكي يُنَفّذ أمراً – وهو القتال المُؤَدِّى إلى نَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم في الداريْن وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم فيهما – كان مفعولاً حتماً أي مَعْمُولاً به عَمَلِيَّاً في الواقع حيث أيّ أمرٍ يريد تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماماً بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف.. ".. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.." أيْ قد فَعَلَ ذلك سبحانه أيْ جَمَعَكم مع عدوكم على غير ميعادٍ ليَنصر الإسلام علي الكفر ليَصير الأمر ظاهراً والحُجَّة والأدِلّة قاطِعَة ولا يبقى لأحدٍ حُجَّة ولا عُذْر فحينئذ يهلك مَن هَلك أيْ يستمرّ في كفره مَن استمرّ فيه وهو على بصيرةٍ من أمره أي بإدراكٍ تامٍّ بعقله أنه علي الباطل لقيام الحُجَّة عليه ويَحيى مَن حَيَّ أيْ يُؤمن مَن آمَنَ عن بَيِّنَة أيْ حُجَّة وبَصِيرة.. أيْ فَعَلَ ذلك سبحانه لكي تنقطع تماما الأعذار والحُجَج، أيْ ليكفر مَن كفر بعد بَيِّنَة أيْ حجة قامَت عليه، لِمَا رَأَيَ من المُعجزة والعِبْرَة إذ اتّضَحَ له أنَّ ما عليه هو كفر وهلاك وضياع وشقاء في الداريْن ثم رضي به واستمرّ عليه، ويُؤمن مَن آمَنَ علي حُجَّة قاطعةٍ ودليلٍ حاسم، فالذي يكفر بعد أن ظهر له تماما الدليل علي وجود الله حيث نَصَرَ المؤمنين رغم قِلّتهم علي الكافرين رغم كثرتهم، فهو يهلك نفسه رغم عِلْمه وتأكّده التامّ أنه في طريق الهلاك!! فلا يَتحَجَّج ويَعْتَذِر إذَن بأنه لم يكن يعلم!!.. إنَّ المسلم ينتفع بمِثْل هذه البَيِّنَات أيْ الدلالات وما يُشبهها في حياته، فهو يَزداد بها يقيناً أيْ تأكّداً بلا أيّ شكّ بما هو موجود أصلا في فطرته وحينما يُفَكّر فيها بعقله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فيزداد نشاطاً وهِمَّة وجدِّيَّة في التمسّك بربه والعمل بدينه الإسلام، إنه بذلك بحقّ يحيا حياته عن بَيِّنَة.. بينما غير المسلم، أو المسلم التّارِك لإسلامه كله أو بعضه، ستكون هذه الأدِلّة سبباً لهلاكه، لأنها كانت أدِلّة ضِدّه، رآها وأيقنها ولكنه عَطّل عقله ولم ينتفع بها وتَنَكّرَ لها واسْتَعْلَيَ عليها واختار بكامل حرية إرادة عقله حاله الذي هو عليه، حال البُعد عن الله والإسلام، فلا عُذر بالتالي له، فلا يَلوم إلا نفسه إذ هو في حال القلق والتوتر والاضطراب والكآبة والتعاسة التامّة وأحيانا الهلاك بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات، في دنياه، ثم ما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في أخراه.. إنه بذلك بحقّ يهلك عن بَيِّنَة، عن علمٍ وتَيَقّن بأنه يهلك، ولا يحاول أن ينقذ نفسه بأنْ يُسْلِم!!.. إنَّ مَن يَحْيَ بالإسلام فهو الحَيّ، بينما من يحي بالكفر والشرك والنفاق والظلم والفساد وما شابه هذا فهو مَيِّت حتما!! (برجاء مراجعة الآية (24) من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، ثم الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)" أيْ وإنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوال وأفعال الفريقين من المؤمنين والكافرين وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)"، "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي المسلمين ليشكروه ليزيدهم نصراً ومَكَانَة وسعادة في الداريْن، ومزيدٌ من التبشير والطمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين أَرَيَ الله رسوله الكريم في أثناء نومه أعداءكم قليلا في العَدَد والعُدَّة والقوّة فأخبركم بذلك فقَوِيَت عزيمتكم وتَجَرَّأتم على حربهم وازددتم ثباتاً واطمئناناً واستشعاراً أنكم مُنْتَصِرون بإذن الله.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين بأهمّ وأوّل أسباب النصر التي عليهم أن يتّخِذوها بعد الاستعانة بالله والتوكّل عليه وهو قوة الإرادة، إرادة الانتصار وعدم الانهزام مُطلقاً، من خلال الشعور العقليّ بالقُدْرَة التامَّة علي ذلك.. ".. وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ.." أيْ ولو كان أراكَ يا رسولنا الكريم إيّاهم كثيراً في عَدَدهم وعَتادهم وأخبرتهم بذلك لَكُنتم ضَعُفتم وجَبُنْتم وتَرَاجَعْتم عن قتالهم ولَكُنتم اختلفتم في أمر القتال فمنكم مَن كان سَيَرَيَ إقداماً عليهم ومنكم مَن كان يري تَرَاجُعَاً فيَحْدُث الفَشَل والانهزام بسبب ذلك التّنازُع والاختلاف.. ".. وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ.." أيْ ولكنَّ الله برحماته ونِعَمه وإحساناته وقُدْراته سَلَّمَ من ذلك أيْ نَجَّىَ من نتائجه السَّيِّئة حيث ثَبَّتكم وقوَّاكم علي عدوكم بسبب رُؤْيَا رسولكم.. ".. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه حتماً بالتأكيد أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه تعالي عليمٌ قطعاً بكل ما يَخْطر بعقول بني آدم من شجاعةٍ وجُبْنٍ وصبرٍ وخوفٍ ونحو هذا ولذلك دَبَّرَ مَا دَبَّر.. "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يُريكم الله أعداءكم عندما تَقابَلْتُم للقتال – قبل التحامكم معهم في هذه الغزوة أيْ غزوة بدر – في أعينكم قليلاً في العَدَد والعُدَّة والقوّة لتَقْوَيَ بذلك عزيمتكم ولتَتَجَرَّأوا على حربهم ولتزدادوا ثباتاً واطمئناناً واستشعاراً أنكم مُنْتَصِرون بإذن الله، ويُقَلّلكم في أعينهم ليَتَوَهَّمُوا أنكم ضعفاء يَسهل القضاء عليكم فيُفَاجَأوا بكثرتكم وقوّتكم فيَرْتَبِكوا ويَنهزموا.. إنَّ رؤيتكم لهم ورؤيتهم لكم هي رؤية تَحَقّق وتأكُّد ومُشَاهَدَة ومُعَايَنَة بالأعْيُن وليست تقديراً أو تَخَيُّلاً، وكل ذلك بتدبيره وعلمه وقُدْرته ومن آياته المُعْجِزَة سبحانه بما يُحَقّق النصر لكم.. إنَّ هذا المِثَالَ مثالٌ عَمَلِيٌّ واقِعِيٌّ حَدَثَ بالفِعْل ويَحدث وسيَحدث علي مَرّ العصور يُثْبِت ويُؤَكّد أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم.. ".. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.." أيْ دَبَّرَ الله مَا دَبَّرَ وفَعَلَ مَا فَعَلَ لكي يُنَفّذ أمراً – وهو القتال المُؤَدِّى إلى نَصْرِكم وإعزازكم وإعطائكم المَكَانَة والغنائم وإسعادكم في الداريْن وهزيمة أعدائكم وإذلالهم وإتعاسهم فيهما – كان مفعولاً حتماً أي مَعْمُولاً به عَمَلِيَّاً في الواقع حيث أيّ أمرٍ يريد تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماماً بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية قبل السابقة (42) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)" أيْ وكلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وهو وحده الذي له الحُكم، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا قابلتم وواجهتم مجموعة من أعدائكم مُعتدين عليكم بالقتال فاثبتوا لقتالهم أي اصمدوا واصبروا ولا تُعطوهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين، فإنَّ الله معكم وناصركم عليهم حتماً مَا دُمْتُم أحسنتم اتّخاذ أسباب النصر من قوَيَ معنويَّة ومادِّيَّة، فقابلوهم بقوّةٍ وشجاعةٍ وإقبالٍ لا إدبارٍ فإنَّ مِن شأن المؤمن أن يكون شجاعاً لا جباناً ومُقْبِلاً لا مُدْبِرَاً، وإنَّ في ذلك نصرة وإنتشاراً للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وإسعاداً للبشرية حين تعمل بكل أخلاقه وحين تتغلّب علي الظلم والشرّ والفساد والمُفسدين، ثم الأمر ما هو إلا إحدي الحُسْنَيَيْن لكم، فإمّا النصر وسعادتيّ الدنيا والآخرة وإمّا الشهادة وأعلي درجات جناتها.. ".. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا.." أيْ ودَاوِمُوا علي ذِكْر الله كثيرا في جميع أحوالكم أي استحضروا دائما بداخل عقولكم ومشاعركم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ واذكروه دوْمَاً فإنَّ هذا من أهمّ وأوّل وأُسُس أسباب النصر.. وهذه الوَصِيَّة بالإكثار من ذِكْره تعالي في هذه الأحوال خصوصاً مع أنَّ مُدَاوَمَة وكثرة ذِكْره مطلوبة في كل وقتٍ لأنَّ الإنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء يكون في أشدّ الحاجَة لعَوْن الله وتأييده ونصره والتّوَسُّل إليه بالدعاء في أحواله هذه يكون أقرب للاستجابة.. هذا، والذكر عموماً يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وقراءة للقرآن، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق بكل قوةٍ وعزيمةٍ وشجاعةٍ لتحقيق النصر بإذن الله.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لهم ليكونوا كلهم كذلك من الثابتين الذاكرين الله كثيراً المُفْلِحِين المُنْتَصِرين في الداريْن
ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)" أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها المسلمون ما وَصَّاكم به الله ورسوله (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومن هذه الطاعة حتماً طاعة قادة المعارك عند قتال المعتدين فإنّ ذلك بالقطع من أسباب النصر.. ".. وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.." أيْ ولا تَختلفوا وتَختصموا وتَتَشاحَنوا وتَتَصَارَعوا أبداً في كل شئونكم وعند لقاء أعدائكم فيُؤَدِّي ذلك إلي أن تَفشلوا أيْ تَضعفوا وتَتراجعوا ولا تنجحوا وتنهزموا وتخسروا ولا تُحَقّقوا أهدافكم، وتذهب ريحكم أيْ قوّتكم وجَرَاءتكم واجتهادكم وإقدامكم ودولتكم ومُؤَسَّساتكم، بل يَكُن بينكم دائماً كل ما وَصَّاكم به الإسلام في أخلاقه من الحب والتسامح والتعاون والتشاور ونحو ذلك.. ".. وَاصْبِرُوا.." أيْ واثبتوا واصمدوا وكونوا دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)" أيْ هذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)" أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أيها المسلمون أن تكونوا أبداً مثل أعدائكم المُعتدين عليكم بالقتال من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين الذين خرجوا من بلدهم لقتالكم وهم في حالِ بَطَرٍ بكل أشكاله أيْ كبرٍ وتَعَالٍ علي الآخرين واستيلاءٍ علي ممتلكاتهم واستعبادٍ وإذلالٍ لهم واستخدامٍ لنِعَم الله في كل شرّ مُضِرّ مُتْعِس بدلا عن استخدامها في كل خير مُفيد مُسْعِد وعدم اعترافٍ بالمُنعِم وهو الله الخالق الكريم الرزّاق الوهّاب وعدم شكره بل ونِسْبَة النِّعَم لغيره بل وعبادة هذا الغير وما شابه هذا من بَطَر.. وهم كذلك في حالِ رئاءٍ للناس أيْ رياءٍ للناس أيْ ليُرُوهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بخروجهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بهما أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن.. وهم أيضا في حالِ صَدٍّ عن سبيل الله أيْ مَنْعٍ للناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)" أيْ والله بالقطع يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً مَنْع كيدهم عنكم ونصركم عليهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. ولا يَفعل أحدٌ أبداً مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مِثْل مصيرهم
ومعني "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)" أيْ هذا تذكيرٌ من الله تعالي للمسلمين بما خَدَعَ ويَخْدَع به الشيطان الكافرين والعاصِين من وعودٍ وأماني كاذبة وَهْمِيَّة، عموماً في كل شئون الحياة، وفي غزوة بدر، من أجل دَفْع المسلمين للمُدَاوَمَة علي عملهم بإسلامهم وتوكّلهم علي ربهم وشكرهم له ومقاومتهم لشياطينهم ليزيدهم خيراً ونصراً وسعادة في الداريْن، ومن أجل تحذيرهم الشديد من التّشَبُّه بالكفار والعصاة مُطلقاً حتي لا يكون مصيرهم مِثْلهم حيث الشرّ والهزيمة والتعاسة فيهما.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين حَسَّنَ الشيطان لهؤلاء المُسِيئين السابق ذِكْرهم أعمالهم السَّيِّئة في حياتهم والتي منها حينما جاءوكم مُعتدين عليكم بالقتال، أيْ زَيَّنَ لهم هذا تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم حيث الشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، حيث اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والاعتداء علي الإسلام والمسلمين (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد زَيَّنَ لهم قائلاً مُخَادِعَاً مُوهِمَاً إيّاهم لن يَغلبكم اليوم أحدٌ من الناس لكثرة عَدَدكم وعُدَّتكم فأنتم لا تُطاقون وإني مُجِيرٌ لكم أيْ مُؤَمِّنكم مِمَّا تخافون ومُعِينكم وناصِركم من خلال كثيرين سيُعينوكم ويُؤَيِّدوكم.. إنه دَوْمَاً هكذا يُعْطِي أتْبَاعه وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم ويَعِدهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معه في ضلالهم تائِهين دائما فيه.. ".. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)" أيْ لكنْ لَمَّا تَقَارَبَت المجموعتان، مجموعة المؤمنين ومجموعة الكافرين المُعتدِين عليهم، بحيث صارَت كل مجموعة تَرَيَ الأخرى رؤية واضحة، والْتَقَتَا، ورَأَىَ مَا أمَدَّ الله به المؤمنين مِن نصرٍ بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، رَجَعَ علي عَقِبَيْه – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ رَجَع علي قَدَمَيْهِ للخَلْف هارِباً مُبْتَعِداً والمقصود تشبيه وتصوير أنه قد انتهَيَ وانهزمَ كَيْده وتَرَاجَعَ عن وعوده وظَهَرَ كذبه وخِداعه وقال للكافرين المُعتدين – وهذا تصويرٌ من القرآن الكريم لِمَا خَطَر بعقولهم حينها – إني مُتَنَصِّلٌ من عهدكم وإجارتكم وعوْنكم ونَصْركم مُتَنَكّرٌ له مُبْتَعِدٌ عنه فأنا أرَيَ ما لا ترون أنتم من نصرِ الله للمسلمين وهزيمتكم، فهم وقتها قد استشعروا وتأكّدوا أنهم حقيقة قد خُدِعُوا بالأماني والأوهام وأنهم واقعياً قد رأوا هزيمتهم.. والخلاصة أنهم قد تَرَاجَعَت عنهم الوعود وتَبَرَّأت منهم، وتَرَاجَع عنهم وتَبَرَّأ منهم مَن كانوا يَتَوَهَّمون أنهم سينصرونهم، وتَبَرَّأوا هم بعضهم من بعض وأخذوا يُحَمِّل كل منهم للآخر مسئولية الهزيمة والنصر للمسلمين والتي رأوها أمامهم وبدأوا يستشعرون بفِكْرهم أنهم مُقْبِلُون علي ما كانوا يخافون منه أيْ علي نهايتهم وهلاكهم أيْ علي عقاب الله الدنيويّ الشديد الذي كانوا يُكَذّبون به قبل عذابه الأخرويّ الأشدّ والأعظم والأخْلَد.. هذا، وختام الآية الكريمة "والله شديد العقاب" قد يكون مِمَّا خَطَرَ بعقولهم أيضا أو من كلام الله تعالي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (22) من سورة إبراهيم "وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، والآية (16) من سورة الحشر "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا أيها المسلمون حين يقول المنافقون –والمنافق هو الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة (برجاء مراجعة الآيات (7)، (8)، (9) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) – والذين في قلوبهم أي عقولهم مرضٌ ما كالشكّ مثلا في وجود الله أو الترَدّد بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم التمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كالرياء أي ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحبون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، أو ما شابه هذا من التفكير المَرَضِيّ غير السَّوِيّ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.." أيْ يقولون خَدَعَ ويَخْدَع دينُ الإسلام هؤلاء المسلمين!! والمقصود منهم الإساءة للإسلام وللمسلمين، من أجل إبعادهم عنه كله أو بعضه هم وغيرهم مِمَّن يريدون أن يُسْلِموا، وسبب قولهم هذا أنهم حينما يَرَوْنَ إقدام المسلمين علي قتال عدوهم وثباتهم طَلَبَاً لإحدي الحُسْنَيَيْن إمَّا النصر وإمّا الشهادة يَدَّعُون أنَّ الإسلام يَسْتَدرجهم لكي يُجاهدوا ويُقاتلوا الآخرين عندما يعتدون عليهم بحُجَّة الدفاع عنه فإذا بهم يفقدون حياتهم أو يحيون مُصابين مُعَاقِين!! وهذا الإقدام علي قتال مُعتدين يَزيدون عليهم في العَدَد والعُدَّة هو نوعٌ من إلقاء النفس للهلاك من وجهة نظرهم لأنهم يَقيسون بالمقاييس الدنيوية ولم يَتَذَوَّقوا ويستشعروا مَعِيَّة الله القويّ العزيز ونَصْره وقوّته وعوْنه للمتوكّلين عليه!! إنَّ في إقدام المسلمين هذا تمام العِزَّة والكرامة والسعادة في الداريْن، ولكنهم يريدون للمسلمين أنْ يَحْيُوا أذِلّة مُسْتَعْبَدِين لهم ليَنهبوا جهودهم وثرواتهم ويخدعوهم بإلقاء الفتات لهم دون أيّ مقاومة منهم (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله والإسلام والمسلمين والحق والعدل والخير وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. وكذلك يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ مِثْل هذا الكلام في كل أخلاقيّات الإسلام الأخري غير الجهاد في سبيل الله إذ يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنَّ الإسلام قد خَدَعَ المسلمين حيث يجدون أخلاقه كلها مَشَقّات وتكليفات وتقييدات وتعاسات وقد كانوا يَظنّونها عكس ذلك!! رغم علمهم التامّ بأنها كلها توجيهات وتوصيات وتذكيرات وتيسيرات وسعادات.. كذلك من معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أنهم يَدَّعون أنَّ الإسلام جَعَلَ المسلمين يَغْتَرُّون! بمعني أنهم حينما يُمَكِّن الله لهم في الأرض بأنْ يُمَكّنهم من إدارتها بنظام الإسلام يَغترّون ويَتَعالون علي الآخرين!! رغم أنهم يُسْعِدون الناس جميعا بأخلاق الإسلام وأهمها التواضع والعدل والتعاون والتآخي!!.. فليحذر كل مسلم من ذلك أشدّ الحَذَر وليكن يَقِظا لهذا دائماً ولا يستجيب لسفاهاتهم هذه فيتأثّر بها، وكذلك لا يُصيبه الغرور، وإلا تَعِسَ في دنياه وأخراه.. ".. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)" أيْ هذا حثٌّ للمسلمين علي الثبات علي كل أخلاق إسلامهم.. أيْ ولا يَفهم ولا يُدْرِك أمثال هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ أنَّ مَن يعتمد علي الله وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، لأنه عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث.. إنَّ هذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه العزيز الحكيم القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. إنَّ كل تشريعات الله تعالي في الإسلام، وكل تقديراته في كوْنه، مُقَدَّرَة تقديرا بكل تأكيدٍ أيْ مَوزونة اتّزانا ومُحْكَمَة إحكاما ومَحْسوبة حسابا دون أيّ عَبَثٍ وبكل تمامٍ وكمال، ولابُدّ أن تتحقّق وتَقَع في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحة خَلْقه وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعها أو يُغَيِّرها (برجاء أيضا مراجعة الآية (37) من سورة الأحزاب ".. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا "، لتكتمل المعاني وتَثبت وتتأكّد)
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد حين تَقْبِض وتَنْزِع الملائكة أرواح الذين كفروا عند موتهم لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا حيث تضرب وجوههم وظهورهم وكل مكانٍ فيهم ضرباً عنيفاً مُؤْلِمَاً مُهِيَناً وتقول لهم أثناء عذابهم – بما يُفيد تمام الغضب عليهم وكمزيدٍ من العذاب النفسيّ والتأنيب والتهديد والإهانة والتّيْئِيس من النجاة لهم – اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي ستدخلونه والذي كنتم تُكَذّبونه وتسخرون منه والذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. إنهم سيَلْقَون في قبورهم عذاباً مَبْدَئِيَّاً مُستمرّاً حتي يحين عذاب يوم القيامة وهو الأعظم والأتمّ والأخْلَد وحينها ستقول لهم الملائكة أيضا ذوقوا عذاب الحريق الخالد.. هذا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري والسامع أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديد.. وذلك قطعا بعد نار وحريق وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)" أيْ ذلك العذاب الشديد بسبب أقوالكم وأفعالكم السيئة الفاسدة الضارة المتعسة لكم ولغيركم بل وأحيانا للكوْن كله، ولم يكن الله أبداً، الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه علي قَدْر ما قَدّم في حياته.. وفي هذا تشجيعٌ وتذكيرٌ لكلِّ عاقلٍ أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
ومعني "كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)" أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي الكفر واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كفروا بآيات الله أيْ كذّبوا ولم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أن أخذهم الله أيْ عذّبهم وأهلكهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من كفرٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وكان عذابهم بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجاته في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، لأنَّ الله تعالي حتماً قويٌّ أي عظيمُ تامُّ القوةِ لن يَمنعه عمّا يريد فِعْله أيّ مانع وحين يُعاقِب مُكَذّباً مُعانِداً مُستكبراً مُسْتَهْزِئاً فإنَّ عقابه يكون شديداً مُؤلِماً مُوجِعاً مُهلِكاً فهو شديد العقاب في الداريْن لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)" أيْ هذا بيانٌ لتمام عدل الله تعالي بأنه لا يُغَيِّر نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، فهذا من قوانينه سبحانه العادلة في الحياة، أنه مَن أساء استخدام نِعْمَة مَا مِن نِعَمِه عليه والتي لا تُحْصَيَ، فاستخدمها في شَرٍّ مُتْعِس، وما أعطاه إيّاها إلا ليستخدمها في خيرٍ مُسْعِدٍ، له ولغيره، فإنه يَسْحبها منه، بعضها أو كلها، فجأة أو تدريجياً، حتي لا يزداد بها سوءاً وضَرَرَاً وتعاسة عليه ومَن حوله، ولعله يستيقظ بهذا فيعود للخير لتعود له نِعَمه فيَسعد بها، فهذا هو قانون الأسباب والنتائج وهو القانون الإلهيّ العادل للحياة والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7) فمَن زَرَعَ خيراً حَصَدَ خيراً ومَن زرَع شرَّاً فلن يَحصد بالقطع إلاّ كلّ شرّ، ومَن كان دوْماً مِن الشاكرين لربه علي نِعَمه، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأنْ يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. أيْ ذلك العذاب الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة والذي ينزل بأمثال هؤلاء الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب أنَّ الله بتمام عَدْله وحِكْمته لا يُغَيِّر ولا يُبَدِّل أبداً نعمة أنعمها علي أناسٍ كأمنٍ ورخاءٍ وقوةٍ وسعادةٍ وغير ذلك إلي خوفٍ وفقرٍ وضعفٍ وتعاسةٍ حتى يبدأوا هم بأنْ يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم بأنْ يكفروا ويظلموا ويفسدوا وبالجملة يتركوا إسلامهم كله أو بعضه فحينها يُغَيِّر تلك النِّعَم إلي مصائب تُناسب سُوءهم.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)" أيْ ذلك التعذيب هو بسبب سوء استخدامهم للنِّعَم وبسبب أنه سميعٌ لِمَا قالوه من سوءٍ وعليمٌ بما فعلوه منه، وقد عاقبهم على ذلك بما يَستحِقّون من عذاب، فهو لم يظلمهم حتماً بل كانوا هم الظالمين.. إنَّ الله هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوال وأفعال المؤمنين والكافرين وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)" أيْ هذا استخدامٌ لذات الألفاظ كما في بدء الآية قبل السابقة (52) لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي التكذيب واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كذّبوا بآيات ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أنْ أهلكناهم بذنوبهم أيْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم بزلازل وصواعق وفيضانات وأوْبِئَة وأمراض وحروب وغيرها بسبب كثرة ذنوبهم وأهمها تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارهم التامّ علي هذا بلا أيِّ خطوةِ عَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ.." أيْ هذا تخصيصٌ لقوم فرعون بذِكْر كيفية إهلاكهم رغم أنهم مِن ضِمْن مَن أهلكهم سبحانه بذنوبهم وذلك لشدَّة سُوئهم واستكبارهم وظلمهم وفسادهم وللتذكرة بالمُعجزة التي حدثت حين شَقّ الله تعالي البحر لبني إسرائيل عندما ضربه رسولهم الكريم موسي (ص) بعصاه وفَصَل ماءه بعضه عن بعض حتي أصبح فيه طريق جافّ يسيرون فيه وحينما عَبَرْوا كلهم ونَجوا وأراد آل فرعون المرور فيه ليلحقوا بهم ويُؤذوهم أَعاد الله الماء كما كان فأغرقهم جميعا.. ".. وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)" أيْ وكلٌّ مِن المُهْلَكِين المُعَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم في السوء كانوا ظالمين لأنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهو تعالي لم يظلمهم حتماً بل عاقبهم بما يَستحِقّون من عذابٍ يُناسب ظلم كلّ ظالمٍ منهم وقد حَذّرهم من خلال رسله والدعاة للإسلام مِن بعدهم وصَبَر عليهم وتَرَكهم كثيراً ولكنهم كانوا مُصِرِّين علي ما هم فيه
ومعني "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)" أيْ هذا تنفيرٌ من الكفر والبعد عن الله والإسلام حتي لا يَفعله أحدٌ عاقل.. أيْ إنَّ أسوأ الدوابّ – جَمْع دابةٍ وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه، والمقصود هنا الناس الكافرون والمشركون والمنافقون والفاسدون ومَن يَتَشَبَّه بهم وتشبيههم بالدوابِّ والتي هي ليست حتي دوابّ عادِّيَّة بل شرَّها هو تصغيرٌ وتحقيرٌ لهم واستهانة بهم – عند الله أيْ في أحكامه ووَصَاياه وتشريعاته وعلمه وحسابه في الداريْن، هم أولئك الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. وهم شرّ الدوابِّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يكونوا مِن شَرِّ الدوابِّ وأن يُدْخَلوا عذاب جهنّم.. فلا يَتَشَبَّه بهم أيُّ عاقلٍ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم.. ".. فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)" أيْ فهم بالتالي لذلك، بسبب إصرارهم على كفرهم، صار الإيمان بعيداً عنهم وأنهم سواء أنْذروا أو لم يُنْذَروا مستمرّون في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم مُصِرُّون علي ذلك.. إنهم لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل!.. وبالجملة إنَّ شرَّ الدوابِّ الذين كفروا المُصِرُّون علي أن لا يؤمنوا
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)" أيْ هذا بيانٌ لصِفَةٍ من صفاتهم وحالٍ من أحوالهم.. أيْ إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله الذين كفروا المُصِرُّون علي كفرهم الذين أخذتَ منهم عهدهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرةٍ دون أن يُوفوا بعهودهم ولو مرة واحدة.. ".. وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)" أيْ وحالهم أثناء ذلك أنهم لا يَخافون الله ولا يُراقبونه ولا يَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بإسلامهم وعدم نقضهم لعهودهم ولا يخافون نَصْرَه للمؤمنين وتسليطه إيّاهم عليهم فيُعاقبوهم علي غَدْرهم وبالجملة لا يخافون سوء وتعاسة نتائج فِعْلهم في الداريْن
ومعني "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)" أيْ فإنْ وجدتَ وواجهتَ هؤلاء الناقضين للعهود والمواثيق في المعركة فشَتِّت بهم مَن بعدهم أيْ فاضربهم بشدّة حتى تُشَرِّد أيْ تُفَرِّق بهم مَن خَلْفهم أيْ فأوقع بهم من العقوبة ما يَصيرون به عِبْرَة لمَن بَعْدهم أيْ لكل مَن سيأتي بعدهم غيرهم مُسْتَقْبَلاً من الخائنين الغادِرين المُعتدين أمثالهم حين يرونهم قد تَشَرَّدوا فيَعتبروا هم أيضا بالهلاك والعذاب الذي قد حَدَثَ لسابقيهم فيَتشرَّدون ويَتفرَّقون ولا يَجتمعون ضدَّكم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)" أيْ لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين، أيْ لعلهم يتذكّرون ذلك، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما حَدَثَ لهم مِن قتلٍ وتشريدٍ فلا يعودوا هم أو غيرهم لنقضهم لعهودهم ولاعتدائهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا لهم ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لمَا حَدَث
ومعني "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)" أيْ وإنْ تَخاف وتَتَوَقّع وتَعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من قومٍ مُعاهِدين لك خيانة ظَهَرَت بُوادِرها بظهور بعض قَرَائنها منهم والتي لو اجتمعت مع بعضها البعض لغَلَبَ علي الظنّ خوف وقوع خيانتهم أيْ غَدْرهم ونقضهم للعهد وعدم وفائهم به فألْقِ إليهم واتْرُك حينها عهدهم لكنْ علي سواء أيْ بحيث يَستوي عِلْم الجميع بهذا ويَشْتَهِر الأمر أيْ يُخْبَرون والجميع بأنَّ العهد والوعد معهم قد انتهي بسبب نقضهم هم له حتي لا تكون هناك أيّ شُبْهَة غَدْرٍ أو خيانةٍ من المسلمين كما يَطلب الله والإسلام ذلك لأنه لا يحب الخائنين مطلقاً حتي مع الكافرين وأشباههم والتي من علاماتهم مُحَارَبَة مَن له عهد دون أن يُعلموه بانتهاء عهده بل يحبّ الأوفياء المُتّقين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب خيانته
ومعني "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين كفروا، أي الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولا تَظنّوا أنتم أيضا أيها المسلمون، لا يَحسبون مُخْطِئين أنهم سَبَقوا أيْ سبقوا الله تعالي أيْ كأنهم يهربون منه وهو يطاردهم فيسبقوه في الجري أيْ يَفلتوا من عقابه؟!! كلا بالقطع!! ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه، ما أسوأ هذا الظنّ والتّوهُّم، ما أسوأ هذا القرار والتفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس! أنهم يُمكنهم الهروب من عقاب الله أو أنه عاجز غير قادر عليه أو هو غير موجود أصلا كما يفتري البعض أو نحو هذا من الحكم السيء علي ما يدور حولهم من أمور!!.. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. ".. إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)" أيْ ليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُشارِكين في إعداد كل أنواع القوة التي تُرهب الأعداء وتُخيفهم وتَمنعهم من اعتدائهم، وتكون عِبْرَة للآخرين غيرهم غير المعلومين للمسلمين سواء يُخفون العدوان ولا يُظهرونه حاليا أم سيَعتدون مستقبلا، وذلك سواء أكانت قوَيَ معنوِيَّة كالتمسّك بالإيمان بالله والاعتصام به والتمسّك والعمل بأخلاق الإسلام وبالأُخُوَّة والوحدة والترابُط ونحو ذلك، أم كانت قوَيَ مادِّيَّة، مالية أو اقتصادية أو عسكرية بأحدث أنواعها بما يُناسب العصر أو علمية بأرقي العلوم أو فكرية أو ثقافية أو اجتماعية أو غيرها، علي قَدْر الاستطاعة لكنْ بما يُرْهِب ويُخيف، وسيُبارِك الله تعالي فيه، وسيزيده، وسيُلقي الرعب به في قلوب المعتدين، وسيجبر أيّ تقصير، وسيجزيك حتما أجرك العظيم حيث كل خير وسعادة في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)" أيْ وجَهِّزوا أيها المسلمون لأعدائكم ما أمكنكم مِمَّا يُخيف ويُحَقّق النصر مِن أيِّ وكلِّ قوَّةٍ معنوِيَّةٍ ومادِّيَّةٍ بكلِّ أنواعها بما يُناسب، وأعِدُّوا لهم كذلك ما استطعتم مِن رباط الخيل والمقصود كل مَا يُرْبَط ويُحْبَس ويُعَدّ ويُجَهَّز ويَرْتَبِط بمكان المُرَابَطَة أيْ المُلازَمَة والإقامة من أجل الدفاع ضِدَّ المُعتدين كالخيل والمُعِدَّات الحديثة والحُصُون المُرَابِطَة علي الحدود وفي مواقعها المُتَعَدِّدة الدفاعية والهجومية وما شابه ذلك مِمَّا يختلف من عصرٍ لآخر.. هذا، وقد خُصَّت رباط الخيل بالذكر رغم أنها من عموم القوّة للتنبيه علي الاهتمام بمثل هذه الأمور.. ".. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.." أيْ لكي تُخِيفوا بهذا الإعداد أعداءكم الذين تَعلمونهم المُنْتَظِرِين لأيِّ فُرْصَةٍ للاعتداء عليكم فيَخافوكم فلا يَعتدوا.. ".. وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ.." أيْ ولكي تُرْهِبُوا كذلك أعداء آخرين من غيرهم لا تعلمونهم أنتم لأنهم يُخْفون عداوتهم لكم لكنَّ الله تعالي يعلمهم بكمال علمه الذي يُحيط بكل شيءٍ وسيُفْشِل عداواتهم ومَكائدهم ويُؤَيِّدكم فتَهزموهم.. ".. وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)" أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت.. أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ شيءٍ من أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم سواء في هذا الإعداد القَيِّم العظيم للقوَّة والذي هو مِمَّا يَحفظ الحياة الصالحة السعيدة لعموم الخَلْق (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن) أو في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)" أيْ فإنّه حتماً يُوَفّ إليكم أيْ ستَأخذون أجوركم عليه وافِيَة غير مَنْقوصَة ودون أيّ ظلمٍ من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ:39) أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته بنعيمها الذي لا يُوصَف فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُسَالِمِين، مِن مَوْقِف القوّة لا من موقف الضعف، من موقف النصر وقوة الإعداد بكل أنواعه وبما يحقّق العِزّة والكرامة والحرية والأمن والاستقرار وليس من موقف الهزيمة وإلا كانت الذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والممتلكات والثروات.. إنَّ الإسلام هو دين السلام، دين الأمان، دين الحياة، دين السعادة، فهذا هو الأصل، وما القتال والجهاد فيه إلا استثناء، من أجل المحافظة علي أن تظلّ الحياة بلا ظلمٍ أو اعتداءٍ أو فسادٍ أو غيره، فبمجرد أن يتحقّق هذا يقف القتال فوراً (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)
هذا، ومعني "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)"، "وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)"، "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)" أيْ وإنْ مَالَ الأعداء المُعتدون بالقتال للسلام والصلح وتَرْك الحَرْب فمِلْ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهذه الحالة والفِعْلَة إذا كانت فيها المصلحة، وذلك بعد أن تكون قد أذقتهم العذاب والهزيمة في الحرب وأعْدَدْتَ لهم ما استطعت من قوة لإرهابهم وغيرهم من أمثالهم المُعتدين الناقِضين لعهودهم فلا يُفَكّرون في اعتداءٍ أو نَقْضٍ لعهدٍ مستقبلاً فيكون بالتالي حينها مَيْلك للسلام وعَقْد اتفاقِ مُصَالَحَةٍ معهم هو من موقف القوة والنصر لا من موقف الضعف والهزيمة وإلا كانت مُسالَمتهم ومُصالَحتهم مُؤَدِّيَة حتماً للذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والمُمتلكات والثروات.. وكل التعاسات.. ".. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ واعتمد علي الله وحده وثِقْ به ولا تَخَفْ مَكْرَهم وكَيْدَهم وغَدْرَهم فهو حتماً سيَكفيكم يا مسلمين كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فلتكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)" أيْ لأنه هو السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يقولونه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرونه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، واستخدام لفظ "وإنْ" والذي يُفيد في اللغة العربية الشكّ في حُدُوث ما بعده، أيْ حُدُوث أن يجنحوا للسلم، يُنَبِّه ضِمْنَاً المسلمين أنَّ أعداءهم ليسوا دائما أهلا للسلام وإنما هم جنحوا إليه لاحتياجهم لذلك وأنهم غالبا سيُعاوِدون الاعتداء لو سَمَحَت ظروفهم فعليهم بالتالي ألا يأمنوا مَكْرهم وأن يكونوا دائما حَذِرين منهم مُستعِدِّين لهم بما يستطيعون من قوِّةٍ تُرْهِبهم.. "وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي الاستمرار في السلام بلا تَرَدُّدٍ ما دام فيه المصلحة ومزيدٌ من الطمأنة للمسلمين مع دوام التوكّل علي الله والحَذَر والاستعداد التامّ الدائم.. أيْ وإنْ يُرِدْ هؤلاء الأعداء الذين جَنَحوا للسَّلْم في الظاهر أن يَغدروا ويَمكروا في الخَفاء بك يا رسولنا الكريم ويا مسلمين ويَخدعوكم لتَكَفّوا عنهم حتى يستعدّوا لقتالكم فلا تهتمّوا بخداعهم بل صالحوهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ولا تخافوا منهم فإنَّ الله كافِيكم بنصره وعوْنه، فهو الذي أيَّدَكم بنصره قبل هذا في مواقف كثيرة دعوية وقتالية وغيرها بجنوده التي لا يعلمها إلا هو ولا زال يُؤَيِّدكم وسيُؤَيِّدكم دوْمَاً بها ما دُمْتُم متوكّلين عليه عاملين بإسلامكم، وأيَّدكم كذلك بالمؤمنين، بكم أنتم المؤمنين المُخلصين الصادقين المُجاهدين المُضّحِّين المُحْسِنين لاتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا.. وهذه هي أهم أسباب النصر: التوكّل علي الله والعوْن بجنوده ثم بالمؤمنين الصالحين المُتآلِفين المُتآخِين المُتَّحِدِين المُتعاونين.. "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)" أيْ وجَعَلَ الأُلْفَة والمَحَبَّة بين عقولهم ومشاعرهم وجَمَعَهم عليها ولو فُرِضَ وأنفقتَ يا رسولنا الكريم ويا أيّ أحدٍ ما في الأرض جميعا من أموالٍ وممتلكاتٍ وخيراتٍ ومنافع وغيرها ما استطعت أن تُؤَلّف بينهم لأنه تعالي وحده الذي يَملك العقول ومَشاعِرها ويَسْمَح لها بالتّحَرُّك نحو الحبّ والتّآخِي أو لا يَسمح لأنه خالقها المُتَصَرِّف فيها، ولكنَّ الله هو وحده الذي ألّفَ وجَمَعَ بينهم وسَمَحَ لهم بذلك وعاوَنَهم عليه بسبب نِعْمة الإسلام الذي أنزلناه إليهم من خلالك حينما اجتهدوا في العمل بأخلاقه فيَسَّرَ الله لهم ووَفّقَهم لذلك بفضله ورحمته وكرمه وقُدْرته فصاروا إخواناً يُؤَاخِي ويحبّ ويُعين ويَرْعَيَ ويُسْعِد بعضهم بعضا.. ".. إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)" أيْ وذلك لأنَّه غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)" أيْ هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه مزيدٌ من التحذير الشديد للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ يا أيها النبي كافِيكَ الله وكافِى مُتَّبِعِيك من المؤمنين – وعند بعض العلماء كافيك الله وكذلك كافيك مُتَّبِعِيك من المؤمنين فهم معك بعد مَعِيَّته تعالي فهو يُعينهم لِيُعِينوك ويَكْفوك ويَنْصُروك وفي هذا تكريم عظيم لهم – فهو ناصِركم ومُؤَيِّدكم على أعدائكم، وما دام الأمر كذلك، فاعتمدوا عليه وحده، وأطيعوه دائما في سِرَّكم وعلانيتكم لكي يُدِيم عليكم عَوْنه وتأييده ونصره، فهو وحده الذي بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيكم في كلّ لحظات حياتكم ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم وكافِيكم، أي الحافِظ لكم المُدافع عنكم المُتَكَفّل بكم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لكم ذلك مِن خَلْقه، فهل تحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فلتكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة.. ثم أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، للشرح والتفصيل عن التوكل)، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم أخراكم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)" أيْ يا أيها النبي حُثّ وشَجِّع المؤمنين علي القتال بكل ما يُقَوِّي عزيمتهم ويُنَشّط هِمَّتهم ويُصَبِّرهم من خلال بيان أهميته العظيمة والضرر الشديد بتَرْكه حيث هو للدفاع عن الحقّ والعدل والخير وللقضاء علي الباطل والظلم والشرِّ ولوْلَا هذا الدفاع لقُضِيَ علي الإسلام والمسلمين الذين يَدْعون الناس إليه ولَتَعِسَت البَشَرِيَّة بدونه في الداريْن لأنه مصدر سعادتها فيهما إذ يُنَظّم للبَشَر كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه.. ومن خلال بيان كذلك أنه ليس له نتيجة إلاّ إحْدَيَ الحُسْنَيَيْن، فإمّا النصر في دنياهم ومعه العِزّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة والربح ثم الأجر العظيم في الآخرة أجر الشهداء لأنهم كان مُسْتَعِدِّين للشهادة وذلك مُقابِل قتالهم وجهادهم وتضحيتهم بذاتهم وبكلّ ما يَملكون – إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وجهادهم في سبيله – وإمّا الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق في أعلي درجات الجنات عند رحمات وخيرات ربه الكريم الرَّزَّاق الذي يُعْطِي المُحسنين بغير حساب.. ومن خلال بيان أيضا أنَّ تَرْك الجهاد في سبيل الله يُؤَدِّي حتماً للذلّة والمَهَانَة والاستعباد والخوف والاضطراب والاستسلام وفقدان الأموال والأعراض والمُمتلكات والثروات وبالجملة إلي كل التعاسات والعذابات في الدنيا والآخرة.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة بياناً أنه مع حِرْص الإسلام الشديد علي السلام فإنه في ذات الوقت يَحْرِص كذلك أشدّ الحِرْص علي اتّخاذ كل أسباب النصر المُمْكِنَة بالاستمرار في إعداد كل أنواع القوة بلا أيِّ ارْتِخاءٍ من أجل القتال والاستعداد له والتدريب الدائم عليه بكل الوسائل المُسْتَحْدَثَة.. ".. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)" أيْ هذا طمأنة وتبشيرٌ وإسعادٌ وتثبيتٌ وتقوية للمسلمين ووَعْدٌ بعوْن ربهم ونَصْره حيث يُؤَكّد سبحانه لهم أنهم بصبرهم وحُسن توكّلهم عليه واتّخاذهم لأسباب النصر بكل أنواع القوَيَ المعنوية والمادية يكون الواحد منهم بقوة عشرة من أعدائهم الذين يقاتلونهم فيهزموهم بإذن الله.. أيْ قاتِلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من الذين كفروا وأشباههم بكل قوةٍ وإقدامٍ فإنكم إنْ يوجد منكم عشرون رجلا صابرون على القتال فلا يَضعفون ولا يَنهزمون بل يَثبتون ويُقاتلون يَغلبوا بسبب إيمانهم وصبرهم وحُسن استعدادهم وعوْن ربهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه مائتين من الكافرين، وإنْ يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم، وذلك بسبب أنَّ هؤلاء الكافرين وأمثالهم قومٌ لا يفقهون أيْ لا يعلمون مَعِيَّة الله وعوْنه ونَصْره وتأييده للمؤمنين الصابرين حيث هم لا يؤمنون به أصلا ولا يُدركون أنَّ المؤمن يُقاتل من أجل الدفاع عن الأبرياء وإحقاق الحقّ والعدل والخير والدفاع عن الإسلام والمسلمين وإسعاد الخَلْق والحياة كلها ثم هو ينتظره إحدي الحُسْنَيَيْن، إحدي السعادَتَيْن، إمّا النصر والعِزّة والكرامة والسعادة في الدنيا، وإما الشهادة وأعلي الدرجات في الآخرة والتي لا يؤمن بها الكافرون، وكلها أمور تَدْفع دَفْعاً قوياً لهذه المعنوِيَّة العالية الهائلة التي هو فيها والتي لا يقف أمامها عدو، بينما الذين كفروا لا يفقهون كل ذلك ولا يعقلونه ولا يتدَبَّرونه بل هم يقاتلون لأجل حياتهم فقط ومُتَعهم وظلمهم وفسادهم ونَهْبهم لخيرات ومُمتلكات غيرهم فإذا خافوا علي هذه الحياة تركوا القتال وفرّوا حرصاً عليها لأنهم ليس لهم حياة بعدها حيث لا يُصَدِّقون بالآخرة كما هو حال المؤمنين.. والسبب الأساسي في عدم فقههم هذا هو أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والآية الكريمة تُفيد ضِمْنَاً أنَّ علي المسلمين أنْ يكونوا أكثر الناس فِقْهَاً بالعلوم الحديثة والعسكرية حتي يستحِقّوا أنْ يُعادِل الواحد منهم عشرة من أعدائهم
ومعني "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)" أيْ في حالة قوَّتكم أيها المسلمون فإنَّ الواحد منكم يُساوِي عشرة منهم، لكن الآن، وبعد أن استقرّت هَيْبَة الإسلام في نفوس الكفار وأعوانهم، لو فُرِضَ في وقتٍ مَا كَثُر عليكم أعداؤكم وكنتم في حالة ضعفٍ يعلم الله أنكم أحيانا تمرّون بها، ففي مثل هذه الحالات يُخَفّف عنكم برحمته وفضله حيث حينها يُساوِي المسلم اثنين فقط من أعدائه، بمعني أنه لا يمكن له أن يَفِرّ منهما، وإلاّ يكون قد ارتكب شَرَّاً كبيراً يَتَرَتّب عليه ضَرَر كبير في الدنيا حيث الذلّة واستباحة الأعراض والأملاك وغيرها وبالتالي التعاسة التامّة، ثم ما هو أتعس وأشدّ عذاباً في الآخرة.. ونُبَشّركم بأنه إنْ يُوجَد منكم مائة صابرة على القتال فلا يَضعفون ولا يَنهزمون بل يَثبتون ويُقاتلون يَغلبوا بسبب إيمانهم وصبرهم وحُسن استعدادهم وعوْن ربهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه مائتين من الكافرين، وإنْ يُوجَد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم، بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره وإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. هذا، ولو فُرِضَ وحَدَثَ انكشافٌ للمسلمين بسببٍ من الأسباب، فيجوز حينئذ الترَاجُع المُنَظّم المَدْرُوس حفاظاً علي الأفراد والمُعِدَّات حسبما يراه القادة الأكفاء المُخْلِصون، ومن أجل إعادة التأهيل والبناء واستكمال أسباب القوة للتحضير لمعركةٍ قريبةٍ ينتصر فيها الإسلام والمسلمون بإذن الله، فهو حتماً مع الصابرين الصامدين الثابتين المُستمرّين، يعِزّهم وينصرهم ويسعدهم، في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التشجيع علي الصبر لسعاداته في الدنيا والآخرة.. أيْ وهذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بقُدْرته وبعِلْمه مع كلّ خَلْقه وبِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره مع كلِّ صابرٍ متمسّك عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه ثابتٍ عليها في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة والنصر في دنياه وأخراه
ومعني "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق لنبيٍّ من الأنبياء أن يكون له أسري من أعدائه المُعتدين علي الإسلام والمسلمين الذين يريدون بهم سُوءً وقضاءً عليهم قبل أن يُثْخِنَ في الأرض أيْ يُضْعِف ويُنْهِك أعداءه بكثرة الضرب والقتل فيهم لضمان عدم اعتدائهم ولإدخال الرعب في نفوسهم وغيرهم فلا يُفكّرون في الاعتداء مستقبلا ولإذلال الكفر والكافرين وأعوانهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ولإعلاء الإسلام والمسلمين وللتمكين له ولهم في الأرض ليسعد به الناس جميعا.. فإذا حَدَثَ هذا الإثخان فمِن المُمكن حينها أسْر الأسري والإبقاء عليهم أحياء لمزيدٍ من إضعاف العدو والتفاوض معه عليهم.. والمقصود من الآية الكريمة تنبيه وتحذير المسلمين ألاّ يجعلوا أبداً أولويتهم وانشغالهم أثناء القتال جَمْع الأسري والغنائم وإنما الأولوية لتحقيق النصر وإضعاف أعدائهم ولذا يبدأون بالإثخان أيْ الإثقال علي العدو – من ثَخِين أيْ ثقيل – بالضرب والقتل والإضعاف والإنهاك، خاصة في قادتهم وزعمائهم، حتي إذا حَدَثَ الإثخان في الأرض بمعني النصر وهزيمتهم وانكشافهم بحيث لا يَقْوُون علي المواجهة ويبدأون في التراجُع والخذلان حينها يمكن جمع الأسري والغنائم، أما قبل ذلك فمِن المُمكن مُعاوَدَتهم للقتال إذا أُسِرُوا وتَمَّت مُبَادَلَتهم بمالٍ أو غيره، ولذلك يُعاتِبَ سبحانه المسلمين علي اختلال الأولويات عندهم وانشغالهم بأسر أفراد أعدائهم قبل الانتصار عليهم.. ".. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.." أيْ تريدون أيها المسلمون بذلك ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، والمقصود بعرض الدنيا هنا الفِدْيَة المالية التي تُؤْخَذ من الأسري في مقابل إطلاق سراحهم.. ".. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ.." أيْ ولكنَّ الله يريد لكم ما هو أعظم، يريد لكم العِزَّة والكرامَة والمَهَابَة وأن ينتشر الإسلام ويسمع به الناس بسببكم فيسعد الجميع في دنياهم ثم تُثابون أعظم الثواب علي ذلك في أخراكم، ولذا فهو يُوصِيكم بما يُوصِلكم لذلك، وبالجملة الله يريد إظهار دينه الإسلام الذي به يَحْصُل البَشَر علي ثواب الآخرة الذي لا يُوصَف.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)" أيْ لولا حُكُمٌ سابقٌ من الله مَكْتُوبٌ في اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – بالعفو عن المُجْتَهِد المُخْطِيء بل وإعطائه الأجر علي اجتهاده رغم خَطَئه لتشجيعه علي مزيدٍ من التفكير والابتكار والاجتهاد والتطور لكن نحو الصواب ولأنَّ غيره سيَعْتَبِر به ولا يفعل مثله فيُؤْجَر لذلك وإنْ أصاب فله أجران، ولولا حُكُمٌ سابقٌ بعدم مُحَاسَبَة أحدٍ إلا بعد نزول التشريع الذي فيه الحلال والحرام والصواب والخطأ، لَكَانَ أصابكم ونالكم في مُقابِل ما فعلتم مِن أخْذِ أسري قبل أن تُثْخِنُوا في الأرض عذابٌ وضَرَرٌ عظيم، في الدنيا أولا حيث قد يَنتصر عليكم عدوكم وتَنكشفون وتُذَلّون وتُنْتَهَك أعراضكم وأموالكم بسبب هزيمتكم، ثم في الآخرة تُحَاسَبون بالعقاب المُناسِب
ومعني "فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)" أيْ لقد عفوتُ عنكم أيها المسلمون فيما فعلتم مِن أخْذِ أسري قبل أن تُثْخِنُوا في الأرض وأبَحْتُ لكم الغنائم فانتفعوا وتمتّعوا بالتالي إذَن مِن الذي غنمتم من غنائم عموماً بعد هزيمة عدوكم والتي منها الفِدْيَة المالية في مقابل إطلاق سراح الأسري، فهي حلالٌ أيْ مسموحٌ بها لكم غير مُحَرَّمَة أيْ غير ممنوعة وهي طيِّبَة أيْ نافِعَة لا ضارَّة، فإنَّ الممنوع بسبب ضَرَره هو الانشغال بأخذ الأسري والغنائم قبل الإثخان في الأرض، لكن إنْ هزمتموهم فخُذوا ما غنمتم فهذا حلالٌ طيِّبٌ لكم.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها أثناء الحروب وجَمْع الغنائم وتوزيعها والانتفاع بها، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)" أيْ إنَّ الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ولذلك غَفَرَ لكم ورَحِمَكم
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)" أيْ هذا بيانٌ لطَلَب الإسلام من المسلمين حُسْن مُعامَلَة الأسري وإكرامهم وعدم إهانتهم وتشجيعهم علي أن يُسْلِموا، رغم ما فعلوه من قتالٍ للإسلام والمسلمين، لكنْ لعلهم يَتّعِظون بهذه المعاملة الحَسَنَة وتتغَيَّر نظرتهم للإسلام حينما يَتَعَايَشون لبعض الوقت مع بعض المسلمين المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم، فهو يَطلب حُسْن دعوتهم بصورة مباشرة إضافة إلي القُدْوَة الحسنة.. أيْ يا أيها النبي ويا كل مسلم مِن بعده قل للذين في أيديكم من الأَسْرَىَ وتحت تصرّفكم مِمَّن أسرتموهم أثناء قتالكم للمُعتدين عليكم والذين أخذتم منهم الفدية المالية المُتَّفق عليها لتُطْلِقوا سراحهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ يكن في عقولكم خير، أيْ بَدْء تفكيرٍ في أنْ تَتوبوا وتُسْلِموا وتَعْزِموا علي تَرْك كفركم بصورةٍ جِدَّيَّةٍ حقيقيةٍ وليست ظاهرية، يَعْلَمه اللَّه حتماً، فإنه يعلم السِّرَّ وما هو أخفي منه فهو خالقكم، فإنْ أحسنتم استخدام هذه العقول واستجبتم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وأسلمتم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنه حينها بالقطع سيُعِينكم ويَشْرَح صدوركم للإسلام ويُيَسِّر لكم أسباب ذلك، وبهذا يكون قد آتاكم أيْ أعطاكم الخير كله، الإسلام، والذي ستسعدون به تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وهذا بلا أيِّ شكّ أعظم خيراً مِمَّا أُخِذَ منكم من أموالٍ افتديتم بها أنفسكم لتَتَحَرَّرُوا من الأسْر ومن غنائم أُخِذَت منكم بعد هزيمتكم، وسيُعطيكم شيئاً عظيماً آخر شديد الخير لا يُقارَن وهو أن يغفر لكم أيْ يمحو ذنوبكم السابقة كلها مِن كفرٍ وقتلٍ واعتداءٍ وظلمٍ وفسادٍ وغيره ويُسامحكم فيها ولا يُعاقبكم عليها لا في الدنيا ولا في الآخرة حيث الإسلام يَهْدِم ويَمْحُو ما قبله من سوءٍ والتوبة تهدم وتمحو ما قبلها منه فتعيشون حياتكم بذلك في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ والمُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي واسع مغفرته ورحمته وخيره بما لا يُوصَف.. أيْ والله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ولذلك يغفر لكم ويرحمكم
ومعني "وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وإن يُريدوا هؤلاء الأسري الذين تُطْلِق سراحهم خيانتك يا رسولنا الكريم ويا مسلمين بأن يُظْهِر بعضهم المَيْل إلى الإسلام أو يُعْلِن إسلامه مع إخفاء قَصْد مُخَادَعتكم والغَدْر بكم وينقضون عهدهم عند عودتهم لبلادهم فيعودون لكفرهم ولمُعاداتكم ولقتالكم مرة أخري، فلا تتأثّروا بخيانتهم وخُذوا حِذْرَكم وتذكّروا ولا تنسوا أنهم قد خانوا الله مِن قَبْل أسْرِهم بصورٍ مُتَعَدِّدة، وكثيراً، بأنْ كفروا به وبِنَعَمِه فأنكروها وعبدوا غيره وهذا أشدّ أنواع الخيانة للعقل وللفطرة والتي هي مسلمة لله أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وبأنْ هَمُّوا بقتل رسوله (ص) أو حَبْسه أو إخراجه من بلده وبأنْ خانوا المسلمين وغدروا بهم كثيراً ولم يكونوا أمناء معهم وظلموهم واعتدوا عليهم وغيرهم وبأنْ نشروا الشرَّ والفساد وما شابه ذلك من خيانات، فأمْكَنَكُم الله منهم بقُدْرته بجنوده التي لا يعلمها إلا هو أيْ جعلكم تَتَمَكّنون منهم وتَقْدِرون وتَنتصرون وتُسيطرون عليهم وتَحكمونهم بنظام الإسلام وبالتالي إذَن فإنْ عادوا للخيانة فسيُمَكّنكم منهم مستقبلاً كلّما عادوا كما مَكّنَكم منهم سابقاً وسيُؤَيِّدكم دوْمَاً ما دُمْتُم متوكّلين عليه عاملين بإسلامكم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده.. وهو عليمٌ بما يُسِرُّونه أمثال هؤلاء الخائنين وما يُعْلِنونه وبما يَستحِقّونه من عقابٍ دنيويّ وأخرويّ مُناسبٍ لسُوئهم وبما يَكفيكم من شرورهم ويُمَكّنكم منهم.. وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجِرين المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة منه وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير
ولذا، فمِن الجهاد، مع النوايا الحَسَنة بالعقل، بذل الجهد في العمل والتخصّص والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والعلم والفكر والتخطيط والتطوير والابتكار وما شابه هذا، في كل المجالات الأسَرِيَّة والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والصناعية والزراعية والرياضية والإعلامية والفنية وغيرها، وبكل الأشكال المالية والصحية والوقتية والذهنية وغيرها، ومع عموم الناس مسلميهم وغير مسلميهم علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأعرافهم ودياناتهم وأماكنهم بدءاً بالأقْرَب والأسْهَل والأنْسَب ثم الأبْعَد والأصْعَب
كذلك من الجهاد، نشر دعوة الإسلام بالقدوة والقول والعمل بالحكمة والموعظة الحسنة وبذل الوقت والصحة والفكر والمال وغيره في ذلك.. تنشره في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسب، وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبة، وأثناء العمل والعلم والإنتاج والكسب وغيره، ومع كل فردٍ مُمكن مناسب من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء والجميع بما يناسب ظروفهم وأحوالهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم.. كذلك من الجهاد تَحَمُّل أيّ أذَيَ قد يحدث أثناء ذلك، سواء أكان معنويا أم جسديا، بالسَّبِّ أو الضرب أو السجن أو التشريد أو حتي القتل، مع الصبر والثبات والصمود والاستعانة بقوة الله أولا ثم بقوة تَجَمُّع الصالحين حولك خاصة عند مقاومة الشرّ وأثناء حَمْل الحقّ وقوله والدفاع عنه ضدّ الظالمين أيَّاً كان مواقعهم ومسئولياتهم
