الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من بعض طَلَباتهم السفيهة القبيحة إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره والتي هي مَرْدُودٌ عليها من أيِّ عاقلٍ والتي يَدَّعُون كَذِبَاً ومُرَاوَغَة أنها لو تَحَقّقت لهم قد يؤمنون! وأضافوا إليها طَلَبَاً أفْظَع سَفَهَاً وقُبْحَاً وهو رؤية الله تعالي!!.. أيْ وقال الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب وبالعقاب وبالجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، قالوا علي سبيل الاسْتِكْبار والتكذيب والعِناد والسُّخْرِيَة والاستهزاء والاسْتِهانَة والتّحْقير والمُرَاوَغَة والتشكيك في صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) أنه رسولٌ من عند الله وبالتالي صِدْق مَا جاء به من قرآنٍ حتي لا يَتّبعه أحدٌ، قالوا لو أُنْزِل علينا الملائكة من ربه الذي يَدَّعِيه لِتَكون شاهِدَاً له علي صِدْقه ولِتُعَلّمنا هي الإسلام، أو نُشاهِد بأعيننا ربنا هذا لِنَطْمَئِنّ لوجوده فنُؤمن به ويُعَلّمنا هو دينه الإسلام ولِيَشهد هو أيضا بصِدْقه ويُخْبِرنا بذاته أنه رسوله وعلينا اتّباعه لَكُنَّا آمنّا به أيْ صَدَّقْناه واتّبَعْناه! فإنْ حَدَثَ ذلك كان صادقاً وسنُؤمِن وإنْ لم يَحْدُث فهو كاذبٌ وسنَكْفُر!!.. ".. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)" أيْ لقد تَعَالَوْا وتَرَفّعُوا عن اتّباع الحقّ في عقولهم – والسين والتاء للمُبَالَغَة في التّكَبُّر – وظلموا ظلماً عظيماً شديداً بطَلَبِهم هذا الطلَب القبيح السفِيه لأنهم يعلمون تماما أنه تعالي لا يُرْسِل ملائكة كرُسُلٍ للبَشَر وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم حيث يُرْسِل لهم بَشَرَاً منهم مِثْلهم لهم مِثْل قُدْراتهم ليكونوا قُدْوَة لهم يُعَلّموهم إسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني وللشرح والتفصيل عن لماذا لم يُرْسِل سبحانه رُسُلاً من الملائكة وأنَّ ذلك في مصلحة البشر مراجعة الآية (7) من هذه السورة)، ولأنهم يعلمون تمام العلم ومتأكّدون تماما من خلال فِطرتهم التي بداخل عقولهم والتي هي مسلمة أصلا بوجود خالِقٍ لهم وهو الله تعالي (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ويدركون بهذه العقول ذلك تماما حينما يُحْسِنون استخدامها ويَتَدَبَّرون في مخلوقاته سبحانه فهو تعالي لا يُرَيَ ولكن آثاره تُرَيَ في كل كَوْنه وبالتالي فهم قد تَجَرَّأْوا علي هَيْبَة الله تعالي والذي مِن المستحيل أنْ يَروه في الدنيا رحمة بهم لأنَّ عيونهم غير مُؤَهَّلَة لهذا ولنْ يحتملوا رؤيته – أمَّا في الآخرة فأهل الجنة سيكونون مُؤَهَّلِين لرؤيته والتّمَتّع والسعادة بذلك – كما أنه لكي يَروه لابُدَّ له من مكانٍ وهو تعالي لا مكان له بل معهم وجميع خَلْقه دوْمَاً في كل مكانٍ بتمام قُدْرته وعلمه ثم هو من الغَيْب الذي به يُخْتَبَر المُكَذّب من المُصَدِّق الذي يُحْسِن استخدام عقله فيَرَي أثره سبحانه في كل مخلوقاته المُعْجِزات في كل كوْنه حوله دون أن يراه مباشرة فتكتمل بذلك معاني وأهداف الحياة (برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان)، كما أنه قد يكون مِن حِكَم عدم رؤيته وهو أعلم بحِكَمه أنْ يَظل الاشتياق لرؤيته تعالي ولِجَنّاته ولِتزداد هَيْبَته فيكون ذلك دافِعَاً للاستمرار في فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنَّ كل ذلك العُتُوّ والذي هو شِدَّة التّكَبُّر والظلم الذي يَتَجَاوَز حدود العقل ما هو إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)" أيْ يوم يَرَيَ هؤلاء المُسْتَكْبِرون الظالِمون الملائكة كما يَطلبون، عند قَبْض أرواحهم بموتهم ودخول قبورهم وحسابهم يوم القيامة، لا بُشَرَيَ أيْ لا خَبَرَ سارّ مُسْعِد حينئذٍ يومها للمُجْرمين – والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – حيث ستُبَشّرهم بكل خَبَرٍ مُؤْلِمٍ مُتْعِسٍ أنهم إلي النار لا الجنة أيْ بكلِّ عذابٍ مُناسِبٍ لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، والمقصود أنهم سيَرَوْنها وستُجاب رغبتهم حتماً يوماً مَا لكنْ بما لا يَتوقّعونه وبما يَصْدِمهم ويذلّهم ويُهينهم ويَسْخَر منهم ويُعذّبهم ويُتْعِسهم لأنها ستكون ليست علي الصورة التي كانوا يطلبونها في دنياهم لتُعَلّمهم الخير والإسلام ولكنها ستكون ملائكة العذاب لعذابهم حيث كان طَلَبهم هو من أجل مُرَاوَغَة رسلهم وتكذيبهم وللاستهزاء بهم وللاستكبار علي اتّباعهم فسيُقابَلُون بالتالي بسبب ذلك بأسْوأ خَبَرٍ وبما يُناسِبهم من عقابٍ بعذابٍ أليمٍ مهينٍ بعضه عند موتهم وفي قبورهم وتمامه في آخرتهم بما لا يُوصَف، إضافة قطعاً لِمَا كانوا فيه من عذابٍ دنيويٍّ بدرجةٍ من الدرجات بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (50) من سورة الأنفال "وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، والمُحْسِنون تستقبلهم الملائكة عند موتهم بكلّ تَبْشِيرٍ وخيرٍ وتخرج أرواحهم سهلة سريعة لتستقرّ في رحمات وجنات وخيرات خالقها الرحيم الكريم.. ".. وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ويقول هؤلاء المُسْتَكْبِرون الظالمون حينما يَرَوْن الملائكة وهم في كلّ رُعْبٍ وذِلّةٍ وإهانةٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ مِن أيِّ خَلاصٍ: مَنْعَاً مَمْنُوعَاً منكم، وهذا تعبيرٌ يقوله العرب كنوعٍ من الاستعاذة وطَلَب المَنْع والاحْتِماء والنجاة حينما يَرَوْن مُصيبة هائلة نازِلَة بهم، ومَحْجُورَاً هي صفة لكلمة "حِجْرا" لمزيدٍ من تأكيد طَلَبهم مَنْع المُصيبة ومُبَالَغتهم في طَلَبها.. كذلك من المعاني: وتقول لهم الملائكة بكلّ غِلْظَةٍ وغَيْظٍ وتَيْئيسٍ وبَدْءٍ بالعذاب: مَنْعَاً مَمْنُوعَاً بمعني حَرَامَاً مُحَرَّمَاً عليكم البُشْرَي والمغفرة والرحمة والجنة كما هو حال المؤمنين المُحْسِنين
ومعني "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)" أيْ وقَصَدْنا إلي ما عملوا من أيِّ عملٍ صالحٍ في دنياهم فجعلناه في أخراهم غُبَاراً مُتَنَاثِرَاً أيْ مُتَبَعْثِرَاً بمَا يُفيد أنه ليس له أيّ قيمة، أيْ أنهم في الآخرة لن يجدوا لأعمالهم أيّ أثَرٍ وكأنهم لم يعملوا شيئاً في حياتهم وليس لهم أيّ ثواب بل سيجدون كل شرّ يُناسب مَا يَسْتَحِقّونه لأنَّ أعمالهم معظمها كانت في شَرٍّ لأنهم لم يؤمنوا بآخرةٍ أو حسابٍ أصلاً، وحتي ما فعلوه من خيرٍ فهو غالباً أو دائماً مُرْتَبِط بشَرٍّ مَا كأنْ يفعلوه رياءً للناس أيْ لكي يَروا منهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون به رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون به وبها من الأصل، ولو كانوا فعلوا خيراً مَا صافِيَاً بصِدْقٍ فقد أعطاهم الله في دنياهم بعدله خيراً يُناسبه ويزيد عليه فلا شيءَ لهم إذَن في أخراهم فقد أخذوا حقّهم، فحال أعمالهم لذلك بالتالي كحالِ غبارٍ منثورٍ، فبالتالي أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب كفرهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلوا خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. إنَّ ذلك الكفر والعمل لغير الله تعالي وذلك الحال السَّيِّء التعيس للكفار وذلك الذهاب لأعمالهم وعدم انتفاعهم بشيءٍ منها بسبب كفرهم هو حتماً الضياع الكبير الشديد حيث هم بعيدون كلّ البُعْد عن الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله، لأنهم لم يَعْبُدوا أيْ لم يُطِيعوا الله تعالي ربهم أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام، وهو كذلك حتماً الضلال البعيد لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أنْ لا حساب! وبالتالي ستجدهم دائماً وحتماً في دنياهم في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ أصحاب الجنة حينئذٍ يومها يوم القيامة، أيْ مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهايةٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقُصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا – إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم – خيرٌ مُسْتَقَرَّاً قطعاً من أصحاب النار بلا مُقارَنَة أيْ أفضل منهم مكاناً للاستقرار والإقامة والسكن والمَقَرّ حيث كل أمنٍ وسلامٍ وتَيْسيرٍ وانتفاعٍ وتَمَتُّعٍ وسعادة، وأحسن مقيلاً أيْ مكاناً ومنزلاً للراحة والاسْتِرْخاء، والمقيل في الأصل في اللغة العربية هو المكان الذى يُؤْوَىَ إليه فى فترة القَيْلُولَة وهي استراحة منتصف النهار وقت الظهر، والمقصود السعادة التامَّة الخالِدَة التي لا تُوصَف في كل مكانٍ وكل زمانٍ حيث كل خيرٍ ونعيمٍ وراحةٍ في كل أنواع الأرزاق والخيرات والراحات والسعادات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. إنه لا يمكن أبداً لأيِّ عاقلٍ أنْ يُساوِيَ بين الحالَيْن!! فلا مُقَارَنَة حتماً أصْلاً وإنما هو التذكير لا غير!
ومعني "وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)"، "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)"،"وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)"، "يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)"، "لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)" أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم تَشَقّق السماء بالغَمام أيْ تَتَشَقّق أيْ تظهر فيها الشقوق والفَتَحَات ويَخْتَلّ نظامها بسبب الغمام أيْ السحاب الكثير الذي يغمّ أيْ يُخْفِي ما فيه وما تَحْته والذي يطْلع منها ويُوجَد بها حينها فيُسَوِّد الجَوَّ ويُظْلِمه ويغمّ المَشاعِر حين يُرَيَ لكثرته ومَنْظَرِه المُخِيف، ويُنَزّل الله تعالي الملائكة يومها تنزيلاً كثيراً مُؤَكّداً بصحائف أعمال الناس ليُحاسِبهم ولأداء مَهامَّها المُكَلّفَة بها منه سبحانه وقتها.. "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)" أيْ المُلْك الحقّ أيْ الحقيقيّ الثابت الذى لا يزول الخالص الذي ليس فيه مُشارَكَة مِن أحدٍ حينئذٍ يومها يوم القيامة هو للرحمن وحده لا لغيره حيث لا يملك أحدٌ شيئا فالجميع متساوون فلا مُلوك غيره فقد زالَ مُلْكُ كلّ مَلِكٍ وأيّ مالِكٍ والجميع تحت سلطانه وأمْره وحُكْمه، لأنه كان في الدنيا ملوكٌ يَمْلِكون مِمَّا مَلّكهم سبحانه إيَّاه ولكنه مُلْكٌ غير حقيقيٍّ لأنه زائلٌ مُتَغَيِّرٌ لا يَدوم ثم هو ليس مُلْكهم وإنما هو منه خالقهم ورازقهم سبحانه حيث هو مالِك المُلْك كله علي الدوام سواء في الدنيا أو الآخرة.. هذا، واختيار اسم الرحمان من أسمائه تعالي الحُسني هو للتذكرة برحمته الواسعة التي ستكون للمؤمنين لا للكافرين.. ".. وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)" أيْ وسيكون هذا اليوم يوم القيامة يوماً عسيراً أيْ صَعْبَاً شديداً طويلاً ضَيِّقاً أليماً مهيناً كئيباً تعيساً حتماً علي الكافرين وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم، وذلك لشِدَّة أهواله وعذاباته وتعاساته لهم حيث يُحاسَبُون حساباً عسيراً تَفْصيلِيَّاً بكل عدلٍ وينتظرهم بعدها عذابٌ خالدٌ لا يُوصَف في درجةٍ من درجات نار جهنم علي قَدْر سُوءِ كلٍّ منهم.. هذا، وبمَفْهوم المُخَالَفَة فإنه يُفْهَم ضِمْنَاً أنه سيكون حتماً يوماً علي المؤمنين يَسِيرَاً أيْ سَهْلَاً خفيفاً سريعاً سعيداً فيه كلّ تكريمٍ وتَبْشِيرٍ حيث سيَمرّ عليهم بفضل الله وكرمه ورحمته لهم كوقتِ صلاةٍ مِن الصلوات كما أخبر بذلك الرسول (ص) وينتهي بهم إلي الاستقرار الخالد في نعيم جناتٍ لا تُوصَف.. "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)" أيْ وأيضاً واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم يَضَع الظالم أسنانه بشِدَّةٍ وغِلْظَةٍ وغَيْظٍ علي يديه فيَجْرَحها، وهذا التَّصَرُّف يَحْدُث مع مَن هو في شِدَّة الألم والحَسْرَة والندامَة والغيْظ والحُزْن والكآبة والتعاسة والخوف والعذاب، والظالم هو الذي ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابَهَ هذا، ويقول بما يُفيد عظيم أَلَمِه وحُزْنه وحَسْرَته ونَدَامَته وضِيقه وأُمْنِيَّته النجاة في وقتٍ لن ينفع فيه ذلك بشيءٍ حيث قد انتهي وقت العمل والتصويب في الدنيا وجاء وقت الحساب والعقاب والعذاب في الآخرة: يا لَيْتَنِي أيْ كنتُ أتَمَنّيَ لو أنّي كنتُ في دنياي أخَذْتُ مع الرسول طريقاً إلي الجنة وإلى النجاة من النار فلم أفارقه وأكذّبه وأعانِده وأحاربه وأسْتَكْبِر عليه وأسْتَهْزِيء به وذلك بالسيْر معه في طريق الإيمان بالله واتّباع الإسلام الذي هو الطريق المستقيم أيْ المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. "يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)" أيْ ويقول حينها كذلك بما يدلّ علي شِدَّة خوفه واضطرابه وحَسْرَته ونَدَمه وألمه وتعاسته يا هَلاَكي إني هَالِكٌ حقّاً بكل تأكيد، كنتُ أتَمَنّيَ لو أنّي كنتُ في دنياي لم آخُذْ وأجْعَل وأخْتار فلانَاً الذي أضَلّني حبيباً وصَدِيقاً وصاحِبَاً لي أتّبِعه وأفْعل سُوءَاً مِثْله، والخُلّة هي أعلي درجات المَحَبَّة والصَّدَاقَة والصُّحْبَة، ولفظ "فلانَاً" يَعْنِي ويَتَذَكّر به كل مَن أضَلّه أيْ أبْعَده عن طريق الله والإسلام.. "لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)" أيْ لأنه، حيث أنه، قد – واللام للتأكيد – أضَلّني عن الذكر أيْ أضاعَني بأنْ أَبْعَدَنِي عن كل الذي يُذَكّرني بعبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام أيْ يُذَكّرني بطريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة مِن كُتُبِ الله وآخرها القرآن العظيم وسُنَنِ رُسُلِه وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ومِن إحسان استخدام عقلي والتّدَبُّر في كَوْنِه سبحانه ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ والاستجابة لنداء الفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ومِن اتّخاذ صُحْبَةٍ صالحةٍ تُذَكّرني بكلّ خيرٍ وتَمْنَعني من أيِّ شرّ، وذلك بعد أنْ وَصَلَنِي هذا الذكر من ربي والذي فيه هدايتي وسعادتي بالداريْن عن طريق الرسل الكرام والمسلمين الصالحين مِن بَعْدهم فأضَلّني عنه، وبالتالي فليس لي أيّ عُذْرٍ الآن والتّحَجُّج بعدم وصوله لي حيث كان من المُمْكِن أن أنتفع وأسعد به ولكني لم أفعل بسبب إغلاق عقلي، بما يدلّ علي شِدَّة نَدَمه في وقتٍ لن ينفع فيه أيُّ نَدَمٍ وشِدَّة سُوءِ أصحابه الذين اتّخَذهم أَخِلّاء، وفي هذا تَذْكيرٌ لكل مسلمٍ بأنْ يُصاحِب الصالحين لا الطالِحين ليسعد في دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما.. ".. وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)" أيْ وكان الشيطان وما زال مستمِرَّاً دَوْمَاً للإنسان خَذُولَاً أيْ كثير دائم الخُذْلان له بعدما يَقذفه ويَغْمسه في أعماق الشرّ حيث أغراه به فاستجاب له أيْ كثير دائم الترْك والإهمال والتّنَكّر له والتّخْلّي عنه والفرار والتّبَرُّؤ منه حينما يريد عَوْنه وإنقاذه عند نزول عذاب الدنيا والآخرة به وعدم إعانته وتأييده ونصره بعد وَعْده إيّاه بوعودٍ خادِعَةٍ كاذِبَةٍ بذلك لأنه لا يستطيع حتما شيئا من ذلك بل هو دائما عدوّه أيْ ضِدَّه يريد إضلاله أيْ إبعاده عن كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه.. هذا، ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار.. والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رَمْزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَله صِفَة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْماً لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيراً فله كل الخير ومن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. هذا، وهذا الجزء من الآية الكريمة قد يكون من كلام الله تعالى أو من تمام كلام الظالم
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ مِن تَرْك العمل بالقرآن العظيم بعضه أو كله في كل شئون الحياة حيث تَحْدُث حتماً التعاسة بالداريْن علي قَدْر تَرْكه إذ يَشتكي الرسول الكريم (ص) لله تعالي في الدنيا ثم في الآخرة مِمَّن يَتركونه أيْ يَذكر له ما حَدَثَ مِن سوءِ بعضهم وهو العليم بهم حُزْنَاً عليهم وطَلَبَاً منه في الدنيا أن يُوَفّقهم لحُسْن استخدام عقولهم فيعملوا به أو يُعاقِبهم بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم إنْ أَصَرُّوا علي تَرْكه ومُعاداته وفِعْلهم السوء.. أيْ وقال الرسول الكريم محمد (ص)، وكلّ مسلمٍ يَدعو لله وللإسلام مِن بَعْده، يا رب – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إنَّ قومي، أيْ بعضهم الذين كذّبوني مِن الكافرين والمشركين ومَن تَشَبَّه بهم، والذين مِن المُفْتَرَض أنْ يُصَدِّقوني لأنهم أهلي وأحِبَّائي وأنا منهم وهم مِنّي ويُسعدني مَا يُسعدهم ويُتعسني ما يُتعسهم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليهم أو أخدعهم وهم الذين يَعرفونني ويَسمُّونني بأنفسهم الصادق الأمين، قد اتّخَذوا أيْ جَعَلوا هذا القرآن العظيم الذي يُسْعِدهم تماماً بالداريْن لو عملوا بكل أخلاقه والذي مِن المُفْتَرَض أنْ يَحْرصِوا علي التمسُّك والعمل به مِن أجل ذلك والذي مِثْله لا يُهْجَر مُطْلَقَاً مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، مَهْجُورَاً، من الهَجْر أيْ الترْك، أيْ مَتْرُوكَاً، أيْ تَرَكوا سَمَاعه وقراءته وتَدَبُّره والعمل به والدعوة له ونَشْره والدفاع عنه بل وعاداه بعضهم.. كذلك من معاني مَهجوراً أيْ جَعَلوه هَدَفَاً لأنْ يقولوا فيه الهُجْر أيْ الفُحْش أيْ القول الفاحِش البَذِيء القَبِيح
ومعني "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)" أيْ وكما أنَّ لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به ويَدعو لله وللإسلام وللحقّ وللعدل وللخير وينشره ويدافع عنه أعداءً يحاولون منعك من ذلك بكل الوسائل بالترغيب والترهيب لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة من المجرمين أيْ من الذين يرتكبون الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، فكما أنَّ لك أعداءً من هؤلاء فكذلك كان الحال مع كلِّ نَبِيٍّ قَبْلَك ومع كل مسلمٍ مُتّبِعٍ له، فلا تَحزن واصْبِر واصبروا أيها المسلمون مِثْلهم لتنالوا سعادتيّ الداريْن كما نالوا.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)" أيْ هذا مزيدٌ من الطمأنة التامَّة والوَعْد بالنصر التامّ.. أيْ وكَفَيَ بربك كفاية تامَّة فلا احتياج أبداً حتماً بعَدْهَ لغيره يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – هادِيَاً أيْ مُرْشِدَاً لك ولكل مَن أراد الهداية ولكل مَن تاب وعاد لربه لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومُوَفّقاً ومُيَسِّرَاً ومُلْهِمَاً لأفضل طريقٍ لتحقيق ذلك ولكيفية حُسْن توصيل دعوتك للجميع علي أكمل وجهٍ رغم عداء الأعداء، ونصيراً أيْ ناصراً كثير النصر لك علي كلِّ عدوٍّ وكل عقباتٍ يَنصرك بأنْ يجعلك تَغْلِب ويعزّك ويَرفعك ويُعينك ويَمنع الضرر ويُدافع عنك بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً لكم ولجميع خَلْقِه، فاصْبِر واصبروا ولا تَتَأثّروا بهم واطْمَئِنّوا وأحْسِنوا اتّخاذ أسباب ذلك وتوكّلوا عليَّ واسْتَبْشِروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ وستَنْتَصِرون حتماً
ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)" أي هذا مزيدٌ من أقوالهم القَبيحَة حيث يَحْمِل هذا القول ضِمْنَاً مزيداً من التكذيب والعِناد للرسول الكريم (ص) والاسْتِكْبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة والمُحاوَلات – اليائِسَة – للتشكيك في صِدْقه أنه رسولٌ من عند الله وبالتالي صِدْق مَا جاء به من قرآنٍ حتي لا يَتّبعه أحدٌ.. أيْ وقال الذين كفروا أي كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، قالوا كاذبين مُرَاوِغِين لو نُزّلَ عليه القرآن جملة واحدة أيْ دفعة ومَرَّة واحدة ككتابٍ مُكْتَمِلٍ لا مُتَفَرِّقٍ هكذا لَكُنَّا آمنّا به أيْ صَدَّقْناه واتّبَعْناه! لكنْ بما أنه أُنْزِل مُتَفَرِّقَاً أيْ مجموعة من الآيات ثم مجموعة أخري علي مَدَيَ سنواتٍ فهذا يعني أنَّ هذا الذي يَدَّعِي أنه رسولٌ كلما جاءته فكرة بعقله أو تَعَلّمها من أحدٍ طَلَبَ منه تسجيلها وكتابتها حتي كَتَبَه كله فهو من كلامه لا من كلام ربه ويَنْسِبه إليه افتراءً عليه!! وهم يعلمون تمام العلم كذبهم وظلمهم وزُورهم حيث هم بأنفسهم لا غيرهم الذين سَمُّوه (ص) بالصادق الأمين قبل نزول القرآن! ثم إذا كان مِن وَضْع وكلام البَشَر فلماذا إذَن لا يأتون ولو بآيةٍ بمِثْل آياته وهم أكثر فَصَاحَة وعِلْمَاً منه (ص)؟! وقد تَحَدَّاهم بالفِعْل بهذا ولم ولن يستطيعوا أبداً حتي ولو اجتمعوا جميعا لذلك! فإذا لم يَقْدروا علي الإتْيان بآيةٍ وهو يَنْزِل مُتَفَرِّقَاً فكيف يأتون بمِثْله إذا كان نَزَلَ جملة واحدة؟!! ثم ما دام مُعْجِزَاً لهم ولو بآيةٍ واحدةٍ فأَمْر إعجازه الحَتْمِيّ بالتالي إذَن لا يَخْتَلِف سواء نَزَلَ جُمْلَة أم مُتفرقا؟!! لأنه القرآن العظيم، كلام الله تعالي الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل مَا أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)" أيْ كذلك أنزلناه هكذا مُتَفَرِّقَاً علي مَدَيَ سنواتٍ لِحِكَمٍ كثيرةٍ أهمها لكي نُقَوِّي به عقلك ومَشاعِرك بداخله يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم فتَصْمُد وتَسْتَمِرّ وتَدوم وتَرْسخ وتَثْبُت دائما علي طريق الله والإسلام طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن بلا أيِّ تَرَدُّدٍ أو تَرَاجُعٍ طوال حياتك لا تَتَزَحْزَح عنه أيَّ تَزَحْزُحٍ بأيِّ مُزَحْزِحٍ مهما كان سواء أكان تَرْغيباً في فِعْل شرٍّ مَا أو تَرْهيبَاً بضَرَرٍ مَا لتَرْك خيرٍ مَا حيث ستَطْمَئِنّ بذلك التنزيل المُتَفَرِّق أننا دائما معك بقدرتنا وعلمنا وحكمتنا ورحمتنا وحبنا ورعايتنا وقوتنا وجنودنا وعوننا وتوفيقنا وتيسيرنا ونصرنا وإسعادنا لك فتحيا حياتك بهذا علي الدوام مطمئناً في سعادة تامَّة وتدعو لله وللإسلام وتُدافِع عنه وتَصْبِر وتَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرتك التي فيها حتماً مَا هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، كما أنَّ نزوله مُلائماً لأحداث الحياة يكون أكثر تأثيراً وأسرع وأسهل تطبيقا، وأيضا نزوله بهذه الصورة وترتيله بهذا التناسُق والتناغُم يجعل حفظه سهلا وتَدَبُّره أعْمَق واتّخاذه مَرْجِعَاً لكل الشئون أوْكَد حيث يُوَضِّح كل أصول وقواعد التّعامُل معها بما يُحَقّق إصلاح الناس وكمالهم وإسعادهم تماما في دنياهم وأخراهم.. ".. وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)" أيْ كذلك نَزَّلْناه مُتَفَرِّقَاً وجَوَّدْناه تَجْوِيدَاً عظيماً أيْ حَسَّنَّاه ونَسَّقْناه ونَظّمْناه وبَيَّنَّاه وفَصَّلْناه تَحْسِينَاً وتَنْسِيقَاً وتَنْظِيمَاً وتَبْيينَاً وتَفْصيلاً كامِلاً بَدِيعاً لا يُقارَن.. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ بقراءته بتَرْتيلٍ أيْ بتَجْويدٍ أيْ بتَحْسِينٍ وتَرْسِيلٍ أيْ تَمْهِيلٍ وتَأَنٍّ بلا تَعَجُّلٍ آية بعد آية وبحُسْنِ وجَمَالِ أداءٍ وصوتٍ وتبيينٍ للحروف والوقفات ونحو هذا مِمَّا يُعين علي أن يُعْقَلَ ويُتَدَبَّرَ ويُنْتَفَعَ به ويُرْجَعَ إليه في كلّ حَدَثٍ من أحداث الحياة فيَتَّضِح للناس أصول وقواعد التعامُل معها علي أكمل وجهٍ فيَصلحوا بهذا ويَكملوا ويَسعدوا تماما في الداريْن
ومعني "وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)" أيْ ولا يَجِيئونك أيْ يحْضِرون إليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤن بمَثَلٍ يقولونه لك أيْ بأيِّ تشبيهٍ قبيحٍ كاذبٍ في أيِّ حالٍ من الأحوال أيْ بكلّ قولٍ فاسدٍ تافهٍ هو مَثَلٌ في الفساد والتفاهة مُحاولِين يائِسِين مُعَارَضَة الحقّ والتشكيك في صِدْقك أنك رسولٌ من عندنا وبالتالي صِدْق مَا جِئْتَ الناسَ به من قرآنٍ حتي لا يَتّبعك أحدٌ إلا جِئْناك حَتْمَاً فى مُقابِله بالجواب الحقّ أيْ الصادِق الثابِت القاطِع الحاسِم في القرآن العظيم الذى يُزْهِق أيْ يُزيل ويُمِيت مَثَلهم الباطِل، ومعني جِئْناك أيْ جِئْنا لك بالحقّ أيْ أحْضَرْناه وأوْصَلْناه إليك لتُبَلّغه للناس (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (81) من سورة الإسراء "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وأحسنَ تفسيراً أيْ وبما هو أفضل وأجْوَد وأتْقَن وأجْمَل وأعظم وأحْكَم وأكْمَل وأوْفَيَ وأصْدَق وأصَحّ وأنْفَع وأقْطَع وأفْصَح بلا مُقارَنَة تفسيراً أيْ توضيحاً وتَبْييناً وشَرْحَاً وتفصيلاً لهذا الحقّ يُزيح ويَكْشِف ويَمْحُو باطلهم، فَسِرْ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في طريقك ولا تَتَأثّر بهم واصْبِر واسْتَعِنْ بِي وتوكّل عليَّ فإنك علي الحقّ المُبِين فأنت المُنْتَصِر بإذن الله في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مُناسباً مُسْعِدَاً لك وللجميع.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)" أيْ هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزِؤن المُرَاوِغُون ومَن يَتَشَبَّه بهم هم الذين يُحْشَرُون أيْ يُحْشَدُون يوم القيامة مَحْشُورين مُتَزَاحِمِين مُتَكَدِّسِين مُهانِين مَذْلُولِين علي وجوههم أيْ مَسْحُوبين زاحِفِين علي وجوههم وبطونهم بواسطة ملائكة العذاب إهانة وتعذيباً لهم لكي يُقذفوا في عذاب النار الذي لا يُمْكِن وَصْفه ليَنالوا ما يَسْتَحِقّونه بسبب سُوئهم بما يُفيد أنهم حينها في مُنْتَهَيَ الذلّة والإهانة والانْكِسار والعار والندامَة والفضيحة والضعف في مُقابِل اسْتِكْبارهم واسْتِهْزائهم الذي كانوا عليه في دنياهم.. ".. أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)" أيْ هؤلاء التّعَساء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين نَفعل بهم ذلك هم بالقطع شرٌّ مَكَانَاً أيْ شرٌّ مَنْزِلَاً ومَوْضِعَاً مِن أيِّ أحدٍ من الناس أيْ في أعلي مَنْزِلَة من الشرّ من غيرهم والذي يَستحِقّون بسببه وفي مُقابِله وبما يُناسبه أشدّ وأسوأ وأتْعَس أنواع العذاب في الداريْن، وهم أيضا أضلُّ سبيلاً أيْ أبْعَدُ طريقاً عن الطريق المستقيم أيْ أبْعَد الناس من غيرهم عن الطريق المستقيم وأكثرهم ضلالاً أيْ عن الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحرافٍ أيْ عن طريق الله والإسلام أيْ عن طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فهم في طريق الضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد أي المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطيء الضائع، والذي سيُوصلهم حتماً إلي كل تعاسةٍ فيهما
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة وبجهودٍ بسيطة.. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير وعوْن علي الصبر للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة أيضا فيها إيجاز بلا تفصيلٍ (والتفاصيل في آياتٍ أخري من سورة الأعراف وغيرها) لمَصائر بعض المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزئين الذين لا يؤمنون بالله تعالي ولا يَتّبِعُون رسله باتّباع أخلاق دين الإسلام ويُصِرُّون علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ حيث العذاب والهلاك والتعاسة بالداريْن لتكون تحذيراً شديداً لمَن يَتَشَبَّه بهم حتي لا يستمرّوا علي تكذيبهم وفَسادهم وعِصْيانهم لعلهم بهذا التحذير يعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا فيهما
هذا، ومعني " وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)"، "فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)" أيْ ولقد أعطينا موسي الكتاب الذي هو التوراة التي فيها الإسلام الذي يُناسِب عصره – كما أعطيناك يا رسولنا الكريم محمد القرآن العظيم المناسب لكل العصور حتي يوم القيامة – وجعلنا معه برحمتنا وحِكْمتنا وعِلْمنا أخاه هارون وزيراً أيْ مُؤَازِرَاً أيْ مُعِينَاً ليكون شَرِيكَاً له في أمر تبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به بالداريْن حتى يُؤَدّيه على أكمل وَجْهٍ لأنه سيُواجِه أسْوأ وأكبر مُسْتَبِدٍّ مُجْرِمٍ ظالِمٍ علي وجه الأرض فرعون ملك مصر في ذلك الزمان والذي قال ما لم يَقُلْه أحدٌ أنا ربكم الأعلي.. "فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)" أيْ فقلنا لهما اذهبا إلي الأُنَاسِ الذين لم يُصَدِّقوا بآياتنا، وهم فرعون وقومه، أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا مع رسلنا السابقين والمؤمنين بهم ومع موسي وهارون تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات الإسلام تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، اذْهَبَا فقُومَا بدعوتهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ للإيمان بنا واتّباع الإسلام ليسعدوا بالداريْن، فقامَا بذلك وصَبَرَا علي دعوتهم بل وإيذائهم لفتراتٍ طويلةٍ وأَيَّدْناهما بآياتٍ أيْ بمعجزاتٍ لتأكيد صِدْقهما أهمها العصا التي تَنْقَلِب ثعباناً ومع كل ذلك لم يؤمنوا فكذّبوا وعانَدُوا واستكبروا واستهزؤا وحاوَلوا مَنْع نَشْرهما لأخلاق الإسلام وآذوا مَن أسلمَ وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تماماً علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا بالتالي إذَن وبسببه أنْ دمَّرْناهم تدميراً شديداً أيْ حَطّمْناهم وأهْلَكْناهم تَحْطِيمَاً وإهْلاكاً عظيماً تاماً بأنْ أغرقناهم جميعا في البحر (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. لقد كان هذا عذاب الدنيا أولا ثم لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)" أيْ وكذلك اذكروا قومَ نوحٍ (ص) قبل زمن موسي (ص) حينما كذّبوا الرسل فلم يؤمنوا بربهم ولم يَتّبِعوا أخلاق إسلامهم وخالَفوها ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وأصَرُّوا علي ذلك إصْرارَاً شديداً بلا أيِّ توبةٍ لفتراتٍ طويلةٍ حيث بَقِيَ بينهم رسولهم الكريم نوح يدعوهم لله وللإسلام ألف سنة إلا خمسين عاما حينها أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم للناس بَعْدهم عِبْرَة يَعْتَبِرون ويَتّعِظون بها حتي لا يَفعلوا أبداً مِثْلهم فينالوا مَصِيرهم من عذابٍ وهَلاكٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم، والمقصود بالرسل نوح (ص) ومَن قَبْلَه من الرسل الكرام أو نوح (ص) وحده وعُبِّرَ عنه بالرسل بصيغة الجَمْع لأنَّ تكذيبهم له يُعْتَبَرُ تكذيباً لجميع الرسل لأنَّ رسالتهم ودعوتهم واحدة في أصولها حيث أصلها الإسلام.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)" أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للظالمين في الآخرة عذاباً مُوجِعاً مُهيناً مُتْعِساً لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الكافرين خالدون في النار إلي ما شاء الله أمّا عُصَاة المؤمنين فبَعْد قضاء فترة عقوبتهم فيها يخرجون منها ويدخلون أقلّ درجات الجنة
ومعني "وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)"، "وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)"، "وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)" أيْ وكذلك أهلكنا عاداً وهم قوم رسولنا الكريم هود، وثمودَ وهم قوم رسولنا الكريم صالح، وأصحاب الرَّسِّ أيْ البئر وهم قومٌ مُكَذّبون حول بئرِ ماءٍ لم يُحَدِّد الله تعالي تفاصيلهم إلا أنهم كذّبوا الرسول الذي أُرْسِلَ إليهم، وقروناً بين ذلك كثيراً أيْ وأهلكنا أيضاً قروناً كثيراً بين ذلك الذي ذَكَرْنَا من أقوامِ نوحٍ وعادٍ وثمود وأصحاب الرسّ أيْ أهلكنا أُناسَاً كثيرين وأُمَمَاً كثيرة كانت بين أزمانهم لا يعلمها إلا الله، والقرون جمع قَرْن والقرن هم مجموعة من الناس تعيش في فترة زمنية واحدة واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض، أهلكناهم ومَن يَتَشَبَّه بهم برياحٍ شديدةٍ أو بزلازلَ أو صَوَاعِقَ أو سُيول مُهْلِكَة أو بأَوْبِئةٍ مُمِيتَةٍ أو بما شابه هذا، وذلك لَمَّا كذّبوا رسلهم وعانَدُوا واسْتَكْبَروا واسْتَهْزَأوا فلم يؤمنوا بربهم ولم يَتّبِعوا أخلاق إسلامهم وخالَفوها ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وأصَرُّوا علي ذلك إصْرارَاً شديداً بلا أيِّ توبةٍ لفتراتٍ طويلةٍ حيث بَقِيَ رسلهم بينهم لسنواتٍ يدعونهم لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ بلا اسْتِجَابَة.. "وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي لم يَكُن أبداً من شأنه ولا من سُنَنه أيْ أساليبه في كوْنه ولا مِن حكمته ورحمته وعدله وكماله وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ أنْ يُعاقِبَ ويُعَذّب قوماً بسبب أىِّ ظلمٍ أيْ سوءٍ فعلوه وهم غافلون عن الحقّ والعدل والخير والصواب أيْ لا يعلمونه ولا يَدْرُون به، بل لابُدّ أنْ يُبيّن لهم بتمام البيان بواسطة رسله وكتبه ودعاته لله وللإسلام مِن بَعْدِهم أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة وأنْ يُبَشّرهم أنَّ فاعل الخير من خلال العمل بأخلاق الإسلام له كل خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه وأنْ يُحَذّرهم أنَّ فاعل الشرّ التارِك لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها له كل شرّ وتعاسة فيهما علي قَدْر تَرْكه لها وإصراره علي ذلك وأنْ يَضرب لهم الأمثلة من الواقع علي هذا فلا يكون لهم بالتالي بعد ذلك أيّ عُذْرٍ أو حجَّةٍ إذا عُوقِبُوا وتَعِسُوا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الإسراء ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا"، ثم الآية (24) من سورة فاطر ".. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ"، ثم الآية (165) من سورة النساء "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ وكُلَّاً أيْ وكلّ أحدٍ أو فريقٍ أو قَرْنٍ مِن هؤلاء الذين أهلكناهم قد ضَرَبْنا أيْ ذَكَرْنا وبَيَّنَّا له الأمثال أيْ التشبيهات التي نَضْربها أيْ نَذْكُرها ونُبَيِّنها في كُتُبِنا وآخرها القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! والمقصود أنَّ الله تعالي في كُتُبِه وبواسِطَة رسله والمؤمنين بهم قد بَيَّنَ ووَضَّحَ لهم تماماً كل الأدِلّة والأمْثِلَة والعِبَر والقصص المُتَنَوِّعَة التي تُذَكّرهم وتوعظهم وتُرْشِدهم وتُعينهم حتماً علي الإيمان به واتّباع الإسلام وتَمْنَعهم عن الكفر والعِصْيان وتُحَذّرهم مِن أنْ يَفعلوا مِثْل السابقين الذين أهلكهم بسبب إصرارهم علي كفرهم وعصيانهم بحيث لم يَعُدْ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ يَعْتَذِر به أو حجَّة يَتَحَجَّج بها عندما يُعاقَب ويُعَذّب في الداريْن بالعقاب والعذاب المُناسِب لسُوئه، ولكنَّهم مع كل ذلك لم يؤمنوا فكذّبوا وعانَدُوا واستكبروا واستهزؤا وحاوَلوا مَنْع نَشْر أخلاق الإسلام وآذوا مَن أسلمَ وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تماماً علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا بالتالي إذَن وبسببه أنَّ كُلَّاً أيْ كلّ أحدٍ منهم قد تَبَّرْنا تَتْبِيرَاً شديداً أيْ أَهْلَكْناه بالعذاب وحَطّمْناه ودَمَّرْناه وكَسَّرْناه وفَتَّتْناه وأفْنَيْناه إهْلاكَاً وتَحْطيمَاً وتَدْميراً وتَكْسِيراً وتَفْتيتاً وإفناءاً عظيماً تامَّاً.. "وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)" أيْ ولقد قَدِمُوا علَيَ – أيْ جاءوا وحَضَرُوا وشاهَدوا كثيراً وتِكْراراً في أسفارهم ولا زالوا يَحضرون ويُشاهدون هؤلاء المُكَذّبون – القرية أيْ البَلْدَة التي أمطرت مطر السَّوْء أيْ الشرِّ والضرَر، حيث أنزل الله تعالي عليها من السماء مطراً سيِّئاً غزيراً مُهْلِكَاً لم يكن ماءً بل كان – كما جاء في آيات أخري – حجارة صلبة شديدة مُلْتَهِبَة جاءت بأعلي ما في بيوتهم من الأسقف إلي الأسفل علي رؤوس مَن فيها فدَمَّرتهم جميعا، والمقصود قرية قوم الرسول الكريم لوط – وكل بَلْدة تشبهها أهلكها سبحانه لشِدَّة سُوئها – والتي دَمَّرها الله وأهلك أهلها بسبب إصرارهم علي ارتكاب الفواحش بلا توبة.. ".. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا.." أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل لم يكونوا يشاهدونها وهم يَمرُّون عليها فيَعْتَبِرُوا فيُؤمنوا؟! هل كانوا عُمْياناً لا يُبْصِرون؟! إنهم يرونها مُؤَكّدَاً ولكنهم لا يَتّعِظون بها فكأنهم كالعميان! والمقصود أنه كان مِن المُفْتَرَض أنْ يَتّعِظ بها كل مَن أراد الاتّعاظ حينما يشاهدون بأعينهم ما حَلَّ بها من دَمَارٍ ويَتَفكَّرون ويَتَدَبَّرون فيما حَدَثَ لهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فيَدْفَع هذا كلّ عاقلٍ أن يَتَجَنَّب تماماً مِثْل أفعالهم ويستيقظ ويعود لربه ولإسلامه حتي لا يتعس مِثْلهم وليسعد في دنياه وأخراه، ولكنه الإغلاق للعقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)" أيْ لكنهم كانوا لا يريدون ولا يَطلبون ولا يَتَمنّون ولا يَتَوَقّعون ولا يُصَدِّقون ولا يَخافون نشورا – من الانتشار – أيْ بَعْثَاً أيْ إعادةً للخَلْق بعد موتهم وكوْنهم تراباً بالأجساد والأرواح ونَشْرَاً لهم يوم القيامة، والمقصود أنهم يكفرون بوجود الله وبالآخرة وبالبعث وبالحساب وبالعقاب وبالجنة والنار، والذين لا يؤمنون بالنشور بالتالي لا يَتَدَبَّرون ولا يَتّعِظون ولا يَبْحَثون عن صوابٍ مِن خطأٍ وخيرٍ مِن شَرٍّ ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب مِن وِجْهَةِ نَظَرِهم، بينما مَن يؤمن به ويَتَذَكّر الآخرة دائما فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه
ومعني "وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)" أيْ هذا بيانٌ لبعض سُوءِ خُلُقِ وتَطَاوُلِ المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتكبرين علي الرسول الكريم محمد (ص) والإسلام والمسلمين مُحاوِلِين يائِسين مَنْع الناس من اتّباعهم.. أيْ وإذا شاهَدوك الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – لا يجعلونك إلا هُزُوَاً أيْ مَوْضِعَاً للاستهزاء والسُّخْرِيَة والاحتقار حيث يَسْخَرون منك ومِمَّا جِئتهم به مِن قرآنٍ وإسلامٍ ويَحتقرونك ويحتقرونه والمسلمين، وهم يعلمون تمام العلم صِدْقك وصِدْقهم وحُسْن خُلُقك وخُلُقهم وعِزّتهم وكَرَامتهم ورِفْعتهم وسعادتهم بالإيمان بربهم وبعملهم بكل أخلاق إسلامهم التي في قرآنهم الكريم ويَلْمَسُون ذلك تماماً واقِعِيَّاً عند التّعامُل معهم.. ".. أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)" أيْ ويقولون مُتَسائِلين علي سبيل الاسْتِهزاء والتقليل من الشأن والانْتِقاص والتَّعَجُّب من حاله (ص) والرفْض له والاسْتِبْعاد لصِدْقه هل هذا هو الرجل الذي يَدَّعِي كذباً وزُورَاً أنه هو الذي بَعَثه الله ليكون رسولاً إلينا أيْ مَبْعُوثَاً منه لنا يُبَلّغنا أنْ نعبده وحده بلا شريكٍ وأنْ نَتّبِع دينه الإسلام لا غيره؟!