ثم تأتي أعلي صور الجهاد وأعظمها، الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يعتدي بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد بالقتال وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. يقول (ص) في توسيع معني الجهاد "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" (رواه أبو داود)
كذلك ستسعد في حياتك كثيرا، إذا كنتَ من المهاجرين، والهجرة عموما هي المُفَارَقَة، وفي سبيل الله أيضا تعني في كل خير، والهجرة أيضا صور ودرجات علي حسب النوايا الحَسَنَة بالعقل، فمُفَارَقة أيّ شرٍّ تُعْتَبر هجرة، ومفارقة أصحاب السوء وأهل الشرّ هجرة، ومفارقة حتي الفكر الشَّرِّيّ بالعقل هجرة، وما شابه هذا، ثم أعلي صور الهجرة وأعظمها، الهجرة بمفارقة الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها، من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها، في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها
فإنْ كنتَ مِن هؤلاء، فأَبْشِر، فأنت مِمَّن يرجون رحمة الله، ويتّخِذون أسبابها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ والاستغفار عن أيِّ خطأ، ويتمنّونها وكلهم أمل واستبشار وتفاؤل ويقين في تحصيلها لأنّ ربهم خالقهم هو الكريم الرؤوف الغفور الرحيم.. أمّا مَن لم يفعل ذلك، فلا حَصَادَ لزرعٍ دون بَذرٍ لبذوره! فسيَعيش سابحاً في الأوهام والأماني!.. لكنَّ رحمة الله تَسَع كلّ شيءٍ وكلّ مُقَصِّرٍ بمجرّد أن ينوي بعقله خيراً ويَهِمّ ويبدأ به
هذا، ومَن كان له عذر مقبول يمنعه عن الجهاد أو الهجرة أو القتال عند الاحتياج لكل ذلك، يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)" أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهَاجَرُوا.." أيْ وفَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.." أيْ وبَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا في بدء تفسير هذه الآيات تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة"، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا.." أيْ والذين أَنْزَلُوا المُهاجرين إليهم في بلادهم وبيوتهم وجعلوها مَأوَيً ومَلْجَأ ومَسْكَنَاً آمِنَاً وقَدَّمُوا لهم في غُرْبَتِهم كلّ الحماية والرعاية والأُخُوَّة والمَحَبَّة والمَعُونَة المادِّيَّة والمَعْنَوِيَّة ونصروهم علي مَن ضِدَّهم في كل شئون حياتهم بكل صُوَرِ النصر المُمْكِنَة ونصروا عموما بما يستطيعون الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيبة الكريمة بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضهم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحهم وحقوقهم وأهدافهم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا.." أيْ وأمّا المؤمنون المُقِيمون في دولٍ غير إسلامية يعيشون بين غير مسلمين وتحت حُكْمهم بقوانينهم ولم يُهاجروا لسببٍ من الأسباب إلي الدولة المسلمة التي تحكم بنظام الإسلام فأمثال هؤلاء ليس لكم أيها المسلمون عليهم أيّ شيءٍ مِن ولايةٍ أيْ سلطانٍ وإلزامٍ بقوانين الإسلام وحمايةٍ لهم ونحو هذا لأنكم لا تستطيعون واقِعِيَّاً ذلك – لكن يَلتزمون هم قطعاً فيما بينهم ومع غيرهم بأخلاق الإسلام لا يُخالِفونها – لأنهم تحت حُكْم غيركم وبقوانين غير قوانينكم الإسلامية، ويستمرّ هذا حتي أيْ إلي أنْ يُهاجِروا ويَعيشوا بينكم فحينها يَتَعامَلون بقوانين دولتكم المسلمة ويكونون تحت ولايتها أيْ سُلطانها وحمايتها وامتيازاتها.. ".. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ.." أيْ ولكنْ يَظلّ حتماً بينكم قَدْر استطاعتكم المُوَالَاة التي يُوجِبها الإسلام علي كل المسلمين في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أيْ المَحَبَّة والنُّصْرَة والمَعُونَة المُمْكِنَة بحيث إنْ طَلَبوا نُصْرَتَكم في الدين أيْ مِن أجله فعليكم نَصْرهم قطعاً بما يطلبونه ويحتاجونه وما تستطيعونه، مع مراعاة ألاّ تَنْقضوا ميثاقاً أيْ عَهْدَاً مع أيِّ قوم، بما يدلّ علي المراعاة التامّة من الإسلام للوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها مع جميع الناس مسلمين وغيرهم.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)" أيْ والله علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم بصيرٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)" أيْ والذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، من أجل الكفر والظلم والشرّ والفساد وعَدَاء الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، رغم كل ما بينهم من اختلافاتٍ هائلةٍ في الأفكار والأديان والثقافات والعلوم والمعارف والبيئات والعادات والتقاليد وغيرها، ورغم كل ما بينهم من صراعاتٍ وتنافساتٍ شديدةٍ علي السَّلْب والنَّهْب والسَّطْو والاحتلال ونحوه، فهم رغم كل هذا إلا أنهم يَتّفِقون على العَدَاء والإيذاء للإسلام وللمسلمين.. ".. إِلَّا تَفْعَلُوهُ.." أيْ إنْ لم تفعلوا التَّوَلّي أيْ التّناصُر والتعاون والإخاء بعضكم لبعضٍ أيها المؤمنون وعدم التّوَلّي للذين كفروا وأشباههم، كما طَلَب منكم ربكم وإسلامكم، وأنتم عندكم كل مُقَوِّمات هذا التّوَلّي حيث أنتم مُتّحِدُون علي الله والرسول (ص) والقرآن والإسلام والحَرَم الشريف والهدف السَّامِيّ المُوَحَّد وهو إسعاد الحياة والبَشَرِيَّة كلها في دنياها وأخراها.. ".. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)" أيْ ستَحْدُث الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والمَظالِم والجرائم والتعاسات ونحوها لأنكم حتماً ستَضعفون وسيَنتصر ويُسيطر عليكم أعداؤكم وغير المسلمين وبالتالي لن يكون الدين كله لله أيْ لن تكون كلمة الله هي العُلْيَا خالصة كلها وحدها ليس معها كلمة أخري عُلْيَا أيْ لن يكون الخالق العظيم ورسوله الكريم (ص) وقرآنه المجيد وإسلامه الحنيف أي الذي لا يَميل عن الحقّ والعدل والخير هم دائما المَرْجِع لكل الناس في كل مواقف ولحظات حياتهم ليسعدوا بذلك السعادة التامّة فيها ثم يكون لهم في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، بل ستكون أيّ أنظمة أو ديانات أخري مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة للبَشَر في الداريْن هي العليا فيتعسون تمام التعاسة فيهما
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)" أيْ هذا مَدْحٌ لهم وبيانٌ لأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم لتشجيع كل الناس ليكونوا كذلك مِثلهم (برجاء مراجعة الآية (72) للشرح والتفصيل، مع مراعاة أنَّ استخدام ذات الألفاظ مثلها تقريباً في جزئها الأول هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها، ومراعاة أنَّ الآية (72) تُوَضِّح المطلوب منهم وهو أنْ يكونوا أولياء بعضهم لبعضٍ وأنْ ينصروا كل مسلمٍ في كل مكانٍ أمَّا هذه الآية فتَشهد لهم بإيمانهم الحقّ وتُوَضِّح عظيم فضلهم وأجرهم).. ".. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة هم بالقطع المؤمنون حقّ الإيمان أيْ الكامِلُون في الإيمان الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذه شهادة من الله تعالى بكمال إيمانهم، وكَفَىَ به شهيدًا، فهو أعظم شاهد ويَكفِيِ كلّ مسلم بهذه الأوصاف كفاية تامّة أنه سبحانه هو الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم فشهادته حتما هي الحقّ أيْ الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِيهم بالقطع كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، فأيّ شهادة وأجر أعظم مِن هذا؟ ولذا يقول ".. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)" أيْ لهم مغفرة لذنوبهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب كمال إيمانهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)" أيْ هذا بيانٌ وتشجيعٌ أنَّ الباب مفتوحٌ لجميع الناس ليكونوا كلهم مِثْل المؤمنين الأوائل الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَدْحهم وفضلهم وأجرهم ووَصْفهم بأنهم مؤمنون حقاً وأنَّ لهم مغفرة ورزق كريم في الداريْن.. أيْ وكل الذين آمنوا لاحِقَاً ومستقبلاً حتي يوم القيامة مِن بَعْد المؤمنين الأوّلِين السابقين وهاجروا وجاهدوا معكم يا مسلمين أيْ يفعلون فِعْل مَن سَبَقوهم ويَقتدون تماماً بهم (برجاء مراجعة معني "وهاجروا وجاهدوا" في الآية (72)، للشرح والتفصيل) فهؤلاء منكم أيْ معكم حتماً أيْ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم جميعا بعضكم أولياء بعض أيْ أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضكم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحكم وحقوقكم وأهدافكم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. فأمثال كل هؤلاء لا يَقِلّون عن المسلمين الأوائل في الفضل وإنْ كانوا قد جاءوا في زمنٍ بعدهم وهو أمرٌ لا تأثير له عند الله تعالي ما دام قد حقّقوا الإيمان الحقّ والجهاد والهجرة.. ".. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ.." أيْ وأصحاب القَرَابَة بعضهم أوْلَىَ ببعضٍ في قرآن الله وإسلامه وحُكْمه من عامة المسلمين وعموم الناس، أيْ الأقارب من المؤمنين لهم إضافة لولاية الإيمان ولاية القرابة حيث بعضهم أولى ببعضٍ من غيرهم أيْ لهم الأوْلَوِيَّة في المُوالَاة أيْ المَحَبَّة والنُّصْرَة والمَعُونَة، وفي الميراث كما حَدَّده سبحانه في آيات المواريث، ثم يأتي بعد ذلك في الموالاة مَن هو أقرب ثم أبعد فأبعد، وهذا هو ما يُوافِق العقل والفطرة.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)" أيْ إنَّ الله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم (ص) وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)" أيْ هذه الآيات هي براءةٌ وَاصِلَة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فنَقَضوا عهودهم معكم أيها المسلمون.. والمشركون هم الذين يشركون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه.. والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف.. والمقصود أنَّ مَن نَقَضَ عهده معكم أيْ لم يُوفِ ولم يلتزم به فلا تلتزموا أنتم أيضا بما اتفقتم عليه معه (برجاء مراجعة الآيات (56) حتي (59) من سورة الأنفال "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)" أيْ هذا بيانٌ لرُقِيِّ وسُمُوّ وكمال الإسلام حيث لا يَخُون ولا يَغْدُر بأيِّ أحدٍ أبداً ولكنه في ذات الوقت يُؤَدِّب مَن خانَ وغَدَرَ ويُرْجِعَه للصواب، فهو رغم نَقْض بعض غير المسلمين هم لعهدهم إلاّ أنَّ الإسلام يُعْلِمهم والجميع بنَقْضِهم ويَمنحهم فترةَ سماحٍ لمدة أربعة أشهرٍ للتفكير والتشاور في الأمر ولتدبير شئونهم فإمّا أن يعودوا لعهدهم وإمّا أن يُعاقَبوا بما يُناسب غَدْرِهم وخِيانتهم، وخلال هذه الفترة يَسيرون ويتحرَّكون في أيِّ مكانٍ آمنين دون أن يتعرَّض لهم أحدٌ من المسلمين.. هذا، ومَن كان له عهدٌ بمدةٍ أكثر من أربعة أشهر فإنَّ الإسلام يَلتزم بها، ومَن كان له مدة أقل منها تُرْفَع لها ومَن كان عهده بغير مدةٍ فإنه يُحَدَّد بها.. أيْ قولوا أيها المسلمون لهؤلاء الناقِضين لعهودهم سِيروا وتَحَرَّكوا في الأرض بأيِّ مكانٍ بكل حرية آمنين لمدة أربعة أشهر – وهي المدة التي في الغالب تكون كافية للناس عموما للقيام بالمشاورات والوصول لأفضل الآراء المُمْكِنَة في الأمور المَصِيرِيَّة – وبعدها سَيَتِمّ التعامُل معكم بما يُناسبكم، واعلموا أيْ واعْرَفُوا وتأكّدوا وتَذَكّروا دائما ولا تَنْسوا مُطلقاً أنكم بسِياحتكم فى الأرض خلال تلك المُهْلَة لن تُعْجِزوا الله أيْ لن تَهْرَبوا من عقابه وعذابه حتماً حتي ولو أمهلكم فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذّباً مُعَانداً مُستكبِراً، أم حتي مؤمناً، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزاً أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. واعلموا كذلك أنَّ الله مُخْزِي أيْ مُذِلّ ومُهِين الكافرين إن استمرّوا علي كفرهم ولم يُسْلِموا حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذابٍ يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذّباً مُهِينَاً لهم، ثم قطعاً سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)" أيْ وهذه الآيات هي أذانٌ أيْ إعلامٌ وإبلاغ من الله ورسوله إلي جميع الناس سواء نَقضوا عهدهم أم لا وسواء لهم عهود مع المسلمين أم لا أم سيَعْقِدونها مُستقبلاً ليعلموا جميعاً يوم اجتماعهم في الحجّ الأكبر حيث اجتماع العمرة يُسَمَّيَ الحج الأصغر أو في غيره من التّجَمُّعات الكبيرة أنَّ الله ورسوله كذلك – والمسلمون أيضا – بَريءٌ من عهود المشركين وأشباههم الخائنين الناقِضين لعهودهم، أيْ بعيدٌ كل البُعْد منها رافضٌ لها غيرُ مُعْتَرِفٍ بها ولا راضٍ عنها ولا صِلَة بينه وبينها وهو ضِدَّها ومُعاديها.. هذا، ويُخْتار يوم الحجّ الأكبر – أو أيّ تَجَمُّعٍ ضَخْم – لهذا الإعلام والإبلاغ لأنه اليوم الذى يَجْمَع أكبر عددٍ من الناس ويَسْمَع به أكثر العالَم ويُمكن أن يُذاعَ الخَبَر عن طريقهم فى جميع الأنحاء.. هذا، والآية (1) تُخْبِر بحُدُوث البراءة بينما هذه الآية (3) تُخْبِر بوجوب الإعلام والإنذار بها للجميع.. ".. فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ فإنْ قُمْتُم بالتوبة أيها المشركون وكلّ غير المؤمنين من كُفْرِكم بأنْ آمَنْتُم أيْ صَدَّقتم بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكتم وعملتم بأخلاق الإسلام، فهذا الإيمان والمَتَاب والرجوع لله وللإسلام هو خيرٌ لكم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ.." أيْ وإنْ أعطيتم ظهوركم لله ولرسولكم الكريم (ص) والْتَفَتم وانْصَرَفتم وابْتَعَدُتم عن الإسلام وتَرَكتم أخلاقه وأهملتموها وفعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلموا أيْ فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تَنْسوا مطلقاً أنكم لن تُعْجِزوا الله أيْ لن تَهْرَبوا من عقابه وعذابه ولن تجعلوه عاجِزَاً عنه حتماً حتي ولو أمهلكم لأنكم أينما كنتم فأنتم تحت قُدْرته وسُلْطانه.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ " اعلموا أنكم غيرُ مُعْجِزِي الله" كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تحذيرهم من التَّوَلّي ونتائجه السَّيِّئة.. أيْ وأَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الذين كفروا بما في القرآن الكريم ليكون إنذاراً وتخويفاً لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما، أخْبِرهم وذَكّرهم بعذابٍ أليمٍ أيْ مُوجِعٍ مُهينٍ يَنتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، وفي لفظ "بَشّر" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)" أيْ لكنْ الذين عاهَدتم من المشركين وغيرهم فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلُّوا شيئاً من شروطها قَلَّ أم كَثُر بل أدُّوهَا كاملة غير منقوصةٍ أيّ شيء، ولم يُعاونوا عليكم أحداً من الأعداء ضِدَّكم، فأَكْمِلُوا بالتالي لهم عهدهم إلى نهايته المُحَدَّدَة قَلّتْ أو كَثُرَت واحترموه بالقطع ولا تُعاملوهم مُطلقاً مُعامَلَة الناقِضين للعهد لأنَّ الإسلام لا يُوصِي أبداً بالخيانة بل بالوفاء.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)" أيْ إنَّ الله حتماً يحبّ المُتّقين أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
ومعني "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)" أيْ فإذا انْقَضَيَ زَمَن الأمان وهو الأشهر الأربعة المَذْكورة في الآية (2) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) – وسُمِّيَت حُرُمَاً لأنَّ الله تعالي جَعَلَها فترةَ أمانٍ للمشركين وحَرَّم فيها علي المسلمين التَّعَرُّض لهم – فاقتلوا المشركين الناقِضين للعهد بأنْ اعتدوا عليكم بالقتال وقَتَلوا منكم حيث وَجَدْتموهم في أيِّ وقتٍ ومكانٍ أثناء صَدِّ اعتدائهم.. ".. وَخُذُوهُمْ.." أيْ وأسْرِوُهم، أيْ وخُذُوهُمْ أسْرَيَ.. ".. وَاحْصُرُوهُمْ.." أيْ وحاصِروهم حتي يَسْتَسْلِموا، واحْبِسُوهم.. ".. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.." أيْ واقعدوا لهم في كل مكانٍ من المُمْكِن أن تَرْصدوهم وتُرَاقبوهم فيه هم وتحرّكاتهم العداونية وذلك حتي تتمكّنوا من إفشال مكائدهم أوَّلاً بأوَّل.. هذا، والقتل أو الأسْر أو السجن أو الحصار أو الرصد أو التحرير للأسري بمقابلٍ يكون حسبما تَتَطَلّبه المصلحة للإسلام وللمسلمين بما يَراه ويَتشاوَر فيه المسئولون الصالحون الأكفاء.. هذا لهم في دنياهم، ثم في أخراهم عذاب النار الأشدّ والأعظم والأخْلَد، إذا لم يتوبوا.. ".. فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.." أيْ فإنْ قاموا بالتوبة من كُفْرِهم وشِرْكهم بأنْ آمَنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام، وظَهَرَ صِدْق ذلك بأنْ أقاموا الصلاة أي وَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، فحينها بالتالي خَلّوا سبيلهم أيْ اتركوهم ولا تَتَعَرَّضوا لهم بشيءٍ من ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره لأنهم أصبحوا مسلمين مثلكم وإخوانكم في الإسلام لهم ما لكم وعليهم ما عليكم والإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)" أيْ لأنَّ الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)" أيْ هذا بيانٌ لرُقِيِّ وسُمُوّ وكمال الإسلام حيث يُوصِي المسلمين بتأمين وإغاثة وإعانة مَن يَطلب الأمان والاستغاثة والإعانة حتي ولو لم يكن مسلما.. أيْ وإنْ اسْتَجَارَك أيْ طَلَبَ جِوارك أحدٌ من المشركين وغيرهم من غير المسلمين حتي الذين أُمِرْتُم بقتالهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، أيْ أنْ تُجِيره، أيْ أنْ تَحْمِيَه وتُؤَمِّنه مِمَّا يَخاف وتُعينه علي ما يحتاجه، فأَجِرْه أيْ فاحْمِهِ وأَمِّنْه وأَعِنْه، حتي يسمع أيْ لكي يسمع أو إلي أنْ يسمع، بمعني حتي يكون هذا الأمان الذي يتَحَقّق له بين المسلمين فُرْصَة وسَبَبَاً في أن يسمع القرآن العظيم منك أو غيرك ويَتَفَهَّم أنَّ الإسلام يُصْلِحه ويُكْمِله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه فلعله بهذا السَّمَاع يَتَدَبَّر ويَصِل لذلك ويُسْلِم فيَسْعَد.. وهذا يدلّ علي حرص الإسلام الشديد علي كل فردٍ أن يهتدي مهما كانت شروره ومَفاسده وأضراره وعداواته ليَسعد لأنَّ في إسلامه أماناً وسعادة له وللجميع فهو يُوجِب علي المسلمين اغتنام أيّ فُرْصَةٍ لدعوته إليه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. هذا، وكل من جاء أجنبيا ودخل بلاد المسلمين بتأشيرةِ مُوَافَقَةٍ من أجل تجارةٍ أو علمٍ أو سياحةٍ أو نحو ذلك فإنه يُعْطَيَ بالقطع كلّ أمانٍ وحمايةٍ حتي يعود لبلده.. ".. ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.." أيْ ثم بعد أن يسمع كلام الله ولم يُسْلِم فلا تُسِيء إليه ولا تُؤذيه أبداً لعدم استجابته وإسلامه فلا يَدخل أحدٌ الإسلام مُكْرَهَاً وإلا اسْتَثْقله ولم يستشعر قيمته ولم ينتفع ويسعد به ولكن أوْصِلْه مكانَ أمنه واستقراره الذي يأمَن فيه علي نفسه وماله وهو بلده التي جاء منها ويظل آمِنَاً مستمرّ الأمان حتى يتحقّق له ذلك، فبهذه المُعاملة الحسنة ستُرَاجِعه فطرته بداخله حتماً مستقبلاً والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) والواقع يثبت أنَّ كثيرين يُسْلِمون بسبب حُسن معاملتهم مع الوقت، وإنْ أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة فأَسْلَمَ فهو منكم يا مسلمين وأخٌ لكم في الإسلام له ما لكم وعليه ما عليكم وسيَسعد في الداريْن لأنَّ الإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)" أيْ ذلك الذى نُوصِيك به من إجارة المُسْتَجِير من غير المسلمين وإسْماعه كلام الله وإبْلاغه مَأْمَنه إذا لم يُسْلِم بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإسلام وأنه يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ولذا فهم يحتاجون لفتراتٍ من الوقت ليَسمعوه فيها ويَتَدَبَّروه وهم آمنون، فلعلهم بهذا السماع منك ومن المسلمين يُسْلِمون فيسعدون ويزداد الإسلام انتشاراً والناس سعادة ثم إذا لم يُسْلِموا فلم يَعُدْ لهم عُذْرٌ في عدم إسلامهم فقد عَلِموه وزالَ جهلهم عنه وليتحمّلوا بالتالي إذَن سوء نتيجة ذلك حيث تعاستيّ الدنيا والآخرة
ومعني "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للنفي.. أيْ لا يكون للمشركين الناقِضين لعهودهم – ولا لمَن يَتَشَبَّه بهم في نَقْضهم للعهود – عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به ما داموا هم يَغْدِرون ويَنقضون العهد ولا يُوفون بشروطه.. كذلك من المعاني أنهم يَستحيل أن يَبْقَيَ لهم عهدٌ وهم مُعادُون هكذا للمسلمين مُخْفون دائما للغَدْر بهم، فانتبهوا لذلك يا مسلمين واحذروا تماما منه عند عَقْد عقودٍ واتفاقاتٍ معهم.. ".. إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية (4) "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ..".. أيْ لكن الذين عاهدتم أيها المسلمون من المشركين وغيرهم عند المسجد الحرام – أو غيره من الأماكن – فما داموا أقاموا لكم علي العهد أيْ استمرّوا مُقيمين ثابتين عليه مُنَفّذين له غير مُنْحَرِفين مائلين مُعْوَجِّين عنه مُناقِضين مُخالِفين له فأقيموا لهم أنتم كذلك في المُقابِل علي عهدكم معهم وأَوْفوا به ولا تَنْقضوا أيَّاً من شروطه مُدَّة استقامتهم لكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)" أيْ هذا استخدام لذات الألفاظ كما في ختام الآية (4) لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ لأنَّ الله حتماً يحبّ المُتّقين أي الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد ونحوها، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
ومعني "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من الأسباب التي تُوَضِّح أنَّ أمثال هؤلاء الناقِضين لعهودهم لا يمكن أن يكون لهم عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به، وأنهم يَستحيل أنْ يَثْبُتوا علي عهودهم وهم مُعادُون هكذا للمسلمين مُخْفون دائما للغَدْر بهم، لمزيدٍ من تنبيه وتحذير المسلمين عند عَقْد عقودٍ واتفاقاتٍ معهم.. وإعادة لفظ "كيف" هو لمزيدٍ من التأكيد علي النفي.. أيْ لا يكون مطلقاً للمشركين الناقِضين لعهودهم – ولا لمَن يَتَشَبَّه بهم في نَقْضهم للعهود – عهدٌ أيْ اتّفاقٌ مُحْتَرَمٌ عند الله ولا عند رسوله ولا مع المسلمين يُوَفّيَ لهم به وحالهم المَعْهُود منهم المعروف من أخلاقهم وأعمالهم السَّيِّئَة أنهم إنْ يَظهروا عليكم أيْ يَغلبوكم ويكونوا أعلي منكم فَوْقكم لهم سلطان عليكم مُتَمَكّنِين منكم أقوي من قوَّتكم لا يَرْقُبُوا فيكم أيْ لا يُرَاعُوا ولا يَحفظوا ولا يَحْتَرِموا في أمركم وشأنكم إلَّاً أيْ قَرَابَة أو إلاَهَاً أيْ الله تعالي ولا ذِمَّة أيْ عَهْداً.. ".. يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.." أيْ وهم كذلك مُخَادِعون وبالتالي فلا عهد لهم فهم إذا كانت الغَلَبَة لكم فإنهم في هذه الحالة يُعطونكم من ألسنتهم كلاماً جميلاً إرضاءً لكم وفى ذات الوقت تَرْفض عقولهم المملوءة كُرْهَاً لكم تصديق ألسنتهم، فهم يُظْهِرون خيراً ويُخفون شَرَّاً وما يقولونه مِن خيرٍ هو ظاهريّ ومجرّد كلام بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه ويعملون به، بل هم ينتظرون أيَّ فرصةٍ للغَدْر بكم.. ".. وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)" أيْ وأكثرهم خارجون عن الحقّ والخير مُخادِعُون ناقِضون للعهود خائنون غادِرون.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم يُوفون بعهودهم
ومعني "اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير منهم وبيانٌ للسبب الأساس لسُوئهم أنهم تركوا تماما العمل بآيات الله في القرآن العظيم وباعوا كل خُلُقٍ من أخلاق الإسلام ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فبفعلهم هذا هُم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك، فلقد باعوا الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ واشتروا بدلاً منه الضلالة أي الضياع! دَفَعوا الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!! تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة فيهما!!.. ".. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ.." أيْ فتَرَتَّبَ علي ذلك بالتالي وأدَّيَ إلي أن صَدَّوا عن سبيل الله أي امتنعوا ومَنْعوا غيرهم عن طريق الله أيْ منعوهم عن الدخول في دين الله الإسلام وآذوهم وحاولوا رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعوهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)" أيْ إنَّ هؤلاء بِئْسَ ما كانوا يعملون، أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، فلقد ساء عملهم وبالتالي فلهم حتماً فيهما من الله تعالي عذابٌ يُهينهم ويذلّهم بسبب سوء ما كانوا يعملون فهُمْ يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ويَصدّون عن سبيل الله ويُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَنقضون العهود ويَغْدرون ويَخونون ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار، ولذا سيُعَذّبون في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ عداء أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ليس خاصَّاً بالمؤمنين فقط الذين يُقيمون معهم أو يُحيطون بهم أو يُحاربونهم وإنما هو عداءٌ شاملٌ لكل مؤمنٍ مهما كان بعيداً عنهم، فهذه الآية الكريمة أشْمَل من الآية قبل السابقة (8) والتي وَضَّحَت أنَّ عدوانهم على المؤمنين مُرْتَبِط بظهورهم وعُلُوِّهم عليهم مِمَّن هم حولهم أمَّا هذه الآية فتُوَضِّح أنَّ عداءهم ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ شيءٍ فهُم متى وجدوا أيَّ فُرْصَةٍ اغتنموها فى الاعتداء على أيِّ مؤمنٍ في أيِّ مكانٍ وزمان.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (8) "إلّاً ولا ذِمَّة" هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ لا يَرْقبون في أيِّ مؤمنٍ أي لا يُرَاعُون ولا يَحفظون ولا يَحْتَرِمون في أمره وشأنه إلَّاً أيْ قَرَابَة أو إلاَهَاً أيْ الله تعالي ولا ذِمَّة أيْ عَهْداً.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)" أيْ وهؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئَة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع المُعْتَدُون أيْ المُجَاوِزون لِمَا حَرَّمه الله تعالي أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ويَنقضون العهود ويَغْدرون ويَخونون ويُؤْذون ونحو هذا، وهو أعلم بهم وسيُجازيهم حتماً بما يَسْتَحِقّون وبما يُناسب من عذابٍ في دنياهم وأخراهم (كما ذُكِرَ في تفسير آخر الآية السابقة، برجاء مراجعته)
ومعني "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)" أيْ فإنْ قاموا بالتوبة من كُفْرِهم وشِرْكهم بأنْ آمَنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام، وظَهَرَ صِدْق ذلك بأنْ أقاموا الصلاة أي وَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، فحينها بالتالي في هذه الحالة هم إخوانكم في الإسلام لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فالإسلام يَمْحُو ما قَبْلَه مِن سُوء، لأنَّ الله تعالي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (5) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)" أيْ ونُبَيِّنُ ونُوَضِّحُ ونُفَصِّل بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْننا والتي تدلّ علي وجودنا وكمال قُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا، وكذلك الآيات في قرآننا العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فكونوا جميعا من القوم الذين يعلمون ويعملون بكل ما يعلمونه
ومعني "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)" أيْ وأمَّا إنْ نَقَضُوا وحَلّوا عهودهم – وسُمِّيَت أيْمانهم لأنَّ العهود والعقود عادة تُؤَكّد وتُوَثّق باليمين والقَسَم وغيره من التوثيقات – مِن بعد عقدهم الذي عقدوه معكم ووَثّقوه وأكّدوه بأنواع التوثيق والأيْمان المختلفة، فلم يُوفوا بما عاهَدوا عليه وخالَفوا وغَدَروا واعتدوا بالقتال، ولم يكتفوا بذلك بل طعنوا في دينكم الإسلام أيها المسلمون أيْ عابُوه وسَخِرُوا منه واستهزؤا به وانْتَقَصُوا من شأنه وقَبَّحُوه وكذّبُوه وأساءوا إليه بأيِّ شكلٍ من أشكال الإساءة، وفي هذا مزيدٌ من التَّحْفِيز علي عقابهم، فحينها بالتالي إذَن في هذه الحالة قاتلوا قادة الكفر وأعْوانهم الذين يَغْدرون بكم ويقاتلونكم لأنهم لا عهود لهم فهم خائنون غادِرون مُعْتَدون يَستحِقّون العقاب.. ".. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)" أيْ لعلهم بذلك العقاب والقتال يَمتنعون ويَتَوَقّفون عن كفرهم وسُوئهم وغَدرهم واعتدائهم وقتالهم، ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما، أيْ لكي يمتنعوا عما هم فيه.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق لأنه ليس كل مَن يُعَاقَب يَمتنع عن سُوئه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أن تكون نواياهم عند قتال المُعْتَدِين عليهم بالقتال رجاء عَوْنهم علي انتهائهم عن سُوئهم وإسلامهم لا الاعتداء عليهم كما يفعلون هم ليسعد بذلك الجميع في دنياهم وأخراهم، فإنْ لم يُسْلِموا فلإيقاف اعتدائهم علي الإسلام والمسلمين ونَصْرهم والتمْكِين لهم
ومعني "أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز علي قتال المُعتدين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. أيْ قاتِلُوا – ولفظ "ألَاَ" في اللغة هو أداة حثّ وتَحْريض – أُنَاسَاً نَقَضُوا وحَلّوا عهودهم كثيراً فلم يُوفوا بما عاهَدوكم عليه وخالَفوا وغَدَروا واعتدوا بالقتال، ولم يَكتفوا بذلك بل أيضا عملوا علي إخراج الرسول (ص) سابقاً من مكة وقارَبُوا علي إخراجه حينما كان بالمدينة مُحاوِلِين إيذاءه ومَنْعه من الدعوة للإسلام وكذلك يحاولون دوْمَاً معكم بسبب أنكم تؤمنون بالله ربكم وبدينكم الإسلام، وفي هذا مزيدٌ من إلهاب مشاعرهم لعوْنهم ولِدَفْعِهم لسرعة الاستجابة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ")، وثالثاً أنتم لم تبدأوهم باعتداءٍ بل هم الذين كانوا بادئين بقتالكم فى أول لقاءٍ بينكم وبينهم وهو يوم غزوة بدر كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم فى كل قتالٍ بعد ذلك.. ".. أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من إلهاب مشاعرهم لقتالهم.. أيْ هل تخافونهم أو تخافون قتالهم خوفاً من قوّتهم وعذابهم؟! فالله وحده لا غيره أحقّ أن تخافوه، لأنه أشدّ قوة وعذاباً منهم لكم حتماً في الداريْن لو خَالَفتم ولم تُقاتلوهم، فخافوه باتّباع الإسلام وعدم مُخَالَفَة أخلاقه، واستعينوا به وتَوكّلوا عليه، فهو حتماً ربكم الكفيل تماماً أن يَرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فهو علي كل شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس.. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله ونَصْره ورزقه وكَرَمه وإسعاده في الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لِمَا تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)"، "وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز علي قتال المُعتدين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. أيْ قاتلوهم أيها المؤمنون بلا خشيةٍ بكل شجاعةٍ وإخلاصٍ وتَوَكّلٍ وحُسْنِ إعدادٍ فإنْ فَعَلْتم ذلك يُذقهم الله العذاب بأنفسكم وبأيديكم وبجهودكم بإصابتهم وجرحهم وأسْرِهم وقتلهم وأخذ غنائمهم ويُذِلّهم بهزيمتهم وكَسْر قوّتهم واستكبارهم وفرارهم وينصركم عليهم ويَشْفِ بهذه الهزيمة وبانتهاء سلطانهم ونظامهم وبإعلاء كلمة الإسلام والتمكين له وللمسلمين في الأرض يُديرونها به ليَسعد بنظامه الناس جميعا ما كان مِن ألمٍ كامِنٍ وظاهرٍ بعقول ومشاعر ودواخل قومٍ مؤمنين لحقهم كثيراً أذاهم وظلمهم وغَدْرهم المادِّيّ والمَعْنَوِيّ بأشكاله المختلفة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. "وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي شفاء صدور المؤمنين وعلي المُبَالَغَة في إسعادهم، من رحمة الله بهم وفضله ورزقه وكَرَمه عليهم وحبّه لهم في الداريْن.. أيْ ويُزيل أيضا غَيْظ عقولهم ومشاعِرهم وأحاسيسهم، والغيظ هو شدّة الغضب والألم المُخْتَلِط بإرادة الانتقام، ويملأها بَدَلَاً من ذلك فرحاً وأمناً واستقراراً وارتياحاً نفسياً وسعادة غامرة بالنصر وبهزيمة الأعداء وبعودة الحقوق لأصحابها بعد الهَمِّ والحزن والخوف والظلم الذي كانوا فيه.. ".. وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ويغفر الله لمَن يُريد من العصاة ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. والذي يشاء الله أن يتوب عليه هو الذي يشاء مِن المُسِيئين من الناس ومن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم هو أولاً هذه التوبة بأن يتوب إليه ويرجع إلي طاعته بصدقٍ باتّباع أخلاق الإسلام أيْ يقوم بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين فحينئذٍ يشاء الله له التوبة بأنْ يُوَفّقه لأسبابها ويُيَسِّرها له ويُعِينه عليها ويَتَقَبّلها منه (برجاء مراجعة الآية (29) من سورة التكوير "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)"، للشرح والتفصيل عن أنه لا يَحْدُث حَدَثٌ مَا في كوْن الله إلا بمشيئته).. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه).. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كذلك إذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)" أيْ هل تظنون أنكم بمُجرَّد أن تقولوا أنكم مسلمون تُتْرَكون دون فتنةٍ أي اختبار لهذا القول هل هو صِدْق أم كذب؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حسبانكم فهو حسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يحدث لكم بين الحين والحين اختبار ما وبما يُناسب كلاًّ منكم لكي يَظهَر لكم مَن هو الصادق ومَن هو الكاذب، تماما كالذي يُعلن أنه قد تعلّم علما ما أو مهنة ما فإنه لا يُؤْخَذ بكلامه حتي يتمّ اختباره ومعرفة صِدْقه مِن كذبه ودرجته ومستواه وتطبيقه العمليّ الواقعيّ ونحو هذا، ويتمّ هذا كل فترة وبما يُناسبه للإطمئنان علي أنه مُستمرّ علي ذلك، وهذه هي طريقة الله تعالي مع كل الناس السابقين منذ آدم عليه السلام، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، وهو يُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم، وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم.. إنَّها اختبارات مُتَنَوِّعَة لكي يعلم كلٌّ مِنكم ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا وعَمَلاً به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ومعني ".. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ.." أيْ دون أن يعلم الله المجاهدين منكم والصابرين أيْ بدون أن تُجاهدوا وتَصبروا؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حُسْبانكم فهو حُسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يَعلم الله هذا منكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (214) من سورة البقرة "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم..")، والمقصود أن تَعلموا أنتم ويُعْلِمكم سبحانه ويُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – المجاهدين والصابرين والذين لا يُجاهدون ولا يَصبرون لأنَّ الله تعالي حتماً يعلم أحوال الجميع حتي قبل أن يقوموا بجهادهم وصبرهم أو كَسَلهم وتخاذلهم ولكنَّ الأمر هو لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه المُجاهِد الصابِر أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به وجهاداً وصبراً لتتمّ سعادته، ويعلم المُتَخَاذِل المُتَكاسِل المُتَرَاجِع غير الصَّبُور ومَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلاّ تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الأحداث الكاشِفَة في الدنيا، لا يكون للمُسِيئين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال المجاهدون الصابرون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ولفظ "لمَّا" يُفيد أنه لم يَحدث الأمر حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا.. هذا، ومعني الجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. والصابرون هم الثابِتُون الصَّامِدُون المُستمِرّون بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.." أيْ ولم يَتّخِذوا غير الله ورسوله والمؤمنين بِطَانَة وأولياء – مِن وَلجَ أيْ تَدَاخَل معه حتي صار كأنه بطانة للثوب في التصاقها بالجسد – والبطانة والأولياء هم الأنصار والأحِبَّاء والأصدقاء والأعْوان، فهم لا يَتّخِذون مُطلقاً مِن أعدائهم والكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ يُقربونهم ويُسِرُّون إليهم بأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، لأنهم غير ثقات غير أمناء قد يفْشُون الأسرار ويكيدون المَكَائِد للإسلام وللمسلمين، وهم لا يُقَصِّرون في إيقاع بينهم الاضطراب والفَوْضَيَ والفساد، ويَتمنّون لهم الضرَرَ والشدَّة والتعاسة، وغالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونهم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم إذا كانوا هم الذين يَتَوَلّون أمورهم ويَقودنهم ويُوَجِّهونهم، كما يُثْبِت الواقِع هذا كثيرا.. فالمسلمون يُعاملونهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع الحَذَر، وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)" أيْ واعلموا وتذكّروا دوْماً طوال حياتكم أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، فإيَّاك إيّاك أن تكون من أشدّ الظالمين الذين يُخَرِّبونها ويَمنعون خيرها وإلا خَزِيتَ وتَعِسْتَ وحُرِمْتَ فوائدها فيهما
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)" أيْ هذا تعظيمٌ لشأن المساجد وعدم إهانتها والاهتمام بها وبدورها في إسعاد الحياة.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للمشركين – وهم الذين يُشْرِكون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه – أنْ يَدخلوا مساجد الله ومِن باب أوْلَيَ المسجد الحرام، وذلك لأنَّ المساجد تعمر لطاعة الله فيها بكل صور الطاعة لا للشرك وللكفر به بداخلها! فمَن كان كافراً بالله تعالي فليس له أن يعمُرَ مساجده حتماً فهذا أمرٌ مَنْطِقِيّ عقليّ لِمَا فيه مِن تَنَاقُضٍ واضحٍ إذ لا شيءَ له بها! فهو لا يُؤمِن أصلا بربه خالقه وبربِّ هذا المسجد وبدينه الذي يَحُثّ علي عمارته لفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة بل ويَتَعَالَي علي كل ذلك ويُعانِده ويُقاومه ويُحاربه فكيف يعمره؟!.. هذا، وعِمَارة المساجد تكون بالمشاركة في بنائها وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن.. والمُشركون لا يَسْتَحِقّون كل هذا التكريم والتشريف بهذه الأعمال بسبب شِرْكهم وكفرهم ويُحْرَمون من كل هذه السعادات حتي يُسْلِموا.. ".. شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.." أيْ لا يُعْقَل أن يَعْمُروها وذلك لأنهم قد شَهِدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نَطَقَت بها أقوالهم وأكّدتها أفعالهم.. ".. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)" أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)" أيْ هذا بيانٌ أنه ليس المشركون أهْلَاً لعمارة مساجد الله وإنما الذين هم أهلٌ لنَيْل هذا التكريم والخير العظيم هم المؤمنون فقط، كما أنه بيانٌ لبعض صفات مَن يَعمرها ليَتَشَبَّه بها كل مسلم ليكون بذلك مِمَّن ينتفع بسعادات وخيرات هذه العمارة في دنياه وأخراه، وبيانٌ أيضاً أنَّ عمارتها هي من علامات الإيمان.. أيْ لا يَزور ولا يَدخل ولا يُشارك في بناء مساجد الله وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن ولا ينتفع بسعاداتها حيث هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، إلا فقط من آمن بالله أيْ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعمل الصالحات أي عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمن أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسن بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، ووَاظَب علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليه وأدّاها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاع أيْ أحسنها وأتقنها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وآتي الزكاة أيْ وأعْطُي الزكاة المفروضة عليه لمُسْتَحِقِّيها إنْ كان مِن أصحاب الأموال.. ".. وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ.." أيْ وهو دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فهو لا يفعل شرّاً ما لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو يترك خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، ولكنه يتمسك دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كان مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنه يتمسك بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِياً بقوّة خالقه القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّع المسلمين، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنَّ مَن يَخاف الله يخيف منه كلّ شيءٍ لأنه معه بقُدْرته وعلمه إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنه أخافه من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْنه.. إنَّه يَحْيَ حياته كلها مُتَوَازِناً بين الخوف مِنه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)" أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ فلعلّ هؤلاء المذكورين أنْ يكونوا من الراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من المسلمين من أجل تنبيههم وتشجيعهم علي الإخلاص في كل أعمالهم لأنَّ المسلم عندما يأتي بهذه الأعمال السابق ذِكْرها وغيرها لا يمكنه الجَزْم بفوزه بالثواب لأنه لعله يكون أثناءها قد طَلَب شُهْرَة أو سُمْعَة لا ثوابا، أو لا يَثْبُت علي الطاعة حتي يموت عليها، فالاهتداء إذن يحتاج إلي المحافظة علي الاستمرار فيه بدوام العمل بأخلاق الإسلام ودوام الاستعانة بالله ودعائه للثبات عليها طوال الحياة والحَذَر التامّ من الغرور بذلك والتّعَالِي به علي الآخرين وإلا سَحَبَ الله منه عَوْنه عقاباً له فيَنْحَرِف عن إسلامه، فعلي المسلمين بالتالي أن يَحْيوا مُتَوَازِنين بين الخوف والرجاء
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك
هذا، ومعني "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)" أيْ هل تجعلون أيها الناس وأيها المسلمون إسْقاء الحاجّ أيْ إعطاء الماء له ليشرب وإعمار المسجد الحرام وأيّ مسجدٍ عموماً بإدراة شئونه بكل ما يحتاجه هو ومَن يزوره ويُصَلّي فيه – وهو أمرٌ حتماً له فضله وثوابه – مِثْل مَن آمَنَ بالله أيْ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعمل الصالحات أي عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمن أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسن بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، وكذلك جاهد أيْ بَذَل كل أنواع الجهود واجتهد في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة؟!.. والاستفهام للرفض وللنفي ويُفيد النهي والمَنْع أيْ لا تَجعلوا ذلك، ويُؤَكّد هذا قوله تعالي ".. لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ لا يَتَساوَيَ حتماً في حُكْم الله تعالي العادِل، الذين يَكْتفون بالسِّقَايَة والعِمَارَة، وهو أمرٌ مطلوبٌ وله أثره وأجره، بسبب تكاسُلٍ أو انشغالٍ أو خوفٍ أو غيره، مع المؤمنين بالله العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحْسِنين الاستعداد لآخرتهم المُجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بكل صور الجهاد المختلفة، في درجتهم وأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم حيث لهم كلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. وفي هذا تشجيعٌ لأنْ يكون الجميع مِثْلهم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الظالمين ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ للظالمين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)" أيْ هذا مزيدٌ من التفصيل لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومن التأكيد عليه.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهَاجَرُوا.." أيْ وفَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.." أيْ وبَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة هم حتماً أعلي وأكبر وأفخم وأشرف وأكرم مَنْزِلَة ورُتْبَة في حُكْم الله وحسابه في دنياهم وأخراهم مِمَّن آمنوا ولم يَتّصِفوا بهذه الصفات.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الذين يفلحون وينجحون ويربحون وينتصرون ويسعدون في الدنيا والآخرة فلاحا ونجاحا وربحا ونصرا وسرورا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم الفائزون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
ومعني "يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)"، "خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)" أيْ هذا تفصيلٌ لفوزهم العظيم.. أيْ يُخْبِرهم ربهم بخَبَرٍ يَسُرُّهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – في دنياهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعاً لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي ما هم فيه وهو رحمة منه يعيشون دائما في إطارها تَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، ويُبَشّرهم كذلك برضوانٍ أيْ بجزاءٍ معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له وهو رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة، ويُبَشّرهم أيضا في آخرتهم بجناتٍ من بساتين وقصور فخمة في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون مُقِيمين دائمين بلا زَوَالٍ ولا انقطاعٍ في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، إضافة قطعاً إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. "خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)" أيْ هم في هذه الجنات بلا أيِّ نهايةٍ ولا أيِّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. إنَّ الله عنده عطاء عظيم في الداريْن من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة وذلك لمَن أطاعه واتَّبَعَ إسلامه ولم يُخَالِفه في كل شئون حياته، فكونوا إذَن كذلك لتنالوا هذا الثواب العظيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا آباءكم وإخوانكم وغيرهم من أقاربكم مهما كانت درجة قرابتهم لكم أولياء ما داموا يُحِبُّون الكفر ويُفَضّلونه ويَختارونه علي الإيمان ويُصِرُّون عليه ويُعادون الإسلام، أي لا تتّخِذوهم أنصار وأعْوان وأحِبَّاء أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية (8) من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)" أيْ ومَن يَتّخِذهم منكم أولياء فهؤلاء حتماً هم الظالمون لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم – سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – وعَرَّضُوا ذواتهم وغيرهم بسبب ظلمهم لعقاب الله تعالي الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسبهم
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون التّوَازُن بين حبّ الله تعالي ورسوله الكريم (ص) والإسلام والجهاد في سبيلهم بالنفس والمال وبكل ما تملك، وبين حب الدنيا ومُتَعها الحلال التي جعلها الله مُتْعَة ونعيماً ونفعاً وسعادة لخَلْقه، حبّاً فيهم ورحمة بهم، لأنهم خَلْقه وصَنْعَته، وبالجملة كنتَ مِمَّن يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنك إنْ جَعَلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك (ص) وقرآنك وإسلامك هي علاقة حب، فقد جعلت وضَمنتَ لذاتك أعظم وأفضل وأضْمَن حَصَانَة تُحَصِّنك من الوقوع في أيِّ فِتَنٍ أيْ شَرٍّ من الشرور بأيِّ صورةٍ من الصور وسواء أكان صغيراً أم كبيراً ظاهراً واضحاً أم خَفِيَّاً (برجاء مراجعة الآية (31)، (32) من سورة آل عمران للشرح والتفصيل عن علاقة الحب الوثيقة بين المسلم وربه ورسوله وقرآنه وإسلامه).. إنَّ الإسلام لا يَنْهَيَ قطعاً عن حبّ نِعَم الحياة ومُتَعها وسعاداتها التي تَفَضَّلَ بها الخالق الكريم علي خَلْقه، وإلاّ لماذا خَلَقَها إذَن؟! ليمنعهم عنها وليُعَذّبهم بتركها! فهل يَمنع الإسلام حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر والأموال والتجارات والأملاك وهو الذي يعلم أنَّ الله قد وَضَع حُبَّها في فطرة خَلْقه لينتفعوا وليسعدوا بها؟! وهو الذي ما أنزل الإسلام عليهم إلاّ ليُعَلّمهم كيف يُحسنون التّعامُل معها، وفيما بينهم، علي أكمل وأسعد وجه، في كل لحظات حياتهم، بحيث لا يَضُرّهم أيُّ ضَرَرٍ يُتعسهم أيَّ تعاسةٍ ولو نادرة أو قليلة، وبحيث يَتَحَقّق لهم تمام الصلاح والكمال والسعادة في دنياهم ثم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. إنَّ حبّ ما ذُكِرَ في الآية الكريمة هو جزءٌ من حبِّ الله تعالي، بل كراهية شيءٍ منه بلا سببٍ هو مُخَالِفٌ لحُبِّه!!.. إنَّ المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه يحبّ ربه أولا أشدّ الحبّ الذي لا يُعادله أيّ حبٍّ آخر، لأنه هو الذي خَلَقه وأوْجَده في هذه الحياة لينتفع وليسعد بما فيها والذي ما خَلَق كل ذلك إلا ليكون مُسَخَّرَاً له ولنفعه ولسعادته، وهو الذي يُرَبِّيه ويَرْعاه ويرزقه، فكيف لا يحبه أعظم الحب؟! ثم يحب رسوله الكريم الأمين (ص)، أول المَحْبُوبين من البَشَر، لأنه هو الذي عَلّمه حب ربه، ثم يحب إسلامه لأنه من عند ربه حبيبه، ولأنه يُنَظّم له كل شئون حياته بما يُسعد كل لحظاتها تمام السعادة ويُجَهِّزه لِمَا هو أسعد في آخرته، ثم يَتَفَرَّع من هذه المَحْبُوبات الأولي كل ما يُمكن حبّه بعد ذلك، فيكون حب الوالدين لأنهما السبب المُباشِر في إيجاده وهما مَن شَملاه بحنانهما ورعايتهما وإنفاقهما، ثم حب الإخوة والأزواج والأبناء والأقارب والجيران وعموم المسلمين والناس وما يَتَيَسَّر مِن عملٍ وكسبٍ وربحٍ وعلمٍ وبناءٍ وإنتاجٍ ونحو ذلك من نِعَم الحياة.. إنَّ الإسلام فقط يُنَبِّه ويُحَذّر تحذيراً شديداً من أنْ يكون حبّ هذه النِّعَم أحبّ من الله ورسوله وإسلامه وجهادٍ في سبيلهم، بمعني أنْ يَتَعَارَض حبّها مع حبّ الله والرسول والإسلام، أيْ مع طاعتهم، أيْ يَرْتَكِب حراماً مُخَالِفَاً للإسلام من أجل تحصيل نِعَمٍ مَا والحفاظ عليها، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، أو يفقد الاستعداد التامّ لتَرْكها كلها أو بعضها والتضحية بكُلّها أو ببعضها بكل كرمٍ وعِزّةٍ وشُمُوخٍ حينما يحتاج الأمر للجهاد بصورةٍ مَا مِن الصُّوَر من أجل الدفاع عن النفس والعِرْض والخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء ونحو ذلك، وهو أمرٌ استثنائيٌّ وللضرورة وليس في كل الأوقات وإنما يكون من أجل الحفاظ علي الإسلام والذي يحفظ الحياة وسعاداتها وبدونه تَتَدَمَّر وتَتْعَس (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، ولفظ "إنْ" في أول الآية الكريمة يُفيد ضِمْنَاً الشكّ في وقوع مثل هذا السوء المذكور فيها من المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه والتي هي بَعْد الله حِصْنه من الوقوع فيه، وهذا يزيده قوة وعَزْمَاً وأمَلَاً وبُشْرَيَ في أنه هو الأقوي، بعوْن ربه وبتمسّكه بدينه وبعوْن الصالحين حوله، وأنه لن يقع بإذن الله تعالي في أيِّ فتنةٍ تُتْعِسه في دنياه وأخراه
هذا، ومعني "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ حبَّ الله ورسوله والمُتَمَثّل في طاعتهما باتّباع كل أخلاق الإسلام يجب أن يَعْلُو فوق كل حبٍّ لغيرهما، بمعني أنه عند أيِّ تَعَارُض، أيْ عند الاحتياج لقولِ قولٍ مَا أو فِعْلِ عَمَلٍ مَا يُعَارِض ويُخَالِف الإسلام، من أجل أيِّ أحدٍ أو شيءٍ مَا، فحينها حتماً يُقَدَّم هذا الحبّ المُتَمَثّل في طاعة الإسلام والعمل بأخلاقه علي أيِّ فِعْلٍ يُخَالِفه (برجاء مراجعة ما كتب سابقا تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة"، للشرح والتفصيل).. أي قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من المسلمين، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ كان آباؤكم الذين أنتم جزءٌ منهم وأبناؤكم الذين هم جزءٌ منكم وإخوانكم الذين ترتبطون بهم بالرحم وأزواجكم اللاتي جعل الله بينكم وبينهنّ مَوَدَّة ورحمة وعشيرتكم أيْ أقاربكم الذين بينكم وبينهم روابط عِشْرَة وكذلك كل مَن تَتَعاشَرون أيْ تَتَعَايَشون وتَتَعامَلون معهم من الأنساب والجيران والأصدقاء وأشباههم وأموال اكتسبتموها بكل أنواعها أنتم حريصون عليها وتجارة بكل أشكالها تخافون ركودها وتَوَقّفها وبَوَارها وخُسرانها وعدم ربحها إذا انشغلتم عنها ومنازل تَسْكُنونها تُحِبّون الإقامة فيها وتستريحون بها ولا تريدون مُفارقتها من حُسْنها، إنْ كان كلّ ذلك وما يُشْبهه تُحِبّونه أكثر من حُبّكم لطاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل الله، بمعني أنكم من المُمْكِن أنْ تُخَالِفوا أخلاق الإسلام وتَرْتَكِبوا حراماً وتَتركوا الجهاد من أجل الحرص علي أيٍّ مِن ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره، فحينها تَرَبَّصُوا أيْ تَرَقّبُوا وانتظروا حتي يأتي الله بعقابه المُناسب لفِعْلِكم في دنياكم ثم أخراكم، إنْ لم تَتُوبُوا.. وفي هذا تنبيهٌ شديدٌ لكل مسلمٍ ألاّ يفعل ذلك أبداً حتي يَسعد في دنياه وأخراه وإلاّ لو فَعَلَه لَتَعِسَ فيهما علي قَدْر مَا فَعَل.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الفاسقين أي الخارجين عن طاعة الله والرسول والإسلام ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من فِسْقٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة مزيدٌ من التحذير واللّوْم الشديدٌ للفاسقين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآية (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإيَّاك إيَّاك أنْ تَغْتَرّ بقوّتك، بعَدَدك أو عُدَّتِك أو غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فإنَّ هذا الغرور والانخداع والتّعَالِي غالباً مَا يؤدّي إلي الاستهانة بما ستُقْدِم عليه، كما أنَّ الاعتماد علي الأسباب وحدها دون الاعتماد علي من يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز، وهو الله تعالي خالقها، وهو أيضا الذي يجعل أسباب عدوك قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيَّة والتأثير، لا قيمة له، أيْ لن تغني عنك شيئا كل هذه الأسباب مهما كثرت وعَظُمَت!