ومعني "إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)" أيْ هذا اعترافٌ منهم بأنّ القرآن العظيم حتماً هو الغالِب وسيَتّبعه الناس وذلك لأنه يُوافِق العقل السليم والفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، واعترافٌ بأنهم مُفْتَرُون علي الرسول الكريم (ص) بادِّعائهم أنه كاذبٌ وبالسُّخْرِيَة منه والاسْتِخْفاف به حيث اعترافهم هذا يعني أنهم يعلمون تماماً صِدْقه وقوَّة حُجَّته بقوةِ مَا معه مِن قرآنٍ وإسلامٍ وتأييدٍ من الله تعالي له وباجتهاده في حُسْن دعوته، كما أنه اعترافٌ منهم بإصرارهم التامِّ علي سُوئهم وإغلاقهم لعقولهم من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره لأنه لولا تعطيلهم لهذه العقول بهذه الأسباب لكَانُوا أسْلَمُوا!.. أيْ ويقولون إنْ كادَ لَيُضِلّنا عن آلهتنا أيْ إنّه قارَبَ أيْ اقْتَرَبَ وأوْشَكَ أنْ يُضيعنا بأنْ يُبْعِدَنا عن مَعْبُوداتنا أيْ عن عبادة أصنامنا التي نَعْبدها أيْ نُطيعها بقوَّة حُجَّته وحُسْن بَيانَه وشِدَّة اجتهاده لولا أننا صَبَرْنا عليها أيْ ثَبَتْنا وصَمَدْنا واسْتَمَرَّيْنا بكلّ هِمَّةٍ علي عبادتها!! لقد قَلَبُوا الحقّ باطلاً والباطل حقّاً من شِدَّة سُوئهم وتَعطيلهم لعقولهم!!.. ".. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)" أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يشبههم لكي يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَانِ ونزول العذاب، وبيانٌ أنه تعالي يُمْهِل ولا يُهْمِل.. أيْ وسوف يعلمون، ويعلم جميع مَن سيُشاهِدهم ويَسمع عنهم حتي لا يَفعل مِثْلهم، عِلْمَاً حقيقياً واقِعِيَّاً مُؤَكّدَاً لا شكّ فيه، وسيَنْدَمون في وقتٍ لن ينفع فيه أيُّ نَدَمٍ حيث لن يَمْنَع عذابهم، حين يُشاهِدون ويَذوقون العذاب الدنيويّ ثم الأخرويّ النازِل بهم الذي يَسْتَحِقّونه بما يُناسب سُوئهم، مَن أضَلّ سبيلاً، هم أم المؤمنون؟! أيْ مَن أبْعَدُ طريقاً عن الطريق المستقيم أيْ عن الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحرافٍ أيْ عن طريق الله والإسلام أيْ عن طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. إنهم يعلمون ذلك تماماً بفطرتهم داخل عقولهم أنهم هم الضالّون وأنَّ المؤمنين هم المُهتدون ولكنهم يُخْفونه ولا يُؤمنون من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)"، "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)" أيْ هل نظرتَ وتأمَّلتَ فرأيتَ وعلمتَ أيها الرسول الكريم وأيها المسلم مَن جَعَلَ إلهه هواه أيْ جعل ما يهواه ويُحِبّه ويَميل إليه من شرور ومَفاسد وأضرار هي إلهه أي هي مَعْبُوده أيْ ما يُطيعه طاعة كاملة كما يُطيع العابد مَعْبوده؟! هل يُعْقَل ويَصِحّ هذا عند أيّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! إنه أمرٌ عجيبٌ حقّاً أن يَتَّبع دون أيّ تَفَكّر وتَدَبّر وتَعَقّل ما سيُؤَدِّي به إلي تمام تعاسته في دنياه وأخراه!! ولكنّ السبب هو أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَفْعَل أحدٌ مِثْل فِعْله حتي لا يَتْعَس مِثْله.. ".. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)" أيْ فإذا كان الأمر كذلك فهل أنت بالتالي إذَن تكون علي مِثْل هذا الذي حاله هكذا ومُصِرٌّ عليه، وكيلاً أيْ مُوَكّلَاً بهدايته لله وللإسلام؟! لا قطعاً!! والمقصود أنه ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مَوْكُول ومُفَوَّض إليه أمره أيْ مُسَيْطِر عليه يُجْبِره علي اتّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب.. إنه ليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم وكيلاً أيْ كَفِيلَاً أيْ حَفِيظَاً أيْ حافِظَاً لأعمالهم مُراقِبَاً لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس له إكراههم على الإيمان، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)" أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ الشديد لهم والتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء ولإيقاظهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولأخلاق إسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. أيْ وهل تظنّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنَّ أكثر هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبرين المُسْتَهْزئين يسمعون أيْ يستمعون إلي ما يدعوهم إليه ربهم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسْعَدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أو يعقلون أيْ يُحْسِنون استخدام عقولهم فيَتفكَّرون ويَتَدَبَّرون في ذلك فيَستفيدون منها ويَسعدون بها؟! لا، إنَّ أكثرهم ليسوا كذلك، وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)" أيْ ما هم إلا كالبهائم التي لا تَعْقِل شيئا حولها والتي لا يشغلها إلا الأكل والشرب والتناسُل! لعدم انتفاعهم بما وَهَبهم الله تعالي من عقولٍ للتّدَبُّر، بل هم أضَلّ سبيلاً أيْ أبْعَدُ طريقاً منها بمعني أسْوَأ حالا! لأنه علي الأقلّ هذه الأنعام التي لا تعقل شيئاً لها بعض عقلٍ وإدراكٍ تستجيب به لراعِيها الذي يَرْعاها حين يهديها ويُوَجِّهها للخير حيث مكان طعامها وشرابها وأمنها وحمايتها من الخطر وهي تَتّجه دائما نحو ما ينفعها وتَتَجَنّب ما يَضرّها بفطرتها التي خَلَقها فيها خالقها الكريم إضافة إلي أنها تنفع الإنسان بألبانها ولحومها وجلودها وغيرها، أمَّا هم فليسوا كذلك مُطلقا!!
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)"، "ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم ونَظَرْتم إلي صُنْع ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – كيف مَدَّ أيْ بَسَطَ الظلَّ في الأرض أثناء النهار ووجود ضوء الشمس، وفي هذا تذكيرٌ بآيةٍ ونِعْمَةٍ عظيمةٍ رغم صغرها حيث قد يُسْتَخَفّ ويُسْتَهان بقيمتها ومنافعها فتُنْسَيَ ولا تُشْكَر والتي أهمها أنَّ هذا الظلّ هو من وسائل معرفة الأوقات للناس إذ يُعينهم بتَغَيُّر طوله وقِصَره بسبب حركة الشمس علي تحديد ساعات النهار فيَنتفعون ويَسعدون بذلك في كل مُعاملاتهم اليومية كما أنه مكانٌ يَسْتَظِلّ فيه الناس من حَرَّ الشمس فيجدون عنده الراحة والتمَتُّع بنسيم الهواء إذ لولاه لأحْرَقَتهم بِحَرِّها ولَأَتْعَسَت حياتهم وهذا من عظيم رحمته وفضله سبحانه.. ".. وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا.." أيْ ولو أراد ربك لَجَعَل هذا الظلّ ثابتاً مُسْتَقِرَّاً على حالةٍ واحدةٍ لا يَطول ولا يَقْصُر بأنْ يجعل الشمس مُقِيمَة على وَضْعٍ واحدٍ فلا تُعْرَف بالتالي الأوقات ولا يَنتفع به أحدٌ فهو قادرٌ حتماً علي ذلك وعلي كلّ شيءٍ ولكنه لم يشأ ذلك رحمة بخَلْقِه وإسعاداً لهم حيث مصلحتهم وسعادتهم هي فى وجوده ووجود الشمس وحركتها على الطريقة التى أوْجَده وأوْجَدها عليها بعلمه وحكمته وقُدْرَته.. ".. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)" أيْ ثم عندما نُطْلِع الشمس بقُدْرَتِنا جَعَلنا الشمس أيْ طلوعها دليلاً عليه أيْ علي وجود الظلّ إذ لوْلَا وقوع ضوئها على الأشياء لَمَا عُرِفَ أنَّ للظلّ وجوداً ولَمَا ظَهَرَتْ آثار هذه الآية والنعمة العظيمة للناس لأنَّ الأشياء تُعرف بأضدادها فلولا الشمس مَا عُرِفَ الظلّ، وفي هذا مزيدٌ من التذكير بأنه خَلْقٌ من خَلْقه وإنعامٌ مِن نِعَمِه سبحانه التي لا تُحْصَيَ يُوجِده إذا شاء ويَمْنعه إذا شاء، فتَدَبَّروا ذلك واشكروه واعبدوه.. "ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)" أيْ ثم بعد أنْ مَدَدْناه قَبَضْناه أيْ سَحَبْناه إلينا أيْ أرْجَعْناه إلينا نحونا كما بَدَأناه وأوْجَدْناه أيْ أنْقَصْناه وقَلّلناه وأخْفَيْناه إنْقاصَاً وتقليلاً وإخفاءاً يَسيراً أيْ سَهْلَاً تدرجياً قليلاً قليلاً شيئاً فشيئاً بمقدارٍ مضبوطٍ بكلّ دِقّةٍ إلي أنْ أنْهَيْناه وأحْلَلْنا مَحلّه ظلام الليل وذلك بقُدْرَتنا وعلمنا وحكمتنا وإرادتنا وحدنا لا غيرنا بسبب تحريكنا التدريجِيّ للشمس وتَغْييبها بغروبها وليس دفعة واحدة من أجل مصالح الناس وسعاداتهم وإلا لو كان فجأة لم تُعْرَف بالتالي الأوقات ولم يَنتفع به أحدٌ.. وفي هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التذكير بأنه خَلْقٌ من خَلْقه وإنعامٌ مِن نِعَمِه سبحانه التي لا تُحْصَيَ يُوجِده إذا شاء ويَمْنعه إذا شاء، فتَدَبَّروا ذلك واشكروه واعبدوه
ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)" أيْ وكذلك بقُدْرته ورحمته وفضله وكرمه ومِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرته وكمال علمه أنه هو وحده لا غيره سبحانه الذي جعل لكم أيها الناس الليل لباساً أيْ يُصاحِبكم ويُغَطّيكم ويُلاصِقكم كلِبَاسِكم التي تلبسونها من أجل أن تَرْتاحوا وتَسْكنوا فيه بعد عملكم أثناء يومكم فيكون للاسْتِجْمام والعلاقات الاجتماعية الطيِّبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهارٍ جديدٍ قادِمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وجعل لكم النوم سُباتاً أيْ راحة لكم وقَطْعَاً للحركة من أجل تجديد حيوية عقولكم وأجسامكم لإعدادها لاستيقاظٍ قادمٍ مُرْبِحٍ سعيد، وجعل النهار نُشُورَاً – مِن الانْتِشار – أيْ نَشْرَاً لكم أيْ وقتاً لانتشاركم من أجل الحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخَيْراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ.. فتَدَبَّروا كل هذه الآيات والنّعَم وغيرها والتي يَصْعُب حَصَرْها واشكروه واعبدوه سبحانه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (71)، (72)، (73) من سورة القصص "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ"، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"، "وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)"، "لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)" أيْ وكذلك بقُدْرته ورحمته وفضله وكرمه ومِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرته وكمال علمه أنه هو وحده لا غيره سبحانه الذي أطْلَقَ وبَعَثَ وحَرَّكَ الرياح لتكون تبشيراً بين يدي رحمته أيْ مُقَدِّمَة لرحمته حينما يَرَي الناس الرياح المعتدلة ذات النسيم فإنهم يستبشرون برحماتٍ ثم رحماتٍ متتالياتٍ من ربهم الرحيم الودود الكريم حيث سيأتي المطر بالماء الطيّب المُفيد المُسْعِد الذي به حياتهم لا الشديد المُضِرّ المُتْعِس المُهْلِك.. ".. وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)" أيْ وأنزلنا مِن السماء مِن السحاب الذي حَرَّكَته الرياح ماءً طهوراً، والطهور هو مَا يُتَطَهَّر به مِثْل الوَقود هو مَا يُوقَد به، أيْ بالِغَاً مُنْتَهَيَ الطهارة وبالتالي فهو طاهِرٌ في ذاته مُطَهِّرٌ لغيره، مِن أجل تَطهير أيْ تَنْظيف وتَنْقِيَة صِحَّة أجسامكم بشُرْبِه وبدخوله في تجهيز مشروباتكم ومأكولاتكم وبتَنَظّفكم به فتَقْوُون بذلك وتَنْشَطون جسدياً وعقلياً وتَسعدون، فتَدَبَّروا ذلك واشكروه واعبدوه سبحانه.. "لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)" أيْ لكي نُحْيِيَ بهذا الماء الطهور المُبَارَك بلادً ميتة أرضها مَلْساء لا زرع فيها ولا نبات فتُنْبِت به من كل أنواع الزروع النافعة المُسْعِدَة، ولكي نُشْرِبه أيضاً أنعاماً أيْ حيوانات كالإبل والأبقار والأغنام وغيرها مِن مَا خَلَقناه أيْ أوْجَدْناه وأُناسَاً كثيرين – جَمْع إنسان – من الذين خَلَقْناهم أيْ أوْجَدْناهم فيَحيا كلَّ حَيٍّ ويَنْعَم ويَسعد بحياته، فتَدَبَّروا ذلك واشكروه واعبدوه سبحانه
ومعني "وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)" أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتنا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض مُعْجِزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا أننا وحدنا لا غيرنا قد صَرَّفْنا هذا الماء الطهور المُبَارَك بين جميع خَلْقِنا أيْ حَرَّكْناه ونَقلناه ونَوَّعْناه بينهم في أماكن وأوقاتٍ وبدرجاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ علي حسب حكمتنا وعلمنا وإرادتنا لينتفعوا ويسعدوا جميعا به، أو ليُعاقَب بعضهم أحياناً بغزارته المُؤْلِمَة أو بمَنْعه إنْ أساءوا ليستفيقوا فيُسارِعُوا بالتوبة بالعودة لربهم ولإسلامهم.. هذا، وعند بعض العلماء، الهاء في كلمة "صَرَّفْناه" تعود علي أعظم نعمة وهي القرآن العظيم بمعني أننا قد نَوَّعْناه بينهم أيْ نَوَّعْنا وعَدَّدْنا وأكْثَرْنا إنزال الآيات بين الناس التي فيها من كل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقوانين والعِبَر الحَسَنَة الكامِلَة المُتَكَامِلَة ومن كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة المُتَنَوِّعَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ".. لِيَذَّكَّرُوا.." أيْ لقد صَرَّفنا هذا التصريف لكي يَذْكر الناس ولا يَنْسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم، ويعقلوا كل هذا بعقولهم ويتدَبَّروه ويدرسوه، ويذاكروه كما يذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليهم فقط إلا أن يتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ عليهم في كل لحظات شئون حياتهم أن يتذكّروا دائماً ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة أن يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعود مَن كَذّب منهم عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماماً في الداريْن.. ".. فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)" أيْ فرَفَضَ كثيرٌ من الناس القرآن تَعَاظُمَاً وتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرين ومُعانِدين له ولم يَقْبَلُوا إلا كفوراً أيْ إلا الكفر به أيْ تكذيبه وعدم العمل بأخلاقه بل الكفر بالله تعالي ذاته وبمُعْجِزاته وبنِعَمِه أيْ تكذيب وجوده ورسوله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)"، "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)" أيْ ولو أرَدْنا لأرْسَلنا في كل بَلْدَةٍ نذيراً أيْ رسولاً مُنْذِرَاً مِنّا معك في زمنك يساعدك في مُهِمَّتك حتي يُخَفّفها عنك فلا تَتَحَمَّلها وحدك ويكون معه كتابٌ فيه الإسلام الذي يُناسب أهلها لكي يُنْذِرهم أيْ يُحَذّرهم بالتعاسة بالداريْن إذا خالَفوا الإسلام ويُبَشِّرهم بالسعادة فيهما إذا اتّبَعُوه، فنحن حتماً قادرين علي هذا وعلي كل شيء، ولكنّا لم نَشَأ ذلك حتي يكون خاتم الرسل واحداً وهو أنت وليس رُسُلَاً مُتَعَدِّدِين وخاتم الكُتُب واحداً وهو القرآن العظيم وليس كُتُبَاً مُتَعَدِّدَة وذلك حتي يكون المَصْدَر واحداً فلا يَحْدُث أيّ ذَرَّة تَعَدُّدٍ للمَصادِر مَنْعَاً لأيِّ شُبْهَةِ خِلافٍ أو تغييرٍ أو تحريفٍ أو نحو هذا لأنه سيَسْتَمِرّ بإذن الله حتي يوم القيامة مَصْدَرَاً لتمام كلّ خيرٍ وسعادةٍ فلابُدَّ أنْ يكون مُصانَاً مَحْفوظَاً من الله تعالي – ثم من المسلمين، حيث هو دُستورهم – تمام الصيانة والحِفْظ، ثمَّ أنْ يكون الرسول واحداً فيكون هو والمسلمون بَعْده رحمة للعالمين إلي قيام الساعة هو ولا شَكّ أمرٌ يعني عظيم التكريم ورَفْع الشأن للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين ودافِعَاً عظيماً لهم لإحسانِ حَمْلِ هذه الأمانة وحُسْن توصيلها للجميع بكلّ هِمَّةٍ واجتهادٍ وتضحيةٍ وصبرٍ وقُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ ليَنالوا أجورهم وليَسعدوا جميعاً في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كنّا قد أنعمنا عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأعظم نعمةٍ وهي الإسلام الذي يُرْشِدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، وأوْصَيْناك بنَشْره بالدعوة له بالحُسْنَيَ وبالدفاع عنه، فبالتالي إذَن لا تُطِع الكافرين أبداً – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – أيْ لا تَسْتَجِبْ ولا تُنَفّذْ مُطْلَقَاً مَا يريدونه أو يطلبونه من سُوءٍ بأنْ تَتْرُك أيَّ خُلُقٍ من أخلاق إسلامك أو أنْ تَفعل أيَّ شَرٍّ مِثْلهم بلِ اثْبت وداوِم عليها وادْع لها ودافِع عنها طوال حياتك وإلا تَعِستَ مثل تعاساتهم في دنياك وأخراك علي قَدْر ما تَرَكْتَ منها وفَعَلْتَ شَرَّاً.. ".. وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)" أيْ ومع عدم طاعتهم التامَّة جاهِدْهم بالقرآن وبالإسلام جهاداً كبيراً أيْ عظيماً شديداً كثيراً مُتَكَامِلَاً شامِلَاً لكل الجوانب واسِعَاً مُنَظّمَاً مُحْكَمَاً مُؤَثّرَاً جيداً حَسَنَاً صَبُورَاً بالِغَاً أقصاه مُسْتَمِرَّاً دائماً بلا كَسَلٍ أو ضعفٍ أو مَلَلٍ، والجهاد عموماً هو بَذْل الجهد، فكل ما فيه بَذْل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهاداً بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم الآية (251) منها أيضا ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"، حتي تكتمل المعاني)، وجِهادهم به جهاداً كبيراً يَتِمّ مِن خلال مَنْع شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم لأنها تُفْسِد الحياة وتُتْعِسها، وذلك بالتمَسُّك والعمل بكل أخلاقه والتي كلها خَيْرات مُسْعِدات بالداريْن، وبنَشْره بالقُدْوَة وبالقول وبالفِعْل، بالحِكْمَة والمَوْعِظَة الحَسَنَة، في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسِبٍ، وبكل أسلوبٍ ممكنٍ مناسبٍ، ومع كل فردٍ وتَجَمُّعٍ ممكنٍ مناسبٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، مع بيان الحُجَج والبَراهين القاطِعَة علي صِحَّةِ ونِعَمِ الإيمان وبُطْلان ونِقَمِ الكُفْران، والصبر علي أذَيَ مَن يُؤْذِي، ثم بالقتال وبَذْل الدماء والأرواح ضِدَّ مَن يَعْتَدِي منهم علي الحقّ بالقتال
ومعني "وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)" أيْ وكذلك بقُدْرته ورحمته وفضله وكرمه ومِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرته وكمال علمه أنه هو وحده لا غيره سبحانه الذي مَرَجَ البحريْن أيْ أرْسَلَ البحرين، هذا أيْ أحد البحريْن عذبٌ أيْ حُلْوٌ، فراتٌ أيْ شديد الحَلاوة، من فَرَتَ العَطَش أي قَطَعه وكَسَره وأزاله، وهو مُستساغ الطعمِ مقبولٌ مَرْغُوبٌ مُستطاعُ الشُّرْب، والمقصود به مياه الأنهار، وهذا أيْ الآخر مِلْحٌ أيْ مالِحٌ، أجاجٌ أيْ شديدُ المُلُوحَة، من الأجيج وهو تَلَهُّب النار لأنّ شربه لا يُستطاع ويَزيد العطشان عطشا وتَعَبا، والمقصود به مياه البحار، فهو سبحانه قادر علي كلّ شيءٍ وعلي فِعْل الشيء وضِدّه، وفي كلٍّ مِن البحريْن المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه.. ".. وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)" أيْ وجعل بينهما حاجِزَاً، وحِجْرَاً أيْ مانِعَاً، مَحْجُورَاً أيْ مَمْنُوعَاً، ومَحْجُورَاً هي صفة لكلمة "حِجْرا" لمزيدٍ من تأكيد المَنْع بمعني حَرامَاً مُحَرَّمَاً أنْ يُفْسِد الماءُ الملحُ الأجاجُ الماءَ العذبَ الفراتَ، بما يُفيد عظيم قُدْرَته ورحمته تعالي حيث هناك حاجز لا يُرَيَ عبارة عن مساحة مائيَّة من خَوَاصّ فيزيائِيَّة تَمْنَع اختلاط هذا بذاك فلا يَتَعَدَّي أحدهما علي الآخر فيَمْتَزِجان فتَتَغيَّر بالتالي مُوَاصفاتهما وفوائدهما بل يظلّ كلّ ماءٍ منهما مُحْتَفِظَاً بخصائصه ومنافعه للخَلْق ليَنتفعوا وليَسعدوا به
ومعني "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)" أيْ وكذلك بقُدْرته ورحمته وفضله وكرمه ومِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرته وكمال علمه أنه هو وحده لا غيره سبحانه الذي أوْجَدَ من الماء البسيط الذي تَشْربونه ومن الماء المَهِين وهو المَنِيّ الذي يحمله الرجال وفيه الحيوان المَنَوِيّ حين يَتّحِد مع الماء المَهِين للنساء وبُوَيْضاتها، بَشَرَاً، أيْ إنساناً ونَاسَاً، حيث لفظ "بَشَر" يُطْلَق علي إنسانٍ مُفْرَدٍ وعلي جَمْعِه أيْ الناس، فجعله أيْ فجعل جِنْس هذا الإنسان نَسَبَاً أيْ ذَوِي نَسَبٍ أيْ ذكوراً لأنهم هم الذين يُنْتَسَبُ إليهم بأنْ يُقال فلان بن فلان، وصِهْرَاً أيْ ذَوَات صِهْر أيْ إناثاً لأنهنَّ هُنَّ مَوْضِع المُصَاهَرَة، والصهْر يُطْلَق على أهل بيت المرأة وأقاربها كالأبوين والإخوة والأعمام والأخوال فهؤلاء يُعْتَبَرُون أصْهَارَاً لزوج المرأة، وذلك للتناسُل ولِحِفْظ نَوْعِكم، وفي هذا تنبيهٌ وإرشادٌ لأهمية العلاقات الإنسانية الطيِّبَة بين البَشَر ليُحافظوا عليها ليَسعدوا بها.. ".. وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)" أيْ وكان ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان قديراً أيْ عظيم القُدْرَة قادراً تماماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ بتمام القُدْرة والعلم فبمجرّد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. فتَدَبَّروا ذلك واشكروه واعبدوه سبحانه
ومعني "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)" أيْ ومع كل هذا البيان لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، يعبدون هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزِؤن وهؤلاء المُشركون أيْ يُطيعون من دون الله أيْ غيره من آلهةٍ أيْ مَعْبُوداتٍ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تنفعهم بشيءٍ من النفع إنْ هُمْ عَبَدُوها كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، ولا تستطيع أن تَضرّهم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره إنْ هُمْ تركوا عبادتها، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)" أيْ وكان الكافر بهذا الذي يَفعله من عبادة غير الله تعالي مِمَّا لا ينفعه ولا يَضرّه ظهيراً أي مُعِينَاً ومُساعِدَاً علي ربه أيْ علي معصية ربه أيْ ضِدَّ دين الله الإسلام لأنه بذلك يَنْشر الكفر والشرك والنفاق والفساد والعَداء للحقّ والعدل والخير والسعادة والإسلام والمسلمين ويُعين ويُشَجِّع غيره علي ذلك ويتعاونون جميعا علي كل ذلك السوء المُضِرّ المُتْعِس في الداريْن، ولن يكون له ولهم تأثير إذا كان المسلمون متمسّكون عاملون بكل أخلاق إسلامهم متوكلّون دائما علي ربهم مُسْتعينون به، وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين بكون الكافر دائماً علي ربه ظهيراً والكافرين دَوْمَاً يُظاهِرون بعضهم بعضاً ليَنْتَبِهوا لذلك ويَمْنعوه بحُسْن تمسّكهم بإسلامهم ودعوتهم له ودفاعهم عنه.. كذلك من المعاني وكان الكافر علي ربه الذي يَعبده كالصنَم أو الحَجَر أو نحوه ظهيراً أيْ غالِبَاً – من الظهور علي الشيء بمعني الغَلَبَة والانتصار عليه والاعتلاء علي ظَهْره – حيث يمكنه أن يَكْسره أو يُحَطّمه أو يَقْذِفه أو يَهْجُره أو يُهِينه لأنه أقوي منه!.. وأيضا من المعاني وكان الكافر علي ربه ظهيراً أيْ هَيِّنَاً كما يُقال جَعَله وراء ظَهْرِه أيْ لم يَلْتَفِت إليه ولم يَهْتَمّ به أيْ لا قيمة له عند الله تعالي حيث لا يُكْرِمه بإسعاده برضاه وبعطائه بالداريْن كما يَفعل مع المسلمين بل يُهينه بعقابه وإتْعاسه فيهما! وفي هذا تَبْشِيرٌ للمسلمين وتَخْويفٌ للكافرين لعلهم يُسْلِمون
ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)" أيْ وما بَعَثْناك يا رسولنا الكريم محمد بالإسلام الذي يُصْلِح كلّ مَن يَعمل بكلّ أخلاقه ويُكْمِله ويُسْعِده تمام السعادة في دنياه وأخراه إلا فقط لتكون للناس جميعاً مُبَشّرَاً أيْ تُبَشّر – ويُبَشّر المسلمون كلهم مِن بَعْدِك وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أي تأتي بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك وعمل بأخلاق إسلامه، ونذيراً أيْ وتُحَذّر بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وليس عليك أكثر من ذلك، فليس مُهِمَّة الرسل ومهمّتكم أيها المسلمون مِن بَعْدهم إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكنْ بما يُناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوماً مَا ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان، كما أنه تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
ومعني "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولعموم الناس، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللقرآن وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)" أيْ لكنْ مَنْ شاء أنْ يَتّخِذ سبيلاً أيْ طريقاً يُقَرِّبه إِلى ربه بالإيمان به والعمل بأخلاق دينه الإسلام فَلْيَفْعَل والمقصود لا أسألكم أجراً ولكنْ أسألكم أنْ تُسْلِمُوا لتسعدوا تماماً بالداريْن، كذلك من المعاني لا أسألكم عليه مِن أجرٍ إلا أجر مَن شاء أنْ يجعل له إلي ربه سبيلاً من خلال إيمانه واتّباعه للإسلام لأنه إذا فَعَلَ ذلك كان لي مِثْل أجره عند الله تعالي فلا نَفْع لي مِن جهتكم إلا هذا وهذا النوع من الأجر هو ما أطلبه فقط، ومن المعاني أيضاً لا أسألكم عليه مِن أجرٍ تنفقونه إلا مَن شاء أنْ يُنْفِق نفقة في الخير في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإنْ رَغّبْتُكم فيه فلست أُجْبِركم عليه وليس أيضاً أجراً لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم ولسعادتكم حيث ستنالون بهذا الإنفاق الأجر منه سبحانه في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)" أيْ وتوكّل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي الله تعالي فهو الحَيّ أيْ هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه، الذي لا يموت أبداً بينما غيره يموت ويزول، الذي ليس مُطْلَقَاً كخَلْقِه يُمكن أنْ يُصيبه أيُّ سَهْوٍ أو نومٍ أو ضعفٍ أو نحوه، وبالتالي فالاعتماد عليه مَضْمُونٌ مُتَوَاصِلٌ مُطَمْئِنٌ مَوْثُوقٌ دائمُ تامُّ الضمانِ والتّوَاصُل والطمأنينة والثقة بينما الاعتماد علي غيره ليس كذلك حتماً إذ بمُجَرَّد ضَعْفه أو تَغَيُّره أو مَوْته يَضيع مَن يتوكّل عليه، والمقصود اعْتَمِد عليه وحده في كل شئون حياتك لتسعد في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أيْ اعتمد عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيَكفيك كفاية تامّة ولن تحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقك القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لك الرحيم بك هو وكيلك، أيْ الحافظ لك المُدافِع عنك، فهل تحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! فكن دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ثم كن بالتالي مُطْمَئِنّاً اطمئناناً كاملاً ومُسْتَبْشِراً تماماً ومُنْتَظِرَاً دائماً لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياك ثم أخراك.. كن مُستمِرَّاً ثابتاً صابراً علي العمل بالإسلام وعلي دعوتك لله وله مُتَوكّلا عليه في كل أمورك لا تُبالِي.. كن مستمرّاً فى طريقك الذى أمرك الله به بلا مبالاة بمَكْرِ وكَيْدِ أعدائك فكن علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاك ويُنجيك ويَنصرك.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخَيْره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مِثْلهم أجرهم مِن ربهم فيهما.. ".. وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ.." أيْ ويُعينك علي الصبر والثبات والاستمرار ويُعالِج ويُزيل ضيقك وهَمّك وألَمَك ويَشرح نفسك ويَقْضِي حوائجك ويُسعدك، وإضافة إلي ما أنت عليه دائماً من تسبيحٍ وحَمْدٍ وذِكْرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ مُسْعِدٍ وصلاةٍ مُسْعِدَةٍ، أن تُسَبِّح ربك أيْ تُنَزّهه وتُبْعِده عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وأن تحمده علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه، في كل لحظات حياتك، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم، أي اذكره وصَلّ له واعبده وافعل كل خيرٍ في كل الأوقات، لتَسعد تمام السعادة بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، وتوجيه الله تعالي للرسول (ص) بدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه (ص) دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة.. ".. وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)" أيْ وكافِيك بالحَيِّ الذي لا يموت خبيراً بذنوب عباده لا تحتاج معه إلى غيره بالقطع، أيْ عليماً تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما يعملونه ويقولونه كله سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فعليهم أنْ يُحْسِنوا إذَن العمل دائما ويفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُحْسِنين المُتمسّكين العامِلين بإسلامهم، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكَذّبين والمُسِيئين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره حيث هو بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وتَوَكَّل علي الله الحَيِّ الذي لا يموت القادر علي كلّ شيءٍ الذي وحده لا غيره خَلَق أيْ أوْجَد مِن عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.." أي قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. الرَّحْمَنُ.." أيْ وهو الرحمان، والمقصود أنَّ كلّ ذلك يَتِمّ ويُدار برحماته سبحانه لنَفْع وإسعاد كل خَلْقه، وبالتالي عيشوا دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وكونوا حَرِيصين دَوْمَاً عليها بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدين في ألاّ تخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ وإنْ فَعَلْتم إيَّاه فَعُودوا سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ هذا طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. ".. فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)" أيْ وإذا أرَدْتَ أيها الإنسان أنْ تَعْرِف جيداً هذه الأمور السابق ذِكْرها وتعرف صِفاته وأقواله وأفعاله سبحانه لِتُحَبّه ولِتَقْتَرِب منه ولِتَسْعد بالتّوَاصُل معه ولِيُرْشِدك لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياك وأخراك من خلال دينه الإسلام فاسأل بالتالي إذَن خبيراً به أيْ بالله تعالي الرحمان وبهذا السؤال وغيره من الأسئلة لِيُخْبِرك عن كل ذلك وغيره وعن كمال صِفاته وقُدْراته ورحماته وعِلْمه وحِكْمته، وليس هناك أعظم وأكْمَل خِبْرة وعِلْمَاً به، منه هو تعالي سبحانه، حيث أخْبَر هو بذاته العَلِيَّة عن ذاته وعن كل ذلك في كُتُبه وآخرها القرآن العظيم والتي أوحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، ثم يَلِيه في الخِبْرة بعد هذا والذين بإمكانك أنْ تسألهم الثقات مِن أهل العلم والصلاح والخير والعدل وأمثالهم
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)" أيْ وحينما يقول المسلمون ناصِحِين لهؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين المُراوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم اسجدوا للرحمان أيْ كونوا دَوْمَاً عابدين أيْ طائعين لله تعالي الرحمان وحده مُتَّبِعِين لكل أخلاق دينه الإسلام لا غيره لتسعدوا بالداريْن ولا تَتْعَسوا فيهما، حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبالٍ وانْشِراحٍ وسرورٍ لتتحقّق السعادة التامَّة بها، ويُفيد أيضا السجود لله بتَواضُعٍ وخُشوعٍ وسُكونٍ علي الجِباه في الصلاة أو في خارجها تواضُعَاً له وحُبَّاً فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وإسعاده في الداريْن، قالوا وما الرحمان أيْ قالوا حينها بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واسْتِكْبارٍ واسْتِهْزاءٍ ومُرَاوَغَةٍ وتَجَاهُلٍ وسوءِ أدَبٍ ووَقاحَةٍ وادِّعاءٍ كاذِبٍ بعدم المَعْرِفة وما الرحمان؟! أيْ وما هو الرحمان هذا نحن لا نَعْرِفه!! فهم يسألون عنه سبحانه كأنهم يَجهلونه وهم يعلمونه تماما! لأنَّ أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لو استجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا لَعَرِفه علي الفور بلا أيِّ جهد!! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وقد استخدموا لفظ "ما" والتي تفيد غير العاقل ولم يستخدموا لفظ "مَن" والذي يفيد العاقل بما يعني مزيداً منهم في الاستخفاف والتحقير والتجاهل والتكذيب!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا.." أيْ هل نَسْجُد لِمَا تأمرنا بالسجود له مِن غير أن نعرفه ومن غير أن نؤمن به وبمُجَرَّد أن تأمرنا بذلك فنُطيعك ونحن أصلا نُكَذّبك؟! وهو استفهامٌ يُفيد الإنكار والرفض والعِناد والتّعالِي واسْتِبْعاد الحُدُوث، أيْ لنْ نَسْجُدَ له، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ سجودنا!.. ".. وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)" أيْ وزادهم هذا القول لهم بالحُسْنَيَ اسجدوا للرحمن بُعْدَاً عن السجود وكراهية له واشْمِئزَازَاً وهُروبَاً منه، وكلما ذُكّرُوا به كلما زادهم نُفُورَاً، بل وزادهم قُرْبَاً وتَمَسُّكَاً وعَمَلَاً بالباطل والضلال والضياع والظلم والشرّ والتعاسة، بَدَلَاً أنْ يزدادوا بالتذكرة به استجابة له ليسعدوا في الداريْن!! بما يَدلّ بكل تأكيدٍ وبلا أّيِّ شكّ علي شِدَّة إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واسْتِكْبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، فتَعِسُوا بالتالي فيهما، وكأنهم بهذا الازدياد في النفور يَتَوَهَّمون أنهم يُحَصِّنون أنفسهم خوفاً من الإيمان حتي لا يستجيبوا ويؤمنوا!! أو كأنهم يغيظون مَن يَدْعونهم فهم لا يستجيبون لهم كلّما دعوهم!! وهم في الحقيقة لا يغيظون ولا يُضِرّون ولا يُتْعِسون إلا أنفسهم هؤلاء السفهاء الذين أغلقوا عقولهم!!