هذا، ومعني "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)" أيْ اذكروا أيها المسلمون نِعَم الله عليكم التي لا تُحْصَيَ وحافظوا عليها بالشكر وحُسْن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليزيدكم منها ولا تُحْرَمُوا إيّاها والتي منها أنه قد جعلكم تفوزون علي أعدائكم في مَوَاقِع ومَعَارِك ومَوَاقِف كثيرة كغزوةِ بدرٍ وغيرها بحُسْن اتّخاذكم للأسباب وتوَكّلكم عليه واستعانتكم به سواء قَلَّ أو كَثُر عددكم لأنَّ النصر مِن عنده وحده بتأييده وعوْنه لا بعَدَدِكم ولا بعُدَدِكم، واذكروا يوم غزوة حنين من جُمْلَة هذه المَوَاطِن حين غَرَّتكم أيْ خَدَعَتْكم كثرتكم حيث أَدْخَلَت في نفوسكم العُجْب والغرور وكأنه لا أحد مثلكم وقال بعضكم لن نُغْلَبَ اليوم بسبب قِلَّة وتَوَهَّمتم أنَّ النصر بالكثرة العَدَدِيَّة واعتمدتم عليها وانشغلتم بها عن توفيق الله وتأييده وتيسيره بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. ".. فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا.." أيْ فلم تَنْفعكم كثرتكم أيَّ شيءٍ حيث انهزمتم في أوّل المعركة لأنَّ الاعتماد علي الأسباب وحدها دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز، وهو الله تعالي خالقها – وهو أيضا الذي يجعل أسباب عدوكم قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيَّة والتأثير – لا قيمة له، كما أنَّ الاغترار والانْخِداع والتّعَالِي بقوَّتكم أيْ بعَدَدكم أو عُدَّتِكم أو غير ذلك من صور الإعداد والقوة يؤدي غالباً إلي الاستهانة بما ستُقْدِمون عليه.. ".. وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.." أيْ وأصبحت الأرض ضَيِّقَة عليكم مع اتّساعها من شِدَّة خوفكم حيث لم تجدوا فيها مَلْجَأً ولم تعرفوا أين تذهبون وكيف تتصرّفون كأنكم مُحَاصَرُون في مكانٍ ضَيِّق.. ".. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)" أيْ ثم أعطيتموهم ظهوركم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين
ومعني "ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله بالمسلمين وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته لهم وتخفيفه عنهم ما أصابهم وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ ثم أنزل وأفاض الله علي رسوله وعلي المؤمنين رحمته التي تَتَحَقّق بها السكينة أيْ الشعور بالسكون والاطمئنان والأمن والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خيرٍ ونصر، وبهذه السكينة ثَبَتُوا.. لقد كان الرسول (ص) رغم ثباته وإقدامه في حاجةٍ لهذه السكينة لإزالة حزنه بسبب فرار البعض وكان المؤمنون الذين ثبتوا معه (ص) ولم يَفِرُّوا في حاجةٍ لها ليزدادوا ثباتاً وكان الذين انهزموا وفرُّوا في بداية المعركة في حاجةٍ إليها أيضا ليعودوا وقد عادوا بالفِعْل.. ".. وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ وإضافة لنعمة السكينة نعمة أخري حيث بَعَثَ جنوداً مِن الملائكة وغيرها ممّا لا ترونها ولا تعلمونها ولكنكم تجدون آثارها علي أرض الواقع إذ ألقوا في أعدائكم الرعب وبينهم الخلاف والنزاع والفُرْقة فضعفوا ففرّوا هاربين.. ".. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ وهذه نعمة ثالثة حيث عذّبهم بأنْ سلّطكم عليهم فقتلتم منهم وأَسَرْتُم وأخذتم غنائمهم وكَسَرتم تَكَبّرهم وأضعفتم سلطانهم فهزمتموهم وانتصرتم عليهم.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)" أيْ وهذا هو دائماً مَصِير وأجر وعطاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم حيث يُعَذّبون في الدنيا أولا بدرجةٍ مَا من درجات العذاب يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)" أيْ ثم مِن بعد ذلك السوء كله الذي يَحْدُث من الكافرين ومِن غيرهم من المُسِيئين ومِن بعد ذلك العذاب الذي يُعَذّبوه في دنياهم بسبب سُوئهم، يَغفر الله لمَن يُريد من العصاة ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. والذي يشاء الله أن يتوب عليه هو الذي يشاء مِن المُسِيئين من الناس ومن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم هو أولاً هذه التوبة قبل موته بأن يتوب إليه ويرجع إلي طاعته بصدقٍ باتّباع أخلاق الإسلام أيْ يقوم بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين فحينئذٍ يشاء الله له التوبة بأنْ يُوَفّقه لأسبابها ويُيَسِّرها له ويُعِينه عليها ويَتَقَبّلها منه (برجاء مراجعة الآية (29) من سورة التكوير "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)"، للشرح والتفصيل عن أنه لا يَحْدُث حَدَثٌ مَا في كوْن الله إلا بمشيئته).. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، فإيَّاك إيّاك أن تكون من أشدّ الظالمين الذين يُخَرِّبونها ويَمنعون خيرها وإلا خَزِيتَ وتَعِسْتَ وحُرِمْتَ فوائدها فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنما المشركون وهم الذين يُشْرِكون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه نَجَسٌ أيْ أصحابُ نجاسةٍ أيْ قَذَارَةٍ أيْ هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يُشرك مع الله إلاهاً آخر يَعبده لا ينفعه ولا يَضُرّه بشيء؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويُسْلِمون فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. ".. فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.." أيْ فبالتالي إذَن فلا تُمَكّنوهم من الاقتراب من الحَرَم بعد هذا العام الذي نزلت فيه هذه الآية من سورة براءة "التوبة" وهو العام التاسع من الهجرة وحتي يوم القيامة.. فهم لا يَستحِقّون كل الخيرات والسعادات بدخوله حتي يُسْلِموا.. ".. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ وإنْ خِفْتم فقراً لانقطاع تجاراتهم وتعاملاتهم عنكم بسبب منعهم فإنَّ الله الغنيّ القادر الكريم حتماً سوف يُعَوِّضكم ويَكْفيكم عن هذا ويَجعلكم أغنياء عنهم لا تحتاجونهم تدريجياً مع الوقت بوسائل وأبواب رزقٍ أخري كثيرة لا تُحْصَيَ يُيَسِّرها لكم وذلك من عطائه وإحسانه الزائد إليكم وتوفيقه وتيسيره الذي هو بلا حسابٍ وتلمسونه واقعياً كل لحظات حياتكم.. ".. إِنْ شَاءَ.." أيْ إنْ أراد، أيْ إنْ شاء أعطي وإنْ شاء مَنَع، وهذا ليس قطعاً للتشكيك في رزقه وإغنائه وإنما للتنبيه علي أنَّ مشيئته وإرادته في الرزق والإغناء لا تَتَحَقّق إلا حينما تُحسنون اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة من علمٍ وبحثٍ وتخطيطٍ وإدارةٍ وعملٍ وإنتاجٍ ونحو ذلك وتُحسنون التوكّل عليه والاستعانة به وحده لا أيّ أحدٍ غيره وتُحسنون شكره بحُسْن استخدام أرزاقه في الخير المُسْعِد لا الشرّ المُتْعِس، وحينما تستمرّون علي ذلك بلا مُخَالَفَة، وحينما يري بحِكْمته وعِلْمه الإغناء مُحَقّقَاً مصلحتكم وسعادتكم في الداريْن أنتم وغيركم لا ضَرَركم وتعاستكم فيهما، وبالجملة فإنَّ لفظ "إنْ شاء" يَدْفَع المسلمين للحرص التامّ الدائم بلا أيِّ غَفْلَةٍ علي المحافظة علي كل ما سَبَقَ ذِكْره.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)" أيْ إنَّ الله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
ومعني "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)" أيْ قاتلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من الذين أعطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أعطوا التوراة والنصاري الذين أعطوا الإنجيل وهم الذين لا يؤمنون بالله أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولا يؤمنون أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، ولا يُحَرِّمون المُحَرَّمات التي حَرَّمها الله ورسوله في القرآن والسنة، وكذلك لا يَدِينون بالدين الحقّ أي الصدق الذي هو الإسلام أيْ لا يَعتقدونه ولا يُطيعونه فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه.. وفي هذا إلهابٌ لمشاعر المسلمين لعوْنهم ولدَفْعهم لسرعة الاستجابة.. هذا، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنَّ ملك الروم وهم نصاري أيْ من أهل الكتاب قد اعتدي علي مَن أسلم في بلاد الشام وقتلهم ولعله كان يظنّ مُتَوَهِّماً أنَّ المسلمين يُقاتلون المُعتدين بالقتال من الكفار والمشركين فقط وليس أيّ مُعْتَدٍ حتي ولو كان من أهل الكتاب أو حتي ولو كان مسلما، وذلك من أجل إحقاق الحقّ والعدل، فكانت الآية إيذاناً بذلك وتوجيهاً له، فجَهَّزَ الرسول (ص) لهم لتأديبهم لكي لا يُفَكّر أحدٌ في الاعتداء منهم مستقبلا، فكانت غزوة تَبُوك.. ".. حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.." أيْ اسْتَمِرّوا في قتال المُعتدين منهم إلي أنْ يُسْلِمُوا فهم حينها مسلمون مثلكم إخوانكم لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، أو أنْ يَقْبَلُوا أنْ يُعطوا ويُقَدِّمُوا للدولة المسلمة الجزية وهي مبلغ من المال يدفعه غير المسلم يُقَدَّر علي حسب حاله واستطاعته جزاء وفي مُقابِل الدفاع عنه من الدولة المسلمة، كما يَدْفع المسلمون من أموالهم لتجهيز الجيوش والجنود لحماية دولتهم ولخدماتها العامة، وإن اشترك غير المسلم في الدفاع عن ذاته وأهله وأرضه مع جيش دولة الإسلام فلا تُؤْخَذ منه الجزية، بل إذا افتقر يُعْطَيَ من أموال المسلمين من بيت مالهم أيْ خزانة الدولة كما يُعْطَيَ المسلمون فهذا هو عدل الإسلام ورحمته ومساواته بين جميع المواطنين وإسعادهم.. ".. عَنْ يَدٍ.." أيْ عن غِنَي واستطاعة فلا تُؤْخَذ من فقيرٍ غير مُستطيع، وأيضا عن يدٍ بمعني بأيديهم بما يُفيد مَوَافقتهم علي عدم القتال والاعتداء.. ".. وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)" أيْ وهم طائعون غير مُتَمَرِّدِين قد دخلوا في طاعة دولة الإسلام مُنْقَادِين مُتَوَافِقِين غير مُجَاهِرين مُعْلِنِين بالعَدَاوَة.. هذا، ولفظ "صاغرون" بما يُفيده من معني التصغير لهم يُقْصَد به إيقاظهم لعلهم يُسْلِمون فيكونون أعِزَّاء سُعَداء في دنياهم وأخراهم لا صِغَار أذِلّاء تُعَساء فيهما
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)" أيْ هذا تأكيدٌ وبيانٌ لكفرهم وتفصيلٌ لبعض سُوئهم الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ وقالت مجموعة من اليهود المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ.." أيْ هذا تعبيرٌ يُفيد أنَّ ذلك القول الفاحِش الشَّنِيع الذي يقولونه هو قولٌ ليس له أيّ دليل عقليّ مَنْطِقِيّ فهو قولٌ مُهْمَلٌ تافِهٌ سَفِيهٌ لامعقول لا وجود له إلا في الأفواه ولا يوجد له أيّ شيءٍ يُصَدَّقه في الواقع ولا يدلّ علي أيِّ معني ولا قيمة له ولا وَزْن عند العقول المُنْصِفَة العادِلَة، فهو من افتراءاتهم واختلاقاتهم وتخريفاتهم وكذبهم وزُورهم.. ".. يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ لهم على تقليدهم لمَن سَبقوهم في سُوئهم وسَفههم بدون تَعَقّل وتَدَبُّر، وبيانٌ أنَّ الكفر قديمٌ مُتَجَذّر فيهم ولم يُغَيِّروه بما يدلّ علي شِدَّة إصرارهم علي السوء الذي هم فيه.. أيْ وهم في قولهم هذا يُشابِهُون قول الكافرين السابقين لهم من قبلهم من آبائهم وأجدادهم وغيرهم الذين كان بعضهم يقول مثل هذا القول السفيه، بسبب تَشَابُه عقول هؤلاء وأولئك في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة، فهم مُتَّبِعون لمثل خطواتهم تماما مُسْارِعُون في كل كفرٍ وشرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ دون أيّ تفكير! أليس لهم عقول فيُمَيِّزون بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة؟! ولكنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قَاتَلَهُمُ اللَّهُ.." أيْ حتما سيُقاتِلهم الله القوي المُنتقم الجبَّار أيْ سيَلعنهم أيْ سيُخرجهم من رحمته، في دنياهم حيث سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم إضافة إلي الهزائم والإذلال والهَوان بقوته وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبأيديهم وبتنازعهم فيما بينهم صراعا علي النهب والسَّلْب ونحوه وبأيدي المسلمين حينما يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فيُعِزّهم ويُعْلِيهم ويُنصرهم، ثم في أخراهم لهم قطعا من العذاب ما هو أتمّ وأعظم وأخلد.. ".. أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)" كيف يكون منهم هذا الإفْك؟! كيف يكون منهم هذا الكذب الواضح الشنيع السخيف؟! هذا الانصراف عن الحقّ إلي الباطِل بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل! بَعْدَ كلّ الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة التي تُؤَيِّد الحقّ وتدلّ علي كذبهم وسَفههم وتَخريفهم!.. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ما هو إلا من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)" أيْ هذا تأكيدٌ وبيانٌ لكفرهم وتفصيلٌ لبعض سُوئهم الذي سَبَقَ ذِكْره.. أيْ جعل هؤلاء السابق ذِكْرهم من اليهود والنصاري علماءهم ورهبانهم أيْ المُنْقَطِعين منهم عن الدنيا، جعلوهم أرباباً من دون الله – جَمْع ربّ – أيْ كالأرباب يعبدونهم غير الله تعالي أيْ يُطيعونهم حتي فيما يُخالِف وَصَايَاه في الإسلام الذي في التوراة والإنجيل بأن يَتّبِعونهم في تحليل شيءٍ أو تحريمه لم يُحِلّه أو يُحَرِّمه سبحانه، لأنه مَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.." أيْ واتّخَذَ النصاري كذلك المسيح عيسى ابن مريم رَبَّاً من دون الله فعَبَدوه.. ".. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ هذا بيانٌ للحال السَّيِّء الذي وَصَلَ إليه عقول أمثال هؤلاء الذين كفروا بدين الإسلام ولم يَتَّبِعوه رغم أنهم ما أُمِرُوا فيه إلا بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حيث لم يُؤْمَرُوا ويُرْشَدُوا إلا لعبادة إلاهَاً واحداً وهو الله تعالي وحده لأنه لا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)" أيْ فسَبِّحوه تعالي أيها المسلمون، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه، فتَعَاظَم الله وارتفع وابتعد عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون ومنهم عيسي (ص) وأيّ رسول! آلهة يَتَوَهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضَرَر!! أين العقول التي تعبد معبودا كالأصنام هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من مثل هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآية (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)"، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)" أيْ يَتَمَنَّيَ أعداء الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، الظالمون بكل أنواع الظلم سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، يَتمنّون ويَتَوَهَّمون مِن سَفَهِهِم وخَلَل عقولهم وضعفها وتعطيلها أنهم يمكنهم إطفاء نور الله أيْ منع انتشار الإسلام! وسَمَّيَ تعالي القرآن بما فيه من إسلامٍ نوراً ونَسَبَه إلي ذاته العَلِيَّة سبحانه لأنه السبب لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنهم يريدون أن يُطفئوه بأفواههم أيْ بأقاويلهم التافهة الفاسدة التي لا قيمة ولا وزن لها لأنها بلا دليلٍ بل هي تزيد كلّ عاقلٍ تأكّداً بما هم عليه من شرٍّ وسَفَاهَةٍ وما هو عليه من خيرٍ وصواب، وذلك من خلال استخدامهم لكل الوسائل المُمْكِنَة من تزييفٍ للحقائق وتشويهٍ وإساءةٍ وإيذاءٍ ونحو هذا وقد يَصِل الأمر لحَدّ الاقتتال مع المسلمين كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. إنَّ حالهم يُشْبِه حال مَن يحاول إطفاء نور الشمس بفَمِه!! فما أعظم سَفَههم وخَبَلهم أن يحاولوا فِعْل هذا المستحيل تحقيقه حتي ولو اجتمعوا جميعا عليه واستمرّوا فيه إلي يوم القيامة!! إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين في المُقابِل حتماً بلا أيِّ شكٍّ يأبَيَ أيْ يَرْفض رَفْضَاً قاطِعَاً تامَّاً وبكل عِزَّةٍ وتصميمٍ وشِدَّةٍ – ولله المَثَل الأعلي – إلاّ أنْ يُتِمّ نوره بتمام قُدْرته وعلمه، أيْ يُتِمّ ويُكْمِل نشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد (ص)، ومعهم أدِلَّتهم القاطِعَة ومُعجزاتهم المُبْهِرَة الدّالّة علي صِدْقهم، لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحارَبَة الكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره – فإنَّ كراهيتهم وما يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، وفي الآيتين الكريمتين تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم، كما أنهما تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يمتنعون تماما عن أكل أموال الناس بغير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا، فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اعلموا أنَّ كثيراً من علماء اليهود ورُهْبان النصاري أيْ المُنْقَطِعِين عن الدنيا في كنائسهم يأخذون أموال الناس بسببٍ باطلٍ غير حقّ من خلال رشوةٍ أو تَحَايُلٍ أو مُغَالَطَةٍ أو فتاوى باطلة أو ما شابه ذلك، فاحذروهم إذَن عند التعامُل معهم ولا يَتَشَبَّه بهم أيّ أحدٍ حتي لا يَتعس مِثْلهم في دنياه وأخراه.. هذا، ولفظ "كثيراً" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها لأنَّ قِلّة منهم لا يفعلون ذلك.. ".. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ وهم لا يَكْتَفون بأكل أموال الناس بالباطل بل يُضيفون إلى ذلك جريمة أخري وهى أنهم يَصُدُّون عن سبيل الله أيْ يَمنعون الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ والذين يمسكون الأموال بكل أنواعها ولا يُؤَدُّون زكاتها ولا يُخْرجون منها الحقوق الواجبة كالإنفاق علي مَنْ هم في مسئوليتهم أنْ يُنْفِقوا عليهم.. ".. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)" أيْ فإذا كان حالهم هكذا كما ذُكِرَ سابقا فأخبرهم إذَن في مُقابِل ذلك بصورةٍ مناسبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنَّ لهم عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وفي لفظ "فبَشّرْهم" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)" أيْ تفصيلٌ لبعض هذا العذاب الأليم حتي يمتنع المُكْنِزون عن كنْزِهم.. أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم يُوقَد على هذه الأموال في نار جهنم فتُحْرَق بها وهي شديدة السخونة جِبَاه أصحابها – جَمْع جَبْهَة وهي المساحة ما بين الحاجِبَيْن إلي الشعر من الوجه – وجنوبهم وظهورهم بما يعني الجسد كله.. ".. هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.." أيْ تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل الذمِّ واللّوْم والإهانة والتعذيب النفسيّ إضافة للجسديّ الذي تُعَذّبهم به حين تَكْويهم بها هذا العذاب الأليم النازل بكم هو جزاء ما كنتم تكنزونه وتمسكونه وتَدَّخرونه فى الدنيا من أموالٍ لمَنْفَعة أنفسكم دون أن تُؤَدّوا الحقوق الواجِبَة المَطلوبة فيها.. ".. فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)" أيْ فذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.. أيْ فاستشعروا إذَن ألَمَ وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تكنزونه
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حريصاً علي وقتك أشدَّ الحِرْص، لأنَّ الوقت هو الحياة، فلا تُضَيِّع لحظة إلا في خيرٍ وسعادةٍ لك ولغيرك في الدنيا والآخرة، وإذا كنتَ من الذين لا يظلمون أنفسهم طوال أشهر السنة كلها، بفِعْل أيّ شرّ، بأيِّ صورةٍ من الصور، لك أو لمَن حولك – أو حتي لأيِّ مخلوقٍ غير البَشَر – لأنه مُضِرٌّ مُتْعِسٌ لك ولهم في الداريْن، كفسادٍ أو جرائم أو ظلمٍ أو كفرٍ أو شِرْكٍ أو نفاقٍ أو ما شابه هذا، وذلك من خلال التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الزمن ليعلم الخَلْق مواقيتهم وحساباتهم فينتفعون بحياتهم ويسعدون فيها تمام السعادة، وأنَّ التوقيت مُنْضَبِط بتمام الإحكام، فكلُّ ليلٍ ونهارٍ يكون يوماً وكل ثلاثين يوماً تكون شهراً وكل اثنا عشر شهراً تكون سَنَة، وهكذا، فبحركة الشمس يُعْرَف بَدْء اليوم ونهايته وبحركة القمر وتَغَيُّر شكله يُعْرَف بَدْء الشهر ونهايته، ولا يمكن لأيِّ أحدٍ أن يُغَيِّر أيَّ شيءٍ من هذا النظام المُحْكَم، حيث الآية الكريمة تُبَيِّن أنَّ بعض المُكَذّبين المُعانِدِين من الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن شِدَّة سُوئهم يحاولون تغيير شرع الله والتّعَدِّي عليه وعدم العمل به من خلال تغيير الأشهر، فمثلا يُحَرِّم سبحانه القتال في بعض الأشهر فيقومون بتغيير أسمائها حتي يقاتلوا فيها لأنهم كانوا قُطّاع طرقٍ يَتَكَسَّبون من الاعتداء علي غيرهم!!.. أيْ إنَّ عَدَد الأشهر عند الله أيْ في نظامه وتقديره وحُكْمِه اثنا عَشَرَ شهراً لا تزيد ولا تنقص مكتوبة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – منذ خَلَقَ السماوات والأرض قبل خَلْقِكم أيها البَشَر ومن هذه الأشهر أربعة أشهر حُرُم، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، كما بَيَّنَ ذلك الرسول (ص)، وسُمِّيّت بذلك لأنَّ الله تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة، كما أنَّ الأشهر الثلاثة هي أشهر الحجّ والتي يحتاج مَن نَوَيَ الحجّ فيها للأمان لا الاقتتال، وشهر رجب هو أيضا يحتاج للأمن لكثرة أداء العُمْرة فيه.. ".. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.." أيْ ذلك الدين، ذلك الإسلام، هو النظام المستقيم أي المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، وهو ذو القيمة العالية، وذو القِيَم الأخلاقية السامية، التي تُصْلِح الناس وتُكْمِلهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.." أيْ فلا تكونوا في هذه الأشهر الاثنا عشر – ومِن بابِ أوْلَيَ في الأشهر الأربعة الحُرُم والتي قد خَصَّها سبحانه بمزيدٍ من الاحترام تشريفاً لها حيث الظلم فيها أشدّ إثماً منه في غيرها كما أنَّ ثواب العمل الصالح فيها يُضَاعَف – من الظالمين لأنفسكم أيْ العاصِين لله تعالي المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يُتْعِسون أنفسهم ومَن حولهم في دنياهم وأخراهم بِفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار.. أيْ كونوا في كل أعوامكم ولحظات يومكم وحياتكم كلها عامِلين بكل أخلاق إسلامكم لتكتمل سعادتكم في الدرايْن.. ".. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.." أيْ وقاتِلوا أيها المسلمون المُعتدين عليكم بالقتال من المشركين وغيرهم وأنتم كافّة أيْ جميعاً كما يقاتلونكم هم جميعاً بأن تكونوا فى قتالكم لهم مُجْتَمِعِين مُتَعاوِنين مُتناصِرين لا مُتَفَرِّقِين مُخْتَلِفِين مُتَخَاذِلين.. كذلك من معاني كافّة أيْ قاتِلُوا جميع المُعتدين بالقتال من كل أنواع المشركين والكافرين وغيرهم مِمَّن يَتَشَبَّه بهم ولا تَخُصُّوا أحداً منهم بالقتال دون أحدٍ بل اجعلوهم كلهم لكم أعداءً ما داموا هم معكم كذلك قد اتّخذوكم أعداءً لهم، بل وقاتلوهم في كافّة الشهور أيْ كلها حتي الأشهر الحرم ما داموا قد اعتدوا عليكم فيها.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)" أيْ واعْرَفُوا وتَأكَّدوا واطمَئِنّوا أنَّ الله ربكم الكريم القويّ العزيز دائما مع المتقين بعلمه وبقُدْرته يَنصرهم حتما ويُكرمهم ويعزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، فكونوا كذلك لتنالوا ذلك الوعد.. والمتقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند قتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)" أيْ ما التأخير لهذه الأشهر الحُرُم كلها أو بعضها عمَّا رتَّبها الله عليه، والذي يَفعله بعض المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم، إلا زيادة في الكفر يزداد به أيْ بهذا النّسِيء أيْ التأخير الذين كفروا ضلالاً فوق ضلالهم، أيْ يُضيفون به شرَّاً وسُوءاً إلي شرِّهم وسُوئهم بسبب ما هم فيه من كفر ويَضِلّون به أنفسهم وغيرهم من الكفار ضلالاً زائداً، حيث كانوا يجعلون الشهر الحرام حلالاً في عامٍ مَا إذا احتاجوا القتال فيه لأنهم كانوا قُطّاع طرقٍ يَتَكَسَّبون من الاعتداء علي غيرهم ويجعلون شهراً آخر بَدَلاً منه حراماً ويقولون شهراً بشهرٍ ليُواطِئوا بذلك أيْ ليُوافِقوا عدد الأشهر التي حَرَّمها الله من حيث عددها أربعة لكنها مختلفة عمَّا حَرَّمه سبحانه فيُحِلّوا بذلك ما حَرَّمَ الله!! بينما يجعلونه هذا الشهر ذاته حراماً في عامٍ آخر إذا لم يحتاجوا للقتال فيه!!.. ".. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ.." أيْ زَيَّنَ لهم التفكير الشَّرِّيّ بعقولهم ورؤساؤهم وزعماؤهم الأعمال السَّيِّئة أيْ حَسَّنوها لهم فاتَّبَعَوا الهَوَيَ بسبب هذا التزيين أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المكذبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – ما الذي جَعَلَكم إذا قيل لكم اخرجوا للجهاد (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ.." أيْ تَثَاقَلْتم أيْ تَكَاسَلَ وتَبَاطَأ بعضكم كأنهم يحملون أثقالا والتصقوا بالأرض ولَزموا مساكنهم راضين ببقائهم في ديارهم وأراضيهم وبلادهم مائلين إلى الراحة والتّنَعُّم؟!.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق منكم ذلك يا مؤمنين لأنه يَتَعارَض مع إيمانكم وطاعتكم واتّباعكم للإسلام وحِرْصكم علي نشره والدفاع عنه لتَسْعَدوا وتُسْعِدوا الناس جميعا به.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ من التّكَاسُل عن الجهاد في سبيل الله وتوجيهٌ للحرص الشديد علي القيام به لتحصيل فوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ولتَجَنّب مَضَارّ وتعاسات تَرْكه فيهما.. ".. أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ.." أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ عَجَبَاً لكم هل قَبِلْتُم بالحياة الدنيا وقدَّمتموها وفضَّلتموها واخترتم مُتَعَها الزائلة فقط بَدَلَ الآخرة ودون ارتباطٍ بها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ؟!.. ".. فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه لا مُقَارَنَة قطعاً بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.. أيْ إنْ حَدَثَ ذلك منكم فقد أخطأتم خطأ شديداً لا يَفعله صاحبُ عقلٍ راجِحٍ لأنَّ متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل تافه زائل بالنسبة لمتاع الآخرة ونعيمها الدائم العظيم الخالد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، فكيف إذَن تُفَضِّلون القليل على الكثير والفانِي على الباقي؟!.. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ بحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)" أيْ إنْ لم تَخرجوا أيها المسلمون للجهاد في سبيل الله بكل أشكاله ودرجاته ولقتال المعتدين عليكم بالقتال (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) فإنَّ النتيجة السَّيِّئة الحَتْمِيَّة لذلك أنه يُعَذّبكم الله عذاباً مُؤلِمَاً مُوجِعَاً شديداً، في الدنيا أولا بأنْ يَترك أعداءكم يَتَسَلّطون عليكم بالذلّة والإهانة والاعتداء علي الأعراض والأنفس والأموال والمُمتلكات وبإبعادكم عن أخلاق إسلامكم فتكون حياتكم ذليلة تَعيسة والموت أفضل منها، ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل ذلك حتي لا يَنال هذا المصير في الداريْن.. ".. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.." أيْ وكذلك سيُضَاف لعذاب الدنيا أن يَستبدل الله بكم أُنَاسَاً غيركم كما خَلَقَكم أنتم فهو قادرٌ علي كلّ شيء، أيْ يُذهبكم ويأتِ بآخرين، إمَّا بإهلاكٍ سريعٍ واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شروركم ومَفاسدكم وأضراركم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامكم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدكم مِن ذُرِّيَّاتكم وذُرِّيَّات غيركم بأناسٍ لا يكونوا أمثالكم في سوئكم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق.. وفي هذا حثّ للمسلمين علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا.." أيْ وبتَخَلّفكم عن الجهاد حتماً وبكل تأكيدٍ لن تضرّوا الله تعالي ولا دينه الإسلام في أيّ شيءٍ! بل أنتم قطعاً الذين ستَتَضَرَّرون حيث ستُعَذّبون وتتعسون في دنياكم وأخراكم، لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو ابتعد الناس جميعا عن الإسلام! بل الذين يبتعدون هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، وسيَهْزِم أعداءه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعاً وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني ولا تضرّوا الرسول (ص) شيئاً مَا مِن الضرر بسبب تَثَاقلكم عن الجهاد لأنَّ الله قد وَعَده بالنصر ووَعْده صِدْقٌ وواقعٌ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، وإنْ لم يكن بكم فسيكون بغيركم، وأيضا لن يُضَرَّ بالقطع وسيُنْصَر بقوة الله وتأييده كل قائدٍ مِن بعده (ص) يَتّبع سُنّته ويُحْسِن اتّخاذ أسباب النصر حتي لو تَخَلّي عنه مَن يَتَخَلّي مِن المسلمين.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله الذي له كل صفات الكمال الحسني كثيرٌ كاملُ القُدْرَة علي كلّ شيءٍ بلا أيِّ شكّ ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادرٌ بتمام القُدْرة وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، فهو قديرٌ علي نَصْر الإسلام والمسلمين بغيركم، وعلي عذابكم واستبدالكم إنْ شاء.. فاستجيبوا بالتالي إذَن لِمَا يُوصِيكم به لتسعدوا في الداريْن وإلاّ تعستم فيهما
ومعني "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ أنَّ الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ يَنصر حتماً رسله ودينه الإسلام بغير عوْنٍ من أيِّ أحدٍ في كل الظروف والأحوال حتي في أصعبها وأسوئها بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. أيْ إنْ لم تنصروا رسولكم وإسلامكم أيها المسلمون فإنَّ الله ناصره قطعاً كما أيَّده ونصره حين أخرجه الذين كفروا مُضطرّاً من بلده وهو أحد اثنين فقط ليس معه إلاّ صاحبه أبو بكرٍ الصِّدِّيق بلا أيِّ عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ وحين كانا في الغار الذي اخْتَفَيَا فيه أثناء هجرتهما حين قال له مُطَمْئِنَاً لا تَحزن فإنَّ الله معنا دائما بقُدْرَته وعِلْمه وعَوْنه وتأييده ونَصْره وحمايته.. ".. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله برسوله (ص) وصاحبه – وهي حتماً تكون لكل مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه من المسلمين – وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته له وتخفيفه عنه ما أصابه وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ فعند ذلك أنزل وأفاض الله علي رسوله وعلي صاحبه رحمته التي تَتَحَقّق بها السكينة أيْ الشعور بالسكون والاطمئنان والأمن والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خيرٍ ونصر، وبهذه السكينة ثَبَتَا.. لقد كان الرسول (ص) رغم ثباته وإقدامه في حاجةٍ لهذه السكينة لإزالة حزنه بسبب ما يُلاقيه من أذيَ قومه وكان أبو بكر رضي الله عنه في حاجة إليها ليزداد ثباتا بإزالة خوفه علي الرسول (ص).. ".. وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.." أيْ وإضافة لنِعْمة السكينة نِعْمة أخري حيث قوَّاه ونَصَرَه وأمَدَّه وأعانه بجنودٍ مِن الملائكة وغيرها ممّا لا ترونها ولا تعلمونها ولكنكم تجدون آثارها علي أرض الواقع، فحَموه في الغار ومَنَعوا أيَّ أحدٍ أن يَصِل إليه ويُؤذيه، ونصروه فيما بعد ذلك من أحداثٍ كغزوة بدرٍ والأحزاب وغيرها.. ".. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.." أيْ وانتهي الأمر بأنْ جعل دعوة الكفر وما يُشبهها هي الأدْنَيَ الأقلّ الأذلّ المَغْلُوبة الهابِطَة المُنْحَطّة الشأن، والكفار ومَن يُشبههم كذلك، وجَعَل دعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ودعوة الإسلام هي الأعلي الأعَزّ الغالِبة الرفيعة الشأن والمَقام، والمسلمين كذلك، بأنْ جَعَله وجَعَلهم المَرْجِع الذي يَرْجِع إليه الناس إذا أرادوا أن يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتما أيضا في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)" أيْ اخرجوا أيها المسلمون للجهاد في سبيل الله، كلٌّ علي قَدْر استطاعته وحاله، سواء أكنتم خفافاً أيْ في حالٍ يَخِفّ عليكم الجهاد فيها وحالِ سهولة النّفْر، جَمْع خفيف، أيْ مَن كان خفيفاً أيْ شابّاً قوياً مُجَهَّزَاً مُسْتَعِدَّاً ليس له أعباء تُثْقِله وتُقْعِده عن الخروج وفي أجواءٍ مُريحةٍ مُناسبةٍ ونحو ذلك، أم كنتم ثِقالاً أيْ عكس مَا سَبَق أيْ في حالٍ يَثقل عليكم الجهاد فيها وحالِ ثِقل النّفْر وصعوبته ومَشَقّته، أيْ مَن كان ثقيلاً أيْ شَيْخَاً ضعيفاً غير مُجَهَّزٍ غير مُسْتَعِدٍّ له أعباء تُثقله وتُقعده عن الخروج وفي أجواءٍ مُتْعِبَةٍ غير مناسبةٍ ونحو ذلك، وبالجملة اخرجوا في جميع الأحوال في العُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمَكْرَه والحرّ والبَرْد والقوة والضعف والغِنَيَ والفقر والشغل والفراغ والشباب والشيخوخة والأفراد والمجموعات.. والمقصود أنَّ كلَّ فردٍ يُقَدِّم ما يستطيع، من جهده وماله وفكره وعلمه وخدماته وحتي دعائه وما شابه هذا، ثم يقوم المسئولون المُتَخَصِّصون بتحديد الأعداد والأكفاء لقتال المعتدين بالقتال عند حدوثه وتوزيع الأدوار علي حسب الطاقات والإمكانات وتحديد المُعِدَّات ونحو ذلك مِمَّا تقوم به الجيوش وأجهزتها المُعَاوِنَة في الدولة المسلمة.. هذا، ومَن كان له عُذْرٌ مَقْبُولٌ يَمنعه عن القتال، فإنه يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)، إلا في حالة النفير العام، أيْ الاعتداء الشديد علي بلاد المسلمين والذي يحتاج كلّ جهدٍ مُمكنٍ مِن أيِّ أحدٍ وبأيِّ شكلٍ، فإنه حتي أصحاب الأعذار يُقَدِّمُون ما استطاعوا ما داموا قادرين عليه.. ".. وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.." أيْ وابْذِلوا كل أنواع الجهود واجْتَهِدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ هذا كله الذي نوُصِيكم به من أخلاق الإسلام – والتي منها الجهاد – هو حتماً خير لكم في دنياكم وأخراكم لأنه يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة فيهما فسارعوا بالاستجابة له.. ".. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقاً تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا لم تكن جَبَانَاً، بل كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك وكنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً (برجاء مراجعة الآيات السابقة (38) حتي (41) لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مساويء المنافقين وجُبْنهم عن الجهاد في سبيل الله وأعذارهم الساقِطَة الضعيفة وأيْمانهم الكاذبة لتبرير ما هم فيه من سوء.. أيْ لو كان الذى تدعو المنافقين إليه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه عَرَضَاً أيْ ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قريباً أيْ قريبَ المَنَالِ أيْ سَهْل سريع الحصول عليه، أو لو كان كذلك سفراً قاصداً أيْ قَصْدَاً أيْ مُتَوَسِّطَاً بأقلّ تَعَبَ، لاتّبعوك وساروا خَلْفك فيما دعوتهم إليه لأنه يُحَقّق لهم ما يَطمعون فيه، ولكنْ بَعُدَت أيْ ابْتَعَدَت وطَالَت عليهم الشُّقّة وهي المسافة التى لا تُقْطَع إلا بعد حدوث المَشَقّة والتّعَب، ولذلك تَثَاقلوا أيْ تَكَاسَلوا وتَبَاطؤا وتَخَاذلوا وتَرَاجَعُوا، جُبْنَاً منهم وحُبَّاً للراحة والأمان.. ".. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ.." أيْ وسيَعَتذرون لتَخَلّفهم حَالِفِين بالله كذباً بأنهم لا يستطيعون ذلك لأعذارٍ لهم، ولو استطعنا الخروج بما يحتاجه من إمكاناتٍ لخرجنا معكم في جهادكم بلا أيِّ تَخَلّف!.. ".. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ.." أيْ بسبب نفاقهم وحَلِفهم بالله كذباً وتَخَلّفهم عن الجهاد بلا عُذْرٍ حقيقيّ يُدَمِّرُون ويُضَيِّعُون ذواتهم لأنهم سيَنالون حتماً العقاب في مُقابِل ذلك بعذاب الدنيا والآخرة، ففي دنياهم سيكون النفاق من أهم أسباب تعاستهم لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس، كذلك تَرْك الجهاد والجُبْن عنه يُؤدّي إلي تَسَلّط الأعداء عليهم بالذلّة والإهانة والاعتداء علي الأعراض والأنفس والأموال والمُمتلكات فتكون حياتهم ذليلة تَعيسة والموت أفضل منها.. ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)" أيْ في كل ما اعْتَذَرُوا به وأقْسَمُوا عليه لأنهم كانوا مُستطيعين الخروج بما لهم من إمكاناتٍ ولم يخرجوا، فهو بالقطع لا يَخْفَيَ عليه حالهم وسيُعاقبهم بما يُناسبهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة مزيدٌ من التأكيد علي كذبهم ونفاقهم ومزيدٌ من التهديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون عمَّا هم فيه
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يجتهدون في الوصول لأفضل الآراء في كل موقفٍ من مواقف الحياة، فهذا يجعلك دائما علي صوابٍ أو قريباً جداً منه، وبذلك تَقِلّ أخطاؤك أو تنعدم، فلا يَحدث أيّ تعاسات، بل تمام السعادت، في الداريْن.. إنَّ هذا مِن المُمكن أن يتحقّق بالاستعانة بالله بالقطع أولا، ثم بالمُتَخَصِّصين في كل مجالٍ من المجالات، مع الاسترشاد بآراء ذوي الخبرات، وتقييم الأمور بين الحين والحين للاستزادة من الإيجابِيَّات ولعلاج السَّلْبِيَّات أوّلاً بأوّل.. إنَّ الذي يجتهد في رأيٍ من الآراء في موقفٍ من المواقف فأصاب الصواب وحقّق العدل والخير والحقّ ما استطاع، فله أجران، ما دام اجتهاده هذا في إطار أخلاق وأنظمة الإسلام لا يخرج عنها، وإنْ لم يحقّق الصواب وحَدَث خطأ مَا، فله أجر أيضا، كما وَضَّح هذا الرسول (ص)، وذلك لتشجيعه علي الاجتهاد والابتكار والتصويب والتقويم حتي يَصِلَ دَوْمَاً في كل قراراته للكمال ما أمكن أو حوله، ثم الله تعالي يَعفو ويَغفر ويُثيب
هذا، ومعني "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين أن يجتهدوا ما استطاعوا في ألاّ يَصِلوا إلي المرحلة التي يُعَاتِبهم فيها الله تعالي إذا هم أذِنُوا لمَن يطلب منهم الاستئذان مِن عَمَلٍ مَا دون أن يَتَأنّوا ويَبحثوا عن بعض التفاصيل حتي يمكنهم التمييز بين صاحب العذر الحقيقيّ والمُدَّعِي له، وهذا التّأنّي بالقطع وعدم الانخداع بظواهر الأمور يطلبه الإسلام في كل أمور الحياة ليسعد بذلك المسلم حيث سيكون دائما أقرب للصواب.. أيْ لقد سامَحك الله وغفر لك يا رسول الله فاطمئنّ – وفي هذا توجيهٌ له (ص) ولكل مسلم لِمَا سيُقال لكنه مُبْتَدَأ ومُحَاط بكل حبّ ورحمةٍ ولِينٍ وتكريمٍ وحُسْنِ إرشاد – ولكنْ لأيِّ سببٍ أَذِنْتَ لهؤلاء الحَالِفين المُتَخَلّفين في أنْ يَتَخَلّفوا عن الجهاد حين استأذنوا فيه مُعْتَذِرين بعدم الاستطاعة وكان عليك التّأَنّي والتّثَبُّت حتى يَظهر لك الذين صَدَقوا في أعذارهم وتَعلم الكاذبين فيها؟! وذلك من خلال مزيدٍ من البحث ومن خلال عامل الوقت حيث أنَّ الكاذبين إذا لم تأذن لهم فسيَقعدوا ويَتَخَلّفوا أيضا ويُخَالِفوك ولن يَخرجوا فيَتَبَيَّن لك وللمسلمين حينها كذبهم فيمكنكم التعامُل معهم بحَذَرٍ لأنهم منافقون لكن كان الإذن لهم ساتِراً لهم فلم يَنكشفوا فلم تعرفوهم
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)" أيْ ليس من شأن وحال الذين يُصَدِّقون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، ويعملون الصالحات أي يعملون بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وآمنوا أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، ليس من شأن وحال أمثال هؤلاء أن يَطلبوا الإذْنَ في أن يبذلوا كل أنواع الجهود ويجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن)، في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وإنما الذى من شأنهم وعادتهم أن يُسارِعوا بالجهاد – وبكل خير – ويَتَسابَقوا فيه دون أن يَنتظروا ويَطلبوا إذْنَاً أو دَفْعَاً وتشجيعاً من أحد، وكذلك ومِن باب أوْلَيَ ليس من شأنهم ولا حالهم أن يستأذنوا في التّخَلّف عنه بلا عُذْرٍ حقيقيّ قَهْرِيّ مَقْبول وإنما هذا من شأن المنافقين (برجاء مراجعة الآية (95) من سورة النساء للشرح والتفصيل عن أصحاب الأعذار)، وكل ذلك لأنَّ إيمانهم يُحَبِّب إليهم الجهاد في سبيل الله وعدم التّخَلّف عنه مطلقاً فيفعلونه حبّاً في ربهم ورسولهم ودينهم الإسلام وحِرْصَاً علي تحصيل عظيم أجره في دنياهم وأخراهم حيث في الدنيا العِزَّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة وانتصار الإسلام وانتشاره فيسعد الجميع بذلك ثم في الآخرة حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد وإن اسْتُشْهِد فقد قُتِلَ كريماً عزيزاً شامِخَاً يدافع عن الإسلام والمسلمين والأبرياء والحقّ والعدل والخير ثم هو حيٌّ يُرْزَق عند ربه مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وهل هناك أفضل وأسعد رفقاء من هؤلاء؟!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)" أيْ والله عليمٌ بكل شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه فهو عليم بالمتقين ولن يضيع بالقطع أجورهم وسيُجازيهم بما يَسْتَحِقّون في الداريْن وسيُجازي المُسِيئين أيضا بما يستحقّون من عذابٍ فيهما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند جهادهم وقتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تشجيعٌ للمسلمين علي التقوي لينالوا أجرها الدنيويّ والأخرويّ
ومعني "إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)" أيْ هذا بيانٌ لبعض صفات المنافقين من النوع الأسوأ الذي يُظْهِر الإسلام ويُخْفِي الكفر، وقد يَتَشَبَّه بهم النوع الآخر منهم وهو الأقل سوءاً الذي يُظهر الخير وبعض أخلاق الإسلام وهو يُخفي الشرَّ والفساد لكنه ليس بكافر، وقد يَتَشَبَّه بهذين النوعين مسلمٌ مُسِيءٌ تارِكٌ لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها، حيث هؤلاء يَتَخَلّفون عن الجهاد في سبيل الله بغير عُذْرٍ مَقْبُولٍ جُبْنَاً وحِرْصَاً علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم.. أيْ لا يَطلب الإذن للتّخَلّف عن الجهاد إلا فقط الذين لا يؤمنون بالله أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولا يؤمنون أيضا باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وشَكّت عقولهم – أو حتي كَذّبت – في صِحَّة ما جاء به القرآن والإسلام، فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن مسلمٌ أبداً، إذ هم لعدم إيمانهم بالله لا يُطيعونه ولا يُجاهدون ولا يُؤمنون بما في الجهاد من عِزّة وكرامة، وعدم إيمانهم باليوم الآخر يجعلهم يعتقدون أنه لا تعويض لهم وأنَّ الدنيا وحدها هي الحياة ويقولون إنْ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمَبْعُوثين فلذلك لا يَبْذلون النفس والمال.. ".. فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)" أي وبالتالي وبسبب شَكّهم، وبسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبسبب نفاقهم بإظهارهم الخير وإخفائهم الشرّ أو الكفر، فهم يعيشون دائما في رَيْبِهم أيْ شَكّهم يَتَرَدّدون أيْ يَذهبون ويَرْجِعون أيْ مُتَحَيِّرون أيْ في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وشكّ وقَلَقٍ واضطراب، وهذه هي علي الدوام صفات المنافقين وحياتهم التعيسة في دنياهم ثم لهم في أخراهم التعاسة الأعظم والأتمّ، لأنهم لا هُمْ مع المسلمين ولا هم مع الكافرين، فأحيانا يَميلون إلي هؤلاء وأحيانا إلي أولئك، وكلّ فريقٍ حتي الكافرين يَحتقرهم ويَحذرهم لخِسَّتهم! إنهم دَوْمَاً في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وتَلَوُّنٍ من حالٍ لآخرٍ واضطرابٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ خوفاً من انكشاف أمرهم ومُعاقبتهم وفقدانهم منافعهم التي ينتفعونها من الفريقين.. إنَّهم يعيشون حياتهم خَسِيسِين مُنْحَطّين وَضِيعِين ذليلين تابعين مُتَشَكّكِين في كل ما حولهم خائفين منه.. إنهم بالتالي في تمام التعاسة قطعاً ويَنتظرهم حتماً في آخرتهم ما هو أعظم تعاسة
ومعني "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)" أيْ ولو كانوا هؤلاء المنافقون يريدون حقّاً وبصدقٍ الخروج للجهاد كما يَدَّعُون لكانوا قاموا بإعداد عُدَّة له وهي ما يُعَدّ من إعداداتٍ واحتياجاتٍ يُطْلَب إعدادها وتجهيزها للقيام به، فتَرْكهم الاستعداد دليل على إرادتهم التّخَلّف وأنهم كاذبون في أعذارهم.. ".. وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ.." أيْ ولكنهم لم يريدوا الخروج لأنَّ الله تعالى كَرِهَ ولم يُحِبّ ولم يَشَأ ويُرِدْ خروجهم للجهاد لعِلْمه بنفاقهم وسوء نواياهم حيث سيَنشرون الضرر والتّخاذل والخِلاف والتّفَرُّق بين المسلمين ويكونون عليهم لا معهم فلذلك عَوَّقهم وكَسَّلهم وأقعدهم ومَنَعهم عنه وساعدهم علي مزيدٍ من التّثاقل والكَسَل والقعود بأنْ قذف في عقولهم الخوف والجُبْن والحرص علي الحياة والتّرَاجُع من أجل التمسّك الشديد بها ولم يُساعدهم علي التّخَلّص من ذلك لعِلْمه بحِرْصهم التامّ علي حالهم هذا وإصرارهم عليه بلا أيِّ تغييرٍ ولو بخطوةٍ حتي يُعينهم علي بقية الخطوات.. ".. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)" أيْ وقيل لهم من الله تعالي – أو من المسلمين غَضَبَاً عليهم –اجلسوا في بيوتكم مع الجالسين المُتَخَلّفين عن الجهاد بغير عُذْرٍ مَقْبول، بمعني إذا كنتم منافقين هكذا فقد كَرِهَ الله انبعاثكم فأمركم بالقعود عن هذا الخروج ويَسَّره لكم، والمقصود ذَمّهم ذمَّاً شديداً وتحقيرهم لجُبْنهم وحَقَارتهم
ومعني "لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)" أيْ هذا بيانٌ لحكمة تَثْبيط الله للمنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم وبيانٌ لرحمته بالمسلمين ولعَوْنه لهم بتنقية صفوفهم لتحقيق النصر لهم.. أي لو خرجوا بينكم للجهاد ما زادوكم أيَّ شيءٍ مِن قوةٍ ومنفعةٍ وخيرٍ ولكن سيَزيدوكم خبالاً أيْ اضطراباً وفَوْضَيَ وفساداً وشرَّاً، ولأوضعوا أيْ ولأسْرَعوا حتماً فيما بينكم وحالهم وواقعهم أنهم يريدون لكم الفتنة أيْ الشرَّ والسوء والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام.. ".. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.." أيْ وكذلك ثَبَّطْناهم لأنَّ بينكم أيها المسلمون كثيري السَّمَاع لهم وقد يتأثّرون بهم لأنهم لا يعلمون سوء نواياهم وبعضهم أصحاب تأثيرٍ كبيرٍ لِمَا له من مَكَانَةٍ وكلامٍ ظاهره حَسَن.. ومِن المعاني أيضا أنَّ فيكم جواسيس لهم يسمعون أخباركم وينقلونها إليهم ليَضُرُّوكم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)" أيْ والله يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل الظالمين وهم كلّ مَن ظَلَمَ نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتما بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لعله يُوقِظ بعضهم فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بسَوَابِق كثيرة من محاولات إيقاع الفِتَن بينهم قام بها هؤلاء المنافقون وأشباههم حيث هذا هو دائما حالهم لكي يَحذروهم أشدّ الحَذَر عند التعامُل معهم وأمثالهم.. أيْ ليس جديداً عليهم ما يقومون به من سوءٍ فلقد طَلَبوا وأرادوا سابقاً في مواقف كثيرة الفتنة فيما بينكم أيْ الشرَّ والسوء والفساد والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام وما شابه هذا.. ".. وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ.." أيْ هذا بيانٌ لتَفَنّنهم وتنويعهم فى كل أشكال الإيذاء للرسول الكريم (ص) والمسلمين ونَشْر الفِتَن ومحاولة مَنْع انتشار الإسلام، وتقليب الأمر يعني النظر إليه من كل جوانبه للوصول لأفضل النتائج المطلوبة، والمقصود أنهم يَبذلون أقصَيَ جهودهم وخُلاصَة مَكائدهم بكل أنواعها وصُوَرها في ابتغاء الفتنة.. أيْ وأدَارُوا وحَرَّكوا وأعْمَلوا الآراء في مَنْع دعوتك للإسلام ودَبَّرُوا لك المَكَائِد والحِيَل.. ".. حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ.." أيْ هؤلاء المنافقون وأشباههم اسْتَمَرُّوا – ويَسْتَمِرُّون في كل زمن – على حربهم للإسلام إلي أن جاء وحَدَثَ النصر الذي وَعَدَ الله به رسوله (ص) والمسلمين – والذي يَجِيء دائماً لهم أيضا في كل عصرٍ إذا أحسنوا اتّخاذ أسبابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا – وظَهَرَ أمر الله أيْ وعَلاَ وارْتَفَعَ دين الله الإسلام علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة للناس في الداريْن أيْ كانت كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا فيهما.. ".. وَهُمْ كَارِهُونَ (48)" أيْ والمنافقون وأشباههم كارهون لذلك لأنهم يَكرهون انتصار دين الإسلام ويَحزنون بهذا ويَتمنّون هزيمته وعدم انتشاره لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، ولكنَّ الله تعالى خَيَّبَ أمانيهم وأحْبَطَ مَكائدهم رغم أنفهم وكراهيتهم ومحاولاتهم، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بَلَغَت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحَتْمِيَّة أنهم مَغْلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، وفي الجزء الأخير من الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الأعذار الكاذبة لبعض المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم لتَبْرير جُبْنِهم وحِرْصهم علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم.. أيْ ومِن بعض هؤلاء المنافقين مَن يقول للقائد وللمسئول وللمسلمين اعْطِنِي الإذْنَ في التّخَلّف عن الخروج للجهاد ولا تُوقِعني في الفتنة أيْ في العِصْيان والمُخَالَفة والإثْم بأن لا تَأذن لي – بما يُفيد أنه مُتَخَلّفٌ بالتأكيد سواء أُذِنَ له أم لم يُؤْذَن – أو في الشرّ والفساد والضرر بسبب ضياع المال والأهل والأولاد حيث لا كافِل لهم بَعْدِي، وبالتالي فتَخَلّفي مَنْعٌ لفِتْنَتِي.. ".. أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا.." أيْ هذا بيانٌ لكذب من يَدَّعِي ذلك وذمٌّ شديدٌ له لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه.. أيْ قد وَقَعوا في الفتنة أيْ في الإثم والشرّ بالفِعْل وبالتأكيد بقولهم وموقفهم هذا حيث نافَقوا وخَالَفوا أمر الله ورسوله (ص) في الإسلام، وهل هناك فتنة أعظم من ذلك؟! بل إنَّ ذلك هو الفتنة ذاتها!!.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)" أيْ وهذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لمزيدٍ من إيقاظهم.. أي وإنَّ عذاب جهنم في الآخرة والذي لا يُمكنهم تَخَيُّله ولا تَحَمُّل لحظة فيه والذي يُعَذّبون به بما يُناسب شرورهم فإنه بانتظار الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بأقوالهم وأفعالهم السيئة من المنافقين والمُخَالِفين للإسلام ومُجَهَّز لهم وسيُحيط بهم بشِدَّته وقسوته مِن كل جانبٍ فلا يَقْدرون علي الفرار منه! إضافة قطعا إلي ما لهم من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِهم عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ مِن سُوء هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وشِدَّة عَداوتهم وكراهيتهم وحَسَدهم للإسلام والمسلمين للتنبيه إلي المزيد من الحَذَر منهم عند التّعامُل معهم.. أيْ إنْ تَأْتِيك وتَجِيء لك يا رسولنا الكريم وللمسلمين أيُّ نعمةٍ وسعادةٍ مَا قَلّت أو كَثُرَت تحزنهم وإنْ تَحْدُث لك ولهم وتَنْزِل بك وبهم مُصِيبَة أيْ مَضَرَّة تَضُرّهم وتُؤذيهم في أجسادهم أو مشاعرهم أو ممتلكاتهم أو غيرها في أيِّ شأنٍ من شئون حياتهم يقولوا مُعْجَبِين بتَصَرُّفهم شامِتين في المسلمين قد احْتَطْنا للأمر وأخذنا حِذْرنا من قبل نزول المصيبة بهم فلم تُصِبْنا، يَقْصِدون أنهم تَخَلّفوا عن الأمور التي فيها شِدَّة للمسلمين كالجهاد ونحوه فلم تُصِبهم مَصاعِب ومَتاعِب ذلك.. ".. وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)" أيْ ويَنصرفوا وهم مَسْرورون بما صَنَعوا وبما أصاب المسلمين من مصيبة، فهم يذهبون ويرجعون إلى أهلهم وأصحابهم يتحدّثون بفَرَحٍ عنها لأنها حَقّقت بعض ما يريدون من سوءٍ للإسلام وللمسلمين
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة.. إنك إن اتّخذته تعالي مولاك، أيْ وَلِيَّاً، أيْ وَلِيَّاً لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. إنك إنْ فعلت هذا، فقد وَكّلْتَ كل شئونك للقادر علي كلّ شيءٍ يُديرها لك علي أكمل وأسعد وَجْه، فسيَجعلك صاحب عِزّة ومَكَانَة وقوة وحِكْمة وتَوَازُن وسيُعطيك كل سببٍ يُعينك علي السعادة التامَّة في دنياك ثم أخراك، وسيَحميك من كلّ سُوء، وإنْ أصابك ضَرَرٌ أو اختبارٌ مَا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له ولدينه، فإنه حتما سيكون هو الخير، هو المصلحة لك ولغيرك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) منها لتكتمل المعاني).. إنَّ هذا هو ما كتبه الله تعالي علي خَلْقه يوم خَلَقهم، وهذا هو كتابه، أيْ نظامه الذي وضعه للحياة، ليسعدوا فيها (برجاء مراجعة سبب الخِلْقَة وتفاصيل هذا النظام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. كذلك ستسعد في حياتك كثيرا، إذا كنتَ دائما من المُتفائلين المُسْتَبْشِرين، أيْ الذين ينتظرون دوْمَاً كل خيرٍ ويَسعدون به، من كل قولٍ أو عمل، من الذين ينظرون علي الدوام إلي الجانب الخيريّ المُسْعِد فيه، وما قد يكون فيه من جانب شَرِّيٍّ يجتهدون سريعا في علاجه بما استطاعوا من أسبابٍ وباستعانتهم بربهم لتحويله إلي خيريٍّ مُسْعِد.. إنَّ هذا هو دوْمَاً حال المُتَوَكّل علي ربه المُتّخِذ إيَّاه وَلِيَّاً علي الدوام، في كل شئون حياته، بدءاً من أدناها وحتي أعلاها وهو القتال والجهاد في سبيل الله حيث ينظر غير المسلمين إليه علي أنه تَرَبُّصٌ للهلاك أيْ انتظارٌ له بينما هو يَتَرَبَّص إحدي الحُسْنَيَيْن، إمَّا النصر في الدنيا وما يَتْبَعه من عِزَّةٍ وكرامةٍ وربحٍ وسعادة، وإمّا مَا هو الأحسن الذي لا يُقَارَن وهو الشهادة حيث هو حَيٌّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّين مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، ومَن أحسن منهم رفيقا؟!.. بينما عكس ما سَبَقَ ذِكْره يَحْدُث لكل مَن هو بَعيد عن ربه والإسلام، سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أو ظالما أم فاسدا أم غيره، إنه دائم التشاؤم، إنه ينتظر دائما كل شرّ، لأنه لا يعرف غيره! فهو فاعل له مفعول به بمِثْله! فهو في شرٍّ علي شَرّ! في تعاسةٍ تامَّةٍ بذلك، وحتي ما قد يجده أحيانا من بعض سعادةٍ فهي سَطْحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة وَهْمِيَّة لا حقيقية مُؤَقّتة لا دائمة.. فلينتظر الجميع، وسيَرَوْن، كل الخير والسعادة للمسلمين إذا تمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ومعظم الشرّ والشقاء أو حتي كله لأعدائهم
هذا، ومعني "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)"، "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بألاّ يَحزنوا علي ما أصابهم من ضَرَرٍ مَا وألاّ يَضعفوا أمامه بل يَصبروا عليه ويَرْضوا به ويُحسنوا التعامُل معه والتوكّل علي ربهم مولاهم من خلال ثقتهم التامّة في أنَّ أيّ مصيبةٍ لا بُدّ حتماً ورائها مع الوقت خيرٌ كثيرٌ لأنها من تقديره تعالي الذي لا يريد بهم إلا كل الخير والسعادة كما وَضَّحَ ذلك بقوله ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:216) (برجاء لاكتمال المعاني مراجعتها.. ثم مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم مراجعة الآيات (155)، (156)، (157) منها.. ثم مراجعة الآية (139) من سورة آل عمران "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ").. كما أنَّ الآية الكريمة إرشادٌ للمسلمين للرَّدِّ علي أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم بما يُنْهِي فَرْحَتهم وشَمَاتتهم من خلال إبلاغهم بأنَّ المسلمين ينتظرون من ربهم خيراً دائماً حتي من وراء المصائب.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك منهم ومن غيرهم، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لن يَنْزِلَ بنا ويَحْدُثَ لنا أبداً في حياتنا الدنيا من خيرٍ أو شرٍّ إلا ما كَتَبَ أيْ قَدَّرَ الله لنا وتقديره لنا لن يكون حتماً إلا خيراً وسعادة في العاجل أو الآجل لأنه هو مولانا والمَوْلَي لا يَرْضَيَ ولا يُحِبّ ولا يَفعل لمَن يَتَوَلّاه إلا الخير ولذا فنحن دائما راضون بما يأتينا منه (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن كتابة الله للأحداث قبل خَلْق الخَلْق حسبما يَفعله هو وحسبما يَفعله البَشَر مراجعة الآيتين (22)، (23) من سورة الحديد "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ"، "لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ").. ومعني مَوْلاَنا أيْ وَلِيّنا أيْ وَلِيّ أمرنا وناصِرنا ومُعِيننا في كل شئون حياتنا، أيْ سيُدِيرها لنا علي أكمل وأسعد وَجْهٍ لأنه القادر علي كل شيء، أيْ سيُوَفّر لنا الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، وسيَحمينا من كلّ سُوء، وإنْ أصابنا ضَرَرٌ أو اختبارٌ مَا، سواء بسبب خطأٍ منا أو من غيرنا أو بسببٍ عامٍّ منه تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له ولدينه، فإنه حتما سيكون هو الخير، هو المصلحة لنا ولغيرنا.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)" أيْ وبالتالي، ولذلك، على الله وحده لا على غيره، فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن.. "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التأكيد عليه.. أيْ قل لهم كذلك هل تنتظرون بنا إلا إحدي النتيجتيْن اللتَيْن كل منها حُسْنَيَ؟! والحُسْنَيَيْن مُثَنّيَ الحُسْنَيَ، والمقصود إمَّا النصر في الدنيا وما يَتْبَعه من عِزَّةٍ وكرامةٍ وربحٍ وسعادة، وإمّا مَا لا يُقَارَن وهو الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّين بجناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، ومَن أحسن منهم رفيقا؟!.. والسؤال للنفي، أيْ لا تنتظرون وتَتَوَقّعون بنا إلا ذلك لا غير وهو الذي فيه كل الخير والسعادة لنا في الداريْن علي أيِّ الحالَيْن، وليس أبدا كما تنتظرون وتتمنّون من أن يُصيبنا سوءٌ يُضْعِفنا ويُفْرِحكم.. ".. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا.." أيْ ونحن المسلمون أيضا ننتظر بكم إحدي النتيجَتَيْن، لكنْ السَّيِّئتَيْن! وهما لا مُقَارَنَة حتماً بينهما وبين ما ننتظره، إمّا أن يُنْزِل الله بكم عذاباً من عنده لا دور ولا سبب لنا فيه يُهلككم به كزلازل وبراكين وفيضانات وصواعق وأوبئة ونحوها كما فَعَلَ ويَفعل دائما بأمثالكم في التوقيت وبالأسلوب وبالمقدار الذي يراه مُناسباً لسُوئكم، أو يُعذّبكم بعذابٍ يكون بأيدينا نحن من خلال تقويتنا وعوْننا علي هزيمتكم في كل مجالات الحياة فتتعذّبون بكَسْر عِزّكم وتَراجعكم وتَخلفكم وتعاستكم.. ".. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي سُوئكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فنحن المؤمنون مُنتظرون معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم من المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر، قل لهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنفقوا من أموالكم وجهودكم، سواء أكنتم طائعين باختياركم لسَتْر نفاقكم بإظهار فِعْلكم للخير حتي لا ينكشف أمركم، أم كارهين مُجْبَرِين علي الإنفاق في مواقِف لا تريدون أن تنفقوا فيها كمَن ينفق مثلا ليَمنع عنه عقوبة مَا أو لتَجَنّب ذمّه بالبخل أو ما شابه هذا، لن يَقبل الله تعالي منكم عملكم في الحالتَيْن ويعطيكم عليه أجراً في الآخرة – ولكنْ بِعَدْلِه يعطيكم في الدنيا – فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ إنفاقكم طوْعاً قد يكون له أجر فلا أيّ أملٍ لكم في هذا، وذلك لأنكم كنتم دائما أناساً فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله والإسلام بسبب كفركم، فكيف يعطيكم في آخرتكم وأنتم لا تؤمنون بها أصلا ولم تنفقوا لأجل الاستعداد لها وتحصيل نعيمها؟!.. فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا ينالَ مصيرهم ويتعس كتعاستهم في الداريْن
ومعني "وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)" أيْ وما منعهم أن يَقْبَل الله تعالي منهم نفقاتهم سببٌ من الأسبابِ إلا كفرهم بالله وبرسوله، إذ كيف بالتالي يُعطيهم ثواباً في الآخرة وهم لا يؤمنون به أصلا وهو الذي سيعطيهم ولا بها ولم يُنفقوا لأجل الاستعداد لها وتحصيل نعيمها؟! إنَّ العمل لا يُقْبَل إلا بالإيمان والإخلاص.. ".. وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)" أيْ هذا بيانٌ لسببٍ ثانٍ وثالثٍ مانعٍ من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر، والكفر وإنْ كان وحده كافياً في عدم القبول إلاّ أنَّ ذِكْر هذين السببين يُفيد تَمَكّن الكفر والنفاق منهم حيث هم مُتَهَاوِنون بالصلاة والتي هي عِماد الدين وكارهون لأيِّ إنفاقٍ فكيف يكون بالتالي إنفاقهم عن إخلاصٍ ورغبة؟!.. أيْ ومن صفاتهم السيئة كذلك ومن علامات نفاقهم والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم لا يحضرون إلي الصلاة لتأديتها إلا كَسْلانِين أيْ مُتَثَاقِلين مُتَبَاطِئين لا نشاط عندهم لأدائها ولا رغبة لهم فى القيام بها، لأنهم يُخفون الكفر ولهذا فهم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْلها ولا عقاباً على تَرْكها، ولذلك فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم وهم في صلاتهم وفي كل أقوالهم وأفعالهم يُرَاءُون الناس حتي لا يُتَّهَمُوا بالكفر أو بترك أخلاق الإسلام أيْ يقولونها ويفعلونها لكي يَروهم فيَمدحوهم أو لا يَذِمُّوهم، فهم لم يقولوها ويفعلوها خالصة لله تعالي أيْ من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. إنهم إذا اطمأنّوا أنَّ أحداً لا يَراهم لم يُصَلّوا، فهم لم يُؤَدُّوها إلا لسَتْر حالهم أيْ خوفاً من أن ينكشف كفرهم ونفاقهم.. وكذلك من صفاتهم السيئة ومن علامات نفاقهم والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم لا يُنْفِقون أيَّ شيءٍ من مالٍ وغيره إلا وهم كارهون لذلك لأنهم يعتبرون الإنفاق خسارة وتَرْكه مَكْسَبَاً حيث قد أجبروا عليه من أجل الرياء أو الخداع أو الخوف من انكشاف أمرهم إذ هم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْله ولا عقاباً على تَرْكه فهم لا يؤمنون بإلاهٍ ولا آخرةٍ وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونار
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الذين يُسيئون طَلَبها فلا يُمَيِّزون بين خيرٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وشرٍّ ضارٍّ مُتْعِسٍ، كالكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، وإلا تَعَذّبتَ وتَعِسْتَ مثل عذاباتهم وتعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)" أيْ إذا كان هذا هو حال وواقع المنافقين والكافرين والفاسقين ومَن يَتَشَبَّه بهم كما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة فلا تَسْتَحْسِن بالتالي إذَن أيها المسلم ولا يُبْهِرك ويُثير عقلك ويَلْفِت نظرك أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم وإمكاناتهم مهما بَلَغَت في الكثرة والحُسْن، لأنها عذابٌ لهم.. وفي هذا توجيهٌ للمسلم في دنياه بأنَّ عليه ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أن يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه وإلاّ تَعَذّبَ وتَعِسَ كعذابهم وتعاستهم في الداريْن، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه، فهذه هي الحياة الحقيقية السعيدة بعَيْنِها المُسْتَبْشِرَة المُنْتَظِرَة للآخرة الأسْعَد والأخْلَد حتي ولو رَأَيَ أنَّ ما عنده قد يكون أقل أحياناً مِمَّا عندهم، بينما هم غالباً أو دائماً في قلقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ دنيويةٍ تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ لم يُرِدْ الله بعطائه الأموال والأولاد لهم إسعادهم، فهم لا يستحقون ذلك، لكفرهم ونفاقهم وسوئهم، وإنما لكي يعذبهم بها في الحياة الدنيا من خلال جهدهم الشديد الذي يبذلونه في تحصيلها وبصراعهم أو حتي اقتتالهم مع بعضهم وغيرهم عليها وبقلقهم لحمايتها مِمَّن يَطمعون في نَهْبِها منهم وما شابه هذا من عذاباتٍ وكآباتٍ وتعاسات.. هذا، ولفظ "يريد الله" يحتاج لبعض التفصيل، بمعني أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. ".. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)" أيْ ويُريد كذلك أن تخرج أراوحهم من أجسادهم وتهلك وينتهوا ويموتوا وهم كافرون فيُعَذّبهم بسبب كفرهم وموتهم عليه دون توبةٍ عنه عذاباً أليماً في الآخرة بعد عذابهم في الدنيا، فيكون ذلك اسْتِدْرَاجَاً لهم، وذلك من شِدَّة غضبه عليهم، فهل هناك استدراج لأمثال هؤلاء وعذاب في الداريْن أشدّ من هذا؟! إنهم يَصِل بهم أمر انشغالهم بأموالهم وأولادهم وأحداث دنياهم إلي النسيان التامّ لربهم ولدينه الإسلام ولآخرتهم إلي أن يُفاجأوا بالموت وهم علي الكفر ولم يتوبوا! والاستدراج هو التقريب من العذاب خطوة بخطوة دون شعورٍ حتي الهلاك (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معني الاستدراج برجاء مراجعة الآية (182) من سورة الأعراف "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ").. وكل هذا قطعاً بسببهم لا غيرهم، بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مثلهم فيهما أنهم يُقْسِمون بالله لكم أيها المسلمون كذباً إنهم لمنكم مسلمون مثلكم وليسوا منكم في الواقع لأنهم يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر ولكنهم أناسٌ يَخافون بشدَّةٍ منكم فيَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة
ومعني "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتأكيد علي شِدَّة جُبْنهم وخوفهم من المسلمين أن يكشفوا أمرهم وحالة الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة التي يعيشونها حيث يعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة، كما أنَّ في الآية الكريمة بياناً لشدَّة كراهيتهم للمسلمين حيث أنهم لو يجدون مَخْلَصَاً ومَهْرَبَاً منهم لفارقوهم حتي لا يَروا ما هم فيه من سرورٍ ونصرٍ يَسُوؤهم ويُحزنهم.. أيْ هؤلاء المنافقون من شدَّة خوفهم منكم ومن كَشْف سُوئهم ومن الكراهية لكم لو يَجدون حِصْنَاً يَلجأون إليه ليَحْتَمُوا به كقلعةٍ أو نحوها أو مغارات في الجبال يَختفون فيها أو نَفَقَاً في الأرض يدخلون إليه ليَخْتَبئوا، لانْصَرَفوا إليه وهم مُسْرِعون إسْرَاعَاً شديداً يَصْعُب إيقافه كالفَرَس المُسْرِع
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ وبعضٌ مِن المنافقين مَن يعيبك في توزيع الصدقات يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – مُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنك لست عادلا في قِسْمَتِك، وليس عَيْبهم لهدفٍ صحيحٍ هو إقامة العدل وإنما هدفهم الطمع بأن يُعطوا منها حتي ولو لم يكونوا مُسْتَحِقّين لها، فإنْ أعطوا منها لحقّ لهم فيها رضوا عنك وعَمَّا أخذوا وسكتوا، وإنْ لم يُعطوا منها لعدم استحقاقهم لها سارَعوا يَغضبون عليك ويَعيبونك ويَتّهِمونك بالظلم رغم أنَّ عدم إعطائهم هو الحقّ والعدل لأنهم يَطمعون في أخْذ مَا ليس حقّهم
ومعني "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)" أيْ هذا بيانٌ لبعض صفات المسلم التي عليه أن يَتّصِفَ ويَتَخَلّقَ بها في مثل هذه المواقف ليسعد في الداريْن.. أي ولو أنَّ هؤلاء المنافقين الذين يَعيبون عليك توزيعك للصدقات مُدَّعِين كذباً عدم عَدْلك قَبِلُوا ما أعطاهم الله ورسوله ومَن يَنوب عنه من المسلمين من عطاءٍ وقَنَعُوا به وقالوا علي سبيل الشكر والقَنَاعَة والرضا والثقة والطمأنينة حسبنا الله أيْ كافِينا الله وما قَسَمَه لنا قَلَّ أو كَثر وسيُعطينا الله حتماً في المستقبل الكثير من فضله وإحسانه وكرمه ورحمته، وسيُعطينا رسوله والمسلمون من الصدقات وغيرها، وإنا إلى الله وحده لا إلي غيره راغبون أيْ طامِعُون راجُون داعُون مُتَوَسِّلُون مُريدُون مُحِبُّون في أنْ يُوَسِّع علينا من فضله فيُغنينا عن الصدقات وغيرها من أموال الناس، لأنه سبحانه وحده مالك الملك كله الذي له خزائن السموات والأرض كلها، كما أننا إلي طاعته والعمل بكل أخلاق إسلامه راغِبُون مُحِبُّون فيها من أجل تحصيل ما عنده مِمَّا وَعَدَنا به من سعادتيّ الدنيا والآخرة ولكي يُبْعِد عنّا عذابهما وتعاستهما وسنَجْتَهِد في تَرْجَمة ذلك عمليا بحُسْن طَلَبهما معا.. إنهم لو فَعَلوا ذلك لَكَانَ قطعاً خيراً لهم في دنياهم وأخراهم بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حيث سيَصْلُحون ويَكْمُلون ويَسعدون فيهما، لأنَّ الله تعالي هو أعظم وأفضل الوكيل النصير الذي تُوُكَل وتُفَوَّض إليه كل الأمور، فمَن يعتمد عليه وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه المُتَكَفّل بما يحتاجه، يُوَفّره له إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل له هذا مِن خَلْقه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)" أيْ لا تُعْطَيَ الزكاوات المفروضة المُحَدَّدَة التي يُثاب فاعلها ويَأثم تاركها ولا الصدقات عموماً غير المُحَدَّدَة التي يَتَطوَّع بها المسلم والمُسْتَحَبّ فِعْلها لثوابها ولا يأثم مَن لم يفعلها – يُرَاعَيَ أنَّ لفظ "الصدقات" في أول الآية الكريمة ثم لفظ "فريضة من الله" في آخرها يُفيد أنها تعني أسَاسَاً الزكاة المفروضة علي الأغنياء أصحاب الأموال، والزكاة من التزكية التي هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات، إضافة بالقطع إلي كل أنواع الصدقات التّطَوّعِيَّة غير المُحَدَّدة من كل أنواع الأموال التي يريد المسلم إخراجها لينال خيرها وأجرها في الداريْن – إلاّ إلي الفقراء وهم الذين لا يجدون شيئاً مُطْلَقَاً أو شيئاً قليلا، والمساكين وهم الذين يجدون شيئاً لكنه لا يكفي احتياجاتهم حتي ولو كان كثيرا، والعاملين عليها وهم الذين يديرون شئون جَمْعها وتوزيعها ونحو ذلك، والمُؤَلّفة قلوبهم وهم الذين يُرْجَيَ من إعطائهم منها إسلامهم أو تثبيتهم علي الإسلام أو تشجيع غيرهم عليه أو مَنْع شَرِّهم أو ما شابه هذا، وفي الرقاب أيْ إذا كان هناك عَبْدٌ يريد أن يَتَحَرَّر مِن سَيِّده – إذا كان الزمن فيه عبيد – أو أسير يُراد تحريره من أسْرِه وسجنه بمبلغٍ من المال فيُعْطَيَ من الزكاة، والغارمين وهم الذين عليهم ديون، وفي سبيل الله أيْ في كل وجوه الخير ومنها بالقطع الدعوة للإسلام ونشره والدفاع عنه بالجهاد في سبيله وبقتال المُعتدين ونحو هذا، وابن السبيل وهو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه.. ".. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ.." أيْ هذه القِسْمَة فريضة فَرَضَها الله عليكم مُلْزِمَة لكم قدَّرها بعِلْمه وحِكْمته لتَصْلُحوا جميعا وتَكْمُلوا وتَسعدوا في دنياكم وأخراكم فلا تُخَالِفوها وتُقَصِّروا فيها.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا لم تكن سَيِّء الخُلُق والأدب تُؤذي الرسول الكريم (ص) والمسلمين والناس جميعا
هذا، ومعني "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ ومن المنافقين سَيِّئِيِ الخُلُق والأدب الذين يُؤذون النبي الكريم (ص) بالكلام المُؤْذِي المُسِيء له وللإسلام بما هو منه بَريءٌ حتماً فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يُقال له بدون تمييزٍ بين الحقّ والباطل والصدق والكذب وأنه يُخْدَع بما يَسمع لأنه لا يَتَفَحَّص ويُدَقّق ويُعْمِل عقله فيما يَسمعه ويفْرِز صحيحه من غيره!!.. والمقصود أنهم يمكنهم خِداعه والمسلمين بأيِّ تَبْرِيرٍ لأيِّ موقفٍ بحيث يُحقّقون ما يريدون من إخفاء الشرّ بداخلهم وإظهار ما هو كأنه خير حتي يمكنهم التواجُد بين المسلمين والانتفاع منهم مع نشر الفِتَن بينهم وتفريقهم وإضعافهم، فهذا هو تَوَهّمهم وظنهم!! وهم لا يعلمون أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة، فما بالهم بالرسول الكريم (ص) الكامل الصفات أكمل الخَلْق عقلا والذي هو إضافة لذلك يُوحَيَ إليه ما يكشفهم ويفضحهم!! ولكنه (ص) من حُسْن وكمال خُلُقه يَستر عليهم لعلهم يُصْلِحون حالهم ويَتركون نفاقهم ليسعدوا، وليس لأنه أذُنٌ يُصَدِّقهم!!.. ".. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم، نَعَم بالفِعْل هو أذُن، لكنه أذنُ خيرٍ لكم، ولغيركم، للناس جميعا، لا كما تَدَّعون كذباً وقُبْحاً أنه أذُنٌ يسمع الخير والشرَّ بلا تمييزٍ ولكنه يسمع فقط الخير وما وافَق الإسلام فهو أذنٌ في الخير لا يسمع إلا الحقّ والصدق، ولا يُخْدَع بالباطل والكذب، يَسمع مِن كلِّ مَن يقول له لا يَتَكَبَّر عليه ويَتَوَاضَع له ولكن لا يُقِرّ إلا الحقّ ولا يَقْبَل إلا الخير فهو أُذن خيرٍ لكم وللجميع لا أُذن شرٍّ مثلكم أيها المنافقون تستمعون لكل شرِّ وتقبلونه، فهو خير لكم ولأمثالكم لأنه يَستر عليكم بقبول كلامكم ولا يفضحكم ويكشف نفاقكم، وما يُؤَكِّد أنه أذنُ خيرٍ فقط ويَدلّ عليه ومِن مظاهره أنه يُصَدِّق بالله وقرآنه الذي هو كل الخير وأصله، ويُصَدِّق المؤمنين لأنَّ إيمانهم يمنعهم عن الكذب ولا يُصَدِّق الكاذبين سواء أكانوا منافقين أم حتي مسلمين لكن فاسقين، وهو رحمة لكل مَن يؤمن منكم – وللبشر كلهم – لأنه عن طريق إرشاده لكم إلى الخير واتّباعكم لهذا الإرشاد تَصِلُون إلى ما يُسعدكم فى دنياكم وأخراكم.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين أن يقتدوا برسولهم الكريم (ص) فيكونوا أذنٌ في الخير يَستمعون للخير لا للشرّ ويَقبلون أيَّ خيرٍ مُسْعِدٍ ويُحِبّونه ويَنشرونه ويَرْفضون أيَّ شَرٍّ مُتْعِسٍ ويكرهونه ويقاومونه ويمنعونه ليسعد بذلك الجميع في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)" أيْ والذين يؤذون رسول الله بأيِّ نوعٍ من أنواع الأذيَ القوليّ أو الفِعْلِيّ، قلّ أو كثر، لهم حتماً عذابٌ مُوجِعٌ مُهينٌ ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وذلك لأنهم بإيذائهم له (ص) فقد استهانوا برسول الله الذي يُمَثّله ويَنُوب عنه عند الناس فكأنهم يستهينون به تعالي وهذا حتماً يُغضبه ويُعَاقِب عليه، لمكانته (ص) وتكريماً وتعظيماً وانتصاراً له، ولكل رسله
ومعني "يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ هؤلاء المنافقون يَحلفون بالله لكم بالكذب أيها المسلمون ليُرْضُوكم أيْ لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا حيث يحلفون أنهم لا يَقصدون سوءاً حينما يَظهر سُوؤهم في بعض أقوالهم وأفعالهم بحقِّ الله تعالي ورسوله (ص) والإسلام والمسلمين.. إنهم يَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ.." أيْ هذا ذمٌ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يُقَدِّم إرضاء الناس بإغضاب الله تعالي بمُخَالَفة وصاياه في الإسلام، وإيقاظٌ له ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، فلا يَتَشَبَّه بهم مسلم وإلاّ تَعِس مِثْلهم فيهما.. أيْ هُمْ يُرْضونكم وكان الواجب أنَّ الله وحده لا غيره أحقّ منكم أيها المسلمون أنْ يُرْضوه أيْ يجعلوه يَرْضَيَ عنهم أيْ يَقبلهم ويُحبّهم ويُعينهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وذلك بالتوبة من نفاقهم وسُوئهم والرجوع إليه بطاعته باتّباع أخلاق إسلامه وعدم مُخَالَفتها – والرسول (ص) كذلك أحقّ بالإرضاء باتّباع سُنّته والإسلام الذي جاءهم به لأنه رسوله ويُمَثّله ومَنْدُوبه تعالي عند الناس – لأنه خالقهم ورازقهم ومالِك أمورهم وهو العليم بما ظَهَرَ وخَفي من أحوالهم وهو الذي سيُسْعِدهم بتيسير حياتهم أو يُتْعِسهم بتَعْقِيدها ولأنه أشدّ قوة وعقاباً منكم لهم حتماً في الدنيا ثم الآخرة لو خَالَفوا.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أن يكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون إرضاء وخشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي إرضاء وخشية الناس لينالوا حبه وقبوله لأعمالهم ورعايته وتأمينهم وتوفيقهم وتقويتهم ونصرهم وبالجملة إرضائهم وإسعادهم في الداريْن.. فالمسلمون يُحْسِنون التّعامُل مع كل الناس كما أوْصاهم الإسلام ليكونوا راضين بهذه المُعامَلَة الحَسَنَة المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة لكنْ إنْ تَعَارَض رضاهم مع رضاه تعالي بمعني ألاّ يَرْضُوا إلاّ بشيءٍ مُخَالِف لأخلاق الإسلام فهنا يكون تقديم رضا الله بالقطع بفِعْل الذي يُرضيه لا فِعْل المُخَالَفة التي تُرْضِيهم وإلاّ تَعِس الجميع.. ".. إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)" أيْ إنْ كانوا مؤمنين بحقّ وبصِدْقٍ كما يَدَّعون، فلْيَعْمَلوا بالتالي إذَن على إرضاء الله ورسوله بأنْ يعملوا بأخلاق الإسلام، كإثباتٍ علي ما يقولون، وإلا كانوا كاذبين فى ادِّعائهم الإيمان.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله بصِدْقٍ فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)" أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء المنافقون، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنه مَن يُحَادِد أيْ مَن كان في حَدٍّ أيْ جانبٍ، والله ورسوله (ص) في حَدٍّ مُقَابِل، أيْ خالَف دين الله ورسوله وعانَده وتكبَّر عليه وآذاه وعاداه وحاربه هو والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ومَن يَتَشَبَّهَ بهم، فإنَّ له بالتأكيد حتماً عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف ماكِثَاً مُستمرَّاً فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَج منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعماله كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كان يعمله من أعمالٍ سيئة في دنياه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كان فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)" أيْ ذلك العذاب الذي ذُكِر أنه يَحْدُث لهم هو بكل تأكيدٍ وبحقّ الذلّ والهَوَان والانحطاط والعار والفضح الشديد الهائل الذي لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
ومعني "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)" أيْ يَخاف ويَحتاط ويَحْتَرِس بشِدَّة المنافقون أن تُنَزَّلَ عليهم وعلي المؤمنين ويكون في شأنهم آيات من القرآن العظيم تُخْبِرهم فتَفضحهم وتُخْبِر المؤمنين كذلك بما يُخفونه في دواخلهم وفيما بينهم من سوءٍ فيَنفضحوا ويَنكشفوا ويُعَاقَبوا ويَتِمّ الحَذَر منهم والتعامُل معهم بما يُناسبهم.. وفي هذا بيانٌ لشِدَّة جُبْنهم وخوفهم من المسلمين أن يكشفوا أمرهم وحالة الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة التي يعيشونها حيث يعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس.. ".. قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه مُهَدِّدَاً ومُحَذّرَاً اسْخَروا ما شِئْتُم من الإسلام والمسلمين واستمرّوا علي ذلك فإنَّ الله حتماً مُظْهِرٌ ما تخافون ظهوره.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبة.. أيْ وإنْ سألتَ أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بعد افتضاح وانكشاف أمرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عمَّا قالوه من استهزاءٍ بالإسلام والمسلمين وسببه يقولون مُعْتَذِرين بما هو كذب كعادتهم مُدَّعِين بخِسَّةٍ وذِلّةٍ أننا ما قَصَدْنا أيَّ إساءةٍ وإنما كنّا فقط لا غير نَدْخُل ونَغُوص ونَنْغَمِس في أحاديث كعادتنا ونلهو علي سبيل المزاح والمُدَاعَبَة لا الجَدّ لا نريد سَبَّاً ولا سوءاً لأحد.. ".. قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه مُؤَنّبَاً ومُهَدِّدَاً ومُحَذّرَاً إيَّاهم على استهزائهم بمَن لا يَصِحّ مُطلقاً الاستهزاء به ورافضاً لأيِّ عُذْرٍ منهم – إلا التوبة الصادقة – هل بالله وآياته في قرآنه العظيم وفي تشريعاتِ وأنظمةِ وأخلاقِ الإسلام التي فيه ورسوله الكريم (ص) كنتم تَسخرون وتَسْتَخِفّون وتَحْتَقِرون؟! كيف طابَ وسَهُلَ لكم ذلك الفِعْل الشنيع؟! ألم تجدوا ما تَستهزئون به فى خَوْضكم ولعبكم غير هذا رغم أنَّ الله وآياته ورسوله هم الذين يُرْشدونكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن؟! فأيّ سوءٍ أسوأ من هذا؟!
ومعني "لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي سبيل الذمِّ واللّوْم الشديد لأمثال هؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب تعظيمه وتقديسه واحترامه وطاعته لا تعتذروا بمثل هذه الأعذار الكاذبة السفيهة الساقِطَة لكي تُسَامَحُوا ويُعْفَيَ عنكم ولا تُعَاقَبوا فإنها غير مَقْبُولة، لأنكم بسبب هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله قد ظَهَرَ كفركم وتأكّد بعد إدِّعائكم وإظهاركم الإيمان على سبيل الخِداع، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم مُعامَلَة المسلمين لأنكم تنطقون بالشهادتين ونحن نأخذ بظاهر الأمور مع الحَذَر ونترك الدواخِل لله العليم الخبير الذي يعلم السِّرَّ وأخْفَيَ فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم لأنَّ الاستهزاء بهم كفر.. ".. إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمته وعدله سبحانه وفَتْحه باب التوبة علي أوْسَع صورةٍ للجميع لتشجيعهم عليها.. أيْ إنْ نُسَامِح ولا نُعَاقِب ونَمْحُ آثار الذنوب المُتْعِسَة في الداريْن عن مجموعةٍ منكم – أيها المنافقون – لأنها تابَت وعادَت لربها ولإسلامها ونُسعدها فيهما فإننا نُعَذّب مجموعة أخري منكم فيهما بسبب أنهم كانوا مجرمين مُصِرِّين مُسْتَمِرِّين علي إجرامهم بلا توبةٍ حتي موتهم أيْ يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، نُعَذّبهم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ والمنافقون وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ، وكذلك المنافقات، بعضهم من بعض أيْ مُتشابهون في النفاق كتشابه أبعاض وأجزاء الشيء الواحد وذلك لأنَّ أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعضٍ سواء أكانوا رجالا أم نساءً في الخِسَّة والدناءة والأفكار والأقوال والأفعال السَّيِّئة القَبيحة، فهُمْ جميعاً وإنْ بدرجاتٍ مختلفة يَطلبون من أنفسهم وغيرهم فِعْل المُنْكَر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم عن فِعْل المعروف وهو كل ما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.." أيْ ومن صفاتهم السَّيِّئة كذلك أنهم يُمْسِكون أيديهم عن إنفاق الأموال والجهود في أنواع الخير المختلفة فهُمْ بُخَلاء أشِحَّاء لا يُسْعِدون النفس والغير بالإنفاق.. ".. نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ.." أيْ إنهم قد تَرَكوا وأهملوا دين الله وهو الإسلام، كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً، وهم بسبب ذلك، بسبب أنهم اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا النسيان والترك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله نَسِيَهم، وهو تعالي لا يَنْسَيَ حتماً ولكنَّ المقصود تَرَكَهم فلا يُعينهم ولا يُوَفّقهم ولا يُسَدِّد خُطاهم ولا يُيَسِّر لهم أسباب الخير لأنهم مُصِرُّون أشدّ الإصرار علي الشرِّ دون أيِّ بادِرَة خيرٍ ولو بخطوةٍ حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، وهذا في دنياهم، أمَّا في أخراهم فيُنْسَوْن ويُتْرَكون في عذابات وتعاسات نار جهنم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. ".. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ المنافقين بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً هم الخارجون عن طاعة الله والإسلام
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)" أيْ هذا بيان للمصير السيء الذي ينتظرهم إن لم يتوبوا.. أيْ أعْطَيَ الله بعدله وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للمنافقين وهم الذين يظهرون الخير ويخفون الشر والمنافقات والكفار – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – أنَّ لهم بالتأكيد حتماً عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف ماكِثين مُستمرِّين فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كان يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وفي لفظ "وَعَدَ" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُوعَدون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع الوعد ولكنه كل شرّ وتعاسة!!.. ".. هِيَ حَسْبُهُمْ.." أيْ هي بعذابها الذي لا يُوصَف تَكفيهم كعقابٍ لهم علي سُوئهم حيث يَحترقون وتُشْوَيَ أجسادهم بنارها، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصيرون إليه.. هذا، وبيان أنها عقوبة كافية يُفيد أنها وَصَلَت أعلي درجات الشدَّة والعذاب المُناسب لهم.. ".. وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ.." أيْ وكذلك طَرَدَهم وأبْعَدَهم الله من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة، من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في دنياهم ثم في أخراهم تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)" أيْ ولهم عذابٌ دنيويٌّ وأخرويٌّ دائمٌ مستمرّ لا ينقطع ولا مَفَرّ منه
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا لم تكن مُشْرِكَا (برجاء مراجعة الآيات (48)، (51) حتي (57)، (116) حتي (122) ، (172) حتي (175) وكلها من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)" أيْ هذا بيانٌ وتذكيرٌ بأحوال بعض مَن هلك مِن السابقين بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم ونِفاقهم وفِعْلهم الشرور والمفاسد والأضرار ليَتَجَنّبها كل مسلمٍ تماما ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس مِثْلهم فيهما، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ أنتم أيها المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بكم حالكم كحال الذين قبلكم السابقين لكم حيث كنتم مِثْلهم وفَعَلْتم فِعْلهم في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والنفاق والشرّ والفساد وأصْرَرتم علي ذلك واستَمَرَّيْتم عليه بلا توبةٍ حتى نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم وأخراهم فأنتم ستكونون مثلهم فسيَنزل بكم عذابه فيهما.. ".. كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا.." أيْ هؤلاء الذين مِن قبلكم لم يكونوا ضعافا بل كانوا شديدي القُوَيَ أشدّ منكم من كل أنواعها الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها، وكانوا أكثر أموالا وممتلكات بكل أشكالها وأكثر أولادا وأعدادا وعلاقات وتَحَالُفات منكم، وتَرَكوا آثارا كثيرة لأنهم كانوا كثيري الإثارة للأرض أي التقليب لها وحرثها وحفرها وتهييجها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها، وكانوا كثيري التعمير لها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا.. لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يَقيهم أي يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!!.. فمَن كان أضعف منهم مثلكم فليكن إذن أكثر حذرا فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب!.. ".. فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ.." أيْ فلقد تَشَبَّهتم بهم تماما حيث استمتعوا بنصيبهم من مُتَع الحياة الدنيا بلا تمييزٍ بين ما هو شرّ مُضِرّ مُتْعِس مُخَالِف للإسلام وما هو خير مُفيد مُسْعِد مُوَافِق له وبلا أيِّ استعدادٍ لآخرةٍ فيها حساب وعقاب وجنة ونار لأنهم لم يكونوا يؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا بوجودها فاستمعتم بنصيبكم من مُتَع الحياة الدنيا أنتم أيضا علي مثل حالتهم السيئة هذه كما استمتع بها الذين من قبلكم بنصيبهم وهم قد استمتعوا لفترةٍ ثم عُذّبوا وأهْلِكُوا وانْصَرَفوا إلي العذاب الدائم فسُتَعَذّبون وستُهْلَكون وستَنْصَرِفون لعذابٍ دائمٍ مثلهم فأنتم أخذتم المُقَدِّمات والأسباب السيئة مثل هؤلاء المُخَالِفين للإسلام فقَادَتْكم إلى ذات النتائج السيئة حيث العذاب والهلاك.. ".. وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا.." أيْ وغُصْتُم ودَخَلْتُم وانْغَمَسْتُم فى الأقوال والأفعال السيئة ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار كالخَوْض الذي خاضوا فيه هم تماما.. ".. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. وهؤلاء بسبب ذلك حتماً هم الخاسرون خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7)، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الله تعالي من تمام عدله لو فُرِضَ وفَعَلُوا خيراً مَا فإنه يُعطيهم خيراً مُقابِل له في دنياهم فقط كصحةٍ أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ أو غيره لأنه ليس لهم شيء في أخراهم
ومعني "أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)" أيْ هل لم يَصِل إليهم، والاستفهام للإقرار أيْ لكي يُقِرُّوا هم بذلك، وللتحذير ليَنتبهوا لعلهم يَتّعِظون فيَستفيقون ويؤمنون حتي لا يكون مَصيرهم مِثْلهم، أيْ لقد وَصَلَ إلي أمثال هؤلاء المنافقين والمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين والفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار بالفِعْل خَبَرَ الذين من قبلهم السابقين لهم وسَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتَنَاقَلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة مِمَّن كذّبوا وعانَدوا واسْتَكْبَروا واستهزؤا أمثال أمّة نوح (ص) التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان، وأيضا قوم عاد الذين كذّبوا رسولهم هوداً (ص) فأُهْلِكُوا بالرياح الشديدة، وثمود وهم قوم صالح (ص) حيث بتكذيبهم إيَّاه أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة أيْ أهلكتهم وأعدمتهم والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، وقوم إبراهيم (ص) الذين كذّبوه وحَرَّقوه في النار فجعلها الله بَرْدَاً وسلاماً عليه وهَجَّروه من بلده واستمرّوا علي عبادة الأصنام فسَحَب الله نِعَمه منهم وأصابهم بالمصائب وأذَلّهم ونَشَر إسلامه لغيرهم علي يد إبراهيم، وأصحاب مَدْيَن وهم قوم شعيب (ص) الذين أخذتهم الصَّيْحَة، والمُؤتَفِكات وهي القُرَىَ المؤتفكات بأهلها أيْ المَقْلوبات بهم بحيث أصبح أعلاها أسفلها فهَلَكوا وهي قري قوم لوط (ص).. ".. أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.." أيْ وليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)" أيْ وما ظَلَمهم الله بذلك حَتْمَاً، فلم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ المؤمنين أولياء، أيْ أنصار وأحِبَّاء وأصدقاء وأعوان، يُحبّ ويُعين ويَنفع ويَنصر بعضكم بعضا، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم
هذا، ومعني "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والمؤمنون أيْ والمُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ويُذَكّرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة، وكذلك المؤمنات.. ".. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أيْ من صفاتهم الطيّبة الحَسَنة والتي علي كل مسلمٍ أن يَتّصِفَ بها أنهم بعضهم أنصار وأعوان وأصدقاء وأحِبَّاء بعض، أيْ يُوَالِي ويَتَوَلّى ويُدير بعضهم شئون بعضٍ بكل مَحَبَّةٍ ونُصْرَةٍ ومَعُونَةٍ ويَحلّ مَحَلّ أهله ونفسه، لأنَّ مصالحهم وحقوقهم وأهدافهم مشتركة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلمين الصالحين أن يكونوا دائما يداً واحدة وأن يكون حبّ كلّ واحدٍ وعوْنه لغيره كحبه وعونه لنفسه، وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بغير ذلك يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أنهم يَطلبون من أنفسهم وغيرهم ويُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا أنهم يُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا، وبصورةٍ عامَّةٍ جامعة، أنهم في كل أمور دنياهم وبلا انقطاعٍ ولا تَكَاسُلٍ بل بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنه لسعادتهم، يُطيعون الله ورسوله (ص) أيْ يَستجيبون ويُنَفّذون ما يُوصيهم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ويُداوِمون ويستمرّون علي ذلك طوال حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتماً بكل تأكيدٍ الذين سيَرحمهم الله برحمته الواسعة التي وَسِعَت كل شيء، في دنياهم أولا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فهو أرحم الراحمين أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منه فهو خالِقهم وهم خَلْقه وصَنْعَته ويُحِبّهم وما خَلَقَهم إلاّ ليُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمته سبحانه فهو أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنه أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)" أيْ وذلك لأنَّه غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو حتماً في ذات الوقت في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث.. إنه تعالي قويٌّ قادرٌ علي كل شيءٍ ولا يَمتنع عليه ما يريده
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)" أيْ أعْطَيَ الله بفضله وكرمه ورحمته وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للمؤمنين والمؤمنات أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيراً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر وهذا كله في جنات عدنٍ أيْ جناتِ إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم.. ".. وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.." أيْ ولهم أعظم من كل ذلك، جزاء معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له، رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة إضافة لتكريمهم برؤية ذاته الكريمة سبحانه.. ".. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)" أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله بمَالِك ونفسك (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)" أيْ يا أيها النبي، ويا أيها المسلم – ويا أيها المسلمون في كل زمان ومكان – ابذل كل أنواع الجهود واجتهد في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير مِن الكفار والمنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم ويُعاونهم، بما يُناسبهم من الجهاد، سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.." أيْ واشْدُدْ عليهم عند جهادهم بالقتال ولا تَتَهَاوَن وتَلِين معهم وتَرْفِق بهم، وفي غير القتال فأحيانا استخدم الغِلْظَة معهم، أيْ إظهار الكلام أو التّصَرُّف الغليظ الخَشِن الشديد الغاضِب، حينما يحتاج الأمر لذلك، كأنْ يُظْهِر بعضهم مثلا بادِرَة إساءةٍ للإسلام والمسلمين، ويُعاقَبون بالقانون علي ذلك بقَدْر جريمتهم، كما يُعاقَب أيّ مُواطِن مُخْطِيء بالعدل في الدولة المسلمة بمَن فيهم المسلم قطعا، وذلك لإخافتهم لمَنْع شرورهم، ولكي تَظَلَ دائما كلمة الذين كفروا هي السفلي أيْ دعوة الكفر وما يُشبهها هي الأدْنَيَ الأقلّ الأذلّ المَغْلُوبة الهابِطَة المُنْحَطّة الشأن، والكفار ومَن يُشبههم كذلك، وكلمة الله هي العليا أيْ دعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ودعوة الإسلام هي الأعلي الأعَزّ الغالِبة الرفيعة الشأن والمَقام، والمسلمين كذلك، بأنْ يكون ويكونوا المَرْجِع الذي يَرْجِع إليه الناس إذا أرادوا أن يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهذا هو حالهم الذليل التعيس في الدنيا ما داموا لم يتوبوا.. ".. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)" أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه، إضافة إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمن لا للعذاب والشقاء والخوف!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ هؤلاء المنافقون يَحلفون بالله لكم بالكذب أنهم ما قالوا سوءاً حينما يَظهر سُوؤهم في بعض أقوالهم وأفعالهم بحقِّ الله تعالي ورسوله (ص) والإسلام والمسلمين، وهم كاذبون في حلفهم هذا، وإنهم قد قالوا كلمة الكفر وهي تشمل كل إساءاتهم بحقهم وظَهَرَ كفرهم وتأكّد بعد إدِّعائهم وإظهارهم الإسلام على سبيل الخِداع.. إنهم يَحلفون بالله لكم كذباً وزرواً أيها المسلمون لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا وإتّقاءً لكم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.." أيْ وهَمُّوا بشيء لم يَحصلوا عليه، أيْ ونَوُوا وأرادوا بعقولهم وحاولوا الإضرار بالرسول (ص) ومَنْع نَشْر الإسلام لكن لم يستطيعوا لأنَّ الله تعالي لم يُمَكّنهم من ذلك برعايته وحفظه له.. ".. وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ وما كَرِهُوا هؤلاء المنافقون من الإسلام ورسوله الكريم (ص) وعَابُوا عليه شيئاً سَيِّئاً يَعتبرونه هم نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومُصيبة لهم؟! إنهم لا يَعيبون عليه ويَرفضون مِنه إلا خيراً عظيماً بل وينتقمون مِنه بسببه! إلاّ أن أغناهم بسببه وأعطاهم وكَفَاهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من الأرزاق والخيرات التى كانوا لا يجدونها قبل حلول الإسلام والرسول (ص) والمسلمون بينهم، إضافة حتماً إلي ما هو أعظم وأفضل عطاء وإغناء من ذلك وسبب كل خيرٍ وسعادةٍ لهم وهو إخراجهم من ظلمات وتعاسات الكفر إلي أنوار وسعادات الإيمان في دنياهم وأخراهم.. إنَّ ما يعتبرونه ذَمَّاً له وعَيْبَاً فيه ومُسْتَحِقّاً لكراهيتهم له هو علي العكس تماما فخر وإسعاد وإكرام ورحمة لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. لقد كان من المفترض أن يُقابَل هذا منهم بالشكر وحُسْن استخدام هذه النّعَم وحُسْن التّعامُل مع الإسلام والمسلمين لا عدم شكرها وإنكارها وسوء استخدامها وسوء المُعامَلَة!!.. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة هو الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. لكن ما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ.." أيْ فإنْ يقوموا بالتوبة بالعودة لله وللإسلام بالعمل بأخلاقه يكن ذلك خيراً لهم حتماً حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.." أيْ وإنْ يُعطوا ظهورهم لله ولرسوله الكريم (ص) ويَلْتَفِتوا ويَنصرفوا ويَبتعدوا عن الإسلام ويَتركوا أخلاقه ويهملوها ويفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، يُعَذّبهم الله عذاباً مُؤلِمَاً مُوجِعَاً شديداً مُهيناً، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)" أيْ وليس لهم ولن يَجِدُوا وقتها في أيِّ مكانٍ في الأرض أيّ وَلِيّ يَتَوَلّي أمرهم ويُدافع عنهم وليس لهم أيّ نصيرٍ أيْ كثيرِ النصر لهم ينصرهم من عذابه بأنْ ينقذهم أو حتي يُخَفّف عنهم شيئا منه، إلا أن يتوبوا في دنياهم قبل موتهم، لأنّ عقابه لن يَدفعه دافِع إلا هو سبحانه
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)" أيْ ومِن المنافقين – ومِن بعض الناس عموماً – مَن وَعَد الله وأعطاه عَهْدَاً سيَلْتَزِم وسيُوَفّي به إنْ أعطانا مِن إحسانه وإنعامه الزائد من كل الأرزاق والخيرات التي لا تُحْصَيَ سنَتَصَدَّق حتماً بالتأكيد علي المحتاجين بما يحتاجونه من أموالٍ وجهودٍ وغيرها وسنُعْطِي كل صاحب حقّ حقه وسنكون مِن أصحاب الخُلُق الحَسَن الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون في الأرض ولا يُفسدون ويُتعسون فيها الذين يَصْلُحون لحَمْل الإسلام وتبليغه للناس، والصالح لا يكون كذلك إلا إذا كان مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله في كل شئون حياته، فيَسعد بذلك في الداريْن، وبالجملة فالصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة
ومعني "فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)" أيْ فحينما أعطاهم من فضله لم يوفوا بعهدهم بل حَرِصُوا حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل وقد يأمرون غيرهم بهذا من شدَّة بُخْلِهم!.. ".. وَتَوَلَّوْا.." أيْ وأعْطوا ظهورهم لله ولرسوله الكريم (ص) والْتَفَتوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عن الإسلام وتَرَكوا أخلاقه وأهملوها وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي إعراضهم أيْ وهم مُسْتَمِرّون في إعراضهم مُصِرُّون تمام الإصرار عليه.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما كتعاساتهم
ومعني "فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)" أيْ هذا بيانٌ للنتائج البالِغَة السوء لهذا الإخلاف للوَعْد والإعراض عن طاعة الله والإسلام والإصرار والاستمرار علي ذلك بلا توبةٍ من خلال الاستغفار باللسان علي فعله وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة له وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان ما فُعِلَ مِن شَرٍّ مُتعَلّقا بالآخرين، وذلك لكي يَعْتَبِر كل مسلم ولا يفعل أبداً مِثْل هذا حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. أيْ فكانت عاقبة أيْ نتيجة سوء فِعْلهم هذا أنْ ازدادوا نفاقاً وسُوءاً وكذباً علي نفاقهم وسُوئهم وكذبهم في قلوبهم أي بداخل عقولهم وتَصَرُّفاتهم ومشاعرهم طوال حياتهم إلي يوم يموتوا ويلاقوا ربهم يوم القيامة لحسابهم وعقابهم بما يُناسبهم وذلك بسبب استمرارهم علي إخلافهم ما وَعدوا الله به وإعراضهم عن طاعته والإسلام وبسبب كذبهم في عهودهم معه ومع الناس وفي أقوالهم وأفعالهم وإصرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبة، لأنَّ المُصِرّ علي النفاق والإخلاف والإعراض والكذب وغيره من السوء بغير عَوْدَةٍ للخير يَزداد غالباً كما يُثْبِت الواقع ذلك نفاقاً وإخلافاً وإعراضاً وكذباً وسُوءَاً تدريجياً حتي يَصِلَ إلي حالةٍ مُزْمِنَةٍ يَصعب ولا يستطيع معها الرجوع ويستمرّ علي هذا إلي يوم يَلْقَيَ ربه يوم يموت فيموت علي ذلك فيُقابله مُنافقاً مُسِيئاً حيث يَظِلّ النفاق والسوء مُلازِمَاً مُلاَحِقَاً له مُستمرّاً معه
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)" أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء المنافقون، ومَن يَتَشَبَّه بهم، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنَّ الله يعلم بتمام العلم سِرَّهم أيْ ما يتحدثون به سِرَّاً مع أنفسهم داخل عقولهم من نفاقٍ وعَزْمٍ علي الإخلاف وكذبٍ وشرٍّ، ويعلم نجواهم أيْ وما يَتَناجَوْن أيْ يتكلمون به مع غيرهم بصوتٍ خافِتٍ في تَسَتّر حتي لا يسمعهم أحد عمَّا يُحْكِمُونه ويَعقدونه ويُقَرِّرُونه من مَكائد ضِدّ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وما يَفعلونه من شرور ومَفاسد وأضرار، وهل لم يَعلموا ويَتأكّدوا أنَّ الله علاّم الغيوب أيْ العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول، وبالتالي فلن يُحاسبهم عليها لخفائها عنه؟!! .. إنَّ مَن يعلم المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر!.. كلا بل قطعا يعلم كلّ هذا وما هو أخْفَيَ منه، وملائكته الكرام بأمره تُسَجِّل وتَكتب وتُحْصِي عليهم كلّ أقوالهم وأفعالهم والتي حتما سيُحاسَبون عليها فلا مَفَرَّ لهم إذَن.. فلْيُحْسِن العاقل بالتالي الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وفي هذا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لأمثالهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم ويَفعل مثلهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بما يُناسبهم فيهما
ومعني "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ هم الذين يَلْمِزُون أيْ يَعيبون دائماً المُطّوِّعِين أيْ المُتَطَوِّعِين أيْ المُتَبَرِّعِين من المؤمنين حيث يعيبونهم في أمر وفِعْل الصدقات حين يَتَطَوَّعون بأموال وأشياء عَيْنِيَّة وجهودٍ وأوقاتٍ وأفكارٍ وغيرها حيث يَتّهِمُون المُكْثِرين منهم في التّطَوَّع بالرياء والسُّمْعَة، ويَعيبون كذلك الذين لا يجدون إلا جهدهم أيْ إلا طاقتهم المَحْدُودة أيْ إلاّ القليل الذي هو أقْصَيَ ما يستطيعونه فيَتَصَدَّقون به فيَسخرون منهم أيْ فيُسارِعون يَستهزؤن بهم احتقاراً لهم قائلين أنَّ قليلهم هذا لا قيمة له ولا فائدة منه! فالمهم لهم أن يَعيبوا بأيِّ عَيْبٍ علي كل الأحوال! فهُم مِن شِدَّة سُوئهم لا يَتركون أمراً من أمور الإسلام والمسلمين يمكنهم أن يُحْدِثوا من خلاله فتنة وتشكيكاً وفُرْقَة وإضعافاً بين المسلمين ومَنْعَاً لهم مِن فِعْل الخير وتشويهاً لصُورتهم وللإسلام إلا اجتهدوا في استغلاله مُحاوِلين يائِسين إحداث ذلك.. ".. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)" أيْ هؤلاء الساخرون يُعاقِبهم الله تعالي علي سُخريتهم بما يُشْبِه ويُناسِب أقوالهم وأفعالهم الساخرة فيَسخر منهم بأنْ يَفضحهم بإيقاعهم في أقوالٍ وأفعالٍ تَجعلهم مَوْضِع استهزاءٍ وخِسَّةٍ وانحطاطٍ واحتقارٍ وكشفٍ لنفاقهم من الآخرين، ولهم إضافة لذلك عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شديدٌ مُهين، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)" أيْ اسْتَغْفِر لأمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه أو لا تستغفر لهم، حتي إنْ كَثُر استغفارك لهم وتَكَرَّر، فلن يَغفر الله لهم، ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يُوَفّق للهُدَىَ الخارجين عن طاعته والإسلام، وهذا تأكيدٌ لعدم المغفرة لأمثالهم.. هذا، وذِكْر سبعين مرّة هو أسلوب في اللغة العربية يُقْصَد به التكثير والمُبَالَغة فى كثرة الاستغفار لا التحديد أيْ لا يعني أنه لو زاد الاستغفار عن السبعين سيُغْفَر لهم بما يُفيد التيئيس من أيِّ أملٍ في الغفران لذنوبهم بسبب شِدَّة غضبه تعالي عليهم.. إنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يُصِرّون تماما علي كفرهم حتي مَمَاتهم سواء استغفر لهم أحدٌ أم لا فَهُم لن يتراجَعوا أبداً عَمَّا هم فيه وبالتالي فلن ينفعهم أيّ استغفارٍ لأنَّ الله لن يغفر لهم حتما لأنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله مِن أمثال هؤلاء الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من فِسْق – سواء أكان هذا الفسق كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، وذلك بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهذه هي دائما طريقته سبحانه في التعامُل مع أمثال هؤلاء (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنهم من شِدَّة إصرارهم علي كل شرٍّ قد وصلوا إلي مرحلةٍ مُزْمِنَةٍ بحيث لا يفعلون إلا شرَّاً ولا يُفكّرون إلا فيه ويَنسون تماما أيّ خير، وهذه هي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقل، أي لم يَعُد بعقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير! فمِثْل هؤلاء سيَظلون علي حالهم حتي يَروا عذاب وتعاسة الدنيا ثم هَوْل وشقاء عذاب الآخرة، فهم يستوي عندهم الاستغفار لهم ونصحهم أو عَدَمه أو التبشير بالنتائج السعيدة لفِعْل الخير أو تَرْكه أو ما شابه هذا لأنهم قد أصبحوا عديمي العقل!!.. فليطمئنّ إذن كل مسلم ولا يَحزن علي عدم استجابة مِثْل هؤلاء لله وللإسلام ما دام قد أحسنَ دعوتهم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ( برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنَّ المشكلة ليست في التقصير في دعوتهم وإنما فيهم هم
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ فَرِحَ وسَعِدَ المُتَخَلّفون من المنافقين ومِمَّن تَشَبَّه بهم بقعودهم في المدينة مُخَالِفين لرسول الله (ص) مُتَخَلّفين عنه خَلْفه بعد خروجه في إحدي غزواته مُخْتَارِين بلا عُذْرٍ مَقْبول، وقد كَرِهوا أيْ لم يُحِبّوا ولم يُريدوا ولم يَقبلوا ولم يَرضوا ورَفضوا أن يبذلوا شيئاً من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله ونَصْر دينه الإسلام، وفي هذا تأكيدٌ وتعليلٌ لفرحهم بقعودهم، والسبب الأساسي لهذا الفرح بالقعود والكراهية للجهاد هو شِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم وحِرْصهم علي حياتهم الدنيا ومُتعها الزائلة ونسيانهم الآخرة ونعيمها الخالد الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف.. ".. وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لجُبْنهم وضعفهم وخِسَّتهم.. أيْ وقال هؤلاء المنافقون والمُتَشَبِّهون بهم لبعضهم البعض ولغيرهم مِمَّن يريدون مَنْعهم وتَثْبيطهم من المسلمين لا تخرجوا للجهاد في الحرّ فهو شديد والجهد كبير والقعود مريح.. ".. قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم رَدَّاً علي أقوالهم الخَسِيسَة هذه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم بما يُناسبهم فيهما، نار جهنم والتي هي مصيركم بسبب ما فَعلتم أشدّ حَرَّاً حتماً بعذابها الذي لا يُوصَف من هذا الحَرّ الذي ترونه مانعاً من النفير للجهاد فلماذا لا تَتّقونها وتُعَرِّضون أنفسكم لها بتفضيل القعود والمُخَالَفة لله تعالى ورسوله (ص)؟! لقد قدَّمتم راحة قصيرة زائلة مُضَيِّعَة لثوابٍ عظيمٍ في الداريْن وهو ثواب الجهاد علي راحةٍ مُنَعَّمَةٍ خالدةٍ تامَّةٍ بجناتٍ لا تُوصَف في الآخرة وهذا حقاً هو قِمَّة السَّفَه منكم، فاستفيقوا!.. ".. لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)" أيْ هذا مزيدٌ من ذَمِّهم وتَحْقيرهم.. أيْ إنْ كانوا من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكانوا من أصحاب العلم والفهم لَتَعَمَّقوا ولَتَدَبَّروا فيما يَسمعون فيَنتفعون ويَسعدون به.. إنهم لو كانوا يفقهون ويفهمون ويعلمون لَعَلِموا ولَتَذَكَّروا أنَّ نار جهنم أشدّ حَرَّاً ولَمَا قَعَدُوا وتَخَلّفوا ولَمَا قالوا ما قالوا ولَتَابُوا ولَجَاهَدُوا، ولكنهم لا يفقهون ولا يعلمون.. والسبب في ذلك الخَلَل والسَّفَه الذي هم فيه هو أنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها – ومنها الجهاد – في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)" أيْ فلْيَضحك ولَيْفرح هؤلاء السابق ذِكْرهم قليلا في حياتهم الدنيا الفانية، بقعودهم وإساءاتهم للإسلام والمسلمين، ولْيَبْكوا كثيرًا في عذاب نار جهنم.. إنهم إنْ ضحكوا حتي ولو طوال أعمارهم فى الدنيا، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم الدائم فى الآخرة، لأنَّ الدنيا فانية والآخرة باقية، والمُنْقَطِع الفانى قليل بالنسبة إلى الدائم الباقى، فإنَّ ضحكهم زمنه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتهم في الدنيا، وسيأتي بعده بكاء كثير لا نهاية له في الآخرة، وحتي فرحهم الدنيويّ هو فَرَح وَهْمِيَّ لا حقيقيّ ظاهريّ لا داخليّ سطحيّ لا مُتَعَمّق مُتقطّع لا دائم وكثيراً ما يتبعه الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)" أيْ جزيناهم جزاءً شديداً كهذا بسبب وبمِقْدار ما كانوا يعملون من سوءٍ في حياتهم، إضافة بالقطع إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم، بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، بصورةٍ ما من صور العذاب، بما يُناسب أفعالهم، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)" أيْ فإنْ أعَادَك اللَّه من الغزو إلى مجموعةٍ من هؤلاء المنافقين الذين تَخَلّفوا عن الغزو والمُصِرِّين المُسْتَمِرِّين علي نفاقهم بلا أيِّ توبةٍ وعَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم، يارسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده، فطَلَبوا الإذْنَ منك للخروج للجهاد مرة أخرى، فلا تأذن لهم وقل لهم علي سبيل الذمِّ والتحقير لن تخرجوا معى أبداً في أيِّ جهادٍ ولن تقاتلوا معي أيَّ عدوٍّ من الأعداء – وهذا تأكيدٌ للمَنْع ومُبَالَغَة فيه – والسبب في ذلك أنكم قبلتم بالقعود عن الخروج للجهاد في أول مَرَّة دُعِيتُم فيها إليه بلا عُذْرٍ مَقْبولٍ ولم تُتْبِعُوا ذلك بتوبةٍ تَمْحُوه، رغم دعوتكم إليه لفتراتٍ وبكل الوسائل، وفعلتم ذلك القعود والتّخَلّف مرَّة بعد مرَّة باستمرار، وكنتم مُصِرِّين علي نفاقكم، فأنتم إذَن لا يُوثَق بكم إلا إذا تُبْتُم توبة صادقة تَظْهَر تدريجياً في أقوالكم وأفعالكم وتَعامُلاتكم لفتراتٍ فحينئذٍ يُنْظَر في خروج أمثالكم حيث أنتم لا تُريدون للإسلام وللمسلمين إلاّ الفتنة أيْ الشرَّ والسوء والضرر والخِلاف والتّفَرّق والضعف والانهزام، فجزاؤكم وعِقابكم الحَتْمِيّ المَنْطِقِيّ بالتالي إذَن أن تُحْرَمُوا من هذا الثواب في الداريْن بأنْ تقعدوا مع الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عذرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما
ومعني "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ والتحقير لهم.. أيْ ولا تُصِلِّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده أبداً على أحدٍ مات من أمثال هؤلاء المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفُون الكفر والذين ظَهَرَ وعُلِمَ وتَأَكَّد نفاقهم، ولا تَقِف عند قبره لتدعو وتستغفر له، لأنَّ هذا تكريمٌ لهم لا يستحِقّونه لأنهم كفروا بالله تعالى وبرسوله (ص) واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك بلا توبةٍ وماتوا وهم خارجون عن طاعة الله ودينه الإسلام
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الذين يُسيئون طَلَبها فلا يُمَيِّزون بين خيرٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وشرٍّ ضارٍّ مُتْعِسٍ، كالكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، وإلا تَعَذّبتَ وتَعِسْتَ مثل عذاباتهم وتعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)" أيْ إذا كان هذا هو حال وواقع المنافقين والكافرين والفاسقين ومَن يَتَشَبَّه بهم كما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة فلا تَسْتَحْسِن بالتالي إذَن أيها المسلم ولا يُبْهِرك ويُثير عقلك ويَلْفِت نظرك أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم وإمكاناتهم مهما بَلَغَت في الكثرة والحُسْن، لأنها عذابٌ لهم.. وفي هذا توجيهٌ للمسلم في دنياه بأنَّ عليه ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أن يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه وإلاّ تَعَذّبَ وتَعِسَ كعذابهم وتعاستهم في الداريْن، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه، فهذه هي الحياة الحقيقية السعيدة بعَيْنِها المُسْتَبْشِرَة المُنْتَظِرَة للآخرة الأسْعَد والأخْلَد حتي ولو رَأَيَ أنَّ ما عنده قد يكون أقل أحياناً مِمَّا عندهم، بينما هم غالباً أو دائماً في قلقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ دنيويةٍ تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادةٍ فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا.." أيْ لم يُرِدْ الله بعطائه الأموال والأولاد لهم إسعادهم، فهم لا يستَحِقّون ذلك، لكفرهم ونفاقهم وسوئهم، وإنما لكي يعذبهم بها في الحياة الدنيا من خلال جهدهم الشديد الذي يبذلونه في تحصيلها وبصراعهم أو حتي اقتتالهم مع بعضهم وغيرهم عليها وبقلقهم لحمايتها مِمَّن يَطمعون في نَهْبِها منهم وما شابه هذا من عذاباتٍ وكآباتٍ وتعاسات.. هذا، ولفظ "يريد الله" يحتاج لبعض التفصيل، بمعني أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. ".. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)" أيْ ويُريد كذلك أن تخرج أراوحهم من أجسادهم وتهلك وينتهوا ويموتوا وهم كافرون فيُعَذّبهم بسبب كفرهم وموتهم عليه دون توبةٍ عنه عذاباً أليماً في الآخرة بعد عذابهم في الدنيا، فيكون ذلك اسْتِدْرَاجَاً لهم، وذلك من شِدَّة غضبه عليهم، فهل هناك استدراج لأمثال هؤلاء وعذاب في الداريْن أشدّ من هذا؟! إنهم يَصِل بهم أمر انشغالهم بأموالهم وأولادهم وأحداث دنياهم إلي النسيان التامّ لربهم ولدينه الإسلام ولآخرتهم إلي أن يُفاجأوا بالموت وهم علي الكفر ولم يتوبوا! والاستدراج هو التقريب من العذاب خطوة بخطوة دون شعورٍ حتي الهلاك (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معني الاستدراج برجاء مراجعة الآية (182) من سورة الأعراف "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ").. وكل هذا قطعاً بسببهم لا غيرهم، بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ تقريباً كما في الآية (55) من هذه السورة الكريمة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)"، " رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة ومَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما.. أيْ وإذا كانت سُورَةٌ من سُوَرِ القرآن الكريم فيها آيات تَدْعو وترْشد الناس إلي أن صَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم، وجاهِدُوا مع رسوله (ص) أيْ وابْذِلوا كل أنواع الجهود واجْتَهِدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وذلك في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، فحينها، حين يُطْلَب الجهاد، يَطْلُب الإذْنَ في التَّخَلّف عنه أولوا الطول من هؤلاء المنافقين ومِمَّن يَتَشَبَّه بهم أيْ أصحاب الإطالة والزيادة أيْ الغِنَيَ والأموال والقوَيَ المختلفة القادرون عليه الذين لا عُذْر مَقْبُول لهم، ويقولون ذَرْنا أيْ اتْرُكنا لنكون مع القاعدين العاجزين عن الجهاد، يَقْصِدون أصحاب الأعذار من المرضي والشيوخ والأطفال والنساء وغيرهم، وكأنهم هم أيضا لهم عُذْر! مُتَحَجِّجِين كعادتهم بكل أنواع الحُجَج الضعيفة السفيهة الساقطة وحتي المَكْذُوبة أحيانا أو كثيراً لتَبْرِير خوفهم وتَرَاجعهم وهروبهم بما يدلّ بلا أيِّ شكّ علي شِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم ومُخالفتهم لأخلاق الإسلام وتَهَرُّبهم مِمَّا يدعوهم إليه ورضاهم بأن يكونوا مع الضعفاء الذين لا حِيلَة لهم.. وهكذا دائما أمثالهم يُسيطر عليهم حِرْصهم علي حياتهم وطَلَب سلامتهم حتي ولو كانت مصحوبة بجُبْنٍ وذِلّةٍ وهَوَان!.. "رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من ذَمِّهم وتَحقيرهم.. أيْ قَبِلُوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف أيْ الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عُذْرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما، ولا يَرْضى بهذا حتماً إلا مَن هانَت كرامته واعتاد الذلّة والإهانة!.. ".. وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)" أيْ وبسبب نفاقهم حيث يُظْهِرُون الإسلام ويُخْفُون الكفر وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ كانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا أن طُبِعَ علي قلوبهم فصاروا لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم.. إنهم قد اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما هم فيه وأصرّوا تماما عليه حتي وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُدْ حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! فهو لا يفقه ما فى الإسلام والجهاد من الخير والسعادة والعِزّة في الداريْن وما فى النفاق والجُبْن عن الجهاد من الشرّ والتعاسة والذلّة فيهما.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تنبيه لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
ومعني "لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)"، "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ذلك الحال الدنِيء الخَسِيس الذي سَبَقَ ذِكْره هو حال المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم لكن الرسول الكريم (ص) والذين آمنوا معه وبعده بَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وكل ذلك في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)" أيْ وهؤلاء حتماً لهم كل خيرٍ ونصرٍ وعِزَّةٍ وسعادةٍ في الداريْن وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها.. " أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)" أيْ هذا بيانٌ لخيرات وفلاحات وسعادات الآخرة.. أيْ جَهَّزَ الله لهم في أخراهم عطاءً كبيراً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً يَتَمَثّل في جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)" أيْ ذلك كله الذي نُعطيهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)" أيْ وحَضَر المُعْتَذِرون الذين لهم عُذْر من الأعراب – وهم البدو الذين يعيشون بالصحراء حيث الجهاد يشمل الجميع علي قَدْر استطاعة كلّ أحد – يَطلبون الإذْن لكي يُؤْذَن أيْ يُسْمَح لهم في عدم الخروج للجهاد، وبعضهم عُذْره مَقْبُول فيَتِمّ الإذْن له وبعضهم لا يُقْبَل عذره.. ".. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.." أيْ هذا بيانٌ لفريقٍ آخر من الأعراب وهم المنافقون الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخفون الكفر وهو الذى قَعَدَ وتَخَلّفَ عن الخروج للجهاد بغير عُذْرٍ مَقْبُوٍل ولم يَجيء للاعتذار أصلاً مُخَالِفين بذلك للإسلام أولئك الذين كَذَبوا الله ورسوله في إدِّعاء الإيمان بهما.. ".. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)" أيْ سيَأتِي ويَسْتَهْدِف الذين أصَرُّوا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب – إلاّ أن يتوبوا – عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شديدٌ مُهين، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسِب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)"، "وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)" أيْ هذا بيانٌ للأعْذار المَقْبُولَة عند الله تعالي للقعود عن الجهاد بالقتال لدَفْع المُعتدين علي الإسلام والمسلمين.. أيْ ليس علي أصحاب الأعذار من الضعفاء وهم الذين لا قوة لهم على القيام بتكاليف القتال كالشيوخ والعَجَزَة والنساء والأطفال، والمرضي وهم الذين مَرِضوا بأمراضٍ أضعفت قُدْرَتهم علي القتال لكن هؤلاء عُذْرهم يَنتهي بشفائهم، والذين لا يجدون ما ينفقون وهم الفقراء القادرون على قتال الأعداء ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه للتّجَهُّز لمَطالِبه، ليس علي كل هؤلاء ومَن يشبههم مِمَّن له عُذْر حقيقيّ لا وَهْمِيّ مقبول عند الله تعالي يوم القيامة حَرَج أيْ مُؤَاخَذَة أو عِتاب أو عقاب أو ضيق أو إحراج أو شعور بارتكاب ذنبٍ أو نحوه في الدنيا ولا إثم في الآخرة في أنْ يَقعدوا عن الجهاد في سبيل الله.. ".. إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.." أيْ إذا أخْلَصُوا لله ورسوله، أيْ بشرط أن يتمسَّكوا ويعملوا بوصاياهما أيْ بكل أخلاق دينهما الإسلام، ويَدعوا الجميع ما استطاعوا لها، ويُحْسِنوا أي يتقنوا في كل ذلك، ويُخْلِصوا فيه أيْ يَطلبوا فقط حب ربهم ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه ورزقه وقوته وبالجملة سعادته التامّة في دنياهم ثم أعلي درجات جناته في أخراهم ولا يطلبوا أيِّ سمعةٍ أو جاهٍ أو رِياءٍ أيْ يُرُوا الناس ما يمدحونهم عليه، وأن يكون مِن نواياهم بداخل عقولهم أثناء قعودهم أنهم لو قَدَرُوا لجاهدوا، وأنْ يفعلوا ما يستطيعون من أجل التشجيع علي الجهاد والترغيب فيه والمَنْع من التّخَلّف عنه، وأنْ يمتنعوا تماماً قطعاً عن إثارة الفِتَن والشائعات التي تُفَرِّق وتُضْعِف، وأن يَسْعوا فى إيصال الخير إلى أهالي المجاهدين الذين خرجوا للجهاد ويقوموا بمصالحهم، وبالجملة فَهُم وإنْ كان لهم عُذْر في القعود عن الجهاد إلاّ أنَّ عليهم أنْ يقوموا بما يستطيعونه، وسيكون لهم حتماً أجورهم الدنيوية والأخروية علي كل ما يُقَدِّمونه، من فضل الله وكرمه ورحمته.. ".. مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.." أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا حَرَجَ علي المُحسنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم.. أىْ ليس لأيِّ أحدٍ أيّ طريقٍ لمُؤَاخَذة هؤلاء المُحسنين بسبب تَخَلّفهم عن الجهاد لأنهم بعُذْرٍ حقيقيٍّ مَقْبُولٍ ولأنهم نَصَحُوا لله ورسوله.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه يغفر للمُسِيئين فكيف بالمُحسنين؟! إنه حتماً يزيدهم مغفرة ورحمة ورَفْعَاً لدرجاتهم وسَتْرَاً لتقصيرهم الذي قد يَحدث منهم بصِفتهم بَشَر لا ملائكة.. إنه من مَغفرته ورحمته عَفْوه عن العاجِزين وعدم طَلَبه منهم ما لا يستطيعون بل وإثابتهم علي نواياهم الحَسَنَة وعلي ما يُقَدِّمونه قَدْر استطاعتهم حتي ولو كان قليلا.. "وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)" أيْ هذا بيانٌ وتخصيصٌ وتمييزٌ لصنفٍ من الذين لا يَجدون ما يُنفقون من المسلمين من المُفْتَرَض أنهم مع الذين ذُكِرُوا سابقاً لكنْ يَخُصّهم الله تعالي بالذكر لتشريفهم ولتكريمهم ولبيان عظيم مَكَانتهم وأجرهم في الدنيا والآخرة بسبب حُسْن نواياهم ليَقتدي بهم مَن أراد الاقتداء ليَنال ما نالوا وهم الذين يَحزنون ويَتألّمون أشدّ الحزن والألم ويَظهر ذلك في أنْ تَدْمع عيونهم علي فوات فرصة المشاركة في هذا الشرف العظيم شرف الجهاد في سبيل الله وفوات فرصة الشهادة حيث يكون الشهيد حيَّاً يُرْزَق عند ربه في أعلي درجات الجنات مع النّبِيِّيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين ويُعَوِّضُون ذلك بالقيام بما يستطيعون دفاعاً عن الإسلام والمسلمين.. إنه بمِثْل هذه المشاعر وهذه النوايا والأقوال والأفعال الصادقة والحرص الشديد علي الدفاع عن الإسلام والمسلمين يَنتصرون ويَسعدون في الداريْن.. أي وكذلك لا حَرَجَ وما مِن سبيلٍ علي الذين إذا حَضَروا إليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسئول مِن بَعْده لكي تَحملهم إلي ساحاتِ الجهاد أيْ تُعطيهم ما يُحْمَلون عليه أيْ يَرْكبونه ويَحملون عليه سلاحهم ومُعِدّاتهم من مركباتٍ ونحوها، فقلت لهم مُعْتَذِرَاً لا أجد ما أحملكم عليه، فانصرفوا عنك وعيونهم تَسِيل منها الدموع بكثرةٍ حزناً وألَمَاً أنْ فاتهم شرف الجهاد في سبيل اللَّه لأنهم لا يَجدون ما يُنفقون ولا ما يُحْمَلُون عليه
ومعني "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)" أيْ ليس السبيل مطلقاً علي السابق ذِكْرهم أصحاب الأعذار الصادقة الحقيقية المَقْبُولة عند الله تعالي إنما السبيل أيْ الطريق إلي المُؤَاخَذَة والعِتاب والعِقاب و الضيق والإحراج والشعور بارتكاب ذنبٍ في الدنيا والإثم في الآخرة يكون علي الذين يَطلبون الإذْن بالتّخَلّف عن الجهاد في سبيل الله بغير عُذْرٍ مَقْبُولٍ، جُبْنَاً وحِرْصَاً علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم ونسيانا لأجر الدنيا والآخرة، وهم أغنياء أيْ يملكون كل وسائل الجهاد من مالٍ وقوةٍ وعُدَّةٍ وقادِرون عليه ولا عُذْر لهم مالياً أو جسدياً أو غيره في القعود عنه.. ".. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ.." أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من ذَمِّهم وتَحقيرهم.. أيْ لأنهم قَبِلُوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف أيْ الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عُذْرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما، ولا يَرْضى بهذا حتماً إلا مَن هانَت كرامته واعتاد الذلّة والإهانة!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (87) من هذه السورة الكريمة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)" أيْ وبسبب نفاقهم حيث يُظْهِرُون الخير ويُخْفُون الشرَّ وبعضهم يُظْهِر الإسلام ويخْفي الكفر، وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ، كانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا أنْ طَبَعَ الله علي قلوبهم فصاروا لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم.. إنهم قد اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما هم فيه وأصرّوا تماما عليه حتي وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة نفاقهم وعِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُدْ حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! فهو لا يفقه ما فى الإسلام والجهاد من الخير والسعادة والعِزّة في الداريْن وما فى النفاق والجُبْن عن الجهاد من الشرّ والتعاسة والذلّة فيهما.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وفي هذا تنبيهٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
ومعني "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)" أيْ يعتذرون إليكم دائما أيها المسلمون في تَخَلّفهم عن الجهاد هؤلاء المنافقون المُتَخَلّفون عنه رغم قُدْرتهم عليه، ومَن يَتَشَبَّه بهم، إذا عُدْتم إليهم بعد جهادكم للأعداء، بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ لكي تُسَامِحُوهم وتَعفوا عنهم ولا تُعاقبوهم بما يُناسبهم.. ".. قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.." أيْ قل لهم ولأمثالهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لا تُقَدِّموا مثل هذه الأعذار الكاذبة لأننا لن نُصَدِّقكم لأنَّ الله تعالي قد أخبرنا بعضاً من أخباركم مِمَّا هو بدواخلكم من خلال وَحْيه لرسوله (ص) بما يُفيد كذبكم ونفاقكم وفسادكم وهو النبأ المُؤَكّد الصادق الذي يُكَذّبكم وبالتالي فليس لاعتذاركم أيّ فائدةٍ فوَفّرُوا جهودكم فلن يُقْبَل منكم.. ".. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ.." أيْ هذا تهديدٌ لهم على نفاقهم وكذبهم وفسادهم.. إنه تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب، كما أنه تشجيعٌ لهم علي التوبة وإعطاؤهم فرصة ليتوبوا.. أيْ وسيَرَيَ الله ورسوله عملكم الذي سيكون منكم بعد ذلك هل تتوبون مِمَّا أنتم فيه أم تُصِرُّون عليه فيُعَذّبكم بما يُناسبكم ويُظْهِر نفاقكم لتُعَاقَبوا وذلك من خلال فَلَتَات أقوالكم وأفعالكم السيئة المُتَكَرِّرة؟!.. هذا في دنياكم.. ".. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)" أيْ ثم في أخراكم تُرْجَعون وتُعَادُون وتُبْعَثون بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً إلي الله تعالي خالقكم الذي هو وحده سبحانه العالم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه.. إنه بالتالي وقطعا هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من تأكيدهم أعذارهم الكاذبة بأيْمانٍ كاذبة.. أيْ سيُقْسِمون بالله لكم أيها المسلمون إذا رَجَعْتم إليهم بعد جهادكم لأعدائكم كاذِبين مُعْتَذِرين بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ لكي تُعْرِضوا عنهم أيْ تَبْتَعِدُوا عنهم فلا تُعاتِبوهم ولا تَلُوموهم ولا تُؤَاخِذوهم ولا تذمّوهم ولا تُسائلوهم ولا تُعاقبوهم بما يُناسبهم وتُسَامِحُوهم وتَعفوا عنهم.. ".. فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ.." أيْ فابتعدوا عنهم كما يريدون، ليس لتحقيق إرادتهم وإرضائهم والعفو عنهم ومُسَامَحَتهم، ولكنْ لإهمالهم وتَرْكهم واحتقارهم، لأنهم رِجْسٌ أيْ نَجَسٌ أيْ أصحابُ نجاسةٍ أيْ قَذَارَةٍ أيْ هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يَفْعَل مِثْلهم؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسونه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. هذا في دنياهم.. وفي أخراهم ".. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه، إضافة إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمن لا للعذاب والشقاء والخوف!.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. ".. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)" أيْ جزيناهم جزاءً شديداً كهذا بسبب وبمِقْدار ما كانوا يعملون من سوءٍ في حياتهم، إضافة بالقطع إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم، بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، بصورةٍ ما من صور العذاب، بما يُناسب أفعالهم، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا أيضا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)" أيْ يُقْسِمون بالله دائما لكم أيها المسلمون هؤلاء المنافقون كاذبين مُعْتَذِرين بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ ليس فقط لتُعْرِضُوا عنهم فلا تُعاتِبوهم ولا تُعاقِبوهم وإنما أيضا لتَرْضَوْا عنهم أيْ لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا، فهُمْ يَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)" أيْ فإنْ ترضوا عنهم أيها المسلمون – على سبيل الفَرْض لأنَّ الرضا عمَّن لا يَرْضَىَ عنه الله تعالى مِمَّا لا يمكن أن يَحْدُث من مسلمٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه – فإنَّ رضاكم عنهم أنتم وحدكم لن ينفعهم حتماً بأيِّ شيءٍ ولن يمنع عنهم أيَّ عذابٍ لأنَّ الله لا يَرْضَىَ أبداً عن الأناس الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعته والإسلام من أمثال هؤلاء وغيرهم مِمَّن يُصِرُّون ويَستمرّون علي فِسْقِهم، ومَن لا يرضي الله عنه لا يحبه ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب فساده.. وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. والمقصود التأكيد علي مَنْع المسلمين من الرضا عن أمثال هؤلاء وعن الانخداع بأعْذارهم وأيْمانهم الكاذبة بعد التوجيه للإعراض عنهم في الآية السابقة حيث لا يَصِحّ ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يرضوا عن مَن لم يَرْض اللّه عنه بل عليهم أن يَرضوا ويُحِبّوا ما يرضاه ويحبه الله تعالي ولا يقبلوا ويكرهوا مطلقاً ما لا يرضاه ويكره.. إنَّ أمثال هؤلاء وغيرهم من الفاسقين لو أرادوا الرضا فلْيَطلبوا رضا الله تعالى لا رضا المؤمنين وحدهم بأن يَتركوا فِسْقهم ويعودوا لأخلاق إسلامهم
ومعني "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)" أيْ هذا بيانٌ وإرشادٌ لصنفٍ من المنافقين غير السابق ذِكْرهم الذين يعيشون في المُدُن ولهم إمكانات فكرية وعلمية ومالية وغيرها أمَّا هذا الصنف فيعيش في الصحراء ويَغْلِب عليه الجهل والعُزْلَة والخُشونة من تأثير البيئة عليه ولذلك يحتاج من المسلمين لمزيدٍ من الحذر من نفاقهم وكفرهم ومزيدٍ من الاهتمام بدعوتهم لله وللإسلام وتثقيفهم وتعليمهم وتطوير بيئتهم لأنهم لو أسلموا لكانوا قوة ونفعاً للإسلام وللمسلمين لِمَا فيهم من شجاعةٍ وإقدامٍ وشِدَّةٍ وصلابةٍ وتَحَمُّلٍ وصَبْر.. أيْ الأعراب وهم البدو الذين يعيشون في الصحراء قليلي العلم والخبرة والتّطَوُّر أكثر من كفار ومنافقي المُدُن شَدَّة في الكفر وهو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وأكثر شِدَّة في النفاق وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر أو إظهار الخير وإخفاء الشرّ مع أنهم مسلمون لا كفار، وذلك بسبب بيئتهم الشديدة والتي تُؤَثّر فيهم فتجعلهم غالباً في عُزْلَةٍ وبُعْدٍ عن العلم والعلماء وجَهْلٍ وغِلْظَةٍ وخُشُونَةٍ وقِلّةِ تَطَوُّرٍ وكثرةِ ارْتِحَالٍ وعدمِ استقرارٍ وقُدْرَةٍ علي التآلُف مع الآخرين، وذلك بخلاف سُكّان المُدُن والقُرَيَ.. ".. وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.." أيْ وهم لذلك بالتالي أيضا أحقّ أنْ لا يَعْرِفوا واجبات ووَصَايا وتشريعات وأخلاقيات ونُظُم ما أنزله الله علي رسوله (ص) في الإسلام الذي بالقرآن العظيم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)" أيْ وبعضٌ من منافقي الأعراب مَن يَعْتَبِر ما ينفق في سبيل الله مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير، يَعْتَبِره مَغْرَمَاً أيْ غَرَامَة وخُسارة عليهم بلا مُقَابِل لأنهم لا يُنفقون ما يُنفقونه طَلَبَاً لثوابٍ أو خوفاً من عقابٍ وإنما ينفقونه رياءً للناس أي لِيُرُوُهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بإنفاقهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنَّ بعضهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله واليوم الآخر أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن وبعضهم مسلمون لكنْ منافقون يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرَّ ويُنفقون مُكْرَهِين إتّقاءً للمسلمين ومحاولة منهم ليَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بين المسلمين ينتفعون بحُسْن معاملتهم معهم وفي ذات الوقت يُمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينهم والكَيْد لهم.. هذا، ولفظ "ومِن" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها ليسعد في الداريْن لأنَّه ليس كلهم يفعلون ذلك.. ".. وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ.." أيْ وكذلك من عداوتهم وكراهيتهم لكم ينتظر ويَتَرَقّب ويَتَمَنّي بكم المصائب والحوادث والآفات والأوبئة ونحوها تدور وتَلفّ عليكم وتحدث لكم كما تُحيط الدائرة بما في داخلها والتى تُغَيِّر حالكم من الخير للشرّ ومن النصر للهزيمة ومن الأمن للخوف ومن السعادة للتعاسة، وذلك حتي يَتخلّص منكم ومن الإنفاق بل ومن نظام الإسلام ذاته!.. ".. عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ.." أيْ لكنْ عليهم هم لا عليكم أنتم أيها المسلمون ستَدُور دائرة السوء أيْ التي تُسِيء إليهم ولا تَسُرُّهم والتى يَتَبَدَّل بها حالهم إلى كل سوءٍ وتعاسةٍ في الداريْن أمَّا أنتم فلكم دائرة الحُسْن حيث كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما ما دُمْتُم عامِلين بأخلاق إسلامكم.. إنَّ من معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أيضا أنها دعاء عليهم بمِثْل وبسبب ما يَتَرَبَّصون به بالمسلمين.. إنَّ أمثال هؤلاء ومَن يشبههم، وفي مُقابِل سوئهم الشديد هذا، يُقابلهم الله بما يُناسبه مِن عذابٍ سَيِّءٍ في دنياهم قبل أخراهم، ففي الدنيا تُحيط بهم دائرةٌ مِن العذاب السَّيِّء الشَّرِّيِّ المُهْلِك – مِثل الدائرة الهندسية – بحيث لا يُمكنهم أبدا الإفلات منه، وكل ما يفعلونه مِن سوءٍ يَدور ويَلِفّ ويَعود عليهم هم ويُحيط بهم مع الوقت مِن سوءِ تصرّفاتهم، وهذا العذاب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة، فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال والنوايا لجميع خَلْقه، في العَلَن أو في السِّرّ، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. وفي هذا أيضا مزيدٌ من تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها ليسعد في الداريْن لأنَّه ليس كل الأعراب مُسِيئين كالذين سَبَقَ ذِكْرهم.. أيْ ومن البدو الذين يَسْكنون الصحراء من يُصَدِّق بوجود الله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر حيث حسابه وعقابه وجنته وناره ويعمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ.." أيْ ويَعْتَبِر كل ما ينفق في سبيل الله مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون، يَعْتَبِره قُرُباتٍ أيْ طاعاتٍ وتَقَرُّباتٍ أيْ وسائل مُقَرِّباتٍ إلي ما عند الله من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ووسائل لنَيْل دعوات واستغفارات الرسول (ص).. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ لأنْ يدعو المسلمون بالخير لفاعِلِي الخير كتشجيعٍ لهم علي مزيدٍ منه ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ.." أيْ إنَّ ذلك حاصلٌ لهم حتماً.. أيْ هذه النفقات وكلّ مثل هذه الأعمال والأقوال الصادقة بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ طاعة لهم، عظيمة مَقْبُولة قبولاً مُؤَكّدَاً وصارَت قُرْبَة لهم عنده تعالي تُوصلهم إلى ما يريدون من سعادتيّ الدنيا والآخرة.. وهذه شهادة لهم منه سبحانه بصِدْق إيمانهم ونواياهم وقبول أعمالهم وتحقيق طَلَبهم بمُجازاتهم عليها قطعاً بما يَسْتَحِقّون بكل كرمٍ وفضلٍ ورحمة.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.." أيْ هذا وَعْدٌ وتَبْشِيرٌ مُؤَكّد لهم.. أيْ حتماً بالتأكيد أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم سيُدْخِلهم وسيَغْمُرهم الله بسبب ذلك في جملةِ مَن يَرْحمه مِن الصالحين في تمام رحمته في دنياهم حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)" أيْ لأنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)" أيْ هذا بيانٌ للمَكَانَة العظيمة في الدنيا والآخرة التي وَصَلَ إليها المسلمون الأوائل الذين سَبَقوا إلي الإسلام في عصر الرسول الكريم (ص) من الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار وذلك لكي يَقْتَدِيَ بهم كل مسلمٍ لِيَصِلَ إلي ما وصلوا إليه من سعادة الداريْن وذلك من خلال أن يكون دوْمَاً مُبَادِرَاً أيْ مِن السابقين الأوَّلِين أيْ سَبَّاقَاً سريعاً مِثْلهم أول مَن يَصِل إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ قَدْر استطاعته وبالجملة إلي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه التي تُنَظّم له كل شئون حياته علي أكمل وَجْهٍ فيسعد في كل لحظاتها ثم في آخرته.. أيْ والمسلمون الأوائل الذين سَبَقوا إلى الإسلام أولا قبل غيرهم، من المهاجرين وهم الذين فارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها مع رسول الله (ص) في هجرته من مكة إلي المدينة من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها، ومن الأنصار وهم الذين كانوا بالمدينة فأحسنوا استقبال المهاجرين إليهم بأن نصروهم وعاوَنوهم وتَقَاسَمُوا معهم أموالهم وأرزاقهم وتآخوا وتآلفوا وتَحابّوا وتَلاَحَمُوا جميعا وتعامَلوا بالإسلام فيما بينهم ونشروه لغيرهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ ودافعوا عنه ضدّ مِن اعتدي فسعدوا في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ.." أيْ والذين اتّبعوا وساروا خَلْف ذات طريق السابقين فى الإسلام من المهاجرين والأنصار، وهم المسلمون في كل زمانٍ ومكانٍ إلي يوم القيامة، اتّبعوهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادة، أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنَّ هذا هو الطريق لسعادتهم التامَّة مِثْلهم في الداريْن، اتّبعوهم فى عملهم بكل أخلاق إسلامهم ونَشْرهم إيَّاه ودفاعهم عنه ونَصْرهم له وللمسلمين وللحقّ والعدل والخير.. ".. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.." أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لجميع أمثال هؤلاء لتشجيع ولدَفْع كلّ بني آدم ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أيْ بكلِّ تأكيدٍ لقد أحبهم الله وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن.. ".. وَرَضُوا عَنْهُ.." أيْ وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم الذي يرضيهم به في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة من السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.." أيْ وكذلك جَهَّزَ وهَيَّأ لهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)" أيْ ذلك العطاء الذي لا يُوصَف هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالمنافقين المُحيطين بالمسلمين وبصنفٍ منهم علي درجةٍ عاليةٍ من إتقان النفاق ليَحذروهم أشدّ الحَذَر عند التعامُل معهم حيث بعضهم يَظْهَر نفاقه أحيانا من فَلَتَات أقواله وأفعاله السَّيِّئة المُتَكَرِّرَة لكنْ بعضهم يُجيد ويُتْقِن إخفاء سُوئه فلا يَظْهَر عليه، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، وأيضا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وبعضٌ من الذين حولكم وحول مُدُنِكم خارجها التي تسكنون فيها، من الأعراب وهم البدو الذين يسكنون الصحراء ويَغْلِب عليهم الجهل والعُزْلَة والخُشونة من تأثير البيئة عليه ولذلك يحتاج منكم لمزيدٍ من الحذر من نفاقهم وكفرهم ومزيدٍ من الاهتمام بدعوتهم لله وللإسلام وتثقيفهم وتعليمهم وتطوير بيئتهم لأنهم لو أسلموا لكانوا قوة ونفعاً للإسلام وللمسلمين لِمَا فيهم من شجاعةٍ وإقدامٍ وشِدَّةٍ وصلابةٍ وتَحَمُّلٍ وصَبْر، بعضهم منافقون، أيْ يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر أو يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ مع أنهم مسلمون لا كفار، وكذلك بعضٌ من سُكَّان مُدُنِكم ذاتها بداخلها أيضا منافقون.. ".. مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.." أي وكُلّ هؤلاء سواء بالداخل أم بالخارج مُتْقِنُون للنفاق فكونوا أكثر حَذَرَاً منهم لأنهم ليسوا كسابقيهم من المنافقين الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة والذين لهم زَلّات كثيرة في أقوالهم وأفعالهم تُظْهِر نفاقهم ولكنْ هؤلاء مَرَدُوا علي النفاق أيْ تَمَرَّنوا عليه وأجادوا فنونه واستمرّوا بفِعْله وازدادوا منه حتى بلغوا فيه الغاية من المَهَارَة والاحتراف بحيث لا تعلمهم أيها المسلم لكنَّ الله تعالي العليم الخبير وحده يعلمهم بكمال علمه الذي يُحيط بكل شيءٍ وسيُفْشِل عداواتهم ومَكائدهم ويُؤَيِّدكم فتَهزموهم.. ".. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)" أيْ سنُعَذّبهم بالتأكيد كثيرا، مَرَّة بعد مَرّة، فهذا أحيانا هو الذي يُقْصَد بلفظ مَرَّتَيْن في اللغة العربية كما قال تعالي " ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ.." (الملك:4) أي ثم أعِدْ النظر كثيراً وليس مرّتيْن فقط، وقال "رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ.." (الأحزاب:68) أيْ عذاباً مُضَاعَفاً.. أيْ سنُعَذّبهم عذاباً مُؤْلِمَاً مُوجِعَاً شديداً مُهِينَاً، كثيراً مُتَكَرِّرَاً، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسِب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم يُرْجَعون في الآخرة إلي ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يعترفون بذنوبهم فيتوبون عنها سريعاً فتكون بذلك دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)" أيْ هذا تشجيعٌ كبيرٌ لكلّ المسلمين أنْ لا يُصِرُّوا أبداً علي سُوئهم بل يعترفوا به ويتوبوا عنه مُسْرِعين ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما علي قَدْره.. أيْ وآخرون – غير السابق ذِكْرهم الذين يُسيئون ويُصِرُّون علي إساءاتهم بلا أيَّ توبة – لم يُصِرُّوا علي ذنوبهم بل اعترفوا أيْ أقَرُّوا بها حيث قد جَمَعوا عملاً صالحاً أيْ خَيْرِيَّاً مُفيداً مُسعداً لهم ولغيرهم في دنياهم وأخراهم بعملٍ آخر سيئاً أيْ شَرِّيَّاً ضارَّاً مُتْعِسَاً فيهما فتابوا منها سريعاً أوَّلاً بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين راجِين مُتَمَنّين بتوبتهم هذه أن يتوب الله عليهم.. ".. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ هؤلاء المذكورون لعلّ الله بسبب ذلك أنْ يغفر لهم ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل تنبيههم علي أهمية التوبة السريعة والتي بدونها لن ينالوا وعده سبحانه..".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)" أيْ لأنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)" ايْ اقْبَلْ يا رسولنا الكريم ويا كل مسئول مِن بَعْدِه بعضاً مِن أموال المسلمين صدقة مُحَدَّدَة وهي الزكاة المفروضة عليهم إنْ كانوا من أصحاب الأموال والتي يُثابُ فاعلها ويَأثم تاركها، وصدقة غير مُحَدَّدَة كصدقة التّطَوُّع في أيِّ وَجْهٍ من وجوه الخير المُتَنَوَّعَة حسبما يستطيعون والتي يَتَطوَّعون بها والمُسْتَحَبّ فِعْلها لأجرها وخيرها المُسْعِد في الداريْن ولا يأثم مَن لم يفعلها، والتي بها يَتَطَهَّرون أيْ يَتَخَلّصون من ذنوبهم التي فعلوها حيث تُكَفّرها بحسناتها ويَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل بأنْ تَشْغَل فِكْرهم ووقتهم بكلّ خُلُقٍ خَيِّرٍ، وبها يَتَزَكُّون أيْ يَرْقُون ويَنْمُون ويَسْمُون في الأخلاقيَّات والمعاملات والأموال والأعمال الصالحة والأفكار الخَيْرِيَّة الرَّاقِيَة فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيَسعدون وتَرْفع درجاتهم عند الله فيُجازيهم بما يُناسبهم من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. ".. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.." أيْ وادْعُ لهم يا مَن تأخذ صدقاتهم، عموماً وخاصة عند أخْذ الصدقة منهم، بالمغفرة والرحمة والمزيد من التوفيق والتيسير لفِعْل كلّ خيرٍ وبالخير والبركة والأمن والسعادة في الداريْن، لأنَّ دعاءك سَكَنٌ لهم أيْ استقرارٌ وأمنٌ وطمأنينة وهدوءٌ وتَبْشيرٌ وتنشيط لهم للمزيد وشعورٌ بالتآلف والتراحُم والتحابّ والتعاون والتكامُل بين الجميع وبالجملة سعادة لهم ولمَن حولهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة، فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال والنوايا لجميع خَلْقه، في العَلَن أو في السِّرّ، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)" أيْ هذا تشجيعٌ كبيرٌ لكلّ المسلمين ولكلّ الناس أنْ لا يُصِرُّوا أبداً علي سُوئهم بل يعترفوا به ويتوبوا عنه مُسْرِعين ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما علي قَدْره.. أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء التابئون من ذنوبهم وغيرهم من جميع البَشَر، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنَّ الله هو وحده الذي يَقْبَل أيْ يُوافِق علي ويَرْضَيَ التوبة الصادقة مُتَجَاوِزاً عن سيِّئات عباده الصادقين في توبتهم ويُعْطِهم عليها أعظم الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم وذلك مهما كان ذنبهم كبيراً كثيراً بل هو ينتظر كلَّ تائبٍ ويَفرح بعودته للخير ليَسعد ولا يُعَذّبه في دنياه وأخراه لأنه خَلْقه وصَنْعته وكلّ صانِعٍ يحب لصنعته الخير.. هذا، وصِدْق التوبة يكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ.." أيْ وهذا تشجيع علي الإنفاق علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. أيْ وهل لم يعلموا أيضا أنه هو وحده الذي يقبل الصدقات الطيِّبات الصادِقات سواء أكانت مُحَدَّدَة وهي الزكاة المفروضة عليهم إنْ كانوا من أصحاب الأموال والتي يُثابُ فاعلها ويَأثم تاركها أم غير مُحَدَّدَة كصدقة التّطَوُّع في أيِّ وَجْهٍ من وجوه الخير المُتَنَوَّعَة حسبما يستطيعون والتي يَتَطوَّعون بها والمُسْتَحَبّ فِعْلها لأجرها وخيرها المُسْعِد في الداريْن ولا يأثم مَن لم يفعلها؟!.. وقبوله تعالي لها يعني رضاه عنهم وإعطائهم عليها أعظم الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم وذلك مهما كانت قليلة.. وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا إذ يأخذ منه بذاته العَلِيَّة ما يُنفقه هو له سبحانه وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضاله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد والتشجيع علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وألم يعلموا كذلك أنَّ الله هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تابَ إليه أيْ رَجَع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من العاملين بكل خيرٍ التاركِين لكل شَرٍّ من خلال تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك في كل شئون حياتك طوال عُمْرك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنه بانتشار عمل الخير والصواب والحقّ والعدل بين عموم الناس في كل مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والسياسية والإدارية والقانونية والاجتماعية والإعلامية والعسكرية والتجارية والزراعية والهندسية والطبية والفلكية والإلكترونية والعلمية والفنية والرياضية وغيرها، يسعد الجميع في دنياهم، ثم في أخراهم حينما يعودون إلي خالقهم حيث يجازيهم السعادة التامّة الخالدة في جناته التي لا يُوصَف نعيمها.. والعكس صحيح بالتأكيد، فبانتشار الشرّ يتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُشَجِّعَاً علي عمل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ، اعملوا الخير لتسعدوا في الداريْن واتركوا الشرَّ حتي لا تتعسوا فيهما، اعملوا خيراً ولا يَمنعكم مُطْلَقَاً ذنبٌ أذنبتموه من عمله بل توبوا منه سريعاً أوَّلاً بأوَّلٍ وسارِعوا بعمل خيرٍ بعده يَمْحُوه ويزيد ثوابه علي سُوئه.. كذلك من المعاني أن اعملوا ما شِئْتُم، فلكم الاختيار بكامل حرية إرادة عقولكم، فإنْ عملتم خيراً سَعِدْتُم به في دنياكم وأخراكم وإنْ عملتم شرَّاً تَعِسْتُم به فيهما.. ".. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ.." أيْ فإنَّ الله خالقكم الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ حتماً يَرَيَ ويَسمع ويَعلم كل أعمالكم وأقوالكم ما ظَهَرَ منها وما خَفي لا يَخْفَىَ عليه شيءٌ من عملكم خيراً كان أو شراً.. وفي هذا مزيدٌ من التشجيع للمُحْسِنين علي فِعْل الخير حيث يَطّلِع عليه كله سبحانه ويُجازي في مُقَابِله كل خيرٍ وسعادةٍ بالدنيا والآخرة، كما أنه تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُسيئين حيث يُجازيهم بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهما.. ".. وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.." أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التشجيع لكلّ مُحْسِنٍ ليَزداد حُسْنَاً ومزيدٌ ومزيدٌ من التهديد والتحذير لكل مُسِيءٍ لعله يمتنع عن سُوئه، حيث الرسول الكريم (ص) في زمنه وكل مسئولٍ مِن بَعْده وعموم المسلمين سيَرَوْن وسيَعلمون بالتأكيد أعمالكم وأقوالكم الظاهرة لهم الخَيْرِيَّة والشَّرِّيَّة منها وسيكون تعاملهم معكم علي أساسها فما كان منكم من خيرٍ شَكَرُوكم عليه وعاوَنوكم علي المزيد منه ودعوا لكم بكل خيرٍ وسعادةٍ وسَعِدْتُم جميعا بحُسْن التعامُل في دنياكم وشَهِدوا لكم به يوم القيامة حيث تمام السعادة بنعيم جناتٍ لا يُوصَف وما كان منكم من شَرٍّ نَصحوكم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ فإنْ استجبتم سَعِدَ الجميع وإنْ لم تستجيبوا تَعِسْتم حيث تُعاقَبون بما يُناسِب شروركم في دنياكم وأخراكم.. وذلك لأنَّ المسلمين شهداء الله في الأرض والرسول (ص) شهيد علي الجميع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (143) من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..").. ".. وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)" أيْ وهذا كذلك مزيدٌ من التشجيع لكلّ مُحْسِنٍ ليَزداد حُسْنَاً ومزيدٌ من التهديد والتحذير لكل مُسِيءٍ لعله يمتنع عن سُوئه.. أيْ وفي أخراكم ستُرْجَعون وتُعَادُون وتُبْعَثون بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً إلي الله تعالي خالقكم الذي هو وحده سبحانه العالم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه.. إنه بالتالي وقطعا هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُرْجِئون التوبة، أيْ لا يُؤَخّرونها ويُؤَجِّلونها، فإنك لا تضمن انتهاء الأجل ومَجِيء الموت متي يكون (برجاء مراجعة الآية (102) من هذه السورة، للشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات التوبة من الذنوب والاعتذار عن الأخطاء، في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)" أيْ وهناك ناس آخرون وقعوا في الذنوب ولم يتوبوا منها، غير الآخرين الذين اعترفوا بذنوبهم في الآية (102) وتابوا منها فتاب الله عليهم، مُرْجَوْنَ أيْ مُرْجَئون أيْ مُؤَجّلون انتظاراً لكي يَظهر أمر الله في شأنهم، وذلك لعدم توبتهم بَعْد، إمَّا يُعَذّبهم في الداريْن بما يُناسب شرورهم إذا أصَرُّوا واستمرّوا علي سُوئهم وإمَّا يتوب عليهم إذا تابوا أيْ رَجَعوا إليه وعملوا بأخلاق إسلامهم بأنْ استغفروا بلسانهم علي ما فَعَلوه مِن شرورٍ ونَدموا بداخل عقولهم وعَزموا بداخله علي عدم العودة للشرّ ورَدُّوا الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وفي هذا تشجيعٌ ودَفْعٌ ضِمْنِيٌّ لكلّ مُسِيءٍ أن يُسارِع بالتوبة ليَضْمَن المغفرة لأنه لا يعلم متي أجله وإلا إذا لم يَتُبْ قبل موته فأمره غير مَضْمونٍ حيث هو لله تعالي وحده إمّا يُعَذّبه وإمّا يتوب عليه، ورحمة الله واسعة وهي تَسبق غضبه.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُؤَسِّسُون مراكز الخير والنفع لعموم الناس وينشرونها ويدعمونها ويَتَجَمَّعون حولها ويجتذبون الآخرين لخيرها ونفعها، سواء أكانت أماكن التَّجَمُّع هذه هي مساجد أو مُؤَسَّسات خيريّة أو مراكز بَحْثِيَّة دراسيّة أو مُنْتَدَيات فكريّة ثقافيّة أو ما شابه هذا.. وإذا لم تكن من الذين يُؤَسِّسون مراكز الشرّ والضرَر والفساد.. إنَّ نَشْر الخير والنفع والصلاح وأخلاق الإسلام بين جميع البَشَر والعمل علي وحدتهم وتآلفهم وتعاونهم، يُسْعِد في الدنيا والآخرة، بينما نشر الشرور والمَفاسد والأضرار بينهم، والكفر والشرك والنفاق والظلم، والفُرْقَة والخِلاف والتّباغُض والتّقاطُع والفِتَن والضعف، يُتْعِس فيهما