ومعني "تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)" أيْ هذا رَدٌّ يُخْرِس ألْسِنَة أمثال المُسِيئين السابق ذِكْرهم وتذكيرٌ لهم وللناس جميعا بما لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَفَكّروا فيه لعَرفوا عظيمَ نِعَمِ السجود للرحمن.. أيْ تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين الذي مِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه وحده الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، والذي مِن بعض آياته ونِعَمِه كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قُدْرته علي كلّ شيءٍ وعِلْمه به، أنه جَعَلَ أيْ خَلَقَ في السماء بُرُوجَاً أيْ منازِل ومَدَارَات تَنْزِلُها الكواكبُ وتَدُورُ فيها أثناء سَيْرها، وجعل فيها كذلك سِراجَاً أيْ مِصْباحَاً مُضيئاً هو الشمس حيث هي في ذاتها مُتَوَهِّجَة بها طاقة وحرارة مُفيدة مَضبوطة في مقدارها دون أيّ زيادةٍ أو نُقْصانٍ بما يَنفع الأرض والمخلوقات عليها وفيها ويسعدها حيث يعلم الناس نهارهم من ليلهم ليسعوا في طلب أرزاقه وخيراته تعالي لينتفعوا وليسعدوا بها وبطاقاتها وحراراتها التي تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام، وجعل فيها أيضاً قَمَرَاً مُنيرَاً حيث يعكس ضوء الشمس فهو منير وليس في ذاته وَهَج وضوء وحرارة وذلك لكي يناسب وقت الليل والإضاءة الخافِتَة المُعِينَة علي الراحة ومنافعها وسعاداتها، وقد نَظّمَ سبحانه وحَسَبَ للقمر بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل المنازِل أيْ الأماكن التي يَنْزِل فيها ويَتحَرَّك، أيْ يُغَيِّر مَوَاضعه وانعكاساته فيكون هلالا ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي معرفة وحساب الأيام والأسابيع والشهور والسنين والأعمار والمعاملات والتصرّفات
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) والتي منها كما ذَكَرَته هذه الآيات الكريمة: دوام الذكر والشكر لله تعالي، والتّواضُع والمُعامَلَة الهَيِّنة الرفيقة السهْلَة المُسْعِدَة مع الآخرين، والصبر علي الأذي وعدم مقابلة الإساءة بمِثْلها ولكنْ بالحَسَنَة، وقيام الليل وحُسن استخدام وقت الليل في أيِّ طاعةٍ أيْ في أيِّ خير، والحَذَر الشديد الدائم من عذاب جهنم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ، والإنفاق في كل وجوه الخير بصورةٍ مُعْتَدِلَةٍ دون إسرافٍ أو بُخْلٍ وتضييق، والتحريم التامّ للإقدام علي الشرك أو القتل أو الزنا أو شهادة الزور، والمحافظة علي الأُسْرَة والقَرَابَة وحُسْن العلاقات الاجتماعية والإنسانية مع الجميع
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره حيث هو بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وكذلك هو وحده لا غيره سبحانه الذي جعل الليل والنهار خِلْفَة أيْ يَخْلف أحدهما الآخر أيْ يأتي بَعْده دائماً بلا أيِّ خَلَلٍ ويُخَالِفه في مُوَاصَفاته حيث أحدهما يكون مُضيئاً من أجل الحركة والكَسْب والآخر يكون مُظْلِمَاً للراحة والاسْتِجْمام بعدهما وبالتالي بهما معاً تَكْتَمِل سعادة الإنسان، وهذه الخِلْفَة هي آية أيْ دلالة عظيمة كافِيَة لمَن أراد أنْ يَذّكّر أيْ يَتَذكّر ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل عَظمة وقُدْرَة ورحمة وحكمة وعلم وتشريع ربه فيَعبده وحده أيْ يُطيعه بأنْ يَتّبِع دينه الإسلام لا غيره وأراد شُكُوراً أيْ شُكْراً كثيراً لِنِعَمِه التي لا تُحْصَيَ، فتَتِمّ بذلك سعادته بالداريْن
ومعني "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة في الإسلام التي يُحِبّها الله تعالي ويَمْتَدِحها ويُشَجِّع ويُثيب ويُعطي عليها أعظم الأجر والعطاء بالداريْن والتي علي كل مسلم أنْ يَتَّصِف بها حتي يَنالَ هذا الثواب العظيم فيُحَقّق تمام السعادة في دنياه وأخراه.. أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم الذي يكفرون بالرحمان ويقولون وما الرحمان يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وعباد الرحمن الصالِحون المَقْبُولُون الذين رَضِىَ الله عنهم وأرْضاهم في الدنيا والآخرة – ويَنْسِبهم سبحانه إليه وإلي رحمته أنهم عباد الرحمان تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم ورحمة بهم وحُبَّا فيهم وتفضيلاً لهم وبَيَانَاً وتَبْشيرَاً أنهم يعيشون دَوْمَاً في إطار رحمته حيث كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ بالداريْن وتَشْجيعاً للاستمرار علي خَيْرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره – هم الذين مِن صفاتهم أنهم يَمْشون على الأرض هَوْنَاً أيْ يَسِيرون عليها سَيْرَاً لَيِّنَاً رقيقاً أيْ بصورةٍ هَيِّنَة لَيِّنَة مُتَوَاضِعَة ليس فيها أيّ اسْتِعْلاءٍ علي الآخرين أو ظلم وأذي وإفساد لهم أو تَكَلّف أو تَصَنُّع أو تَبَخْتُر رفيقة رحيمة ساكِنَة هادِئة وَقُورَة بلا ضعفٍ بل بقوّةٍ وجدِّيَّةٍ وعِزَّةٍ وكرامةٍ وسكينةٍ واطمئنانٍ ووَقارٍ وحِلْمٍ وتَأنّي ورَزَانَة يَنْشُرون بذلك كل رحمات الله وسعاداته وتَطْميناته والتي يعيشونها هم في كل أعمالهم وأقوالهم إلي كل مَن يُقابِلُونه عند التّعامُل معه بل وإلي كل المخلوقات فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم، ثم سيَسعدون حتماً في أخراهم بأعلي درجات جنات ربهم بسبب أفعالهم هذه.. ".. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)" أيْ وإذا كلّمهم السفِيهون الذين يقولون أو يفعلون ما لا ينبغي قوله أو فعله بكلامٍ فيه سَفَه وسوء أدبٍ لم يقابلوهم بمِثْله لِحُسْن وتمام خُلُقهم بل قالوا سلاماً أيْ قولاً خَيْرَاً يَسلمون به من الوقوع في أيّ خطأٍ وشرٍّ وسوءٍ ولم يُسْمِعوهم إلا كل خيرٍ وسلامٍ وأمن، وكذلك من معاني سلاماً قول السلام عليكم والانصراف، وذلك يكون أحيانا علي حسب تقدير المواقف، لإنهاء الأمر بخير (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (96) من سورة "المؤمنون" "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ"، والآية (55) من سورة القصص "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم يَقْضُون بعض ليلهم سُجَّدَاً، جَمْع ساجِد، أيْ ساجدين، وقياماً، جَمْع قائم، أيْ وقائمين، لربهم، ومعني ساجدين أيْ مُنْقادِين طائعين لله، أي دائماً في طاعة، في خير، مُسْتَصْحِبين دَوْمَاً نوايا خيرٍ بعقولهم، في كل قولٍ وعمل، غير الآخرين الفاسدين الذين ينتظرون الليل لارتكاب الشرور والمَفاسِد والأضرار، ومعني قياماً أيْ قائمين وهذا تأكيدٌ لساجدين أيْ هم علي الدوام في ليلهم قائمين بأعمالِ خيرٍ كعلاقاتٍ أُسَرِيَّة وعائلية واجتماعية طيِّبَة مُفيدَة مُسْعِدَة وكالقيام بعملٍ مَا نافعٍ أو علم أو ذِكْر أو قراءة للقرآن الكريم أو غيره، كذلك من المعاني أنهم يُصَلّون في بعض أوقاتٍ من الليل بعض ركعاتٍ فيكونون أحياناً سُجَّدَاً علي جِباهِهم مُسَبِّحين ذاكِرين شاكِرين مُتَوَاضِعين لله تعالي وأحياناً قياماً علي أقدامهم يقرأون ويَتَدَبَّرون القرآن ليعملوا بأخلاقه ليسعدوا بالداريْن، ثم ينامون بَقِيَّة ليلهم علي خيرٍ بنوايا تجديدِ صِحَّةِ أجسادهم استعداداً لصباحٍ جديدٍ مُرْبِحٍ مُثْمِرٍ سعيدٍ مُثابٍ عليه أعظم الثواب بإذن الله بحُسْن العمل فيما هو خير مِن كل مجالات الحياة المختلفة.. هذا، وتخصيص وقت الليل بالذكر يُفيد أنهم مُجتهدون يَستغِلّون وقت الليل كذلك بعد النهار في طاعةٍ وخيرٍ مَا، سواء أكان وقتا منه قليلا أم كثيرا، في أوله أو آخره، كعلمٍ مُفيدٍ أو عملٍ نافع أو صلاةٍ أو ذِكْرٍ أو دعاءٍ أو قراءةٍ للقرآن أو ما شابه هذا، أيْ هم دائما في خيرٍ طوال نهارهم ثم أيضا في بعض أو معظم ليلهم ولا تمرّ عليهم ليلة إلا وفَعَلوا ذلك علي حسب ظروفهم وأحوالهم، وحتي أثناء نومهم يستحضرون نوايا الراحة من أجل الاستيقاظ بعدها لكلّ خير، وبالتالي فحياتهم كلها خير في خير وسعادة في سعادة، فهم يستحِقّون إذَن من ربهم تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)"، "إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم هُم الذين يقولون دائماً داعِين مُتَوَسِّلِين راغِبين حَذِرين بشِدَّة يا ربنا – أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – ابْعِدْ وامْنَعْ وادْفَع عنّا عذاب جهنم، وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة، وذلك رَغْمَ حُسْن عملهم بأخلاق إسلامهم، لكنْ خوفاً من بعض تقصيرهم أو عدم إكمالِ وإحسانِ كلّ قولٍ وعملٍ مَا أمْكَن وحَذَراً من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليّ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (60) من سورة "المؤمنون" "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، بأنْ تُوَفّقنا دَوْمَاً للعمل بإسلامنا وتُيَسِّر لنا أسباب ذلك طوال حياتنا وتُعِيننا علي تَجَنّب فِعْل السيِّئات وتَغْفِر لنا أخطاءنا التي تُوجِب علينا دخولها، لأنَّ عذابها كان وسيَظَلّ – ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار – غَرَامَاً أيْ شَرَّاً لازِمَاً كما يُلازِم ويُرَافِق الغَرِيم أيْ الدائن مَن عليه دَيْن له حتي يأخذه كاملا منه، أيْ مُلازِمَاً مُرَافِقاً مُصاحِباً مُسْتَمِرَّاً للمُعَذّب فيها لا يُفارِقه ولا يُمكنه الفِرار أو التخَلّص منه، وهو عذابٌ قطعاً لا يُوصَف في إيلامه وإهانته وإهلاكه وإتعاسه، وفي خسارته حيث هو غَرَامَة وخسارَة شديدة علينا تَسْدِيدها وهي لا تُحْتَمَل.. "إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)" أيْ إنَّ جهنّم مَا أسْوَأ أنْ تكون مُستقرّاً ومُقامَاً أيْ مكاناً للاستقرار وللإقامة فيها، لأنها بها كل عذابٍ مُسِيءٍ مُهِينٍ لا يُوصَف.. وهذا استكمالٌ لكلامهم أو مِن كلام الله تعالي
ومعني "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم هُم الذين إذا أنفقوا أيْ أعْطُوا مِمَّا رزقهم أيْ أعطاهم الله علي ذواتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، إذا أنفقوا لم يُسْرِفوا أيْ لم يُجَاوِزوا الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتهم، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم الزينة أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام.. ".. وَلَمْ يَقْتُرُوا.." أيْ ولم يُضِيِّقوا علي ذواتهم ومَن حولهم أيْ ولم يَبْخَلوا في الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم فكرا أم علما أم غيره بسبب خوفهم مِن فقدان مُمْتَلَكاتهم بما يؤدّي لتعاسة الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)" أيْ وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قَوَامَاً، والقَوَام هو ما يَقوم بين شَيْئَيْن بحيث يكون مُتَوَسِّطَاً مُستقيماً بينهما بلا مَيْلٍ لأحدهما، والمقصود إنْفاقَاً وَسَطَاً مُعْتَدِلَاً لا هو إسْراف ولا هو تَقْتِير لأنَّ كِلَيْهما مُضِرٌّ مُتْعِسٌ للفرد وللمجتمع في الدنيا كما يُثْبِت الواقع ذلك حيث الإسراف مُهْلِكٌ لِمَا يُنْفَق والتقتير مانِعٌ لمَنافعه ثم في الآخرة سيكون لكلٍّ منهما عقابه بما يُناسِب بينما التّوَسُّط والاعْتِدال والتّوَازُن بلا إفراطٍ أيْ مُغَالاةٍ أو تفريطٍ أيْ تقصيرٍ في كل شئون الحياة يُحِقّق السهولة واليُسْر والدوام في كل خيرٍ والنشاط والإنجاز والربح والتشجيع والرضا والأمل والتفاؤل والطموح والصفاء والحب والصدق والتعاون والانطلاق وبالجملة يُحَقّق السعادة بالداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (29) من سورة الإسراء "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)"، "يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)" أيْ وهم الذين لا يعبدون مع الله مَعْبُودَاً آخر، لأنه الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، فهم مُخْلِصُون له وحده لا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن بالآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولا يقتلون النفس التي حَرَّمَ الله إلا بالحَقّ أيْ ولا يقتلون أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال النفس التي حَرَّم الله قتلها، أيّ نفسٍ إنسانيةٍ من نفوس بني آدم مهما كانت مؤمنة أو غير مؤمنة كبيرة أو صغيرة مُذَكّرة أو مُؤَنّثَة قوية أو ضعيفة غنية أو فقيرة، إلا إذا كان القتل بالحقّ أيْ بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ أو بقتل محاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، ولا يَزْنُون أيْ ولا يَقْرَبُون الزنا مُطْلَقَاً لأنه شديد الأضرار والتعاسات، وهو إدخال العضو الذَكَرِيّ في عضو الأنثي بغير زواج (برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الإسراء "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو من أسوأ الذنوب ومن أشدّها ضَرَرَاً علي الفرد والمجتمع ككلّ، فأمراض الزنا الفَتّاكَة التي تصيب الزناة أصبحت معروفة مشهورة، ثم الأهم أنَّ الزنا لو انتشر فإنه يُؤَدِّي إلي عدم وجود أسرة وبالتالي لا يوجد مجتمع وينتشر الأطفال بغير أبوين وبدون رعاية فينشأون حاقِدين علي مَن حولهم مُنْتَقِمين منهم بكل صور الانتقام فتنتشر الجرائم إضافة للمَفاسد والأمراض ويضعف الإنتاج ويتعس الجميع، ثم في الآخرة لهم قطعاً في مُقابِل كل ذلك ما هو أشدّ تعاسة وأتَمّ وأعظم.. ".. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)" أيْ ومَن يَفعل ذلك السوء المَذْكُور من الإشراك بالله والقتل والزنا يُلاقِي ويَجِد شروراً، علي قَدْر مَا فَعَل.. وهذه الآثام أيْ الشرور التي سيَلْقاها أيْ سيَجِد عقوبتها المُناسِبَة لها، هي أنه حتماً "يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)" أيْ يُزادُ ويُتَضَاعَفُ ويُتَنَوَّعُ ويُكَرَّرُ ويُغَلّظ له العذاب يوم القيامة بسبب شروره ومَفاسده وأضراره وبما يُناسبها، وسبب المُضَاعَفَة هو ضلاله في نفسه وإضلاله لغيره، فهذا هو تمام العدل بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. ".. وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)" أيْ ويَبْقَيَ مُسْتَمِرَّاً في هذا العذاب المُضاعَف مَذْلُولَاً مُحْتَقَرَاً إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنه لحظة فهو في إقامة دائمة أَبَدِيَّة فيه بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنه أو تَرْكٍ له بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كان فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الخلود في النار يكون للكافرين بينما العاصِين من المسلمين الذين يَقتلون أو يَزْنون أو يَعْصُون بصورةٍ مَا من المعاصي ولم يَتُوبوا ولم يُعاقَبوا في الدنيا يُعاقَبون في نار الآخرة بقَدْر ذنوبهم ثم يخرجون لأدني درجات الجنة بعد قضاء فترة عقوبتهم ولا يخلدون فيها
ومعني "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)"، "وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره مَنْ تابَ أيْ قام بالتوبة من ذنوبه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. إنه لولا فتح الله تعالي التواب الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَآمَنَ.." أيْ وأسْلَمَ واتَّبَعَ الإسلام إنْ كانَ قد كَفَرَ أيْ لم يُصَدِّق بوجود إلهٍ أو إنْ كان قد أشْرَكَ أيْ عَبَدَ غير الله تعالي كصنمٍ أو غيره أو إنْ كان مؤمناً ولكنّه قد كان فاعِلَاً للشرور والمَفاسد والأضرار فيكون إيمانه بمعني تجديد الإيمان بالله بعد توبته بكل صِدْقٍ وإخلاصٍ وإحسانٍ أيْ له تعالي لا رياءً للناس بأنْ يَتْرُك الشَّرَّ ويَفعل الخير ويستكمل مَا قد يراه في نفسه ناقصاً من كل أخلاق الإسلام ويُصَحِّح سريعاً ما قد يَحدث منه من أخطاءٍ أو تَقْصِيراتٍ أو هَفَوَاتٍ أثناء هذا ويتوب منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل وأنْ يَثْبُت ويُدَاوِم علي ذلك بلا أيِّ تَرَاجُعٍ لأيِّ سبب.. ".. وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحًا.." أيْ ودَلّلَ وبَرْهَنَ علي حُسْنِ توبته وإيمانه بأنْ عَمِلَ عَمَلَاً صالحاً بعد ذلك واستمرّ عليه أيْ عمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق، وبالجملة عمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ.." أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها، أي الذين تابوا وآمَنُوا وعملوا الصالحات، لابُدَّ حتماً بسبب ذلك يُبَدِّل الله أيْ يُغَيِّر سيئاتهم أيْ شرورهم التي فَعَلُوها قبل توبتهم حسنات، بمعني أنهم في الآخرة، مِن كَرَمه سبحانه وفضله ورحمته وحُبّه لخَلْقه وتَشجيعاً وتَبْشِيرَاً لهم علي دوام التوبة أوَّلَاً بأَوَّلٍ حتي لا يتعسوا بتعاسات الشرور وليسعدوا تمام السعادة في الداريْن، فإنه تعالي لا يُزيل الذنب فقط بالتوبة بل يُبَدِّله بالكثير من الحَسَنات، فكلُّ توبةٍ تُبَدِّل كلَّ ذنبٍ بحَسَناتٍ كثيرات، علي حسب التوبة مِن ذنبٍ كبيرٍ فيكون لها أجرٌ كبيرٌ ومِن ذنبٍ أقلٍّ فلها أجرٌ يُساويها، وهكذا، لأنَّ فيها مقاومة هائلة لعدم العودة للذنب وهذه المقاومة لها أجرها العظيم ولذا فهُمْ تُبَدَّل سيئاتهم حسنات، حيث التوبة في ذاتها هي عملُ خيرٍ عظيمٍ له حسناته العظيمة، كما أنهم في الدنيا بهذه التوبة يُبَدِّل الله سيئاتهم حسنات بمعني أنْ يُغَيِّر حياتهم بأنْ يُوَفّقهم للتّمَسُّك والعمل بأخلاق إسلامهم بَدَلَ سُوئهم فتَتَبَدَّل أعمالهم السَّيِّئة وآثارها المُتْعِسَة بالداريْن بأعمالٍ حَسَنَةٍ وآثارٍ مُسْعِدَةٍ فيهما بمُساعدته وبتَحْبِيبه لهم للخير وتَكْريههم في الشَّرِّ أيْ بتَيْسِيره لهم كل أسباب ذلك وتَوْفيقهم إليها وتَسْديد خُطاهم نحوها طوال حياتهم بعد توبتهم وكل ذلك بسببها كتشجيعٍ منه لهم عليها وعلي الاستمرار بَعْدها علي كلِّ خيرٍ بتَبْشِيرهم بأنهم بها سيَنالون كل خيرٍ في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وذلك لأنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. "وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التعميم أنَّ رحمة الرحمان تعالي واسعة تشمل أيَّ تائبٍ مِن أيِّ ذنبٍ كبيرٍ أم صغيرٍ وذلك حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مُخْطِئاً أنَّ رحمته مُقْصُورَةٌ فقط علي التائبين السابق ذِكْرهم بالآية السابقة (68) كالمشركين والقَتَلَة والزناة.. أيْ وكلّ مَن تابَ وعمل صالحا بعد توبته، أيضا غير هؤلاء المَذْكُورين سابقا، فإنه بذلك يتوب إلي الله مَتابَاً صحيحاً حَسَنَاً كاملاً خالِصَاً حَقّاً صِدْقَاً جادَّاً أيْ يكون قد تابَ توبة مَرْضِيَّة مَقْبُولَة عنده تعالي ماحِيَة للعقاب مُحَصِّلَة للأجر الحَسَن المُسْعِد بالداريْن.. وفي هذا مَدْحٌ منه تعالي لِمَن يتوب بهذه الصورة وتشجيعٌ لأنْ تكون صُورَة التوبة دائما كذلك حتي يتَحَقّق الأجر كامِلَاً وسعاداته كاملة في الدنيا والآخرة
ومعني "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم هُم الذين لا يَحْضرون الزور وهو المَيْل والانحراف عن الحقّ والعدل والخير، أيْ لا يَحْضرون بأيِّ مكانٍ ولا زمانٍ فيه الشرّ والفساد والظلم والعدوان والكذب والافتراء وما شابه هذا، بأيِّ صورةٍ مِن الصور، سواء بالأقوال أو بالأفعال، ويَدْخُل في ذلك بالقطع شهادة الزور أيْ الإقرار والاعتراف والإخبار علي الآخرين بمَا هو كذب لم يَحْدُث ولم يُشاهِدوه ولم يَسْمَعُوه لإيقاع ضَرَرٍ مَا بهم وتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، بل هم دائما يَحْضرون أماكن وأزْمِنَة الخير ويَفعلونه ويَقولونه ويَدْعون له بكلِّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)" أيْ وإذا مَرّوا باللغو وهو أيّ كلامٍ غير مُفيدٍ ومِن باب أوْليَ أيّ كلامٍ – أو فِعْلٍ – شرِّيّ ساقِطٍ بَذِيءٍ يجب أن يُلْغَيَ لقُبْحِه حيث كل كلامهم – وأفعالهم – خيرٌ مُسْعِدٌ للنفس وللغير يُؤْجَرون عليه بكل خيرٍ وسعادةٍ بالداريْن، ولفظ "مَرُّوا" يُفيد أنهم لا يَقْصِدُون ولا يَتَعَمَّدُون ولا يُحِبُّون سماع اللغو ولا حُضُور مَجالسه والتواجُد بين فاعِلِيه، بمعني أنهم إذا صادَفوا اللغو من غيرهم، غير قاصِدين سماعه أو رؤيته أو حُضوره، في مجلسٍ أو عملٍ أو طريقٍ أو غيره، مَرُّوا كِرامَاً حينها أيْ مُكْرِمِين أنفسهم بأنْ يَتَرَفّعوا ويَتَعَزّزوا عنه ولا يُهينوها بالوقوع فيه والتلَوُّث والانشغال به بما قد يُوقِعهم في شَرٍّ مُخالِفٍ لإسلامهم مُضِرٍّ مُتْعِسٍ في الداريْن أو يشغلهم عن خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ فيهما
ومعني "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم هُم الذين إذا ذَكَّرَهم مُذَكّرٌ ووَعَظهم واعِظٌ – أو تَدَبَّرُوا هُمْ – بآيات ربهم أيْ بدلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، لم يَخِرُّوا عليها صُمَّاً وعُمْياناً كما يَفعل الكافرون ومَن يَتَشَبَّه بهم أيْ لم يَسْقُطوا عليها بمعني لم يَنْكَبُّوا عليها أيْ لم يَهْتَمُّوا بها وكانوا صُمَّاً أيْ كالذين لا يَسمعون وعُمْيانَاً أيْ كالذين لا يُبْصِرون أيْ كما يفعل المُكَذّبون المُعانِدُون التعساء بالداريْن الذين لا يَستمعون للحقّ ولا يُبْصِرونه ولا يَستجيبون له ولا يعملون به لإغلاقهم لعقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة ولكنهم أيْ عباد الرحمان علي العكس خَرُّوا عليها أيْ سقطوا عليها بمعني انْكَبُّوا عليها أيْ أقبلوا عليها واهتَمُّوا وانْشَغلوا بها وانْهَمَكُوا فيها بشَغَفٍ وحبٍّ يَسمعونها ويُبْصِرونها سماعَ وإبصار تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور ليسعدوا فيها ثم في آخرتهم.. كذلك من المعاني أنَّ عباد الرحمان لم يَخِرُّوا عليها صُمَّاً وعُمْيانَاً كما يَفعل الكافرون وإنما خَرُّوا عليها سُجَّدَاً وبُكِيَّاً إذا ذِكّرُوا بآيات ربهم، والمَعْنَيان مُتَقارِبان، أيْ خَرُّوا أيْ سَقَطوا ووَقَعوا ساجِدين والسُّجَّد جَمْع ساجِد والمقصود أنهم يَخضعون لخالقهم ولتوجيهاته وإرشاداته ويَستجيبون ويَستسلمون لها ويقومون بطاعتها وتطبيقها في كل شئون حياتهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (58) من سورة مريم ".. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)"، والآيات (107)، (108)، (109) من سورة الإسراء ".. إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا"، "وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا"، "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)" أيْ ومِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أيضاً والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم هُم الذين يقولون داعِين سائِلين الله تعالي دَوْمَاً يا ربنا اعْطِ لنا بفضلك وكرمك ورحمتك من أزواجنا وذُرِّيَّاتنا أيْ مِن قُرَنَائِنا ومُلازِمِينا مِن زوجاتٍ وأبناء وأحفاد وأقارب وأصحاب وأصدقاء وزملاء وأحِبَّاء وأشباههم قُرَّة أعينٍ أيْ استقراراً واطمئناناً وراحة بالٍ وفِكْرٍ وسعادة تامَّة، استقراراً يَشمل عقولنا ومَشاعِرنا وأجسادنا وأحوالنا والذي يعني تمام السعادة الغامِرة والتي ليس بعدها أيّ سعادةٍ أكثر منها، فهم يَدْعُون لهم دائما بأن يكونوا مسلمين صالحين وهو في ذات الوقت دعاء لأنفسهم حيث سَتَقَرّ أعينهم بأنْ يَرَوْنهم كذلك بما سيُؤَدِّي لأنْ يَسعدوا معاً هُمْ ومَن سيأتي بَعْدهم بذلك حيث حُسْن التعامُل فيما بينهم بأخلاق الإسلام في دنياهم ثم ينالون بهذا أعظم الأجر في أخراهم ولا يَتعسون فيهما بمخالفتها، وهو أيضاً دعاءٌ يعني ضِمْنَاً انتشار الإسلام بين الناس جميعا إذ بصلاح أزواجهم وذُرِّيَّاتهم سَيُحْسِنون بإذن الله دعوة غيرهم للإسلام فيَسعد به الجميع بالداريْن كما سَعِدُوا هُمْ.. ".. وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)" أيْ واجعلنا يا ربنا إماماً أيْ قُدْوَة للمُتَّقين يُؤْتَمّ ويُقْتَدَيَ بنا في كل خيرٍ بكل أقوالنا وأفعالنا أيْ أساتذة ومُعَلّمين وقادَة وهُدَاة ونحو هذا من الصفات التي تُسعدنا وتَجعلنا رابِحين دائماً في دنيانا ثم رابحين أعظم الربح في أخرانا لتوجيهنا الآخرين لخيريِّ دنياهم وأخراهم مِمَّن سيَقتدون بنا ويَفعلون مِثْلنا، والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. إنهم يسألونه تعالي أنْ يُوَفّقهم ويُيَسِّر لهم كل أسباب أن يكونوا أعلي الناس تَمَسُّكَاً وعَمَلَاً بالإسلام ليكونوا أسعدهم في الدنيا وأعلاهم درجة في الآخرة مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا، لأنهم يعلمون أنهم لن يكونوا قُدْوَة للمُتّقين إلا بذلك بما يُفيد أنهم يَبْذلون ما استطاعوا ليكونوا دائما كذلك ويسألون ربهم التوفيق والتيْسير والعوْن
ومعني "أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)"، "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها يُعْطَوْنَ ويُثابُون مِنَّا بعظيم رحمتنا وكرمنا وفضلنا جزاءَ وفي مُقابِل إحسانهم في دنياهم الغُرْفَة في أخراهم – إضافة لسعادتهم الدنيوية – والغرفة في اللغة العربية هي المكان المُمَيَّز من البيت وليست كساحته كما أنها تكون مرتفعة وليس أرضية والمقصود القصور الفخمة في أعلي درجات الجنة وأرْفعها وأمْيَزها وأعظمها، وهي غرف مَبْنِيَّة بعضها فوق بعض بشكل هندسيّ بديع بهيج وقد تمّ بناؤها وتجهيزها لهم علي سبيل التكريم والتشريف بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ذات الروائح الطيبة، وكلها وبما يحيطها من حدائق وبساتين وثمار تجري من تحتها الأنهار أي تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. بِمَا صَبَرُوا.." أيْ بسبب أنهم صبروا أيْ بسبب صَبْرهم في دنياهم، حيث كانوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وكانوا إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)" أيْ ويُتَلَقّوْن ويُلاقون ويَستقبلون فيها أي في الجنة من الملائكة تحية أي كلمة ترحيب فيها كلّ تكريمٍ وتقديرٍ واحترامٍ وحبٍّ وطمأنينةٍ وتَبَسُّمٍ وبَشَاشَةٍ وخيرٍ وإسعادٍ ودعاءٍ بأسعدِ حياة، وسلاماً أيْ أمناً مِن كلّ سوءٍ، فهُم يُحَيِّي بعضهم بعضا وتُحَيِّيهم الملائكة وتدعو لهم بالسلامة والطمأنينة والراحة والحب، وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. إنهم لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع التأثيم أيْ كل ما يُوقِع في الإثم أيّ الشرّ والفساد والضَرَر، ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط قول "سلاما سلاما" أيْ الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو إثمٍ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة.. "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)" أيْ يكونون مُقِيمين باقِين خالدين أيْ دائِمين فيها أبداً بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تَرْك لها، لا يطلبون ولا يريدون حِوَلَاً أيْ تَحَوُّلَاً عنها وانتقالاً منها، مِن عِظَمِ وتمام نِعَمها وسعاداتها حيث لا يجدون حتماً أطيب منها مُطْلَقَاً حتى تَشتاق أنفسهم له، بما يُفيد ويُؤَكّد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره أو تَرْكه فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. ".. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)" أيْ مَا أحْسَنَ تلك الجنة أنْ تكون مُستقرّاً ومُقامَاً أيْ مكاناً للاستقرار وللإقامة فيها، لأنها بها كلّ سلامٍ ونَعيمٍ خالِدٍ لا يُوصَف
ومعني "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَا يَعْبَأ أيْ لا يَهْتَمّ بكم ربي فأنتم لا وَزْن ولا قَدْر ولا قيمة لكم عنده لولا دعاؤكم أيْ لولا عبادتكم إيَّاه وحده بلا أيِّ شريكٍ فهي التي تَجعل لكم عنده وزناً عظيماً وقَدْرَاً وقيمة، فإذا لم تعبدوه كنتم كالدّوابّ، وسواء عبدتموه أم عَبَدْتُم غيره فهو غَنِيٌّ عنكم إذ لا تَنْفعه أبداً طاعتكم ولا تَضُرُّه معصيتكم بل لو عبدتموه واتّبَعْتُم دينه الإسلام كنتم أنتم المُنْتَفِعين حيث تَصْلُحون وتَكْمُلون وتَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وإنْ عَبدتم غيره فأنتم الضائعون حيث تَفْسَدون وتَنْحَطّون وتَتْعسون فيهما.. كذلك من المعاني عند بعض العلماء قل لا يَهْتَمّ بكم ربي أيها المُسيئون لولا دعاؤكم إيَّاه بسؤاله وتَوَسُّلكم إليه واسْتِغاثتكم به في الشدائد فيَكْشِفها عنكم لأنه رحيمٌ بكلِّ مَظلومٍ أو مُضطر حتي ولو كان مُسِيئاً فلا يترك أبداً مَن يَلْجَأ إليه مِن خَلْقِه، بما يُفيد عظيم أهمية دعاء الله تعالي دَوْمَاً لكي لا يَترك أحدٌ الدعاء مُطْلَقَاً.. ".. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)" أيْ فبسبب أنكم قد كذبتم أيها المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزِؤن فلم تُؤمنوا بربكم ولم تعملوا بأخلاق إسلامكم وخالَفتموها ففَعَلْتُم الشرور والمَفاسد والأضرار فبالتالي إذَن سوف يكون العذاب الذي سَبَّبَه تكذيبكم لِزاماً – ولفظ "سوف" يُفيد تأكيد الحُدُوث في المُستقبل مع الاستمرارِيَّة – أيْ مُلازِمَاً لكم دائماً لا يَنْفَصِل عنكم ولا مَفَرَّ منه مُطْلَقَاً ولازِمَاً لكم أيْ ضَرُورِيَّاً مَفْرُوضَاً واقِعَاً عليكم بكل تأكيدٍ لا مَحَالَة، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
طسم (1)
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)" أيْ هذه الآيات السَّامِيَات القَيِّمَات المُفَصَّلات الواضِحات التى نتلوها عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل مُسْتَمِع عاقل في هذه السورة الكريمة أو غيرها هي آيات الكتاب المُبِين أيْ آيات القرآن العظيم الذي صفته أنه المُبَيِّن المُوَضِّح لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)" أيْ لعلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُهْلِك نفسك أسَفَاً أيْ حُزْنَاً شديداً علي ألّا يكونوا مؤمنين أيْ بسبب آثار ونتائج عدم إيمانهم إذا لم يؤمنوا هؤلاء المُكَذّبون بهذا الحديث أيْ القرآن العظيم، ولفظ "لعل" يُفيد احتمالِيَّة حُدُوث ذلك فخُذْ حِذْرَك منه ولا تَفعله، ولا تَشعر بالحزن علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب عدم إيمانهم وإصرارهم علي سوئهم، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)" أيْ إنْ نُريد، نُنَزِّل علي المُسيئين من السماء مُعْجِزَة فبَقِيَت رقابهم لها خاضِعين أيْ فظَلّوا مُسْتَسْلِمين مُنْقَادِين مَذْلُولين لها بمعني تُجْبِرهم وتُكْرِههم علي أنْ يُسْلِمُوا ويَظَلّوا مُسْتَمِرِّين علي الإسلام فنحن قادرون حتماً علي كل شيءٍ وبالتالي يَتَحَقّق لك ما تُحِبّه من إسلامهم ولا تكون باخِعَاً نفسك عليهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولكنّنا لم نَشَأ ذلك لأننا نريد من الإنسان أنْ يُسْلِمَ اختيارياً حتي ينتفع ويسعد بإسلامه في حياته الدنيا ثم حياته الآخرة أمَّا الإسلام الإجْبارِيّ فلا يَنْتفع ولا يَسْعد به فيهما لأنه مُكْرَهٌ عليه غير فاهمٍ أنه لمصلحته ولإسعاده ولا قابِل له فبالتالي سيَظَلّ دائماً يبحث عن الحُجَج والمَخارج لكي يَخرج منه ويُخالِفه كلما استطاع حيث يَعْتَبِره قَيْدَاً وعِبْئَاً ثقيلاً عليه لا تَيْسِيراً وإرْشاداً وإسعاداً له (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (118)، (119) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)" أيْ وما يَصِلهم، أيْ ومَا يَصِل إلي هؤلاء الناس السابق ذِكْرهم، أيْ إلي الكافرين والعاصِين، في كلّ زمن، أيُّ تَذْكِيرٍ مِن ربهم الرحمان في كتابٍ مِن كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم، مُحْدَثٍ أيْ جديدٍ مُتَجَدِّدٍ فيه إسلامٍ يُناسب كل زمن، قد أَحْدَثه الله تعالي أيْ قاله وأوْحاه لِرُسِله رسولاً بعد رسولٍ في زَمَنٍ بعد زمنٍ بلا انقطاعٍ حتي آخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ليُبَلّغه للناس، والمقصود أنَّ الذكْر الذي هو كلامه سبحانه ووَحْيه والذي فيه نظام الإسلام والذي آخره القرآن الكريم الخالِد الخاتم الذي ليس بعده كتاب آخر لأنه كاملٌ شامِلٌ لا يحتاجون لغيره سيَظَلّ يُذَكّرهم منذ بَدْء خَلْقِهم من أبيهم آدم وحتي يوم القيامة بصورةٍ مُتَجَدِّدَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ بما يُناسب أحوالهم بكلِّ مُتَغَيِّراتها، سيَظلّ يُذَكّرهم في كل شئون حياتهم بكل خيرٍ ليَفعلوه وبكل شَرٍّ ليَتركوه ليسعدوا تمام السعادة فيها ثم في آخرتهم.. هذا، واختيار اسم الرحمان من أسماء الله تعالي الحُسني لأنه يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعاد المؤمنين المُحْسِنين المُتّقين منهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. كذلك اختياره هو لبيان شِدَّة وفَظَاعَة وقَبَاحَة تكذيب المُكَذّبين لأنّ الله تعالي الشديد الرحمة بخَلْقه كان من المُفْتَرَض أن تُقابَل رحمته هذه مِن أيِّ عاقلٍ بحُسْن عبادته أيْ طاعته لا بالكفر به وعصيانه، إضافة لتَذْكِرتهم برحمته سبحانه التي لم يعملوا لنَيْلِها من خلال طاعته لعلهم يَتْرُكون تكذيبهم ويُطيعونه فيسعدون في الداريْن بَدَلَاً أنْ يتعسوا فيهما.. ".. إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)" أيْ إلا كانوا مُعرضين عنه أي مُبْتَعِدين عنه تارِكين مُنْصَرِفين مُهْمِلين مُتجاهِلين له غير مُهْتَمِّين غير مُتَفَكّرين فيه غير مُتّعِظِين به، بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ومقاومة لِنَشْره وإيذاء لمَن يَتّبعه بل وقتال له أحيانا، ولفظ كانوا في هذا المَوْضِع يُفيد الاستمراريَّة وتمام الإصرار علي تجديد وتِكْرار حالهم السَّيءِّ القبيح وهو إعراضهم كلّما أتاهم ذِكْر مِن ربهم الرحمان، وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)" أيْ لقد كذّبَ هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُراوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم بالذكْر لَمَّا أتاهم أيْ بالحقّ لَمَّا وَصَلَ إليهم عن طريق رسل الله تعالي، أيْ كذّبوا بالصدْق، أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه وآخرها القرآن العظيم ورسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ولم يعملوا بالإسلام الذي بَلّغُوهم إيّاه ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، فبالتالي وفي مُقابِل ذلك وبسببه سَيَأتيهم أيْ سيَصِل إليهم ويَنْزِل عليهم حتماً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً لسُوئهم مُوجِعَاً لهم أنباء مَا كانوا به يَستهزؤن أيْ أحداث العذاب الذي كانوا يَستهزؤن به عندما يُذْكَر لهم، وسُمِّيَ العذاب أنباء لأنَّ الله تعالي قد نَبَّأهم أيْ أخْبَرهم به وأحْدَثه أيْ قاله لهم كتحذيرٍ مُسْبَقٍ في كُتُبه من خلال رُسُله لو أعْرَضُوا مِثْلما حَدَثَ للمُكَذّبين الساخِرين السابقين لهم لكنهم كذّبوه وسَخِروا منه مِثْلهم، وبالتالي سَيَرَوْن حتماً بسبب هذا الاستهزاء والتكذيب – إنْ لم يَتوبوا ويُسْلِموا – درجة مَا وصورة مَا من درجات وصور العذاب بما يُناسب أفعالهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ علي المسلم أن يكون من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فَعَلَ مثله بما يُناسبه وازدادَ منه وطوَّرَه وسَعِدَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبه تماما فلا يَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروساً وعظات وخبرات هائلة يمكن تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابداً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلَاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)"، "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وأَلَمْ يُشاهِد الناس ويَنظروا ويَتدَبَّر كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ – والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم، أيْ لقد رَأوا وتأكّدوا، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض للذين يُكَذّبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح – وهل بَلَغَ العَمَىَ وإغلاق العقول بالمُكَذّبين منهم المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنهم لم ينظروا إلي الأرض كثيراً ما أنبتنا فيها من كل صنْفٍ حَسَنٍ كثيرِ المنافع بحيث يَستفيد منه كل مَخْلوقٍ يحتاجه سواء أكان بَشَرَاً أم حيواناً أم غيره حيث أنبتنا فيها من كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة، برحمتنا وفضلنا وكرمنا ورزقنا وحِكْمتنا وعِلْمنا وقُدْرَتنا.. "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)" أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم وغيره أيها الناس والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام وعلي كمال عِلْمه وقُدْرَته ورحمته وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)" أيْ ومع كل هذا الوضوح والمَنْطِقِيَّة للأِدلّة العقلية والتي يَتَقبَّلها حتماً كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، ما كان كثيرٌ من الناس، وما كان أكثرُ هؤلاء الكافرين، مهما حرصت أي اجتهدتَ بشِدَّة ورَغْبَة علي إيمانهم، مؤمنين، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره بل ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزئون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَأَحْسَنوا التصرّف بالإيمان بربهم والتمسّك والعمل بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم – ثم آخرتهم – هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة، لكن ما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كلِّ مسلمٍ العمل بها – لأنَّ الكثير يُؤمن قطعا.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الثابتين المُستمِرِّين طوال حياتهم علي خيرهم هذا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، ولا يَحزنوا علي مَن لم يؤمن ولا يَتأثّروا به، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيراً فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه، فإنَّ أمثال هؤلاء الناس الذين لا يُؤمنون يَقِلّون تدرجياً ويَتَلاشُون كلما أحْسَنَ أهل الخير دعوتهم للإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، أمَّا إنْ تَكَاسَلَ المسلمون في دعوة غيرهم أو قَصَّرُوا أو تَرَاجَعُوا أو خافوا أو انشغلوا بما هو أقلّ أهمية عَمَّا هو أهمّ أو ما شابه ذلك فسَيَقِلّ الخير وأهله حتماً وستكون فرصة انتشار الشرّ وأهله أكبر.. "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ والحال والواقع المُؤَكّد إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – هو العزيز أيْ هو وحده لا غيره الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ المؤمنين به المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم أهل الحقّ والخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الرحيم الذي يرحم ضعفهم وتقصيرهم ويجبره ويغفر لهم ويُعينهم وينزل نصره عليهم والذي يَغفر لكل مَن يعود إليه وإلي إسلامه ويُسعده في الداريْن لأنه هو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ثم إنَّ في النصر والهزيمة رحمة لكل خَلْقه ليَعْتَبِر ويأخذ الدروس والعِبَر مَن أراد الاعتبار.. إنه إذَن العزيز في غَلَبَة أعدائه، الرحيم بجميع خَلْقه وبصورة أخصّ وأعظم المؤمنين منهم حيث يُحْيِيهم دائما في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. إنه العزيز علي مَن كَذّبَ الرحيم بمَن تاب وحتي بمَن كَذّب وعَصَيَ حيث لا يُعَجِّل له العقوبة مع قُدْرَته التّامَّة علي ذلك وإنما يُمْهِله دون أنْ يُهْمِله لعله يتوب ثم حين يُعاقبه إذا لم يَتُب فعَلَيَ قَدْر مَا فَعَل بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ وبعد تَحْذيره كثيراً من خلال المسلمين الدعاة حوله (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. إنَّ مِن معاني الآية الكريمة أيضاً تمام العدل فلا يمكن أبداً أنْ يَتَسَاوَيَ جزاء فاعل الخير مع فاعل الشرِّ والذي قد حُذّر مَرّات عديدة من النتائج السَّيِّئة لأفعاله
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم موسي (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة البقرة والأعراف وطه وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)"، "قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين كلَّم ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم رسوله الكريم موسي (ص) عند جبل الطور بسيناء بمصر لِيُوحِي إليه التوراة التي بها الإسلام التي تُناسِب عَصْرَه لِيُعَلّمها لقومه وللناس ليسعدوا بها بالداريْن مُوصِيَاً آمِرَاً إيَّاه بأنْ يَأتِ أيْ يَجِيء القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. "قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)" أيْ هؤلاء الظالمون هم قوم فرعون مَلِك مصر في ذلك الوقت والذي كان أشَدُّهم ظلماً حيث قال أنا ربكم الأعلي!!.. ".. أَلَا يَتَّقُونَ (11)" أيْ ألاَ يَتَّقون الله؟! أيْ ألاَ يَخافون عقابه ويجعلون بينهم وبينه وقاية بأنْ يَتركوا ظلمهم ويُطيعوه؟! أيْ ائْتِهِم يا موسي وقل لهم ألاَ يَتّقون؟! عَجَبَاً لهم! ما الذي أصاب عقولهم؟! أمَا آنَ لهم أنْ يَتّقوا؟!.. وهذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، وهو إرشادٌ ضِمْنِيٌّ لكل مسلمٍ أنْ يَتّقي ولا يَفعل أبداً مِثْلهم.. ولكنَّ سبب ظلمهم مع عدم تقواهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)"، "وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)"، "وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)" أيْ قال موسي (ص) سائِلَاً الله تعالي العَوْن والرعاية والحِماية والتوفيق والتيْسير والسَّدَاد وحُسن الأداء لمُهِمَّته حيث سيُقابِل وسيَدْعو للإسلام أطْغَيَ طغاة الأرض وأشدّهم ظلماً واسْتِبْداداً واسْتِكْبارَاً، فرعون وجنوده، يا رب إنّي أخاف أنْ يُكَذّبُوني ولا يُصَدِّقوني فيما أدعوهم إليه من عبادتك وحدك لا غيرك واتّباع دينك الإسلام وحده لا غيره، ويضيق صدري بذلك حينها أيْ أشعر بانقباضٍ واختناقٍ وضيقٍ وألمٍ في عقلي ومَشاعِري من الحُزن بسبب ما يقولون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون عنك وعن الإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه، ولا ينطلق لساني بالتالي حينها أيْ يَتَعَثّر ويَتَعَسَّر ويَتَقَيَّد ويَثْقل ويَنْحَبِس فلا يَدْعوهم لعبادتك علي الوَجْه الأَكْمَل المُؤَثّر المَطلوب، فلذلك أرْسِل إلي هارون أخي أيْ اجْعَله رسولاً معي بفضلك وكرمك وعَوْنك ورحمتك ليُساعِدني علي حُسْن أداء هذه المُهِمَّة العظيمة، وكذلك أنت تعلم يا ربّ أنَّ لهم عليَّ تَبِعَة ذَنْبٍ أيْ عقوبة خطأٍ فَعَلْته وهو قَتْل نفسٍ منهم بالخطأِ بغيرِ قَصْدٍ فأخاف أنْ يقتلوني في مُقابِلها لو أتَيْتُهم بمُفْرَدِي فلا أتَمَكّن مِن تَبْليغهم مَا أرْسَلْتَنِي به إليهم فزِدْني برحمتك عَوْنَاً ورعاية وحِماية وتَوْفِيقاً وتَيْسيراً وسَدَاداً وحُسنَ أداءٍ لمُهِمَّتي، وليس هذا حتماً خوفاً من القتل فهو يعلم تماماً ككلّ رسل الله ومَن آمَنَ بهم أنه شهادة في سبيل الله ولكنه طَلَبَاً لمزيدٍ مِن العَوْن لحِرْصه التامّ علي تبليغ أمانة الإسلام التي يحملها لهم وتَبْرِيرَاً لطَلَبه بأنْ يكون هارون رسولاً معه ليَحْمِل هو الدعوة للإسلام بَعْده لو فُرِضَ وقُتِل ومعني "قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)" أيْ قال الله تعالي رَدَّاً علي رسوله الكريم موسي (ص) برَدٍّ حاسِمٍ لتمام طَمْأنتهما وتَسْليتهما وإزالة أيِّ خوفٍ منهما: لا، ليس الأمر كذلك كما تظنّ، لا تَخَفْ أن يضيق صدرك أو أن لا يَنْطلق لسانك أو أن يقتلوك كلا لا تَخَفْ مِن شىءٍ مِن ذلك – واستخدام لفظ "كلا" والذي يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ هو لمزيدٍ من تأكيد الطمْأنَة والتسْلِيَة – فأنا معكما برعايتي فيكفيكما هذا، وقد أستجبت لدعوتك بجَعْل هارون رسولاً معك، فبالتالي وما دام الأمر كذلك اذهبا بآياتنا أيْ بمُعْجِزاتنا التي تُثْبِت صِدْقكما والتي ستُعِينكما علي دَفْع مَا تَخافاه، وأهمها العصا التي تتحوَّل إلي ثعبانٍ حقيقيٍّ ضخمٍ عند إلقائها ثم عودتها لعصا عند استردادها، وغيرها من المُعْجِزات المُبْهِرات التي لا يستطيع فِعْلها بَشَر، فنحن معكم، أيْ معك وهارون والذين أَرْسَلْتُكما إليهم والجميع، مُسْتَمِعون – وفي هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة والتسْلِيَة والتبْشِير – أيْ لا تخافا لأنني معكما دائما بقُدْرَتي وعِلْمي ورحمتي وعَوْني وتأييدي ونَصْري وحمايتي حيث أسمع كلامكما وكلام فرعون وقومه وكلام كلّ مَخْلوقٍ وأرى فِعْلَكما وفِعله وفِعْل الجميع أيْ لا يَخْفَىَ علىَّ شىءٌ من حالكما وحاله وحالهم، فاطْمَئِنّا واسْتَبْشِرَا، فهم تحت سُلْطاني ونُفوذي وقُدْرَتي فلا يستطيعون أن يتحرّكوا أو يَتنفّسوا أو يُؤذوا إلا بإذنى.. وكذلك الحال يكون مع كل مسلم دائم التّوَاصُل معه سبحانه حيث سيَجِده دَوْمَاً مُيَسِّرَاً له كل شئون حياته مُسْعِدَاً له كل لحظاتها.. وكذلك حاله إذا خافَ أمراً مَا فلَجَأ إليه فسيُزيله عنه في التوقيت وبالأسلوب الذي يَراه تعالي مُناسباً مُسْعِدَاً له ولغيره، إذ الخوف أمرٌ في فطرة الإنسان جعله الله لمصلحته ولسعادته حيث به يخاف ربه وعِصيانه ونتائجه السيئة المُتْعِسَة فيفعل دائما الصواب ليَسعد في الدارين، ووجوده يَجعله دائماً يَجتهد في مُقاومة كلّ شَرٍّ وضعفٍ حتي لا يُخْطِيء، مُسْتَعِينَاً في ذلك بخالقه، فتَقْوَيَ بالتالي إرادة عقله فيَنْطَلق في الحياة بسبب قوة إرادته هذه يَسْتَكْشفها أكثر وأكثر فيَسعد بها أكثر وأكثر
ومعني "فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)"، "أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)" أيْ وبما أننا معكما مُسْتَمِعون فبالتالي إذَن وبناءً علي مَا سَبَقَ ذِكْره عليكما أنْ تأتيا أيْ تَجِيئا فرعون وتَصِلَا إليه بلا أيِّ خوفٍ بل بكلِّ ثقةٍ وطمأنينةٍ وتَوَكُّلٍ علينا فتقولا له بكلِّ لِينٍ وبأسلوبٍ حَسَنٍ مع قوّةٍ وحَزْمٍ واطمئنانٍ وبلا تَرَدُّدٍ إننا الاثنين مَبْعُوث ربِّ العالمين لك وللناس – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام – من أجل أن ندعوك وندعوهم لعبادته وحده بلا أيِّ شريكٍ ولاتّباع دينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن، وقولهما هذا يعني أنَّ فرعون ليس هو ربّ قومه الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه هو أيضا أنْ يؤمن برب العالمين الحقيقيّ خالِقه ويتّبع دينه الإسلام، كما يعني أنهما مَبْعُوثان منه سبحانه ولَيْسَاَ مِن تِلْقاء نفسيهما وبالتالي فهما مُؤَيَّدان بتأييده وقوَّته لعلّه بذلك يَهْتَمّ ويَتَدَبَّر ويَعْقِل أهمية الأمر ويَستجيب هو وغيره.. "أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)" أيْ إنّا رسول ربِّ العالمين أرْسَلَنا إليك برسالةٍ هي أنْ أرْسِل معنا بني إسرائيل أيْ ابْعَث معنا بني إسرائيل لِنَخْرُج بهم إلي أرضٍ غير الأرض التي تَحْكمها وهي أرض الشام ليعبدوا ربهم ويَنْجُوا من اسْتِعْبادك وإذلالك وظلمك لهم ولا تَمْنعهم مِن ذلك بل أطْلِق سراحهم وامْنَع عذابك عنهم واتْرُكهم يذهبون معنا
ومعني "قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)"، "وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)" أيْ قال فرعون لموسي مُتَجَاهِلَاً تماماً رسالة الله تعالي له مُتَعَالِيَاً عليها قاصِدَاً المَنَّ عليه – ولَوْمه بشِدَّة علي ما يقول – أيْ إيذاءه بتَذْكِرته بإحسانه وبفضله عليه منذ وُلِدَ وحتي أصبح شابَّاً استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً واحْتِقاراً وتَسْخِيراً له إذ بالتالي هو ربّه وعليه حقّ أيْ واجِب أنْ يَعْبده!! فكيف يقول بوجود ربٍّ آخرٍ غيره؟! إنَّ هذا لا يَصِحّ منه ولا يُعْقَل وعليه أنْ يَمْتَنِع عنه!! قال له ألم نُنَمِّكَ بَيْننا في عائلتنا المالِكَة وقَصْرِنا ونعيمنا منذ كنتَ مولوداً وبَقيتَ في رعايتنا سنين طويلة من عمرك حتي صرتَ رجلاً هكذا؟!.. "وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)" أيْ وجَنَيْتَ جِنايتك التي جَنَيْتَ بقتلك رجلاً من قومي.. ولم يَذْكر الجِنايَة لتهديده بأنها كانت بَشِعَة وأنه لم يعاقبه عليها بَعْد قاصِدَاً بذلك تخويفه بعقوبة القتل في المُقابِل إذ لا شيء عليه لو قتله إذَن لعله بهذا التهديد قد يَتَوَقّف ويَمْتَنِع عمَّا يدعو إليه من عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام لا غيره.. ".. وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)" أيْ وحالك وواقِعك أنك أنتَ من الكافرين أيْ المُكَذّبين بنعمتي عليك والمُكَذّبين بأني ربك وعليك أنْ تَعبدني!! وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتوْبيخ كمحاولةٍ لمَنْعه من دعوته
ومعني "قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)"، "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)"، "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)" أيْ هذا بيانٌ لإصرار الداعي لله وللإسلام علي توصيل دعوته وعدم تَرَاجُعه عنها وعن توصيلها بتهديدٍ أو ذَمٍّ أو نحوه مِمَّن حوله لكنه مع ثباته وإصراره وصَبْره وعدم تأثّره والذي هو بسبب ثقته بقوّة وبعَوْن ربه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبحُسْن توكّله عليه واستعانته به ثم بمَن حوله من المؤمنين يكون في ذات الوقت حكيماً يُحْسِن عَرْضَ دعوته بالأسلوب وبالتوقيت المناسب لكل موقفٍ والذي يُحَقّق أفضل النتائج ويَتَجَنّب الأضرار ما أمْكَن (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) حيث كان فرعون بتهديده وذَمِّه السابق ذِكْره يُحاوِل – يائِسَاً – إضعافه وإرهابه آمِلَاً في تَرَاجُعه عَمَّا يدعو إليه.. أيْ قال موسي (ص) لفرعون فَعَلْتُها أيْ هذه الفِعْلَة إذَاً أيْ إذْ ذاكَ أيْ حينئذٍ ويومئذٍ ووَقْتَها وأنا كنتُ حينها من الضالين أيْ الذاهِلِين الغافِلين عن أن تكون نتيجة مُجَرَّد وَكْزَة أيْ دَفْعَة بطرفِ الأصابع ليس هدفها إلا إبعاد ظالمٍ عن أذَيَ وظلم آخر كان يَتَشَاجَر معه هي القتل له فلم يكن الأمر إذَن عن قَصْدٍ لقتله وإنما حَدَثَ قَتْلَاً خطأ وقد استغفرتُ ربي عن ذلك الخطأ غير المُتَعَمَّد فغفر لي حيث كنت أساعد مظلوماً ضِدَّ ظالمٍ أرَدْتُ مَنْعه قبل أن يظلم.. "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)" أيْ فبالتالي هَرَبْتُ منكم بأنْ خَرَجْت إلي بلدٍ آخرٍ غير بلدكم إجباراً لا اختياراً عندما خِفْتكم أنْ تَظلموني فتُعاقبوني بما لا أسْتَحِقّ وهو قتلي في مُقابِل قَتْلٍ خطأٍ غير مُتَعَمَّدٍ.. وفي هذا بيانٌ أنَّ للمسلمين أنْ يُهاجِروا مُفارقين الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وخوف تَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها والخوف مِن أنْ يَحْكُموا عليهم بأحكامٍ ظالمةٍ من خلال قضاءٍ ظالم، ولهم أجرهم العظيم المُسْعِد مِن ربهم علي كل ذلك في دنياهم ثم ما هو أعظم وأسْعَد وأخْلَد في أخراهم.. ".. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)" أيْ فكانت النتيجة الطيِّبَة الحَسَنَة لهذه الهجرة أنْ أعْطَيَ لي ربّي، أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي، من فضله العظيم وكرمه ورحمته وحُبِّه، حُكْمَاً أيْ حِكْمة وفهْمَاً وعقلاً راجِحَاً وعِلْمَاً بحيث أُحْسِن التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع، وأيضا أكْرَمَني وشَرَّفني تَشْريفاً عظيماً بأنْ اختارني وجعلني مِنَ الرسل المُرْسَلِين أيْ المَبْعُوثين مِنه للناس ليُعلّموهم الإسلام الذي يُوحِيه إليهم بما يُناسِب زمن كلٍّ منهم ليسعدوا به في الداريْن.. "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)" أيْ وهل هذه نعمة تَمُنّ بها عليَّ أيْ تذلّني بها وهي أنك عَبَّدْتَ بني إسرائيل – أيْ جعلتهم عبيداً لك تذلّهم وتُسَخّرهم لخِدمتك – ولم تَستعبدني معهم مع أنَّ المُفْتَرَض المَنْطِقِيّ الطبيعيّ ألاّ تَسْتَعْبِد أحداً لا هم ولا أنا فهي ليست نعمة إذَن وإنما ظَهَرَت كأنها نِعْمَة بالمُقارَنَة مع اسْتِعْبادهم!! كما أنَّ تلك، أيْ هذه التربية لي وليداً، نعمة تَمُنّها عليَّ رغم أنها في الحقيقة هي بسبب شَرِّك المُتَمَثّل في اسْتِعْباد بني إسرائيل إذ لولا هذا الاسْتِعْباد لهم وقَتْل أولادهم لكانت أمّي لم تَقْذِفني في التابوت في البحر وأنا وليد خوفاً من أن تقتلني كما تقتل بقية المواليد فحفظني الله برحمته ورعايته وأوْصَلَني لقَصْرك وجعل امرأتك تُشْفِق عليَّ ولولا ذلك لكنتُ تَرَبَّيْت بين حنان والديّ والذي هو أفضل مِمَّا عندك كثيراً ولا يُقارَن!! فأيّ نِعْمةٍ تَتَحَدَّث عنها وتَمُنّ بها عليَّ؟!! إنه ليس لك أنْ تَتَحَّدث بمِثْل هذا الحديث!! فقد رَبَّيْتَني في قَصْرك لأسبابٍ خارجة عن إرادتك حيث كانت بإرادة الله تعالي وحده!!.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ موسي (ص) لم يُنْكِر هذه النعمة عليه وإنما أقَرَّها من باب حِفظ الحقّ لأهله حتي للكافر قائلا له وتلك التربية لي وليداً نعمة تنْعمها عليَّ حيث عَبَّدْتَ بني إسرائيل ولم تُعَبّدني معهم، ولكنَّ كلامه في ذات الوقت يُفيد ضِمْنَاً أنها لا تساوي شيئاً في مُقابِل اسْتِعْباده لبني إسرائيل وأنها بسبب هذا الاسْتِعْباد وأنها مِن الله كما أنها لا تُحْرِجه وتَمْنَعه أنْ يُبَلّغه الإسلام بحُكْم أنه رسول الله تعالي للناس الذين منهم فرعون
ومعني "قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)" أيْ لَمَّا وَفّقَ الله تعالي موسي (ص) فانتصر علي فرعون في حواره السابق معه وظَهَرَ له إصراره التامّ علي دعوته لله وللإسلام حَوَّلَ الحوار لمُحاوَلَة التشكيك فيما يدعو إليه لمَنْع الناس من اتّباعه حيث قال فرعون له وأيّ شيءٍ ربّ العالمين الذي تَدَّعِي أنه ربّك وربّ الخَلْق جميعاً وأنك رسوله؟! وصيغة السؤال وكلمة "مَا" التي تعني في اللغة العربية السؤال عن مَجْهُولٍ تُفيد ضِمْنَاً التكذيب والعِناد والاسْتِكْبار والاسْتِهْزاء والمُرَاوَغَة لأنه مَا مِن أحدٍ إلا وهو يعلم بفطرته خالقه ربّ العالمين لو أحسن استخدام عقله وعادَ لهذه الفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
ومعني "قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)" أيْ قال موسي رب العالمين هو وحده بلا أيِّ شريكٍ ربُّ السماوات والأرض وما بينهما، أيْ خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئية، فهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أيْ مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه، وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)" أيْ هذا من أساليب اللغة العربية وهو أسلوب شَرْطٍ يحتاج لجوابٍ لهذا الشرط لكنْ أحيانا يترك القرآن الكريم الجواب لكي تَتَعَدَّد احتمالاته وبالتالي فيكون المعني إنْ كنتم موقنين أيْ مُتَأكّدين تماماً بلا أيِّ شكّ أنَّ مَا تُعايِنُونه وتَرَوْنه حولكم هو كما تُعاينونه وتَرونه فكذلك فأيْقِنوا أنَّ ربّنا ربّ العالمين هو ربّ السموات والأرض وما بينهما، ويكون المعني أيضاً إنْ كنتم موقنين بصدقِ هذه الإجابة فآمِنوا به وحده بالتالي إذَن كإثباتٍ أنكم موقنون، ويكون المعني كذلك إنْ كنتم موقنين بشىءٍ مِن الأشياء حولكم فإيمانكم بهذا الخالق العظيم وإخلاصكم العبادة له أهمّ وأوْلَى مِن كلِّ يقينٍ غيره وذلك لشِدَّة وضوح الأدِلّة علي وجوده مِن مَخْلوقاته المُعْجِزات المُبْهِرات في السماوات والأرض وما بينهما والتي لم يَجْرُؤ أيُّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ويكون المعني أيضاً إنْ كنتم موقنين بأنَّ هذه المَخْلوقات مَخْلُوقَة وليست مِن فِعْلكم والمَخْلُوق لا بُدَّ له من خالقٍ قد خَلَقه وهذا هو الذي يَقْبله أيُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل ولا يَقْبَل غيره، ويكون المعني كذلك بالخُلاَصَة وبالجُمْلَة أنكم إنْ كنتم موقنين بهذا الذي أقوله من خلال إحسانكم استخدام عقولكم واستجابتكم لنداء الفطرة بداخل هذه العقول والتي هي مسلمة أصْلَاً لَعَلِمتم بالتالي إذَن وحتماً أنه لا إله يستحِقّ العبادة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فاعبدوه بالتالي ولا تعبدوا غيره واتَّبِعوا دينه الإسلام ولا تَتَّبعوا غيره، فهو وحده القادر بتمام قدْرته وعلمه علي الإحياء والإماتة لكلّ شيءٍ وسيَجمعكم بالقطع بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إنْ خيرا فخير وإنْ شرَّاً فَشَرّ، وهو ربّكم وربّ آبائكم السابقين منذ آدم أيْ خالقكم جميعا ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، فلا تعبدوا آلهة غيره لا تَقْدِر على شيءٍ من هذا ولا تَتَّبِعوا نظاما مُخالِفا لإسلامه وإلاّ تعستم تمام التعاسة في الداريْن.. إنَّ كلَّ مَن يَدَّعِي أنه إلهٌ الآن هو حتماً كاذبٌ لأنه مَخْلُوقٌ ولم يَخْلق قطعا آباءه الذين سَبَقوه!! وكلّ مَن يَدَّعِي أنه يَتَّبع الآباء الأوَّلِين في عبادتهم لآلهةٍ غير الله سبحانه كأصنامٍ وكواكب ونحوها فهو أيضا كاذبٌ قطعاً لأنه لو كان صادقاً في أنه يَقتدي فعلاً بالآباء لسَار على دين أبيه الأقْدَم الأوَّل آدم عليه السلام وهو الإسلام لكنه انحرف وعَبَدَ غير ربِّه
ومعني "قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)" أيْ لَمَّا وَفّقَ الله تعالي موسي (ص) فانتصر علي فرعون في حواره السابق معه وظَهَرَ له إصراره التامّ علي دعوته لله وللإسلام وحُسْن عَرْضها وعَجَزَ تماماً عن الرَّدِّ حَوَّلَ الحوار لمُحاوَلَة التشكيك فيما يدعو إليه لمَنْع الناس من اتّباعه من خلال محاولاته لدَفْع مَن حوله مِن مُعاوِنِيه للسخْرِيَة مِن قوله والاسْتِخْفاف به والتّعَجُّب منه والتّعالِي عليه والتكذيب له.. أيْ قال فرعون لمَن حوله مِن المُعاوِنين له هل تستمعون ما يقوله هذا الرجل مِن قولٍ عجيبٍ غريبٍ سفيهٍ يَدَّعِي فيه وجودَ ربٍّ غيري؟!
ومعني "قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)" أيْ قال موسي مُسْتَمِرَّاً في مزيدٍ من توضيح الحقّ وتأكيده والذي لا يَتَحَمَّل فرعون سماعه لأنه يُزَعْزِع مُلْكَه ويُوقِظ الناس حوله من غفلتهم فيَثورون عليه حيث يَكتشفون زَيْف قوّته التي أوْهَمهم بها ويعودون لله تعالي ربهم الحقيقي ولدينه الإسلام، قال موسي ربّ العالمين هو وحده بلا أيِّ شريكٍ ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وربّ آبائكم الأوَّلِين أيْ السابقين قبل أنْ يُولَد فرعون، فمَن كان ربهم وقتها؟!! وكيف يكون هو ربكم الآن وقد وُلِدَ وخُلِقَ معكم وبَعْدكم ولم يَخْلق شيئا أمامكم؟!! ألاَ تَنْتَبِهون لذلك؟! أين عقولكم؟! ثم كثيرون مِن هؤلاء الآباء والأجداد قد ادّعوا الألوهِيَّة وماتوا وهَلَكوا وسيموت فرعون مِثْلهم كما يموت كلّ بَشَرٍ كما تَرون واقعيا يوميا فكيف يموت الربّ ولمَن يَترك الكوْن والخَلْق بَعْده؟!
ومعني "قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)" أيْ قال فرعون لَمَّا اسْتَشْعَرَ أنَّ موسي (ص) قد ضَيَّقَ عليه بكثرة أدِلّة الحقّ وبَدَأ زَيْفه وخِداعه لمَن حوله يَتَكَشّف تدريجيا فازداد هجوماً وإساءة كعادةِ مَن يَنْهَزِم في الحوار فإنه لا يَتَحاوَر في الفكرة وصوابها وإنما يُسيء لمَن يتكلّم بها، قال إنَّ مَبْعُوثكم الذي بُعِثَ إليكم مجنونٌ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – وإنَّ واللام للتأكيد – أيْ مُخْتَلِطٌ في عقله لا يُدْرِك ما يقول ولا عَقْل له ويقول كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل حيث يَدَّعِي سَفَهَاً وتَخْريفاً وجود ربٍّ غيري!! فلا تُصَدِّقوه إذَن لأنه مجنون!! فالعقل عنده أنْ يكون هو ربّهم لا الله تعالي!!.. هذا، وقوله "رسولكم" يُفيد ضِمْنَاً الاسْتِخْفاف والاسْتِهْزاء به لأنه لا يُصَدِّق أنه رسولٌ أصلاً ويُفيد أنه مُرْسَلٌ لهم لا له حيث هو أكبر مِن أنْ يُرْسَلَ إليه رسولٌ فهو إله!! كما أنه يَسْتَفِزّهم بهذا القول أنه رسولٌ مجنونٌ حتي يَرفضوه ويُقاوموه ويَمْنَعوه مِن نَشْر رسالته وهي عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام لا غيره
ومعني "قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)" أيْ قال موسي مُسْتَمِرَّاً في مزيدٍ من توضيح الحقّ وتأكيده غيرَ مُلْتَفِتٍ ولا مُتَأَثّرٍ بسوءِ حوارِ فرعون ولا مُنْشَغِلٍ بأنْ يَدْفَع عن نفسه ما سَبَّه به من جنونٍ لأنه يعلم كذبه ويعلم أنه يريد إشْغاله وتَعْطيله عن حُسْن توصيل دعوته: ربّ العالمين هو وحده بلا أيِّ شريكٍ ربّ جِهَتَىّ الشروق والغروب للشمس وما بينهما أيْ ربّ كلّ جِهات الأرض وكل الكوْن أيْ مالِكه ومُدَبِّر كل شئونه بكلِّ دِقّةٍ ونظامٍ مُحْكَمٍ مُبْهِرٍ بلا أيِّ خَلَلٍ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أنْ يَتَحَكّم في إدارته غيره، فإنْ كنتَ رَبَّاً يا فرعون كما تَدَّعِي فاثْبِتْ ذلك بأنْ تجعل الشمس مثلا تُشْرِق من المَغْرِب لا المَشْرِق! ثم ربّ العالمين يَمْلِك كلَّ شيءٍ في هذا الكَوْن وإنْ كنتَ أنتَ تَمْلِك شيئاً فأنتَ تَمْلِك مصر فقط والتي هي أيضا مِن مُلْكِه! وفي هذا إبطالٌ تامٌّ لفرعون أنْ يكون ربَّاً!.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)" أيْ إنْ كنتم تعقلون مَا يُقال لكم أدْرَكْتُم حتماً أنَّ هذا لا يَقْدِر عليه إلا ربّ العالمين، وإنْ كنتم تعقلون أيْ تُحْسِنون استخدام عقولكم بتَعَمُّقٍ وبتَدَبُّرٍ وبإنْصافٍ وعَدْلٍ فآمِنُوا به وحده بالتالي إذَن كإثباتٍ أنكم تعقلون، فإنْ لم تكونوا تعقلون فأنتم إذَن حينها مَن يَسْتَحِقّ أنْ يُوصَف بالجنون لا أنا، وفي هذا حَثّ ضِمْنِيّ لهم علي أن يستفيقوا ويُحْسِنوا استخدام عقولهم ليَسعدوا بالداريْن ولا يتعسوا فيهما بإغلاقها.. وهكذا نَوَّعَ موسي (ص) أدِلّته وأساليب دعوته لكى لا يَترك لهم مجالا للترَدُّد فى قبولها
ومعني "قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)" أيْ لَمَّا وَفّقَ الله تعالي موسي (ص) فانتصر علي فرعون في حواره السابق معه وظَهَرَ له إصراره التامّ علي دعوته لله وللإسلام وحُسْن عَرْضها وعَجَزَ تماماً عن الرَّدِّ بَدَأ في استخدام أسلوب التهديد، وهذا هو حال الظالمين المُتَكَبِّرين أصحاب السلطان والنفوذ والقوة حينما يَنْهِزمون فِكْرِيَّاً فإنهم لا يُجيدون مُقابَلَة الفِكْر الذي عند مَن يُخالِفهم بفكرٍ أكثر إقناعاً لمَن يَستمع كما يقول العقل والمَنْطِق ذلك ولكنهم يَنْتَقِلون سريعاً للتهديد باستخدام القوة ضِدَّه كمحاولةٍ للقضاء عليه ومَنْعه مِن نَشْر فِكْره ثم يستخدمونها بالفعل أحياناً أو كثيراً أو حتي دائماً علي حسب الأحوال بما يُحَقّق لهم سلطانهم وسَيْطرتهم ومَكاسبهم.. أيْ قال فرعون لموسي مُهَدِّدَاً إيَّاه إنْ جَعَلْتَ لك مَعْبُودَاً غيري سأجْعَلك حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام والنون للتأكيد – مِن المَسجونين أيْ المَحْبُوسِين مع مَن سَجَنْتُ في سُجُوني التي لا تَعلم مِقْدار سُوئها وعذابها
ومعني "قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)" أيْ قال له موسي بلا خوفٍ مِن تهديده بل بقوّةٍ مع لِينٍ وحِكْمَةٍ مُتَوَكّلاً علي ربه القويّ العزيز لعله يُؤمِن: أتَظَلّ لا تُؤمِن حتي ولو جِئْتُك بشيءٍ مُبِينٍ أيْ أتَيْتُك بدليلٍ واضِحٍ قاطِعٍ مُعْجِزٍ مُبَيِّنٍ لصِدْق مَا أقول؟!
ومعني "قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)" أيْ قال له فرعون إنْ كنتَ مِن الصادقين فيما تقول فأْتِ بهذا الشيء المُبِين.. ولعلّ مُوافقته سببها أنه كان يَتَوَهَّم عَجْز موسي (ص) عن الإتْيان به أو لعلّه كان يأمل في أنْ يَجِد ثَغْرة فيما يَعْرِضه من دليلٍ يُمكنه من خلالها التشكيك في صِدْقه وتَكذيبه وبالتالي لا يُؤمِن به الناس أو لأنه كان مُضطراً حتي لا يَظهر أمام مَن حوله أنه قد خاف مِن دليله أنْ يَهزمه، وكل ذلك بترتيب الله تعالي لتكون كلمته هي العليا
ومعني "فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)"، "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)" أيْ فبِمُجَرَّد أنْ طَلَب منه أنْ يأتي به رَمَيَ موسي عصاه التي يَرْتَكِز عليها فإذا هي فَجْأَة تَتَحَوَّل بقُدْرَة الله تعالي إلي ثعبانٍ واضحٍ يَتَبَيَّن لمَن يراه أنه حقيقيٌّ ضخمٌ يتحرّك وليس وَهْمَاً كما يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم.. "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)" أيْ وأخرج يده من جَيْبه بعد أنْ أدخلها فيه فإذا هي فَجْأة بقُدْرَة الله تعالي شديدة البياض علي غير العادة كأنَّ لها ضياءً للناظرين إليها مِمَّن حوله، فإذا أدخلها فيه مرة أخري عادت لطبيعتها
ومعني "قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)"، "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)" أيْ قال فرعون للزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قال إنَّ هذا أيْ موسي بالتأكيد ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر، قاصداً بذلك إبعاد الناس عن تصديق أنه رسول من عند الله تعالي مُؤَيَّدٌ بمعجزاتٍ منه وعن التفكير في الحقّ الذي جاء به إضافة لتحريض الجميع عليه للتخلّص منه لأنه يُهَدِّد مصالحهم ومناصبهم إذا اتّبعه الناس وأسْلَموا، رغم أنهم في زمنٍ كَثُر فيه السَّحَرَة ويعلمون تمام العلم هم وفرعون أنَّ تَحَوُّل العصا ليس بسحرٍ مُطلقا.. "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِه فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)" أيْ ولم يَكْتَفِ بهذا القول الكاذِب الذي قاله أنَّ موسي ساحرٌ عليمٌ بل بدأ يُثير الناس ضِدَّه ويُخَوِّفهم منه ليَقِفوا فى وجهه ويمنعوه من نشر الإسلام فقال يريد هذا الساحر بسِحْره أن يخرجكم من بلدكم وطنكم ويَنْهَب منكم مُلْككم وسلطانكم علي أرضكم وممتلكاتكم ويكون هو السلطان عليكم يتحكّم فيكم وفي خيراتكم ويَستعبدكم، فماذا تأمرون لتَجَنُّب هذا الخطر الشديد؟ أيْ فما رأيكم وبماذا تُشيرون في أمر التخلّص منه؟ إنَّ هذا هو دائما أسلوب المُسْتَبِدِّين وأعوانهم، الخِداع والقَهْر والقَمْع، ليظلّوا حاكِمين ناهِبين لثروات وجهود الشعوب، لكنَّ الشعوب بلجوئها لربها وتمسّكها وعملها بأخلاق إسلامها وتَوَحّدها وصبرها ومقاومتها تَغْلِب الظالمين دَوْمَاً كما يُثْبِت التاريخ ذلك.. لقد طَلَبَ فرعون الرأى مِمَّن يَعْبدونه وسيقوم بتنفيذ أمرهم ناسياً ألوهِيَّته التي يَدَّعيها والتي مِن المُفْتَرَض أنْ تُغْنيه عنهم وأنْ يُنْهِيَ بها أمر موسي!! وما ذلك إلا بسبب قوَّة مُعْجِزاته (ص) التي يُؤَيِّده الله تعالي بها.. وهكذا يكون حال المُسْتَبِدِّين الطغاة دائماً حيث عندما يَسْتَشْعِرون زوال مُلْكهم يَنْكَسِر اسْتِكْبارهم ويَتَذَلّلون ويَطلبون أيَّ عَوْن!!
ومعني "قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)"، "يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)" أيْ قال الملأ من قوم فرعون مُشِيرين عليه: أخّرْ وأجِّلْ أمره وأمر أخيه الذي يُعاوِنه في دعوته ولا تتعجَّل بالقضاء والبَتِّ في شأنهما وماذا تفعل فيهما وابْعَث خلال فترة تأجيل المُواجَهَة معهما هذه في المدائن، جَمْع مدينة، أيْ في المُدُن كلها، حاشِرين أيْ جامِعين لِيَأْتُوكَ أيْ يَجيئوك بكل سَحَّارٍ أيْ عظيمِ كثيرِ السحْر مُحْتَرَفٍ صاحبِ علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر حتي يكشفوا عن سِحْره ويُبْطِلوه بسحرٍ مِثْله وأشدّ فينكشف أمره أنه ساحرٌ لا رسول ويتّضِح كذبه للجميع فلا يَتّبِع أحدٌ الإسلام الذي يدعوهم إليه.. هذا، وكما في الآية السابقة، فإنَّ طَلَب المَشُورَة وأمْهَر السَّحَرَة يَهْدِم عند كل عاقلٍ فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي لأنه لو كان كذلك لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا استشارةٍ ولا مساعدةٍ من أحد!!.. إنَّ هذا كان مِن تَسْخير الله تعالى لهم في ذلك، لكي يجتمع الناس في وقتٍ واحدٍ فتَظْهَر عليهم مُجْتَمِعين آياته سبحانه وحُجَجُه وبَراهينه
ومعني "فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)" أيْ فبمُجَرَّد بَعْث الحاشِرين في المَدائن تَمَّ جَمْع السحرة لتوقيت يومٍ مَعْروفٍ مَشْهُورٍ مُحَدَّدٍ للجميع (برجاء مراجعة المكان والموعد في الآية (58)، (59) من سورة طه "فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى"، "قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى")
ومعني "وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)"، "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)" أيْ وقال الناس وهم يَحُثّ بعضهم بعضاً على الاجتماع في وقت اليوم المعلوم: هل أنتم مُجْتَمِعون؟ وهو استفهام في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً في هذا المَوْضِع التشجيع والطلب أيْ اجْتَمِعُوا.. "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) أيْ لكي نَسْتَمِرّ علي اتّباع دين السحرة إنْ كانوا هم الغالبين لموسي أيْ المُنْتَصِرين عليه، وفي هذا مزيدٌ من الحَثّ أيْ التحفيز والتشجيع الضِّمْنِيّ علي الاجتماع لتشجيع السحرة ولِحَثّهم علي الاجتهاد في الانتصار علي موسي لكي يستمرّوا علي دينهم أيْ علي عبادة فرعون فهُمْ لم يقولوا لعلّنا نَتّبِع الحقّ سواء جاء من السحرة أم من موسي بما يُفيد ضِمْنَاً إصرارهم المُسْبَق علي مُخَالَفة مَا يدعوهم إليه موسي من عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام لا غيره واستمرارهم علي عبادة فرعون، حيث قولهم "لعلّ" يُفيد رجاءهم وتَمَنّيهم ذلك!
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)"، "قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)" أيْ فلمّا حَضَرَ السحرة قالوا لفرعون هل إنَّ لنا أجراً – وإنَّ واللام للتأكيد – إنْ كنّا نحن المُنتصرين؟! قال بلا تَرَدُّد لشدَّة احتياجه إليهم نعم، لكم أجر ماديّ عظيم لو انتصرتم عليه وآخر معنويّ زائد عن أجركم الذي تطلبونه وهو إنكم ستكونون إذاً أيْ حينئذٍ وبالتالي وكنتيجةٍ لعملكم العظيم بالتأكيد من المُقَرَّبين مِنّا تنتفعون بهذه المَنْزِلَة القريبة لنا من مناصبنا وخيراتنا وإحساناتنا عليكم، وهذا لمزيدٍ من تشجيعهم ليبذلوا أقصي طاقاتهم ومهاراتهم لمواجهة موسي (ص).. إنها صفقة تبادل منافع وتعاون ضدّ الإسلام لمنع انتشاره!! وهي صفقات تَحْدُث في كل عصرٍ حيث يتعاون أهل الباطل ضد أهل الحقّ والذين هم حتماً المنتصرون بتأييد الله تعالي لهم كما يُثْبِت الواقع ذلك دائما.. إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين – كالآيات السابقة – تَدُلّان علي مزيدٍ من هَدْم فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي عند كل عاقلٍ لأنه ظَهَرَ ضعيفاً مُحتاجاً للسحرة فلو كان ربّاً لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا مساعدةٍ!! كما تُظْهِران أنّ السحرة يعلمون تماماً أنه ليس بربهم ولكنهم يُسَايِرونه خوفاً من بَطْشه بهم وانتفاعاً منه وأنهم كاذبون دَجَّالون إذ لو كان سِحْرهم حقيقياً يُغَيِّر الأشياء حقيقة لحَوَّلوا مثلاً التراب ذهباً ولَمَا احتاجوا أجراً منه بل ولَنَقَلوا مُلْكه إليهم وأصبحوا هم الملوك وهو عَبْدهم!!
ومعني "قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)" أيْ قال لهم موسي مُتَحَدِّيَاً مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم ألقوا وارْمُوا وهاتوا ما أنتم مُلْقُون أيْ ما تريدون إلقاءه من كل أنواع سِحْرِكم ليَرَىَ الناس خِداعكم لهم وليُمَيِّزوا بين الحقّ الذي معي والباطل الذي أنتم عليه.. لقد طَلَبَ منهم، بتوفيقٍ وتَيْسيرٍ من الله تعالي، أن يبدأوا هم أولا بإلقاء ما معهم من صور السحر المختلفة حتي يكون تأثيره أقوي علي الناس حينما يُلْقي هو عصاه في النهاية فتَبْتَلِع كل أسحارهم
ومعني "فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)" أيْ فسارَعُوا بأنْ ألْقُوا حِبالهم وعِصِّيهم التي بأيديهم وتُسْتَخْدَم في سِحْرهم، وخُيِّلَ للناس أنها حَيَّاتٌ تَسْعَىَ كما ذُكِرَ في الآية (66) من سورة طه "قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وقالوا حالِفِين بعِزَّة فرعون أي بقُدْرَته وقوَّته إنا لنحن الغالِبُون أيْ المُنْتَصِرون حتماً لا موسي.. إنهم يَبْدأون بالتسمية بقُدْرَة فرعون واسْتِجْلاب العَوْن والبركة بذِكْر اسمه!! كما يفعل المسلمون حينما يبدأون أعمالهم باسم الله تعالي القادر علي كل شيءٍ ليُيَسِّرها ويُبارِكها لهم أيْ يزيدها تَوْفيقاً وتَيْسِيرَاً وصَوَابَاً وخيراً وسعادة! وما داموا قد سَمُّوا بعِزَّة فرعون فهُمْ إذَن حتماً الغالِبون علي أيِّ مُنافِسٍ لهم لأنه العزيز أيْ القويّ الغالِب الذي إرادته لا تُغْلَب لأنه الإلاه!!
ومعني "فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)" أيْ فسارَعَ موسي بوَحْيٍ من الله تعالي العزيز بحقّ القادر علي كلِّ شيءٍ مُتَوَكّلَاً عليه بأنْ رَمَيَ عصاه فإذا هي فجأة تَنْقَلِب حَيَّة عظيمة تَبْتَلِع بسرعةٍ ما يفعلون من إفكٍ أيْ كذب، لأنَّ السحر ما هو إلا بعض حركات خفيفة سريعة يقوم بها الساحر بعد أن يتدرَّب عليها يمكنه بها أن يُحْدِث بعض تَهَيُّئات عقلية كاذبة ليست حقيقية فيمَن يشاهده ويخدعه بها وليس أكثر من ذلك.. وفي هذا بيانٌ أنَّ أيَّ إفكٍ يُخيف الناس يَسقط دائما سريعا أمام الحقّ بقُدْرة الله تعالي القادر علي كل شيء، وأنه سبحانه هكذا دوْمَاً يُثَبِّت الصالحين الدعاة لله وللإسلام في كل مواقف حياتهم ما داموا دائمي التواصُل معه والتوكّل عليه
ومعني "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)"، "قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)"، "رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)" أيْ فأُسْقِطَ السَّحَرَة ساجدين سريعاً لله تعالي علي جباههم بلا أيِّ تَرَدُّدٍ لأنهم علموا أنَّ مَا حَدَثَ ليس سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنه حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْ ذلك، ولفظ "أُلْقِيَ" يُفيد كأنَّ أحداً قد ألقاهم وهو الحقّ المُبْهِر الذي حَدَثَ أمامهم والذي أيقظ إيمانهم الفِطْريّ بعقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) بأنْ أزالَ الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهكذا سيكون حال كل مَن ابتعد عن الله والإسلام إذا أزاحَ هذه الأغشية بأنْ أحسنَ استخدام عقله وعادَ لنداء الفطرة بداخله فإنه لابُدَّ أن يهتدي لربه ولدينه وأن يسعد بذلك تمام السعادة في الداريْن.. لقد سَجَدوا قائلين آمَنّا أيْ صَدَّقنا بربّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، وقولهم هذا يعني أنَّ فرعون ليس هو ربهم الأعلي كما يَدَّعِي سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً وإنما عليه هو أيضا أن يؤمن برب العالمين الحقيقيّ ويتّبع دينه سبحانه.. ثم قالوا بعدها واصِفِين مُحَدِّدِين إيَّاه بأنه هو ربّ موسي وهارون كمزيدٍ من التوضيح والتأكيد علي إيمانهم بالله تعالي حتي لا يَتَوَهَّم فرعون أو غيره أنهم يؤمنون به أو هم قد سجدوا له حيث هو يعتبر نفسه ربّ العالمين!!
ومعني "قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)" أيْ حينها اشْتَدّ غضب وغَيْظ الطاغية المُسْتَبِدّ فرعون حيث ظهرت هزيمته التامّة أمام الناس الذين يَتَوَهَّمون أنه ربهم وكان يَخدعهم دائما بذلك فانكشف أمره وضعفه بل وذِلّته، فأراد أن يُعَوِّض هذا النقص الذي أصابه بإلقاء التشكيكات والتهديدات!! لقد أصابه الخوف علي مُلْكِه، إذ كيف يؤمنون بربٍّ غيره ثم بعدها لا يعتبرونه مَلِكَاً عليهم ويُزيحونه ويأتون بغيره؟! لقد صُدِمَ بهذا صَدْمَة شديدة لأنه اعتاد أنَّ الجميع عبيدٌ له لا يتحرّكون ولا حتي يفكّرون إلا فيما يأمرهم ويأذن ويسمح لهم أن يتحرّكوا أو يفكّروا فيه!! إنَّ هذا هو دائما حال المُسْتَبِدِّين المُستكبرين، إنهم ما يزدادون بالآيات الواضحات إلا عناداً ومحاربة لله وللإسلام وللدعاة إليهما، من أجل الحفاظ علي مُلْكهم حتي لا يضيع لأنه لو أسلم الناس وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لن يستطيع خداعهم ونهب خيراتهم وثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام يُعَلّمهم حفظ حقوقهم والآخرين والدفاع عنها وحُسن اختيار رؤسائهم وأن يكون أمرهم شوري بينهم دائما في كل شئون حياتهم لا بأمر واحدٍ فقط هو حاكم عليهم بالقوة يَظلمهم ويذلّهم ويَسرقهم.. لقد قال لهم رافضاً فِعْلهم ذامَّاً مُهَدِّدَاً هل آمنتم له أيْ صَدَّقتم لموسي فى دعوته لعبادة الله وحده واتّباع الإسلام وانْقَدْتُم له قبل أن أعطيكم الإذْنَ بذلك؟!.. والاستفهام للذمِّ وللرَّفْض وللتهديد الشديد.. ".. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.." أيْ إنَّ موسي بالتأكيد أستاذكم ورئيسكم الذي عَلّمكم فنون السِّحْر وأنتم تلامذته – واللام للتأكيد – فلذلك هَزَمَكم ولذلك اتّبَعْتموه فهو لم يَغْلِبكم لأنه علي الحقّ ومُؤَيَّد مِن ربّه وإنّما لمَهَارَته حيث هو مُعَلّمكم ولأنكم من أتباعه أصْلَاً فاتّفَقْتم جميعاً علي هزيمتي بما فَعْلتم ضِدِّي وأعلنتم إيمانكم به، فليس ما فَعَله مُعْجِزَة كما تَوَهَّمْتم وهو ليس علي حقّ وإنما هو ساحِرٌ كبيرٌ ماهِرٌ أستاذٌ في السِّحْر!.. إنَّ مقصوده مِن هذا القول إبْعاد الناس عن الاقتداء بهم بالإيمان مِثْلهم، والظهور أمام قومه بمَظْهَر الثبات والتّماسُك بعد أن غَمَرَه وغَمَرَهم الخوف مِمَّا رأوه من مُعْجِزَةٍ عظيمةٍ، حيث هو والجميع يعلمون كذب قوله هذا لأنهم لم يَتَعَلّموا من موسى (ص) ولا كان أبداً أستاذاً لهم ولا بينه وبينهم أيّ صِلَةٍ بل كانوا هم أساتذة في السحر قبل حتي ولادة موسي!.. إنَّ هذا دائما هو أسلوب المُسْتَبِدِّين حينما يرون وَعْي الناس يزداد وقد يتمسّكون ويعملون بأخلاق إسلامهم ويطالبون بحقوقهم يبدأون في خداعهم وتصوير أنَّ ما يحدث من ظهور الحقّ وانتشاره ما هو إلا مؤامرة عليهم!! فالمُستبدون من أنْزَه الناس الزاهدين في المُلْك ولا يريدون إلا مصلحتهم وخدمتهم وحفظ استقرارهم واستقلالهم وممتلكاتهم!! وأيّ استقرارٍ واستقلال وأملاك يقصدونها مع كل هذا الاستعباد والذلّ والفقر الذي أوجدوهم فيه بسبب سوء حُكْمهم واستبدادهم وظلمهم؟! إنه أسلوب خبيث لمَنْعهم من اتّباع الإسلام وعليهم أن ينتبهوا له.. لكنَّ البعض مِن شدّة خوفهم ومن طول اعتيادهم وتربيتهم علي الذلّة يُصَدِّقون ذلك! بل والبعض من أصحاب المصالح الفاسدة المُقَرَّبين للمُستبدين الخائفين أيضا علي مصالحهم يُهَلّلون لهم ويساعدونهم ويشكرونهم!!.. ".. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.." أيْ فبالتالي إذَن سوف – واللام للتأكيد – تَرَوْن ما سأفعل بكم نتيجة لِمَا فَعَلْتم من سوء.. فهو كعادة الجَبَابِرَة يُهَدِّدهم بعذابٍ شديدٍ مُتَنَوِّعٍ سيُوقعه عليهم لمُخالَفتهم إيّاه.. ".. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)" أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما هَدَّدَهم بأنْ يُريهم إيّاه.. أيْ سأُقَطّع أيديكم وأرجلكم – واللام والنون للتأكيد – أيها السحرة من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن أيْ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو اليد اليسرى والرجل اليمنى ولأعلّقنَّكم جميعاً أي كل واحدٍ منكم فلا أترك أيَّ أحدٍ على أخشابٍ علي شكل صليبٍ وأنتم علي هذه الحالة الفظيعة سواء كنتم أحياءً حتي تموتوا أو بعد موتكم لتكونوا عِبْرَة لمَن تُحَدِّثه نفسه بالكَيْد لنا أو بالخروج على حُكْمِنا وعبادتنا والإيمان بربّ موسي وهارون، بما يدلّ علي شدّة ظلمه وتَكَبُّره وقسوته مع أبرياء مثلهم لم يرتكبوا أيّ جريمة إلا إيمانهم بربهم خالقهم.. هذا، وعند بعض العلماء أنّ الله تعالي قد نَجّاهم منه بزرع الرَّهْبة في داخله وانشغاله عنهم وذلك لقوله تعالي في آية أخري ".. فَلَاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" (القصص:35)
ومعني "قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)"، "إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا فاجَأ به السَّحَرَةُ فرعونَ مِمَّا لم يَكُن يَتَوَقّعه، إذ كان يَتَوَهَّم أنهم سيَتَراجَعون أمام تهديده الشديد، ولكنه لا يعلم أنَّ المسلمين أصحاب النوايا الصادقة الذين يريدون التّمسُّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم حينما يَصِل الأمر بهم وتَصِل الأحوال حولهم للاختيار بين ربهم ودينهم الإسلام وبين الحياة كلها فإنهم يَسَتَهِينون بها ويَختارون الموت شهداء في سبيلهما ليُلاقوا ربهم مُعَزَّزِين مُكَرَّمِين في الحياة الآخرة الدائمة الخالدة في أعلي درجات جناتها مع النبيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً حيث السعادة التامَّة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. أيْ قالوا له بكلّ عِزَّةٍ وقوّةٍ وثِقَةٍ بربهم ودينهم وتَمَسُّكٍ بهما وبكلّ حَسْمٍ وقَطْعٍ لأيِّ أمَلٍ له في تَرْك إيمانهم بالله والعَوْدَة لعبادته: لا ضَيْر أيْ لا ضَرَرَ علينا مِمَّا ستَفعله بنا من تَقْطيعك وتَصْليبك وقَتْلك لنا لأننا إلي ربنا مُنْقَلِبون أيْ راجِعون حيث سيُعطينا أجرنا العظيم علي صَبْرِنا علي ذلك وعلي أنْ قابَلْناه مؤمنين لا كافرين شهداء سعداء صابرين مُقْدِمِين غير مُتَرَاجِعين خائفين فهو أمرٌ يَسُرُّنا لا يَضُرُّنا وقد عَجَّلْتَ لنا به! وكلنا سنموت علي أيِّ حالٍ فإذا متْنا علي الشهادة فسيكون هذا هو أعظم أمانينا! إنَّ ضَرَرك بالنسبة لعظيم نَعيم ربنا في جناته في الآخرة لا قيمة له وإننا سنَصْبِر علي عذابك سواء قتلتنا أم لم تقتلنا فإنه ألمُ ساعةٍ وسيَنْقَضِي حتماً ليكون لنا عظيم الأجر والنفع في الدنيا والآخرة حيث سنَستفيد قوة إرادةٍ تُعيننا علي أنْ نَنْطَلِق في الحياة نستكشفها فتَنْتَفِع ونَسْعَد بخيراتها (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. لقد نَطَقَت فطرة العقل، فطرة الإيمان بداخل هذا العقل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لمَّا رأيَ السحرة الحقّ واستفاقوا، فأحسنوا استخدام عقولهم، قالوا كأفضل مؤمنٍ ثابتٍ يقف في وجه الباطل والظلم ما استطاع ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كَتَبَ الله له، وأنّ الأمر في سبيل الله، وله أجره العظيم علي إحدي الحُسْنَيَيْن، إمّا النصر وإمّا الشهادة، قالوا لفرعون ومَن حوله إنا إلي ربنا مُنْقَلِبون أيْ راجعون، إلي نعيمه وجنته ورحمته التامّة وذلك أفضل قطعاً مِن إذْلالك وظلمك.. إنهم بذلك يُعْلِنون أنهم مُستعدّون لكل شيءٍ ولا يخافون الموت لأنه استشهاد في سبيل الله ولا يخافون فرعون وما يَصْدُر عنه بل يَسْتَهينون به، وذلك لأنهم يَطْمَعُون في تحصيل ما عند ربهم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)" أيْ لا ضّيْر لأنّا إلي ربنا مُنْقَلِبون ولأنّا نطمع أيْ نَأْمَل ونَرْجُو ونَحْرِص حِرْصَاً شديداً ونَرْغَب رَغْبَة كبيرة في أنْ يغفر لنا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – خطايانا قبل إيماننا، والخطايا جَمْع خطيئة وهي الذنب العظيم، وهي عبادتك لا عبادته وخِداع الناس بالسحر لدَفْعِهم لذلك وغير ذلك من ذنوب، أيْ يُسامِحنا فلا يُعاقِبنا عليها ويَمْحوها كأنْ لم تكن ويَمْحُو عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، وهذا الطمع في مَغْفِرَة الخطايا بسبب أنْ كنّا نحن أوَّل المؤمنين من قومك بربِّ العالمين ربِّ موسي وهارون وبالحقّ الذي جاءا به
ومعني "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)" أيْ وأبْلَغْنَا موسي عن طريق الوَحْي، بعد اسْتِكْبار فرعون علي الاستجابة له بعبادتنا وبإرسال بني إسرائيل معه ليخرجوا من بلاده التي يحكمها وهي مصر إلي بلاد الشام ليكونوا أحرارا ليعبدونا، رغم إحسان دعوته لفترات، أوْحَيْنا إليه أنْ أَسْرِ بعبادي أيْ سِرْ ليلاً بِمَن آمَنَ معك سواء من قومك بني إسرائيل أو غيرهم حين ينام أعداؤكم حتي لا يروكم كنوعٍ من الحَذَر وحُسْن اتّخاذ أسباب النجاة وإجراءاتها، ويَنْسِبهم سبحانه إليه أنهم عباده تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره.. ".. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)" أيْ لأنّكم مُتّبَعُون أيْ لأنَّ فرعون وجنوده سيَتّبِعُونكم يريدون اللحاق بكم وإيذاءكم، أيْ نَبَّهْناه وحَذّرناه ومَن معه أنهم مُتّبَعُون حتي لا يُفاجَأوا وليأخذوا حِذْرهم ويُحسِنوا التصرّف ولا يَتَلَكَّأوا
ومعني "فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)"، "إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)"، "وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)"، "وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)" أيْ فلمَّا عَلِمَ فرعون بخروج موسى ومعه بنو إسرائيل سارَعَ فأرْسَلَ أيْ فبَعَثَ في المَدائن، جَمْع مدينة، أيْ في المُدُن كلها، حاشِرين أيْ جامِعين لكي يَجْمَعوا له الجنود للقضاء علي المؤمنين.. "إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)" أيْ قال فرعون مُقَلّلَاً مُحَقّرَاً من شأن بني إسرائيل المؤمنين مُحاوِلَاً تَثْبيت نفسه وجنوده وتَحْفِيزهم وإثارتهم علي مُتابَعَتهم وعِقابهم وقَتْلهم: إنَّ هؤلاء الذين خرجوا بغير إذني وإذنكم شرذمة – واللام للتأكيد – أيْ مجموعة من الناس، وتُطْلَق الشرذمة كثيراً علي المجموعة الفَوْضَوِيَّة الخَسِيسَة الحَقِيرَة، قليلون في العَدَد والعُدَّة، وهذا مزيدٌ من تأكيد ضعفهم وحَقارتهم.. "وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)" أيْ وإنهم فاعِلون مَا يَغيظ لنا – واللام للتأكيد – والغَيْظ هو شدّة الغضب والألم والعَداء والكُرْه المُخْتَلِط بإرادة الانتقام، بسبب خروجهم بغير إذننا ومُخالَفتهم ديننا وعبادتهم غيرنا.. "وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)" أيْ ونحن كلنا – واللام للتأكيد – فاعِلُون الحَذَرَ دائماً أيْ الاحْتِياط والاحْتِراس والاسْتِعْداد واليَقظة بشِدَّة دَوْمَاً نحوهم حتي لا ينشروا دينهم الإسلام لغيرهم، فإذا خَرَجَ عن طاعتنا أحدٌ سارَعنا بِرَدِّه إليها فلْنُسْرِع إذَن بمُلاحَقَتهم ورَدّهم لطاعتنا.. إنَّ كلَّ هذه أعْذارٌ يَتَحَجَّج بها فرعون أمام قومه حتي لا يُظَنّ به أنَّ سلطانه وطغيانه قد انْكَسَر وانْهَزَم لكن كل كلامه هذا يُفيد ضِمْنَاً خوفه من موسي والمؤمنين ويُثْبِت ضَعْفه وأنه قطعاً ليس بإلاهٍ وضَعْف الباطل مهما ظَهَرَ حَجْمه كبيراً قوياً أمام الحقِّ مهما ظَهَر صغيراً ضعيفاً لأنه يُؤَيِّده مالِك المُلْك سبحانه القادر علي كل شيءٍ والذي لا يَعلم أحدٌ جنوده إلا هو
ومعني "فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)"، "وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)"، "كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)" أيْ فبسبب مَا سَبَقَ ذِكْره أخرج الله فرعون وجنوده وقومه – حيث أوْهَمَهم بأنهم سيَنتصرون حتماً علي شِرْذِمَةٍ قليلين وذلك لكي يَسْتَدْرِجهم لِيُهْلِكهم بقُدْرَتِه بسبب تكذيبهم وسُوئهم – من بساتين وحدائق مُخْضَرَّة كثيرة الثمرات والخيرات وعيون وينابيع يخرج منها الماء العذب الجاري الوفير، ومن كنوزٍ أيْ ومن ذهب وفضة وأموال كانوا يَكْنِزونها أيْ يَدَّخِرونها، ومن مقامٍ كريمٍ أي ومن أماكن القيام والتجمّع والتسوّق والتسامُر والاحتفال والمنازل والمساكن التي يُقيمون فيها وكانت كريمة نفيسة فخمة أنيقة مُزَيَّنَة بالزينات والزخارف.. "كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)" أيْ هكذا دائما وبمِثْل ذلك العقاب وما يُشبهه وبدرجاتٍ مُتعدِّدة وبصُورٍ مختلفة يُعاقِب الله كلّ مَن كذَّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وأصَرَّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يُحسن استخدام نِعَمه في الخير بل استخدمها في كلّ شرّ، هكذا يُعاقبهم بما يُناسب وعلي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وهكذا يُوَرِّث ويُحَوِّل ما كانوا فيه مِن نِعَمٍ إلي غيرهم مِمَّن يستحِقّونها مِن العابدين له وحده بلا أيّ شريكٍ المُتَمَسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم ليتصرّفوا فيها بالخير كما يشاؤون كالميراث الخالص لهم .. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ ولا يتشبّه بهم حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه.. ".. وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)" أيْ هكذا أخْرَجْناهم من كل ذلك كما وَصَفْنَا لكم، أيْ كان إخْراجنا كذلك أيْ على تلك الصورة، وأورثنا بفضلنا وكرمنا ورحمتنا هذه الجنات والعيون والكنوز والمقامات الكريمة لبنى إسرائيل بعدما كانوا مُحتاجين مَذْلولين، بعد إهلاك فرعون وقومه بإغراقهم في البحر حيث أَعَدْناهم لمصر بعدها لفترةٍ قبل ذهابهم للشام، ليَتَصَرَّفوا فيها بالخير كما يشاؤون كالميراث الخالص لهم كما يمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا
ومعني "فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)" أيْ فأخرجنا فرعون وجنوده فساروا مُسْرِعين خَلْفَ موسي وبني إسرائيل فلَحقوهم وهم داخِلين في وقت ظهور شُرُوق الشمس في الصباح، من أجل إعادتهم لسُلْطَة فرعون وعِقابهم وحتي قَتْلهم ومعني "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)" أيْ فلمَّا تَقَارَبَ جَمْعُ موسي وقومه، وجَمْعُ فرعون وجنوده، بحيث صارَ كلّ تَجَمُّعٍ يَرَيَ الآخر رؤية واضحة، قال المُصَاحِبُون لموسي (ص) وهم بنو إسرائيل خائفين مِمَّا سيَحْدُث لهم إنّا أيْ نحن مُدْرَكُون منهم حتماً – واللام للتأكيد – أيْ مُلْحَقُون منهم أيْ سيَلْحَقوننا فيَقتلوننا ولا قُدْرَة لنا عليهم
ومعني "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)" أيْ قال موسي (ص) رَدَّاً عليهم برَدٍّ حاسِمٍ واضِحٍ بكل ثَباتٍ وثقةٍ واطمئنانٍ بعَوْن الله ونَصْره وبكل تَوَكّلٍ عليه وبلا أيِّ تَرَدُّدٍ لتمام طَمْأنتهم وتَسْليتهم وإزالة أيِّ خوفٍ منهم: لا، ليس الأمر كذلك كما تظنّون، لا تَخافوا أنْ تُدْرَكُوا – واستخدام لفظ "كلا" والذي يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ هو لمزيدٍ من تأكيد الطمْأنَة والتسْلِيَة – لأنَّ معي ربّي وربّنا جميعا بقُدْرَته وعِلْمه ورعايته وحِفْظه ونَصْره – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – سيَهْدِيني أيْ سَيُرْشِدني ويُوصِلني إلي أفضل طريقٍ لِنَجاتنا.. وهكذا دائماً يكون حال المؤمن المُتَمَسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه مُتَوَكّلَاً علي الله تعالي واثِقَاً تماماً بنَصْره في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التّوَكُّل وفوائده وسعاداته في الداريْن)
ومعني "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)"، "وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64)"، "وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)"، "ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66)" أيْ فسارَعْنَا فأبْلَغْنَا موسي عن طريق الوَحْي أن اخْبِط بعصاك البحر الذي كان أمامهم يمنعهم من استكمال سَيْرِهم بينما فرعون بجنوده خَلْفهم يُحاصِرهم، وهو البحر الأحمر أو نهر النيل، فضَرَبَه فانْفَلَق بسرعةٍ بسبب ضَرْبه، بقُدْرة الله وفضله وكرمه ورحمته، أيْ فانْشَقّ وانْقَسَم إلي فِرْقَيْن أيْ قِسْمَيْن فكان كلّ فِرْقٍ أيْ قِسْمٍ كالطود أيْ كالجبل العالي العظيم أيْ الضخم، وهذه مُعْجِزَةٌ عظيمة مُبْهِرَةٌ لا تكون إلا من الله تعالي الخالِق القادر علي كل شيءٍ وقد أحْدَثَها سبحانه للمؤمنين ليَنْصرهم ويعزّهم بها علي أعدائهم.. "وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64)" أيْ وقرَّبنا هناك في ذلك المكان حيث انْفَلق البحر القوم الآخرين أيْ فرعون وجنوده، والمقصود وقَرَّبناهم إلي البحر لكي يدخلوا بعد خروج ونجاة بني إسرائيل لكي نُطْبِقه عليهم لنُغْرقهم جميعا.. "وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)" أيْ وأنقذنا موسي ومَن معه أجمعين مِن المؤمنين، مِن الغَرَق ومِن لِحاقِ فرعون بهم وإيذائه لهم، بقُدْرَتنا ورَحَمَاتنا ورعاياتنا ومَعُوناتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وذلك بانْفلاق البحر وبحِفْظ كلّ فِلْقٍ منه مُتَمَاسِكَاً وبالطريق بينهما مُمَهَّدَاً يابِسَاً حتى تَمَّ واكْتَمَلَ عبورهم جميعاً بسلامٍ وأمان.. "ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66)" أيْ ثم بعد أنْ أنْجَيْنا موسي ومَن معه أجمعين أغرقنا الآخرين وهم فرعون وجنوده أجمعين بأنْ أطْبَقْنَا عليهم كل فِلْقٍ مِن ماء البحر بعدما دخلوا فيه مُتَّبِعين لموسي والمؤمنين مُتَوَهِّمِين أنهم سيَمُرُّون آمِنين مِثْلهم
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم إبراهيم (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة البقرة وهود وإبراهيم والأنبياء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)"، "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)" أيْ وكذلك اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ رسولنا الكريم إبراهيم لينتفعوا بما فيه من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما، حين قال لأبيه وقومه مَا تَعْبُدون أيْ أيّ شيءٍ تَعبدونه؟! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، والسؤال للاسْتِفْسار ولفَتْح مجالٍ للحوار معهم ودعوتهم لخير الإسلام وسعادته في الداريْن، لأنه كان يَعلم ويَرَيَ أنهم يعبدون الأصنام، كما أنه سؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يَعْبُد غير الله تعالي ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)" أيْ قالوا نعبد أصناماً فنَبْقَيَ عاكِفين لها أيْ مُقِيمين مُلازِمِين مُسْتَمِرِّين مُداوِمين مُواظِبين لعبادتها، وصِيغَة إجابتهم تَحْمِل ضِمْنَاً تعظيماً لها وافتخاراً وابتهاجاً وأنْسَاً بعبادتها! رغم أنهم هم الذين صَنَعوا هذه الآلهة المَزْعُومَة بأيديهم!!