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض أصنافٍ من المنافقين شديدي الضرر والخَطَر ليَحذرهم المسلمون أشدّ الحَذَر فيُحْسِنوا التعامُل معهم ليسعد الجميع.. أيْ ومنهم الذين جعلوا مسجداً – بل مساجد ومراكز ونوادي ونحوها – لكي يكون إضراراً أيْ إيذاءً وإيقاعاً للشرّ للمؤمنين بكل أنواع الضرر والإيذاء وليس طاعة لله، وتَقْوِيَة وتعزيزاً ونَشْرَاً للكفر الذي يُخفونه أيْ للتكذيب بالله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وليكون تفريقاً بينهم وإشاعة للخِلاف والتّباغُض والتّقاطُع والفِتَن لمَنْع تَآخِيهم وتَحَابّهم وتَآلُفهم وتَفاهُمهم وتَمَاسُكهم وتَعاوُنهم فيضعفون، وكذلك ليكون إرصاداً لكل مَن حارب الله ورسوله أيْ انتظاراً وتَرَقّبَاً ورَصْدَاً وإعداداً لهم أيْ مكاناً ووَكْرَاً وحِصْنَاً ومَلْجَأ لالتقاء المُحاربين لدين الله ورسوله (ص) أيْ المُعَادِين الكَائِدين للإسلام والمسلمين بكل صور العَداء والحرب والكَيْد والتّآمُر.. ".. مِنْ قَبْلُ.." أيْ هذا مزيدٌ من ذَمِّهم.. أيْ مِن قبل بناء مسجداً ضِراراً، بما يُفيد أنَّ لهم سَوَابِق كثيرة متنوّعة في مُحَارَبَة الله ورسوله (ص).. ".. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى.." أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من ذَمِّهم علي صفةٍ من صفاتهم الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ وكعادتهم حينما ينكشف أمرهم فإنهم بالتأكيد سيَحلفون بالكذب ما كُنَّا نريد إلا الفِعْلَة والحالة الحُسْنَي أيْ العمل والواقع الحَسَن أيْ الخير للإسلام والمسلمين!!.. إنهم يَحلفون إتّقاءً للمسلمين ومحاولة منهم ليَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينهم ينتفعون بحُسْن معاملتهم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينهم والكَيْد لهم.. فاحذروهم بالتالي أيها المسلمون حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)" أيْ وهذا مزيدٌ من الذّمّ والتّحْقِير لهم.. أيْ والله حتماً يعلم أنهم لا يقولون الحقيقة بكل تأكيدٍ في أقوالهم وأيْمانهم وشهاداتهم والتي تُخالف تماماً ما يخفونه داخل عقولهم والذي يعلمه بتمام العلم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخفي منه ولا يغيب عنه شيء، وكفَيَ به سبحانه شاهدا فشهادته حتما هي الكاملة الصادقة العادلة، وسيُحاسبهم ويُعاقبهم علي كل ذلك بما يُناسب في دنياهم وأخراهم.. فلْيَحْذَر إذَن أمثال هؤلاء وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات
ومعني "لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)" أيْ لا تَقُمْ للصلاة في ذلك المسجد الذي بُنِيَ ضِرَارَاً أبداً في أيِّ وقتٍ من الأوقات يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا في أيِّ مكانٍ يُشْبِهه، لأنه تَأَسَّسَ من الأصل علي الإضرار والإفساد فهو للشرِّ لا للخير، وغيره كثيرٌ مِمَّا أنِشِيء لطاعة الله ونَفْع وإسعاد الإسلام والمسلمين والناس جميعا، فمَسْجِدٌ ومكانٌ أُسِّسَ أيْ بُنِيَ وَوُضِعَ أساسه مِن أوّل يومٍ ابتدأ تأسيسه وبناؤه علي التقوي أيْ علي الطاعة لله والإخلاص له والتقوية للإسلام والمسلمين أيْ علي الخير والنفع والإسعاد واتّقاء كلّ ضَرَرٍ مُتْعِسٍ أيْ اتّقاء كلّ شرٍّ يُبْعِد ولو للحظة عن حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة، بكل تأكيدٍ أحقّ أيْ أوْلَي وأكثر استحقاقا أن تقوم فيه للصلاة وللذكر ولفِعْل كلّ خيرٍ وأن تَتَوَاجَد وتَرْتَبِط به فهو مكانٌ فاضلٌ يعود عليك قطعاً بخَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الداريْن.. ".. فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لأحَقّيَّة القيام في أمثال هذه المساجد ومزيدٌ من المَدْح والتكريم والتشريف لها وللمسلمين الذين يعمرونها ليَدْفعهم ذلك للمزيد من إنشائها وتعميرها لينالوا عظيم الأجر في دنياهم وأخراهم من خلال مشاركتهم في بنائها وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن ومن خلال جَعْلها وهي بيوت الله تعالي في أرضه المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين لتكون من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم.. أيْ أحقّ أن تقوم فيه لأنه أُسِّسَ علي التقوي ولأنَّ فيه رجال يُحِبّون دائماً أن يَتَطَهَّرُوا أي يَتَنَزَّهوا ويَبتعدوا عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُوا أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك، فهو بالجملة مكانٌ مملوءٌ علي الدوام بالطهارة والطاهرين والخير والخَيِّرين والسعادة والسعيدين يُحبه الله تعالي وبالتالي يُعظم الأجر فيه.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)" أيْ والله حتماً يحبّ المُتَطَهِّرين، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُطّهرين
ومعني "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان لأحَقّيَّة القيام في أمثال هذه المساجد ومزيدٌ من المَدْح والتكريم والتشريف لها وللمسلمين الذين يعمرونها ليَدْفعهم ذلك للمزيد من إنشائها وتعميرها لينالوا عظيم الأجر في دنياهم وأخراهم، مع التحذير والتهديد الشديد من إقامة مساجد ومراكز ضِرار تُتْعِس فيهما.. أيْ هل البناء كمسجدٍ وغيره الذي أسَّسَ بُنْيانه أيْ جُدْرانه وأعْمِدَته وتفاصيله، أو هل الإنسان الذي أسَّسَ بُنيانه أيْ بناء دينه الذي يَدين به أيْ نظام حياته الذي يعمل به، علي أساسٍ متينٍ مُحْكَمٍ قوَيٍّ هو الحقّ الذي هو التقوى أيْ الخوف من الله وطلب رضوانه بطاعته، خيرٌ أيْ نَفْعٌ وحُسْنٌ وصلاحٌ وسعادةٌ في الداريْن، أم البناء والدين الذي تمَّ تأسيسه علي أساسٍ هو أضعف الأُسُس وأقلّها بقاءً وأسرعها انهياراً وزَوَالاً وهو الباطل والكفر والنفاق والشرّ والفساد والضرر ونحوه والذي هو علي شفا جُرُفٍ هَارٍ أيْ علي حافّة رملٍ مَجْرُوف أيْ تَمَّ جَرْفه أيْ كَسْحه وإذهابه بالمِجْرَفَة هارٍ أيْ ساقِطٍ يَنْهَار من أعلي لأسفل وذلك بسبب قِلّة ثباته وتَمَاسُكه؟! إنه كبيتٍ من رَمْلٍ بُنِيَ علي حافة بعضِ رملٍ تَمَّ جَرْفه ببعضِ ماءٍ أو هواءٍ بما يعني أنه قابلٌ للانهيار مع أيِّ ريحٍ حتي ولو كانت خفيفة!!.. كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! فالأول حتماً ثابتٌ قويٌّ دائمٌ مُسْتَمِرٌّ مُفيدٌ مُسْعِدٌ للجميع في الدنيا والآخرة بينما الثاني قطعاً مُنْهارٌ هَزيلٌ زائلٌ مُؤَقّتٌ مُضِرٌّ مُتْعِسٌ لهم فيهما.. ".. فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.." أيْ فأدَّى به ذلك حتماً إلى الانهيار والسقوط في عذاب نار جهنم يوم القيامة والذي لا يُوصَف بما يُناسب شروره، وذلك بعد ما يَحْدُث له بالقطع في الدنيا من عذابٍ حيث الانهيار التامّ النفسيّ والفكريّ والماديّ لأهل الشرِّ والباطل، وما يَتْبَعه من تعاساتٍ ومرارات، كما يُثبت الواقع هذا كثيراً، لأنه لا أساس صلب متين له، والانتصار التامّ المُسْعِد في المُقابِل في كل مجالات الحياة لأهل الخير والحقّ، وذلك يَحدث بقوة الله وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبعونه وتوفيقه ثم بيقظة المسلمين ونَشْرِهم لإسلامهم ودفاعهم عنه وكَشْفِهم لأمثال هؤلاء السفهاء والتحذير منهم.. إنَّ المقصود من هذا المَثَل الذي يَضربه تعالي بيان ثبات الحقّ الذى هو دين الإسلام وقوّته ودَوَامه وسعادة أهله به، وبيان اهتزار الباطل الذي هو كل ما يُخالِف أخلاق الإسلام وضعفه وعدم استمراره وتعاسة فاعِلِيه.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الظالمين ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ للظالمين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)" أيْ هذا بيانٌ لحال أمثال هؤلاء المُسيئين السابق ذِكْرهم حيث هم فى كل زمانٍ ومكانٍ يعيشون طوال حياتهم فى ريبة أيْ في شكّ أيْ في قَلَقٍ وتَوَتّرٍ واضطرابٍ وتعاسةٍ بسبب الخوف الدائم من أن ينكشف سُوؤهم ومَكْرهم وخِداعهم وغَدرهم فيُعَاقَبوا بما يُناسبهم في دنياهم قبل أخراهم.. أيْ سيَظلّ هذا البناء الذي بَنوه وهذا السوء الذي أساؤوه أمثال هؤلاء مَصْدَر وسبب اضطرابٍ وخوفٍ وشقاءٍ في قلوبهم أيْ عقولهم ومشاعرهم لا ينتهى ما داموا أحياء إلاّ فقط إذا حَدَثَ أنْ تتقطّع قلوبهم بالندم الشديد والتوبة الشديدة الصادقة أثناء حياتهم وبذلك يتوب الله التواب الرحيم عليهم وينتهي اضطرابهم، أو أنْ تَتَقَطّع بالموت والهلاك حينما يأتي موعد موتهم أو هلاكهم الذي حدَّده الله تعالي لهم وهم مُصِرُّون علي ما هم فيه وحينها فقط ينتهي قلقهم وعذابهم الدنيويّ لا ليرتاحوا ولكن لكي يبدأ عذابهم الأخرويّ الذي لا يُوصَف!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)" أيْ هذا تَشجيعٌ وتَرْغِيبٌ شديدٌ لكلّ مسلمٍ لكي يُشارك في هذه الصفقة التجارية الأعظم والأَرْقَيَ علي وجه الأرض، لأنَّ المشتري هو الخالق الكريم ويشتري بذاته العَلِيَّة سبحانه، والبائع هو الإنسان وهو أكرم مخلوق خَلَقه تعالي وسَخَّرَ له الكوْن كله لينتفع وليسعد به، والسلعة هي أغلي ما يُمْتَلَك وهي النفس والتي هي نفخة من روحه عَزّ وجَلّ، والمال، والوَعْد هو أحقّ وَعْد لأنه مِمَّن لن يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَاً، والصحيفة التي كُتِبَ فيها هذا العَهْد هي أصْدَق وأوْثَق وأطهر وأضمن وأقْوَم صحيفة وهي القرآن الكريم، والذي نَقَلَه هو أشرف الخَلْق وسَيّدهم ذو الخُلُق العظيم الرسول الكريم محمد (ص)، والثمن هو أعلي سعر علي الإطلاق وهو أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا.. أيْ إنَّ الله تعالي يُؤَكّد وَعْده أنه قد اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم في مُقابِل ذلك الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف، من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته حيث يَقْبَل العِوَض عمَّا يَملكه ويَشتريه بثمنٍ وهو المالِك لكلّ شيءٍ من نفسٍ ومالٍ وغيره، وذلك لأنهم يَبذلون كل أنواع الجهود ويَجتهدون في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)، فهُمْ يُجاهِدون في سبيل اللَّه فيَقتلون أعداء اللَّه أو يُسْتَشْهَدون في سبيله.. إنهم يُقاتلون في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. إنهم لهم هذا الأجر العظيم سواء قَتَلُوا فانتصروا وسعدوا في دنياهم قبل أخراهم أو قُتِلُوا فاسْتُشْهِدُوا فنالوا أعلي درجات أخراهم.. ".. وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي هذا الوعد.. أيْ هذا الوعد بالجنة قد جعله سبحانه من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته حقّاً لهم عليه وأثبته لهم فى كل الكتب السماوية التى أنزلها على رسله الكرام منذ بَدْء الخَلْق والتي فيها الإسلام الذي يُناسب كل عصر وأواخرها التوراة التي أنْزِلَت علي موسي (ص) وبعدها الإنجيل الذي أنْزِلَ علي عيسي (ص) وخاتمها حتي يوم القيامة القرآن العظيم الذي أنْزِلَ علي الرسول الكريم محمد (ص).. إنه الوعد الحقّ أيْ الصدْق المُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه، فهو تعالي حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يُنَفّذ ما وَعَدَ به ولا يُمكن مُطلقاً أن يُخْلِفَ وَعْدَاً قَطَعَه علي ذاته العَلِيَّة فهو قادر قطعاً علي ذلك وعلي كل شيء.. ".. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي هذا الوعد.. وهذا استفهامٌ للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أوْفَىَ بوَعْده إذا وَعَد أيْ يَلْتَزِم به ويُنَفّذه بتمامه بلا أيِّ إخلافٍ من الله، فلا أحد أصْدَق من الله قولاً في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم (ص)، ولا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يَكْذِب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله، وبالجملة فإنَّ الإخْلاف مرفوضٌ لا يَفعله الكِرام فكيف يكون من الله؟!.. ".. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ.." أيْ فإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فافرحوا واسعدوا وارضوا أيها المؤمنون أشدّ وأتَمّ الفرح والسعادة والرضا بالبشارة التي تنتظرون تَحَقّقها والتي يُبَشّركم بها ربكم الكريم الرحيم الودود ذو الفضل العظيم بسبب بيعكم وشرائكم هذا الذي بِعْتُم به أنفسكم وأموالكم وهي الزائلة حتماً يوماً مَا لله واشتريتم منه أغلي وأعظم سلعة وهي الجنة الباقية الخالدة بنعيمها الذي لا يُوصَف.. ".. وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)" أيْ وذلك البيع والشراء الذي فازوا به بالجنة هو حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من التائبين من ذنوبك أوَّلاً بأوَّل والعابدين أيْ الطائعين لله تعالي وحده والشاكرين له علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والسائحين المُسافرين في كل خيرٍ بكل مكانٍ والراكعين الساجدين المُقيمين للصلاة في أوقاتها والداعين لله وللإسلام والمحافظين علي كل حلالٍ بلا وقوعٍ في أيِّ حرام
هذا، ومعني "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بصفات الإسلام الطيِّبَة الحَسَنَة ليجتهدوا جميعا في أنْ يَتّصِفوا بها كلها لينالوا كلهم تمام خيرِ وأمنِ وسعادةِ الدنيا والآخرة.. أيْ إنَّ أوصاف المسلمين المُبَشَّرين بالخير والأمن والسعادة في الداريْن أنهم هم التائبون مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لهم سعادتهم التامّة بإسلامهم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وهم ".. الْعَابِدُونَ.." أيْ الطائعون لله تعالي وحده ولا يُشركون معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وهم ".. الْحَامِدُونَ.." أيْ الشاكرون لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، ليَجِدُوها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدهم ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وهم ".. السَّائِحُونَ.." أيْ المُتَحَرِّكون في كل خيرٍ يحبّه الله ورسوله في كل شئون الحياة المُتَنَوِّعَة، لأنفسهم ولغيرهم، وعند بعض العلماء هم الصائمون.. وهم ".. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ.." أيْ المُقِيمُون للصلاة أيْ المُوَاظِبُون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، كذلك من معاني "الراكعون الساجدون" إقامة الشعائر عموماً إذ هي تُحَرِّك مَشاعِر الحبّ والشّوْق والرَّغْبَة والرَّهْبَة والأمن والرضا وقوة الإرادة ونحوها بداخل العقل فتدفعه لحُسْن التعامُل مع الآخرين في كل وقتٍ وفي أيِّ مجالٍ فيَسعد بذلك وهي تشمل – مع الصلاة – الذكر والاستغفار وقراءة القرآن والعمرة والحج للمستطيع ونحو ذلك (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وبالجملة فإنَّ من معاني "الراكعون الساجدون" أنهم الطائعون لله تعالي المُتَّبِعون لكل أخلاق الإسلام حيث الركوع والسجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها.. وهم ".. الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ.." أيْ الطالِبُون من أنفسهم وغيرهم والمُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، والمَانِعُون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ.." أيْ وهم بالجُمْلَة المُحَافِظون تماماً دائماً علي حَوَاجِز الله تعالي من تشريعاتٍ وواجباتٍ وأخلاقيَّاتٍ ونُظُمٍ ووصايا يُوصِيهم بها في القرآن والإسلام والتي عليهم ألاّ يعتدوا عليها بأنْ يَتَعَدُّوها ويَتَجاوَزُوها لأنْ تَعَدِّيها وتَجَاوُزها يُوقِعهم فيما هو مُحَرَّم عليهم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تَضَرُّهم وتُتْعِسهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائماً المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المؤمنون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم (ص) قُدْوَة لك (برجاء مراجعة الآية (33)، (34) من سورة آل عمران، ثم الآيات (74) حتي (79) من سورة الأنعام، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُحْسِنَاً للدعوة إلي الله تعالي والإسلام صَبُورَاً رقيقاً حَلِيمَاً مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فأنت وكل مسلم رحمة للعالمين كما كان قدوتنا الرسول (ص) وصحابته الكرام، ولا تتوَقّف عن هذا أبداً إلاّ عندما يَتَبَيَّنَ لك بأدِلّة قاطعة أو بقَرَائِن حين تجتمع بعضها لبعض فتُصبح دليلاً علي أنَّ مَن تَدعوه هو عدوٌّ لله تعالي وللإسلام والمسلمين والأبرياء والخير والحق والعدل، حينها سيَحتاج الأمر لتغيير أسلوب التعامُل حسبما تحتاج الأحوال، فقد تَتَطَلّب الظروف أحيانا الغِلْظَة والكلام الشديد أو المُقَاطَعَة أو كشف الحقائق والمُعَاقَبَة أو حتي المُقَاتَلَة لمَن يبدأ ويعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنبي كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم، ولا كذلك الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أنْ يَطْلُبوا المَغْفِرَة للمشركين وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه، حتي ولو كانوا أصحاب قَرَابَة كآباء وأبناء وإخوة ونحوهم، وذلك مِن بعد ما تَبَيَّنَ لهم أيْ اتّضَحَ وتأكّدَ بلا أيِّ شكّ للنبي وللذين آمنوا أنهم أيْ هؤلاء المشركين أهل النار بسبب مَوْتِهم علي شِرْكِهم وعدم إسلامهم، فلا يَستغفروا لهم بعد الموت لأنه تعالي أخبرهم بأنه لا يَغفر للمشركين إذا ماتوا كذلك فيَحْرُم عليهم هذا لأنَّ استغفارهم حينها سيكون مُخَالَفة لربهم أمَّا أثناء حياتهم فتُطْلَب الهداية لهم ولأشباههم لعلهم يستفيقون ويُسْلِمون ليسعدوا في الداريْن لأنَّ المسلمين رحمة للعالمين وهذا من باب البِرِّ بهم والإشفاق عليهم وحُسن التعامُل معهم ودعوتهم للخير الذي يُوصِي به الإسلام
ومعني "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)" أيْ ولم يَكُن ما فَعَله إبراهيم (ص) من الاستغفار لأبيه إلاّ تحقيقاً لوَعْدٍ منه له بأن يَدعو ويستغفر له رجاء إيمانه، كما قال تعالي في الآية (47) من سورة مريم "قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً" ، فلمَّا تَبَيَّنَ لإبراهيم أيْ اتّضَحَ له وتأكّد بلا أيِّ شكّ أنَّ أباه عدوٌّ للَّه بإصراره على الشرك حتى مات عليه، تَبَرَّأ منه وتَرَكَ الاستغفار له، والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف، فلا حُجَّة مُطلقاً لكم بالتالي إذَن أيها المسلمون في أن تستغفروا للمشركين والكافرين ومن يَتَشَبَّه بهم بعد تأكّدكم أنهم قد ماتوا علي شِرْكِهم وكُفْرِهم.. ".. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا دَفَع إبراهيم (ص) للاستغفار لأبيه رغم قَسْوَته عليه، وهي صفات كريمة لكل الرسل الكرام علي المسلمين أنْ يَتَشَبَّهوا بها ليُحْسِنوا دعوة غيرهم لله وللإسلام لينالوا عظيم الأجر في الداريْن مِثْلهم.. أيْ إنَّ إبراهيم بالتأكيد أوَّاهٌ أيْ رقيق المشاعر يحبّ للجميع الخير والسعادة ويَسعد حينما يَرَاهم كذلك بسبب ارتباطهم الدائم بربهم ودينهم الإسلام ويَحْزَن ويُكْثِر مِن قولِ آهٍ آهٍ مُتَأَلّمَاً ومُسْتَغْفِرَاً ورَجَّاعَاً لربه حينما يَرَيَ شَرَّاً وبُعْدَاً عنهما، ثم هو حليمٌ أيْ شديد الصبر علي مَن يَدعوهم يُقابِلهم بكل خيرٍ حتي ولو قابَلُوه هم بكلِّ شَرّ.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَرْك الاستغفار لمَن مات علي الشرك لأنه إذا كان إبراهيم (ص) الذي هو بهذه الصفات تَرَكَه فمِن باب أوْلَيَ أنتم أيها المسلمون
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مِن المُصِرِّين علي عدم تقوي الله تعالي أيْ المُسْتَمِرِّين المُدَاوِمِين المُوَاظِبين علي فِعْل ما يُخَالِف شرعه الإسلام لأنَّ الإصرار يُؤَدِّي غالباً للإدمان للفساد وعدم القُدْرَة علي العودة عنه فيُؤدّي للضلال أيْ الضياع بفِعْل مزيدٍ من الشرور والمَفاسد والأضرار بما يُؤَدِّي بالتالي لتمام التعاسة في الداريْن
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الإصرار علي المعاصي.. أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الكريم الغفور الرحيم الودود الذي يحب لخَلْقه سعادتهم في دنياهم وأخراهم لأنه ما خَلَقَهم إلاّ لهذه السعادة فيهما لِيَظلم أحداً بأيّ ذرَّة ظلم ويَستحيل ذلك بأنْ يُضِلّ أناساً أيْ يُوقِعهم في الضلال أيْ الشرِّ والفساد بعد أنْ هداهم للإسلام حتي يُوَضِّحَ لهم تماماً ما الذي عليهم أن يَتّقوه أيْ يَتَجَنّبوه من شرٍّ وما الذي عليهم أن يفعلوه من خيرٍ وذلك من خلال كتبه التي أرسلها مع رسله فيها الإسلام الذي يُناسب كل عصر وآخرها القرآن العظيم، فإذا لم يَتّقوه وفَعَلوا الشرَّ وتَرَكُوا الخيرَ وأصَرُّوا عليه بلا أيِّ توبةٍ وعودةٍ عنه ورجوعٍ لربهم ولإسلامهم فعند ذلك يَسْتَحِقّون الإضلال بمعني أنه تعالي لا يُوَفّقهم للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لهم لأنهم يَشاءون الضلالة ولم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)" أيْ إنَّ الله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم (ص) وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)" أيْ إنَّ الله تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ الملك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)" أيْ وأيضا ليس لكم أيها الناس غير الله تعالي الخالق الرازق المُعِين الرحيم الودود أيّ وَلِيّ وأيّ ناصر يَتَوَلَّيَ أموركم فيُعِينكم ويَنصركم ويَمنع الضرَرَ عنكم في كل شئون حياتكم.. ومَن كان الله وَلِيّه ونَصيره فسيُوَفّر له حتماً في دنياه وأخراه الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها.. وفي المُقابِل مَن ابتعد عن ربه وإسلامه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فأمثال هؤلاء عند نزول ما يُناسبهم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ لا يَجدون أيَّ وَلِيٍّ أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافِع عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)" أيْ هذا تذكيرٌ بأهمية خُلُق التوبة من كلّ شَرٍّ أوّلاً بأوَّل وتشجيعٌ عليها، لتعود للتائب سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ.. إنه بالرغم أنه من المعلوم أنَّ الأنبياء لا يفعلون أيَّ شَرّ، ولكنْ ذِكْر النبي (ص) في الآية الكريمة هو للتذكير بأنَّ التوبة هي خُلُق طيِّب مُلاَزِم لكل الرسل الكرام ولكل الصالحين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ليَتَشَبَّه بهم كل مسلم، كما يُفيد أنَّ كل القادة والمسئولين غير الرسل هم بَشَر قد يقعون في الشرّ والخطأ فعليهم أن يعودوا عنه سريعاً بالتوبة وأن يَتَجَنّبوه مستقبلا بالشوري دائما مع المُتَخَصِّصين الأمناء وذوي الخبرات منهم دون الانفراد والاستبداد بالرأي والذي هو أصل الشرور والأخطاء.. إنَّ الآية الكريمة تُفيد أيضا أنَّ الذي يتمسّك ويعمل بكل أخلاق الإسلام ويَدعو له ويُدافِع عنه ويُجاهِد في سبيله وقد يَتَحَمَّل أحيانا بعض المَشَقّات من أجل هذا هو الأحقّ والأجْدَر بتوبة ربه ورضاه ورفع درجاته حينما يُخطيء ويُسارِع بالتوبة، فدرجته ولا شكّ أعلي مِمَّن يتوب وهو لا يفعل ذلك.. أيْ لقد غَفَر الله للنبي بالتأكيد ورَفَعَ درجاته بسبب دوام استغفاره، وكذلك يَغفر لكلّ مَن يَتَشَبَّه به من المهاجرين وهم الذين فارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها مع رسول الله (ص) في هجرته من مكة إلي المدينة، أو بعده في أيِّ زمانٍ ومكان، من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها، ومن الأنصار وهم الذين كانوا بالمدينة، وكذلك الذين في أيِّ مكانٍ بعد زمنه (ص)، فأحسنوا استقبال المهاجرين إليهم بأن نصروهم وعاوَنوهم وتَقَاسَمُوا معهم أموالهم وأرزاقهم وتآخوا وتآلفوا وتَحابّوا وتَلاَحَمُوا جميعا وتعامَلوا بالإسلام فيما بينهم ونشروه لغيرهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ ودافعوا عنه ضدّ مِن اعتدي فسعدوا في الداريْن، وكذلك يَغفر لكل مَن يَتَشَبَّه بهم في كل عصر، وذلك لأنهم اتّبَعوه في ساعة العُسْرَة أيْ ساروا خَلْفه وكانوا معه مُتمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم داعِين ناشِرين له مُدَافِعين عنه ولم يَتَخَلّفوا عن ذلك في كل الأوقات خاصة في وقت الشدّة من بعد ما قَارَبَ يَمِيل ويَبْتَعد عقول فريق منهم عن اتّباعه من عظيم الشدائد التي يَمرّون بها ولكنهم لم يَزيغوا ولم يَضِلّوا بل صَبَروا جميعاً واستعانوا بربهم وتوكّلوا عليه واعتصموا به ومَرَّت الشدائد وانتهوا إلى الاطمئنان والسعادة باتّباع الإسلام.. ".. ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم ورحمته التامّة بهم لمزيدٍ من طمأنتهم وتَبْشِيرهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم ورحمته التامّة بهم لمزيدٍ من طمأنتهم وتَبْشِيرهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ لأنه هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ بهم رؤوف رحيم أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)" أيْ وكما غفر الله تعالى بفضله وكرمه ورحمته وإحسانه للمهاجرين والأنصار تَقَبَّل كذلك توبة الثلاثة من الرجال الذين تَخَلّفوا عن الخروج مع الرسول (ص) في غزوةٍ هامّةٍ تحتاج لوجود كل مسلم بغير عذرٍ مَقْبُولٍ كَسَلاً وحباً للراحة وليس نفاقاً أو إضعافا للإسلام والمسلمين والذين قد ظَهَر صِدْق توبتهم بأنْ حزنوا حزناً شديداً بسبب تَخَلّفهم بلا عذرٍ إلي الحَدِّ الذي ضاقت عليهم الأرض رغم سَعَتها غمًّاً ونَدَماً بسبب هذا التخَلّف وضاقت عليهم حتي أنفسهم لِمَا أصابهم من الهَمّ والحزن وأيقنوا أن لا ملجأ ولا مَهْرَب من غضب وعقاب الله إلا باللجوء والعودة إليه باستغفاره واتّباع إسلامه، حينها تابَ عليهم، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم وطمأنتهم وإسعادهم، ليتوبوا أيْ ليَظَلوا علي توبتهم متمسّكين بها مستمرّين عليها ولا يعودوا لسوءٍ وليتوبوا مستقبلا لو صَدَر منهم خطأ مَا ولا ييأسوا أبداً من واسع رحمته ليعيشوا دائما في سعادات رحماته بعدما ذاقوا مرارات تعاسات معصيته، وذلك لأنَّ الله هو التواب الرحيم أيْ لأنه هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تاب إليه ورجع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقين.. وإذا كنتَ من الصادقين
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوه وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)" أيْ وكونوا دَوْمَاً مع الصادقين وهم الذين يكونون في الدنيا عابدين أيْ مُطِيعين لله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ عاملين بأخلاق إسلامهم ويُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق الإسلام ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. إنه بالتقوي وبالصدق سيَسعدون حتماً تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، بينما بعدم التقوي وبالكذب سيَتعسون قطعاً فيهما
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)"، "وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لسُكّان المدينة وهم الذين يعيشون في المُدُن ولهم إمكانات فكرية وعلمية ومالية وغيرها ولا لمَن حولهم من الأعراب وهم البدو الذين يعيشون في الصحراء قليلي العلم والخبرة والتّطَوُّر لكن فيهم شجاعة وإقدام وشِدَّة وصلابة وتَحَمُّل وصَبْر، والمقصود جميع المسلمين علي اختلاف قُدْراتهم وإمكاناتهم علي قَدْر استطاعاتهم، أن يَتَرَاجَعوا عن رسول الله (ص) ويَتركوه في زمنه ومِن بعده عند نشر الإسلام والدعوة له والدفاع عنه بكل ما يَملكون مِن قوَيَ لأنَّ ذلك يَتَنَافَيَ مع الإيمان بالله وبه (ص)، وليس لهم كذلك أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أىْ ليس لهم أن يَتَرَفّعوا بأنفسهم عن نفسه بأنْ يَكرهوا لأنفسهم المَكَارِه ولا يَكرهوها له (ص) بل عليهم أن يعكسوا الأمر أيْ ليس لهم أنْ يُؤْثِرُوا ويُقَدِّموا أنفسهم بالراحة على نفسه بأن يتركوه يَتَعَرَّض وحده لللآلام والأخطار دون أن يُشارِكوه فى ذلك بل الإيمان يجعل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله فى البأساء والضراء والعُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمَكْرَه فبَذْل النفس من أجل الله والرسول (ص) والإسلام عند الاحتياج لبذلها للدفاع عنهم أوْلَيَ وأحقّ وأجْدَر مِن حفظها لأنه بدونهم لا قيمة لوجود أيّ نَفْسٍ أصلا! لأنها ستكون مِن شِدَّة تعاستها بفقدانهم كأنها مَيِّتَة!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (6) من سورة الأحزاب " النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ..").. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم الأجر الذي ينتظرهم في دنياهم وأخراهم وهو الدافع الشديد الذي يَدْفعهم لاتّباعه ولعدم التّخَلّف عنه (ص) بعد دافِع حبه وحب ربهم وإسلامهم ويقينهم أنه هو الذي يُسعدهم في الداريْن، مع بيانِ أنَّ مَن لم يَفعل ذلك سيُحْرَم هذا وسيُعَاقَب بما يُناسب من عقابٍ وتعاسةٍ فيهما.. أيْ ذلك الذى نُوصِيهم به من وجوب اتّباع الرسول (ص) والنهى عن أن يَتَخَلّفوا عنه ويُخَالِفوه بسبب أنهم لا يَحْدُث لهم أيُّ عَطَشٍ ولا تَعَبٍ ولا مَجَاعَةٍ في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، ولا يَطَئُون مَوْطِئَاً أيْ يَدُوسُون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم وبمُعِدَّاتهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم وإضعافهم وهزيمتهم ولا يأخذون مِن عدوٍّ مِن أعدائهم أخْذَاً مَا كقتلٍ أو أسْرٍ أو غنيمةٍ أو هزيمةٍ أو غيره، إلا كُتِبَ لهم بكلِّ واحدٍ مِمَّا ذُكِر عمل صالح ينالون بسببه الثواب الجزيل من الله في الدنيا والآخرة، لأنه سبحانه لا يضيع مطلقا أجر المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم لا في دنياهم حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم ولا في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد وإنما يكافئهم بسبب إحسانهم بالأجر العظيم فلهذا لا ينبغي لهم أن يَتَخَلّفوا عن رسول الله (ص) حتى لا يَفوتهم هذا الأجر الذي لا يُوصَف.. "وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)" أيْ وكذلك لا يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان إنفاقاً صغيراً أم كبيراً وسواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، وأيضا لا يَقطعون وادياً أيْ لا يَسيرون طريقاً من أجل فِعْل أيّ خيرٍ في سبيل الله في أيِّ مكان، إلاّ كَتَبَ الله لهم ثواب كلّ ذلك فى سِجِّل حسناتهم.. ".. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)" أيْ ليُعْطِيهم الله بذلك في دنياهم وأخراهم جزاءً أحسنَ مِن الذي كانوا يعملونه أي أفضل كثيراً وكثيراً منه، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف جزاءَ الأعمال الحَسَنَة أضعافاً مُضَاعَفة، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع، سبحانه الوهّاب الرزّاق الذي يرزق بغير حساب، وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية للذين آمنوا وعملوا الصالحات كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَخَصِّصَاً، ومُتَعَلّمَاً لا جاهلاً، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، لأنه بانتشار العلم والعلوم والعلماء يَرْقَيَ الناس في معاملاتهم ويتطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الجهل والجهلاء يتخلّفون ويتعسون فيهما، سواء أكان تَخَصُّصَاً وعِلْمَاً شَرْعِيَّاً أو سياسياً أم إدارياً أم عسكرياً أم اجتماعياً أم قانونياً أم إعلامياً أم اقتصادياً أم تجارياً أم صناعياً أم زراعياً أم طبياً أم هندسياً أم الكترونياً أم فلكياً أم رياضياً أم فنياً أم بيئياً أم غيره من أيِّ علمٍ خَيْرِيٍّ مُسْتَحْدَث ينفع البشرية ويُطَوِّرها ويسعدها، مع استصحاب ما أمكنك من نوايا خير بعقلك أثناءها لتُثاب عليها أعظم الثواب في دنياك وأخراك.. إنَّ الآية الكريمة تَرْفَع من شأن العلم والتّخَصُّص والعلماء والمتعلمين والمُتَخَصِّصِين، فتُسَاوِيه بالجهاد في سبيل الله في مكانته وفضله، بل وقد يُقارِبه في الأجر الدنيويّ والأخرويّ، علي حسب كل فردٍ وقُدْرته وتَخَصّصه وأدائه وإحسانه وعدم تقصيره فيما هو مطلوب منه ويستطيعه ويقوم به قَدْر استطاعته ويحتاجه الإسلام والمسلمون والدولة المسلمة وكل المواطنين فيها علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم، بل الآية الكريمة تُحَذّر من خروج الجميع للقتال ضدّ مَن يَعتدون بالقتال مع تَرْك شئون الحياة لِتَخْرَب!!.. إنَّ الجهاد في سبيل الله ما شُرِعَ في الإسلام إلاّ لحماية الحياة! حماية أن تكون حياة حقيقية سعيدة، وذلك بتقديم الحماية والدفاع عن الإسلام والمسلمين والأبرياء والخير والحقّ والعدل، وهم الذين يجعلونها حياة سعيدة، مُسْتَبْشِرَة بانتظارِ آخرةٍ أسْعَد وأخْلَد.. وكذلك العلم والتَّخَصُّص، فهما اللذان يُنْشِئان الحياة أصلا ويُصلحانها ويُكملانها ويُسعدانها، ولولاهما لخَربَتْ الحياة وحينها لن يكون للجهاد قيمة لأنه عن ماذا سيُدَافِع إذَن؟! ولهذا فكل من الجهاد والعلم المُتَخَصِّص مطلوب بذات الدرجة
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)" أيْ وبَعْد بيان عظيم الأجر الذي يَنتظرهم في دنياهم وأخراهم باتّباعه (ص) والتحذير الشديد من التّخَلّف عنه يُبَيِّن تعالي كيفية الخروج لصور الجهاد المختلفة حسب الاحتياج.. أيْ وكما أنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للمؤمنين أنْ يَتَخَلّفوا عن اتّباع الرسول (ص) كما في الآيتين السابقتين فإنه كذلك لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لهم أنْ يخرجوا للجهاد في سبيل الله جميعاً ولقتال عدوّهم المُعْتَدِيِ عليهم بالقتال إذا لم يَتَطَلّب الأمر ذلك لأنه سيَحصل لهم المَشَقّة بذلك وسيَفوتهم به كثير من المصالح الأخرى.. ".. فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)" أيْ فلو خَرَجَ من كل فرقة من المؤمنين طائفة أيْ مجموعة للجهاد وتَبْقَىَ طائفة أخرى منهم ولا تَخْرُج للجهاد ليَتَعَمَّقوا في الدين الإسلامي وفي كل تَخَصُّصات الحياة المتنوِّعَة ولكي يُحَذّروا قومهم الذين خرجوا للجهاد إذا رجعوا إليهم بعد قتالهم للعدو لعلهم يَحْذرون دائماً مُخَالَفَة أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما، فلو أنَّ المسلمين فَعَلُوا ذلك لكَاَنَ أوْلَيَ وأصْوَب وأكثر نَفْعَاً وجَمْعَاً للمصالح كلها من خروج الجميع للجهاد في سبيل الله ما دام الأمر لا يحتاج لخروجهم جميعا حيث القتال لا يحتاجهم كلهم بل يخرج العدد الذي يحتاجه القتال ومعهم تجهيزاتهم المناسبة التي تُحَقّق المطلوب وهو النصر علي المُعْتَدِين، بينما تَنْشغل كل فرقة أيْ كل مجموعة في تَخَصّصهم سواء أكانَ شَرْعِيَّاً أم غيره، وبكل إجادة، وليَحْذروا التقصير في العدد الذي يكفي لكلّ تَخَصُّص ولكل فروع التّخَصُّصات المختلفة حسبما يحتاجه المسلمون ويسعدهم، وإلاّ تَعِسُوا في دنياهم بعُلُوِّ غيرهم عليهم واستغلالهم لهم واستهزائهم بهم واستضعافهم وإذلالهم، ثم تعسوا في أخراهم بسبب تقصيراتهم هذه (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقاً تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة" من أجل اكتمال المعاني)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194)، ثم الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – قاتِلوا المُعْتَدِين عليكم بالقتال الذين يُجَاوِرُونكم الأقْرَب ثم الأبْعَد من الكفار وغيرهم حتى لا يكونوا مَصْدَر خَطَرٍ عليكم، وهذا أمر مَنْطِقِيّ عقليّ إذ كيف يُقْضَيَ علي مُعْتَدٍ بَعِيدٍ ويُتْرَك قريبٌ يَستمرّ في اعتدائه؟! إلا إذا كانت هناك حاجة لذلك، لحِصار القريب مثلا، فحِينَئذٍ يُبْدَأ بالأَبْعَد، حسبما يُقَدِّره المُتَخَصِّصُون الصالحون.. ".. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.." أيْ وعليكم أن تجعلوهم يَروا ويحسّوا فيكم شِدَّة وقوّة وشجاعة عند قتالكم لهم بحيث تَسْحَق أيَّ مُعْتَدٍ وتَمنع أيَّ أحدٍ أن يُفَكّر في الاعتداء مستقبلا.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)" أيْ واعْرَفُوا وتَأكَّدوا واطمَئِنّوا أنَّ الله ربكم الكريم القويّ العزيز دائما مع المتقين بعلمه وبقُدْرته يَنصرهم حتما ويُكرمهم ويعزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، فكونوا كذلك لتنالوا ذلك الوعد.. والمتقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند قتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)" أي وإذا كانت هناك سورة مَا مِن سُوَر القرآن الكريم واستمعها المنافقون وهم الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفُون الكفر ومَن يَتَشَبَّه بهم فمنهم مَن يقول لمَن حوله أمثاله ساخراً منها رافِضَاً لها مُسْتَعْلِيَاً عليها مُشَكّكَاً في قيمتها وتأثيرها أيّ أحدٍ منكم قد زادته هذه السورة وآياتها إيماناً أيْ تصديقاً بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسُّكَاً وعَمَلاً بأخلاق الإسلام؟! فأمّا الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فزادتهم حتماً إيماناً أيْ قوَّة في التصديق بوجوده – لتَدَبُّرهم العميق لكلّ مَعانيها – وفي أنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنَّ شرعه الإسلام هو وحده الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنه هو الذي يُوافِق العقل والفطرة، فازدادوا بهذا قوَّة وهِمَّة في حبِّ ربهم وفي العلم بدينه الإسلام والعمل بكل أخلاقه وفي الاستعداد التامّ الحَسَن بذلك للآخرة وفي الاستبشار بانتظار دوْمَاً كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، والخلاصة أنها زادتهم إسلاماً باستكمال كل أخلاقه، فعاشوا سعداء تماماً فيهما، فإسلام المسلم بالقطع يَزيد بمزيدٍ من عمله بأخلاقه ويَقِلّ بمِقْدار تَرْكه ومُخَالَفته ومَعصيته لها بعضها أو كلها (برجاء لاستكمال المعاني مراجعة الآية (4) من سورة الفتح "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.."، والآية (17) من سورة محمد "وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في قوله تعالي "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا.." (الحجرات:14) فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة
ومعني "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)" أيْ وأمَّا الذين في قلوبهم أيْ عقولهم مرضٌ مَا كنفاقٍ مثلاً أيْ إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو كشكّ في وجود الله أو تَرَدُّدٍ بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم تمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كرياءٍ أيْ ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحبون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، أو ما شابه هذا من تفكيرٍ مَرَضِيٍّ غير سَوِيّ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم فزادتهم حتماً حين يسمعونها رِجْسَاً إلي رِجْسهم أيْ قَذارَة وخُبْثَاً إلي قذارتهم وخُبْثهم حيث هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يَفْعَل مِثْلهم؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسونه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. إنهم يزدادون رِجْسَاً إلي رِجْسهم الذي هم فيه لأنهم كلما استمعوا لشيءٍ من آيات القرآن العظيم لا يؤمنون ويعملون بأخلاقها فيزداد بذلك كفرهم بها إضافة إلي كفرهم السابق بغيرها فيزداد قَلَقهم واضطرابهم وكآبتهم وتعاستهم لأنها تزيد التَّصارُع مع فطرتهم المسلمة بداخلهم والتي تدعوهم للخير دائما ولاتّباعه وتزيد خوفهم من انكشاف أمرهم حيث ستكون فضيحتهم كبيرة بسبب تَرَاكُم شَرِّهم.. إنهم كلما أصَرّوا علي الشرّ كلما أصبح مَرَضهم مُزْمِنَاً يصعب علاجه، كالذي يسير في طريقٍ خطأ، كلما طالَ سَيْره فيه، كلما ازداد بُعْده عن الطريق الصواب وصَعُب عودته إليه.. ".. وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)" أيْ وتَمَكَّنَ ذلك الرّجْس فيهم واستمرّوا مُصِرِّين عليه حتى ماتوا وهم كافرون بلا توبةٍ أيْ رجوعٍ إلي ربهم وإسلامهم فاسْتَحَقّوا بذلك ما هو أتمّ وأعظم وأخْلد عذاباً وشقاءً في أخراهم لا يُقارَن قطعاً بما كانوا فيه من عذابٍ وتعاسةٍ في دنياهم
ومعني "أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك مُصِرَّاً علي إغلاق عقله مُستمِرَّاً علي كفره ونفاقه وشَرِّه وفساده بلا أيِّ توبةٍ واتّعاظٍ بما يَحْدُث حوله، ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل لا يُشاهدون ولا يَتَدَبَّرون ولا يَعلمون هؤلاء المنافقون وأشباههم أنَّ الله يَفتنهم أيْ يَختبرهم في كل عامٍ مرة أو مرات بأنواع الاختبارات المختلفة مُتَمَثّلَة في بعض البلايا والمصائب كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفياضانات والأوبئة والأمراض مع فَضْح سُوئهم وكَشْف باطلهم وكَيْدهم ونَصْر المؤمنين عليهم وما شابه هذا مِن فِتَن، رحمة بهم، ليستفيقوا مِمَّا هم فيه من بَلادَة وغَفْلَة، ويعودوا له ولدينهم الإسلام وللخير وللسعادة في الداريْن بَدَل تمام التعاسة التي هم فيها فيهما؟! ثم هم بعد كل هذه الفِتَن النازلة بهم لا يتوبون من سُوئهم ولا هم يَذّكرون أيْ يَتّعِظون بما يَحْدُث لهم بل يُصِرُّون على ما هم فيه مع أنَّ من شأن الفِتَن والمصائب أنها تَدْفع كل صاحب عقلٍ للاعتبار والاتّعاظ والعودة عن الشرّ للخير!.. لقد وَصَل بهم السَّفَه وإغلاق العقل إلي الحَدِّ الذي لا يَتّعِظون بأنَّ مَا وَقَعَ لهم هو بسبب سُوئهم حيث مَن يَزرع سُوءَاً لا بُدّ أن يَحصد سوءاً لأنَّ هذا هو القانون العادل للحياة كما نَبَّه تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)" أيْ وإذا كانت هناك سورة مَا مِن سُوَر القرآن الكريم واستمعها هؤلاء المنافقون وأشباههم فإنهم بسبب صفاتهم السيئة التي يَتّصِفون بها والتي سَبَقَ ذِكْرها يَتَمَلْمَلُون وينظر بعضهم إلي بعضٍ نظرة ضيقٍ واستهزاءٍ ورغبةٍ في الانصراف لأنها تكشف سُوءهم وتزيدهم رِجْسَاً إلي رِجْسِهم وحينما تَحين لهم أيّ فُرْصَةٍ للتّخَلّص من هذا الاستماع الثقيل عليهم وحينما يطمئنون – كعادتهم الخَسِيسَة – أنهم لا يراهم أيُّ أحدٍ فإنهم حينها ينصرفون مُتَسَلّلين في الخفاء وكأنهم قد تَخَلّصُوا من قَيْدٍ أو سجن!!.. ".. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.." أيْ فلمّا انصرفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير صَرَفَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام وابتعدوا عنه، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا البُعْد والزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا البُعْد والزَّيْغ والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يَصرفهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء المُنْصَرِفِين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الانصراف والزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذابا مناسبا لشرورهم بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)" أيْ صَرَفَ الله قلوبهم بسبب أنهم أناسٌ لا يفقهون أي لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم
تفسير الآية (128)، (129)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)" أيْ هذا تذكيرٌ للمؤمنين بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة القرآن والإسلام الذي أرسله إليهم بوحيه لرسوله الكريم محمد (ص) ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. أمَّا غير المؤمنين فلا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ لقد وَصَلَ إليكم أيها الناس جميعا من فضل الله وإنعامه وكرمه ورزقه عليكم ووُدّه لكم رسولٌ من أنفسكم أيْ مَبْعُوثٌ هو منكم تعرفونه فيَسهل بالتالي عليكم تصديقه والثقة به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامكم عمليا فيَسهل عليكم أنتم أيضا تطبيقه، يقرأ عليكم ويُبَلّغكم آيات الله تعالي ويُذَكِّركم دوْمَاً بها، وآياته هي دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولكم يرشدكم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربكم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليكم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ.." أيْ وهذا الرسول الكريم كامِل الخُلُق فيه كل صفات الخير والرحمة يُعامِلكم بها ويَحملها لكم فآمِنُوا بالتالي به وبما جاءكم به من إسلامٍ واقتدوا بكل أخلاقه لتسعدوا تماما في الداريْن فهو عزيزٌ أيْ شَاقّ صَعْبٌ عليه ما شَقَّ عليكم وصعب تَحَمُّله لأنه جزء منكم وأنتم جزء منه فهو يَخاف عليكم سوء النتائج والوقوع فى العذاب والتعاسة في الداريْن إذا خَالَفتم الإسلام كما أنه يَشقّ عليه الشيء الذي يَشقّ ويَصعب عليكم بمعني أنَّه قد جاءكم بالإسلام الذي كله سَهْل يَسِير مُسْعِد لا مَشَقّة أبداً في أيٍّ من أخلاقه علي مَن عمل به لأنه يُوافِق الفطرة التي هي مسلمة أصلا والعقل المُنْصِف العادِل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ.." أيْ وهو حريصٌ تمام الحِرْص بكل اهتمامٍ ورَغْبَةٍ وحبٍّ على إصلاحكم وإكمالكم وإسعادكم تماماً في دنياكم وأخراكم من خلال تبليغ الإسلام إليكم بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وشِدَّة رغبته في استجابتكم جميعاً له واتّباعكم لكل أخلاقه التي بَلّغها لكم.. ".. بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)" أيْ وهو بالمؤمنين كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابتهم بأيِّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسهم، والرحمة هي حبّ إيصال كلّ الخير والنفع لهم بما يُسعدهم.. هذا، وللرسول الكريم (ص) رحمة عامة للعالمين غير المُمَيَّزَة التي بالمؤمنين حيث يريد لهم جميعا السعادة التامّة في دنياهم وأخراهم من خلال حرصه علي هدايتهم جميعا لربهم ولإسلامهم وحزنه علي مَن لم يَهْتَدِ منهم كما أكّد ذلك تعالي بقوله "وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107)
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)" أيْ فإن استجاب الناس بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فاستمرّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك ودعوتك له ودفاعك عنه ولا تَتَأَثّر بهم ولا تَيْأَس منهم بل قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم حَسْبِيَ الله أيْ يكفيني الله الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فلا أعبد غيره ولا أتوكّل علي غيره وهو وحده الذي يَعتمد عليه كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ".. وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)" أيْ وهو تعالي الذي قد تَمَلّكَ المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك!.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)" أيْ هذه هي الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة للقرآن الذي بين أيديكم، وهذه هي صِفته، هو الكتاب الحكيم، أي الذي كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث، والذي هو مُحْكَم أي كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل، والذي هو الحاكِم أي المَرْجِع الشامل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
ومعني "أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل كان أمْرَاً عَجَبَاً مُسْتَغْرَبَاً للناس الكفار وأشباههم أنْ أوحينا القرآن الكريم من فضلنا وإنعامنا علي البَشَر جميعاً ووُدّنا لهم لإسعادهم تماماً في دنياهم وأخراهم إلي رجلٍ منهم أيْ بَشَرٍ من بينهم وليس مَلَكَاً لا يمكنهم التفاهُم والتعايُش معه ويعرفونه فيَسهل بالتالي عليهم تصديقه والثقة به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه؟! إنَّ الذى يدعو إلى العجب والاستغراب والدهشة حقاً هو ما تَعَجَّبُوا هم منه لأنه يُخَالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!!.. ".. أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.." أيْ وهذا المُوُحَىَ به في القرآن الكريم مُجْمَله ومُلَخّصه هو أنْ أنذر كل الناس أيْ حَذّرهم من عذاب وتعاسة الدنيا والآخرة إذا هم خَالَفوا الإسلام وتركوه كله أو بعضه وأنَّ تعاستهم ستكون علي قَدْر مُخَالَفتهم له، وأنْ بَشِّر الذين آمنوا أيْ أَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم عند ربهم مُجَهَّزٌ كوَعْدٍ منه إليهم لا يُخْلَف مُطْلَقَاً قَدَمَ صِدْقٍ أيْ مقام ومكان صدق أيْ مُؤَكّد مُحَقّق لا زوال له والمقصود مقاماً عالياً وأجراً حَسَنَاً مُسْعِدَاً في الدنيا والآخرة يَتَمَثّل في كلِّ خيرٍ وأمنٍ وسرورٍ لا يُوصَف بسبب ما يُقَدِّمون مِن أعمالٍ صالحةٍ صادقة.. ".. قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)" أيْ فلما جاء الرسول (ص) للناس بوَحْيِ الله لهم وهو القرآن العظيم مُنْذِرَاً ومُبَشّرَاً قال الكافرون منهم أي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤون إنَّ هذا الرسول وهذا القرآن بكل تأكيدٍ ساحرٌ واضح السحر!! وهم أكثر مَن يعلم صِدْقه وأمانته حيث هم الذين كانوا يُسَمّونه بأنفسهم الصادق الأمين! إنهم يقصدون بذلك ادِّعاء أنَّ القرآن العظيم ليس وحيا من الله تعالي ليُسْعِد البشرية في الداريْن وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وأنَّ الرسول (ص) ما هو إلا ساحر ولا يُوحَيَ إليه أيّ شيء بل هو كذاب كثير الكذب!! إنهم حتما هم الكذّابون، لأنَّه بكل بَسَاطَةٍ وعُمْقٍ إذا كان الرسول (ص) ساحرا فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به؟!! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد!! ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ ربّكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – الذي عليكم أن تعبدوه وحده أيْ تطيعوه هو الله تعالي الذي وحده لا غيره خَلَق أيْ أوْجَد مِن عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.." أي قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.." أيْ هو تعالي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات، يُسَيِّرُ كلّ أموره، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته ليُنفّذوها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أيِّ مكانٍ من كوْنه، ثم يَعْرُج إليه كلٌّ منهم أي يصعد له، أي يعودون بعد التنفيذ ليُتابعهم سبحانه، وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادةٍ ونحو ذلك، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. ".. مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.." أيْ ليس هناك أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّل يَجْرُؤ ويَقْدِر علي أن يشفع عنده أيْ يَتَوَسَّل أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، أيْ لا أحد مُطلقا مهما كان يمكنه الشفاعة إلاَّ أن يأذن تعالي بها تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه.. ".. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.." أيْ ذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – فاعبدوه بالتالي إذَن أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)" أيْ هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يعبد الله تعالي ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ أي الصدق الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)" أيْ هذا طمْأَنَة للمُحسنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم وناصرهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنُون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.." أيْ وقد وَعَدَ الله بهذا وَعْدَاً حقاً أيْ صِدْقاً سيَتحقّق حتماً يوماً ما بالبَعْث وبالآخرة وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصِين، وهو مُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه.. ".. إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." أيْ ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه قادرٌ بتمام القُدْرَة علي إرجاعكم إليه يوم القيامة ببعثكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تراباً وأنَّ هذا وَعْدٌ حَقٌّ وأنه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، أنه سبحانه يبدأ خَلْقا ما في كلّ لحظةٍ سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي، ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فهو وحده الخالق!! فكيف يُنْكِر المُكَذّبون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كُن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. ".. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.." أيْ إليه مَرْجِعكم جميعاً وستقوم الساعة وسيَبْعَثكم حتماً لكي يَجزيَ أيْ يُكافِيءَ ويُعطي ويُحاسب تعالي كلاّ بما يَستحقّ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له، ويُعاقِبَ كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه، بالقسط أيْ بالعدل دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه، فذلك هو تمام العدل، فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر!! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. فالذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم، لهم قطعا مغفرة أيْ مَحْو لذنوبهم التي قد وقعوا فيها وعفو عنها من ربهم الغفور الرحيم الودود، ولهم مع هذا ما هو أعظم وأسعد – إضافة إلي السعادة التامّة التي كانوا فيها في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا – وهو الرزق الكريم أي النفيس الفخم الهائل وهو الجنة بدرجاتها حسب أعمالهم حيث تمام السعادة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر.. بينما غيرهم فحالهم علي العكس تماما "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)" أيْ ولِيَجْزِيَ كذلك الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، بأن يكون لهم مِن بعض عذابهم شراب من حميمٍ أيْ من ماءٍ مَغْلِيٍّ بَلَغَ أقصي درجات الحرارة يشربونه بالإكراه فيُقَطّع ويُذيب أمعاءهم ويَشْوِي وجوههم مِن شدّة حرارته، ويكون لهم أيضا عذاب مُوجِع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وكل ذلك وغيره بسبب أنهم كانوا يكفرون
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ الله تعالى وحده هو الذى جعل لكم الشمس ضياءً أيْ مُضِيئَة في ذاتها مُتَوَهِّجَة بها طاقة وحرارة مُفيدة مَضبوطة في مقدارها دون أيّ زيادة أو نقصان بما ينفع الأرض والمخلوقات عليها وفيها ويسعدها حيث يعلم الناس نهارهم من ليلهم ليسعوا في طلب أرزاقه وخيراته تعالي لينتفعوا وليسعدوا بها وبطاقاتها وحراراتها التي تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام، وجعل لكم كذلك القمر نوراً أيْ مُنِيرَاً حيث يعكس ضوء الشمس فهو منير وليس في ذاته وَهَج وضوء وحرارة وذلك لكي يناسب وقت الليل والإضاءة الخافِتَة المُعِينَة علي الراحة ومنافعها وسعاداتها.. ".. وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.." أيْ وعلامة ودلالة أخري علي قدْرتنا علي كلّ ما نشاء، ونعمة أخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع، هي أنَّ الله نَظّمَ وحَسَبَ للقمر بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل المنازِل أيْ الأماكن التي يَنْزِل فيها ويَتحَرَّك، أيْ يُغَيِّر مَوَاضعه وانعكاساته فيكون هلالا ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي معرفة وحساب الأيام والأسابيع والشهور والسنين والأعمار والمعاملات والتصرّفات.. ".. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ.." أيْ ما خلق الله بقدْرته التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ما خَلَقَ كلّ ذلك وغيره مِمَّا لا يعلمه إلاّ هو سبحانه عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة! وإنّما خَلَقه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لقد خَلَقه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا.. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة.. ".. يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)" أيْ يُبَيِّن الله تعالي ويُوَضِّح ويُفَصِّل بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْنه والتي تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته وعطائه، وكذلك الآيات في قرآنه العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)" أيْ وكذلك مِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. وكذلك ما خَلْق الله تعالي في السماوات والأرض أيْ أوجد فيهما من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء والنباتات والطيور والحيوانات وتغيُّر الصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان.. ".. لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)" أيْ في كلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وغيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دلالات واضحات على تمام قدْرة الله وعلمه ولكنْ لا يُدْرِك أهمية هذه الآيات ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا أناس يَتّقون أيْ يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ أي الصدق الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)"، "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)" أيْ إنَّ الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، والذين قَبِلُوا بالحياة الدنيا وقدَّموها وفضَّلوها واعتقدوا واهِمين مُنْخَدِعِين أنها هي مُنْتَهاهم كأنهم مُخَلّدُون فيها وليس بعدها حياة أخري فاطمأنوا بها اطمئنانا واستقراراً جعلهم لا يَرَوْن حياة غيرها بعدها يَعملون لها واختاروا مُتَعَها الزائلة فقط بَدَلَ الآخرة ودون ارتباطٍ بها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ، والذين هم عن آياتنا، أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا الكرام وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، غافلون أيْ مُنْشَغِلون تائهون غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِون أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذكرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، بسبب ما كانوا يكسبون أيْ يعملون في الدنيا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مكاناً للراحة لا للعذاب!