ومعني "قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)"، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)" أيْ قال إبراهيم واعِظَاً داعِيَاً لهم للخير مُبَيِّنَاً عدم اسْتِحْقاقها للعبادة مُنَبِّهَاً أنْ يُوقِظوا عقولهم ولا يغْلِقوها: هل تَسمعكم حين تَدْعُونها وتَعبدونها فتُجيبكم وتُعينكم؟! وهل تَنْفعكم بأيِّ نَفْعٍ إذا عَبَدتموها أو تَضُرُّكم بأيِّ ضُرٍّ إذا لم تَعبدوها؟!.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول يسمعونكم وينفعونكم بَدَلَاً عن تَسمع وتَنفع والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. إنَّ قول إبراهيم لهم هذا هو استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن لأنه إذا كانت لا تنفعهم ولا تضرّهم بأيِّ شيءٍ فما معني بالتالي إذَن عبادتهم لها؟!!.. إنه تأكيدٌ منه علي تمام عَجْز مَا يَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنه آلهة تُعْبَد غير الله تعالي.. أيْ بالعقل والمَنْطِق والإنْصاف فإنَّ هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تملك أصلاً أقل أسباب القوة والقُدْرَة علي النفع والضرّ كالأرجل للمشي والأيدي للعمل بقوةٍ والأعين للنظر والآذان للسمع ونحو هذا، فكيف تَرْقَيَ لأنْ تكون آلهة تُحَرِّك الكوْن وتَدَبُّر شئون كلّ الخَلْق؟!! أيُّ سَفَهٍ وانْحِطاطٍ هذا الذي هم فيه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة كتمام القُدْرَة وكمال العلم والسمع والبصر والرزق والنفع والضرَر وغير ذلك بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. هل يعبدون أيْ يُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّهم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعهم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
ومعني "قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)" أيْ قالوا لإبراهيم بمَا يَدُلّ علي أنهم ليس لهم أصلاً أيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ علي ما هم فيه مِن شركٍ وكفرٍ وشرٍّ وغيره، ولكنَّ دليلهم الوحيد هو تقليدهم الأعمي دون أيّ تَعَقّل لآبائهم فى جَهْلِهم وسَفَههم وشِرْكهم وكُفرهم وشرّهم حيث قالوا له وهو يدعوهم لعبادة الله تعالي وحده قولاً سَفِيهاً يدلّ بالفِعْل علي تعطيلهم لعقولهم: لا يَسمعون ولا يَنْفعون ولا يَضُرُّون فنحن نعترف بذلك لكنْ وجدنا آباءنا هكذا يفعلون حيث يعبدونها فيَظَلّوا لها عاكفين ففَعَلْنا كَفِعْلِهم!!.. لقد وجدناهم وأجدادنا السابقين على عبادة هذه الآلهة كالأصنام وغيرها، وإنّا على آثارهم مُهتدون أيْ علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم.. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حجّة أو دليل!!.. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريق هو ذاهِب!! لقد أجابوا إجابة سَفِيهَة تَدُلّ علي تعطيلهم التّامّ لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (170) من سورة البقرة "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)"، "أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)"، "فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، كما أنه لإعلان البراءة التامَّة مِمَّا يعبدونه مِن أيِّ آلهةٍ غير الله تعالي والعَدَاوَة الدائمة له.. أيْ قال إبراهيم لهم لعلّ قوله هذا يكون فيه المزيد من إيقاظهم: وهل نَظَرْتُم وتأمَّلتم فرأيتم وعَلِمْتُم يا قومِ أيّ شيءٍ تستمرّون تعبدونه أنتم وآباؤكم الأقدمون أيْ الأوّلون أيْ السابقون قبلكم أَهُوَ أهْلٌ لأنْ يُعْبَدَ أم لا؟! لو نَظَرْتُم وتَأمَّلْتُم بتَدَبُّرٍ لَعَلِمْتُم مُؤكّدَاً أنكم في ضلالٍ مُبينٍ أيْ في ضياعٍ واضحٍ أيْ في خطأٍ وابتعادٍ عن طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة حيث تَرَكتم عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام ففَعَلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم، والباطل لا يُمكن أبداً أنْ يَتَحَوَّل ليكون حقّاً بفِعْل الآباء أو الأجداد أو أيّ أحدٍ مهما كان وإنَّ القِدَم ليس دليلاً على صِحَّة الأمر ولا يَنْقَلِب به الباطل حقاً، ولذلك وبالتالي إذَن "فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)" أيْ فإنَّ هذه الآلهة كلها عَدُوٌّ لي أيْ ضِدِّي، وأنا عَدُوٌّ لها أيْ ضِدَّها ولن أرْضَيَ بها ولن أوافق عليها وسأقاومها ما استطعت، واعلموا أنها أيضا عَدُوٌّ لكم ولكلِّ مَن يَعبدها حيث سيَتَضَرَّر بعبادتها كما يَتَضَرَّر الإنسان من عَدُوِّه لأنها ستأخذه لكلِّ ضلالٍ أيْ ضَياعٍ أيْ شَرٍّ وتعاسة في دنياه وأخراه، إلا ربَّ العالمين أيْ لكنْ ربّ العالمين أيْ ربي وربكم ورب الخَلْق جميعا الخالق الرازق القادر علي كل شيء الودود الرحيم ليس عدواً لي ولا لكم ولا للناس كلهم بل هو مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، ولذا فأنا أعبده وحده بلا أيِّ شريكٍ وأتَوَكّل عليه فهو وَكِيلي وحافِظي وناصِري في دنياي وأخراي، فاعبدوه تسعدوا بالداريْن
ومعني "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)" أيْ هذا بيانٌ لبعض صفات الكمال الحُسْنَيَ لربِّ العالَمِين لعلّ هذا يكون فيه المزيد من إيقاظهم ليعلموا أنه تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك.. أيْ هو وحده لا غيره الذي أوْجَدَنِي من عدمٍ بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أحسن تقويمٍ أيْ في أكمل وأفضل تقديرٍ وشَكْلٍ وصُورةٍ مُتَّصِفَاً بأجمل ما يكون من الصفات الجسدية والنفسية سَوِيَّاً أيْ سليما خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق كل مَنافعي وسعاداتي، فهو يَهْدِين أيْ وهو بالتالي وحده الذي يهديني أيْ يرْشِدني ويُوصلَني من خلال دينه الإسلام لكل ما يُصْلِحني ويُكْملني ويُسعدني في دنياي وأخراي
ومعني "وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)" أيْ وهو سبحانه وحده الذى يُطعمنى ويَسقينى من فضله وكرمه ورحمته بمَا أنْعَمَ عليَّ ورزقني من كل أطعمةٍ وأشربةٍ مُفيدَةٍ مُسْعِدَةٍ لا تُحْصَيَ بمَا سَخّرَ ويَسَّرَ من أسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ يَصْعُب حَصْرَها وأقْدَرَنِي علي تناولها والانتفاع والسعادة بها حِفْظَاً لحياتي وإسعاداً لها ولو شاء لَمَنَعَ عَنّى ذلك
ومعني "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)" أيْ وإذا مَرِضْتُ بمَرَضٍ مَا بسببٍ من الأسباب، وتَأَدُّبَاً مع الخالق الكريم لم يَقُلْ والذي هو يُمْرِضني ويشْفِيني علي سياق الآية السابقة، ولأنَّه في معظم الأحيان، إنْ لم يكن كلها، يكون الإنسان هو سبب مَرَضِه بسوء تَعامُله مع الصحة والتغذية والوقاية ونحو هذا، فهو يَشْفينِ أيْ فهو وحده القادر علي أن يعْفيني من خلال خَلْق الدواء وتَيْسير اسْتِجابَة جَسَدِي له ولولا ذلك لَمَا شُفِيَ أحدٌ، فقد نَسَبَ المَرَضَ إلى نفسه ونَسَبَ الشفاء إلى الله رغم أنَّ كليهما منه سبحانه وذلك لرعايةً الأدب معه ولشكره علي نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ والتي المرض بالنسبة لها لا يَكادُ يُذْكَر والذي هو اختبارٌ يستفيد منه في الداريْن مَن يَصْبِر عليه
ومعني "وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)" أيْ والذي وحده لا غيره سبحانه بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه يُميتني عند نهاية أجلي في الدنيا دون اختياري كما ترون أمواتا منكم يَقبض أرواحهم أيضا في كل لحظة، ثم يُحْيِيني مرة ثانية بجسدي وروحي بعد كوْني ترابا يوم القيامة حيث الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلوا فيكون للمُحْسِن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم؟! لا يَقْدِر علي ذلك أحدٌ غيره.. هذا، ولم يقُل في هذه الآية الكريمة لفظ "هو" كما سَبَقَ والذي يَدُلّ علي حَصْر الأمر علي الله تعالي وحده لأنَّ خَلْق الروح والتصَرُّف فيها أمرٌ مَعْلُومٌ أنه مُعْجِزٌ لا يستطيعه أحد.. فأحسنوا بالتالي الاستعداد ليوم الحساب ذلك بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)" أيْ والذي أَأْمَلُ وأرْجُو وأحْرِصُ حِرْصَاً شديداً وأرْغَبُ رَغْبَة كبيرة في أنْ يغفر لي ذنبي يوم الدين أيْ يوم الحساب والجزاء، يوم القيامة، أيْ اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن، دين الإسلام، لمَن كان عمل به، أيْ يُسامِحني فلا يُعاقِبني عليه ويَمْحوه كأنْ لم يكن ويَمْحُو عنّي آثاره المُتْعِسَة في الداريْن برحمته الواسعة التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ فهو أرْحَم الراحمين وخَيْر الغافِرين.. هذا، والخطيئة أيْ الذنب العظيم في حقِّ إبراهيم وحقِّ جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – وهم المَعْصُومُون مِن أيِّ خطأ – هو ما يَظنّه تقصيراً في فِعْلِ خَيْرٍ أكثر كان عليه فِعْله ولم يَفْعَله، وفي ذلك قُدْوَة لكلِّ مسلمٍ مِن بَعْدِهم لأنْ يَتَشَبَّه بهم في الحِرْص الشديد علي فِعْل كلّ خيرٍ مُمْكِنٍ مع سرعة الاستغفار مِن أيِّ شَرٍّ لو فُرِضَ وفَعَله سواء صَغُر أم كَبُر حتي يَصِلَ إلي مِثْل درجتهم ما أمكن حيث تمام السعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)" أيْ قال إبراهيم داعِيَاً ربه سائلاً إيَّاه أنْ يُعطيه ما يُحَقّق به سعادَتَيّ الدنيا والآخرة مُتَوَسِّلاً مُتَأَمِّلاً في رحمته وكرمه ورزقه وقُدْرته وعِلْمه أن يستجيب له لأنه يزرق مَن يشاء بما شاء بغير حسابٍ فهو علي كل شيءٍ قدير لا يمنعه أيّ مانعٍ: يا رب – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصْلِحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اعْطِ لي وامْنَحْنِي وارْزُقني بتمام قُدْرَتك وكمال عِلْمك وعظيم فضلك وكرمك ورزقك ورحمتك ورعايتك وحُبِّك وعَوْنك وتَوْفيقك وقُوَّتك ونَصْرك، حُكْمَاً أيْ حِكمة ومُلْكَاً وسُلْطاناً وعقلاً راجِحَاً، وعِلْمَاً بحيث أحْسِن التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع، واعْطِ لي كذلك النّبُوَّة وما فيها من تشريعاتِ الإسلام الذي يُناسِب عَصْري لأُسْعِد به الناس جميعا.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ أنْ يسأل ربه دائماً مَا يُحَقّق له أعظم الأجر وأتَمَّ السعادة في الداريْن.. ".. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)" أيْ وضُمّنِي واجْمَعني، بتَوْفِيقك وتَيْسِيرك لي لعمل كل خير، في الدنيا دائماً مع جُمْلَة وعِدَاد أهل الصلاح والخير الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم ولا تَجْعلني أفارقهم لأَسْعَدَ بصُحْبَتهم وبفِعْلهم كل خير، ثم أَلْحِقني بهم في الآخرة مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً في أعلي درجات الجنات حيث أتَمّ السعادة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84)" أيْ وكذلك اجعل لي كلامَ صِدْقٍ خيرٍ لا كذبٍ شَرٍّ في الناس الآخرين الذين سيَأتون مِن بَعْدِي يقولونه في حَقّي، كلاماً كثير العُلُوّ والشرف أيْ في أعْلَيَ وأعظم وأكبر وأشرف درجةٍ رافِعَاً لمَكَانَتِي لا خافِضَاً لها، والمقصود أنه بعد موته يجعل الله له ذِكْرَاً حَسَنَاً صادِقَاً عظيماً شريفاً كريماً بين الصالحين في الأرض كلها حتي يوم القيامة من شِدَّة حُبِّهم له بسبب صلاحه ودعوته لكلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ فيُحِبّه ويَدعو له ويَذْكُره بخيرٍ ويَقتدي به كلّ مَن يَتَذَكّره فيزداد بذلك مَكَانَة أخرويّة إضافة لمكانته الدنيويّة التي كان فيها.. وهكذا كلّ مسلمٍ عليه أنْ يَتَشَبَّه به ويَفعل كل خيرٍ أثناء حياته ويَتْرُك خيراً كثيراً ما استطاع بعد مَمَاته يُنْتَفَع ويُسْعَد به ليَنْتَفِع هو بذلك ذِكْرَاً حَسَنَاً مَصْحُوبَاً بدعاءٍ حَسَنٍ يَنْفعه ويُسْعِده في آخرته
ومعني "وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)" أيْ وكذلك اجعلني في الآخرة من خلال أنْ تُوَفّقني للعمل بكل أخلاق دينك الإسلام من وارِثِي جَنّة النعيم أيْ جنة الحال السعيد الطيِّب التّامِّ الدائم الخالِد الذين تُوَرِّثهم إيَّاها بفضلك وكرمك ورحمتك بسبب عملهم بإسلامهم في دنياهم فتكون كالمِيراث لوَرَثَته ملْكَاً وحَقّاً خالصاً باقياً لهم يَتَصَرَّفون فيه كما يشاؤون حيث البساتين والقصور الفخمة التي تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالِدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. إنَّ هذا النعيم هو إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)" أيْ واجعل أبي أهْلَاً للمغفرة بأنْ تُوَفّقه لأنْ يهتدي للإسلام وسامِحه فلا تُعاقِبه علي ذنوبه وامْحُها كأنْ لم تَكُنْ وامْحُ عنه آثارها المُتْعِسَة في الداريْن برحمتك الواسعة التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ فأنت أرْحَم الراحمين وخَيْر الغافِرين، فإنه كان من الضالّين أيْ الضائعين أيْ الذين كانوا في خطأٍ وابتعادٍ عن طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة حيث تَرَك عبادتك وحدك واتّباع دينك الإسلام وعَبَدَ الأصنام وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتْعِسه تمام التعاسة في دنياه وأخراه، فاغْفِر له لأنّى قد وَعَدْتُه بأنْ أَسْتَغِفر له عندك يا ربّ.. إنَّ هذا الدعاء سببه أنه كان قد وَعَدَه به كما جاء في قوله تعالي "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ" (التوبة:114)، وهذه الموعدة جاءت في قوله "قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً" (مريم:45)، رَحْمَة وشَفَقَة من الإبن لأبيه، وقد ظلَّ يَدعو له حتي مات علي كفره فحينها تَبَيَّنَ له إصراره التامّ علي ضلاله فامتنع بعد ذلك عن الدعاء له بعد موته
ومعني "وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)"، "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)"، "إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)" أيْ ولا تُخْجِلْني يوم يُبْعَث الناس جميعا يوم القيامة للحساب بأنْ تَبْعَثهم أيْ تُخْرجهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم فتُحْيِيهم بعد كوْنهم تُراباً، وذلك بأنْ تَغْفِر لي أيَّ تَقْصيرٍ حتي لا أشْعر بالخِزْي أيْ العار والفضيحة والخَجَل والذلّ منه، والتقصير في حقِّ إبراهيم وحقِّ جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – وهم المَعْصُومُون مِن أيِّ خطأ – هو ما يَظنّه تقصيراً في فِعْلِ خَيْرٍ أكثر كان عليه فِعْله ولم يَفْعَله، وفي ذلك قُدْوَة لكلِّ مسلمٍ مِن بَعْدِهم لأنْ يَتَشَبَّه بهم في الحِرْص الشديد علي فِعْل كلّ خيرٍ مُمْكِنٍ مع سرعة الاستغفار مِن أيِّ شَرٍّ لو فُرِضَ وفَعَله سواء صَغُر أم كَبُر حتي يَصِلَ إلي مِثْل درجتهم ما أمكن حيث تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)"، "إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)" أيْ لا تُخْزِني يومَ لا يُفيد مالٌ ولا بنون أحداً من الناس بحيث يَدْفعه كفداءٍ لِيَفْدِي وينْقِذ نفسه، أو يَدْفعون عنه، عذاباً يَسْتَحِقّه منك بسبب سُوئه الذي فَعَله في دنياه.. "إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)" أيْ لكن الذي يَنْفَع هو مَن جاء الله بقلب سليم أيْ لكنْ مَن أتي الله بقلب سليم فإنه يَنْفعه ذلك، والقلب السليم هو العقل الصحيح السالِم الخالي من الأمراض كالكفر وهو التكذيب بوجود الله (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وكالشرك وهو عبادة غير الله كصنمٍ أو حجر أو كوكب أو نار أو غيره، وكالنفاق وهو إظهار الخير وإخفاء الشرّ، وكالظلم والاعتداء وعدم العدل، وكالفساد والإفساد بنشر الشرّ، وما شابه هذا من شرور ومَفاسِد وأضرار، وبما أنه عقلٌ سالِمٌ من الأمراض فإنَّ هذا يعني ضِمْنَاً أنه عقلٌ قد استجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلاً فعَمِلَ بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأنه عقلٌ مُخْلِصٌ مُحْسِنٌ مُتَدَبِّرٌ مُتَعَلّمٌ عادِلٌ حريصٌ علي كل خيرٍ وسعادة له وللغير في الداريْن بل ولكل المخلوقات وللكوْن كله (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)" أيْ وقُرِّبَت الجنة للمُتَّقِين يوم القيامة بحيث تكون في مكانٍ غير بعيدٍ عن مكان تَوَاجُدِهم أثناء حسابهم اليَسير تكريماً وتَشْريفاً وتَشْويقاً وإسعاداً لهم حتي يرونها ويشاهدون ما فيها من خيراتٍ لا تُوصَف فيَستبشرون ويَطمئّنون قبل دخولها خالدين فيها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا عند بعض العلماء أنَّ المتقين في دنياهم كأنَّ الجنة قريبة جدا منهم ليست بعيدة عنهم بخيراتها بل هم فيها حيث السعادة تَغْمُرهم دائما من فضل ربهم بسبب تمسّكهم وعملهم بإسلامهم
ومعني "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأُظْهِرَت الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل للغاوين يوم القيامة بحيث تكون في مكانٍ غير بعيدٍ عن مكان تَوَاجُدِهم أثناء حسابهم العَسِير تَرْهِيبَاً وإذْلَالاً وإهانة وإتْعاساً لهم حتي يرونها ويشاهدون ما فيها من عذاباتٍ لا تُوصَف فيرْهَبون ويَضطربون ويَتشاءمون كنوعٍ من العذاب النفسيِّ قبل دخولها ليذوقوا فيها العذاب الجسديّ المُتَنَوِّع الذي لا يُمْكِن وَصْفه، والغاوون هم الضالّون أيْ الفاعِلون لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفون المُتَمَادُون في الضلال والانحراف بلا توبة
ومعني "وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)"، "مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)" أيْ وقيل لمَن كانوا في دنياهم يعبدون غير الله تعالي علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي كانوا عليه سؤالاً مُفْزِعَاً صادِمَاً كنوعٍ من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار التي لا تُوصَف أين ما كنتم تَعبدون أيْ تُطيعون من آلهةٍ في دنياكم؟! ولم يَذْكُر سبحانه مَن الذي يقول لهم ليكون القول مُحْتَمَلَاً مِن أيِّ أحدٍ بما يُفيد تَحْقيرهم وإذلالاهم وإهانتهم، من دون الله أيْ غير الله تعالي، كأصنامٍ أو أحجارٍ أو غيرها، هل ينصرونكم أيْ ينقذونكم اليوم من عذاب الله أو ينتصرون هم لأنفسهم منه حينما يَنْزِل بهم معكم؟! لا، لا شيء من ذلك حتماً فأنتم وهم وقود النار، فآلهتكم المَزْعُومَة بالقطع لن تستطيع نَصْركم ولا نَصْر أنفسها! والسؤال لا يُقْصَد به الاستفهام ولكنه لمزيدٍ من الذمِّ فإجابته مَعْلُومَة ولا يَحتاج لجواب
ومعني "فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)"، "وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)" أيْ فأُلْقُوا علي وجوههم مرة بعد أخري في النار – والكَبْكَبَة هي تِكْرار الكَبِّ والكَبُّ هو الإلقاء والقَذْف علي الوجه كما تُقْذَف النفايات في المَحَارِق – هم أيْ هذه الآلهة المَعْبُودَة، والغاوون أيْ الضالّون أيْ العابدون لها، والفاعِلون لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفون المُتَمَادُون في الضلال والانحراف بلا توبة.. ولفظ "فكُبْكِبُوا" يُفيد شِدَّة عذابهم وإذلالاهم وإهانتهم حيث يُقْذَفون في الجحيم بعضهم فوق بعض وقد تَبَعْثَرَت أجسادهم بلا أيِّ رحمةٍ ولا عنايةٍ ولا نظام.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول "هم" بَدَلَاً عن "هي" والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. "وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)" أيْ ومعهم أعْوانُ إبليس جميعاً من بني آدم الذين كانوا يَتّبِعون وَساوِسَه ويُطيعونه ولا يَعْصَوْنه فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ويَدْعون غيرهم لذلك ويُعينوهم عليه ويُسَهِّلونه لهم.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل، والشيطان في اللغة العربية هو كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)
ومعني "قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)"، "تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)"، "إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)"، "وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)"، "فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)"، "وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)"، "فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)" أيْ قال الذين عَبَدوا في دنياهم غير الله تعالي لآلهتهم التي كانوا يَعبدونها وهم في النار يَختصمون أيْ يُخاصِم أيْ يُعادِي ويُخالِف ويُجادِل ويُنازِع ويُشاجِر بعضهم بعضاً بصورةٍ فيها غضب وسبّ ولَعْن وضيق واضطراب وقَلَق وصِراع ونَدَم وحَسْرَة ورُعْب وما شابه هذا، قالوا تالله أيْ والله إنّنا كُنّا في دنيانا في ضلالٍ مُبِين – واللام للتأكيد – أيْ في ضياعٍ واضِحٍ لأننا تَرَكْنا عبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام ففعلنا الشرور والمَفاسد والأضرار التي أتْعَسَتْنا في حياتنا ثم تُتْعِسنا الآن في آخرتنا تمام التعاسة، إذ نُسَوِّيكم برب العالمين أيْ حين كنّا في الدنيا نجعلكم أيها المَعْبُودون غير الله رَغْمَ عَجْزِكم وأنكم خَلْق مِن خَلْقِه لا تَنْفَعُون ولا تَضُرُّون مُتَساوِين به في العبادة فنَعْبُدكم كما يُعْبَد وفي الدعاء والاستعانة والحب والخوف والرجاء مع أنه هو تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ المُسْتَحِقّ لكل ذلك لأنه خالِق الخَلْق كله ومَالِك المُلْك كله والقادر علي كل شيء.. "وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)" أيْ وما أضاعَنا أيْ أبْعَدَنا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام إلا المجرمون حيث اتّبَعْناهم وفَعَلْنا مِثْلَهم بلا أيِّ تَعَقُّلٍ بسبب أننا أغْلَقْنا عقولنا بالأغشية التي وضعناها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. "فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)"، "وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)" أيْ فإذا كنّا في دنيانا في ضلالٍ مُبينٍ وكنّا نُسَوِّيكم برب العالمين فبالتالي إذَن فليس لنا الآن في أخرانا حيث وقوع العذاب الذي لا يُوصَف أيّ شافعين، جَمْع شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يَعْفو عنّا وينقذنا مِمَّا نحن فيه، كما يكون للمؤمنين الذين لهم يوم القيامة شفعاء من الملائكة والرسل والشهداء والصالحين، وكذلك ما لنا حتماً أيّ صديقٍ أيْ صاحبٍ صادِقِ الحبّ حَميمٍ أيْ تَرْبِطه بنا علاقة حَمِيمَة أيْ قوِيَّة مَتِينَة بحيث يَدْفَعه حبه الصادق وعلاقته القوية المُخْلِصَة الصادِقَة معنا لأنْ يَهْتَمَّ بأمرنا في هذا الموقف الشديد ويُشْفِق علينا ويُساعدنا وينْقذنا كما كنّا نفعل في الدنيا حيث كلّ أحدٍ الآن مُنْشَغِل بحاله الذي هو فيه، وهذا يُفيد عظيم حَسْرَتهم وتَعاستهم وأَلَمهم بسبب فِقْدانهم أيَّ أمَلٍ في أيِّ نجاة.. "فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)" أيْ فتَسَبَّبَ عن ذلك أنْ قالوا بحَسْرَةٍ مُتَمَنّين مَا لن يَحْدُث أبداً: لو أنَّ لنا عَوْدَة ورَجْعَة مرّة أخري للدنيا لَكُنَّا من المؤمنين بالله تعالي وحده العاملين بكل أخلاق دينه الإسلام، وهذا تَمَنّي منهم للعودة إلي الدنيا لكي يؤمنوا في وقتٍ لن تنفع فيه الأماني حيث قد انتهي وقت العمل والتصويب في الدنيا والآن هو وقت الحساب والعقاب في الآخرة، وهي أُمْنِيَة تَدلّ علي شِدَّة النّدَم والحَسْرَة والخوف والألم واليأس والتعاسة
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم نوح (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة الأعراف ويونس وهود وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)"، "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)"، "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)"، "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)" أيْ كذّبَت فلم تُصَدِّق، أُمَّة نوحٍ، المُرْسَلِين جَمْع مُرْسَل أيْ مَبْعُوث أيْ رسول أيْ المَبْعُوثين من الله الخالق للناس ليُعلّموهم الإسلام الذي يُوحِيه إليهم ليسعدوا به في الداريْن، حيث كذّبوه (ص) ولم يؤمنوا به ولم يَتّبعوا الإسلام الذي جاء به والذي يُسْعِدهم بالداريْن وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. هذا، ولفظ "المُرْسَلِين" جاء بصيغة الجَمْع رغم أنهم كذّبوا رسولاً واحداً هو نوح (ص) بما يُفيد ضِمْنَاً أنه مَن كذَّب رسولاً فقد كذَّب الرسل جميعاً لأنهم كلهم جاءوا بدينٍ واحدٍ هو الإسلام الذي فيه تشريعات تُناسِب كل زمنٍ من عند إلهٍ واحد هو الله تعالي.. كذلك من معاني "المُرْسَلِين" أنهم كذّبوا رسولهم نوح ومن معه من المسلمين الذي يحملون رسالته الإسلام كرُسُلٍ لهم يَدْعونهم لاتّباعه.. "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)" أيْ حين قال لهم أخوهم نوح ناصِحَاً ومُنْذِرَاً ألَاَ تَتّقون الله الذي خَلَقكم ورَزَقكم وتخافون عقابه في الداريْن وزوال نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليكم بسبب عبادتكم لغيره؟! هل لا تُحْسِنُون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين له فتَعْبُدوه وحده وتتركوا عبادة غيره؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. هذا، ولفظ "أخوهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله "أخوهم" و "قوم" حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)" أيْ قال لهم ناصِحَاً مُرْشِدَاً مُطَمْئِنَاً بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ إني لكم مَبْعُوثٌ من الله أدعوكم لعبادته وحده وأبَلّغكم وَصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام والتي أوْحاها إليَّ لتسعدوا بالداريْن، وأنا فيما أدعوكم إليه وأبَلّغكم به أمينٌ أيْ غيرُ خائنٍ أبداً أو كاذبٍ أو مُغَيِّرٍ أو مُنْقِصٍ أو مُزيدٍ أو مُحَرِّفٍ فيه بل مُبَلّغه لكم بكل أمانةٍ وتمامٍ وصِدْقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ وإخلاصٍ وحبٍّ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فسادٍ أو زيادةٍ أو نُقصانٍ أو تَحْريفٍ، فاتّبِعوني بالتالي مُطْمَئِنّين.. "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)" أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَطِيعُونِ (108)" أيْ ونَفّذوا أيها الناس ما أوصيكم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فإن طاعة رسول الله هي طاعة له تعالي.. "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)" أيْ هذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام.. أيْ وإنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ من مالٍ أو غيره علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم وعملتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي رب العالمين الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)" أيْ كَرَّرَ نوحٌ (ص) لهم هذه العبارة مرَّة أخري بذات الألفاظ لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
ومعني "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)" أيْ قالوا لنوحٍ (ص) رَدَّاً عليه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة وتحَجُّج بحجَج سفيهةٍ ساقِطَةٍ لا قيمة لها مُطلقاً حتي لا يُسْلِمُوا، رغم حُسْن دعوته لهم لكل خيرٍ وسعادة بالداريْن: هل نُؤمِن لك أيْ نُصَدِّق بك لأجل كلامك والحال والواقع أنك قد اتّبَعك الأرْذَلُون؟! أيْ سارَ خَلْفك ونَفّذَ وَصَاياك وعمل بها الأَسَافِل الأَخِسَّاء الحُقَراء الفقراء الضعفاء الذين لا وَزْنَ لهم بين الناس السَّطْحِيُّون الذين يَتّبِعُون أيَّ رأيٍ يَبدو ويَظهر لهم دون تَعَمُّقٍ وتَدَبُّر ولو تَثَبَّتوا وتَفَكّروا وتَعَقّلوا ما اتّبعوك، وبالتالي فأنت قطعا علي الباطل!! ولو كان الذين اتّبعوك هم الأقوياء الأغنياء لدلَّ ذلك بالتأكيد علي أنك علي الحقّ!! إضافة إلي أننا ما نَرَيَ لكم أنت ومَن اتّبعك علينا من فضلٍ أيْ أيّ زيادةٍ في رزقٍ أو مالٍ أو مَنْصِبٍ أو غيره لَمَّا دَخَلْتم في دينكم هذا يُؤَهِّلكم لأنْ نتّبعكم ونترك ما نَعْبده، بل نحن نعلم ونعتقد أنكم كاذبون فى دعواكم أنكم على الحقّ!.. إنهم يَقِيسُون صِحَّة أو بُطْلان ما جاءهم به بالذين اتّبعوه، فإنْ كانوا ضعفاء فقراء فهو علي الباطل بينما لو كانوا أقوياء أغنياء مثلهم فهو علي الحقّ!! إنهم لو أحسنوا استخدام عقولهم لتأكدوا تماما أنهم ليسوا أبداً أراذِل سُفَهاء بل هم بإيمانهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم هم الأعْلَوْن الأكرمون الأعِزّاء الأقوياء الأغنياء العقلاء وبالجملة هم السعداء تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فليس المقياس للارتفاع والانخفاض في الحياة الدنيا هو مقياسهم الذي لا يعرفون غيره وهو كثرة الأموال والبنين والمناصب والنفوذ! بل علي العكس تماما إنهم بحقّ هم الأرذلون أشدّ الرَّذَالَة حيث عَطّلوا وأغلقوا عقولهم وتركوا عبادة ربهم وعبدوا أصناماً وغيرها هي أضعف منهم وهم أقوي منها فكيف يطلبون نفعها أو يخافون ضررها؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!
ومعني "قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)"، "إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)"، "وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)"، "إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)" أيْ قال نوحٌ (ص) بكلِّ حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ: ولا عِلْم لي بالذي كانوا يعملونه من تَصَرُّفاتٍ ومِهَنٍ هؤلاء الأَرْذَلُون مِن وِجْهَةِ نَظَرِكم قَبْلَ إيمانهم بالله واتّباعهم الإسلام فالداعي إلي الله والإسلام ليس مَسئولاً عن ذلك ولا شأنَ له به وإنّما الذي عليه هو أنْ يدعو الجميع للإيمان بكل قُدْوَةٍ ورِفْقٍ وحُسْنٍ سواء أكان قوياً أم ضعيفاً غنياً أم فقيراً صاحبَ مِهْنَةٍ راقيةٍ أم دنيئةٍ ويستجيب مَن يستجيب ويبدأ في إصلاح أحواله وأخلاقه وهؤلاء قد اسْتَجابوا وآمَنوا وانْصَلَحُوا فهُمْ في أحسنِ أحوالهم الآن، والاعتبار بالإيمان لا بالحَسَب والنسَب والحِرَف والصنائع، فدعوكم منهم ولا تَنْشَغِلوا بهم وانْشَغِلوا بالتّعَقُّل والتّدَبُّر فيما أدعوكم إليه فإنْ كان خيراً فاتّبِعُوه لتسعدوا في الداريْن مِثْلَهم وإنْ كان شَرَّاً – كما تَدَّعُون – فاتركوه واستمرّوا فيما أنتم فيه.. "إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)" أيْ ما جزاؤهم على أعمالهم، وما جزاؤنا جميعا علي أقوالنا وأعمالنا، إلا على ربى وحده الذي خَلَقنا لأنه هو وحده لا غيره المُطّلِع على ما بدواخل نفوسهم، ونفوسنا، وما أعلنوه وأخفوه، وما نُعْلِنه ونُخْفِيه، من أقوالٍ وأفعال، خَيْرها وشَرّها، وسيُجازي الجميع بما يَسْتَحِقّونه في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ذرة ظلم وكلّ أحدٍ له عمله من خيرٍ أو شَرٍّ ولا يَتَحَمَّل أحدٌ سوء غيره.. ".. لَوْ تَشْعُرُونَ (113)" أيْ لو كُنْتُم من أصحاب الشعور والإحساس والإدْراك والفهم والعقل لَكُنْتم أدْرَكتم تماما صِحَّة كلّ مَا أقوله لكم ولَكنتم مَا قُلْتُم مَا تقولونه ولكنكم لستم كذلك فتقولون ما تقولون، وفي هذا تحفيزٌ ضِمْنِيٌّ لهم لكي يكونوا مِمَّن يَشعرون ليسعدوا بالداريْن ولا يكونوا مِن الذين لا يَشعرون وإلا تَعِسُوا فيهما.. "وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)" أيْ ولا يُمكن أبداً أن أطْرُدَ أيْ أبْعِد عنّي في المُجَالَسَة والمُعَايَشَة والمُعامَلَة المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتَمَسِّكِين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم لمجرّد احتقاركم لهم وتعاليكم عليهم وتأفّفكم من التعامُل معهم وطَلَبكم ذلك مِنّي كشَرْطٍ لإيمانكم لتَوَهُّمكم أنهم أراذِل رغم أنهم أعالي بإيمانهم لا بأموالهم ومناصبهم كما تقيسون أنتم الأعلي بالأدني في مقاييسكم الدنيوية الخاطئة!! إنَّ هذا ليس شأن الرسل ولا الدعاة لله وللإسلام مِن بَعْدهم أن يُخْرِجوا الناس من الخير والسعادة إلي الشرِّ والتعاسة!! إنَّ مَن آمَنَ سواء أكان ضعيفاً أم قوياً يستحقّ كل تكريمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ من ربه في دنياه وأخراه لا أنْ يُطْرَدَ ويُهان ويكون في شرٍّ وخوفٍ وتعاسةٍ كما تَطلبون!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (52) من سورة الأنعام "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)" أيْ ما أنا إلا فقط نذير مُبين لكم، أيْ ليس أبداً مهمّتي طَرْد المؤمنين أو دعوة الأغنياء دون الجميع أو إنزال العذاب بالظالمين منكم أو تحديد موعده أو تعجيله أو تأجيله أو مَنْعه، فالحساب والثواب والعقاب في الداريْن يَخُصّ خالقكم وحده سبحانه، وإنما مهمّتي فقط ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌّ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)" أيْ قالوا له مُقَابِلين شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة لفتراتٍ طويلةٍ صابِرَاً علي إغلاقهم لعقولهم وأذاهم ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعادهم في الداريْن، بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قالوا له مُهَدِّدِين إيَّاه إذا لم تَتَوَقّف وتَكُفّ وتَمْتَنِع عن دعوتنا وغيرنا لِعبادة ربك وحده واتّباع دينه الإسلام ولِتَرْك عبادة آلهتنا ستكون – واللام والنون للتأكيد – من المَرْجُومين أيْ سَنَرْجُمَك أيْ سَنَقْذِفك ونَرْميك بالحجارة حتي تُقْتَل.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم نوحٌ (ص)، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)"، "فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)" أيْ قال نوحٌ (ص) لاجِئَاً مَتَوَسِّلَاً إلي ربه داعِيَاً إيَّاه – وعلي كل مسلم أنْ يَتَشَبَّه دائماً بالرسل الكرام ويتوكّل دَوْمَاً علي الله في كل شئونه ويدعوه ويَلْجَأ إليه خاصَّة عند الشدائد – يا ربِّ أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي، إنَّ قومي كذّبوني أيْ لم يُصِدِّقوني ويَتّبِعُوني في عبادتك وحدك واتّباع دينك الإسلام واسْتَمَرُّوا مُصِرِّين علي تكذيبهم بلا أيِّ عَوْدَةٍ لك ولدينك.. "فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)" أيْ فبالتالي احْكُمْ بيني وبينهم حُكْمَاً من عندك تَنْصرنا به نحن أهل الحقّ وتهْلِكهم أهل الباطل بعَدْلِك وبتمام قُدْرَتك وكمال عِلْمك وحِكْمتك، ونَجِّني أيْ وأنْقِذْني وسَلّمْنِي ومَن معي مِن المؤمنين برَحَمَاتك ونِعَمك وأفضالك ورعاياتك وإعاناتك مِن مَكائدهم ومِمَّا تُعَذّبهم وتهْلِكهم به، أيْ اجْعَل الغَلَبَة والفوز لي وللمؤمنين بعَوْنك وتأييدك وتَيْسيرك واهْزِم المُكَذّبين واضعفهم واهلكهم وانْشُر وأعِزّ دينك الإسلام ليَسعد الناس به في الداريْن فأنت القويّ القادر علي كل شيء، وذلك الدعاء بعدما أوْحَيَ الله تعالي إليه في قوله "وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ.." (هود:36) وتَأَكَّدَ أنهم لن يؤمنوا باستثناء القِلّة القليلة التي أسْلَمَت معه، رغم بقائه بينهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذَكَرَ القرآن في مَوْضِعٍ آخرٍ يَدعوهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة وبتَنَوُّعٍ لكل أساليب الدعوة المُمْكِنَة وبصَبْرٍ تامٍّ علي أذاهم.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)"، "ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)" أيْ فسارَعْنا بمُجَرَّد دعائه بالاستجابة له بأنْ أنْقذناه وسَلّمْناه ومَن معه من المؤمنين في المَرْكِب المَلِيء بهم وبكل احتياجاتهم وبكل أنواع المخلوقات التي وَفّقْناه لحَمْلها، ثم أغرقنا بعد إنْجائهم الباقين الذين لم يُؤمِنوا بإرْسال الطوفان مِن ماءِ السماء والأرض عليهم، وبهؤلاء الناجِين مِن بَشَرٍ ومَخْلوقاتٍ ستبدأ الحياة الجديدة النَّقِيَّة السعيدة بعد إهلاك أهل الشرِّ والظلم والتعاسة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (27) من سورة "المؤمنون" "فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم هود (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة الأعراف وهود وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)"، "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)"، "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)"، "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)" أيْ (برجاء مراجعة الآيات (105) حتي (109) من هذه السورة "الشعراء"، للشرح والتفصيل.. وعادٌ هم أمَّة الرسول الكريم هود (ص).. مع مراعاة أنّ بداية كلّ مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن أحوال الرسل الكرام مع أقوامهم هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ كلّ الرسل يأتون بدعوةٍ واحدةٍ دون أيِّ تغييرٍ في أصولها وهي الإيمان بالله تعالي وحده والعمل بكل أخلاق دينه الإسلام، ويكون التغيير فقط في تفاصيل التشريعات والأنظمة بحيث تكون مُنَاسِبَة مُصْلِحَة مُسْعِدَة للناس في كل زمن)
ومعني "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128)" أيْ هل تبنون بكل مكانٍ مُرْتَفِعٍ وطريقٍ وتَلٍّ وجَبَلٍ، آية أيْ عَلامَة والمقصود بِنَايَة عالية مُرْتَفِعَة تكون مَعْلُومَة مَشْهُورَة للناس، تَعْبَثون بها، بمعني تجعلونها مكاناً للعَبَث أيْ لِلّهْو ولِلّعِب ولِلشَّرِ وللفساد ولإيذاء الناس والاعتداء عليهم، وأيضا بمعني أنكم تَبْنُونَها عَبَثَاً أيْ لا فائدة منها ولا احتياج لها بل هي فقط لِلَهْوِكم ولِلَعِبكم ولافتخاركم ولإظهار قوّتكم فتُضَيِّعون ببنائها أوقاتكم وجهودكم فيما لا يَنْفعكم بالداريْن بل تأثمون عليه؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)" أيْ وتَجْعلون لكم مصانع – جَمْع مَصْنَع – أيْ أماكِن لصناعة الحُصُون والقصور والمنازل ونحوها المَصْنُوعَة بإحكامٍ والتي تُعَمِّر طويلاً والتي لا يَصْنعها ويَبْنيها إلا مَن كان حاله حال الراجي المتوهم للخلود!.. ".. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)" أيْ لكي تَخْلُدوا أيْ لكي تُقيموا فيها أبداً أيْ لعلكم بذلك تَتَوَهَّمُون وتَرْجُون أنكم تَخْلُدون في الدنيا كأنها تَحْميكم من الموت وكأنكم لا تموتون! أيْ إنكم لا تُفَكّرون بالموت رغم أنّ الحال والواقع أمامكم أنه لا أحد يُخَلّد بل الكلّ يموت!.. وفي هذا مزيدٌ من الذّمِّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يَنْسَيَ مَوْتَه وآخرته ويُكَذّبها مِثْلهم ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، وفيه أيضا تَذْكِرَة للمسلم بألّا يكون أبداً كذلك بل يكون مِمَّن يَتَذَكّرون دائما الآخرة ويَتذكّرون الموت بين الحين والحين وبِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ حتي يُحْسِن الاستعداد لذلك ويُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا مِن خلال العمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)" أيْ هذا تذكيرٌ لهم بسُوءِ استخدامهم للقوَيَ الجسدية والمالية وغيرها التي أنْعَمَ الله بها عليهم لكي يستخدموها في الخير ليزيدهم منها سبحانه ولا يَحْرِمهم إيَّاها بَدَلَاً من استخدامها في الشرِّ حيث اسْتَكْبَرُوا بها علي مَن تَعَامَلوا معهم مِن الناس وقَسوا وغَلظوا عليهم وآذوهم وظلموهم وأكلوا حقوقهم بلا رحمة.. وهذه صِفات يجب علي كل مسلم حتماً أنْ يَتَجَنّبها تماماً ليَسعد بالداريْن ولا يتعس فيها.. أيْ وإذا بَطَشْتُم أيْ عاقَبتم علي خطأٍ مَا عاقبتم وحالكم حال الذين يكونون جَبَّارين أيْ مُتَكَبِّرين مُتَسَلّطِين ظالِمين غاشِمين قاسِين شَدِيدين شِرِّيرين يُعامِلون الناس بالقَسْوَة والاعتداء دون عدلٍ إذ عِقابهم يَتَعَدَّيَ كثيراً مِقْدار الخطأ ويكون دون نَظَرٍ لأسبابه ودون لِينٍ أو رأفة ولا قصدِ تأديبٍ ولا نظرٍ في النتائج غير مُهْتَمِّين بشيءٍ مِن قتلٍ بغير حقّ أو اعتداءٍ أو استيلاءٍ علي مُمْتَلَكَاتٍ للغير أو نحو ذلك
ومعني "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)" أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَطِيعُونِ (131)" أيْ ونَفّذوا أيها الناس ما أوصيكم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فإن طاعة رسول الله هي طاعة له تعالي
ومعني "وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)"، "أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)"، "وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي حيث هي التي ستُعينهم علي التّخَلّص من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم مع تَذْكِرَتهم بنِعَم الله تعالي عليهم التي يعلمونها ويعرفونها جيداً ويعيشون مُتَنَعِّمِين فيها وبها والتي لا يمكن لعاقلٍ أنْ يُنْكِرها والتي لا تُحْصَيَ حيث حُسْن اسْتِشْعارها وشُكرها عملياً بحُسْن استخدامها في الخير لا الشرّ يُعينهم علي مزيدٍ مِن عودتهم لربهم ولدينه الإسلام ومزيدٍ مِن تَقْواه سبحانه.. أيْ وخافوا الله الذي زَوَّدَكم وكَثّركم ورَزَقكم بما تعلمونه وتعرفونه جيداً مِن نِعَمٍ يَصْعُب حَصْرها وتَلْمَسُونه واقِعَاً في كل لحظات حياتكم والذي لا يَتْرُك مَجَالَاً لعاقلٍ أنْ يَجْهله أو يُنْكِره أو يَخْفَيَ عليه فليس لكم بالتالي أيّ عُذْرٍ في عدم شُكْر نِعَمه وعبادته تعالي وحده.. "أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)" أيْ هذا بعضُ تَفْصِيلٍ لبعض هذه النِّعَم علي سبيل المِثال لا الحَصْر بعد ذِكْرها إجْمالاً لمزيدٍ مِن تَذْكِير عقولهم والتأثير فيهم وحَثّهم علي العودة للخير ليسعدوا بالداريْن.. أيْ زَوَّدَكم وكَثّركم ورَزَقكم بأنعامٍ – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – لكم فيها منافع كثيرة مُتَعَدِّدَة حيث تُتاجرون فيها ونَسْلها فتَرْبحون وتشربون ألبانها وتستخدمونها وعظامها ودهونها وغيرها في استخدامات وصناعات مختلفة وتحملكم وتنقلكم من مكان لآخر وتحملون عليها أمتعتكم وبعض تجاراتكم في بعض أماكنكم غير المُمَهَّدَة، ونحو هذا، ومن بعضها تأكلون ما يمكن أكله من لحومها النافعة المُتَنَوِّعَة وبعض أعضائها.. وأمَدَّكم كذلك ببنين أيْ بأبناء من الذكور والإناث لتسعدوا بتربيتهم ثم لتتعاونوا جميعا بإمكاناتكم وقواكم علي الانتفاع والسعادة بكل شئون الحياة حولكم.. "وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)" أيْ وأمَدَّكُم أيضاً ببساتين وحدائق مُخْضَرَّة كثيرة الثمرات والخيرات وعيون وينابيع يخرج منها الماء العذب الجاري الوفير
ومعني "إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)" أيْ هذا بيانٌ لخَوْفه وحِرْصه الشديد عليهم.. أيْ إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ لِعِظَمِ وشِدَّةِ ما يَحْدُث فيه هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ وذلك إذا عَبَدْتم غيره، إذا ظلمتم أنفسكم ومَن حولكم فأتعستموها وأتعستموهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إنه عذاب عظيم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)"، "إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)"، "وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)" أيْ قالوا له مُقَابِلين شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة لفتراتٍ طويلةٍ صابِرَاً علي إغلاقهم لعقولهم وأذاهم ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعادهم في الداريْن، بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قالوا له يَسْتَوِي عندنا أنك وَعَظتنا أم لم تكن من الواعظين لنا أو من الواعظين أصلا، فنحن مُصِرُّون مُسْتَمِرُّون علي ما نحن فيه وَعَظْتَ أم سَكَتَّ ولن نستجيب لك ونطيعك ونؤمن، والوَعْظ هو النصح والتذكير بأسلوبٍ طيِّبٍ لَيِّنٍ بتوقيتٍ وأسلوبٍ مناسبٍ بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في العقول والمَشاعِر تَجْمَع بِنِسَبٍ علي حَسَب حال المَدْعُوين بين الترغيب فيما عند الله مِن إسعادٍ بالداريْن لِمَن يعبده ويعمل بدينه الإسلام والترهيب بعقابه وإتعاسه فيهما لمَن لا يفعل ذلك، وقولهم هذا يدلّ علي تمام إصرارهم الشديد علي إغلاقهم عقولهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واسْتِهْتارهم وسَدِّهم لكلِّ الأبواب لأيِّ مُحاوَلاتٍ لدعوتهم للخير.. "إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من إصرارهم علي سُوئهم وإغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ مَا هذا الذي تَنْهانا عنه مِن بناء بكلِّ رِيعٍ آية واتّخاذ مَصانع والبَطش بالغير مَا هو إلا خُلُق أيْ عادَة ومَذْهَب ودين الأوّلِين أيْ السابقين من آبائنا وأجدادنا ونحن نقتدي بهم ولا نُخالِفهم فنعيش كما عاشوا عابدين لآلهتهم ونموت كما ماتوا ولا بعث بعد الموت ولا آخرة وحساب وعقاب وجنة ونار كما تَدَّعِي، وحتي لو أصابنا قِلّة رزقٍ أحياناً فهم أيضاً قد أصابهم مَثْله وهذا هو حال وطبيعة الحياة يوم ويوم وليس الأمر رزقاً من ربك أو مَنْعَاً منه كما تقول ولم يتركوا عبادة آلهتهم بسبب ما أصابهم، فنحن علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم وعبادتهم لآلهتهم التي يعبدونها سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم .. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حجّة أو دليل!!.. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريقٍ هو ذاهِب!!.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ لفظ "خُلُق، أو خَلْق في بعض القراءات أيْ اخْتِلاق" يعني "كَذِب" كما قال تعالي "وَتَخْلُقُونَ إفْكَاً" (القصص:17) أيْ وتَكْذبون كَذِبَاً قبيحاً شديداً، فيكون المعني ما هذا الذي تدعونا إليه من عبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام وتَرْك عبادة آلهتنا وما نحن فيه إلا كَذِب الأوّلِين أيْ السابقين لك القائلين بمِثْل مَا تقول مِن رُسُلٍ ومؤمنين بهم، فمَا هو إلا أساطير الأولين جَمْع أُسْطُورَة أيْ قصة مَسْطُورَة مَكتوبة قديماً، أيْ هو قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! فما جِئْتنا به هو إذَن ليس وَحْيَاً من عند إلاهك كما تَدَّعِي وإنما هو كذبٌ هزلِيّ خُرَافِيّ وبالتالي فلن نؤمن به أيْ لن نُصَدِّقه!!.. "وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)" أيْ وهذا بيانٌ لمزيدٍ ومزيدٍ من إصرارهم علي سُوئهم وإغلاقهم لعقولهم.. أيْ وما نحن بمُعَذّبين علي أفعالنا وأقوالنا كما تَدَّعِي، وهذا رَدٌّ قبيحٌ جَرِيءٌ مَسْتَهْتِرٌ منهم عليه (ص) حيث قد قال لهم مُشْفِقَاً عليهم إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، في الداريْن، بما يُفيد تكذيبهم التامِّ لوجود الله تعالي وله كرسولٍ منه إليهم وللبَعْث وللحساب والعقاب وللجنة والنار
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)" أيْ فتبيّن أنهم بقولهم سواء علينا أَوَعَظْت أم لم تكن مِن الواعظين أنهم قد كذّبوه أيْ لم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوْصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فبالتالي كان لابُدَّ إذَن مِن أنْ يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، وبسبب تكذيبهم هذا وإصرارهم عليه، أنْ أهلكناهم أيْ عاقبناهم بأنْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم، برياحٍ بارِدَةٍ شديدةٍ، كما ذُكِرَ ذلك في آياتٍ أخري.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم صالح (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة الأعراف وهود وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)"، "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)"، "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)"، "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)" أيْ (برجاء مراجعة الآيات (105) حتي (109) من هذه السورة "الشعراء"، للشرح والتفصيل.. وثمودُ هم أمَّة الرسول الكريم صالح (ص).. مع مراعاة أنّ بداية كلّ مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن أحوال الرسل الكرام مع أقوامهم هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ كلّ الرسل يأتون بدعوةٍ واحدةٍ دون أيِّ تغييرٍ في أصولها وهي الإيمان بالله تعالي وحده والعمل بكل أخلاق دينه الإسلام، ويكون التغيير فقط في تفاصيل التشريعات والأنظمة بحيث تكون مُنَاسِبَة مُصْلِحَة مُسْعِدَة للناس في كل زمن)
ومعني "أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)"، "وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)"، "وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)" أيْ هذا سؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، مع تَذْكِرَتهم بنِعَم الله تعالي عليهم التي يعلمونها ويعرفونها جيداً ويعيشون مُتَنَعِّمِين فيها وبها والتي لا يمكن لعاقلٍ أنْ يُنْكِرها والتي لا تُحْصَيَ حيث حُسْن اسْتِشْعارها وشُكرها عملياً بحُسْن استخدامها في الخير لا الشرّ يُعينهم علي مزيدٍ مِن عودتهم لربهم ولدينه الإسلام ومزيدٍ مِن تَقْواه سبحانه.. أيْ أتُتْرَكون أيْ هل تَتَوَهَّمُون أنْ يَتْرُككم الله تعالي ربكم فيما ها هنا أيْ في الذي هنا بهذا المكان من النعيم الذي أَنْعَم به عليكم – ها أداة تنبيه تُسْتَخْدَم لمزيدٍ من التنبيه – وتكونون آمنين من عذابه في دنياكم ثم أخراكم وأنتم علي حالكم السيِّءِ هذا مِن الكفر به وعدم اتّباع دينه الإسلام وفِعْلكم الشرور والمَفاسِد والأضرار؟! لا قطعا!!.. "فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)"، "وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)"، "وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)" أيْ هذا بعضُ تَفْصِيلٍ لبعض هذا النعيم علي سبيل المِثال لا الحَصْر بعد ذِكْره إجْمالاً لمزيدٍ مِن تَذْكِير عقولهم والتأثير فيهم وحَثّهم علي العودة للخير ليسعدوا بالداريْن.. أيْ في بساتين وحدائق مُخْضَرَّة كثيرة الثمرات والخيرات وعيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير، وزروعٍ مُفِيدَةٍ مُسْعِدَةٍ كثيرةٍ مُتَنَوِّعَةٍ مِن كل الأنواع، والتي منها نَخْل طَلْعها أيْ ما يَطْلع منها أيْ تَمْرها، هَضِيم أيْ نَضِيج مَهْضُوم أيْ لَيِّن رَخْو جَيِّد طيِّب نافِع مُسْعِد كأنه لا يحتاج لهَضْمٍ مِن كثرة نُضْجه وليونته وحلاوته، وقد خَصَّ تعالي النخل رغم أنها مَشْمُولَة في الزروع لأنها من الأشجار المَشْهُورَة المُنْتَشِرَة ذات المَنافع الكثيرة.. وأيضاً مِن النعيم الذي أَنْعَم به عليكم ووَفّقكم ويَسَّركم له أنكم تَنْحِتُون أيْ تَحْفُرون وتَبْرُون وتَقْطعون وتَخْرِقون وتُشَكّلُون بيوتاً لكم من صخور الجبال تكون مُعَمِّرَة لفتراتٍ طويلةٍ ومُحَصَّنَة وآمِنَة مِن أيِّ اعتداءٍ أو ضَرَرٍ وفَخْمَة لها هَيْبَة وقوّة وتكونون حين نَحْتها فارهِين أيْ ماهِرين ناشِطين وأيضا من المعاني تكونون مُتَعَالِين علي الآخرين بنَحْتِكُم
ومعني "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)" أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَطِيعُونِ (150)" أيْ ونَفّذوا أيها الناس ما أوصيكم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فإن طاعة رسول الله هي طاعة له تعالي
ومعني "وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)"، "الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)" أيْ ولا تُنَفّذوا أمر المُتَجاوِزين لحدود الله المُتَجَرِّئين علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّين علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرين المُبَالِغُين في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار.. هم الذين مِن صِفاتهم وعاداتهم ومِمَّا يُوَضِّح إسْرافهم أنهم يُفْسِدُون في الأرض، ولا يُصْلِحون – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي فسادهم وأنه خالصٌ تامٌّ ليس به أيّ صلاح – أيْ يَفعلون كل أنواع الفساد بأيِّ مكانٍ يَتَواجَدُون فيه ويَنْشُرونه ولا يَكْتَفون بأنفسهم ولا يفعلون أبداً الصلاح أيْ أخلاق الإسلام أيْ يعملون الشرّ المُضِرّ المُتْعِس بالداريْن ولا يقومون بأيِّ إصلاحٍ أيْ خيرٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم فيهما أيْ يَرْتَكِبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. فبالتالي، فاتّقوا الله وأطيعوني ولا تُطيعوا أمر المُسْرِفين لأنكم لو أطعتموهم تَعِسْتُم حتماً في دنياكم وأخراكم علي قَدْر فسادكم
ومعني "قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)" أيْ قالوا له مُقَابِلين شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة لفتراتٍ طويلةٍ صابِرَاً علي إغلاقهم لعقولهم وأذاهم ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعادهم في الداريْن، بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قالوا له أنتَ لستَ إلّا من المُسَحَّرِين أيْ من الذين سُحِرُوا سِحْرَاً شديداً كثيراً فاخْتَلّت عقولهم فلا يُدْرِكون ما يقولون ويقولون كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل! يَقصدون أنه بالتالي ما جاءهم به (ص) من دينٍ أي الإسلام ما هو إلا سِحْر أي يَسْحِر عقول الناس بأوهامٍ وتَخَيّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحْر بالعقل! فكيف يَتّبِعونه بالتالي إذَن أيْ يَسيرون خَلْفه ويَعملون بدينه بل لو فَعَلوا هذا لكانوا لا يَعْقِلون؟!! إنهم يريدون بقولهم هذا التشكيك فيه وفي الإسلام وتَشْويه صورته حتي يَصُدُّوا الناس عنه فلا يَتّبعونه
ومعني "مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)" أيْ وقالوا أيضاً لمزيدٍ مِن تأكيدِ مَا قالوه سابقاً ولتأكيد إصرارهم علي تكذيبهم وسُوئهم: ما أنت إلا بَشَر مثلنا ولسْتَ مَلَكَاً أو لك فضل علينا بل نحن أفضل منك من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريعٍ لتوصله لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع مَلَكٍ من مَلائكته! فأنت إذَن كاذب! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِلت به إلينا!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، وإنْ كنتَ رسولاً حَقّاً، فبالتالي إذًن فأتِ بآيةٍ أيْ فأحْضِر لنا دلالة ومُعْجِزَة خارِقَة للعادة تشهد بصِدْقك مِن عند مَن أرسلك كما تَدَّعِى إنْ كنتَ من الصَّادِقِينَ فيما تَدَّعِيه أنك رسولٌ من الله وأنك لا تقول إلا الحقّ وفيما تَدْعُونا والناس إليه من عبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام
ومعني "قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)"، "وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)" أيْ قال لهم رسولهم الكريم صالح (ص) وقد أيَّدَه الله تعالي بآيةٍ حِسِّيَّةٍ عظيمةٍ يَرَوْنها أمامهم تُثْبِت صِدْقه: هذه التي تَرَوْنها وأُشِيرُ إليها هي ناقة من الله أخرجها لكم آية لها نصيبٌ مِن ماءٍ يُشْرَبُ في يومٍ معلومٍ فلا تَشربوا فيه معها ولكم أنتم نصيبٌ مِن ماءٍ يُشْرَبُ في يومٍ معلومٍ آخرٍ لن تَشْرَب هي فيه معكم.. إنها آية عظيمة لأنه تعالي بقُدْرَته قد خَلَقَها بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق حيث هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، ولأنها كانت كأنها عاقلة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعْي وللشُّرْب وتَتْرُك لهم أوقاتاً أخري يَرْعُون هم فيها دَوَابّهم ويَشْربون.. "وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)" أيْ ولكوْنها آية عظيمة فعَظّموها بالتالي إذَن ولا تَلْمسوها بأيِّ أذي فيُصيبكم بسبب ذلك عذابُ يومٍ عظيمٍ لِعِظَمِ وشِدَّةِ ما يَحْدُث فيه هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ، إنه عذاب عظيم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)" أيْ فذبحوا الناقة التي كانت آية عظيمة لهم مُتَحَدِّين بذلك الله تعالي ورسوله (ص) مُعْلِنِين حربهم عليهما مُسْتَكْبِرين مُعانِدين مُكَذّبين مُسْتَخِفّين بتحذير رسولهم الشديد لهم أن يمسّوها بسوءٍ فيأخذهم بسبب ذلك عذابُ يومٍ عظيم، فأصبحوا أيْ فصاروا بالتالي بسبب ما فَعَلوه نادِمين أيْ مُتَأَلّمين حَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَلوا حين رأوا العذاب، فندموا في وقتٍ لن يَنْفَع فيه أيُّ نَدَمٍ
ومعني "فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، أنْ أخَذَهم العذاب الذي حَذّرهم منه رسولهم الكريم صالح (ص) أيْ أصابهم ونَزَلَ وانْقَضَّ عليهم العذاب المُوجِع المُهين المُتْعِس الذي لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا حيث أصابتهم الصَّيْحَة – من الصِّياح – وهي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة أهْلَكَتْهم وأعْدَمتهم بسرعة وبشِدَّة، كما ذُكِرَ ذلك في آياتٍ أخري (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم لوط (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة الأعراف وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)"، "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)"، "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)"، "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)" أيْ (برجاء مراجعة الآيات (105) حتي (109) من هذه السورة "الشعراء"، للشرح والتفصيل.. وقوم لوطٍ هم أمَّة الرسول الكريم لوط (ص).. مع مراعاة أنّ بداية كلّ مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن أحوال الرسل الكرام مع أقوامهم هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ كلّ الرسل يأتون بدعوةٍ واحدةٍ دون أيِّ تغييرٍ في أصولها وهي الإيمان بالله تعالي وحده والعمل بكل أخلاق دينه الإسلام، ويكون التغيير فقط في تفاصيل التشريعات والأنظمة بحيث تكون مُنَاسِبَة مُصْلِحَة مُسْعِدَة للناس في كل زمن)
ومعني "أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)"، "وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)" أيْ هل تُضاجِعُون وتُجامِعُون الذكور في أدْبَارهم وتَشْتَهُونهم من بني آدم؟! إنه فِعْلٌ فاحِشٌ مُضِرٌّ مُتْعِسٌ بالداريْن لم يَفْعله أحدٌ قبلكم ولا حتي الحيوان!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وتَذَرُون أيْ وتَتْرُكُون ما خَلَق لكم ربكم أيْ لاسْتِمْتاعكم ولتَناسلكم من أزواجكم أيْ مِن نسائكم حيث تَسعدون بالزواج والأسرة والأبناء والعلاقات الاجتماعية وغيرها مِمَّا ليس موجوداً بالقطع في الشذوذ الذي تفعلونه؟! لكنكم أنتم أناس عادُون أيْ مُتَعَدُّون مُتَجَاوِزون من الحلال الذي أحَلّه الله تعالي لِنَفْعِه ولإسعاده لبني آدم بالداريْن إلي الحرام الذي حَرَّمَه أيْ مَنَعَه لِضَرره ولإتعاسه لهم فيهما
ومعني "قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)" أيْ قالوا له مُقَابِلين شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة لفتراتٍ طويلةٍ صابِرَاً علي إغلاقهم لعقولهم وأذاهم ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعادهم في الداريْن، بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قالوا له مُهَدِّدِين إيَّاه إذا لم تَتَوَقّف وتَكُفّ وتَمْتَنِع عن دعوتنا وغيرنا لِعبادة ربك وحده واتّباع دينه الإسلام ولِتَرْك عبادة آلهتنا وما نَفْعَله ستكون – واللام والنون للتأكيد – من المُخْرَجِين أيْ سنُخْرِجك ونَطردك بالتأكيد يا لوط والمؤمنين معك من بلدنا، لتعيشوا طَرِيدين مُشَتَّتِين لنستريح من نصائحك.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم لوط (ص)، وبَدَلَاً أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!
ومعني "قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)" أيْ قال لهم رسولهم الكريم لوط (ص) مُعْلِنَاً ذَمّه ولَوْمه الشديد ورَفضه التامّ واستمراره علي ذلك إني لعملكم القبيح الشاذّ الذي تعملونه من الأناس القالِين أيْ الكارهين له أشدّ الكراهية الناهِين عنه المُحَذّرين منه الداعين لأخلاق الإسلام ولن أترك ذلك أبداً بتهديدي بإيذائي وبإخراجي من بلدكم
ومعني "رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)" أيْ قال لوطٌ (ص) لاجِئَاً مَتَوَسِّلَاً إلي ربه داعِيَاً إيَّاه – وعلي كل مسلم أنْ يَتَشَبَّه دائماً بالرسل الكرام ويتوكّل دَوْمَاً علي الله في كل شئونه ويدعوه ويَلْجَأ إليه خاصَّة عند الشدائد – يا ربِّ أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي، نَجِّني أيْ أنْقِذْني وخَلّصْنِي وسَلّمْني، أنا وأهلي، أيْ وأهل ديني الإسلام، أيْ والمؤمنين معي مِن عائلتي ومِن غيرهم، مِن شرور وأضرار ما يعملونه مِن سوءٍ ومِن عذابك المُسْتَحَقّ لهم الذي ستُعاقبهم به بسببه
ومعني "فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)"، "إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)"، "ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172)"، "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائه وتَوَسّله الصادق أنْ سارَعْنا بمُجَرَّد دعائه بالاستجابة له برحمتنا وكرمنا وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ نجَّيْناه أيْ أنْقذناه وخَلّصْناه وسَلّمْناه هو وأهله جميعا، أيْ وأهل دينه الإسلام، أي والمؤمنين معه من عائلته ومن غيرهم، إلا زوجته العجوز الكافرة بَقِيَت في الغابِرين أيْ الباقين في العذاب، ثم بعد أنْ أنْجَيْناه وأهله أجمعين دَمَّرْنا أيْ أبَدْنَا وأهْلَكنا الآخرين أيْ قوم لوطٍ غير المؤمنين الفاعِلِين للسوء حيث بعد ابتعاده هو والمؤمنون معه عن قريته أرسلنا علي قومه المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُصِرِّين علي سُوئهم مَطَرَاً ليس مِن ماءٍ ولكنْ مِن حجارةٍ صلبة مُلتهِبَة أهلكتهم جميعا وخَرَّبَت بيوتهم وجعلت أسْقُفَهَا مُلامِسَة للأرض، وذلك بسبب إصرارهم علي الشرور والمَفاسد والأضرار وعلي رأسها ارتكاب جريمةٍ شنيعةٍ هي جِمَاع رجل مع رجل والتي لم يَسبقهم لها قبلهم أيّ أحدٍ رغم أنهم تُرِكُوا لفتراتٍ طويلة وتَنَوَّعَت لهم وسائل دعوة رسولهم إليهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (82) من سورة هود "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فسَاءَ مَطَرُ المُنْذَرِين أيْ فبالتالي مَا أسْوَأ مَطَر الذين أُنْذِرُوا وحُذّرُوا كثيراً ولكنهم كذّبوا واسْتَهْتَروا واسْتَهْزَؤا واسْتَكْبَروا واسْتَمَرّوا في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، حيث قد نَزَلَ عليهم بأشدِّ أنواع العذاب والهلاك والإتْعاس
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم شعيب (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة الأعراف وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)"، "إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)"، "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)"، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)"، "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)" أيْ (برجاء مراجعة الآيات (105) حتي (109) من هذه السورة "الشعراء"، للشرح والتفصيل.. وأصحاب الأيْكَة هم عند بعض العلماء قوم مَدْيَن الذين أُرْسِلَ إليهم الرسول الكريم شعيب (ص) وعند علماء آخرين هم قومٌ في بلدٍ آخرٍ مُجَاوِرٍ لمدينة مدين وكان شعيب قد أُرْسِلَ إليهم أيضا ولكنه لم يكن من أهلها ولذا لم يذكر القرآن الكريم لِدِقّته لفظ "أخوهم" كما في الآيات السابقة.. وأصحاب الأَيْكَة تعني أنهم كانوا يمتلكون الأيكة أيْ البساتين ذات الأشجار الكثيفة المُلْتَفّة كدلالة علي كوْنهم أغنياء بكل أنواع أرزاق الله لهم.. مع مراعاة أنّ بداية كلّ مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن أحوال الرسل الكرام مع أقوامهم هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ كلّ الرسل يأتون بدعوةٍ واحدةٍ دون أيِّ تغييرٍ في أصولها وهي الإيمان بالله تعالي وحده والعمل بكل أخلاق دينه الإسلام، ويكون التغيير فقط في تفاصيل التشريعات والأنظمة بحيث تكون مُنَاسِبَة مُصْلِحَة مُسْعِدَة للناس في كل زمن)
ومعني "أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)"، "وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)"، "وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)" أيْ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم أَتِمُّوا الكَيْل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم وافِيَاً كاملاً من غير أيِّ نَقْص، ولا تكونوا من المُخْسِرين مُطْلَقَاً – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيفاء والتعْمِيم له – أيْ المُنْقِصِين المُقَلّلِين لأيِّ حقّ من حقوق الآخرين الواجب لهم بالعدل اعتداءً عليهم وظلماً لهم، وعليكم أنْ تَزِنُوا إذا وَزَنْتُم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون بالقسطاس المستقيم أيْ بالميزان الدقيق العادل المستقيم أيْ الذي لا يَمِيل ولا يَنْحَرِف أيَّ انحرافٍ بل مُنْضَبِط تمام الانضباط – وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره – بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم وستُعَاقَبُون عليه بما يُناسِب من كلِّ شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقّ لهم سواء أكان مادِّيَّاً أم مَعْنَوِيَّاً في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنْضَبِط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خِداعٍ أو غِشّ.. ".. وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيفاء بكل الحقوق وتعميمها لتشملها كلها وليس في الكيْل والميزان فقط.. أيْ ولا تُقَلّلوا للناس قيمة أشيائهم التي يملكونها سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، في كل شئون حياتهم، صَغُرَت أم كَبُرَت، فتنقصوهم حقوقهم فتظلموهم.. ".. وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)" أيْ وإيَّاكم والعَثْو وهو الإفساد ونَشْر الشَّرِّ في الأرض بكل صُوَرِه المادية والنفسية فتَسيرون فيها مُفْسِدين لكلِّ شيءٍ مُسْتَخْدِمِين نِعَم الله تعالي في هذا الفساد فيتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ولكنْ استخدموها في كل خيرٍ لتسعدوا فيهما.. وفي هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره وتَعْميمه لمَنْع أيّ فسادٍ من أيِّ مكانٍ في الأرض ليَسعد البَشَر جميعا
ومعني "وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي حيث هي التي ستُعينهم علي التّخَلّص من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم مع تَذْكِرَتهم بنِعَم الله تعالي عليهم التي يعلمونها ويعرفونها جيداً ويعيشون مُتَنَعِّمِين فيها وبها والتي لا يمكن لعاقلٍ أنْ يُنْكِرها والتي لا تُحْصَيَ حيث حُسْن اسْتِشْعارها وشُكرها عملياً بحُسْن استخدامها في الخير لا الشرّ يُعينهم علي مزيدٍ مِن عودتهم لربهم ولدينه الإسلام ومزيدٍ مِن تَقْواه سبحانه.. أيْ وخافوا الله الذي وحده لا غيره خَلَقَكم أيْ أوْجَدَكم مِن عَدَمٍ أيْ أنْعَمَ عليكم بنِعْمة الإيجاد ثم أنْعَمَ عليكم وأسْعَدكم بنِعَمه التي يَصْعُب حَصْرَها وخَلَقَ الجِبِلّة الأوّلين أيْ الخِلْقَة أيْ الخَلْق السابقين وأنْعَمَ عليهم وأسْعَدهم وسيُنْعِم علي الخَلْق القادمين بعدكم وسيُسْعِدهم مِثْلكم ومِثْلهم إلي يوم القيامة ثم سيُنْعِم وسيُسْعِد سعادة تامَّة خالدة المؤمنين به العامِلين بدينه الإسلام في جنّاتٍ بها نعيم لا يُوصَف وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وحده علي نِعَمه حتي يَحفظها لكم ويزيدها ولا يمنعها عنكم وتوكّلوا عليه وحده وخافوا عقابه وحده بأنْ تُسْلِموا لِتسعدوا بالداريْن حيث قد عاقَبَ بقُدْرَته وعلمه وحكمته الجِبِلّة الأولين الكافرين به العابدين لغيره الفاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بعقابٍ وعذابٍ مُناسِبٍ لسُوئهم في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)" أيْ قالوا له مُقَابِلين شَفَقته ورِقّته ورِفْقه وبِرّه وإحسانه وحبّه واحترامه وتَدَرُّجه وحِكْمته ومَوْعِظته الحَسَنَة لفتراتٍ طويلةٍ صابِرَاً علي إغلاقهم لعقولهم وأذاهم ودِقّته في اختيار ألفاظه وعِلْمه وعَقْلَانِيَّته ومَنْطِقِيَّته وحِرْصه التامّ الصادق علي إسعادهم في الداريْن، بكل رَفْضٍ وغَضَبٍ وغِلْظَةٍ وتهديدٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وجَهْلٍ ولاَعَقْلانِيَّةٍ وإصرارٍ علي السوء، قالوا له أنتَ لستَ إلّا من المُسَحَّرِين أيْ من الذين سُحِرُوا سِحْرَاً شديداً كثيراً فاخْتَلّت عقولهم فلا يُدْرِكون ما يقولون ويقولون كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل! يَقصدون أنه بالتالي ما جاءهم به (ص) من دينٍ أي الإسلام ما هو إلا سِحْر أي يَسْحِر عقول الناس بأوهامٍ وتَخَيّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحْر بالعقل! فكيف يَتّبِعونه بالتالي إذَن أيْ يَسيرون خَلْفه ويَعملون بدينه بل لو فَعَلوا هذا لكانوا لا يَعْقِلون؟!! إنهم يريدون بقولهم هذا التشكيك فيه وفي الإسلام وتَشْويه صورته حتي يَصُدُّوا الناس عنه فلا يَتّبعونه
ومعني "وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)" أيْ وقالوا أيضاً لمزيدٍ مِن تأكيدِ مَا قالوه سابقاً ولتأكيد إصرارهم علي تكذيبهم وسُوئهم: وما أنت إلا بَشَر مثلنا ولسْتَ مَلَكَاً أو لك فضل علينا بل نحن أفضل منك من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريعٍ لتوصله لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع مَلَكٍ من مَلائكته! فأنت إذَن كاذب! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِلت به إلينا!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)" أيْ وما نظنّك، أيْ ومَا يَغْلِب علي ظَنّنا من ظَنٍّ هو أقْرَب لليقين، إلا أنك من الكاذبين – واللام للتأكيد – في ادِّعائك أنك رسولٌ من عند الله يُوحِي إليك تشريعاته التي تُبَلّغنا بها
ومعني "فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، وإنْ كنتَ رسولاً حَقّاً، فبالتالي إذَن فأسقط علينا قِطَعَاً مِن السماء أيْ قِطَعَاً من العذابٍ كصواعق أو سيول أو نحوها تُعَذّبنا وتُهلكنا كما ادَّعَيْت أنَّ ربك يُهَدِّدنا ويَتَوَعَّدنا بذلك إنْ لم نؤمن فهو علي كل شيءٍ قدير، فإنْ حَدَثَ ذلك فمِن المُمْكِن أن نقتنع بصِدْقك أنك رسول وقد نؤمن لك وإنْ لم يَحْدُث فأنت غير صادقٍ وسنَكْفر بك!!.. وهذا طَلَبٌ سَفِيهٌ تافِهٌ منهم يَدَّعُون كَذِبَاً ومُرَاوَغَة أنه لو تَحَقّق لهم قد يَجعلهم يُؤمنون!.. هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بهم يطلبون منه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال عقوبة الله بهم التي يَعِدُهم بها إنْ كان صادقاً فإنْ لم تَنْزِل فهو إذَن كاذب وذلك قَبْل وبَدَل أن يطلبوا سرعة الهداية لله وللإسلام والتي ستؤدِّي بهم حتماً لكل حياةٍ حَسَنَةٍ سعيدةٍ في الدنيا والآخرة! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا فيما يدعوهم إليه من إسلامٍ فيه كلّ خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتاً للتفكير فيه ومَزيدَاً من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون العقاب والهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)" أيْ إنْ كنتَ من الصَّادِقِينَ فيما تَدَّعِيه أنك رسولٌ من الله وأنك لا تقول إلا الحقّ وفيما تَدْعُونا والناس إليه من عبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام
ومعني "قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)" أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا بالداريْن بَدَلَاً أنْ يَتْعسوا فيهما بنزول العذاب عليهم بما يَسْتَحِقّونه، كما أنه تَوَكّلٌ تامٌّ علي الله تعالي وتَفْويضٌ أيْ تَسْليمٌ للأمر كاملاً إليه يفعل فيهم ما يشاء حيث حتماً سيَهزمهم ويَنْصره والمؤمنين عليهم فهو الكافِي لمَن يتوكّل عليه القادر علي كل شيء.. أيْ قال لهم مُحَذّرَاً مُتَوَكّلاً علي الله مُسْتَعِيناً به مُفَوِّضَاً الأمر إليه: ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – أعلم وحده بكل تأكيدٍ بتمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ وسيُحاسبكم حتماً بالتالي علي كل شروركم ومَفاسدكم وأضراركم إنْ لم تتوبوا بمَا تَسْتَحِقّونه من عذابٍ في الداريْن بكل عدلٍ دون أيِّ ذرَّة ظلمٍ في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا، أمّا أنا فلا يُمكنني فِعْل ذلك مُطْلَقاً فليس عليَّ إلا أنْ أُحْسِن دعوتكم لله وللإسلام حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم وقد أَدَّيْتُ ذلك تماما مَا استطعت بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ولفتراتٍ طويلةٍ ولكنكم مُصِرُّون علي سُوئكم بلا تَوْبَة
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)" أيْ فتبيّن من قولهم السابق أنهم قد كذّبوه، أيْ فاستمرّوا علي تكذيبه وأصَرُّوا عليه بلا توبة، أيْ لم يُصَدِّقوه فيما أبْلَغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوْصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فبالتالي كان لابُدَّ إذَن مِن أنْ يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، وبسبب تكذيبهم هذا وإصرارهم عليه، أنْ أَخَذَهم أيْ أصابهم ونَزَلَ وانْقَضَّ عليهم عذابُ يوم الظلّة أيْ يوم السحابة التي لها ظِلّ تُظَلّل به مَن تَحتها لتَمْنَع عنه حَرَّ الشمس والمقصود أنَّ الله تعالي عَذّبهم وأهْلَكهم بأنْ جَعَلَ عليهم يوماً شديد الحرارة ثم أظهر سحابة في السماء لها ظِلّ بحيث تَخْدَعهم وتَسْتَدْرِجهم إليها إذ سيَتَوَهَّمُون أنها سَتُظِلّهم فتَمْنَع عنهم الحَرَّ مِثْل أيِّ سَحَابَةٍ فلمَّا تَجَمَّعُوا تحت ظِلّها إذا بهذه السحابة تُسْقِط عليهم – كما طَلَبُوا هم سابقا من رسولهم (ص) لزيادة حَسْرَتهم وعذابهم النفسيّ قبل عذابهم الجَسَدِيّ – قِطَعَاً من نارٍ فتُهْلِكهم جميعا.. ".. إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)" أيْ إنَّ عذابَ يومِ الظلّة كان عذابَ يومٍ عظيمٍ في شِدَّته وهَوْله وإهلاكه الذي لا يُوصَف ولا يُتَصَوَّر ولا يُحْتَمَل.. ثم في الآخرة بعد عذابهم هذا في دنياهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)" أيْ (برجاء مراجعة الآية (8)، (9) من هذه السورة، سورة الشعراء).. هذا، ويُلاحَظ أنَّ نهاية كل مجموعة من الآيات التي تَتَحَدَّث عن قومٍ من أقوام المُكَذّبين هي واحدة مُتَشَابِهَة للتأكيد علي أنَّ نهايتهم التي هي حتماً سَيِّئة فَظِيعَة هي دائماً واحدة متشابهة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)" أيْ وإنَّ هذا القرآن العظيم الكريم المُعْجِز مُنَزَّل مِن ربِّ العالمين أي مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – وإنَّ واللام للتأكيد – لا مِن عند أحدٍ غيره كما يَدَّعِي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، وليس شِعْرَاً أو سِحْرَاً أو خُرافاتٍ أو كَتَبَه بَشَر أو ما شابه هذا من ادِّعاءاتهم الكاذبة، بل فيه كلّ صدقٍ وخيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بكل أخلاقه
ومعني "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)" أيْ نَزَلَ بهذا القرآن العظيم من عند ربِّ العالمين للرسول الكريم محمد (ص) ليُبَلّغه للناس المَلَكُ جبريل الأمين الذي لا يُمكن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفاً أو شيئاً
ومعني "عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)" أيْ علي عقلك ومَشاعِرك يا رسولنا الكريم كما قال في الآية (37) من سورة ق "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ.." أيْ عقل وإدْراك وشُعُور، لِتَقْرأه وتَفْهمه وتَسْتَشْعِره وتُدْرِكه وتَحفظه بلا نِسْيانٍ فتَحْيَا حياتك عامِلاً بكل بأخلاقه وأنظمته لكي تكون بذلك مِن المُنْذِرين بما فيه مِن إنذاراتٍ وتحذيراتٍ وعقوباتٍ أيْ المُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، وكما أنه (ص) من المُنْذِرين فهو أيضا من المُبَشّرين بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)" أيْ هذا القرآن العظيم الذي أنزلناه إليك أنزلناه بقولٍ عربيٍّ فصِيحٍ بَلِيغٍ مُبَيِّنٍ مُوَضِّحٍ لقواعد وأصول كلّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، فهو واضِحٌ كل الوضوح مُكْتَمِلٌ كل الاكتمال مُحْكَمٌ كل الإحكام ليس فيه أيّ نَقْصٍ أو خَلَلٍ أو اضطرابٍ أو تَنَاقُض (برجاء مراجعة الآية (1) من سورة هود "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"، والآية (89) من سورة النحل ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن ذلك)، فهو مُعْجِزَة باقية خالدة تَتَحَدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. لقد أنزلناه بلسانٍ عربيٍّ أيْ باللغة العربية، لأنها أقوي لغة، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة حتي يَعْقِل الجميع ما فيه ويَتَفَهَّموه ويَعملوا به كله ليسعدوا تماماً في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)" أيْ وإنَّ هذا القرآن العظيم بما فيه مِن إسلامٍ، مَضْمُون مَعانيه وأخلاقِيَّاته وأنْظِمَته، وكذلك ذِكْره أنه سيُوحَيَ إلي رسولٍ كريمٍ هو محمد (ص)، هذا القرآن بمَضْمُونه وذِكْره موجودٌ في كتب الأنبياء السابقين التي أُنْزِلَت قبله – والزبُر جَمْع زَبُور والزبُور في اللغة أيْ المَزْبُور أيْ المَكْتُوب أيْ الكتاب المَكْتُوب – حيث كلها أصلها الإسلام لكنْ بما يُناسب كل عصرٍ بما يُسْعِد الناس في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، وكلها كتبٌ مَشْهُورَةٌ يَعلم أكثرها الجميع كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وكلها وَحْيٌ من عند الله تعالي لا من كلام البَشَر، فإذا كان هناك مَن يُكَذّب بما جاء في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي محمد (ص) فليسأل إذَن المُتَخَصِّصِين الصادقين وليبحث عَمَّا جاء في الكتب السابقة الثابتة التي لم تُحَرَّف وسيتأكَّد أنَّ أصول ما فيها هو ما في القرآن تماما بلا أيِّ اختلاف، فالقرآن والرسول الذي أوحِيَ إليه وبَلّغه إذَن صادق بلا أيّ شكّ ولكنَّ المُكَذّب هو الذي يُغْلِق عقله ويُرَاوِغ!! لقد عَطَّله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)" أيْ وهل لم يكن لهؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين دلالة وعلامَة كافية تماماً علي صِدْق هذا القرآن العظيم وصِدْق هذا الرسول الكريم وهي أنْ يعلم صِدْقه بما جاء فيه مِن عبادة الله تعالي وحده ومِن إسلامٍ ومُوَافَقَته لِمَا جاء في كتبهم التوراة والإنجيل وغيرهما علماءُ بني إسرائيل المُنْصِفِين العادِلِين ويُؤْمِن بعضهم به بالفِعْل؟! إنها آية كافِيَة حتماً لكل عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل، ولكنهم قد عَطّلُوا عقولهم بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)"، "فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)" أيْ وهذا مزيدٌ من البيان لتمام إصرارهم علي تكذيبهم وإغلاقهم لعقولهم.. أيْ ولو نَزَّلنا هذا القرآن العظيم علي رسولٍ من بعض الأعجمين أيْ الذين لا يتكلّمون باللغة العربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة باللغة العربية وهو أمرٌ مُعْجِزٌ خارِقٌ للعادَة لتأكّدهم أنه أعْجَمَيٌّ تماماً ما كانوا مؤمنين به رغم اجتماع مُعْجِزَتَيْن أمامهم مُعْجِزَة أننا جعلنا هذا الرسول الأعْجَمِيّ يقرأه عليهم بلغتهم العربية بما يُثْبِت صِدْق أنه رسولنا وأنه لا يمكن أنْ يقوله هو مع مُعْجِزَة القرآن ذاته.. كذلك من المعاني ولو نَزّلناه علي بعض الأعجمين بلُغَةٍ أعْجَمِيَّةٍ أي غير عربية فقرأه علي هؤلاء المُكَذّبين بهذه اللغة الأعجمية ما كانوا به مؤمنين لأنهم لا يعلمون هذه اللغة ولكنّنا نَزّلناه بلغتهم العربية وهم أفصح الناس وأعلمهم باللغة العربية ويعلمون جيدا إعجازه ولم يستطع أحد منهم أن يأتي بمِثْله رغم تَحَدِّيه لهم بذلك بما يدلّ أعظم دلالة علي أنه ليس من كلام البَشَر بل مِن خالقهم سبحانه لأنه لو كان مِن كلامهم لكانوا هم الأقْدَر علي الإتيان بمثله، فلماذا إذَن لا يؤمنون؟! إنّ المشكلة بالتالي ليست حتما في القرآن العظيم وإنما في إصرارهم علي ما هم فيه والذي سببه تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم بَدَلَاً أنْ يحمدوا ربهم حَمْداً كثيراً علي أنْ أنزل عليهم هذا القرآن الكريم بلغتهم لكي يفهموه بعُمْقٍ ويعملوا به كله ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن ويُتَرْجِموه لغيرهم بلغتهم كأمانةٍ عندهم من ربهم ليسعدوا هم أيضا وينالوا أعظم الثواب بذلك إذا هم يُعانِدون ويُكَذّبون!!