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)"، "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، يهديهم ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – بإيمانهم أيْ يُرْشِدهم بسبب إيمانهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن أيْ بسبب أنهم أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختاروا الإيمان بخالقهم واتّباع إسلامهم لأنهم تأكّدوا بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، فأمثال هؤلاء حتما وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا السعي للهداية للإيمان واجتهدوا في طَلَبها والحرص الصادق الدائم التامّ عليها والتمسّك والعمل بها يرشدهم الله خالقهم العالِم تمام العلم بهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويزيدهم هُدَيً علي هُداهم وفاءً بوعده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيد المُحْسِنين فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وثواباً عليه في الداريْن كما يقول ".. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين" (البقرة:58) وحبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب صَلاحهم وهُداهم، أيْ يزيدهم رشادا وصوابا وحقا وعدلا وخيرا وإحسانا وصِدْقا وإخلاصا وحرصا واجتهادا وقُرْبَاً منه وحبا له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكا بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم (ص)، وذلك بأنْ يوَفَّقَهم ويعاوَنهم وييَسَّرَ لهم أسباب كلّ هذا ويثَبَّتهم عليها وأيضا يعطيهم مِن قوة الإرادة العقلية والصبر والحِكْمة والعَوْن ويوَضَّح لهم ويبَيَّنَ ويمَيَّزَ ما يَتَّقون به أي يَتَجَنَّبون كلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة.. وبالتالي وبسبب هداية ربهم لهم وزيادة هداهم وإعطائهم تقواهم فقد وَجدوا حتما في دنياهم البيان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، ووَجدوا النور كله، والهُدَي كله، والتذكرة كلها، والمواعظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقوة كلها، والرزق كله، والنصر كله، وبالجملة وَجدوا السعادة كلها.. ثم في أخراهم سيَجدون قطعا ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة حيث جنات النعيم التي يَتَنَعَّمون فيها بتمام النعيم في بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)" أيْ هذا استكمالٌ للنعيم العظيم التامِّ الذي هم فيه مُتَمَثّلاً في النعيم النفسيّ بعد النعيم الجسديّ السابق ذِكْره حيث تمام راحة البال والأمن والسعادة.. أيْ دعاؤهم في الجنة أي عبادتهم قول سبحانك يا الله أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ويكون ذلك التسبيح وغيره من الذكر علي سبيل التّمَتّع والابتهاج حيث هو أهم سعادة نفسية لهم فيها، وذلك لِمَا يَرَوْا من عظيم خَلْقه في جناته التي لا تُوصَف.. ".. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ.." أيْ وعندما يُلاقوا الله تعالي يوم القيامة يُحَيِّيهم تحِيَّةً كلها سلام وأمن مِن كلّ سوءٍ وتَحْمِل كلّ خيرٍ ورضا وحب وسعادة، وهم أيضا يُحَيِّ بعضهم بعضا وتُحَيِّيهم الملائكة بالسلامة والطمأنينة والراحة والحب، وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. إنهم لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع التأثيم أيْ كل ما يُوقِع في الإثم أيّ الشرّ والفساد والضَرَر، ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط قول "سلاما سلاما" أيْ الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو إثمٍ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة.. ".. وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)" أيْ وخِتام ذِكْرهم وكلامهم دائماً بعد استفتاحه وبَدْئِه بالتسبيح يكون بقولهم الحمد لله رب العالمين شكراً له علي نِعَمه عليهم التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف والتي هي بغير حساب
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكن حريصاً دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدَاً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَه فَعُدْ سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ الآية الكريمة هي طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه
هذا، ومعني "وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)" أيْ ولو يُسَرِّع الله للناس الشرَّ في مُقَابِل ما يفعلونه من شرور يَستحِقّون تسريع العقوبة عليها – وكل ابن آدم خطّاء – تسريعاً مثل استعجالهم بالخير أيْ بذات السرعة كما يُحِبّون استعجالهم والإسراع إليهم بالخير منه أيْ كما يُعَجِّل لهم الخير لانتهي أجلهم ووقت بقائهم في الدنيا فماتوا وهلكوا جميعاً، ولكنه تعالي لا يَفعل ذلك مُطلقاً ولكنْ مِن واسع وعظيم رحمته بخَلْقه وحبه لهم وحرصه علي سعادتهم في دنياهم وأخراهم، لأنهم خَلْقه وصَنْعته وفيهم نفخة من روحه وكلّ صانِعٍ يحب لصنعته الخير، يُعَجِّل لهم دائما كل خير، فخيراته تَغْمُرهم في كل لحظةٍ كما يُثبت الواقع ذلك ولا يُنْكِره إلا ناكِر للجميل سفيه مُعَطّل لعقله مُكَابِر مُعَانِد يعلم تماما أين الحقّ ولا يَتّبعه، وهو تعالي في المُقابِل لا يُعَجِّل لهم الشرّ، رغم أنَّ بعض الناس المُستكبرين أو الكافرين أو المشركين أو المنافقين أو الظالمين أو الفاسدين أو أشباههم، قد يطلب أحيانا، استعلاءً واستهزاءً وتعجيزاً وتكذيباً، من الرسل، ومن الدعاة الصالحين ومن المسلمين عموما مِن بعدهم، أن يأتوا بعذابٍ يُهلكهم كزلازل أو براكين أو صواعق أو عواصف أو فيضانات أو نحوها، أو أن يأتوا بيوم القيامة ذاته حتي يُصَدِّقوهم ويُؤمنوا!! أو ما شابه هذا.. لكنه تعالي حليم رحيم بهم، فلا يستجيب لما يطلبون، ولا يُعَجِّل لهم هلاكهم، وإنما يُمْهلهم، لكن دون أن يهملهم، أيْ يتركهم لفترة عمرهم المُقَدَّرة لهم، ينتفعون بخيراته التي تغمرهم لحظيا دون انقطاع، ويرسل لهم رسله بوصاياه وتشريعاته المُسْعِدَة لهم في دنياهم وأخراهم، ويتركهم لاختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم، فإن اختاروا الخير واتخذوا أسبابه وَجَدوا منه سبحانه كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، وإن اختاروا الشرّ واتّخذوا أسبابه وجدوا بسبب ما قَدَّمته أيديهم شروراً وتعاسات علي قَدْر ما قَدَّموا، فهذا هو القانون العادل الذي وضعه تعالي للحياة "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فمَن زَرَعَ خيراً حصده، ومَن زرع شرَّاً حصده أيضا.. فهو إذَن من رحمته سبحانه يتركهم لعلهم يتوبون ويعودون للحقّ وللخير وللسعادة، والواقع يُثبت أنَّ كثيراً منهم بالفِعْل يُسْلِمون ويَحْسُن إسلامهم، بل ويَدْعون له بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة، بل وكثير منهم ينالون الشهادة في سبيل ربهم ودينهم، كما حدث سابقا مع كل الرسل ويحدث حاليا، ولو كان أهلكهم قبل إسلامهم، وله تعالي كل الحقّ في ذلك بسبب كثرة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، لكانوا ماتوا علي الكفر وخُلّدوا في عذابات وتعاسات النيران.. فالحمد لله الرحمن الرحيم.. هذا، ومَن يستمرّ في عِناده وتَعَاليه ومُرَاوَغَته وكذبه وافترائه، مُتَمَثّلاً في كفرٍ أو شِرْكٍ أو نفاقٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو نحوه، ويُصِرّ علي شَرِّه، فإنَّ الله تعالي مِن شِدَّة غضبه عليه، يَذَره، أيْ يَتركه فيما هو فيه، لا يُعينه، ولا يُيَسِّر له أسباب الهداية، فهو لا يرجو لقاء ربه، أيْ لا يُصَدِّق به ولا ببَعْثٍ بعد الموت ولا بآخرةٍ ولا بحسابٍ أو عقابٍ أو جنةٍ أو نار، ولا يَتَوَقّع أنْ يَحْدُث ذلك مطلقا، ولذا فهو لا يَسْتَعِدّ له، ويَفعل كلّ شَرٍّ إذ لا حساب من وجهة نظره، فكيف يُعينه ربه وهو مُصِرّ كل هذا الإصرار ولم يبدأ ببادِرَةٍ ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا القانون الإلهيّ العادِل المُحَفّز علي كلّ خير "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، وهذا هو معني ".. فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)" أيْ فنترك الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، نتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن نُيَسِّر لهم أسبابه وبأن نُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ونَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا).. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، وإنْ انتشر الفساد والظلم في الأرض إلي الدرجة التي يُخْشَيَ عليها من انتهاء الخير بهلاك أهله مِن عليها، حينئذٍ يَتَدَخّل خالِق الأرض والخَلْق سبحانه ليَحْمِيهم بأن يُهْلِكَ أهل الشرّ، ليعود للكوْن ولتعود للبشرية سعادتها، كما حَدَثَ مع قوم نوحٍ وعادٍ وثمود ولوط وغيرهم، حيث أهلكهم بقُدْراته وآياته بصورٍ مُتَعَدِّدَة كطوفانٍ أو خَسْفٍ أو ريحٍ أو زلازل وأعاصير أو غَرَقٍ أو ما شابه ذلك
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك) – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء (برجاء مراجعة الآية (22)، (23) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن الاعتصام علي الدوام بالله تعالي وليس وقت الشدَّة والأزمات فقط)
هذا، ومعني "وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)" أيْ إذا حَدَثَ ولَمَسَ الإنسان، أيّ إنسان، أو الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا أو المشرك الذي يُشرك بالله آلهة غيره فيَعبد صنما أو حجرا أو نحوه، الضُّرُّ أيْ ضَرَرٌ مَا، أيْ شيئاً ما يَضرّه ويُسيء إليه في صحته أو ماله أو عمله أو أحبابه أو ما شابه هذا، حينها يَدْعونا لكشفه وإزالته بكل تَوَسُّلٍ واحتياج وتَذلّل، وبكل إنابةٍ أيْ عودة تامّة لنا لا لأيِّ أحدٍ غيرنا، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينه أي في دعائه وفي طاعته لنا وقتها حيث يكون مُخْلِصا مُحْسِنا ويَترك ويَلفظ ويَنسي آلهته! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، إنه حينها يَنْسَيَ بل يَحتقر عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ لأنه متأكّد أنها لن تنفعه بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنه يدعونا في كل مكانٍ دوْمَاً في جميع أحواله، لِجَنْبه أي مُلْقَي لجَنْبه أيْ مُضطجِعَاً علي جَنْبِه أو قاعداً جالساً أو قائماً واقِفَاً.. ".. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ.." أيْ فلمَّا استجبنا دعاءه وأزَحْنَا عنه ضُرَّه الذي أضَرَّه وأنعمنا عليه برحمتنا وإسعادنا ذَهَبَ وانْصَرَفَ كأنه لم يَدْعُنا مِن قَبْل إلي كشف ضُرٍّ مَسَّه واسْتُجِيب له وكأنه ما كان به من ذلك شيء! والمقصود أنه بَدَلاً أن يشكره تعالي علي خيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هو يَنْسَيَ الله والضّرَّ والدعاءَ الذي كان يدعوه إليه سابقا ليكْشفه عنه!! أي يعود لِشَرِّه ولشِرْكه ويعبد آلهته بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّ علي عبادة ربه ليسعد في الداريْن وقد جَرَّبَ أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)" أيْ هكذا دائماً زَيَّنَ التفكير الشَّرِّيّ بعقول المُسْرِفين لهم هذه الأعمال السيئة التي يعملونها أيْ حَسَّنَها لهم، واختاروا هذا التكذيب والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار والسَّيْر في الظلمات والتعاسات بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والمُسْرِفون هم المُتَجاوِزون لحدود الله المُتَجَرِّئون علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّون علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرون المُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)" أيْ ولقد أهلكنا الأمم السابقة لكم كأقوام الأنبياء الكرام هود وصالح وشعيب وغيرهم الذين تَرَوْن بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاكنا لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها – والقرون جمع قَرْن والقرن هم مجموعة من الناس تعيش في فترة زمنية واحدة واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – حين ظلموا واستمرّوا في ظلمهم وحين أصَرُّوا عليه بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات وتَبَيَّنَ واتّضَحَ لهم الحقّ تماماً فلم يؤمنوا فاسْتَحَقّوا بذلك أنْ أهلكناهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومعني البَيِّنات أنهم ليس لهم أيّ حجَّة حيث قد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا.." أيْ ولم يكن من حالهم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)" أيْ هكذا دائماً وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للناس المُجرمين بما يُناسب جرائمهم في كل زمانٍ ومكان.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إننا نُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلُفك بهذا حيث خَلَقَ سبحانه خَلْقَه لينتفعوا وليسعدوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه، وكَرَّمَكَ بأن وَثَقَ بِك، وجعلك خليفة أيْ نائبا عنه تُدير شئونها بما أوصاك به من أفضل الوصايا وأكملها لأنها منه العليم الحكيم مُمَثّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحسن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِد ذاتك وغيرك والكوْن كله.. فكُن أهْلاً لهذا التكريم وأحْسِن القيام بالخلافة بأن تكون سعيداً في نفسك مُسْعِدَاً لمَن حولك بكل خيرٍ مُجْتَنِبَاً كلّ شرٍّ مُتْعِسٍ من إفسادٍ وسفكِ دماءٍ وظلمٍ ونحوه من خلال أن تكون مُتَوَاصِلاً في كل ذلك مع ربك مُستعينا به مُتمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك مُنتظراً لعوْنه وحبه وتوفيقه مُستبشراً بانتظار أعظم ثوابه وإسعاده لك في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)" أيْ ثم نحن وحدنا الذي جعلناكم أيها الناس خلائف – جمع خليفة – لنا في الأرض ويَخْلف بعضكم بعضا جيلا بعد جيل من بعد السابقين لكم لتنتفعوا بجميع خيراتنا ونِعَم أرضنا وكوْننا، وكرَّمناكم بأن وَثَقنا فيكم وجعلناكم خُلَفاء نُوَّاباً عنّا تُسَيِّرُون شئونها بما أوصيناكم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِدوا ذواتكم وغيركم والكوْن كله.. فكونوا إذن نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادتنا أيْ طاعتنا وحدنا (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكرنا وحدنا علي نِعَمنا والتي لا يُمكن حصرها بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمدنا وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَناكم ووعْدنا الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك تَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ثم أيضا بما أننا قد جعلناكم خُلَفاء لمن سَبَقكم من الأمم السابقة، فاعْتَبِروا إذن بما أصابهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا تفعلوا أبداً مثلهم حتي لا تتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)" أيْ لكي نَرَيَ ما تعملون من خيرٍ أو شرٍّ في كل أقوالكم وأفعالكم، هل ستُحْسِنون فيها فنُحْسِن إليكم بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم أم تُسِيئون فنُجازيكم بما يناسب إساءاتكم بكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟ وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ للناس علي استشعار مراقبة الله تعالي علي الدوام فيَدفعهم هذا لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كما أنه تحذيرٌ وتنبيهٌ شديدٌ ألاّ يفعلوا مثل القرون من قبلهم التي أهلكها بسبب ظلمهم الذي تَمَثّل في كفرٍ وظلمٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار حتي لا يكون مصيرهم مثلهم فيتعسوا تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)" أيْ وحينما تُذْكَر أمام المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين آياتنا بينات أيْ دلالاتنا واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْق رسولنا الكريم وأنه مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده ليَثِقوا به ويَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولهم يُرْشِدهم إليها ليَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، قال هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا – أيْ الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم – لرسولنا الكريم علي سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والجراءة والتَّعَدِّي علي الخالق ائْتِ بقرآنٍ غير هذا القرآن أيْ أَحْضِر قرآناً آخر غيره يكون ليس فيه ما نَسْتَبْعِده ونُنْكِره من البعث والثواب والعقاب بعد الموت وما نَكْرهه من الإساءة لآلهتنا وما شابه ذلك، أو أبْقِه ولكنْ بَدِّله بأنْ تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ليس فيها هذا وبأنْ تجعل بعض الحرام حلالا ونحو هذا، حتي نؤمن لك فإنْ لم تفعل فلن نؤمن!.. إنَّ مِثْل هذه الطلبات السفيهة ليس لكي يؤمنوا ولكنها من محاولاتهم اليائسة للكَيْد والمَكْر بالرسول (ص) لإثبات عدم صِدْقه وللإساءة لأخلاق الإسلام بأنها من وَضْع البَشَر لا خالقهم لأنَّ اقتراح إبدال قرآنٍ بقرآنٍ يعني ضِمْنَاً أنه من عنده ومن كلام البَشَر وليس من الله تعالي وأنه قادر على مِثْله فلْيَأتِ بالتالي إذَن بغيره أو يُبَدِّل ويُغَيِّر فيه ما يشاءون من تشريعات!!.. ".. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لي وأنا نبيّ كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم لي أن أغَيِّر هذا القرآن أو أغَيِّر أيَّ شيءٍ فيه من عندي ومِن جِهَة نفسي فهذا ليس لي أبدا!.. ".. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.." أيْ قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي الله الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟! فأنا أبلّغكم ما أُنْزِلَ علىَّ منه بلا أيّ زيادةٍ أو نُقْصانٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ وما أنا إلاّ مُتّبِع ومُبَلّغ ما يُوحَىَ إلىَّ ليس لي إلا ذلك لأني فقط رسول مأمور.. ".. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)" أيْ قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم وذَكّرهم بخوفك من معصية الله أيْ عدم طاعته في اتّباع أخلاق الإسلام وترْكها بعضها أو كلها أو التبديل للقرآن في حَرْفٍ أو مَعْنَيَ أو الابتعاد التامّ عن الإسلام بكفرٍ أي تكذيبٍ بوجودِ الله أو شركٍ أي عبادةٍ لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو اعتداءٍ وعدم عدلٍ أو فسادٍ ونشرٍ له أو ما شابه هذا، ذَكِّرْهم حتي لا يقعوا في هذه المعاصي فيتعسوا في دنياهم وأخراهم، ذَكِّرْهم بعذابِ يومٍ عظيمٍ وهو يوم القيامة حيث العذاب الشديد في نار جهنم علي قدْر الشرور والمَفاسِد والأضرار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذَكِّرْهم أيضا بعذاب الدنيا الذي يكون فيه المُسِيء بدرجةٍ مِن الدرجات وبصورةٍ مِن الصور بسبب إساءته وفساده وضَرَره حيث يكون في قَلَقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين.. هذا، ومن المُفيد تذكرتهم بأنّ الرسول (ص) وهو مَن هو ومع عظمته لو فُرِضَ وعَصَيَ فإنه لن يَأْمَن مِن العذاب فكيف بهم هُم؟!
ومعني "قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ أمر نزول القرآن العظيم أو تغييره أو تبديل بعضه ليس للرسول الكريم (ص) أيّ شأنٍ فيه فهو مُبَلّغ فقط والأمر كله هو مشيئة أيْ إرادة الله تعالي لإسعاد البشرية به حيث يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، كما أنَّ الآية الكريمة هي مزيدٌ من التأكيد علي صِدْقه (ص)، ومزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يؤمن به أو يَدَّعِي أنه من كلام البَشَر أو يطلب تغييره أو تبديل شيء فيه أو نحو هذا ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو شاء أيْ أراد الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم ولا أدراكم أيْ لا أعلمكم به بواسطتي أيْ فالأمر كله أمره بالتالي إذَن وأنا لا أعصيه، ومِمَّا يدلكم علي تمام صِدْقِي وصِدْق هذا القرآن وأنه من الله لا من كلام البَشَر ما أقوله لكم أني قد لَبِثْت أيْ بَقِيتُ فيكم عمراً طويلاً من قبل هذا القرآن وهو أربعين عاماً قبل أن أكون رسولاً ويُوحَيَ إليَّ به تشهدون لي طواله بالصدق والأمانة وتطلقون عليَّ الصادق الأمين وتعرفون خلال كل هذا العمر حقيقة حالي وأقوالي وأفعالي بأني أُمِّيّ لا أقرأ ولا أكتب ولا أدرس ولا أتعلّم من أحدٍ ثم أتيتكم بقرآنٍ عظيم أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فهل يمكن مع هذا أن يكون من تلقاء نفسي أم هذا دليل قاطع ليس فيه أيّ شكّ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه تنزيل من حكيمٍ عليم؟!.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ لأمثالهم لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)" أيْ لا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)" أيْ بكل تأكيد لا يُفلح المُجرمون أيْ لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إنَّ الله تعالي يُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)" أيْ ويَعْبُد المشركون أيْ يُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّهم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعهم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ وعندما يُدْعَون لعبادة الله تعالي وحده يقول بعضهم من شِدَّة عِناده وكِبْره وفساده ومُرَاوَغته، وأحيانا من شدة استهزائه بالإسلام والمسلمين، يَدَّعُون كذباً ويَتَحَجَّجون بحُجَج سفيهةٍ خَسِيسَةٍ كاذبةٍ ليُبَرِّرُوا شِرْكهم أنهم يعبدون هذه الآلهة لتكون من الشفعاء لهم عند الله تعالي أيْ من المُتَوَسِّلين الذين يَتَوَسَّلون أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّلهم ولوَسَاطتهم عنده حتي يُصْلِح دنياهم ثم يصلح أخراهم إنْ كان هناك يوم قيامةٍ وحساب وثواب وعقاب!! إنهم حتماً كاذبون مُخادِعُون مُستكبرون مُستهزؤن، وقد فَضَحَ الله تعالي كذبهم وكفرهم بقوله في الآية (3) من سورة الزمر ".. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)" ومعني زُلْفَيَ أيْ مَنْزِلَة ودَرَجَة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) حيث السبب الأساسي في شِرْكِهم ليس هذا الادِّعَاء وإنما هو رفضهم للإيمان بالله تعالي بسبب إغلاق عقولهم من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم بما يَفضح سَفههم وكذبهم ويُخْرِس ألسنتهم هل تُخْبِرُون الله بشيءٍ لا يعلمه في السماوات ولا في الأرض وهو الذي يعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في كَوْنه لا تَخْفَيَ عليه خافِيَة؟! إنه لو كان هناك كما تَدَّعُون كذباً وزُورَاً آلهة تُعْبَد غيره أو شفعاء منها لكم عنده لكان هو أعلم بذلك منكم حتماً أيها الكاذبون السفهاء المُغْلِقون لعقولكم!! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه؟!! أأنتم أعلم أم الله؟!!.. ".. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، عمَّا يُشركون هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكاً دَوْمَاً بالفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام أيْ خَلَقهم وأنشأهم وبَدَأهم عليها (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أيْ كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)" أيْ وما كان الناس إلا جماعة واحدة مُجتمعين جميعهم علي الإيمان بالله تعالي مُتّبِعين للإسلام منذ خَلْق آدم ولعِدَّة قرون بَعده مِن ذِرِّيَّته، حيث الإسلام هو فطرة الله، أي خِلْقَته التي خَلَقَ الناس جميعا عليها، فكلهم مَفطورون أيْ مَخلوقون علي أخلاق الإسلام وكلّ مولودٍ يُولَد حديثا في كل لحظة هو مولود عليها كما يُؤَكّد ذلك الرسول (ص) بقوله "كلّ مَوْلودٍ يُولَد علي الفِطْرَة.." (جزء من حديث رواه ابن حبان)، فاختلفوا بعد ذلك بمرور الأزمنة، فمنهم مَن استمرّ علي الالتزام بالإسلام مُستجيباً لنداء الفطرة التي هي مسلمة أصلا وموجودة في داخل عقله وحينها سيَجد أمر اتّباعه أمرا سهلا سَلِسَاً مَيْسُورا مُسْعِدَاً، ومنهم من عانَدَ هذه الفطرة وخالَفَها فظلت تُصَارِعه لمُحَاوَلَة رَدَّه إلي ربه ودينه ليسعد في الداريْن واتّبع نظاما مُخالِفا للإسلام فكان الأمر عليه صعبا عسيرا مُعَقّدا مُتْعِسَاً وسيَظلّ في شقاءٍ وتعاسةٍ بسبب الصراع الدائم معها حتي يستفيق ويعود لما تُذَكّره به دائما، لربه ولدينه الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وسبب بُعْدِه عنهما أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فرَحِمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم، أيْ فلذلك وبسبب هذا الاختلاف فهو مِن عظيم رحمته وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم لم يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة فأرسل الرسل إليهم كمَبْعُوثين من عنده ليُبَلّغوهم بالإسلام ليعودوا إلي فطرتهم ليسعدوا في الداريْن، بَعَثَهم مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أيْ يأتون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ ويُحَذّرون بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وأنزل مع كلّ رسول منهم من خلال الوَحْي إليه الكتاب الذي فيه الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ ليُبَلّغوه للناس وآخرها القرآن العظيم علي رسوله الكريم محمد (ص) بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. لكي يحكم هذا الكتاب بحُكْم الله تعالي العدل بين الناس جميعا فيما اختلفوا فيه من كل شئون حياتهم حيث سيكون المَرْجِع الذي فيه الأصول والقواعد التي يرجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)" أيْ ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، لوْلاَ كلّ هذا، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." (يونس:93، الجاثية:17)، لقَضَيَ تعالي بين الناس فيما يختلفون فيه بين إيمانٍ وكفرٍ وخيرٍ وشَرٍّ وذلك بأنْ يُهْلك أهل الشرّ منهم ويُنجي أهل الخير أيْ لَحَكمَ وفَصَلَ بينهم فوريا أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيرا مع أول ما يفعلونه من شرور!! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن؟!
ومعني "وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)" أيْ ويقول المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم لو أُنْزِلَ علي محمد آية من ربه أيْ دلالة ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حدث مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من أدِلَّة، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادر قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة لا تُحْصَيَ حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! فالآيات عنده سبحانه وليس عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ.." أيْ فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم إذا طلبوا منك آية إنَّ الغيب ليس إلا لله وحده لا لغيره وإنَّ نزول الآيات غيبٌ ولا أحد يعلم الغيب أيْ المستقبل وكل ما يَغيب عن عقول البَشَر إلا هو سبحانه فهو الذي يُدَبِّر أمور الخَلْق والكَوْن كلها علي أكمل وأسعد وجه ولو أراد علي حسب حكمته ومصلحة خَلْقه أن يأتي بمُعجزةٍ لأَتَيَ بها حتما.. ".. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك) – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء
هذا، ومعني "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)" أيْ وإذا رحمنا الناس البعيدين عن ربهم وإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كانوا مسلمين، ومنهم الناس الكافرين المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم، برحمتنا التي وَسِعَت كلّ شيء، وأعطيناهم خيراً مَا بعد شرٍّ كان قد مسّهم أيْ أصابهم في صحتهم أو أموالهم أو أعمالهم أو أحبابهم أو ما شابه هذا، إذا لهم مكرٌ في آياتنا أيْ يُفاجئونك ويُسارعون أيها المسلم بمكرٍ أيْ بتدبيرٍ لِمَكائد شَرِّيَّة في الخَفَاء بالطعن في آياتنا مُتَمَثّلاً في الكفر والتكذيب والاستهزاء بها والإساءة إليها والاستكبار عليها وعدم اتّباعها ومنع الآخرين من العمل بها ونحو هذا.. إنهم يُقابلون هذه الرحمة بالمسارعة في تكذيب آياتنا سواء أكانت آيات في الكوْن حولهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. والمقصود أنهم بَدَلاً أن يشكروه تعالي علي رحماته وخيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هم يَنْسون الله والضّرَّ الذي كانوا فيه ويعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التحذير لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بدلا أن يتعسوا فيهما، الله أسرع مكراً بكم وعقاباً لكم من مَكْركم أنتم بآيات الله فسَيُريكم حتماً مَكْرَهُ بكم وهو عذابكم وإتعاسكم في دنياكم بسبب مَكْركم ثم ما هو أشدّ عذاباً وتعاسة في أخراكم إنْ مُتّم علي ما أنتم عليه من سوء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية (50) من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية (34) من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يَمكرون دليل على تجهيزه سبحانه لهم المَكْر الذي يريد أن يُجازيهم به على مَكْرهم.. أيْ إنَّ رسلنا من الملائكة المُوَكّلِين بكم يكتبون ما تمكرون بالقول والفعل والذي سنُحاسِبكم عليه حتماً بما يُناسب في الداريْن.. وفي هذا مزيدٌ من التحذير والتنبيه على أنَّ مَا يمكرون في الخفاء ليس خافياً على الملائكة فكيف الحال بخالقهم سبحانه الذي لا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ عن أيِّ شيء؟!