ومعني "كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)" أيْ هكذا دائماً أَدْخَلْناه أيْ التكذيب والاستهزاء ونحوه في قلوب أيْ عقول المُجْرِمين الحالِيِّين كما أدْخَلناه في عقول المجرمين الأوّلِين السابقين فلا يؤمنون بالله ورسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وبكتبه وآخرها القرآن العظيم، فهذه دَوْمَاً هي سُنَّتنا أيْ طريقتنا وأسلوبنا في التّعامُل مع أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي إجرامهم وسُوئهم.. والمقصود أنهم هم أصلاً لم يشاءوا الهداية لله وللإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، وبالتالي إذَن لا يشاؤها الله لهم أيْ يتركهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أَدْخَلَ التكذيب لعقولهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروه وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذَن، ويهديه إليه سبحانه، إلي طريقه، إلي الإسلام، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب هذه الهداية، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، والمُجْرِمُون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. كذلك من معاني الآية الكريمة: كما سَلَكْنا أيْ أَدْخَلْنَا كُتُبَ الرسل السابقين فى قلوب أيْ عقول أولئك المُجرمين المُكَذّبين المُسْتَهْزئين السابقين ففهموها ولكنهم لم يؤمنوا بها تكذيباً وعِنادَاً واستكباراً واستهزاءاً، سَلَكْنَا القرآن العظيم فى قلوب المجرمين الحالِيِّين بأنْ نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويُدْركون معانيه دون أن يستقرّ فى قلوبهم استقرار تصديقٍ واتّباعٍ وعملٍ به، وذلك لتمام تكذيبهم وعنادهم واستهزائهم وإغلاقهم لعقولهم بلا أيِّ عودة لله وللإسلام، وبالتالي إذَن فليس للكفار حُجَّة بأنهم ما فهموا القرآن والإسلام كما فهمه الذين آمنوا حيث هو تعالي برحمته يَسْلك وَصَاياه المُسْعِدَة لجميع خَلْقه أيْ يُدْخلها في قلوبهم أي عقولهم من خلال فطرتهم في هذه العقول والتي هي مسلمة أصلا ومُسْتَعِدَّة ومُتَلَهِّفَة لاستقبال هذه الوصايا التي بكُتُبِه لتعمل بها لتَسْعَدً في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أَنْصَفَ الكافرون والمُتَشَبِّهُون بهم وكانوا عادِلين لاختارتها عقولهم كما فَعَلَ المؤمنون ولكنهم كانوا مُجرمين فاختاروا الإجرام والشرَّ والتكذيب والتعاسة وتركوا باختيارهم الخير والتصديق والسعادة
ومعني "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)"، "فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)"، "فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان والتأكيد لتمام إصرارهم علي تكذيبهم وإغلاقهم لعقولهم.. أيْ لا يُصَدِّق المُجْرِمُون المُكَذّبون بهذا القرآن العظيم، وبالرسول الكريم (ص) الذي أُوحِيَ إليه فيما يُبَلّغه لهم عن ربه من إسلامٍ، وبالعذاب الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسب إصرارهم علي إجرامهم، ويُصِرُّون ويَسْتَمِرُّون علي ذلك غير مؤمنين إلي أن يُشاهدوا بأعينهم ويُذوقوا العذاب المُؤْلِم المُوجِع الشديد في دنياهم أولا بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ وعدم استجابتهم للحقّ رغم وضوحه وعَرْضه عليهم لفتراتٍ طويلةٍ بكل حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبصورٍ مُتَعَدِّدَة، ثم يموتون علي ذلك ليَروا عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأعظم وأخْلَد ولا يُوصَف.. "فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)" أيْ فيَصِلُهم العذاب فجأة وَهُمْ لا يَدْرُون مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه.. إنه عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تَصْدُر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم.. "فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)" أيْ فيقولوا حينها خائفين مُتَحَسِّرين نادِمين مُتَمَنّين في وقتٍ لن يَنْفع فيه أيّ نَدَمٍ ولا تَمَنٍّ حيث قد نَزَلَ العذاب بالفِعْل إذ الوقت وقت حسابٍ وعقابٍ علي الإصرار علي السوء لا وقت عملٍ وتَصْويبٍ: هل نحن مُنْظَرُون أيْ مُؤَخّرُون مُؤَجَّلُون مُتْرَكُون لفترةٍ نُصَحِّح فيها أنفسنا فنَتوب ونُؤمِن بالله ونَتّبِع دينه الإسلام؟! فلا يُجابُون حتماً لِمَا يَتَمَنّون ويُعَذّبون
ومعني "أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)" أيْ فهل يَستعجلون بنُزول عذابنا بهم؟! أيْ فهل وَصَلَ بهم الجَهْل والعِناد والاستكبار والاستهتار وعدم تقدير الأمور أن يَستعجلوا عذاب الله تعالي؟! مع كوْنهم لا يُطيقونه إذا نَزَلَ بهم ويَطلبون تأجيله ليؤمنوا!!.. والاستفهام هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليَسعدوا.. إنهم يَطلبون منه (ص) – ومِن المسلمين مِن بَعده – بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يَعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذن كاذب والمسلمون كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِه بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)"، "ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)"، "مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل نظرتَ وتأمَّلتَ فرأيتَ وعلمتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل إنْ مَتّعْناهم بمُتَعِ الحياة المختلفة سنين طويلة، ثم وَصَلَهم ما كانوا يُوعدون به مِن عذابنا الذي لا يُوصَف ولا يُحْتَمَل مِن خِلال كُتُبنا ورُسُلنا، مَا أغني عنهم أيْ لا يَنْفَعهم حينها بأيِّ شيءٍ ولا يُفيدهم ولا يَنْصرهم ما كانوا يُمَتّعون مِن المُتَع طويلاً إذا لم يتوبوا من سُوئهم لأنَّ عذاب الله واقِعٌ بهم حتماً بلا تأخيرٍ عن مَوْعِده المُحَدَّد ولا تَخْفيفٍ لا يَمْنَعه مانِعٌ مِن أيِّ مُتَعٍ أو أيّ ناصِرٍ أو أيّ شيءٍ، ولا خير قطعاً في نعيمٍ مُؤَقّتٍ زائلٍ يوماً مَا يَتْبَعه عذابٌ دائم
ومعني "وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)"، "ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)" أيْ وما أَبَدْنَا وأفْنَيْنَا وعاقَبْنا وعذّبْنا أيَّ أهل بَلَدٍ بسبب استحقاقهم للعذاب والهلاك لإصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ إلا لها مُنْذِرُون أيْ إلا بعد أنْ كان لها مُنْذِرون أيْ مُحَذّرُون أيْ رُسُلٌ منهم يُحَذّرون بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرُون فهُمْ أيضاً مُبَشّرُون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الإسراء ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا الإنْذار والتبشير يكون لفتراتٍ طويلةٍ من الرسل الكرام الذين يَدْعُونهم لله وللإسلام الذي نُوحِيهِ إليهم في كُتُبِنا بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ بحيث لا يكون لأيِّ أحدٍ أيّ حُجَّةٍ أو عُذْرٍ إذا نَزَلَ به العقاب والعذاب المُناسِب في دنياه وأخراه والذي سيكون بسبب إصراره التامِّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات له ولمَن حوله بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربه ولأخلاق إسلامه.. إنَّ الذين يَستمرّون علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار ويُصِرُّون تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لابُدَّ بالتالي إذَن مِن أنْ يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، فتكون النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، وبسبب تكذيبهم هذا وإصرارهم عليه، أنْ يُهْلِكَهم الله تعالي أيْ يُعاقِبهم بأنْ يُبيدهم ويفْنيهم، بزلازل أو صَوَاعِق أو فيضانات أو أوْبِئَة أو نحوها.. "ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)" أيْ ليكون هؤلاء المُنْذِرُون ذِكْرَيَ، أيْ تَذْكِرَة وعِظَة لهم ولغيرهم لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين المُتّعِظِين أيْ لكي يتذكّروا ولا يَنْسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما عليهم فقط إلاّ أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصدق، فإنْ نَسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حارَبُوه وأَصَرُّوا علي ذلك بلا توبةٍ أهْلَكهم الله كما أهْلَكَ أمْثالهم السابقين الذين تَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم ليكونوا عِبْرَة لمَن يَتَشَبَّه بهم مِن الحالِيِّين والمُسْتَقْبَلِيِّين حتي لا يكونوا مِثْلهم.. ".. وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)" أيْ وما كنّا ظالمين أبداً بأنْ نُهْلِكَ أهل قريةٍ قبل أن يكون لها مُنْذِرُون ومن غير أن يكونوا مُسْتَحِقّين للعذاب بسبب تكذيبهم وإيذائهم لهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وإصرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بلا أيّ توبة، فليس بالقطع حتماً من صفاتنا الظلم بل تمام العدل (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (101) من سورة هود "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)"، "وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)"، "إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)" أيْ هذا رَدٌّ علي أكاذيب المُكَذّبين الذين يَدَّعُون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنَّ القرآن الكريم هو مِثْل ما تُلْقِيه الشياطين علي الكَهَنَة أيْ الذين يَدَّعون أنهم يعرفون الأشياء الغَيْبِيَّة المستقبلية ويُخْبِرون عنها بكلامٍ فيه سَجْع وتَنْسيق بسبب اتصالهم بهذه المَخْلوقات الخَفِيَّة!.. أيْ ولم تَتَنَزَّل الشياطين أبداً به أيْ بهذا القرآن العظيم ولكنْ تَنَزّلَت به الملائكة حيث نَزَلَ به من عند ربِّ العالمين للرسول الكريم محمد (ص) ليُبَلّغه للناس المَلَكُ جبريل الأمين الذي لا يُمكن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفاً أو شيئاً.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه حتماً كلام الله تعالي المحفوظ من أيِّ تغييرٍ لا مِن كلام بَشَر ولا من كلام رسوله الكريم الصادق الأمين محمد (ص) كما يَدَّعِي المُكَذّبون به الذين يَدَّعون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنه تَنَزَّلَت به الشياطين حيث هو (ص) يَتّصِل بمَخلوقاتٍ جِنّيَّةٍ أيْ خَفِيَّةٍ هي التي تقول له هذا القرآن وبالتالي فما هو إلا كَهَانَة وشَعْوَذَة وفيه خَلَل واضطراب كما يحدث مع كلام الكَهَنَة ومحمدٌ كاهِنٌ كاذِبٌ والقرآن كَهَانَة من عند الشياطين لكنَّ محمداً يَنْسِبه لربه!! وكل هذه الأكاذيب والادِّعاءات والسفاهات منهم هي من أجل التشكيك في القرآن العظيم وفي صِدْق الرسول الكريم (ص) حتي لا يَتّبِعه أحد! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الحِجْر "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)" أيْ ولا يَصِحّ ولا يَصْلُح ولا يَحْدُث ولا يُمْكِن أبداً ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للشياطين ذلك مُطْلَقَاً حيث هي تَدْعو إلى الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات في الداريْن بينما القرآن يَدْعو إلى الخيرات والصلاحات والمُفيدات والسعادات فيهما كما يُثْبِت الواقع ذلك عملياً ويَشْهَد به أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل! فالشياطين جَمْع شَيْطان والشيطان في اللغة العربية هو كلّ مُفْسِدٍ مُتَمَرِّدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمة ربه! ولا يستطيعونه أصلا لإعْجازه حيث لا يُمْكِن لأيِّ مَخْلوقٍ أنْ يأتي بمِثْله.. "إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)" أيْ إنهم عن السماع للقرآن الذي يُوحِيه لرسوله (ص) مَعْزُولون – واللام للتأكيد – أيْ مَحْجُوزُون مَمْنُوعُون مُبْعَدُون مُقَيَّدُون تماماً لأنهم لو حاولوا الاستماع فإنهم سيَجِدُون حتماً شِهابَاً رَصَدَاً أيْ مُتَرَصِّدَاً أيْ مُتَرَبِّصَاً مُتَرَقّبَاً مُنْتَظِرَاً مُعَدَّاً لهم يَمْنعهم بكلّ قوّةٍ وحَزْمٍ كما يقول تعالي في الآية (9) من سورة الجِنّ ".. فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) فكيف بالتالي إذَن تَتَنَزَّل به؟! فهذا أمرٌ يُخَالِفُ عقلَ أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل!.. إنَّ كلّ مَا سَبَقَ ذِكْره في الآيات الثلاث يُفيد أنَّ ادِّعاءات المُكَذّبين أنَّ القرآن العظيم تَنَزَّلَت به الشياطين باطِلَة من أساسها! كما يُفيد حِفْظه تعالي التامّ له مِن أيِّ مُحاوَلَة لأيِّ تغييرٍ فيه أو عَبَثٍ به من أيِّ مَخْلوقٍ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً عن الأعْيُن رحمة للبَشَر لأنه هو المصدر لإسعادهم بالداريْن
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً لله تعالي في كل أقوالك وأفعالك (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان).. وإذا كنتَ مُتَمَسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُحْسِنين لدعوة الآخرين لله وللإسلام (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم أنَّ القرآن العظيم هو الحقّ وأنه تنزيلُ ربِّ العالمين وأنه يَدْعو لعبادته وحده فلا تَدْعُ أيْ فبالتالي إذَن لا يَصِحّ ولا يُعْقَل مُطلقاً أنْ تَدْع أيْ تَعْبُد مع الله إلاهاً أيْ مَعْبُودَاً آخر كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلك يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون يا كل مسلم ويا كل عاقل لأنَّ الله تعالي هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فتكون بسبب ذلك من المُعَذّبين حتماً بالتأكيد لِبُعْدِك عن ربك ودينه الإسلام، بدَرَجَةٍ مَا وصورةٍ مَا من درجاتِ وصُوَرِ العذاب بما يُناسِب فِعْلك وشُرورك، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكِك واسْتِئْصالك التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لك ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لك، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)" أيْ هذا تَخْصيصٌ بعد التعميم الذي في الآية (194) ".. لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ" وذلك للاهتمام بهذا الأمر.. أيْ وحَذّر بهذا القرآن العظيم عشيرتك يارسولنا الكريم ويا كل مسلم أيْ قبيلتك أيْ أقاربك الذين بينك وبينهم روابط عِشْرَة وكذلك كل مَن تَتَعاشَر أيْ تَتَعَايَش وتَتَعامَل معهم من الأنساب والجيران والأصدقاء وأشباههم، الأقربين أيْ الأقْرَب منهم ثم الأبْعَد فالأبْعَد أيْ أصحاب القرابَة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والعمّات ثم مَن يُشبههم، مع إنذار جميع الناس بالقطع لكنَّ المسئولية عن الإنذار والاستطاعة له تكون دَوْمَاً للقريب ثم للأبْعَد ثم للأبْعَد وهكذا، كما أنَّ استجابة القريب غالباً تكون أكثر من غيره لِعِلْمه بأخلاق قريبه الذي يَدْعوه وثِقَته به وكذلك لكي تتحقّق القُدْوَة فالداعي لله وللإسلام عليه أولا أن يعمل هو بالإسلام ثم يدعو أقاربه وجيرانه وزملاءه وأصدقاءه فإنَّ هذا يعطي مزيداً من الثقة فيه وفيما يدعو إليه من إسلامٍ حيث يكون تأثيره أكثر فيَتّبعه بالتالي الآخرون ليسعدوا مِثْله بالدارين، وكذلك حتي لا يَتَوَهَّم القريب أنه آمِنٌ من العذاب إذا لم يستجب بسبب قرابته للذي يدعوه، مع مراعاة أنه أحيانا قد يُقَدَّم في الدعوة البعيد عن القريب حسبما يُقَدِّر الداعي من ظروفٍ وأحوالٍ بما يُحَقّق أفضل الاستجابات لله وللإسلام، فأنْذِر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، وكما أنه (ص) وكل مسلم من المُنْذِرين فهو أيضا من المُبَشّرين بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكنْ اقْتَصَرَ الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم لكي يُوَجِّه حُبَّه لمَن يَسْتَحِقّه لا لأيِّ أحد.. أيْ وأنْزِل جناحك لمَن اتّبَعك مِن المؤمنين أيْ لمَن سارَ خَلْفَك وأطاعك واسْتَجاب لك واقْتَدَيَ بك فآمَنَ بالله وعَملَ بأخلاق الإسلام كما يُنْزِل الطائر جناحه لصغاره حماية ورعاية ودفئاً لهم وحبّاً فيهم وحرصاً عليهم، وهو تعبيرٌ يُقْصَد به معاملتهم – والناس جميعا ما داموا غير مُعْتَدِين علي الإسلام والمسلمين – بتمام الرحمة واللّيِن واللطف والحب والرّفْق والتواضُع والتسامُح والتّصافِي والتعاون والتكامُل وبالجملة بكل حُسْن الخُلُق وبالأُخُوَّة الإنسانية والإسلامية في كل قولٍ وعملٍ في كل شئون الحياة ليسعد الجميع بذلك.. إنَّ هذه الآية الكريمة تُرْشِد المسلمين أن يتصرّفوا في كل موقفٍ بما يُناسبه كما وَصَّاهم الإسلام وبما لا يَخرج أبداً عن أخلاقيَّاته (برجاء مراجعة الآية (54) من سورة المائدة ".. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)" أيْ فإنْ لم يُطِيعوك وخَالَفوك أيْ خالَفوا أخلاق الإسلام، بعضها أو كلها، ففَعَلُوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، أو كَفروا أو أشْرَكوا أو فَعَلوا ما يُشْبِه ذلك، فقل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أيْ اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم إني بريء مِمَّا تعملونه مِن سُوءٍ أيْ بَعيدٌ كلّ البُعْد عنه ولا صِلَة لي به ورافِضٌ له غير مُعْتَرِفٍ به ولا راض عنه وأنا ضِدَّه وأعاديه ولا أؤاخَذ بفِعْلِه أيْ كل فردٍ سيتحمَّل نتيجة عمله لا يتحمّله عنه أحدٌ غيره، فافعلوا ما شئتم فسيُحاسِب الله تعالي البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وهذا يُفيد ضِمْناً الابتعاد عن سوئهم وعدم الرضا عمَّا يقولون ويفعلون مِن سُوء.. إنَّ هذا إرْشادٌ للداعي لله وللإسلام أنه إذا رَأَيَ مِمَّن حوله مُخَالَفَة مَا للإسلام، والتي ستكون حتماً مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، فإنَّ عليه أنْ يَتَبَرَّأ مِن هذا العمل المُخَالِف، لكنْ لا يَتَبَرَّأ مِمَّن فَعَلَه، أيْ لا يُقاطِعه، ولكنْ يَسْتَمِرّ في حُسْن دعوته وتَذْكِرته مع تنبيهه بأنه يَتَبَرَّأ من عمله السَّيِّء أيْ لا يَرْضَيَ به ويَكْرَهه ولا يَتَحَمَّل مسئوليته بل فاعِله هو الذي سيَتَحَمَّل نتائجه السيِّئة المُضِرَّة المُتْعِسَة في دنياه وأخراه وأنه سيَظَلّ يُحاوِل تغييره بالحُسْنَيَ مَا استطاع، لأنه ليس معني خَفْض الجناح في الآية السابقة السكوت عن الشرِّ المُضِرّ المُتْعِس للذات وللغير بالداريْن والرضا به وعدم السعي الجادّ الدائم لتصحيحه! وإلا تَعِسَ الجميع به في دنياهم وأخراهم
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو سبحانه قادرٌ علي كل شيء، فهو الذي يُحَرِّك الأسباب والأمور كلها، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، من أجل تحقيق مصالح وسعادات الخَلْق كله
هذا، ومعني "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)" أيْ وتوكّل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي الله تعالي فهو العزيز الرحيم أيْ هو بكل تأكيدٍ الغالِب الذي لا يُغْلَب المُنتقِم من أعدائه الذي لا يُكرهه أيّ أحدٍ علي العدول عَمَّا يريد الذي يُعِزّ المؤمنين به المتمسّكين العامِلِين بكل أخلاق إسلامهم أهل الحقّ والخير ويُكرمهم ويَرفعهم وينصرهم، الرحيم الذي يَرحم ضعفهم وتقصيرهم ويَجْبُره ويَغفر لهم ويُعينهم ويُنزل نصره عليهم ويُحْيِيهم في إطار رحمته المُتَمَثّلَة في كل خيرٍ ويُسْرٍ وسُرورٍ، الذي يَغفر لكل مَن يعود إليه وإلي إسلامه ويُسعده في الداريْن، وبالتالي فالاعتماد عليه مَضْمُونٌ مُتَوَاصِلٌ مُطَمْئِنٌ مَوْثُوقٌ دائمُ تامُّ الضمانِ والتّوَاصُل والطمأنينة والثقة بينما الاعتماد علي غيره ليس كذلك حتماً إذ بمُجَرَّد ضَعْفه أو تَغَيُّره أو مَوْته يَضيع مَن يتوكّل عليه، والمقصود اعْتَمِد عليه وحده في كل شئون حياتك لتسعد في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أيْ اعتمد عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيَكفيك كفاية تامّة ولن تحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقك القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لك الرحيم بك هو وكيلك، أيْ الحافظ لك المُدافِع عنك، فهل تحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! فكن دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ثم كن بالتالي مُطْمَئِنّاً اطمئناناً كاملاً ومُسْتَبْشِراً تماماً ومُنْتَظِرَاً دائماً لكل خيرٍ ونصرٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وعَوْنٍ وتوفيقٍ وتيسيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في دنياك ثم أخراك.. كن مُستمِرَّاً ثابتاً صابراً علي العمل بالإسلام وعلي دعوتك لله وله مُتَوكّلا عليه في كل أمورك لا تُبالِي.. كن مستمرّاً فى طريقك الذى أمرك الله به بلا مبالاة بمَكْرِ وكَيْدِ أعدائك فكن علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاك ويُنجيك ويَنصرك.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخَيْره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مِثْلهم أجرهم مِن ربهم فيهما
ومعني "الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)"، "وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)"، "إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)" أيْ الذي له كل صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه يراك حين تقوم من نومك أو من مجلسك أو للصلاة أو لأيِّ عملٍ أينما كنتَ وبأيِّ توقيت، ويَرَيَ أيضاً تَقَلّبك في الساجدين أيْ تَغَيُّرك في أوْضَاعِك مع المُصَلّيِن بين قيامٍ وركوعٍ وسُجُودٍ وقُعُودٍ وكذلك يَرَيَ تَصَرُّفك في كل أحوالك لأنَّ المعني العام للساجدين أيْ الخاضعين لله خالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته المُسْتَجِيبن المُسْتَسْلِمين لها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبالٍ وانْشِراحٍ وسُرور، لأنه هو السميع العليم أيْ لأنه هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِنهم وفي كَوْنه، والمقصود من هذه الآيات الكريمة بيان تمام رعايته سبحانه لمَن يَتَوَكّل عليه وحمايته وحِفْظه وتأييده وعَوْنه وتَيْسيره لأموره وتوفيقه ونصره، فأيّ إكرام واهتمام وحب وأمان وعزّ وسرور أفضل من هذا؟! وكذلك بيان أنه سبحانه يَرَيَ كلَّ شيءٍ بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ويعلم عنه تمام العلم فهو بتمام عِلْمه وكمال قُدْرته مع خَلْقه دائما أينما كانوا في أيِّ وقتٍ بكلِّ عَوْنٍ لكلِّ خيرٍ وسعادةٍ بما يُعينهم قطعاً حينما يستشعرون ذلك ويَتَدَبَّرونه بتَعَقّلٍ وبتَعَمُّقٍ علي تمام التوكّل وتمام التقوي والإخلاص والإحسان ما استطاعوا في كل أقوالهم وأعمالهم (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة تفسير الآية (125)، (126) من سورة النساء)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك (برجاء مراجعة الآيات (192) حتي (212) من هذه السورة، سورة الشعراء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)"، "تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)"، "يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ القرآن الكريم ما تَنَزَّلَت به الشياطين أبداً علي الرسول الكريم محمد (ص) كما يَدَّعِي المُكَذّبون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً كما ذُكِرَ في الآية (210) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) ومزيدٌ مِن الردِّ عليهم، مع بيان اسْتِحَالَة تَنَزّلها عليه (ص) بعد امتناع تَنَزّلها بالقرآن، وبيان صفات الذين تَتَنَزّل عليهم الشياطين حقّاً، والاستفهام للتنبيه وللتقرير أيْ للتحقيق وللتثْبيت ولِحَمْل المُخَاطَب على الإقرار بما يَعْرِف وإلْجائه إليه وطَلَب اعترافه.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، وللناس جميعا، مُحَذّرَاً ومُذَكّرَاً، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما تَنَزّلَت الشياطين علي محمد أبداً لأنها لا تأثير لها مُطْلَقَاً علي الأنبياء والصالحين الذين يُقاوِمُونها ولا يَستجيبون لها ولكنْ هل أُنَبِّئُكُم أيْ أُخْبِرُكُم الخَبَرَ الصدق الذي ليس فيه أيّ شكّ علي مَن تَتَنَزّل الشياطين حقّاً بوَساوِسها؟! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة تفسير الآية (99)، (100) من سورة النحل "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، " إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)" أيْ إنها تَتَنَزّل علي كلّ أفّاكٍ أيْ كثير الإفك أيْ كثير الكذب الشنيع القبيح الشديد الظالم الزوُر الذي لا أصل له ويَقْلِب الحقائق ولا يُمْكِن وَصْفه، وأثيم أيْ كثير الفِعْل للآثام، أيْ للذنوب، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكلّ أنواعها، سواء أكانت كفرا أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهي لا تَتَنَزّل أيْ لا تأثير لها مُطْلَقَاً علي الأنبياء والصالحين الذين يُقاوِمُونها ولا يَستجيبون لها.. "يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)" أيْ الذين من صفاتهم هؤلاء الأفّاكين الآثِمين أنهم يَسْتَمِعُون بإصْغاءٍ شديدٍ واهتمامٍ وتَرْكِيزٍ لوَسَاوِس الشياطين أيْ لكلِّ شَرٍّ ليَفْعَلُوه ويَنْشُروه، وأكثرهم كاذبون في أقوالهم.. وفي هذا مزيدٌ من بيان اسْتِحَالَة تَنَزّل الشياطين علي الرسول الكريم (ص) المَوْصوف بأنه الصادق الأمين دائما حتي منهم أنفسهم والمعروف بأنه ليس أبداً أفّاكَاً ولا أثيماً ولا مُلْقِيَاً للسمْع وبالتالي لا تَتَنَزّل عليه.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد تكون صادِقَة أو قد تَصْدُق أحياناً في بعض المَوَاقِف التي تحتاج فيها للصدق
ومعني "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)"، "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)"، "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)"، "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)" أيْ هذا رَدٌّ علي كذبة أخري من أكاذيب المُكَذّبين الذين يَدَّعُون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنَّ القرآن العظيم شِعْرٌ وأنَّ الرسول الكريم (ص) شاعرٌ قد قاله ونَظّمه كما يُنَظّم الشعر الذي يقوله ويَنْسِبه لربه ولم يُوح إليه شيءٌ منه! وهذا الردُّ عليهم هو ببيان اسْتِحَالَة ذلك حيث بيّن سبحانه حال بعض الشعراء المُسِيئين وشِعْرهم ومُخَالَفَة مَا هم عليه لِمَا هو عليه (ص) والقرآن الكريم حيث لا يقول إلا خيراً وهم لا يقولون إلا شَرَّاً، ثم الجميع يعلم أسلوب الشعر ويعلم أنَّ القرآن الكريم ليس بشعرٍ أبداً وأنَّ الرسول (ص) الذي هم يُلَقِّبونه بالصادق الأمين ليس بشاعرٍ مُطلقا ولم يُنَظّم القرآن علي هيئة الشعر كذبا علي الله وإنما هو وَحْي أوْحاه إليه ليُبَلّغه للناس ليعملوا بأخلاقه كلها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فبَلّغه بكلّ صِدقٍ وأمانة، ثم إذا كان مِن وَضْع وكلام البَشَر فلماذا إذَن لا يأتون ولو بآيةٍ بمِثْل آياته وهم أكثر فَصَاحَة وعِلْمَاً منه (ص)؟! وقد تَحَدَّاهم بالفِعْل بهذا ولم ولن يستطيعوا أبداً حتي ولو اجتمعوا جميعا لذلك! لأنه القرآن العظيم، كلام الله تعالي الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل مَا أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وأيضا الشعراء الكافرون والعاصُون يَتّبِعهم أيْ يَسِير خَلْفهم ويُطيعهم ويَستجيب لهم ويَقتدي بهم الغاوون أيْ الضالّون أيْ الفاعِلون لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفون المُتَمَادُون في الضلال والانحراف بلا توبة، بينما الذين يَتّبِعون الرسول (ص) والقرآن الكريم هم المُهْتَدُون أيْ الفاعلون لكل خيرٍ وصلاحٍ مُسْعِدٍ في الداريْن من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، فكيف يكون شاعراً والقرآن شِعْرَاً؟!! إنَّ هذا أمرٌ يُخَالِفُ عقلَ أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل! إنه لو كان شاعراً مُسِيئاً لكان مَنْطِقِيَّاً أتْباعه غاووين حتما!! إنَّ هذا الردّ عليهم يُفيد أنَّ ادِّعاءات المُكَذّبين أنَّ القرآن العظيم شعرٌ وأنَّ الرسول الكريم (ص) شاعرٌ باطِلَة من أساسها!.. "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ الشعراء المُسِيئين يَتّبِعهم الغاوون ودَليلٌ عليه.. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن أنهم أيْ أنَّ هؤلاء الشعراء المُسِيئين في كل وادٍ من أوْدِيَة الكلام السَّيِّءِ أيْ في كل طريقٍ من طرُقِ الشِّعْر الضالِّ الفاسِدِ يَهِيمون أيْ يَسِيرون تائِهين بَعيدين عن طريق الحقّ، والهائم هو الضائع التائه المُتَحَيِّر الذي لا يعرف إلي أين يَتّجِه، والمقصود أنهم يَذهبون في شِعْرهم خَلْفَ كل ما يُحَقّق لهم ثَمَنَاً مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره بلا مراعاةٍ لأيِّ أخلاقٍ وضوابط وبالتالي فلا يهتدون للحقّ والخير فهم أحيانا يَمْدَحُون وأحيانا يَذِمُّون وهم يُنافِقون ويَسبّون ويَدْعون للفساد ونحو هذا مِمَّا يَضُرّ ويُتْعِس الجميع.. "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)" أيْ وأنهم كذلك يقولون في شِعْرهم الذي لا يَفعلونه، بمعني أنهم يَكْذِبون فيقولون علي سبيل التفاخُر فَعَلنا كذا وكذا ولم يفعلوه، وبمعني أيضا أنهم يُخالِفون بأفعالهم أقوالهم فيَتَحَدَّثون مثلاً عن الكَرَم وهم يَبْخَلون وعن الأمانة ويَخُونون وعن الشجاعة ويَجْبُنون وهكذا، بما يعني سُوء أخلاقهم.. "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ مِن هؤلاء الشعراء المُسيئين المَذْمُومين الشعراء الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وذَكَرُوا الله كثيراً بحيث كانوا في كل أحوالهم ذاكِرين دائماً له تعالي، بألسنتهم تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبعقولهم بتَدَبُّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعر الخير بداخلهم فيَنطلقون لعمله علي أرض الواقع، وبأعمالهم باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كلّ قولٍ يقولونه وكلّ عملٍ يعملونه (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وانتصروا مِن بَعْد مَا ظُلِمُوا مِمَّن ظَلَموهم الذين آذوهم وآذوا الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين بالأقوال والأفعال بأنْ نَصَرُوهم وأنفسهم والحقّ والعدل والخير ودافَعُوا عنهم من خلال الردِّ بشِعْرِهم الصادق المُبَيِّن للحقّ علي ظُلْمهم وكذبهم وسَفَههم وإيذائهم وكانوا مِن المُجاهِدين في سبيل الله بألسنتهم ونالوا أجرهم بالداريْن كما يقول (ص) "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" ( أخرجه أبو داود) (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (41) والتي قبلها وبعدها من سورة الشوري "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ"، والآية (148) من سورة النساء "لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ"، والآية (194) من سورة البقرة "فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وسَيَعْلَمُ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون أيْ أيَّ مَرْجِعٍ سَيِّءٍ يَرْجِعُون إليه بعد موتهم يوم القيامة وهو نار جهنم بعذابها الذي لا يُوصَف ولا يُمكن تَخَيّله، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمَصِير الذي يَرْجِعون ويَصِيرون إليه وهو النار يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يُناسِب أفعالهم بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم كالقلق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو حتي الاقتتال مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وعدم تحديد المُنْقَلَب يُفيد التهويل الشديد حيث كلّ مُسَتَمِعٍ يَسْبَح بخَياله فيه بما لا يُحْصَيَ.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ فظيعٌ مُخِيفٌ لكلِّ ظالِمٍ لعله يَستفيق ويُسارِع بالانتهاء عن ظُلْمِه وبالعودة لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه.. ولْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)" أيْ هذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة هى آياتُ القرآن العظيم الذي بين أيديكم، وهي آياتُ كتابٍ مُبِينٍ أيْ يُبَيِّن ويُوَضِّح لقارئه كلّ شئون الحياة علي أكمل وأسعد وجه.. فالقرآن الكريم هو قرآن أيْ مَقْرُوء وهو كتاب أيْ مَكْتُوب، وفي هذا تفخيمٌ وتكريمٌ عظيم له، وهذا يُفيد أنه مَحْفُوظ مِمَّن أنزله سبحانه تمام الحفظ ولا يُمكن تغيير أيّ حَرْفٍ فيه لأنه مكتوب عنده تعالي في السماء في علمه في اللوح المحفوظ ومكتوب في الأرض بكل وسيلة حديثة وتقليدية ومقروء دائما من المسلمين ويحفظه كثير منهم في صدورهم وبذلك يكتشفون فوراً أيّ عَبَثٍ قد يَحْدُث في أيِّ حرفٍ في أيِّ شيءٍ مكتوب من القرآن من أيِّ عابِثٍ واهِمٍ يَتَوَهَّم أنه يستطيع تغيير حرف فيه
ومعني "هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)" أيْ هو هادِي أيْ مُرْشِد، وفيه هُدَي، وأنزلناه ليكون هُدَي، أيْ إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه، وليكون أيضا بُشْرَيَ للناس جميعاً إذا عملوا بكل أخلاقه أيْ خَبَرَاً سارَّاً مُسْعِدَاً لهم لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، ولكنَّ الذين ينتفعون به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)" أيْ من صفاتهم الطيّبة الحَسَنة والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها ليسْعَد بالداريْن أنهم هم الذين يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم يُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)" أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم هم الذين بالحياة الآخرة – والتي هي بعد الحياة الأولي وهي الحياة الدنيا – وما فيها من بَعْثٍ للناس بالأجساد والأرواح من قبورهم وحسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ، هم مُتأكِّدون بلا أيِّ شَكٍّ تَأكّداً قطعياً، وهذا اليقين بها له أثره العظيم في إسعاد حياتهم الدنيوية وحياة مَن حولهم حيث يَدْفَعهم حتماً لحُسْن الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْكِ كلّ شَرٍّ دوْماً من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، بينما مَن لم يُوقِن بها، يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب مِن وِجْهَة نَظَره، فيَتعس الجميع بذلك فيهما
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ لا يصدّقون بوجود الآخرة حيث البعث للناس بالأجساد والأرواح بعد كونهم ترابا والحساب والعقاب والجنة والنار، زَيَّنَّا لهم أعمالهم، والتزْيين هو التحْسِين، بمعني أنَّ الخير والشرَّ مُتَاحَان للجميع، والإنسان هو الذي يختار بكامل حرية إرادة اختيار عقله بينهما حسب رؤيته لهما، فإنْ أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا ومُبَرْمَجَة من خالقها علي استحسان الخير لأنه يسعدها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ورَأَيَ الخير هو الحَسَن المُسْعِد له في الداريْن واختاره وسارَ فيه وعمل به أيْ عمل بكل أخلاق الإسلام سَعِد حتماً في دنياه وأخراه، والعكس صحيح قطعاً، فمَن أساء استخدام عقله وأغلقه وعانَدَ وعاكَسَ فطرته لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة فتَوَهَّم الشرَّ شيئاً حَسَنَاً واختاره وعمل به تَعِسَ بالقطع فيهما.. والمقصود أنه هكذا دائماً لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ معني "زَيَّنّا لهم أعمالَهم" أيْ حَسَّنَّا وجَمَّلْنا لهم الأعمال الخَيْرِيَّة الحَسَنَة بأنْ ذَكَرْنا لهم وللبَشَر جميعا في كُتُبِنا من خلال رُسُلِنا ما فيها من خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة فلم يَقْبَلوا ذلك وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وأصَرُّوا عليها بلا أيِّ توبةٍ لأنه لا حساب مِن وِجْهَة نَظَرِهم لأنهم لا يؤمنون بالآخرة.. ".. فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)" أيْ فهُمْ بسبب ذلك بالتالي إذَن يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العَمَيَ هو عَمَيَ البَصَر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا)
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابِق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع – إنْ لم يَتوبوا أيْ يَرْجِعوا لربهم ولإسلامهم – الذين لهم العذاب السَّيِّء الشديد، بما يُناسبهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)" أيْ وهم في الآخرة هم الأَخْسَر من غيرهم من الناس إذ قد خسروا خُسْراناً شديداً فلا أحد أخْسَر منهم.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سُوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم الذي لا يُوصَف ولا يُحْتَمَل لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب مِن وِجْهَة نَظَرِهم
ومعني "وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)" أيْ وإنك يا رسولنا الكريم تَتَلَقّيَ وتَسْتَقْبِل وتَأْخُذ – وإنَّ واللام للتأكيد – هذا القرآن العظيم الذي يُوحَيَ إليك من خلال المَلَك جبريل لتُبَلّغه للناس ليسعدوا به تمام السعادة بالداريْن لو عملوا بكل أخلاقه مِن لَدُنْ حكيم عليم أيْ من عند الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنهم خَلْقه وصَنْعَته، وبالتالي فلا يكون قرآنه إلا المَثَل الأعلى في كل ذلك، فليجتهدوا بالتالي إذَن في العمل بكل أخلاقه ليَصلحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماما في الداريْن.. وفي هذا مَدْحٌ للقرآن الكريم وتَشْريفٌ وتكريمٌ وتعظيمٌ وتَقْديسٌ له لا يُوصَف حيث هو من عند خالِق الخَلْق وتأكيدٌ علي أهميته وعظمته وصِدْق مَن جاء به وهو الرسول الكريم الصادق الأمين (ص)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم موسي (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة البقرة والأعراف وطه وغيرها، من أجل اكتمال المعاني).. هذا، وقصص الأنبياء وغيرهم ليست مُكَرَّرَة وإنما تأتِي مُجَزَّأَة علي مَدَار القرآن الكريم كله للتشويق وللتأكيد علي معنيً مُعَيَّنٍ مُهِمٍّ ولأنَّ كل جزءٍ يَتناوَل القصة مِن زاويةٍ مختلفةٍ وبفوائد أخري بحيث يُكمل بعضها بعضاً وبحيث تُناسِب الأحداث التي تَحْدُث في حياة الناس ليأخذ كل مُتّبِعٍ للقرآن ما يُناسِب ظروفه وأحواله وبيئته وثقافته وعلمه بما يُحَقّق له أعظم وأتَمّ استفادة وسعادة
هذا، ومعني "إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قال رسولنا الكريم موسي (ص) لزوجته – بالقُرْب من جبل الطوُر بأرض سيناء بدولة مصر وهو عائدٌ لها من مَدْيَن التي فَرَّ إليها بعد قتله بالخطأ لرجلٍ من قوم فرعون والذي تَوَعَّد بقتله وبَقِيَ بها أكثر من عشر سنين وهي مدينة سيدنا شعيب في جنوب الشام – إنّي آنَسْتُ ناراً أيْ رأيتُ مَا يُؤْنِس أيْ ما يُشْعِر بالأُنْس أيْ الطمأنينة والأُلْفَة والفَرَح، آنستُ ناراً سأجيئكم منها أيْ مِن جِهَتِها ومِن عندها بخبرٍ عن الطريق الذي سنَسِير فيه أو آتيكم أيْ فإنْ لم يكن ذلك فإنى أجيئكم بشهابٍ قَبَسٍ أيْ أحْضِر لكم شُعْلَة نارٍ مُقْتَبَسَةٍ أيْ مَأخُوذَةٍ منها لعلكم تَصْطَلُون أيْ لكي تَصْطَلُوا به أيْ تَسْتَدْفِئُوا به من البَرْد، أو يُسْتَخْدَم في الإنارة أو الطهْي أو نحو ذلك
ومعني "فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)" أيْ فلمَّا وَصَلَها أيْ فعندما وَصَلَ موسي (ص) إلي النار – وعند بعض العلماء هي إنارة من نور الله تعالي لا نار – نُودِيَ أيْ كُلّمَ من الله أيْ كَلّمه سبحانه بأنه قد بُورِكَ أيْ قد بارَكَ اللهُ في مَن في مكان النار ومَن حولها أيْ موسي وغيره في هذه البُقْعَة المُبَارَكَة من الأرض بما فيها أرض الشام أيْ أنْزَلَ الله عليهم البركة أيْ الزيادة الكثيرة الدائمة في كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ وهداية، وذلك لأنه هو المكان الذي كَرَّمَه الله تعالي فيه ببَدْء كلامه له وبإعلامه بأنه قد اختاره لكي يكون رسولاً منه للناس يهديهم لربهم ولدينه الإسلام ليعملوا بكل أخلاقه ليسعدوا بالداريْن، فهو مكانٌ مُبَارَكٌ له قيمته وعظمته ونَفْعه حيث فيه عاشَ كثيرٌ من الرسل ونَزَلَ عليهم وَحْي الله بالإسلام في كُتُبه ليكون مَنَارَة لتعليم البَشَرِيَّة عبادة الله تعالي وحده والعمل بأخلاق إسلامها لإسعادها في دنياها وأخراها.. ".. وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)" أيْ ويُنَزَّه الله رب العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دين الإسلام – ويُبْعَد عن كلّ صِفَةٍ لا تليق به حيث له كل صِفات الكمال الحُسْنَيَ.. وهذا الختام للآية الكريمة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مُطْلَقَاً أنه تعالي كالبَشَر لأنه قد كَلّم موسي (ص)!!