ومعني "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)"، "فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)" أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما ذُكِرَ في الآية السابقة وبيانٌ لمَظْهَرٍ آخر من مظاهر سوء الذين سَبَقَ ذِكْرهم لكي يَحْذَر المسلمون حَذرَاً شديداً من التشبُّه بهم وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ هو الله سبحانه الذي يَجعلكم تَسِيرون أيها الناس بقُدْرَته ورحمته ونِعْمته فى البرّ والبحر من خلال ما أعطاكم إيّاه في خِلْقتكم من قُدْرَةٍ عصبيةٍ وعضليةٍ على السير وما سَخَّر لكم من دوابّ وخامات لصناعة ما تركبونه مِمّا تستعملونه في تَحَرّككم وما جَعلَ من جاذبية الأرض وبَسْطها ومن خَوَاصّ الماء والهواء الفيزيائية أنه يَحمل السفن ولا يُغرقها بل تطفو علي سطحه مع تيسيره وتوفيقه سبحانه للعقل لأسباب صناعتها وغيرها مما يُرْكَب وتَجْرِي فيه بما ينفعكم لكي تستطيعوا الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو ذلك من أفضال وأرزاق ونِعَم الله عليكم المُفيدة المُسْعِدَة لكم.. ".. حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا.." أيْ هو سبحانه وحده الذي يُسَيِّركم في البرّ والبحر حتي إذا كنتم فى إحدى مرّات تَسْييركم راكبين فى الفلك أيْ السفن التي سخّرها لكم وجَرَت هذه السفن أيْ سارَت مُسْرِعَة بمَن فيها بسبب الريح الطيّبة أيْ الحَسَنَة اللّيِّنَة النافِعَة لا الضارّة المُسَخّرَة لكم إلى المكان الذى تريدونه وهم فى حالة فرح كبير بهذه الريح لِمَا يكون لهم في هذه الحالة من الراحة والأمن من القلق والاضطراب والتّمَتّع بالنسيم وبالمناظر الجميلة حولهم.. ".. جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.." أيْ بينما هم كذلك حَضَرَت هذه السفن ريحٌ شديدٌ تَعْصِف بكل شيءٍ أيْ تُهلكه وحَضَر الرُّكَّاب الموج وهو ما ارتفع من ماء البحر من كل مكانٍ وغَلَب علي ظنّهم أنهم قد أحاط بهم الهلاك أيْ لَفَّ حولهم من كل جانب.. ".. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)" أيْ حينها يَدْعون خالقهم الله تعالي بكل تَوَسُّلٍ واحتياجٍ وتَذلّل، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينهم أي في دعائهم وفي طاعتهم له وقتها مُخْلِصين مُحْسِنين ويَتركون ويَلفظون ويَنسون آلهتهم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تنطق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، إنهم حينها يَنسون بل يَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كل شيء لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنهم يدعونه حينها وحده لا غيره سائلينه واعِدِين إيَّاه بوَعْدٍ مُؤَكّدٍ لا يخْلِفونه أنه إنْ أنْجَيتنا أيْ أنْقَذتنا وخَلّصتنا من هذه المَهَالِك والمَصاعِب والشدائد سنكون بالتأكيد من الشاكرين أي الحامِدِين لك علي نجاتنا وعلي نِعَمِك التي لا تُحْصَيَ، العابدين أي الطائعين لك وحدك بلا أيِّ شريكٍ من آلهةٍ أخري، المُتّبِعين لشَرْعِك الإسلام.. "فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)" أيْ فلمّا استجاب دعاءهم وأعادهم سالِمين من بين أمواج البحر المُهْلِكَة إلي البرّ بقُدْرَته ورحمته ونِعْمته تَراهم يُفاجئونك ويُسارعون أيها المسلم بَدَلاً أن يكونوا من الشاكرين لله كما وَعَدُوا يُخْلِفون وَعْدَهم ويَنْسَوْنه تعالي وما كانوا فيه من هلاكٍ ويعودون لشَرِّهم ويَبْغُون في الأرض أيْ يَطلبون فيها الفساد والشرّ والضَرَر والتعاسة ويَتعالون ويَعتدون علي غيرهم وكلّ ذلك هو غير الحقّ بالتأكيد لأنّ الحقّ هو الخير والعدل والنفع والسعادة وهو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ.." أيْ يأيها الناس أمثال هؤلاء الذين سارَعوا باللجوء إلينا ودعائنا عند الشدّة وسارَعوا إلي البَغْي بعد أن أنعمنا عليهم ورحمناهم بإزالتها عنهم، اعلموا أنَّ بَغْيكم هذا سيعود علي أنفسكم لا علي غيركم فأنتم وحدكم الذين ستَتَحَمّلون سوء نتائجه فى الدنيا والآخرة، لأنه لا يُمكن أبدا أن يُحيط ويَحلّ ويَنزل الفِعْل والتدبير السَّيِّء الشرِّيّ بأحدٍ إلا بمَن يَفعله فيَعود أثَرُه المُضِرّ المُتْعِس عليه وذلك علي المَدَيَ البعيد، بسبب أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحْسَنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)، وهو سبحانه خير المَاكِرين (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية (50) من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية (34) من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وحتي ما قد يُصيب أهل الحقّ والخير مِن بعض مَكْرِ أهل الباطل والشرّ فهو لن يكون بفضل الله إلا بقليلٍ من الأذي المُحْتَمَل كما يقول تعالي "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.." (آل عمران:111)، ويقول ".. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." (آل عمران:120)، ويقول "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141) (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات الكريمة حتي تكتمل المعاني)، فكل ما يُصيبهم إذَن مِن ضَرَرٍ أو اختبارٍ مَا فسيَخرجون منه حتما مع الوقت مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فدائماً وقطعاً ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص:83) أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما ودوْما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، والخلاصة إذن أنه في كلّ الأحوال مَن يُمْكَر به فهو الفائز في الداريْن علي المَدَيَ البعيد والماكِر هو الخاسر فيهما وعقابه علي قدْر مَكْره حتي ولو ظهر أحيانا علي المَدَيَ القريب عكس ذلك.. وحتي علي المدي القريب أيضا فإنَّ الذي يُدَبِّر المكر السَّيِّء يكون منذ وقت ابتدائه لمَكْره في كلّ قلقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وصراع وأحيانا اقتتال مع مَن مَكَرَ به وغيره وبالجملة فهو يكون في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. ".. مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ واعلموا كذلك أنَّ ما تَتَمَتّعون به في دنياكم هو متاع دنيوىّ زائل يوماً مَا حيث تتركونه بموتكم وانتهاء آجالكم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له وحتي ما أنتم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا تستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد تفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شروركم أنتم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة أنتم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما تُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروركم إضافة إلي ضيقكم عند تَذَكّركم الموت والذي لا تَدْرون ما سوف يَحدث لكم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ثم في آخرتكم ".. ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)" أيْ ثم إلينا وحدنا لا إلي غيرنا رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسيئون، ونحن وحدنا الخالِق لكم العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سنُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إصلاحهم لأنفسهم وحُسْن دعوتهم لغيرهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ ما حال وشَبَه الحياة الدنيا في سرعة زوال مُتَعها وأنها مهما طالَت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها، وأنها ستَنتهي يوما ما، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عَجْزٍ أو نحوه، أو بموتٍ يأتي فجأة، إلاّ كحالِ وشَبَهِ ماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط بهذا الماء نبات الأرض فنَمَا وكَثُر واختلط ببعضه وهذا النبات بعضه مِمَّا يأكله الناس كالحبوب والثمار ونحوها وبعضه مِمَّا تأكله الأنعام أي الحيوانات كالحشائش والأعشاب وغيرها.. ".. حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا.." أيْ اسْتَمَرّ ينمو ويَكثر إلي أنْ وَصَلَ لمرحلةِ أنْ أخذت الأرض زخرفها أيْ اسْتَكْمَلَت حُسْنها وجمالها وتَزَيَّنَت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر والألوان الجميلة وغَلَبَ علي ظنّ أهل تلك الأرض الذين زرعوها وقاموا برعايتها أنهم قادرون عليها بالتّمَكُّن من حصادها والتّمَتّع بثمارها وخيراتها وأنَّ ذلك سيستمرّ ويَدُوم لهم.. ".. أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.." أيْ بينما هم كذلك حَضَر إليها فجأة أمرنا بإهلاكها وتدميرها كعقابٍ لأهلها الذين كانوا مُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ ورجوعٍ لربهم ولإسلامهم في أيِّ وقتٍ بالليل وأصحابها نائمون أو بالنهار وهم مُنْشَغِلون، فجعلناها بما عليها كالأرض المَحْصُودَة التي حُصِدَ وقُطِعَ كل نباتها فلم يَتَبَقّ فيها شيء، حتي كأنها لم يكن بها منذ وقتٍ قريبٍ قبل ذلك نبات بهيج وسكن مريح قائم علي وجهها حيث لم يَبْق لهذه النباتات ولا للمساكن ولا للسُّكّان أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يُعَمِّروها ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها – يُقال غني بالمكان إذا أقامَ فيه وعَمَّره، أيْ كأنْ لم تكن عامِرَة سابقا – فكأنها ما كانت، فهذه تماما هي حالة الدنيا حيث كل متاعها سريع الزوال.. ".. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يَتَفكّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في الداريْن حيث يُحسنون طلب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا حياتهم وآخرتهم في تمام التعاسة
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُسْتَجِيبين لدعوة الله تعالي لدخول الجنة، لدعوته لاتّباع الصراط المستقيم، أيْ للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهذا هو الطريق لدخولها
هذا، ومعني "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)" أيْ والله خالقكم الكريم الرحيم أيها الناس جميعا يَدعو في تشريعه الإسلام إلي الأقوال والأفعال التي تُؤَدِّي بقائلها وفاعلها إلي دخول دار السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، دار الله لأنَّ السلام اسم من أسمائه تعالي وتسميتها كذلك هو لتعظيمها ولتكريمها، وهي الجنة، هي جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي وَعْده عنده لهم بأن يكونوا في دار السلام في دنياهم يكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)" أيْ ومَن يشاء مِن الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)" أي للذين أحسنوا من الناس في الدنيا بالاستجابة لدعوة الله إلي دار السلام بأنْ آمنوا به أيْ صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم بكل إحسانٍ أيْ إتقانٍ وإجادةٍ وكأنهم يَرَوْنَ ربهم وهو يراهم لحظيا ويعلم ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولذا فهم يجتهدون ما استطاعوا في إحسان كل أقوالهم وأفعالهم وإحسان ما يظهر منهم وما يَخْفَي ليَرَاهم علي أحسن حالٍ في كل وقت، فهؤلاء إنْ فعلوا ذلك فلهم بالقطع من الخالق الكريم الرحيم الودود كلّ إحسانٍ كما وَعَدَ ووَعْده الصدق "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن:60)، فهم لهم الحُسْنَيَ أي الجنة يوم القيامة بدرجاتها علي حسب درجات أعمالهم بنعيمها الذي لا يُوصَف، ولهم حتماً زيادة فهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله لا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات، وهذه الزيادة هي مضاعفة الأجور كما وَعَد "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.." (الأنعام:160) ووَعَد ".. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.." (البقرة:245)، وهي أيضا رضوانه تعالي وهو أعلي أجر معنويّ لا يعدله أيّ أجرٍ مادِّيٍّ حيث الشعور بتمام السعادة والرضا والأمان والسكينة والاستقرار، وهي كذلك مُتْعَة رؤيته سبحانه في الآخرة بلا حائلٍ حيث أكمل الجمال، ثم هي أيضا سعادة الدنيا التامّة التي يحياها المُتَمَسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه ولا يستشعرها غيره ولا يُحاسِبه عليها قطعاً بأنْ يخصمها مثلاً من أجره في أخراه.. ".. وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.." أيْ ولا يُغَطّي وجوههم غبارٌ وسَوَادٌ ولا ذِلّة وغير ذلك مِمَّا يظهر علي وجوه أهل النار المُسِيئين المُرْهَقِين مِن شِدَّةٍ وخوفٍ ونحوه بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وهَمٍّ وعذاب، بل وجوههم تكون بالقطع ناضرة أيْ حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ نعيمهم تامٌّ خالِصٌ مِن أيِّ شيءٍ يُعَكّر صفوه ويُنْقِصه وأنهم لن يَحْدُث لهم أيُّ سوء.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة هم حتماً المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والناس الذين عملوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات في الدنيا، واستمرّوا وأصرّوا عليها طوال حياتهم ولم يتوبوا منها حتي موتهم، عقوبة كل سيّئةٍ بما يُناسبها من سوءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرَّة ظلم كما يُؤكّد تعالي "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .." (النساء:40)، فلهم في دنياهم من التعاسة والألم والقلق والتوتّر والضيق والاضطراب علي قَدْرها ثم في أخراهم ما يُساويها من عذابٍ في النار.. ".. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.." أيْ وتُغَطّيهم، وجوههم وأجسادهم، إهانة شديدة وغيرها من العلامات السيئة التي تَظهر علي وجوه وأجساد أهل النار المُسِيئين المُرْهَقِين مِن شِدَّةٍ وخوفٍ وارتجافٍ واضطرابٍ وبكاءٍ ونحوه بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وهَمٍّ وعذاب.. ".. مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ.." أيْ ليس لهم من عذاب الله أيّ مانِعٍ يَمنعهم حين يُعاقبهم.. ".. كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.." أيْ كأنما أُلْبِسَت وجوههم قطعاً – جَمْع قِطْعة – من الليل في حال ظلمته وهو مُظْلِم من شدّة سوادها بسبب عظيم ما هم فيه من ذِلّةٍ ورُعْبٍ وتعاسة، فوجوههم ستكون مُسْوَدَّة مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة بسبب سوء أفعالهم..".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم أي الكافرون والمشركون منهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب الذين أشركوا أيْ كانوا يَعبدون غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف ويبدأ تَبَرُّؤ الذين كانوا يُعْبَدون مِمَّن كانوا يَعبدونهم فتكون بهذا الحُجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب لهم والاستهزاء بهم حيث هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها هي لا قيمة لها حينها حتي تَنفعهم وتنقذهم في هذا اليوم الشديد عليهم.. ".. مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ.." أيْ قِفُوا والْزَمُوا مكانكم أنتم ومَن جعلتموهم شركاء تعبدونهم غير الله فلا تُفارِقوه وتَتَحَرَّكوا منه حتي تَنْظروا ما يُفْعَل بكم ويَحْكُم الله بحُكْمه العادل فيكم.. ".. فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ.." أيْ ففَرَّقنا بينهم وجعلناهم فِرَقَاً وأزَلْنا ما كان بينهم من تَرَابُطٍ في الدنيا فأصبح بينهم أشدّ الكراهية والعداوة ومَيَّزنا بعضهم عن بعض كما يُمَيَّز بين الخصوم عند التقاضِى لمُساءَلتهم والحُكْم عليهم.. ".. وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)" أيْ وقال آلهتهم التي كانوا يَدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة – يتكلمون إنْ كانوا بَشَرَاً عُبِدُوا ويُنْطِق الخالق بقُدْرته ما كان صَنَمَاً أو غيره – لِمَن عَبَدُوهم، مُتَبَرِّئِين منهم ذَامِّين لهم، ما كنتم أبداً تعبدوننا أيْ تطيعوننا لأننا ما أمرناكم بعبادتنا وما كنا نسمعكم ولا نبصركم بل نحن نَتَبَرَّأ منكم ومن أعمالكم وأقوالكم بل ونَذمّكم عليها أيْ لا علاقة لنا بها ولا نتحمَّل نتائجها بل كلٌّ يتحمَّل نتيجة عمله، فأنتم ما كنتم إيّانا تعبدون ولكنكم أطعتم واتَّبعم كل شرّ مُفسِد مُضِرّ مُتْعِس بإرادتكم ولم نطلب منكم أبداً أن نكون آلهة لكم لتعبدونا أي لتُطيعونا أو كان لنا سلطان أو نفوذ عليكم لإجباركم علي ذلك بل ولم يكن لكم أنتم أيّ دليل علي أحَقِيَّتنا بالعبادة.. وفي هذا التّبَرُّؤ مزيدٌ من الحَسْرَة والنَّدامَة الشديدة والإخافة لهؤلاء العابدين لغير الله تعالي في وقتٍ لن ينفعهم أيّ نَدَمٍ حتماً بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب
ومعني "فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)" أيْ هذا تأكيدٌ لهذا التّبَرُّؤ والرفض والذمّ من المَعْبُودين للعابدين لهم والرجوع إلى الشهادة الحقّ فى ذلك.. أيْ فيَكفينا كفاية تامّة – ولا نحتاج أبدا لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بيننا وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل أحد ما يستحقّ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا.. إنه كفي بالله شهيدا بيننا وبينكم يشهد إننا كنا غافلين عن عبادتكم لنا أيْ ما علمنا ولا شعرنا بها ولا أمرناكم بفعلها ولا دعوناكم إليها وما كنا نعلم ما كنتم تقولون وتفعلون.. وفي هذا تمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب لهؤلاء العابدين لغير الله تعالي
ومعني "هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)" أيْ عند ذلك الوقت والمكان تَخْبُر وتَعْلَم وتُعَايِن كل نفسٍ إنسانية ما أسلفت من أعمالها أيْ ما فَعَلَته سالِفَاً أيْ سابقاً في دنياها من خيرٍ أو شرٍّ من خلال الكتاب المُسَجَّل فيه كل أقوالها وأفعالها صغيرها وكبيرها الخيْرِيَّة والشرِّيَّة في كل حياتها الدنيوية حيث يُجازيها الله تعالي علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعْدِلِ العادِلِين، بعد أن أُعِيدَ وأُرْجِعَ جميع البَشَر مسلمون وكافرون ومشركون وغيرهم مُحْسِنون ومُسِيئون بعد موتهم وبعد نهاية الحياة الدنيا إلي الله مالِكهم وخالِقهم ومُتَوَلّي أمورهم الحقّ الذي لا يُخالِطه أيّ شكّ المُتَحَقّق تماماً وجوده وسلطانه فلا سلطان ولا حُكْم ولا ولاية لأيِّ أحدٍ غيره المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ العدل الذي لا يَحكم إلا بالحقّ، ليَتَوَلّي حسابهم ومُجازاتهم.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن المشركين ما كانوا يعبدون غير الله تعالي في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)" أيْ هذا بيانٌ لبعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليَتَدَبَّروا فيَتّعِظوا فيَرْتَبِطوا بربهم وإسلامهم فيَسعدوا في الداريْن، قل لهم مَن الذي يُسَبِّب لكم أسباب كل أنواع الأرزاق سواء أكانت هذه الأسباب من السماء كالمطر والهواء والشمس والطاقة ونحو هذا ممّا يُعْلَم أو لا يُعْلَم أم كانت من الأرض مثل الأنهار والبحار والنباتات والثمار والحيوانات والطيور والأسماك والمعادن والخامات وغيرها ومثل العقل والصحة والقوة ونحوها ممّا يَنفعكم ويُسعدكم؟!!.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك حيث أنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده الخالق المُسْتَحِقّ للعبادة!!.. ".. أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ.." أي بل قل لهم أيضا مَن الذي يَمتلك ويَخْلُق ويَمْنَح برحمته وكرمه ما تتمتّعون به من حَوَاسّ السمع والأبصار وغيرها مِمَّا يُعينكم علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّزون بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لكم السعادة الكاملة في دنياكم ثم أخراكم، ولو أراد لذَهَبَ بها وأخذها منكم.. هذا، وقد خُصِّصَت هاتان الحاسَّتان بالذكر رغم أنَّ كل خَلْق الإنسان أمرٌ مُبْهِرٌ لِمَا لهما من أثرٍ كبيرٍ في إسعاد حياته يُدْركه كل عاقلٍ حيث بهما مع العقل يتحقّق العلم والفكر و التطوّر والنجاح.. ".. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.." أيْ وقل لهم كذلك من القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه، فهو يَخْلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِمَّا هو ميّت بلا روح كماء الشرب، ويخلق بَيْضَاً مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وما شابه هذا من إعجاز.. ".. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.." أيْ وقل لهم كذلك مَن الذي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات، يُسَيِّرُ كلّ أموره، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته ليُنفّذوها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أيِّ مكانٍ من كوْنه، ثم يَعْرُج إليه كلٌّ منهم أي يصعد له، أي يعودون بعد التنفيذ ليُتابعهم سبحانه، وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادةٍ ونحو ذلك، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. ".. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ.." أيْ فلن يكون لهم أيّ إجابة إلا أنْ يقولوا أنَّ الفاعل لكل ذلك هو الله وحده، لشدَّة وضوح الأمر!! وذلك إنْ فكّروا وكانت لهم عقول مُنْصِفَة عادِلَة!! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي يفعل ذلك! فليس لهم إذَن إلا هذه الإجابة! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها! وهذه هي إجابة المشركين، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق الرازق المُحْيي المُمِيت المُدَبِّر للأمور لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة!!.. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة).. فكيف يكون منهم هذا الكذب الواضح السخيف؟! هذا الانصراف عن الحقّ بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل!.. ولماذا إذَن بعد أن اعترف المشركون بأنَّ الله وحده هو الخالِق يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مِمَّا لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضرر كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!.. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار سببه تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)" أي فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ألَاَ تُحْسنون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)" أيْ فذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – الحقّ أي الصدق المستَحِق وحده للعبادة بلا أيِّ شريك الذي وجوده صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصدق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدق كله، والإيمان به هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بنصر المؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبعث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضياع وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يكون غير الحقّ إلا الضلال؟! أيْ ماذا يكون بعد الابتعاد عن الحقّ أي الصدق والعدل والخير والصواب والسعادة؟! إنه لا يكون حتماً إلا الوقوع في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد والظلم والتعاسة! أيْ ليس بعد ترك الإيمان وعبادة الله تعالي وحده إلا الوقوع في الكفر حيث لا أمر وسط بينهما بل أيّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوةٍ واحدةٍ يُعَدّ كفراً!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)" أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَبْتَعِدون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والابتعاد والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسرور في الداريْن والذي هو في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والشقاء والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. ولكنه التعطيل لهذه العقول من البعض منكم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا مزيدٌ من التعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه والرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)" أيْ هكذا دائما وَجَبَت كلمة ربك بالعذاب علي الذين خرجوا عن طاعة الله والإسلام لأنهم لا يؤمنون أيْ لا يَتّبعون الإسلام – والمراد بالكلمة هو ما تَوَعَّد الله به الفاسقين من عذابٍ في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم – فيُعَذّبون علي قَدْر بُعْدِهم عنه بعذابٍ بعضه في دنياهم وتمامه في أخراهم، فمَن تَرَكَ بعض أخلاق إسلامه ولم يَتُب عُذّب علي قَدْر تَرْكه، ومَن تَرَكه كله وكَفَر خُلّد في النار.. هذا، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه بسبب أنهم لا يؤمنون، أيْ لم يشاءوا الإيمان، لم يشاءوا الإسلام والعمل بكل أخلاقه، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الفِسْق أيْ الخروج عن طاعة الله والإسلام، لأجل هذا لم يشأ لهم سبحانه الهداية أيْ لم يُوَفّقهم لها ولم يُيَسِّر لهم أسبابها، فحَقّت عليهم بذلك كلمة ربك أنهم لا يؤمنون أيْ حُكْمه وأسلوبه بعدم مساعدة مَن لا يَبدأ هو بعقله بالسعي للهداية للإيمان، وكيف يشاؤها لهم وهم مُصِرُّون هكذا كل هذا الإصرار علي ما هم فيه دون أن يبدأوا بأيِّ بادِرَةِ خيرٍ ولو بخطوةٍ نحو الإسلام حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه خَلْقَه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11) (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)" أيْ هذا بيانٌ لبعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليَتَدَبَّروا فيَتّعِظوا فيَرْتَبِطوا بربهم وإسلامهم فيَسعدوا في الداريْن، قل لهم هل من شركائكم أيْ آلهتكم أيْ مَعْبُوداتكم التي تَدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها مَن يبدأ خَلْقا ما في كلّ لحظةٍ سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فهو وحده الخالق!! ثم كيف تُنْكِرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كُن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. إنه مَن كان مِن آلهتكم مَن يمكنه أن يَدَّعِي أنه يفعْل ذلك فَلْيَتَجَرَّأ ولْيَتَقَدَّم ولْيُعْلِن عن ذاته أمام الخالق الحقيقيّ الذي يقول أنه هو الخالق الواحد وهو الله تعالي!! فإن لم يَتَقدَّم ويُعْلِن فهو إذن جبان كاذب ولا يمكن أن يكون إلاها! وإن لم يَعلم أنَّ هناك خالقا آخر غيره فهو إذن تائه غافل لا يَصلح أن يكون إلاها أيضا!! والسؤال في الآية الكريمة هو لنفي ذلك قطعيا ولِلَّوم الشديد وللسخرية من هؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما تقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم الله تعالي وحده لا غيره هو الذي يُنْشِيء الخَلْق مِن عدمٍ ثم يُفْنِيه ثم يُعيده بعد فنائه ويُنشيء غيره سواء أكان إنساناً أم حيواناً أم نباتاً أم غيره وهو يَفعل هذا في الدنيا ثم الآخرة، أمّا شركاؤكم فهم أعْجَز مِن أنْ يَخلقوا أيَّ شيءٍ من عدمٍ حتي ولو اجتمعوا له.. ".. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)" أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)" أيْ قل لهم أيضا دليلاً آخر يُسَفّه أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم: هل مِن مَعْبُوداتكم مَن يستطيع أنْ يَهدي أيْ يُرْشَد غيره – كما يهدي الله تعالي – إلى الدين الحقّ أيْ الصدق أيْ إلي الصراط المستقيم أيْ إلي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحرافٍ طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة بأنْ يُنزل مثلاً كتاباً أو يُرْسِل رسولاً أو يُشَرِّع شَرْعَاً كالإسلام يَضَع نظاماً دقيقاً لهذا الكوْن يُديره علي أكمل وأسعد وجه للخلق كلهم؟!.. والسؤال في الآية الكريمة كما في سابقتها هو لنفي ذلك قطعيا ولِلَّوم الشديد وللسخرية من هؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم عقلاً بل لا عقل لها!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما تقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم الله تعالي وحده لا غيره هو الذي يهدي للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة الحاسِمَة وبالتوفيق وبالتيسير لاتّباعه، وذلك من خلال كتبه مع رسله وآخرها القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، والذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. أمّا شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من ذلك بل يُضِلّونكم ويُتْعِسونكم فيهما.. ".. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى.." أيْ هذا مزيدٌ من التسفيه لأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب إغلاقهم لعقولهم حتي لم يستطيعوا إدراك أوضح الأمور، ومزيدٌ من التَعَجُّب من حال أمثالهم الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ومزيدٌ من الرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ هل مَن يهدي أيْ يُرْشِد غيره إلى الحقّ وهو الله تعالى وحده أحقّ أن يُتّبَع فيما يُوصِي به من إسلامٍ أم مَن لا يَهِدِّي أيْ لا يستطيع أن يهتدي بنفسه إلاّ أن يهديه غيره أحقّ بالاتّباع؟! كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! لأنه حتماً بلا أيَّ شكّ عند كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ الذى يَهْدِي غيره إلى الحقّ أحقّ بالاتّباع مِن الذى هو فى حاجةٍ إلى أن يَهْدِيَه غيره وبالتالي فمِن باب أوْلَيَ هو عاجز قطعاً أن يَهْدِي غيره لعدم عِلْمه ولضلاله كمعبوداتهم التي لا تَهْدِي ولا تَهْتَدِي.. هذا، ولفظ "يَهِدِّي" في اللغة أصله يَهْتَدِي ثم أُدْغِمَت التاء في الدال فأصبحت مُشَدَّدَة وهي صيغة تُفيد عدم الهداية إلا بصعوبة.. ".. فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)" أيْ فماذا حَدَثَ لكم؟! ما الذي أصاب عقولكم؟! وكيف أصْدَرتم هذه الأحكام الواضحة السَّفَه والجهل والفساد لمَن كان عنده أيّ ذرّةٍ مِن عقل وما أدِلّتكم عليها؟! ما أسوأ هذا الحُكْم!! أمَا لكم عقول تتدبَّرون بها ما تقولون وتفعلون؟! كيف تَحكمون هذا الحكم الباطل السَّفِيه بالمساواة بين الخالِق وخَلْقه؟! كيف تُشركون فى العبادة مع الله تعالي الخالق الهادي النافع الضارّ وحده مخلوقات لا تَهْدِي بنفسها وإنما هى فى حاجةٍ إلى مَن يَخلقها ويَهديها ولا تَنفع ولا تَمنع ضَرَرَاً، بعد ظهور الأدِلّة القاطعة علي أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة؟! لماذا لا تعبدون ربكم وتعملون بأخلاق إسلامكم لتسعدوا في الداريْن بَدَلَ أن تتعسوا تماما فيهما ببُعْدِكم عنهما؟!.. ولكنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)" أيْ هذا مزيدٌ من التسفيه لأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب إغلاقهم لعقولهم حتي لم يستطيعوا إدراك أوضح الأمور، ومزيدٌ من التَعَجُّب من حال أمثالهم الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ومزيدٌ من الرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ وما يَسير أكثر هؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم في عبادتهم لمَعْبُوداتٍ غير الله تعالي إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي صفات علي المسلم أن يَتَّصِف بها ليسعد في الداريْن – لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام عقولهم فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ الظنّ حتماً لا قيمة له ولا يَنبني عليه أيّ تغييرٍ للحقّ أي لِمَا هو ثابت أكيد، فهو أبداً لا يُغْنِي أيْ لا يَنفع أيَّ شيءٍ ولا يَحِلّ مُطلقا مَحلّ الحقّ ولا يَنفع في معرفته والوصول إليه بأيِّ شيء، وبالجملة فالظنّ ليس مُطْلَقَاً كالحقّ الذي هو اليقين المُؤَكّد الشديد الوضوح الذي لا يُمكن إنكاره إلا مِن مُكَذّبٍ مُعَانِدٍ مُسْتَكْبِرٍ أو سَفِيهٍ أو مُخَرِّفٍ أو مَن شابههم.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)" أي إنَّ الله بكل تأكيد عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يفعلونه ويقولونه كله أمثال هؤلاء سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم عليه بما يُناسِب مِن كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)" أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل هذا القرآن العظيم أن يُدَّعَيَ كذباً مِن غير الله تعالي مِن أيِّ أحدٍ مِن خَلْقِه مهما كان.. أيْ وما كان يتهيَّأ لأحدٍ أن يأتي بهذا القرآن مِن عند غير الله ثم ينسبه إليه سبحانه افتراءً عليه أيْ كذباً شنيعاً عليه لا أصل له لأنه لا يَقْدِر على ذلك أحدٌ مِن الخَلْق وقد حاول بالفِعْل كثيرون من أفصح الفصحاء وعَجزوا وفَشلوا ويَئسوا.. أيْ مِثْل هذا القرآن لا يكون أبداً إلاّ مِن عند الله فهو لا يُشْبِهه ولا يُقارِبه بالمُطْلق أيٌّ مِن كلام البَشَر.. أيْ وما كان يَسْهُل مُطْلَقَاً أن يُفْتَرَيَ هذا القرآن علي الله تعالي.. وذلك لأنه في إعجازه وهدايته وإحكامه لا يُمكن أن يكون من عند غير الله لأنه الكتاب العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، والذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ ولكنه كلام الله تعالي الذي أوحاه وأنزله إلى رسوله الكريم محمد (ص) ليكون تصديقَ الذي بين يديه – أيْ مَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عنده كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب – أيْ مُصَدِّقَاً لها أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. لقد جعلناه كذلك مُهَيْمِنَاً أيْ حاكِمَاً مُرَاقِبَاً علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. ".. وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ.." أيْ وأنزلناه ليكون كذلك تفصيل أيْ توضيح وتَبْيين الكتاب الذي كَتَبَه الله علي خَلْقه وهو الإسلام المُشْتَمِل علي الوصايا والأخلاق والتشريعات والنظم والأصول والقواعد لكلّ شيءٍ في حياة الناس والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن.. ".. لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا شكّ أبداً مِن أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ في أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز مُنَزَّلٌ من ربِّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا
ومعني "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)" أيْ أمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين هل يُصَدِّقُون ويَعترفون بأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول (ص) هو الذي افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عنده؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون، وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه (ص) هو الصادق الأمين!! وأنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب!! وقد ثَبَتَت وتَأكّدَت الأدِلّة الواضِحَة القاطِعة الحاسِمة علي صِدْقه وصدق القرآن وإعجازه وكذبهم الواضح في ادِّعائهم كما ذُكِرَ في الآية السابقة وغيرها من الآيات!!.. ".. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التّحَدِّي والتَّعْجِيز وإسْكات الأَلْسِنَة إنْ كان الأمر كما تَدَّعون أنَّ القرآن مِن عندي وأنه من كلام البَشَر فهَاتُوا أنتم أيها الفُصَحَاء سُوُرَة تُمَاثِل سورة منه، والسورة هي مجموعة من آياته، واسْتَدْعُوا واطلبوا عَوْن كلّ مَن استطعتم مِن غير الله تعالي مِمَّن تَدَّعون أنهم ينصرونكم وينفعونكم غيره سبحانه مِمَّن تَقْدِرون علي استدعائه وإحضاره لمساعدتكم من آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها من أصنامٍ وغيرها ومِن نُصَرَاءكم وأعوانكم وفُصَحَائكم وغيرهم إنْ كنتم صادقين في ادِّعائكم هذا أنه ليس مِن عند الله وأنه مِن عندي وأنكم تَقْدِرُون على الإتْيَان بمِثْله وعلي مُعَارَضَته ومُجادَلَته ومُساواته وأنَّ هذه الآلهة تساعدكم، فإنْ جئتم بسورةٍ مثله فأنتم إذَن صادقون!! وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان
ومعني "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)" أيْ هؤلاء السفهاء لم يَكْتَفُوا بما قالوه فى القرآن الكريم من أقوالٍ سَفِيهَةٍ قبيحةٍ بل سارَعوا إلى التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه أيْ بما لم يعلموه ويفهموه ويَتَدَبَّروه بإحاطةٍ من كل جوانبه بعقولهم مِمَّا فيه مِن وَصايا وأخلاقيَّات وأنظمة وتشريعات تُصْلِحهم والبشرية كلها وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولَمَّا يأتهم تأويله أيْ وبدون انتظارٍ لتفسير معانيه وأخباره التي لم يَعلموها ويَفهموها بَعْدُ بالتفكير فيها والسؤال عنها، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي إغلاقهم لعقولهم وعدم إحسان استخدامها وإصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم مع عدم التّأَنّي والتَّثَبُّت.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُذَكّر المسلمين بخُلُقٍ هامٍّ في الإسلام وهو عدم التّعَجُّل والتّثَبُّت والتّأكّد في الأمور كلها، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، خاصة أم عامة، عاجلة أم آجلة، وذلك بأن يُحيطوا بعلمها وتفاصيلها ما استطاعوا ويسألوا الثقة من أهل التّخَصُّص فيما لا يعلمونه منها ويستفيدوا بخبرات السابقين في إيجابيَّاتها وفوائدها وسَلْبِيَّاتها وأضرارها.. فالتّثَبُّت في الأمور كلها والتَّحَرُّك في الحياة بناء علي معلومات وأدِلّة موثوقة يجعل الناس دائما علي صوابٍ أو قريبين جدا منه ويضبط أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة، بينما عدم التثبت والتحرك العَشْوائيّ دون معلومات ودلائل وخبرات يُكْثِر الأخطاء والتّخَبُّطات والتّشاحُنات والتعاسات فيهما.. ".. كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.." أيْ كما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء فقد كذّبَ كثيرون من قبلهم السابقين لهم منذ أبيهم آدم واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك التكذيب لرسلهم وكتبهم حتي جاءهم عذابنا الدنيويّ ثم الأخرويّ.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل الظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أيْ آخر أمرهم أيْ نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ الظالمين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)" أيْ ومِن المُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم مَن سيُؤمِن أيْ سيُصَدِّق مُسْتَقْبَلاً بالقرآن العظيم وبربه وبرسوله (ص) ويُسْلِم ويعمل بأخلاق الإسلام التي فيه فيَسعد في الداريْن وذلك حينما يُزيح عن عقله الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ويُحْسِن استخدامه ويَعود لفطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ويُحْسِن المسلمون حوله دعوته لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين مِن بَعْده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم سبحانه أنَّ الكثيرين سيُؤمنون كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً وسيَنتشر الإسلام وسيَسعد الناس به في دنياهم وأخراهم، فلْيَصبروا بالتالي إذَن وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ.." أيْ ومنهم فريق لا يصدِّق به أبداً ويَظلّ مُصِرَّاً علي تكذيبه وعِناده واستكباره وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حتى يموت على ذلك، بسبب إصراره التامّ علي إغلاق عقله من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)" أيْ وربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – حتما أعرفُ من أيِّ أحدٍ بالمُفسدين وأخْبَرُ بدَوَاخِلهم فهو يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في كوْنه كله، أعلم بكل أقوالهم وأفعالهم ومَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم بكلّ صورها المختلفة، الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم لأنهم فاسدون في أنفسهم مُتْعِسُون لها مُفْسِدون مُتعسون لغيرهم، وبالتالي سيُجازِيهم في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر فسادهم.. والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الداريْن وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمفسدين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)" أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لي ديني وجزاء عملي ولكم دينكم وجزاء عملكم، مثلما قال تعالي في الآية (6) من سورة الكافرون "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (برجاء مراجعتها لاكتمال المعاني)، فأنتم بَريئون مِمَّا أعمل أيْ لا صِلَة لكم به أيْ لا تُؤَاخَذون بعملي وأنا بريء مِمَّا تعملون أيْ لا صِلَة لي به أيْ لا أؤاخَذ بعملكم، أيْ كل فردٍ سيتحمَّل نتيجة عمله لا يتحمّله عنه أحدٌ غيره، وهذا تأكيدٌ وتفصيلٌ لقوله لي عملي ولكم عملكم، فافعلوا ما شئتم فسيُحاسِب الله تعالي البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهذا يُفيد ضِمْناً الابتعاد عنهم وعدم الرضا عمَّا يقولون ويفعلون من سوء
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)"، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)" أيْ والبعض مِن المُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم، يستمعون إليك أحيانا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عند قراءتك لبعض آيات القرآن العظيم وعند دعوتك لله وللإسلام استماع استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمام، ولا يستمعون استماع تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، وذلك لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)" أيْ فهل أنت تسطيع أنْ تُسمع الصُّمّ أيْ الذين لا يسمعون بآذانهم ولو كانوا لا يعقلون أيْ ولو أُضِيفَ إلى صَمَمهم عدم تَعَقّلهم؟!.. والمقصود أنْ استَمِرُّوا أيها المسلمون في التمسّك والعمل بإسلامكم وفي الدعوة إليه بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ولا تلتفتوا إلي أقوالهم وأفعالهم واطمئنوا ولا تشعروا بتقصيرٍ نحوهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة ووسائلها وأساليبها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنَّ المشكلة هي فيهم هم وليست فيكم أنتم، في عقولهم، فهم كالصُّمّ، فهل الأَصَمّ مِن المُمكن أن يَسمع أيّ دعوة تُوَجَّه إليه؟! مع مراعاة أنَّ الأصَمَّ العاقل يَصِل للخير بالإشارة التي تُحَرِّك فِكْره وفِطْرته! والسؤال هو للنفي وللاسْتِبْعاد أيْ كَلَّا لا يستطيع أحدٌ ذلك، إلا إذا أزاحوا عن عقولهم الأغشية التي عليها وأحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) حينها يُوَفّقهم الله تعالي للهداية له وللإسلام ويُيَسِّر لهم أسبابها.. "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)" أيْ وكذلك البعض منهم ينظر إلي أدِلّة صِدْقك الواضِحَة القاطِعَة أنك رسول الله وصِدْق ما أُوحِيَ إليك وهو القرآن العظيم وكمال وحُسن خُلُقك وتَصَرُّفك ويُشاهدها بعينه ولكن لا يُصَدِّقونك ويُؤمنون، لأنهم ينظرون نَظَر استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمامٍ لا نظر تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، وذلك لإصرارهم التامّ علي إغلاق عقولهم.. ".. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)" أيْ فهل أنت تستطيع أن تَهْدِي العُمْىَ ولو أُضِيفَ إلى عَمَيَ أبصارهم – حيث هم كالأعْمَيَ الذي لا يُبْصِر – عَمَيَ بَصِيرتهم أيْ إدراك عقولهم؟! بل الأعمي العاقِل يَصِل للحقّ بحُسْن استماعه وتَعَقّله وتَدَبُّره فيما يَسمعه كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا!.. والسؤال أيضا كما في الآية السابقة هو للنفي وللاسْتِبْعاد أيْ كَلَّا لا يستطيع أحدٌ ذلك، إلا إذا أحسنوا هم استخدام عقولهم فيُوَفّقهم حينها ربهم للهداية له وللإسلام
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)" أيْ إنَّ الله الخالق الرحيم الكريم لا يظلم أبداً أيَّ أحدٍ من الناس بأيّ شيءٍ مِن ظلمٍ ولو وَزْن ذرَّة أو أقل، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، ولكنَّ الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فيُتعسوها ويُتعسوهم في دنياهم وأخراهم، بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إنه تعالي سيُحاسِبهم جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! فالظالمون بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم يُصِرُّون تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فأمثال هؤلاء حتماً سيُعاقَبون بما يُناسبهم في الدنيا والآخرة
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر لحسابهم، وعندما يَرَي المُسِيئين العذاب الذي كانوا يُوعَدون به في دنياهم وكان بعضهم يُكَذّبه ويَنْزِل بهم واقعيا في النار حينها سيَستشعرون كأنهم لم يَبْقُوا في حياتهم الدنيا إلا وقتاً قليلاً جداً كأنه مثلاً ساعة فقط مِن اليوم بما يَدلّ علي استصغار مدة الحياة مهما طالَت لأنّ شدّة هذا العذاب والموقف تُنسيهم كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها.. وفي هذا مزيدٌ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ حيث تمام الحَسْرة والندم في وقت لن ينفعا فيه بشيء.. ".. يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.." أيْ وهم يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون كما كان حالهم في الدنيا، وبذات أجسادهم وأشكالهم بما يدلّ علي قُدْرته سبحانه علي البَعْث وأنَّ كوْنهم كانوا ترابا ليس له أيّ تأثير، فيَعرفون الآباء والأبناء والأقارب والجيران والأصحاب والرؤساء والمرؤسين وغيرهم، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، حيث يعرف كل فريقٍ بعضه ويتعارَف فيما بينه، أهل الخير، وأهل الشرّ، ففاعِلِي الخير في دنياهم يَتعارفون وقتها ويَتحدّثون مُتآلِفين مُسْتَبْشرين مُنتظرين أعظم ثوابٍ علي كل خيرٍ فَعَلوه، وفاعِلي الشرّ كذلك يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون ويتحدّثون مُتَنَافِرين خائفين يَسُبّ ويَلْعَن بعضهم بعضا لأنهم تشاركوا في أسباب ما هم فيه بشكلٍ من الأشكال مُكْتَئِبين تُعَساء مُنْتَظِرين أشدّ عذابٍ مُناسبٍ لكلّ شرٍّ فعلوه.. ".. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين لم يُصَدِّقوا بمُقابَلَة الله يوم القيامة لحسابهم علي أقوالهم وأفعالهم حيث يُعطي المُحسنين كل خيرٍ وسعادةٍ في درجات جناته علي حسب أعمالهم ويُعاقِب المُسيئين بكل شرٍّ وتعاسةٍ في عذاب ناره علي قَدْر شرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، الذين يَستبعدون البَعْث بالأرواح والأجساد بعد موتها وكوْنها ترابا في قبورها، ولذلك يفعلون في دنياهم ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار لتَوَهُّمهم أنْ لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار.. لقد خسروا حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضلالهم أيْ ضياعهم وإصرارهم علي تكذيبهم، أيْ وما كانوا أبدا راشِدين مُصِيبِين للخير والسعادة في فِعْلهم هذا وما كانوا مطلقا مُحَقّقِين للربح في دنياهم وأخراهم ما داموا مستمرّين هكذا علي ما هم فيه
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)" أيْ وإنْ نُرِك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده بعض الذي نَعِدُهم به هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من العذاب الدنيويّ بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في أثناء حياتك ليشْفِي ذلك الانتقام منهم بعض ما في صدرك من ضيق ولتسعد بالنصر والتمكين في الأرض، فهذا سيكون خيرا وبها ونِعْمَت، وإنْ لم يتحقّق فسيتحقّق لغيرك من المسلمين بعد أن نَتَوَفّاك، فقُم بتأدية ما عليك ولك أجرك العظيم علي كلّ الأحوال واتْرُك التوقيت والأسلوب له سبحانه فسيأتي به في أفضل وأنْسَب وقتٍ يُحقّق لكم تمام السعادة في الداريْن، ولو فُرِضَ ولم يتمّ عذابهم في الدنيا بصورةٍ مِن الصور كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بدرجةٍ ما مِن درجات التعاسة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا حيث العذاب الأكيد لهم ولأمثالهم بما هو أتمّ تعاسة وأعظم، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذَن! فاستمِرّوا في تمسّككم بإسلامكم وعملكم بكلّ أخلاقه وحُسن دعوتكم لغيركم واصبروا علي أذاهم لتسعدوا بذلك في دنياكم وأخراكم.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة فيه إرشاد للمسلم أن يكون هكذا دائما في كلّ شئون حياته متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ نتائج أيّ سببٍ سيتّخذه مِن أجل أيّ خيرٍ لابُدَّ حتما ستتحقّق يوماً مَا، إنْ عاجلا أو آجلا، إمّا فوريا أو بعد فترة قصيرة أو متوسطة أو طويلة، وعلي حسب نوع الخير ومقداره وحالته، وسواء رَأَيَ هذه النتائج السعيدة للخير في أول حياته أو وسطها أو آخرها، أو حتي لم يَرَها مطلقا فيها! فإنها ستتحقّق حتما! فما مِن خيرٍ إلا ويؤدّي إلي خيرٍ بكلّ تأكيد، فهذا هو وعْد الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا لأنه قادر علي كل شيء كما يقول "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، وللمسلم أجره وثوابه في الدنيا، حيث سيَسعد بأنه دائما في كل خير، وإنْ لم يتحقّق خيرٌ مَا فسيتحقّق حتما له ولغيره خيرٌ غيره وخيرٌ آخر وخيرات كثيرات من الكريم الرزّاق، ثم له بالقطع أجره العظيم في أخراه علي كلّ ذلك في أعلي درجات الجنات، فالمهم أن يستمرّ دوْماً علي الخير ويحيا مِن خيرٍ إلي خير، أمّا موعد النتائج وكيفية وأساليب تحقيقها فهذا متروك للخالق الحكيم مُدَبِّر أمور الخَلْق والكوْن علي أكمل وجه، حيث سيختار له ولمَن حوله أفضل وأسعد الأوقات التي يُحَقّق لهم فيها نتائج أسباب الخير التي اتّخذوها سابقا، وقد يُحقّقها بالشكل الذي كانوا يريدون أو بأشكال أخري أكثر خيرا وسعادة للجميع.. فاستمرّ أيها المسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، واستمرّ في عمل كلّ خير، واستمرّ في دعوة غيرك له، وسيتحقّق انتشار الإسلام وانتصاره، وستكون كلمته هي العليا أيْ سيَتّخذه الناس مَرْجعا لهم ليسعدوا، وسيَنهزم وسيَهلك أعداؤه وكلّ مُكذب مُعانِد مُكابِر مُسْتَهْزِيء سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره، وذلك في التوقيت الذي يراه مالِك المُلك الكريم الغفور الرحيم العزيز الحكيم الخبير صالحا مُسعدا للجميع.. وهذا في الدنيا.. ثم في الآخرة يَرْجِع كلّ الخَلْق إليه سبحانه وهو شاهِد عليم بكلّ ما يفعله كلٌّ مِن أهل الخير وأهل الشرّ، فيُجازي كلاًّ بما يستحقّ مِن خيرٍ وجنان وسعادات أو شرّ ونيران وتعاسات.. ".. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مُحاسِبتهم في الداريْن.. أيْ والله بعد ذلك السوء الذي يفعلونه مُعَاقِبهم عليه بما يُناسب فهو شهيدٌ علي ما يفعلون أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أعمالهم وأقوالهم هم وكلّ خَلْقه مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله؟!.. فانتبهوا لذلك إذَن وأَسْلِمُوا أيها الناس جميعا وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ رسولاً حَسَنَاً لرسول الله (ص)، لكل الناس، لكل مَن حولك، أي كنتَ من الذين يحسنون الدعوة إلي الله والرسول (ص) والقرآن والإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)" أيْ ولكل مجموعة مِن الناس السابقين لكم ومَن حولهم رسولٌ أيْ مَبْعوثٌ بُعِثَ إليهم من الله تعالي ليدعوهم إلي الإسلام ليسعدوا به في الداريْن إذا عملوا بكل أخلاقه، كما بُعِثَ إليكم أيها الناس حتي يوم القيامة آخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، وبعثنا معهم كُتُبَاً فيها الإسلام ليُبَلّغوها لهم والتي فيها تفاصيل تشريعاتنا وأنظمتنا وأخلاقيَّاتنا المُسْعِدَة لهم في دنياهم وأخراهم التي نُوصِيهم بها المناسبة لكل عصرٍ وآخرها القرآن العظيم الذي يناسبهم بكل بيئاتهم وثقافاتهم ومتغيّراتهم إلي يوم القيامة، وأَحْضَروا لهم كل البَيِّنات أي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقهم وأنهم من عند الله وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، فمَن استجاب له فله كلّ خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة فيهما بقَدْر عدم استجابته وبسببها.. وفي هذا تأكيدٌ أنَّ الله تعالي لا يَترك خَلْقه أبداً منذ خَلَقهم يَتيهون في الشرور فيَتعسون بذلك في دنياهم ثم أخراهم بل من رحمته بخَلْقه وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم فيهما، يُرْسِل لهم دوْما في كل زمانٍ ومكانٍ مَن يُرشدهم إلي كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم فيهما، كما أنّ في الآية الكريمة تسلية للرسول (ص) وللمسلمين مِن بَعْده الذين يَدْعون الناس لله وللإسلام لكي يقتدوا بالرسل الكرام قبلهم فيُحسنوا دعوة غيرهم ويصبروا علي أذاهم مثلهم ليَنالوا مثل أجورهم في الداريْن.. ".. فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ فإذا حَضَرَ ووَصَلَ إليهم رسولهم بالبَيِّنات فصَدَّقه بعضهم وكذّبه آخرون قَضَيَ الله تعالي أعدل العادلين وأحكم الحاكمين بينهم بالقسط أيْ حَكَمَ بين الرسول ومُكَذّبيه بالعدل بأنْ يُنجي ويَنصر ويُسعد رسوله والمؤمنين ويُعَذّب ويَهزم ويُتعس ويهلك المُكَذّبين، وذلك في الدنيا أولا، بمعني أنه مَن استجاب له فله كلّ خيرٍ وسعادة ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة بقَدْر عدم استجابته وبسببها، ثم في الآخرة يَقَضِي بينهم حيث يجيء كل رسول ليكون شاهداً أميناً عادلاً مَوْثُوقاً فيه علي الفريقين المُستجيبن المُحسنين وغير المستجيبين المُسيئين في زمنه حيث يشهد الرسل الكرام علي أممهم أنهم قد بَلّغوهم الإسلام بتمامه دون أيّ نقصانٍ أو زيادةٍ كما وَصَّاهم ربهم فمنهم مَن عمل به ومنهم مَن تَرَكَه بعضه أو كله أو عادَاه، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، وهذا هو معني ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)" أيْ دائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا!! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا! إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48)" أيْ أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام، بل أنتم كاذبون!!.. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم في الدنيا، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذَن كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة) ومعني "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني لا أَقْدِر ولا أمتلك وليس بيدي مُطلقاً مَنْع أيِّ ضَرَرٍ أيْ شَرٍّ أو جَلْب وإحضار أيّ نفعٍ أيْ خيرٍ، لنفسي، إلا الذي شاء اللَّه من ذلك فيُمَلّكنى ويُعطيني هذا النفع أو يَمنع عني هذا الضرّ بتوفيقه وتيسيره، فلا يَأتيني خيرٌ إلا منه ولا يَدْفع عني شرّاً إلا هو، فكل الأمور مُفَوَّضَة مَوْكُولَة مَتْرُوكَة إليه، فما شاء أن يَحْدث لا بُدَّ حتماً أن يَحْدُث لأنه هو وحده الذي يملك كل أسباب النفع والضرّ والهداية والضلال ولو مَنَعَ كل القُوَيَ والطاقات والإدراكات عن خَلْقه لتَوَقّفَت الحياة تماما وما نَفَعَ أحدٌ أحداً أبداً بخيرٍ مَا وما اهتدي لصوابٍ وما أضَرّ أحدٌ أحداً وما مَنَعَ عنه ضَرَرَاً مَا وَقَعَ به، فهو سبحانه النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. إنه تعالي وحده الذي ينفع، إمّا مبَاشَرَة بأنْ يَصِلَ الإنسان بعقله الذي وَهَبَه له إلي ما يريد من سعادةٍ في دنياه وأخراه ويُحسن اتّخاذ أسباب ذلك ما استطاع فيُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويُيَسِّر له الأسباب، وإمّا بصورةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر له آخرين لعَوْنه.. وإنْ أصابه ضَرَرٌ مَا، فلْيُراجِع ذاته وأسبابه التي اتّخذها لتصحيح الأمور (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ كُلّاً من النفع والضرر هو مِمَّا يشاء الله تعالي للإنسان حسبما يشاء ويختار هو بكامل حرية إرادة عقله من أسباب هذا أو ذاك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الإنسان لنفسه يجتهد قَدْر استطاعته أنْ يُحَقّق النفع والسعادة له وأن يمنع الضرر والتعاسة عنه باتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة لذلك، لكن لن تَتَيَسَّر هذه الأسباب ولن تتحقّق نتائجها إلا إذا شاء الله تعالي، أي إذا يَسَّرها ووَفّق فاعِلِيها ومُتّخِذيها ولم يمنعهم أو يمنعها بشيءٍ من الأشياء، فإذا كان هذا حاله مع نفسه أقرب شيءٍ إليه فكيف ينفع أو يضرّ غيره؟! أو كيف إذَن سيأتي مثلاً بعذابٍ أو هلاكٍ له؟! أو كيف سيأتي هو بقيام الساعة أو بمُعجزةٍ خارِقَةٍ مثلاً وهو ما قد يطلبه منه بعض الكافرين والمُكَذّبين والمُعانِدِين والمُسْتَكْبرين والمُسْتَهْزِئين تَعْجيزاً له وتشويشاً عليه لأنه مسلم يدعوهم لأنه يُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن مِثْله؟!!.. ".. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الأمور كلها بيده سبحانه علي حسب إرادته وحكمته وأنه علي كل شيءٍ قدير.. أيْ لكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم، فحينما يأتي هذا الموعد، موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ، أو حتي قبله موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو حُدُوث حَدَثٍ مَا، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أيْ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو للحظة بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأن يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله الذي تستعجلون حُدُوثه لتكذيبكم واستهزائكم به، في الدنيا أولا قبل الآخرة، في أيِّ وقتٍ، مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، حيث ينزل بكم بياتاً أيْ بائِتين أيْ وأنتم أثناء نومكم بالليل، أو نهارا أي أثناء عملكم أيْ يأتيكم فجأة وقت استرخائكم واطمئنانكم أو انشغالكم فلا تستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتكم أشدّ ويكون عذابكم أعظم وقد يؤدي بكم إلي هلاككم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)" أيْ ما الذي يَستعجله المجرمون من العذاب، وكله مَكْروه مُضِرّ مُتْعِس لا مُسْعِد لهم لا يُناسبه الاستعجال؟! فمِثْله لا يُسْتَعْجَل بل يُسْتَأْخَر عند أيِّ عاقل!!.. والاستفهام للتهويل أيْ ما أعظم ما يَستعجلون به، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إنَّ الله تعالي يُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه
ومعني "أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)" أيْ هذا استفهامٌ لمزيدٍ من الذّمّ لهم واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل بَعْدَمَا وَقَع عذاب الله بكم أيها المجرمون آمنتم في وقتٍ لا ينفعكم فيه الإيمان؟! ويُقول الله تعالي أو تقول ملائكته ذَمَّاً لهم وزيادة في نَدَمِهم وأَلَمِهم في تلك الحال التي يَدَّعُون فيها الإيمان كذباً وزُورَاً مُتَوَهِّمِين إمكانية هروبهم من العذاب الآن تؤمنون به وقت الشدَّة مع أنكم قبل ذلك قد كنتم تستعجلون به تكذيباً له واسْتِبْعاداً لحُدُوثه وسخرية منه؟! (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين (84)، (85) من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)")
ومعني "ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)" أيْ هذا تأكيدٌ لذمِّهم ولَوْمِهم وزيادةٌ في نَدَمِهم وأَلَمِهم بعد أن نَزَلَ بهم العذاب.. أيْ ثم يُقالُ يوم القيامة للذين ظلموا في دنياهم أيْ ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يُقالُ لهم ليكون ذلك عذاباً نفسيّاً أليماً إلي جانب العذاب الجسديّ المؤلم: اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب الدوام في النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الظالم يُخَلّد في النار إلي ما شاء الله إذا كان ظلمه كفراً أو شِرْكَاً أو نفاقاً من النوع الذي يُظْهِر خيراً ويُخْفِي كفراً، ويُعَذّب فيها لفتراتٍ لكن دون خلودٍ علي قَدْر ظُلْمه أيْ شَرِّه إنْ كان فاسداً أو مجرماً أو نحو هذا.. ".. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)" أيْ هل تُجزون بغير ما كنتم تعملون؟! أيْ لم تُجازُوا أي تُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملتم في دنياكم، ولكن بمِثْله، أي لم تُظلَموا ولو بمقدار ذرّة وإنما عُومِلْتم بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالكم السَّيِّئَة
ومعني "وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)" أيْ ويَسْتَخْبِرونك أيْ ويَطلب منك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُراوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه أنْ تُخْبِرهم هل هو حقّ أيْ صِدْق صحيح؟! يطلبون أنْ تُنَبِّأهم علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء لا من أجل الاسترشاد ومحاولة الوصول للحقّ والخير والسعادة في الداريْن كما يَفعل كل عاقل هل ما جئتَ به من قرآنٍ ومِن بَعْثٍ للأجسام بعد موتها وكوْنها تراباً وإعادة الروح لها مرة أخري يوم القيامة ومِن حياةٍ آخرةٍ بعد الحياة الدنيا وجنةٍ ونارٍ وحساب وثواب وعقاب علي كل الأقوال والأفعال الدنيوية ومِن أنَّ عذاب الله يَنْزِل علي المُكَذّبين والعاصِين بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة، هل كل ذلك حقّ؟!.. ".. قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم نَعَمْ واللهِ إنَّ كلّ ذلك بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ حقّ.. ".. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)" أيْ وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) – هي أنّه ليس لكم إلا أنْ تُسْلِموا لتَسعدوا في الداريْن ولتَنْجُوا من عذابهما
ومعني "وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)" أيْ ومِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة للذين ظلموا، لو فُرِضَ وكانت كل نفس ظَلَمت في دنياها تمتلك وقتها ما في الأرض مِن كلّ أملاكها لَقَامت بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن تفتدي ذاتها أيْ تُنجيها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء الذي لا يُوصَف، وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض!!.. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لها.. والنفس التي ظلمت هي التي أتعست ذاتها ومَن حولها بصورةٍ ما مِن صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر شرورها ومَفاسدها وأضرارها بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعدما ذاقَت في دنياها بسبب أفعالها درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. ".. وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ.." أيْ وكَتَمَ الذين ظلموا الحَسْرَة وظَهَرَت علامات ذلك نَدَمَاً وألَمَاً علي وجوههم، حينما رأوا بأبصارهم ما تمَّ إعداده لهم من عذابٍ أليمٍ مُوجِع بما يُناسب شرور كلٍّ منهم ومَفاسده وأضراره وجرائمه، ولمَّا بدأ الاستعداد لدخول العذاب بوضع الأغلال أي القيود في رقابهم وربط أيديهم فيها لمنعهم من أيِّ حركة ولإذلالهم وإهانتهم، ولمَّا تأكّدوا أنه ليس لهم أيّ نجاةٍ منه.. ".. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ وقَضَيَ الله تعالي أعدل العادلين وأحكم الحاكمين بينهم بالقسط أيْ حَكَمَ بينهم بالعدل حيث يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، وهذا هو معني ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)" أيْ إنَّ الله تعالي وحده هو الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ وَعْد الله صِدْق سيَتحقّق حتماً يوماً مَا بالبَعْث وبالآخرة بما فيها من حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصين.. ولماذا يُخْلِفه تعالي وهو القادر علي كل شيء؟! فهو ليس كالبَشَر مِن المُمْكِن أن يخلْفوا وعودهم لعدم استطاعتهم أو لمُرَاوَغَتهم أو لِمَا شابه هذا من أسباب! وبما أنه وَعْدٌ أكيدٌ فاستعدوا له جيدا أيها الناس بأنْ تُحْسِنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا، ولا يَعقلونه ولا يَتدبّرون فيه، تماما كالجهلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، فبعضهم يكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم ينافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تارِكٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيراً ينسي قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يدرك ويتفهَّم ويعلم ويستخرج الخير الكثير المخفيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، ما لم يستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي يفعلونه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)" أيْ الله سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيءٍ كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره تكونون دائما في كل أحوالكم في كل شئون حياتكم راجِعين إليه أيْ تجعلون دوْما مَرْجِعِيَّتكم هي الله ورسوله الكريم (ص) وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وتكونون دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل عنكم سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتكم بتعاسة هذا الخطأ.. ثم جميعكم أيها الناس ستُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، وهو أعلم بكم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن والإسلام.. أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليتنبهوا له، أيْ يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد وَصَلَتْكم موعظة أيْ تَذْكِرَةٌ وتَوْصِيَة تُؤَثّر في عقولكم ومشاعركم بالترغيب أو الترهيب لتَدْفعكم للعمل بها، وهي القرآن العظيم، من عند ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – لا مِن عند غيره مِن أيِّ بَشَر، مِن خلال وَحْيه للرسول الكريم محمد (ص)، والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم تَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتكم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمكم تمام العلم.. ".. وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.." أيْ وهُوَ، وفِيهِ، دواءٌ وعلاجٌ يَشْفِي الله به ما في العقول والمَشاعِر والدواخِل من أمراضكم كالكفر والشرْك والشكّ والجهل والنفاق والظلم والتّباغُض والتّنازُع والخوف والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ونحو ذلك، لأنه إذا صَلح العقل وفِكْره ومشاعره صَلحت حتماً كل الأقوال والأفعال وسَعِد قطعاً في دنياه وأخراه مَن يفعل ذلك.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ وهُوَ، وفِيهِ، هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ (57)" أيْ ولكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم بفضل الله وبرحمته أيْ بإنزال القرآن العظيم وبِبَيَان تشريع الإسلام فبهذا لا غيره عليهم أن يَفرحوا أيْ يَسعدوا فهو أوْلَيَ مَا يَفرحون به لأنَّه بذلك يكون معهم مَصْدَر وأصْل كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ حقيقية في كل شئون حياتهم ثم في آخرتهم حيث الجنات التي فيها من النعيم الخالد التامّ المُسْعِد الذي هو بلا حسابٍ والذي يَشمل مَا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بشر، وهذا بالقطع بلا أيِّ مُقَارَنَة خيرٌ مِمَّا يجمع الناس غير المُتَوَاصِلِين مع ربهم وقرآنهم وسيرة رسولهم وإسلامهم من كل نِعَم الدنيا الزائلة بالتأكيد يوماً مَا، سواء أكانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم ظالمين أم فاسدين أم حتي مسلمين لكنهم تارِكين لأخلاق إسلامهم بعضها أو كلها أو مَن شابههم، فإنَّ مَا يجمعون من أموالٍ أو أعْوَانٍ أو مَناصِب أو ألقاب أو غيرها، كلها سعادات وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يصحبها أو يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا ويراه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بصير، ثم في آخرتهم مَرْجعهم الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم بسبب أفعالهم مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك.. ثم برجاء مراجعة أيضا الآية (55) من سورة التوبة ".. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. إنَّ الأصل في كل الأشياء أنها حلال، أيْ مَسْمُوح بها لمنفعة ولسعادة بني آدم، إلا القليل الذي حَرَّمَه سبحانه، لضَرَره، أيْ لأنه مُضِرّ مُتْعِس، أو لأنه مُسْتَقْذَر يَعافه العقل السليم ولا يقبله، أو ما شابه هذا، كما يقول تعالي "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة:29)، إذ ليس من المعقول أن تكون لنا كلها ثم تكون كلها مُحَرَّمَة علينا إلا القليل الذي يُسْتَثْنَيَ فيُحَلّل!!.. هذا، ويُراعي أن ما هو ضارّ مُسْتَقْذَر لابن آدم فإنه بالقطع نافع لمخلوقاتٍ أخري أو لإحداثِ تَوَازُنٍ مَا في البيئة والكوْن ونحو ذلك من منافع، فلم يَخْلق سبحانه بالتأكيد مَخْلُوقاً عَبَثا! حاشَا لله.. إنه تعالي لم يأذن لأيِّ أحدٍ أنْ يُحَرِّم حلالاً أو يُحَلّل حراما، لأنه لا أحد يعلم ما يَضُرّ وما ينفع إلا ما أخبر به سبحانه خَلْقه، ولذا فمَن يفعل ذلك فهو حتماً من المُفْتَرِين الكاذبين الظالمين المُفْسِدين
هذا، ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك مِن الناس الذين يُحَرِّمون ما أحَلَّ الله ويُحَلّلون ما حَرَّمَه من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي عِلْمِكم – والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن – ما أنزل الله لكم بفضله وكرمه ورحمته أيْ خَلَقَه وأعطاه مِن رزقٍ حلالٍ طيِّبٍ لا يُحْصَيَ فجعلتم من أنفسكم مُشَرِّعِين تَجعلون مِن بعضه حلالاً وبعضه حراماً مُخَالِفين شَرْع الله الذي شَرَعَه في الإسلام؟!.. هذا، ولفظ "أنزل" يُفيد لفت الانتباه لإنزال الماء من المطر فتخرج به النباتات وتنمو الحيوانات والطيور التي يَتَغذّي عليها الناس.. ".. قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)" أيْ قل لهم علي سبيل الذّمِّ والإيقاظ لعلهم يمتنعون هل الله سَمَحَ لكم بذلك أم تفترون علي الله أيْ تَكذبون بكذبٍ شَنِيعٍ ليس ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا؟! والمَعْلوم والمُؤَكّد حتماً أنَّ الله تعالي لم يَأذن لأيِّ أحدٍ أنْ يُحَلّل أو يُحَرِّم فهم بالتالي قطعاً مُفْتَرون أيْ كاذبون بأعظم الكذب، لأنه لو كان أَذِنَ لهم في ذلك لكَانَ بَيَّنه على لسان رسوله (ص)! وبالتالي فهم بالقطع مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتماً فيهما
ومعني "وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)" أيْ وما هو تَوَهُّم وتَوَقّع هؤلاء الذي يَكذبون علي الله بأعظم الكذب حين يأتي يوم القيامة؟! هل يَتَوَهَّمون أنه تعالي لن يعاقبهم علي افترائهم؟! كلّا إنَّ عقابهم بالتأكيد سيكون شديداً، ولم يُخْبِر سبحانه به لتهويله وتعظيمه.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)" أيْ إنَّ الله تعالى بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هو صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا، ولكنَّ كثيرا من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كلّ كاذِبٍ ناكِر، وأعظمها نِعْمَة القرآن والإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذبون وجود الله أصلا، أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنام أو أحجار أو كواكب أو نحوها، أم مَن شابههم في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بأعمالهم وعقولهم وألسنتهم، والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال، فالقليل هم الذين يشكرون بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7).. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه، بما استطاعوا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)" أيْ وما تكون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في أمرٍ مِن أمورك وما تقرأ من كتاب الله من آياتٍ ولا يعمل أحدٌ منكم يا مسلمين ومِن كل الناس عملاً ولا يقول قولاً مِن خيرٍ أو شرٍّ صغيراً أو كبيراً سِرَّاً أو عَلَنَاً إلا كنا عليكم شهوداً أيْ شاهدين مُطَّلِعين عالِمين بتمام العلم حين تُفيضون فيه أيْ تَخوضون وتَدخلون فيه، فنَحفظه ونُسَجِّله عليكم بكلّ دِقّةٍ وعدلٍ في كتاب أعمالكم ونجزيكم به بما يُناسب في الداريْن من كل خيرٍ وسعادةٍ أو شرٍّ وتعاسة، وبالتالي فكونوا دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إحاطة علمه تعالي بكل شيءٍ ومزيدٌ من التعميم له والبرهان عليه.. أيْ ولا يَغيب ولا يَخْفَيَ عن علم ومُشاهَدَة وقُدْرَة ربك أيّ شيءٍ في وَزْن ومِقْدار الذرَّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من هذا ولا أكبر منه.. ".. إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)" أيْ إلا وهو سبحانه يعلمه علماً تامَّاً شامِلاً لأنَّ كل ذلك مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)"، "الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)"، "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)" أيْ حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ أتْبَاع وأحِبَّاء الله القَرِيبين دائما منه المُحِبِّين تماما له أيْ المُوالِين له بالإيمان والطاعة أيْ الذين آمنوا وكانوا يَتّقون – كما في الآية (63) والتي هي مُفَسِّرَة ووَاصِفَة لمعني أولياء الله – أيْ الذين صَدَّقوا به وعملوا بكل أخلاق قرآنه وإسلامه في كل شئون حياتهم وكانوا يَتّقون أيْ يَخافونه تعالي ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ والذين يَتَوَلّاهم هو في مُقَابِل ذلك أيْ سيكون سبحانه وهو الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيَّ أمرهم أيْ مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. هذا، ولفظ "ألا" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. هؤلاء بالقطع لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أيْ هم بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا.. هذا، والعكس صحيح قطعا، أيْ مَن بَقِيَ علي دين غير الإسلام أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)" أيْ هذا مزيدٌ من التكريم والتشريف والطمْأَنَة والإسعاد لهم.. أيْ أمثال هؤلاء لهم حتماً من الله تعالي كلّ التبشير وهو الإخبار بكلّ ما هو مُسْعِد والانتظار الدائم له من خلال ما بَشّرَهم ووَعَدَهم به في قرآنه الكريم، أيْ لهم دوْما تمام الخير والأمن والسعادة في حياتهم الدنيا وكذلك في آخرتهم حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وبالتالي فهم يحيون بذلك كلّ لحظاتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. وفي هذا تشجيعٌ تامٌّ لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بهذا في الداريْن.. ".. لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا تغيير أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)" أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)" أيْ ولا تَشعر بالحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من الذي يقوله المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الله والإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه وأنك تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التسلية والطمأنة والتبشير والتثبيت والإسعاد.. أيْ لا تحزنوا لأنَّ العِزَّة كلها لله لا يملك غيره شيئاً منها فهو المُنْفَرِد وحده بكمال القوة والقُدْرة فهو يذِلّهم ويهزمهم ويُتعسهم ويعِزّكم وينصركم ويُسعدكم، فاستعينوا بالله واصبروا وتوكّلوا عليه وحده، فإنَّ أقوالهم وأفعالهم لا تعِزّهم ولا تَضُرّكم شيئاً يُذْكَر، فالعِزَّة ليست مطلقا لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّهَ بهم بل هم بسبب سوئهم أذِلّة أخِسَّاء مُتَلَوِّنين مُنْحَطّين وَضيعين كذوبين تابعين قَلِقين متوتّرين مضطربين مُهْتَزين مُرتعشين خائفين مَرْعُوبين مُنْزَعِجين مُتشكِّكين في كل ما حولهم مُتَوَقّعين أنه سيُهلكهم وبالجملة هم مرضي مُعَذّبين تَعساء في دنياهم ثم أخراهم حيث العقاب المُناسب لكل هذا حتما.. لكنَّ العِزّة جميعها قطعاً لله تعالي أيْ هو مالِك تمام العظمة والكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة والغَلَبَة والنّصْرَة وهو حتما يعطيها في الداريْن كاملة لا ناقصة حقيقية لا وَهْمِيَّة مستمرّة لا مُتَقَطّعة لرسله الكرام وللمؤمنين ما داموا متمسّكين عاملين بكل أخلاق إسلامهم ولا يعطيها أبدا بالقطع لأحدٍ غيرهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. ".. هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولأنه هو السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يقولونه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرونه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ إنَّ الله تعالي وحده هو الذي له كل مَن في السماوات ومَن في الأرض مِن العقلاء من المخلوقات – إضافة بالقطع لكل مَا فيهما مِن غير العقلاء – وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. هذا، وإذا كان العقلاء هم كلهم عباد لله تعالي ولا يُمكن أبداً أن يكونوا آلهة شركاء له لكي تُعْبَد فمِن باب أوْلَيَ حتماً غير العقلاء بما يدلّ علي أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة!!.. ".. وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)" أيْ والذين يَدْعون أيْ يَعبدون من دون الله أيْ غيره كأصنامٍ وغيرها، لا يَتّبع أيْ لا يَسِير خَلْف ويَعبد ويُطيع هؤلاء المشركون، شركاء بحقّ، أيْ آلهة أيْ مَعْبودات تَسْتَحِقّ العبادة حيث تملك مع الله لعابديها خيراً أو تمنع عنهم ضرَّاً، حتي وإنْ كانوا هم يُسَمُّونها كذباً وزُورَاً آلهة، لأنَّ الله تعالي ليس له حتماً أيّ شريكٍ مِن خَلْقه في مُلْكه وعبادته إذ هل يُشارِك المَخلوق خالِقه في قُدْرته وعِلْمه؟! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، إنما هم في ذلك لا يَتّبعون إلا الظنّ أيْ لا يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ هم كذلك إلاّ يَخْرصون أيْ يقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي قد وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)" أيْ ومن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي جَعَلَ أيْ خَلَقَ لكم أيها الناس، من رحماته بكم وبكل خَلْقه ومِن حبّه لكم وإرادة إسعادكم بحياتكم، الليل لكي تسكنوا فيه أيْ تستقرّوا وترتاحوا بعد تَعَب حركتكم وسَعْيكم فيكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله، وجعل لكم النهار مُبْصِرَاً أي مُبْصَرَاً به أيْ مُضِيئاً بحيث تُبْصِرون فيه الأشياء ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكلّ هذا وغيره مِن أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وهكذا تَوَالِي لليلٍ ونهارٍ وتَوَالِي لكلّ خيرٍ وسعادة طوال الحياة الدنيا ثم إلي تمام السعادة وخلودها في الحياة الآخرة.. إنَّ هذا التوالي لهما هو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر – والشكر – من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)" أيْ لكنْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا أناس يسمعون لها سماع تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ واستفادة وانتفاع وتطبيقٍ عمليّ في واقع حياتهم لِمَا يسمعونه ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، وليس أيّ استماعٍ بلا أيّ تَعَقّل!
ومعني "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)" أيْ قال بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. سُبْحَانَهُ.." أي فسَبِّحوه تعالي أيها الناس، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ هذا بيانٌ لِغِناه سبحانه عن الولد وعن كل شيءٍ.. أيْ هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه وهو المُسْتَغْنِي عنهم وهم المُحتاجون إلي أفضاله وأرزاقه ورحماته ومَعوناته في كل شئون ولحظات حياتهم، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا! فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك! فهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا.." أيْ ما عندكم أيّ دليلٍ بهذا الذي تَدَّعُونه كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنَّ الله تعالي قد اتّخَذَ ولدا.. إنهم لو كان عندهم أيّ دليلٍ لَكَانوا أظهروه وبما أنهم لم يستطيعوا فهم إذَن كاذبون بكل تأكيد، وما قالوا ما قالوه إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ لمزيدٍ من الذمّ واللوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك.. أيْ هل تقولون على الله الكذب جَهْلاً وجَرَاءَة عليه؟! تقولون عليه سبحانه شيئاً بغير علمٍ أو دليلٍ أو تَثَبُّتٍ، أو تَصِلُوا إلي مرحلة أن تقولوا عليه كذباً أو افتراءً أو سَفَهَاً أو تَعَالِيَاً أو عِنادَاً أو مُرَاوَغَة أو ما شابه هذا، سواء أكان هذا القول في شَرْعه تعالي وهو الإسلام أو في صفاته أو أقواله أو أفعاله.. إنه ليس هناك قطعاً أيّ صِحَّةٍ وصِدْقٍ لِمَا تقولونه وقولكم هذا أعظم دليلٍ على تَعَمُّد الافتراء أيْ الكذب الشنيع لأنه ليس له أيّ أصل.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُذَكّر المسلمين بخُلُقٍ هامٍّ في الإسلام وهو عدم التّعَجُّل والتّثَبُّت والتّأكّد في الأمور كلها، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، خاصة أم عامة، عاجلة أم آجلة، وذلك بأن يُحيطوا بعلمها وتفاصيلها ما استطاعوا ويسألوا الثقة من أهل التّخَصُّص فيما لا يعلمونه منها ويستفيدوا بخبرات السابقين في إيجابيَّاتها وفوائدها وسَلْبِيَّاتها وأضرارها.. فالتّثَبُّت في الأمور كلها والتَّحَرُّك في الحياة بناء علي معلومات وأدِلّة موثوقة يجعل الناس دائما علي صوابٍ أو قريبين جدا منه ويضبط أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة، بينما عدم التثبت والتّحَرُّك العَشْوائيّ دون معلومات ودلائل وخبرات يُكْثِر الأخطاء والتّخَبُّطات والتّشاحُنات والتعاسات فيهما
ومعني "قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك مِن الناس ولأمثال هؤلاء المُسيئين السابق ذِكْرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُنَبِّهَاً ومُحَذّرَاً لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أن يتعسوا فيهما، قل لهم إنَّ الذين يَخْتَلِقون علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، لا يُفلحون حتماً أيْ لا يفوزون ولا ينجحون ولا يربحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم، بل يُعَذّبون فيهما علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وسيُعَاقَبون بما يَستحقّون بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)" أيْ لأمثال هؤلاء المُسِيئين السابق ذِكْرهم والمُتَشَبِّهين بهم متاعٌ في الدنيا، هو قليلٌ حتماً، حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. هذا في الدنيا.. ".. ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)" أيْ ثم بعد ذلك في الآخرة يوم القيامة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذَن، حيث نُحاسبهم ثم نُذيقهم ألم ومَرارة وشدّة وفظاعة العذاب الشديد في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة المُتْعِسَة بسبب وفي مُقابِل كفرهم واستمرارهم وإصرارهم عليه حتي موتهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة العنكبوت وهود والمؤمنون وإبراهيم وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)" أيْ وكذلك اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ رسولنا الكريم نوح لينتفعوا بما فيه من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما، حين قال لقومه بعد أن بقي فيهم مدة طويلة جدا وهي ألف سنة إلا خمسين عاما صابرا علي أذاهم مُوَاصِلاً دعوته لهم بكلّ هِمَّة وقُدْوة وحكمة وموعظة حَسَنة ومع ذلك ظَلّوا مُصِرَّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ولم يؤمن منهم إلا القليل، يا قوم إذا كان ثَقُلَ وعَظُمَ عليكم بَقائي ووُجُودِي بينكم ووَعْظِي لكم وتذكيري إيّاكم بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولكم أرشدتكم إليها لتَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربكم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليكم أوحِيَ إليَّ فيه الإسلام الذي يشتمل علي أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ أجراها الله علي يدِي لتأكيد صِدْقي.. ".. فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ.." أيْ إنْ كان كَبُرَ عليكم ذلك وعَزَمْتُم علي طَرْدِي أو قتلي فافعلوا ما شِئتم فإني على الله وحده اعتمدت في كل شئون حياتي لأسعد في دنياي وأخراي (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، اعتمدت عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيني كفاية تامّة ولن أحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقنا القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لنا الرحيم بنا هو وكيلي أنا والذين آمنوا معي، أيْ الحافظ لنا المُدافِع عنا، فهل نحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! إننا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولذا فنحن مُطمئنّون اطمئنانا كاملا ومُسْتَبْشِرون ومُنتظرون دائما لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنيانا ثم أخرانا.. إنني مُستمِرٌّ ثابتٌ صابرٌ علي العمل بالإسلام وعلي دعوتى لله وله مُتَوكّل عليه في كل أمرى لا أبالي سواء عَظُم عليكم ذلك أم لا.. ".. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ.." أيْ وبالتالي فقوموا بتجميع ما تريدون جَمْعه مِن مَكْرٍ وكَيْدٍ بي واعْزِمُوا عَزْمَاً أكيداً علي تنفيذه، واستدعوا شركاءكم من كل أعوانكم ومن آلهتكم التي تعبدونها غير الله تعالي ليساعدوكم فى ذلك، فإنى مستمرّ فى طريقى الذى أمرنى الله به بلا مبالاة بمَكْركم فأنا علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاني ويُنجيني ويَنصرني.. ".. ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا يكن أمركم الذى أجمعتم على تنفيذه خَفِيَّاً مُلْتَبِسَاً مُبْهَمَاً عليكم فيجعلكم لا تهتدون منه إلى ما تريدون وتَتَرَدَّدون في إنفاذ ما عزمتم عليه، أيْ ليكن أمركم ظاهراً مُنْكَشِفَاً تتمكّنون فيه مِمَّا شِئتم لا كمَن يخفى أمره فلا يَقدر على ما يريد.. إنه بهذا يَتَحَدَّاهم تمام التّحَدِّي مُتَوَكّلَاً علي الله حقّ تَوَكّله.. ".. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التَّحَدِّي لهم.. أيْ ثم أدُّوُا إلىَّ ذلك الأمر الذى تريدون أداءه من إيذائى بما تستطيعون أو قتلي واحكموا علىَّ بما تريدون من أحكامٍ ولا تُنْظِرون أيْ ولا تُمْهِلُون أيْ ولا تَتَرُكون لي مُهْلَة ووقتاً في تنفيذها بل نَفّذوها علي الفور بحيث لا يكون لي أيّ فرصة للاستعداد للنجاة منه، وذلك إنْ كنتم تَقْدِرون على إيذائى فإنَّ ربّى يَرْعانى.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخيره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مثلهم أجرهم من ربهم فيهما
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)" أيْ فإن أعطيتم ظهوركم لرسولكم والْتَفَتّم وانصرفتم وابتعدتم عنه وعن الإسلام وتركتموه وأهملتموه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصراركم التامِّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فإني لم أسألكم أجرا حتي تَتَوَلّوا!! لم أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم وعملتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. ".. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.." أيْ ما أجري وثوابي – وما أجر وثواب المؤمنين معي – إلاّ فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيني ما يُسعدني في دنياي وما هو أسعد في أخراي، ما دُمْتُ قد أحسنت دعوتكم سواء أسلمتم أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يُسلم في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ فإنْ تَوَلّيتم أنتم فأنا قد أُمِرْت من الله أن أكون من المسلمين حتي ولو كنت وحدي، وهذا مزيدٌ من التّيْئِيس لهم بأنَّ إجماعهم هم على التّوَلّي عنه لا يمنعه هو أبداً عن إيمانه بربه واتّباعه لإسلامه.. وكذلك لأني أمِرْتُ أن أكون من المسلمين، فأنا أدعوكم للإسلام، ولا أخالِف أمره باتّباع الإسلام، ولا آخذ أجراً إلا منه.. والمسلمون هم المُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ المُتمسّكون العامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)" أيْ فلم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فكان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ.." أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن نجيناه من الغَرَق هو والذين آمنوا معه أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، في الفلك أيْ بأنْ حَمَلْناهم في السفينة التي صَنَعَها بوَحْيٍ وتعليمٍ وعوْنٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وأمنٍ مِنّا.. ".. وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ.." أيْ وجعلناهم خلائف – جمع خليفة – لنا في الأرض يَخْلفون المُكَذّبين بعد إهلاكهم ويَخْلف بعضهم بعضا جيلا بعد جيل لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضنا وكوْننا، وكرَّمناهم بأن وَثَقَنا فيهم وجعلناهم خُلَفاء نُوَّاباً عنا يُسَيِّرُون شئونها بما أوصيناهم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ ليُسْعِدوا ذواتهم وغيرهم والكوْن كله.. وفي هذا تذكيرٌ للناس أن يكونوا نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادته أيْ طاعته تعالي وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكره وحده علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك يَسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ثم أيضا بما أنه سبحانه قد جعلهم خُلَفاء لمن سَبَقهم من الأمم السابقة، فعليهم أنْ يَعْتَبِروا إذن بما أصاب غيرهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا يفعلوا أبداً مثلهم حتي لا يتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.." أيْ وأغرقنا بمياه الطوفان الغزيرة التي جاءتهم من السماء فوقهم ومن الأرض تحتهم الذين كذّبوا أيْ لم يُصَدِّقوا بآياتنا أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا أم آيات في كتبنا تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. وفي هذا تذكيرٌ بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُنْذَرِين أي الذين تَمَّ إنذارهم ولم يستجيبوا بل استمرّوا علي ارتكاب الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المُنْذَرِين غير المُسْتَجِيبين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)" أيْ ثم أرسلنا من بعد نوح رسلاً كراماً كثيرين أيْ مَبْعُوثين مَنّا إلي أقوامهم والناس حولهم ليُبَلّغوهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وذلك لَمَّا ابتعدوا مع الزمن عن ربهم وإسلامهم بصور الابتعاد المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، كالرسل الكرام هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرَهم، فأحضروا لهم رسلهم وأوْصَلوا إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.." أيْ فلم يكن من حال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وأشباههم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم بما كانوا قد كَذّبوا به قبل رؤيتها منهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)" أيْ هكذا دائما، وبمِثْل ذلك الطّبْع الشديد المُحْكَم الذي طَبَعَ الله به على عقول هؤلاء المُعتدين السابقين، يَطبع الله علي عقول المُعتدين حالياً ومُستقبَلاً في أيِّ زمانٍ ومكان، والمُعتدون هم الذين يعتدون علي حدود الله وضوابطه وموانعه ويعتدون علي الرسل بعدم طاعتهم وبإيذائهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم وعلي الصالحين الذين يَدْعُون لله وللإسلام مُحاوِلين مَنْعِهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وحتي بالقتل يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة وهم مُصِرُّون علي ذلك تمام الإصرار مُستمرّون مُنْغَمِسُون مُتَمَادُون فيه بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوعٍ لربهم ولإسلامهم.. أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشكلة ليست في البَيِّنَات وفي كثرتها أو قِلّتها وإنما في عقولهم هم!!
ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)" أيْ ثم أرسلنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام السابق ذِكْرهم رسولينا الكريمين موسي وأخاه هارون إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها وإلي مَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – بآياتنا أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَاسْتَكْبَرُوا.." أيْ رغم كل هذه الآيات المُفَصَّلات تَرَفّعوا فاسْتَعْلُوا عن التصديق بها وتعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا ويؤمنوا ويعملوا بالإسلام بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي استكبارهم.. أيْ وأجْرَمُوا لأنهم استكبروا ولم يؤمنوا بهذه الآيات المُفَصَّلات.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن تأتيهم هذه الآيات قوما مجرمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يستكبروا ولا يؤمنوا بها ويَتَعَالوا ويَتَطاوَلوا علي الله ورسله وآياته وتشريعاته، فهم مُصِرُّون تماماً علي إجرامهم، والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)" أيْ فحينما وَصَلَ إليهم الحقّ من عندنا لا من عند غيرنا، والحقّ هو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام وكلّ أخلاقه التي تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك بها كلها، بواسطة الحقّ وهو رسولنا الكريم موسي، إضافة إلي الحقّ من الآيات أيْ المُعجزات الحقيقية التي أيَّدْناه بها لتدلّ علي صِدْقه وأهمها العَصَيَ التي تنقلب ثعباناً حقيقياً عند إلقائها – هذا، ووَصْف ما جاءهم بأنه الحقّ شرف وتكريم ذاتيّ له وبكوْنه من عند اللَّه تعالى شرف وتكريم إضافيّ لا يُوصَف وتأكيد لأهميته ولعظمته ولصِدْق مَن جاء به – قالوا إنَّ هذا الذي جاءنا بالتأكيد سحرٌ مُبِين أي واضِح!! أي ليس وَحْيَاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن، وإنما هو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء!.. إنه إذا كان الإسلام سحراً والرسول الذي يأتي به ساحر، كما يَدَّعون كذبا وزورا، فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون؟! فهم إذَن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد!!.. هذا، وفي الآية الكريمة تَعَجُّب من سوء حالهم وذمّ شديد له وتنفير مِن أن يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قال موسي مُسْتَنْكِرَاً مُسْتَغْرِبَاً مُتَعَجِّبَاً ذامَّاً لهم هل تقولون للصدق عندما وَصَلَ إليكم أنه سحرٌ مُبِين؟! أسِحْرٌ هذا؟! هل هذا سحر؟! إنه ليس سِحْراً حتماً وأنتم أعلم وأمْهَر الناس بالسحر وقد عاينتم بأعينكم صِدْق الآيات التي جئتكم بها! إنه بمجرّد التّدَبُّر فيه يَتَبَيَّن أنه الصدق لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!.. ولكنه التعطيل لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنه حقٌّ وليس بسِحْر.. أيْ ولا يفوز الساحرون أبداً علي الحقّ في معارك إثبات الحقّ لأنَّ ما يفعلونه فاشلٌ مَكْشُوفٌ مَفْضُوحٌ مَعْلُومٌ حتماً للجميع أنه مُجرَّد خِداع ووَهْم لا حقيقة وبما أني قد فُزْتُ عليكم وأكَلَتْ عصاي أسْحاركم وهَزَمَتُ سَحَرَتَكم كما شاهد الجميع ذلك فإذَن ما جئتكم به هو حقٌّ حتماً لا سِحْر لأنه لو كان سحراً لكنتم أنتم فُزْتُم عليَّ فعليكم بالتالي إذَن أن تُصَدِّقوني وتؤمنوا.. ولكنهم استمرّوا في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وسُوئهم وأصَرُّوا عليه
ومعني "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)" أيْ قابَلَ فرعون ومَلَؤه دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والموعظة الحسنة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بعد أن جاءهم بالحقّ حيث قالوا له هل أتيتنا لكي تَصْرِفنا وتُبْعِدنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا السابقين من عبادة ما يعبدون وفِعْل ما يَفعلون؟! إذ كانوا يعبدون آلهة غير الله تعالي كفرعون والأصنام والشمس والكواكب ونحو هذا.. ".. وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ.." أيْ لكى نَصِير لكما أتباعاً ويكون لكما بالتالي أنت وهارون الرئاسة والزعامة والمُلك والسلطان والسيطرة والحُكْم علينا وعلي الناس في الأرض.. والمقصود أنك لم تأتنا لكي نعبد الله وحده ونترْك ما وجدنا عليه آباءنا ونَتّبِع الإسلام من أجل أن نَصْلُح ونَكْمُل ونَسعد في الدنيا والآخرة كما تَدَّعِي وإنما أنت مُتَآمِرٌ علينا تريد أن تكون حاكماً تَتَحَكّم فينا وتَنْهَب خيراتنا!!.. إنهم يريدون بذلك التشويش علي الناس وتَشويه صورة موسي (ص) والإسلام ومَنْع انتشاره بينهم ليظلّوا مُحْتَفِظين بمُلْكِهم وسلطانهم ليَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنْهَبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)" أيْ وبالتالي إذَن، ولهذا، لا نؤمن لكما أيْ لا نُصَدِّقكما ونُسْلِم.. حتي لا نَفْقِد مُلْكنا وسلطاننا ونفوذنا!.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي إصرارهم علي تكذيبهم للحقّ رغم وضوحه وثبوت الأدِلّة القاطِعَة عليه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)" أيْ وقال فرعون لمُعاوِنيه بعد أن تأكّد من صِدْق موسي (ص) لَمَّا رأي الآيات أيْ المُعجزات الحقيقية التي أيَّده الله تعالي بها لتدلّ علي صِدْقه وأهمها العَصَيَ التي تنقلب ثعباناً حقيقياً عند إلقائها، وخَشِي استجابة الناس له فيُسْلِموا، ادَّعَيَ كذباً وزُورَاً هو ومَلَؤه أنه ساحر وقال جِيئوني أيْ أحضروا لي كل ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر حتي يكشفوا عن سحر موسي ويبطلوه بسحرٍ مِثْله وأشدّ فينكشف أمره أنه ساحر لا رسول ويتّضِح كذبه للجميع فلا يَتّبِع أحدٌ الإسلام الذي يدعوهم إليه.. هذا، وطَلَب المَشُورَة وأمْهَر السَّحَرَة يَهْدِم عند كل عاقلٍ فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي لأنه لو كان كذلك لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا استشارةٍ ولا مساعدةٍ من أحد!!
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)" أيْ فعندما حَضَرَ السحرة قال لهم موسي مُتَحَدِّيَاً مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم ألقوا وارْمُوا وهاتوا ما أنتم مُلْقُون أيْ ما تريدون إلقاءه من كل أنواع سِحْرِكم ليَرَىَ الناس خِداعكم لهم وليُمَيِّزوا بين الحقّ الذي معي والباطل الذي أنتم عليه
ومعني "فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)" أيْ فحينما ألْقَيَ السَّحَرَة سِحْرهم قال لهم موسي تحقيراً لفِعْلهم وذَمَّاً لهم غير مُهْتَمٍّ بهم وبما صَنَعوا لا يُقيم له وَزْنَاً لثقته التامَّة بما سيَصْنعه بقوة الله تعالي، ما جئتم به السحر أيْ إنَّ الذي أحضرتموه وفعلتموه هو السحر بعَيْنِه وليس الذي جئتكم به أنا من آيات الله تعالي والتي هي حقّ أيْ صِدْق والتي وصَفَها فرعون وملؤه كذباً وزُورَاً بأنها سِحْرٌ مُبِين، وإن الله سيُذْهِبه ويُزيل أثره من النفوس حتماً علي يدي بقُدْرته من خلال ما أوحاه إلي من إلقاء عصاي لتتحقّق مُعجزته حيث تتحوَّل لثعبانٍ حقيقي ضخم يلتهم سِحْركم وخداعكم، لأنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يُصلح عمل المفسدين أيْ لا يؤيده ولا يقويه ولا يثبته ولا يديمه بل يظهر ويكشف بطلانه ويجعله معلوماً ويذهبه ويزيله مع الوقت لَمَّا ينشر أهل الصلاح صلاحهم.. والمفسدون هم الفاعلون لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. أمَّا المُصْلِحون الذين يَنشرون الصلاح وهو أخلاق الإسلام فإنَّ الله حتماً يُصْلِح أعمالهم دائماً بدَوَام تأييدها وتقويتها وتثبيتها وإدامتها ونَشرها تدريجيا فيَسعد الجميع بذلك في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)" أيْ وهكذا دائماً وحتماً يُثَبِّت الله الحقّ أيْ الإسلام ويُعْلِيه ويُؤَيِّده ويَنصره وهو الذي يُصْلِح البَشَر ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه.. ".. بِكَلِمَاتِهِ.." أيْ بأوامره وبقُدْراته وإراداته النافذة التي لا تُرَدّ أبداً والتي أصلها كُنْ فيكون، وبالجملة بكلماته أيْ بكلامه في آياته التي في كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي لا مُغَيِّر أبداً لها والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)" أيْ إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين حتما بلا أيِّ شكٍّ يُحِقّ الحَقّ ويُبْطِل الباطل بتمام قُدْرته وعلمه بأنْ يَنشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد (ص) لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحاربة المُجْرمين – وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، ثم الآية (218) منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. هذا، وفي الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
ومعني "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)" أيْ فما آمَنَ أيْ صَدَّقَ لرسولنا الكريم موسى مع كل ما جاءهم به من آياتٍ أيْ دلالاتٍ واضِحاتٍ قاطِعاتٍ دامِغاتٍ تُثبت صِدْقه وأنه مُرْسَلٌ من عندنا وأنه صادقٌ في دعوته لعبادة الله تعالي وحده، إلا شباب من قومه بني إسرائيل – أو من قوم فرعون، وليس آباؤهم وكِبار السِّنِّ منهم لانتفاعهم وخوفهم منه – وهم خائفون من فرعون وسَادَة قومهم أن يفتنهم أيْ يُعَذّبهم فرعون ويأمر سادَتهم بأنْ يُعَذّبوهم ليُبْعِدوهم عن دينهم الإسلام الذي آمنوا به.. وهذا هو حال الشباب دائما حينما يؤمن بشيءٍ فإنه يَسِير فيه لا تَهُمّه أيّ مُعَوِّقاتٍ بل هو مُسْتَعِدٌّ للتضحية في سبيل الحقّ الذي قد اقتنع به، وذلك رغم ما كان يُصيبهم أحيانا من خوفٍ من بَطْش فرعون بهم فيَرُدّهم عن دينهم لكنهم قاوَموا هذا الخوف وتَغَلّبوا عليه بالاستعانة بربهم، أمَّا كِبار السِّنِّ الذين تَرَبّوا لفتراتٍ طويلةٍ علي أنَّ فرعون هو ربهم الأعلي لم يستطيعوا التّغَلّب علي هذه الخرافة – إلا القليل منهم الذي قاوَمَ واستعان بربه وصَبَرَ وتَحَمَّل – فاستسلموا لِمَا هم فيه من ذِلّةٍ ومَهَانَةٍ واستعبادٍ خوفاً منه وانتفاعاً بما يُلْقِيه إليهم من فُتات النِعَم.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم! فلقد أعطي موسي الكتاب – وهو التوراة – سابقا كما أعطاهم هم القرآن الكريم الآن، فاختَلَف الناس في أمره كما يختلفون في القرآن، فمنهم مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما.. ".. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وإنَّ فرعون مُتَعَالٍ أيْ مُسْتَكْبِرٍ مُتَسَلّطٍ مُسْتَبِدٍّ ظالمٍ في الأرض، أيْ مِن المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وإنه كذلك بالتأكيد مِن المُسْرفين أيْ المُتَجاوِزين لحدود الله المُتَجَرِّئين علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّين علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرين المُبَالِغُين في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار.. ولهذا، لأنه عالٍ في الأرض ومن المُسرفين، ادَّعَىَ كذباً وزوراً قائلا لقومه أنا ربكم الأعلي وخافه الذين آمنوا منهم من شِدَّة سُوئه وظلمه وسَفْكِه للدماء
ومعني "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)" أيْ وحينها يُوصِي الرسول الكريم موسي (ص) قومه بني إسرائيل الذين آمنوا معه بأفضل علاجٍ في مِثْل هذه المواقف وغيرها والذي ليس له بديل والذي علي كل مسلم أن يعمل به دائما مع مزيدٍ منه إذا حَدَثَ له ما يُسِيء ويُخيف، يُوصِيهم بالتوكّل علي الله والاستعانة به وبالصبر.. أي وقال موسي لقومه مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً ياقوم، يا أهلي وأحبائي، إنْ كنتم آمنتم بالله حقّ الإيمان أي صَدَّقتم بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره بحقّ كما تقولون، وإنْ كنتم مسلمين حقّ الإسلام، أيْ إنْ كنتم مُسْتَسْلِمين بحقّ لوَصَاياه تعالي وتشريعاته أيْ مُتَمَسِّكَيْن عامِلَيْن بكل أخلاق الإسلام ثابتيْن دائميْن عليها مُخلصين مُحسنين فيها (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)، فعليه وحده إذَن اعتمدوا، كإثباتٍ لِمَا تقولون، فإنه لن يترك مُطْلَقَاً مَن تَوَكَّل عليه، عليه اعتمدوا في نصركم ودَفْع الضرر عنكم ولا تعتمدوا أبداً في ذلك على أنفسكم بمُلاَطَفَة فرعون ولا على فرعون بإظهار الطاعة له.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيمان واتّباع الإسلام والتوكّل والصبر.. هذا، وفي التذكرة بالإيمان والإسلام إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. هذا، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كُلّاً منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في هذه الآية الكريمة فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة.. إنَّ الله تعالي هو وحده الذي يَعتمد عليه كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)" أيْ فسارَعوا مُجِيبين لنصيحة رسولهم الكريم موسي بما يَدُلّ علي صِدْق إيمانهم قائلين علي الله وحده لا على غيره اعتمدنا.. ".. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)" أيْ هذا أحد الأدعية التي يُعَلّمها الإسلام للمسلمين ليَجتهدوا في الدعاء والعمل واقعيا به، أيْ يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تجعلنا فاتِنِين للقوم الظالمين أيْ للأناس الظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيْ مُوقِعِين لهم في الشرّ، والمقصود ألاّ تَنصرهم علينا فيُفْتَنون بذلك أي يَغْتَرّون ويَنْخَدِعون ويَتَوَهَّمون أنهم هم الذين علي الصواب ونحن الذين علي الخطأ فيستمرّون ويزدادون فيما هم فيه لأنه لو كنا نحن الذين علي الصواب لَمَا انتصروا علينا ونكون بضعفنا وتقصيرنا وعدم إحسان استعدادنا سَبَبَاً في وقوعهم في هذا الشرّ فنَأثم ونُعَاقَب منك في الدرايْن.. كذلك المقصود ألاّ تَجعلهم فاتِنين لنا فيُفسدوننا بشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فسَنتمسّك ونعمل بأخلاق إسلامنا كلها ما استطعنا فيَسِّر لنا ذلك ولا تترك عوْننا فنقع في الشرور فتُعَاقِبنا فيَتَوَهَّمون أيضا أنهم هم الذين علي الصواب بل وسيترتّب علي تَرْكنا للإسلام وفِعْلنا الشَّرَّ أن يسوء حالنا ونَتَخَلّف ونَتعس بذلك فيؤدي هذا أيضا إلي أن نكون السبب في وقوعهم في الشرِّ كذلك بإبعادهم عن ديننا وكراهيتهم له وعدم الثقة فيه بحجّة أنه لو كان هذا الدين هو الحقّ لَظَهَرَ أثره على أتباعه فتَطَوَّروا وازدهروا وسَعِدوا فنزداد بذلك إثماً علي إثمٍ وعقاباً علي عقاب
ومعني "وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)" أيْ وأنْقِذنا وخَلّصنا برحمتك التي وَسِعَت كل شيءٍ من شرور الأناس الكافرين – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وذلك حتي نتمكّن من التمسّك والعمل بديننا الإسلام والدعوة له، فأنت أرحم بنا من كل راحِمٍ حتي من أنفسنا علي أنفسنا ومن آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وإخواننا وعموم الناس علينا لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة ورأفة وشفقة
ومعني "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)" أيْ وأبْلَغْنا إلي موسي وأخيه هارون عن طريق الوَحْي بعد أن بالَغَ فرعون فى عذابه للمؤمنين ليُبعدهم عن دينهم الإسلام أن اتّخِذا لقومكما المؤمنين في مصر بيوتاً خاصة بكم تَبوءون أيْ تَرْجِعون إليها وتَنْزِلون وتَحتمون بها وتَستقرّون وتَختفون فيها وتَبتعدون عن فرعون وجنوده لاتّقاء شرورهم إلى أن يَحكم الله تعالي بينكم فيُنجيكم منهم ويَنصركم عليهم.. ".. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً.." أيْ واجعلوها مسجداً ومكاناً للصلاة والذكْر وتَعَلّم كل خيرٍ ومَنَارَة للإقبال علي عبادة الله تعالي وحده واتّباع إسلامه ولإرشاد الضالّين لذلك.. ".. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.." أيْ ووَاظِبُوا علي تأدية الصلوات المفروضة عليكم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائما المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – بمَا يَسُرُّهم بما هو يُوحَيَ إليك ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما يكون لهم من تمام السعادة في دنياهم بسبب عملهم بأخلاق إسلامهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المؤمنون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
ومعني "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)" أيْ ولَمَّا غَلَبَ علي ظنِّ موسي – أو بوَحْيٍ من الله تعالي – أنَّ فرعون وأعوانه قد وصلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وذلك رغم حُسْن دعوتهم من رسولهم الكريم موسي بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه، حينها دَعَاَ موسي عليهم بأنْ يَنْزِع الله منهم الأسباب التي تُعينهم علي ظلمهم الشديد هذا لذواتهم ولعموم الناس بإتعاسهم بإضلالهم عن طريق الحقّ والخير والسعادة وهو طريق عبادة الله تعالي وحده واتّباع أخلاق الإسلام وجذبهم إلي طريق الباطل والشرّ والتعاسة وهو عبادة غيره واتّباع دينا غير دينه، فإذا فَقَدوا هذه الأسباب تَخَلّص الناس من إرهابهم لهم وسيطرتهم عليهم وأحسنوا استخدام عقولهم وأسْلَموا وسَعِدُوا في الداريْن.. لقد دَعَا عليهم قائلا يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إنك قد أعطيت فرعون وملأه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حولهم وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه، أعطيتهم في هذه الحياة الدنيا زينة كثيرة أيْ ما يُتَزَيَّنُ به من كل أنواع الثياب والحُلِيّ والذهب والفضة والقصور المُزَخْرَفة الفَخْمَة والخَدَم والأثاث والمَفروشات وأوانى الطعام والشراب الراقية ووسائل الركوب الفاخرة وغير ذلك مِمَّا يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته، وأعطيتهم كذلك أموالاً وممتلكاتٍ كثيرة مُتَنَوِّعَة.. ".. رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.." أيْ يا ربنا إنهم لم يشكروا لك بأنْ يُحسنوا استخدامها في كل خيرٍ لهم ولغيرهم وإنما استخدموها لكي يُضِلّوا عن سبيلك أيْ يُبْعِدوا أنفسهم والناس عن طريقك أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.." أيْ يا ربنا امْحُها وأزِلْها فلا تُبْقِي لها أثراً حتي لا يستخدموها في الإضلال والإفساد والشرّ.. ".. وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)" أيْ واطْبَع واخْتِم علي عقولهم حتي لا يؤمنوا بأن تكون قاسية لا تَرِقّ ولا تستجيب لأيِّ خيرٍ ويَستمرّوا علي ذلك غير مؤمنين إلي أن يُشاهدوا بأعينهم ويُذوقوا العذاب المُؤْلِم المُوجِع الشديد في دنياهم أولا بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ وعدم استجابتهم للحقّ رغم وضوحه وعَرْضه عليهم لفتراتٍ طويلةٍ بكل حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبصورٍ مُتَعَدِّدَة، ثم يموتون علي ذلك ليَروا عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأعظم وأخْلَد ولا يُوصَف.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ هذا حِرْصٌ من موسي (ص) على وسائل هدايتهم بمعني أنهم إذا زالت عنهم النِّعَم وضاقت عليهم حياتهم بالشدائد فلعلهم يتفكّرون في سبب ذلك فيُسَارِعون بالتوبة إلى الله كما يُثبت الواقع هذا كثيرا حيث بعض الغافلين يستفيقون بذلك لو كانوا أصحاب عقول سليمة مُنْصِفَة عادلة باحِثَة عن مصلحتهم وسعادتهم، ويكون بالتالي معني "فلا يؤمنوا حتي يروا العذاب الأليم" عند هؤلاء العلماء أيْ افعل بهم ذلك ليؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم في الدنيا كفقرٍ أو مرضٍ أو قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)" أيْ قال الله تعالى لموسي وهارون أبْشِرَا واسْعَدَا، قد أَجَبْتُ دعوتكما في فرعون ومَلَئِه، وسأحَقّقها لكما وللمؤمنين بأنسب وأفضل توقيتٍ وأسلوبٍ يُحَقّق لكم أفضل وأسعد النتائج، وكان موسى يدعو وهارون يُؤَمِّن على دعائه ولذلك نُسِبَت الدعوة إليهما حيث التأمين بقول آمين بمعني اللهمّ اسْتَجِب هو دعاء ومشاركة فيه.. ".. فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)" أيْ فكما أُجِيبَت دعوتكما فاشكرا لله ذلك بأنْ استقيما على أمره أيْ علي دينكما الإسلام، أيْ استمِرَّا علي الاستقامة واثْبُتا عليها بلا أيِّ انحرافٍ عنها، استمرّا علي هذا الطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، وعلي الدعوة إليه والدفاع عنه، وكُونَا دَوْمَاً مُخْلصَيْن مُحْسِنَيْن في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ولا تَتّبِعَانِ أبداً بالتأكيد أيْ ولا تَسِيرَانِ خَلْفَ أيّ طريقٍ غيره مُخَالِفٍ له مُضِرٍّ مُتْعِسٍ من طُرُق الذين لا يعلمون الإسلام أيْ الجاهلين الضالّين المُنْحَرِفين المُفْسِدين وأشباههم، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الاستقامة
ومعني "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)" أيْ واجْتَزْنَا وتَخَطّيْنا وعَبَرْنَا بفضلنا وكرمنا ورحمتنا وقُدْرتنا ببني إسرائيل البحر فسارَ خَلْفهم ولحقهم فرعون وجنوده ظلماً واعتداءً أيْ ظالمين مُعْتَدِين ومن أجل الظلم والاعتداء، وذلك حين علموا أنَّ موسي والذين آمنوا معه قد خرجوا من بيوتهم ليلا تاركين مصر ففَلَقَ وشَقّ الله سبحانه لهم البحر عندما ضربه موسي (ص) بعصاه بوَحْيٍ منه تعالي وفَصَلَ ماءه بعضه عن بعض حتي أصبح فيه طريق جافّ يسيرون فيه وحينما عَبَروا كلهم ونَجوا وأراد فرعون وجنوده المرور فيه ليلحقوا بهم ويُؤذوهم أَعاد سبحانه الماء كما كان فأغرقهم جميعا، فلمَّا أدْرَك أيْ لَحقَ ووَصَلَ الغرقُ فرعونَ وتأكّد من هلاكه وموته قال صَدَّقْتُ بأنه لا معبود إلا الذي صَدَّقَتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين أيْ المُسْتَسْلِمين المُنْقادِين الطائعين لوَصَايَاه وتشريعاته.. هذا، ويُلاَحَظ أنه من شدَّة تَكَبُّره وعِناده لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتابَ الله عليه وأنجاه، ولكنه قال ما قال مُضطرَّاً مُسْتَغِيثاً ليَنْجو مُتَوَهِّماً النجاة في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أو حَسْرَةٍ أو طلب نجاة حيث قد وَقَعَ الحساب والعذاب.. إنه بالقطع لا ينفعه هذا النوع من الإيمان ولا يُنجيه من العذاب لأنه لم يكن إلا محاولة يائسة أخيرة للنجاة منه وليس إيمانا حقيقيا صادقا وهو ما لا يَخْفَيَ علي صاحب أقلّ عقل ويعلمه قطعا علاّم الغيوب الذي يعلم أسرار ودواخل عقول البَشَر سبحانه، فهو إيمان الاضطرار وليس الاختيار
ومعني "آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)" أيْ هذا استفهامٌ لمزيدٍ من الذّمّ له واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من حاله السَّيِّء، ولعله يُوقِظ مَن كان كذلك بعده يَتَشَبَّه به ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قال الله تعالي له أو ملائكته هل الآن في هذا الوقت فقط يا فرعون يا ظالم يا مُسْتَبِدّ يا فاسِد يا مُتَكَبِّر يا مُعانِد يا مَن قال ما لم يَقُلْه أحدٌ قبلك أنا ربكم الأعلي تَدَّعِي الإيمان حين تأكّدْتَ أنه قد جاء أجلك وهلاكك وجاءت قيامتك وجاءك بداية عذابك الدنيويّ حقّاً واقِعَاً قبل الأخرويّ الخالد الذي لا يُوصَف والحال والواقع أنك كنتَ قبل ذلك من العُصاة أي المُخالِفين لوصايا الله بفِعْل الخير لا الشرّ وكنتَ من المُفْسِدين المُصِرِّين علي العصيان والفساد والتكذيب؟!!.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الذمِّ له علي تأخير الإيمان إلي الحَدِّ الذي أدَّيَ إلي عدم قبوله وبيان أنَّ تأخيره لم يكن لعُذْرٍ مَا مقبول وإنما كان لشدَّة تكذيبه وعصيانه وفساده وانشغاله بذلك عن الإيمان مع الإظهار لعظيم غضب الله تعالي عليه.. والمُفْسِدون هم الفاعِلون لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. لقد كنتَ يا فرعون مُكَذّباً بالعذاب مُعانِدَاً للإسلام لربك والامتناع عن معاصيك ومَفاسدك وشرورك وأضرارك التي عِشْتها طوال حياتك، فليس إيمانك هذا إذَن بإيمان، ولن ينفعك بأيِّ شيء لأنك مُضطرٌّ له ولم يَتَبَقّ أمامك اختيار غيره، فقد انقضي الأمر وانتهي (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين (84)، (85) من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)")
ومعني "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)" أيْ فاليوم، يوم إغراقك وإهلاكك أنت ومَلَئك وجنودك، ننقذك بقُدْرتنا بجسدك وهو جُثّة فلا يَهْلَك بل تَلْفِظه الأمواج ولا تأكله الحيتان ليَبْقَيَ لكي تكون وتظلّ دائماً لمَن بَعْدَك مِثْلك يَتَشَبَّه بك عِبْرَة وعِظَة يَتّعِظون بها فلا يفعلوا مثل فِعْلك وإلا تَعِسُوا وهَلَكوا في الداريْن كتعاستك وإهلاكك فيهما.. هذا، ويقول المُؤَرِّخون أنَّ جسده مَحفوظ مُحَنَّط في أحد متاحف دولة مصر يشاهده مَن أراد الاتّعاظ، وهي آية أيْ مُعجزة ودليل علي قُدْرته تعالي علي كل شيءٍ وعلي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة وعلي أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (13)، من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)" أيْ ورغم كل هذا الوضوح للحقّ لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، لكنَّ كثيراً من الناس عن دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، لغافلون أيْ تائهون ناسُون ضائعون لاهُون مُنْشَغِلون غير مُنْتَبِهين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم، ولذلك تَمُرّ عليهم وتتكَرَّر فلا يتفكّرون فيها ولا يَعْتَبِرون بها.. واللام مع إنَّ لتأكيد الغَفْلَة.. وفي هذا دعوة للجميع للتّدَبُّر والتّعَقّل لكي لا يكونوا من الغافلين ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
ومعني "وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل بعد نعمة ومعجزة إنجائهم وإهلاك عدوهم لتُضِيفَ إليهم ومَن يَتذكّرهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ ولقد أنْزَلْنا وأسْكَنّا بني إسرائيل مَنْزِلَاً ومَسْكَنَاً ومَكَانَاً صالحاً طيِّباً مُرْضِيَاً مُطْمَئِنّاً مُبَارَكَاً فيه كريماً عزيزاً، أيْ ولقد مَكّناهم في الأرض وسَهَّلنا لهم كل الأسباب التي توصلهم إلي ما يريدون من منافع وسعادات، وكذلك رزقناهم من الطيبات أيْ وأعطيناهم من كل أنواع أرزاقنا الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناهم إيَّاها من المأكولات والمشروبات والمَلبوسات والمَرْكوبات والمُمْتَلكات وغيرها مِمَّا لا يُحْصَيَ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (137) من سورة الأعراف "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ".. ثم الآيات (57)، (58)، (59) من سورة الشعراء " فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ"، "وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ"، "كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ").. ".. فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ.." أيْ فظلّوا كذلك علي هذا الخير لم يختلفوا فيما بينهم إلي أن جاءهم العلم، علم التوراة وتشريعاتها، فاختلفوا بسبب ما هو من المُفْتَرَض أن يجمعهم لا أن يُفَرِّقهم! اختلفوا بسبب العلم! رغم أنهم متأكّدون أنَّ هذا العلم يجمعهم علي إلهٍ واحدٍ هو الله تعالي ورسولٍ واحدٍ هو موسي (ص) ومَرْجِعِيَّةٍ واحدةٍ هي الإسلام الذي في التوراة والذي يُناسب عصرهم، ورغم كل ذلك اختلفوا في هذا العلم، والاختلاف فيه يعني أن يُصَدِّقه البعض ولا يُصَدِّقه البعض الآخر أو يُصَدِّقوا ببعض آياته لا بكُلّها أو يكَتَمُوها أو يُفَسِّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الاختلاف علي الحقّ والابتعاد عنه، وانْقَسَمُوا إلي فِرَقٍ تُصارِع بعضها بعضاً وكلٌّ يَدَّعِي احتكار العلم لذاته دون أحدٍ غيره، وهو ما قد يفعله بعض المسلمين الآن فليحذروا من ذلك حَذَرَاً شديداً لأنه يؤدّي للفشل والهلاك والتعاسة في الداريْن.. هذا، ومن المعاني كذلك أنَّ بني إسرائيل الذين آمنوا بالتوراة كانوا مُجتمعين عليها وظلّوا علي هذا الاجتماع إلي أن جاءهم العلم أيْ الرسول الكريم محمد (ص) ومعه علم القرآن العظيم وحينها اختلفوا فمنهم مَن آمَنَ به وأسْلَمَ ومنهم مَن كَفَرَ بأنْ ظلّ علي يهوديته ولم يُسْلِم.. فهم بالتالي إذَن لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع في أيِّ شَرٍّ للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من طيبات الأرزاق ومن إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجُّبٌ من حالهم وتَقْبيحٌ لسوء فِعْلهم وذمٌّ شديد له.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – الذي هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا هو الذي سيَحْكُم وسيَفْصِل بينهم، وبين الناس جميعا، في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر، في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم، ويسألون الثقة من أهل العلم والتّخَصُّص فيما لا يعلمونه، حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)" أيْ هذه دعوة لكل مُتَشَكّكٍ في شيءٍ من الإسلام أن يُسارِع بسؤال الثقات من أهل العلم والتّخَصُّص لإزالته، فإنْ كان صادقا في سؤاله لا مُعانِدَاً سَيَصِل بتيسير الله وتوفيقه لكل حقّ وخيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، كما أنَّ الآية الكريمة مزيدٌ من تأكيد صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) وصدق ما جاء به من القرآن العظيم عند مَن يَتَشَكّك في صِدْقه، وليست حتماً بلا أيِّ شكّ بياناً لشَكّه (ص) فيما أنزله الله تعالي إليه!! فهي خطابٌ له (ص) لكنَّ المقصود بها غيره مِمَّن قد يَتَشَكّكون، فهي تقصد أنَّ ما جاء به (ص) يُصَدِّقه الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل وأنَّ الصادقين من اليهود والنصاري الذين أسلموا أقَرُّوا بذلك، وبالتالي فأيّ مُتَشَكّكٍ لو سأل أمثال هؤلاء من أهل الكتاب فسيُخبروه بصدق القرآن الكريم والرسول (ص).. أيْ فإنْ كنتَ يا رسولنا الكريم، علي سبيل الافتراض لا الحقيقة – أو يا كل سامع – في شكّ مِمَّا أوحينا إليك من القرآن وأخبرناك به فيه، هل هو صدق أم لا، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، أي اليهود الذين يقرؤون الكتاب الذي أُنْزِلَ علي موسي (ص) وهو التوراة والنصاري الذين يقرؤون الكتاب الذي أنزل علي عيسي (ص) وهو الإنجيل، فإنَّ ذلك ثابتٌ في كتبهم غير المُحَرَّفَة مُوَافِقٌ لِمَا أنزلنا إليك.. أو بمعني آخر فإنْ كنت أيها الإنسان في شكّ مِمَّا أنزلنا إليك من القرآن على لسان رسولنا محمد (ص) فاسأل الذين يقرءون الكتاب مِن قبلك لتتأكّد مِن صِدْقه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (3) من سورة آل عمران "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ").. ".. لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد وَصَلَكَ الحقّ من ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل سامع – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وهو دين الإسلام الذي هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد (ص) والذي يُسعدك تماما بالداريْن، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً بالتأكيد أيها المسلم وأيها السامع من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
ومعني "وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)" أيْ وكذلك لا تكن أبداً بالتأكيد أيها المسلم وأيها السامع من الذين كذبوا بآيات الله أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ففعلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، فتصير بالتالي بسبب ذلك بالقطع بالتأكيد من الخاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسر وتَفقد دنياك فتتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدك عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسر حتما أخراك يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورك ومَفاسدك وأضرارك بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)"، "وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)" أيْ إنَّ الذين ثَبَتَتْ ووَجَبَتْ عليهم كلمة ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنهم يموتون على الكفر ويُخَلّدون في العذاب لا يؤمنون أبداً مهما دعوتهم لله وللإسلام إذ لا يمكن مطلقاً أنْ يُكَذّبَ كلامه سبحانه أو يُرَاجَعَ حُكْمُه، والمراد بكلمة ربك عموماً هو ما تَوَعَّد الله به الكافرين والعاصين من عذابٍ يُناسبهم في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم والمقصود بها هنا أنها هي كلمته المُسَجَّلَة في كتاب أعمال أمثال هؤلاء والتي سَجَّلَها سبحانه بناءً علي ما اختاروه هم في دنياهم بكامل حرية إرادة عقولهم حيث اختاروا الكفر وأصَرُّوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واستمرّوا حتي ماتوا علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ أي رجوع عنه لربهم ولإسلامهم.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين بأنْ يكونوا مثل رسولهم الكريم (ص) حريصين علي دعوة الجميع لله والإسلام ليسعدوا جميعا بذلك في الداريْن لكنْ مع حُسن تصنيفهم للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تَذْكِرَة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. "وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لن يؤمنوا حتي ولو حَضَرَتْ ووَصَلَت لهم كلّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)" أيْ ويَستمرّون ويُصِرُّون علي ذلك غير مؤمنين إلي أن يُشاهدوا بأعينهم ويُذوقوا العذاب المُؤْلِم المُوجِع الشديد في دنياهم أولا بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ وعدم استجابتهم للحقّ رغم وضوحه وعَرْضه عليهم لفتراتٍ طويلةٍ بكل حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبصورٍ مُتَعَدِّدَة، مُتَمَثلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم يموتون علي ذلك ليَروا عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأعظم وأخْلَد ولا يُوصَف
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين لا يُؤَجِّلُون أبداً التمسّك والعمل بأيِّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام بل يُسارعون للعمل به أوَّلاً بأوّل لعلمهم التامّ وثقتهم أنهم سيفتقدون سعادة هذا الخُلُق الذي يتركونه، في دنياهم وأخراهم، وسيُعَذّبون وسيَتعسون فيهما بما يُناسب فِعْل عكسه من سوء، فكيف يكون حال مَن يترك مثلاً الصدق أو الأمانة أو العِفّة أو العِزّة أو الكرامة أو الوفاء أو الإتقان أو نحو ذلك من أخلاق الإسلام المُسْعِدَة ويكون كاذباً خائناً بلا كرامة؟! (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)" أيْ هذا تشجيعٌ لغير المؤمنين علي المُسَارَعَة بلا أيِّ تأجيلٍ للإيمان ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل نزول العذاب بهم فيَتْعَسُوا فيهما.. أيْ فلو أنَّ أهالي كل بلدٍ كانت آمَنَتْ لَكَانَ نَفَعَها إيمانها بأنْ تحيا في كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الداريْن، لكنّها لم تُؤمن فلم تنتفع وتسعد بالإيمان، بل استمرَّتْ وأصَرَّتْ علي كفرها حتي نَزَلَ بها عذاب الله تعالي بالفِعْل، فما كانت قرية مِثْل هذه القرية التي آمَنَتْ بعد كفرها فقط حين نزل بها العذاب بالفِعْل بسبب عصيانها ربها واستحقاقها عقابه أن تنتفع بإيمانها هذا في ذلك الوقت فتُتْرَك فلا تُعَذّب ولا تُهْلَك ويَقْبَل الله توبتها وإيمانها ويُسعدها، أيْ لم يَنفعها هذا الإيمان في هذا الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغَرَق بعد تَمَادِيه في تَكَبُّره وعِناده وظلمه واستحقاقه عذاب ربه بسبب ذلك، فليس إيمانهم هذا إذَن بإيمان، ولن ينفعهم بأيِّ شيءٍ لأنهم مُضطرّون له ولم يَتَبَقّ أمامهم اختيار غيره، فقد انقضي الأمر وانتهي (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين (84)، (85) من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)").. ".. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)" أيْ لكن يُسْتَثْنَيَ من أمثال هذه القُرَيَ قرية قوم رسولنا الكريم يونس فإنهم لمَّا آمنوا بعد كفرهم إيماناً صادقاً مُخْتَارين لا مُضْطرّين وذلك بمُجَرَّد أنْ رأوا أمارات وعلامات العذاب الذى أنذرهم به قبل أن يَنْزِل بهم بالفِعْل كغُيومٍ ورياحٍ ونحوها، نَفَعَهم هذا الإيمان الصادق، حيث كشف الله عنهم عذاب الخِزْي هذا في الحياة الدنيا أي العذاب المُخْزِي أي المُهين المُذِلّ والذى كادَ أن يَنْزِل بهم، ومَتَّعهم وأسعدهم بالحياة المُقَدَّرِة لهم إلى حين انقضاء آجالهم فى هذه الدنيا.. وخلاصة القول أنه لو أنَّ هناك أهل قرية آمنوا بصدقٍ قبل أن ينزل بهم العذاب لأنجيناهم منه ومَتّعناهم وأسعدناهم في دنياهم ثم أخراهم كما أنجينا ومَتَّعنا وأسعدنا قوم يونس فيهما
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يُؤمن مَن في الأرض كلهم جميعا ويَتّبِعوا الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..").. وهذا هو معني " أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" أيْ فهل أنت بعد كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يمكنك أنْ تُجْبِرَ الناس المُصِرِّين علي كفرهم حتي يكونوا مؤمنين؟!! لا يمكن حتماً بكل تأكيد مهما حاولت بكل الطرق! فليس باستطاعتك ولا استطاعة أيّ أحد ذلك، فليس عليك إلا التبليغ فقط (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (272) من سورة البقرة "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."، ثم الآية (92) من سورة المائدة ".. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، ثم الآية (8) من سورة فاطر ".. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ..")
ومعني "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا يُمكن أبداً حتماً لأيِّ نفسٍ من النفوس أن تُؤمن إلا بإذن الله خالِقها ومالِكها أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، والمقصود أنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لأيِّ إنسان أن يؤمن إلا إذا أراد هو ذلك أولا بكامل حرية إرادة عقله فحينها يريد الله له الهداية للإيمان والذي هو موجود أصلا في فطرته بأنْ يُيَسِّر له أسبابه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف.. ثم مراجعة الآية (125) من سورة الأنعام "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل واكتمال المعاني).. ".. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)" أيْ وهكذا دائما يجعل الله المُسْتَقْذَر أيْ الشّرَّ والعذابَ الدنيويّ والأخرويّ علي الذين لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في كل هذا ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا ويتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علم نافع مفيد، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فالرِّجْس الذي عليهم هو بسببهم، بسبب عدم إيمانهم وانغماسهم في فسادهم وعدم رجوعهم لربهم ولدينهم الإسلام وإغلاقهم لعقولهم وعدم استجابتهم لنداء فطرتهم بداخلهم
ومعني "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، وللمُكَذّبين المُعانِدين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم انظروا نَظَر تَأَمُّلٍ واعتبارٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ إلي ما الذي في السموات والأرض مِمَّا خَلَقَ الله من أيِّ شيءٍ فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا هو وحده الخالق القادر علي كل شيء ليَستدلّوا بذلك علي تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه فيتأكّدوا تماما أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة، فيساعدهم ذلك علي الإيمان به واتّباع الإسلام فيسعدوا في الدرايْن.. ".. وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)" أيْ ولكنْ لا تَنْفَع بأيِّ شيءٍ مُطلقاً الآيات رغم كثرتها ووضوحها والنذر رغم قوَّتهم وتَعَدُّدهم – جَمْع نذير وهم الذين يُحَذّرون من العذاب في الداريْن للمُخالِفين لربهم وإسلامهم كالرسل والدعاة بعدهم وما معهم من القرآن الكريم وما فيه من إنذارات – الأناس الذين لا يؤمنون فهم لا يَنتفعون بها فيؤمنون وذلك بسبب إصرارهم هم علي عدم الإيمان والتكذيب والعِناد بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. والمقصود بالآيات الدلالات الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسل الله وأنهم من عنده وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق الرسول أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. إنَّ هذه الآيات والنذر لا تنفع إلا فقط المؤمنين الذين أحسنوا استخدام عقولهم فآمنوا فهؤلاء هم الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتماً يَقِيناً أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة
ومعني "فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ سابقا من إثابتنا للمؤمنين وجَعْلِنا الرِّجْس على الذين لا يعقلون، فهل يَنتظر هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين الذين لا يؤمنون ولا يَتّبعون الإسلام رغم وضوح الأدِلّة علي ذلك لكل عاقلٍ إلاّ مِثْل أيام عذاب الذين ذَهَبُوا وانْتَهوا سابقا من قبلهم الذين كذّبوا رسلهم ولم يؤمنوا كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وغيرهم والذين يعلمون أخبارهم وقصص هلاكهم ويتناقلونها بينهم؟! حيث هم لا يَسْتَحِقّون غير ذلك لأنهم قد فَعَلوا فِعْلهم فلا بُدّ أن يصيبهم مِثْل ما أصابهم فسُنَّة الله أيْ طريقته لا تَتَغَيَّر في السابقين واللاحقين من أمثالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ حتي يوم القيامة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. إنَّ أمثال هؤلاء ماذا ينتظرون بعد كل هذا الذي يفعلونه من سوء؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، وللمُكَذّبين المُعانِدين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم: إذا كان الأمر كذلك من إصراركم علي سُوئكم وانتظاركم مِثْل هذا العذاب فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)" أيْ هذه دائما سُنَّتنا أيْ طريقتنا في التّعامُل مع أمثال هؤلاء والتي لا تَتَغَيَّر ولا تُخْلَف أبداً حيث نهلك المُكَذّبين بعذابنا الحَتْمِيّ المُنْتَظَر لهم في الداريْن ثم حتماً نُنْقَذ رسلنا الكرام والذين آمنوا بهم من هذا العذاب فيهما بل لهم بالقطع كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ بهما.. ".. كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ هكذا دائما، بمِثْل هذا الإنْجاء، وكما أنجينا المؤمنين سابقا، كان واجباً علينا وَعْدَاً صادقاً لا يُخْلَف بالقطع مُطلقاً أنْ نُنْجِي المؤمنين العاملين بكل أخلاق إسلامهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ من كل سوءٍ ونُحْيِيهم في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، تَفَضُّلاً مِنّا وكَرَمَاً وإحساناً ورحمة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس المُتَشَكّكِين في صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ كنتم في شكّ من ديني الإسلام الذي أوحي إليَّ من الله تعالي وأدعوكم لاتّباعه هل هو صِدْق صحيح مُسْعِد أم لا رغم وضوح الأدِلّة علي وجوب اتّباعه لكل عاقل – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها – وفي شكّ من ثَبَاتي واستقامتي واستمراري عليه وتَرْجون يائسين تَحْويلي عنه.. ".. فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.." أيْ إنْ كنتم كذلك فاعلموا أنّي لست مُطلقاً في شكّ منه وأنه مهما تَشَكّكتم أنتم فيه فلن أعبد أبداً الآلهة أيْ المعبودات المَزْعُومَة التي تعبدونها غير الله تعالي كأصنامٍ وغيرها لمُجَرَّد شَكّكم فيه أيْ لن أطيع غيره سبحانه أيْ لا أتَّبِع غير أخلاق الإسلام ولا أتَّبِع أيّ نظامٍ يُخالفه بأيِّ مُخَالَفَة وإلا تَعِستُ تمام التعاسة في دنياي وأخراي، فأنا بريء من شَكّكم ومن أديانكم التى أنتم عليها المُخَالِفَة للإسلام المُتْعِسَة فيهما، ولكنّي أعبد الله وحده الذي يتوفاكم أيْ الذي يَقبض ويَستردّ أرواحكم عند موتكم وانتهاء آجالكم في دنياكم فهو وحده الذي خَلَقَكم وغيركم من مخلوقاتٍ وهو وحده الذي يَرزق ويَنفع ويَضرّ وهو وحده الذي يُحيي ويُميت وهو وحده الذي سيَبعثكم يوم القيامة بعد موتكم وإليه مصيركم فيُحاسبكم ويُعاقِبكم علي كفركم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. هذا، وتخصيص التّوَفّى بالذكْر هو لتهديدهم وترهيبهم وتذكيرهم بموتهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم فيسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أن يَتعسوا فيهما.. ".. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ فإنْ لم تؤمنوا أنتم فأنا قد أُمِرْت من الله أن أكون من المؤمنين حتي ولو كنت وحدي، وهذا مزيدٌ من التّيْئِيس لهم بأنَّ إجماعهم هم على عبادة غير الله تعالي وعدم الإيمان لا يمنعه هو أبداً عن إيمانه بربه واتّباعه لإسلامه.. وكذلك لأني أمِرْتُ أن أكون من المؤمنين، فأنا أدعوكم للإيمان، ولا أخالِف أمره بأن اتبع دينا غير الإسلام.. والمؤمنون هم المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المؤمنين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن.. هذا، ولفظ "أمِرْتُ" يُفيد مزيداً من التأكيد والاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي التنفيذ لأنه أمرٌ لا تَهَاوُنَ فيه وإلا كانت التعاسة التامَّة في الداريْن
ومعني "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)" أيْ وأُمِرْتُ وأُوحِيَ إليَّ أنْ أقِمْ وجهك للدين حنيفا – والوجه هو الذي يحمل العقل وكل الإداركات والأحاسيس والمشاعر والمقصود اجعل كل كيانك – أمرت بذلك أنا وكل المسلمين وكل عاقل، أُمِرْنا أن نُقيم وجوهنا للدين، أيْ نجعلها دائما قائمة واقِفَة مستقيمة علي دين الله، أي نكون جميعا دوْما مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يمينا أو يسارا مُسَدِّدِين علي الجهة التي وَجَّهنا نحوها ربنا واختارها لنا وأرشدنا إليها، وهي جِهَة الدين، دين الإسلام، حتي نسعد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. وأن نكون دائما حُنَفاء، أيْ مائلين بعيدين عن كل باطل، عن كل نظامٍ آخر مُخالِفٍ له مُضِرّ لنا يُتْعِسنا فيهما، فهو الدين الحنيف أي المائل عن أيّ باطل المُتَّجِه باستمرارٍ وثباتٍ نحو كل حقٍّ وعدل وخير وسعادة.. ".. وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الأمر السابق.. أيْ ونَهَانِي أيْ مَنَعَنِي وحَذّرَنِي أن أكون أبداً بالتأكيد من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه، وإلا تعستَ تمام التعاسة مِثْلهم في دنياي وأخراي بسبب بُعْدِي عنه وعن ديني الإسلام
ومعني "وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا تَعْبُد يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل أيْ لا تُطيع غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلك يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّك بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعك بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية.. إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)" أيْ فإنْ فعلتَ ذلك أيْ عَبَدْتَ ودَعَوْتَ وسألتَ غيره فإنك بالتالي إذَن حتماً بالتأكيد تكون من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)" أيْ وهذا، إضافة للآيات السابقة، مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَك وأصابك الله بضَرَرٍ مَا أيها الإنسان، أيْ بشيءٍ مَا يَضُرّك ويُسيء إليك في صحتك أو مالك أو عملك أو أحبابك أو ما شابه هذا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير، مع مراعاة أنَّ معظم الضرر الذي يصيب الناس هو في الغالب يكون بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كسبوها وحَصَّلوها وفعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فلا كاشِفَ له مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عنك إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لك أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بك من أضرار، إمَّا بتوفيقك مباشرة لها، أو يُيَسِّر لك خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوك.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. ".. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ.." أيْ وإنْ يَقْصِدْك بخيرٍ مَا ويُقَدِّرْه لك ويَمْنَحْك إيّاه وهو ما يَنفعك ويُسعدك بأنْ يُيَسِّر لك أسبابه فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يَرُدَّ ويُبْعِدَ ويَمنعَ عنك خيره وفضله وكرمه إلا إذا أرادَ هو مَنْعه وإذهابه وعدم حِفْظه لك لأنه وحده على كل شيءٍ قدير، علي النفع والضرّ، بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يَصعب عليه شيء.. ".. يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.." أيْ يُوَجِّه ذلك الخير والفضل ويُنزله علي مَن يشاء مِن خَلْقه الذين يريد رحمتهم ورزقهم وإسعادهم به ويَهبهم إيَّاه إذ هو يفعل ما يشاء.. ".. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وهو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم قد وَصَلَ إليكم الحقّ الذي ليس فيه أيّ شكّ وهو القرآن العظيم بواسطة الحقّ وهو الرسول الكريم الصادق الأمين (ص) ليُسعدكم في الداريْن إذا عملتم بكل أخلاقه، من ربكم لا من عند غيره، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. هذا، ووَصْف ما جاءهم بأنه الحقّ شرف وتكريم ذاتيّ له وبكوْنه من عند اللَّه ربهم شرف وتكريم إضافيّ لا يُوصَف وتأكيد لأهميته ولعظمته ولصِدْق مَن جاء به.. ".. فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.." أيْ فمَن اسْتَرْشَدَ به وسارَ خَلْفه وتمسّك بكلّ أخلاقه فإنما يَسْتَرْشِد لنفسه فهو حتماً أوّل المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن لم يَهتد وضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عنه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!!.. إنه مَن يَجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..").. والعكس صحيح قطعا، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)" أيْ وليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، لا أنا ولا غيري، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يُناسب
ومعني "وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)" أيْ وسِرْ يا رسولنا الكريم خَلْف وسِيرُوا أيها المسلمون خَلْف القرآن العظيم وتمسّكوا واعملوا بكلّ ما فيه من أخلاق الإسلام في كلّ شئون ولحظات حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فهو مُنَزّل إليك وإليكم مِن ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُرشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم.. ".. وَاصْبِرْ.." أيْ وكونوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد يصيبكم أحيانا من أذي مِمَّن تدعوهم، وكونوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وإنْ أصابتهم فتنة ما أيْ اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ.." أيْ واستمرّوا علي ذلك واثبتوا إلي أن يَحكم الله بحُكْمه العادل بينكم وبين المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُعادِين لله وللإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بأنْ ينصركم وينشر إسلامكم ويُعِزّكم ويُمَكِّن لكم في أرضكم ويسعدكم في دنياكم ثم أخراكم وبأنْ يهزمهم ويذِلّهم ويتعسهم فيهما.. ".. وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)" أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم فهو كتاب مَكتوب مُدَوَّن يُرْجَع إليه في كل وقت أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه ومن صفاته أنه أُحْكِمَت آياته أيْ نُظّمَت تنظيماً مُحْكَمَاً مُتْقَنَاً حَسَنَاً دقيقاً تماماً ليس فيها أيّ خَلَل أو تَنَاقُض في ألفاظها أو معانيها وكلها لها دلالاتها القاطِعَة الحاسِمَة وكلها مُتَنَاسِقَة ومُتَرَابِطَة ومُتَنَاغِمَة وتَحْمِل الحقّ وليس فيها أيّ اختلافٍ ولا يُمكن لأيِّ باطلٍ أو انحرافٍ أو اعوجاجٍ أن يَخترقها وكلها حِكَم مُجْمَلَة راقية هادية لمَن يتبعها لكل خيرٍ وعدلٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه.. ".. ثُمَّ فُصِّلَتْ.." أيْ وبُيِّنَت هذه الآيات ووُضِّحَت وجُعِلَت مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بها كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكان وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول (ص) "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (أخرجه مسلم).. ".. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومن المدح لصفاته ومن التشريف والتكريم والتعظيم والتقديس الذي لا يُوصَف له والتأكيد علي أهميته وعظمته وصِدْق مَن جاء به وهو الرسول الكريم الصادق الأمين (ص).. أيْ كلّ ذلك لأنه من عند الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، وخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم لأنهم خَلْقه وصَنْعَته وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبالتالي فلا يكون كتابه ولا إحكامه ولا تفصيله إلا المَثَل الأعلى في كل ذلك، فليجتهدوا بالتالي إذَن في العمل بكل أخلاقه ليَصلحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماما في الداريْن
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)" أيْ إنزال القرآن العظيم وإحكام آياته وتفصيلها هو من أجل أنْ لا تعبدوا إلا الله فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)" أيْ إنني مُرْسَلٌ لكم أيها الناس جميعاً منه، أيْ من الله، نذيرٌ أي مُحَذّرٌ من تمام الشرّ والتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض الإسلام أو كله أو يُكَذّب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وبشيرٌ أيْ مُبَشّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة فيهما لمَن عمل بكلّ أخلاقه.. فهذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – وليس من مهمّتى ومهمّتهم معرفة علم الغيب والإخبار به، وليَتَحَمَّل الذين لا يَستجيبون ولا يَتّبِعون أخلاق الإسلام إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
هذا، ومعني "وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)" أيْ وعليكم أيها الناس بعد أن عبدتم الله تعالي وحده وتركتم أيَّ عبادةٍ لغيره أن اسألوا ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – دَوْمَاً مَغْفِرَة ذنوبكم وتوبوا إليه علي الدوام وأوّلاً بأوَّلٍ مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ".. يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.." أيْ فإنكم إنْ فعلتم ذلك يُعْطِكم حتماً من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ مَا تَتمتّعون وتنعمون وتنتفعون وتأمنون وتستقرّون وتَرْضون وتسعدون به إلى نهاية حياتكم التى قَدَّرها لكم فى هذه الدنيا، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.." أيْ وكذلك يُعْطِ بالقطع كلَّ صاحبِ خيرٍ، خَيْرَه تعالي، أيْ يُعْطِ فضله أيْ جزاءه الفاضل الكريم الزائد الذي لا يُوصَف لكل عاملٍ لعملِ خيرٍ فاضِلٍ مَا بما يُناسبه كاملا بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ بلا أيِّ نقصانٍ من كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه.. ".. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)" أيْ فإن استجبتم أيها الناس فلكم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَتَوَلّوا أيْ تُعطوا ظهوركم لله ولرسوله (ص) وتَلْتَفِتُوا وتَنْصَرِفوا وتَبْتَعِدوا عن الإسلام وتَتْركوا أخلاقه وتهملوها وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن تَوَلّي، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيمٍ عذابه شديدٍ فظيعٍ ضخمٍ طويلٍ لا يُوصَف للمُتَوَلّين هو يوم القيامة، كما إني أخاف عليكم عذاب دنياكم أولا إنْ لم تتوبوا وتعودوا إلي ربكم وإسلامكم، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)" أيْ هذا تأكيدٌ لحَتْمِيَّة حُدُوث الرجوع إلي الله تعالي يوم القيامة.. أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرّد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الذين يَخافون الله ويُراقبونه ويَستشعرون عظمته وهيبته ويَخضعون لوصاياه وإرشاداته التي أوصاهم بها في إسلامه وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم سواء في السِّرِّ أو العَلَن فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)" أيْ إنَّ الناس يَطْوُون صدورهم كاتِمِين لِمَا يدور فيها بدواخل عقولهم وأفكارهم مُجْتَهِدِين في كتمانها لكي يَتَخَفّوا – من الاختفاء – ويَسْتَتِرُوا من الله تعالي مُتَوَهِّمِين أنهم يُمْكِنهم ذلك!!.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)" أيْ إنهم حين يُغَطُّون أجسادهم بثيابهم – ويَتَخَفّون بأيِّ وَسِيلَةٍ وفي أيِّ مكانٍ وزمان – يعلم الله كل ما يُخْفون وما يُظْهِرون من أيِّ شيءٍ وقولٍ وفِعْلٍ وفِكْرٍ وخاطرٍ وغيره لأنه عليمٌ بذات الصدور أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه حتماً بالتأكيد أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.