ومعني "يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)" أيْ يا موسي إنَّ الحال والشأن إنى أنا الله الذى أُكَلّمك وأُبَارِكك وأُرْشِدك وأُوَفّقك وأُعِينك وأُنْصرك المُسْتَحِقّ وَحْدِي للعبادة أي الطاعة بلا أيِّ شريك، العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الذي هو في ذات الوقت في كلّ أموره الحكيم أيْ الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)" أيْ نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن فى النار ومَن حولها ونُودِىَ أيضاً أنْ أَلْقِ أي ارْمِ عصاك التى بيدك لتَرَىَ مُعْجِزَتك بنفسك فتطمئنّ وتَسْتَبْشِر بها ولتَتَدَرَّب علي استعمالها ولِتَعْلَم واقِعِيَّاً أنّنا قادرون علي كل شيءٍ وأنّنا معك بقُدْرَتنا وعِلْمنا وناصروك ومُعِينُوك ومُوَفّقُوك حتما، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد والطمْأَنَة أنّ الذي يُكلّمه هو الله تعالي، مع التجهيز له بمُعْجِزَةٍ يُقابِل بها فرعون وقومه لتُعينهم علي التصديق بوجود الله وبأنّ موسي رسولٌ من عنده من خلال هذا الدليل القويّ القاطِع علي ذلك.. ".. فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ.." أيْ فلمَّا رأيَ العَصَا تَتَحَرَّك كأنها حَيَّة أي ثعبانٌ كبيرٌ بقُدْرَة الله تعالي – والجَانّ عند العرب نوعٌ من الحَيَّات وله معني آخر عندهم وهو كلّ مَخْلُوقٍ خَفِيٍّ لا يُرَيَ بالعَيْن – وَلَّيَ مُدْبِرَاً أيْ انْصَرَفَ مُعْطِيَاً دُبُرَه أيْ ظَهْرَه لها مُبْتَعِدَاً عنها فارَّاً خائفاً منها ولم يُعَقّب أيْ ولم يَرْجِع إليها بسبب خوفه.. ".. يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)" أيْ هذا إرشادٌ لموسي (ص)، ولكل مسلم، ألا يخاف، بأنْ يُنَمِّيَ مَا يَحْدُث له مِن حَذَرٍ فِطْرِيٍّ بَشَرِيٍّ بداخل عقله عند مُقابَلَته لِمَا يُخيفه ليكون قوَّة تُعينه علي التّغَلّب عليه وذلك من خلال دوام صِلَته بالله تعالي واستعانته به وتوكّله عليه والذي سيُوَفّقه حتماً لاتّخاذ أفضل الأسباب لذلك وسيُيَسِّرها له فيَقْوَيَ فيَنْتَصِر ويَسْعَد بالداريْن.. أيْ نادَيْنَاه حينها قائلين له يا موسي لا تَخَفْ أيْ لا تَسْتَمِرّ في خوفك ولكنْ اطْمَئِنّ لأني لا يُمْكِن أبداً أنْ يخاف لَدَيَّ أيْ عندي بحَضْرَتِي بمَعِيَّتِي المُرْسَلُون أيْ الرسل المَبْعُوثون مِنّي للناس ليُعَلّموهم عبادتي واتّباع ديني الإسلام فلا تَخَفْ أنت أيضاً وأنت منهم لأني أَرْعاهم وأحْفَظهم وأُعِينهم وأَرْزقهم وأوَفّقهم وأقَوِّيهم وأطَمْئِنهم وأُرْضِيهم وأنْصُرهم وأسْعِدهم فكيف يخافون والحال هكذا؟! إنهم لا يُمْكِن مُطْلَقَاً إلا أن يكونوا دائماً مُطْمَئِنّين ثابتين راضِين مُتفائلين مُسْتَبْشِرين مُقْدِمِين أقوياء لأني معهم دَوْمَاً أينما كانوا بقُدْرَتِي وعِلْمي ورحمتي وتَوْفيقي
ومعني "إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)" أيْ لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُون لِعِصْمَتهم من الوقوع في فِعْل الشرّ – مع مراعاة أنَّ قَتْلَ موسي للمصرِيّ من قوم فرعون بالخطأ كان قبل أن يكون رسولا – لكنْ يَخاف غيرهم من عموم الناس الذين يظلمون أنفسهم بأنْ يُتْعِسوها بفِعْل مَا يُخالِف الإسلام ويُتْعِس بالداريْن من الشرور والمَفاسد والأضرار، لكنْ مَن ظَلَمَ مِن عموم الناس ثم بَدَّلَ حُسْنَاً بعد سوءٍ بتوبته منه أيْ ثم غَيَّرَ ففَعَلَ حُسْنَاً بعد سوءٍ كان يَفعله فلا يَخاف من عقابي له في الداريْن لأني أقبل توبته وأغفر له وأرحمه وأسعده فيهما لأني غفورٌ أيْ كثير المغفرة أعفو عن الذنوب ولا أعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمتي وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبي (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! وفي هذا بشارَة عظيمة للبَشَر فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)" أيْ وأدخل يدك في جيب ثيابك ثم أخرجها فإنها تَخْرُج بقُدْرَتنا بيضاء ناصِعَة البياض لامِعَة مُتَلألأة ليست كَلَوْنِك الأصليّ، من غير سوءٍ أيْ ليست فيها وليست بسبب أيّ مرضٍ قد يُحْدِث هذا البياض كالبَرَص والبُهَاق ونحوهما، وذلك حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ بياضها الشديد هذا قد حَدَثَ بسبب سوءٍ أيْ مرضٍ أصابه فجَعَلَها بيضاء هكذا فيتأكّد بالتالي أنَّ الأمر مُعْجِزَة، لتكون لك مُعْجِزَة أخرى غير مُعجزة العَصَا التى سَبَقَ أنْ أعطيناك إيَّاها.. وفي هذا مزيدٌ من التجهيز لموسي بتقوية إرادة عقله وبطَمْأَنَته بأنَّ قُدْرَة خالِقه التي لا يمنعها مانِع القادِر علي كل شيءٍ العالِم به معه دائماً تُؤَيِّده وتَنْصُره في نَشْر الإسلام ومقاومة الطغاة الظالمين في زمنه الذين يُحاولون مَنْع نَشْره كفرعون وأعوانه، كما أنَّ هذه المُعْجِزَة تكون دليلاً علي صِدْقه أنه رسول من عند الله تعالي وفيما سيُبَلّغه للناس من طَرَفِه وهو الإسلام إذ لا يمكن لأحدٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ أنْ يُكَذّب مِثْل هذه الآيات.. ".. فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.." أيْ هاتان الآياتان أيْ المُعْجِزَتان أيْ العَصَا واليَد هما ضِمْنَ تِسْعِ مُعْجِزاتٍ – كإرسال الطوفان المائي عليهم والجراد والقمل والضفادع والدم والجَدْب ونَقْص الثمرات وغير ذلك – لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه.. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)" أيْ أرسلناك إليهم بآياتنا لإرشادهم لعبادتنا وَحْدَنا لعلهم يَستفيقون ويَستجيبون ليَسعدوا بالداريْن ولا يَتْعَسُوا فيهما لأنهم كانوا دائماً أناساً فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله والإسلام
ومعني "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)" أيْ فعندما وَصَلَتهم مُعْجِزاتنا بواسطة موسي (ص) وكانت مُبْصِرَة أيْ مُبَيِّنَة لصِدْق نُبُوَّته أيْ ذات إبصار يراها الناس بأبصارهم فهي واضِحَة ومِن شِدَّة وضوحها تجعل كل مَن يراها مُبْصِرَاً ذا بَصِيرَة أيْ عقل فهي إذَن مُبَصِّرَة ومُبْصَرَة لكل عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ، قالوا حينها هذا الذي جاء به موسى من الآيات هو سحرٌ مُبِينٌ أيْ سِحْرٌ واضِحٌ يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليست من الله وأنه ساحر لا رسول يُوحَيَ إليه، رغم عِلْمهم التامّ أنها ليست سحراً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ إذ هم أعلم الناس بالسحر ولكنها حقيقة وأنَّ قُدْرَة الله القادر علي كل شيءٍ هي التي فَعَلَتْها، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)" أيْ وكَذّبوا بالآيات أيْ لم يُصَدِّقوها، بألسنتهم أيْ بأقوالهم، وبأفعالهم – والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ – والحال والواقِع أنها قد تأكّدتها بلا أيِّ شكّ عقولهم – والسين والتاء للمُبَالَغَة في اليقين وللتأكيد عليه – حيث تُحَدِّثهم الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا أنَّ هذه الآيات صِدْقٌ وأنها ليست سِحْرَاً كسِحْرِهم فهُمْ سَحَرَةٌ مَهَرَةٌ يعلمون تماماً مَا هو السحر ومَن هُم السحَرَة وأنها من عند قوَّةٍ خارِقَةٍ ليست كقوّة البَشَر فهي من عند خالقهم سبحانه الله تعالي وأنَّ موسي (ص) صادِقٌ فيما جاء به ويدعو إليه من عبادة الله وحده بلا أيِّ شَريكٍ واتّباع دينه الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. ظُلْمًا وَعُلُوًّا.." أيْ وكان جُحُودهم بها ظُلْمَاً وعُلُوَّاً أيْ ظلماً عظيماً أيْ غيرَ عدلٍ أبداً أيْ اعتداءً شديداً تامّاً علي الحقّ بتكذيبه بلا أيِّ دليلٍ عَقْلِيٍّ مَنْطِقِيٍّ وبالادِّعاء عليه كذباً وزُورَاً أنه سِحْرٌ رغم اليقين التامِّ بأنه حقّ أيْ صِدْق، واعتداءً شديداً تامَّاً كذلك علي أنفسهم وغيرهم بإتعاسها وإتعاسهم في الداريْن بإبْعادها وإبْعادهم عن ربهم وإسلامهم بهذا التكذيب وبفِعْل مَا يُخالِفهما من الشرور والمَفاسد والأضرار، وعُلُوَّاً أيْ وتَعَالِيَاً وتَكَبُّرَاً وتَرَفّعَاً علي الإيمان بها أيْ التصديق بها وفاعِلها سبحانه وهو الله تعالي فلا يؤمنون به ولا يعبدونه وحده ولا يَتّبِعون دينه الإسلام.. كذلك من المعاني أنهم جَحَدُوا بها مع أنَّ أنفسهم قد اسْتَيْقَنَتها وحالهم أنهم كانوا ظالمين مُتَعَالِين، ولأنهم كانوا ظالمين مُتَعالين.. والسبب في ذلك كله هو إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)" أيْ فلذلك فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُفْسِدين – أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كإغراقٍ بماء وكَسُيُولٍ وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المفسدين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض، كما كان الرسولان الكريمان داود وابنه سليمان عليهما السلام (برجاء مراجعة الآية (14) من سورة يونس "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)"، للشرح والتفصيل).. وإذا عَلِمْتَ وتَأكّدْتَ أنَّ المَكَانَة في الحياة إنما تكون بالاجتهاد، كما كانا عليهما السلام، أيْ بإحسان اتّخاذ الأسباب لذلك (برجاء مراجعة الآية (165) من سورة الأنعام، للشرح والتفصيل عن معني ".. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ").. وإذا كنتَ مِن المُتآلِفين المُتَحابّين مع كل المخلوقات حولك، كما كانا عليهما السلام، ومع كل الإنسانية (برجاء مراجعة الآية (189) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَمَسِّكِين العامِلين بخُلُقٍ هامٍّ من أخلاق الإسلام وهو العمل بقانون الأسباب والنتائج، مثلهما عليهما السلام (برجاء مراجعة الآية (19) من سورة الأنفال، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُتَعَلّمَاً لا جاهِلاً، كما كانا عليهما السلام، مُتَخَصِّصَاً، في أيِّ مَجالٍ من مَجالات علوم الحياة (برجاء مراجعة الآية (122) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الحُكَماء، مثلهما عليهما السلام، أيْ الذين يُحْسِنُون استخدام عقولهم فيَزِنُون كلَّ أمرٍ بميزانه الصحيح ويَضَعُونه في مَوْضِعه بلا أيِّ عَبَث (برجاء مراجعة الآية (269) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يَحْكُمُون ويُديرون أيَّ شأن، مثلهما عليهما السلام، بتمام العدل والأمانة والإتقان والخِبْرَة وحُسْن التَّصَرُّف والرفق والرحمة مع الانضباط والنظام والتخطيط والتطوير بما يُحَقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (58) من سورة النساء للشرح والتفصيل عن الأمانة والعدل، ثم الآيات (19) حتي (22) من سورة التوبة للشرح والتفصيل عن حُسْن ترتيب الأوْلَوِيَّات، ثم الآية (39) من سورة يونس للشرح والتفصيل عن التّثَبُّت في الأمور كلها أيْ التّحَرُّك في الحياة بناءً علي معلوماتٍ وأدِلّة مَوْثُوقة)، فالحكم العادل الرحيم المُتْقَن الخبير الذي يُدار بالأقوياء المُتَخَصِّصين الأُمَناء يَنْشُر الخير والسعادة في الكوْن كله ولكل المخلوقات ويَسْتَجْلِب عَوْن الله تعالي مالِك المُلْك القويّ الأمين وتوفيقه وسَداده وحبه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره ويَسْتَجْلِب جنوده تعالي والتي لا يعلمها إلا هو حيث يُسَخِّرها ويُيَسِّرها لهم فيسعد الجميع تمام السعادة في الداريْن.. وإذا كنتَ، مثلهما عليهما السلام، عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ، مثلهما عليهما السلام، مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً لله تعالي في كل أقوالك وأفعالك (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ، مثلهما عليهما السلام، دائم الشكر لربك ليزيدك من خيراته وكل أرزاقه (برجاء مراجعة الآية (2) من سورة الفاتحة، للشرح والتفصيل عن الشكر).. وإذا كنتَ مُتَمَسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه المعاني السابق ذِكْرها هي بعض ما يُستفاد من هذه الآيات الكريمة
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)" أيْ ولقد أعطينا بعِلْمِنا وقُدْرَتنا ورحمتنا وكرمنا وفضلنا وإنعامنا وإحساننا نَبِيَّيْنَا الكريمَيْن داوود وسليمان عِلْماً كثيراً واسعاً مُفيدَاً مُسْعِدَاً وهو عِلْم النّبُوَّة والرسالة والحُكْم والذي هو أخلاقيَّات الإسلام وعلومه التي تُناسِب عَصْرَهم وتُسعد حياتهما ثم آخرتهما والناس جميعا تمام السعادة حيث فيها التوضيح التامّ لقواعد وأصول كلّ شيءٍ وفيها الحِكْمَة كلها والرحمة كلها والعدل كله بما يُعينهما علي حُسْن إدارة شئون الخَلْق كلهم وإسعادهم بالداريْن في المُلْك العظيم الذي أعطاهما إيَّاه سبحانه.. ".. وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)" أيْ وقالا شاكِرَيْن الله تعالي علي نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ الحمد لله الذي مَيَّزَنا بهذا العلم علي كثيرٍ من عباده المؤمنين الذين لم يُعطوا مِثْلَما أُعْطِينا مِن رِزْقه سبحانه.. إنهما لم يَغْتَرَّا ويَتَعَالَيَا علي الناس بالمُلْك والسلطان والنفوذ والحُكْم والحِكْمَة وكل أنواع العلوم التي فَضَّلهما بها سبحانه علي غيرهم، وإنما تَوَاضَعَا بأنْ قامَا بنِسْبَةِ الفَضْل لوَاهِبه – وكذلك علي كل مسلم مُتَمَسِّك عامِل بكل أخلاق إسلامه أن يكون هكذا – وهو الله تعالي وقامَا بشُكْره علي كل النِعَم والتي يَصْعُب حَصْرها بعقليهما باستشعار قيمتها وبلسانهما بحمده وبعملهما بأنْ استخدماها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ فوَجَدَا بذلك هذه النِعَم دائماً باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يكون دائماً من الشاكرين المُتَواضِعين الحريصين علي الاهتمام بالعلم ومُصَاحَبَة العلماء وأهل الخِبْرَة والتّخَصُّص، وعلي تبادُل المعلومات والخبرات مع الآخرين، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والقانونية والعسكرية والصناعية والتجارية والزراعية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها، لأنه بالعلوم وتطويرها وبالخبرات وتبادلها يَرْقَيَ الجميع ويسعدون، في دنياهم، ثم في أخراهم لمَن يُؤمن بها ويَعْمَل لها باستحضار نوايا خيرٍ بعقله في كل قولٍ وعملٍ أثناء ذلك، بينما بالجَهْل وكِتْمان العلم والخِبْرَة يَتَخَلّفون ويتعسون فيهما
ومعني "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)" أيْ وورث سليمان أباه داوود في النّبُوَّة والعلم والمُلْك بأنْ قامَ مَقامه وحَلَّ مَحلّه في ذلك بعد وفاته أيْ في تبليغ الإسلام للناس وإدارة شئون المُلْك به وبعلومه وأخلاقيَّاته وأنظمته وبكل أنواع العلوم المختلفة التي تُطَوِّر الحياة وتُسْعِدها والتي آتاهما الله إيَّاها بأنْ سَهَّل لهما تَعَلّمها والاستفادة منها والعمل بها.. ".. وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.." أيْ وقال شاكِرَاً الله تعالي علي نِعَمِه عليه وعلي أبيه داوود ومُذَكّرَاً غيره بشُكْرِه لِنِعَمه عليهم والتي لا تُحْصَيَ يا أيها الناس عَلّمَنا الله كلام الطير وأعطانا من كل شيءٍ من خيرات الدنيا ومِمَّا نحتاجه لتحقيق خَيْرَيّ ونَفْعَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة، بعِلْمه وقُدْرَته ورحمته وكرمه وفضله وإنعامه وإحسانه، حيث بسبب أنه ووالده داوود عليهما السلام كانا يَحْكُمان بعدل الإسلام التامّ ويَتّخِذان كل أسباب إسعاد الناس به من خلال حُسْنِ دعوتهم للعمل بأخلاقه في كل شئون حياتهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ عاوَنْهما الله بكل أنواع العَوْن المُمْكِنَة لدرجةِ أنْ سَخّرَ لهما بعض جنوده سبحانه التي لا يعلمها إلا هو، كأنْ يفهم سليمان مثلا لغة الطير والنمل وغيرها من المَخْلوقات ويأمرها بما يَنْفع البَشَرَ ويُسعدهم فتُطيعه، وهكذا يكون الحال للمسلمين إذا تَحَاكَمُوا فيما بينهم بأخلاق الإسلام كلها كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ".. وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" (يوسف:22).. ".. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)" أيْ إنَّ هذا الذي أعطانا الله تعالي إيَّاه من النِعَم التي لا تُحْصَيَ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – هو العطاء الزائد المُبِين أيْ الظاهِر الواضِح المُبَيِّن المُوَضِّح لتفضيلنا الذي مَيَّزَنا به سبحانه والذي لا يَخْفَيَ علي أحدٍ والذي لا يُقَارِبه أيّ عطاءٍ آخر
ومعني "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم مُلْك سليمان (ص) الذي أعطاه الله تعالي ورَزَقه بفضله إيَّاه وعظيم الإمكانات به والتي استطاع بها نَشْر تمام الخير والعدل والأمن والسعادة علي معظم الأرض ولمعظم الخَلْق.. أيْ وجُمِعَ لسليمان جنوده الكثيرة المُتَنَوِّعَة لتكون تحت طَلَبِه لتنفيذ أوامره أينما كان ووَقْتَما يأمر، مِن الجنّ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين، ومن الإنس أيْ ومن بَنِي الإنسان أيْ ومن الناس أيْ العساكر المُدَرَّبُون ورؤساء وزعماء وعظماء وعلماء المَمْلَكَة، ومن الطير بمختلف أنواعه، فهُم يُوزَعُون أيْ فهُمْ في حالة حَشْرِهم يُمْنَعُون من عدم النظام – والوازِع هو المانِع من السوء السائق للخير – فيُساقون بصورةٍ مُنْتَظِمَةٍ مُنْضَبِطَةٍ تماماً ليكونوا مُجْتَمِعين فيكونوا أعظم التّجَمُّعات تنظيماً وتَرْتِيبَاً وقوَّة وعَدَدَاً وعُدَّة حيث هم لا يَتَجاوَز أحدهم مكانه أو منزلته أو وظيفته المسئول عنها أو ما أُمِرَ بتنفيذه
ومعني "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)" أيْ وحُشِرَ لسليمان جنوده فساروا مُجْتَمِعِين مُنْتَظِمِين في قوَّةٍ ونظامٍ لأداءِ بعض المَهامِّ من أجل خدمة الناس وحمايتهم واستمرُّوا في سَيْرِهم حتي إذا أقْبَلُوا علي ووَصَلُوا إلي وادِ النمل، والوادي هو المكان المُنْخَفِض بين مرتفعات وكان به كثيرٌ من النمل، قالت نَمْلَةٌ للنمْل علي سبيل النصْح والإرْشاد والتحذير يا أيها النمل ادخلوا بيوتكم، وقد خاطَبَتْ النملة مُجْتَمَع النمل مُخَاطَبَة العقلاء حيث نَصَحَته بمَا يُنْصَح به العقلاء بما يُفيد أنَّ الله تعالي بقُدْرَته وعِلْمه وحِكْمته أعطاها من اللغة والعقل ما يُعينها علي أداء مَهامِّها في الحياة لنَفْع بني آدم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (38) من سورة الأنعام "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)" أيْ لكي لا يُمِيتكم سليمان وجنوده بأقدامهم وهم لا يُحِسُّون بأنهم يُحَطّمونكم إذ لو شَعروا لم يفعلوا قطعاً، كأنها شَعرَت عِصْمَة الأنبياء من الظلم والإِيذاء وأنهم لا يريدون إلا كل خيرٍ وسعادةٍ بالبَشَر بل بكل المَخْلوقات، وذلك الشعور هو بقُدْرَة الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء، بما يُفيد أنه حتي غير البَشَر يَتَمَتّع ويَأْمَن ويَسْعَد بحُكْم الإسلام العادل الرحيم وبانتشار العدل والرحمة بين الجميع، وفي ذلك تذكيرٌ للناس بالتناصُح وبالتراحُم فيما بينهم ومع كل مَخْلوقات الكوْن والذي يُسْعِدهم حتماً بالداريْن
ومعني "فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)" أيْ فلمَّا سَمِعَ سليمان (ص) ما قالت تَسَبَّبَ ذلك في أنْ تَبَسَّمَ أولاً وكان ضاحكاً بعدها مِن قولها تَعَجُّبَاً مِن حَذَرِها واهتدائها لتدبير مصالحها ومصالح أمتها وسروراً بشُهْرَة حاله وحال جنوده حيث وَصَفَتهم بالتقوى والرحمة، وسعادةً بمَا خَصَّه الله تعالى به مِن نِعْمَة إدراك لغتها وفَهْم مُرادها، وقال بسبب ذلك الاسْتِشْعار لِنِعَمِه عليه التي لا تُحْصَيَ: ربّ – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – أوْزِعْنِي أيْ ادْفَعْنِي وحَبِّبني وألْهِمني ووَفّقني وأعِنّي ويَسِّر لي أن أشكر نِعَمك التي لا تُحْصَيَ عليَّ وعليَ والديّ وعلي الخَلْق جميعا، ولفظ "نِعْمَتك" يُفيد أنَّ كلَّ نِعْمة عند تَدَبّرها فيها العديد من النِعَم التي يَصعب حسابها وعَدّها، أشكرها بعقلي باستشعار قيمتها وبلساني بحمدك وبعملي بأن أستخدمها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ حتي أجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدْتَ سبحانك ووَعْدك الصِّدْق: ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، وأوْزِعْنِي كذلك أنْ أعمل دائما في كل لحظات حياتي عملا صالحا خَيْرِيَّاً مُسْعِدَاً لي ولغيري تَقْبله وتُحِبّه مِنّي وتَرْضَيَ به عَنّي فتزداد بذلك عليَّ رعاياتك وخيراتك وتيسيراتك وسكيناتك وسعاداتك، وكذلك أدْخِلْنِي برحمتك الواسعة في جُمْلَة وعِدَاد عبادك الصالحين الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب صَلاحهم أيْ عَمَلهم بكل أخلاق إسلامهم ثم سيكونون في الآخرة مع الصالحين أيْ مع النبيين والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)" أيْ وتابَعَ سليمان (ص) ظروف الطير وأحوالها واحتياجاتها وتمامها ونُقْصانها وانضباطها ونحو ذلك مِمَّا يجب علي المسئول أنْ يَفعله نحو مَن هو مسئولٌ عنهم مِن البَشَر والطيور والحيوانات والجَمادات والثروات والإمكانات ونحو ذلك، وهذا يَدلّ علي حُسْن قيامه بمسئولية إدارة الحُكْم علي أكمل وأسْعَد وَجْهٍ مُمْكِن، وعلي كل مسئولٍ عن أيِّ مسئوليةٍ صغرت أم كبرت أنْ يَفعل ذلك، فهذا من الأمانات التي سيُسْأَل عنها يوم القيامة، فإنْ أحْسَنَ القيام بها فله خَيْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. فقال بعد أنْ أشْرَفَ عليها وتابَعها لماذا أنا لا أرَيَ الهدهد هل سَتَرَه ساتِرٌ عن رؤيتي له وهو حاضرٌ أم أنه كان من الغائبين عِنّي فلم أَرَه لغَيْبَته؟
ومعني "لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ مُعاقَبَة المُخَالِف بما يَسْتَحِقّ بالعدل أمرٌ ضروريٌّ أساسيٌّ في الإسلام لأنَّ أيِّ مُخالَفَة لا تُقابَل بالجزاء المُناسب ستؤدّي غالباً إلي مُخالَفاتٍ أخرى مُتَعَدِّدَة أعظم منها فتَنْتَشِر بذلك الفوضَىَ واللامبالاة ويَتَخَلّف ويَتْعَس الجميع، لكنَّ العقاب يَتَنَوَّع ليكون مناسباً للجريمة لتحقيق تمام العدل.. أيْ فلمَّا تأكّد سليمان (ص) أنَّ الهدهد من الغائبين قال سأعُذّبه عذاباً شديداً أيْ سأُعاقِبه عِقابَاً أليماً بعد التحقيق العادل معه – واللام والنون للتأكيد – إنْ كان من الغائبين تَهَاوُنَاً بغير عُذْرٍ مَقْبُولٍ بحيث يُناسِب العقاب درجة تَهَاوُنه، أو أذْبَحه للتّخَلّص مِن شَرِّه للحِفاظ علي بقاء الخير المُفيد المُسْعِد نَقِيَّاً من الشرِّ المُضِرِّ المُتْعِس إنْ كان مِن الغائبين تَمَرُّدَاً وعِصْيانا للأوامر ودعوة للآخرين علي التَّمَرُّد والعِصْيان، أو عليه أنْ يَأتِيَنِي بسلطانٍ مُبِينٍ أيْ بدليلٍ ظاهِرٍ واضِحٍ مُبَيِّنٍ لسبب تَغَيُّبه فحينها بكل تأكيدٍ لا عقاب بل سيكون له الجزاء الحَسَن، إنْ كان مُحْسِنَاً، عليَ قَدْرِ إحسانه، وهذا يدلّ علي تمام عدل المسئول في الإسلام وتَقْواه لله تعالي والذي علي كل مسئولٍ في أيِّ مسئوليةٍ أنْ يكون كذلك ليَسعد الجميع في الداريْن، كما أنَّ في الآية الكريمة إرْشَادَاً ضِمْنِيَّاً أنَّ المَرْؤُوس يجوز له أحيانا أنْ يتصرَّف برأيه بلا إذْنٍ مِن رئيسه إنْ لم يستطيع أخْذ الإذْن منه لضيق الوقت لأنه قد رَأَىَ مصلحة عامة لا يُمكن تأخيرها وكان في التأخير ضَرَرٌ مَا مِن وِجْهَة نَظَرِه وحسب تقديره للموقف وعلي مَنْ يَرْأسه حينها مراعاة ذلك الاجتهاد في تحصيل الخير المُسْعِد للجميع بالداريْن
ومعني "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)" أيْ فبَقِيَ الهُدْهُد زَمَنَاً غير بعيدٍ مِن تهديدِ سليمان (ص) له بالعقاب، أو في مكانٍ غير بعيد، أو فبَقِيَ سليمان (ص) زمناً غير طويلٍ بعد تَفَقّده للطير وتهديده للهُدْهُد بعقابه لغيابه، بما يعني سرعة عودته بما يَدلّ علي انضباطه وحرصه علي تبليغ مسئوله بما عَلِمَ حِرْصَاً منه علي تحقيق المصلحة، فقال الهُدْهُد لسليمان بعد أن عادَ وجاءَ إليه: اطّلَعْتُ علي مَا لم تَطّلِع عليه وعَلِمْتُ مَا لم تَعْلَمه، والإحاطة هي العلم بالشيء من جميع جوانبه، وفي هذا إرشادٌ لكل مسئولٍ أنْ يَتَواضَع ولا يَغْتَرّ بما عنده من علمٍ حيث النبي الكريم سليمان (ص) الذي آتاه الله تعالي من فضله علماً واسعاً ومِن كل شيءٍ كان مِن جنوده مَن هو أعلم منه بأمرٍ مَا لأنه فوق كل ذي علمٍ عليمٌ وهو الله تعالي، وأنَّ علي هذا المسئول أنْ يُتابِع الذين هو مسئول عنهم وأنْ يستفيد بما عندهم – حتي مِن أقلّهم وأضعفهم – مِن علومٍ وخبراتٍ وآراءٍ وأفكارٍ واقتراحات، وعليهم هم أيضا أنْ يُسارِعوا بتقديمها بما يُحَقّق مصالح الجميع، لكي يَرْقُوا ويَتَطَوَّرُوا ويَقْوُوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)" أيْ هذا تفسيرٌ وتوضيحٌ لِمَا أحاطَ به من علم.. أيْ وأَتَيْتُك مِن مكانِ قبيلةِ سَبَأٍ باليمن بنَبَأٍ أيْ بخَبَرٍ هامٍّ عظيمِ الشأن والقَدْر، يقينٍ أيْ أكيدٍ بلا أيِّ شكّ
ومعني "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)" أيْ وبَدَأ يَذْكُر له هذا النبأ اليقين قائلا: إنّي وَجَدْتُ امرأة مِن قبيلةِ سَبَأٍ تَحْكُمُهم – ويَذْكُر التاريخ أنها كانت تُسَمَّي بلقيس – وقد أُعْطِيَت من الله تعالي مِن كلِّ شيءٍ مِن الأشياء التي تكون عند الملوك كالقصور والحُصُون والأموال والمُمْتَلَكات والجنود والسلاح ونحو ذلك، ولها كُرْسِيُّ مُلْكٍ هائلٌ كبيرٌ فَخْمٌ يَدلّ على عظمة مُلْكِها وقوّة سلطانها
ومعني "وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)" أيْ ثم بَدَأَ يَذْكُر له ما هو أعظم وأخطر وأهمّ مَا في هذا النبأ اليقين قائلا: إنّي وَجَدْتُها هي وقومها معها يسجدون للشمس فيَعْبُدونها من دون الله أيْ غيره سبحانه، وذلك لأنهم قد زَيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم أيْ حَسَّنَ لهم الشيطان أعمالهم السَّيِّئة التي كانوا يعملونها وهي عبادة الشمس وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، أيْ تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، فاختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ.." أي فبسبب ذلك بالتالي إذَن صَدَّهم الشيطان أيْ مَنَعَهم عن السبيل أيْ عن الطريق المستقيم أيْ عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)" أيْ فبسبب ذلك هم لا يهتدون إليه أيْ لا يَصِلُون ولا يرْشدون إلي السبيل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه قد صَدَّهم عنه
ومعني "أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)" أيْ زَيَّنَ لهم الشيطان ذلك مِن أجل أنْ لاَ يَسجدوا لله وهو الذي يُخْرِج ويُظْهِر الخَبْءَ أيْ المَخْبُوءَ أيْ المُخَبَّأ أيْ مَا اخْتَبَأ واخْتَفَيَ أيَّاً كانَ مِن أرزاقٍ ومنافع مُسْعِدَةٍ لخَلْقِه في السماوات كالأمطار والطاقات والأضواء ونحوها والأرض كالزروع والثمار من الحبوب وكالمَخْلوقات التي تُحْدِث التوازُنَ بالبيئة وتَنْفَع البَشَرَ وتُسْعِدهم وكالأموات يوم القيامة بعد كوْنِهم تُرَابَاً مَخْفِيَّاً بالأرض لحسابهم، لأنه سبحانه لا يَخْفَىَ عليه شىءٌ فيهما، ويَعلم حتماَ بتمام العلم كلّ ما تُخْفُونه أيها الناس في السِّرِّ وبداخلكم من أقوالكم وأفعالكم وكلّ ما تُعْلِنونه وتُظْهِرونه منها في العَلَن.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن
ومعني "اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)" أيْ المَوْصُوف بهذه الصفات الإلاهِيَّة الكامِلَة السابق ذِكْرها هو الله الذي لا إله إلا هو أي الذي لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وهو تعالي ربّ العرش العظيم أيْ الذي قد تَمَلّكَ المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك!.. هذا، وهذه الآية الكريمة قد تكون مِن تمام كلام الهُدْهُد أو مِن كلام الله تعالي
ومعني "قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)" أيْ هذا إرشادٌ لكلِّ مسلمٍ خاصة إذا كان مسئولاً عن مسئوليةٍ مَا صَغُرَت أم كَبُرَت أنْ يَتَشَبَّه بالنبي الكريم سليمان (ص) في حِكْمته وكمال عقله واتّزانه وعدم تَسَرُّعِه حيث لم يَتّخِذ قراراً بشأن كيفية دعوتهم وأسلوب التعامُل معهم بما يُناسبهم من حيث اللّيِن أو الشّدَّة بمَا يُحَقّق مصلحتهم وسعادتهم بأنْ يُسْلِموا إلا بعد التّثَبُّت أيْ التأكّد والتّحَقّق التامّ من هذه المعلومات ثم استشارة أهل التّخَصُّص والخِبْرَة والعلم فيما يجب عمله لتحقيق أفضل النتائج (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة.. ثم مراجعة الآية (39) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن التّثَبُّت في الأمور كلها).. أيْ قال سليمان (ص) للهُدْهُد بعد سَمَاعه لِمَا قاله سَنَنْظُرُ أيْ سَنَرَيَ – والسين للتأكيد – وسنَتَأَمَّل وسنَتَدَبَّر وسنَتَفَكَّر وسنَتَحَرَّيَ وسنَعْرِف وسنَتَثَبَّت هل صدقت أيها الهدهد في أقوالك هذه أم كنتَ من الكاذبين فيها؟
ومعني "اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)" أيْ ثم بَيَّنَ سليمان (ص) هذا النظر فقال للهُدْهُد اذهب بخطابي هذا فقُمْ بإلقائه إلي ملكة أهل سبأ وقومها ثم ابْتَعِد عنهم قليلاً مُتَخَفّيَاً بمكانٍ قريبٍ بحيث تُرَاقِبهم وتَسْمعهم فانْظُر أيْ فاعلم ماذا يَرْجِعُون أيْ يُجيبون ويَتَرَاجَعُون فيما بينهم مِن كلامٍ بشأن كتابي الذي أدعوهم فيه لعبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام ثم أَخْبِرْني به
ومعني "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)" أيْ قالت مَلِكَة سبإٍ لَمَّا ألْقَيَ الهُدْهُدُ إليها كتاب سليمان (ص) يا أيها الملأ – والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حولها، وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – إني وَصَلَ إليَّ خطابٌ كريمٌ أيْ طيِّبٌ حَسَنٌ مُفِيدٌ نَفيسٌ جَليلُ المِقْدار عظيم الشأن من أكبر ملوك الأرض
ومعني "إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)"، "أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)" أيْ هذا بيانٌ لمَصْدَر الكتاب ومَضْمُونه.. أيْ قالت لهم إنَّ هذا الكتاب صادِرٌ مُرْسَلٌ مِن سليمان مَلِك المَمْلَكَة العظيمة القوِيَّة بجوارنا، وإنه مُفْتَتَحٌ بسم الله الرحمن الرحيم – وهذا اسْتِفْتاحٌ فيه حُسْنُ تَذْكِيرٍ للفطرة ودعوةٍ لها لله تعالي وللإسلام بحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة – ومَضْمُونه هو أنْ لاَ تَعْلُوا عليَّ أيْ لا تَتَكَبَّرُوا عليَّ بأنْ تَرْفُضُوا مُتَعالِين مُكَذّبِين مُعَانِدِين دعوتي إليكم بعبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ، وجِيئُوني مُسْلِمِين أيْ مُتَّبِعِين دينه الإسلام، لتسعدوا تماماً بالداريْن، وفي هذا تَرْهِيبٌ ضِمْنِيٌّ بسوءِ وتعاسةِ نتائج التّعَالِي علي الله بتكذيبه واتّباع غير دينه عليهم بالداريْن، وذلك بعد تَرْغِيبهم أولا بتَذْكيرهم به تعالَيَ الرحمان الرحيم المُسْعِد فيهما
ومعني "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)" أيْ هذا بيانٌ لصِفَةٍ هامَّةٍ أساسِيَّةٍ مِن صِفات المسئول وهي عدم الانفراد بالرأي وأخْذ آراء المُتَخَصِّصِين الأقوياء الأُمَناء في تَخَصُّصهم لتحقيق المَصالِح علي أكْمَل وأسْعَدِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ لأنَّ مجموعة عقولٍ تُفَكّر ليست حتماً كعقلٍ واحد.. أيْ قالت بكلِّ حِكْمَةٍ واتّزانٍ ورَجَاحَةِ عقلٍ وحُسْنِ سياسةٍ وحِرْصٍ علي المصلحة يا أيها الملأ أَجِيبوني وأخْبِرُوني وأَشِيرُوا عليَّ في أمري هذا المَعْرُوض عليّ مَا الصواب والخير فيه برأيكم، فإنّي مَا كنتُ حاسِمَة قاضِيَة فاصِلَة أمراً في ذلك حتي تَحْضرون وتُشِيرُون وتُشارِكون فيه وتُوافِقون عليه
ومعني "قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)" أيْ قالوا لها مُطَمْئِنِين إيَّاها نحن أصحاب قوَّةٍ عسكرية من حيث العَدَد والأجساد والمُعِدَّات والحُصُون والخِبْرات ونحو ذلك مِمَّا تحتاجه الحروب، ونحن أيضا أصحاب بأسٍ شديدٍ أيْ شِدَّةٍ وهِمَّةٍ ونَجْدَةٍ وشَجاعَةٍ وثَباتٍ فلا نَتَرَاجَع أو نَنْسَحِب أو نَسْتَسْلِم.. ".. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)" أيْ نحن عَسْكَرِيُّون لا سياسِيُّون وهذا رأينا العسكريّ والأمر بالقتال أو عدمه يَرْجِع إليك ومَن معك مِن المُستشارين السياسِيِّين فتَدَبَّرِي وتَدَبَّرُوا ماذا تَأمرين وتأمرون به فنحن مُطيعون لكم ثِقَة في حِكْمَتِكم
ومعني "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)" أيْ هذا بيانٌ للمَيْل للمُسَالَمَة والمُصَالَحَة والتفاوُض والاستماع بتَعَقّلٍ وبتَأَنٍّ لِمَا يدعو إليه سليمان لا لرفضه ومُعاداته وقتاله مع التحذير والتخويف من ذلك وسوء وأضرار وتعاسات نتائجه.. أيْ قالت لهم بعد النظر في الأمر إنَّ الملوك الذين يريدون توسيع مُلْكَهم بالاعتداء علي مَنْ حولهم، دائماً، كما يُثْبِت التاريخ والواقِع ذلك، إذا دَخَلُوا بلدة بقتالٍ لا بصُلْحٍ، أفسدوها بنشر كل أنواع الفساد فيها مِن قتلٍ وتَدْميرٍ وتَخْريبٍ وتَهْجيرٍ وتَشْريدٍ وإفسادٍ وظلمٍ واعتداءٍ علي المُمْتَلَكات والأعراض، وجعلوا أعِزّة أهلها كعلمائها وقادتها ونحوهم أذِلّة بجعلهم خَدَمَاً وعبيداً عندهم وضَرْبهم وعَزْلهم من مَناصِبهم وسجْنهم وتعذيبهم وقتلهم وأخْذ مُمْتَلَكاتهم، وكل ذلك من أجل إخافة الناس من هذا المصير حتي يَتَمَكّنوا من السيْطَرة عليهم وحُكْمهم، وهكذا يَفعلون دائما، فهذه عادتهم المستمرّة الثابتة الدائمة، وهذا الجزء الأخير من الآية الكريمة "وكذلك يَفعلون" قد يكون من تمام كلامها أو من كلام الله تعالي
ومعني "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)" أيْ وإني باعِثَة إلي سليمان وقومه بهديةٍ ثَمِينَةٍ تُناسبهم، كدليلٍ مِنّا علي مَيْلِنا للمُسَالَمَة والمُصَالَحَة والتفاوُض والاستماع بتَعَقّلٍ وبتَأَنٍّ لِمَا يدعو إليه لا لرفضه ومُعاداته وقتاله، ومُنْتَظِرَة بماذا يعود به المَبْعُوثون مِن حيث تَصَرُّفهم بالقبول أو الرفض لها فنُحَدِّد بالتالي تَصَرّفنا معهم بناءً علي ذلك، فتكون كاختبارٍ لسليمان هل هو مَلِك أم نبيّ، فإنْ قَبِلَ الهدية فهو كبقية ملوك الدنيا الذين يريدون زيادة سلطانهم ونفوذهم بتَوْسِعَة مُلْكِهم بالسطو علي غيرهم فنَتَفاوَض معه علي هذا، وإنْ رَفَضَها فهو نَبِيٌّ صاحبُ دينٍ لن تُغْريه وتَخْدعه الهدية وتُغَيِّر عقيدته ولن يَقْبَل إلا بدعوتنا لدينه فلنستمع إذَن حينها لهذا الإسلام الذي يدعونا إليه، وفي هذا مزيدٌ من البيان لرَجَاحَة عقلها وحُسْن سياستها للأمور بما يُحَقّق المصلحة
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)" أيْ فلمَّا وَصَلَ سليمانَ الرسُلُ المُرْسَلُون بالهدية قال لهم رافضاً مُسْتَشْعِرَاً مُعْلِنَاً نِعَم الله تعالي عليه التي لا تُحْصَيَ هل تُزَوِّدُنَني بمالٍ كرشْوَةٍ لكي لا أدعوكم للإسلام وأترككم علي كفركم؟! فمَا أعطاني الله بفضله وكرمه ورحمته من النبوة والإسلام والمُلك العظيم والعلم الكثير ومن كل شيءٍ من خيرات الدنيا ومِمَّا نحتاجه لتحقيق خَيْرَيّ ونَفْعَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة وكلّما سألناه أعطانا، أفضل كثيراً بلا مُقارَنَة مِمَّا أعطاكم مِن مالٍ وغيره مِمَّا أنتم فيه وليس لكم فيه بَرَكَة منه ولا تأييد وعَوْن وإسعاد، فبسبب ذلك فبالتالي إذَن لا حاجة لي لكل ما عندكم فضلا عن هديتكم ولا قيمة لها عندي نسبة لعظيم مُلْكِي الذي أوتيته من ربي الكريم الرحيم الرزّاق الوهاب ولا يُرْضِيني إلا عبادتكم له وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباعكم لدينه الإسلام، بما يُفيد حِرْصه التامّ علي إرشادهم للإسلام الذي كلّفه الله كرسولٍ منه بتوصيله للناس.. ".. بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي نِعَم الله عليه وأنَّ هَدِيَّتهم لا قيمة لها عنده مع تَذْكِرتهم بآخرتهم.. أيْ أنا لا أفرح بها بسبب ما آتاني الله وبسبب أني لا أفرح إلا بأنْ يَسْعَد الناس بالداريْن بإسلامهم لكنْ أنتم الذين تَفرحون بهديتكم إذا تهاديتم بها فيما بينكم أو حين لا أقبلها وأردّها لكم لقِلّة مَا عندكم ولأنكم لا تَهْتَمّون إلا فقط بالدنيا وزينتها والهدايا من زينتها أمّا أنا فاهتمّ بما في الدنيا مِمَّا يزيدني خيراً في الآخرة، وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ لهم بأنْ يُسْلِموا فيَجْمَعوا بإسلامهم حُسْنَ طَلَب الدنيا والآخرة معاً كما يُوصِيهم الله والإسلام ليسعدوا فيهما مثله ومثل كل المسلمين العاملين بكل أخلاق الإسلام (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (7) من سورة الروم "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)"، ثم مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسْن طَلَب الداريْن)
ومعني "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)" أيْ عُدْ إلي القوم بهديتكم أيها الوفد وأخْبِرهم أنَّ أنبياء الله يَدْعُون الناس للإسلام بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ويَطلبون منهم عبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع دينه الإسلام، فمَن أسْلَمَ سَعِدَ في دنياه وأخراه، ومَن أراد أن يبقي علي دينه كمواطنٍ في دولة الإسلام مُلْتَزِم بكل قوانينها العادلة المُسْعِدَة للجميع فله ذلك، وسيكون له كل ما للمسلمين من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، فلعله بذلك يُسْلِم مع الوقت مِن أثَر المُعَايَشَة الطيِّبة مع المسلمين، أمَّا مَن أراد الاعتداء علي الإسلام والمسلمين ووطنهم ودولتهم، وأعَدَّ لذلك بتَجَمُّعاتٍ أو جيوشٍ أو نحوها، وقد تكونون أنتم كذلك، فمِثْل هؤلاء لنأتِيَنّهم بجنود لا قِبَلَ لهم بها أيْ سنَجيئهم وسنحْضِر إليهم – واللام للتأكيد – بجنودٍ لا طاقة ولا قُدْرَة لهم علي مُقابَلَتها والوقوف في وَجْهها من خلال جيوش الدولة المُسْلِمَة المُجَهَّزَة بأفضل وأعظم الجنود والمُعِدَّات وسنُخرجهم من أماكنهم التي يَعتدون منها أذِلّة لكي نَكْسِر استكبارهم واعتداءهم وحالهم أنهم صاغِرون أيْ مُهانُون مَهْزُومون مُطيعون مُنْقادُون لنظام الإسلام
ومعني "قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)" أيْ قال سليمان يا أيها الملأ – والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله، وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – أيُّ أحدٍ منكم يمكنه أن يَجِيئني بكُرْسِيِّ مُلْكِها قبل أن يَجيئوني مسلمين؟ حيث قد أوْحَيَ الله تعالي إليه أنهم سيأتونه مسلمين فكان الإتيان بعَرْشِها قَبْل وصولها هو دليلٌ قاطعٌ لإثبات أنه نبيٌّ مُؤَيَّدٌ بقوّةِ ربه وبجنودِه التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، فيكون ذلك مزيداً مِن عَوْنهم علي الإيمان بالله واتّباع دينه الإسلام والثبات عليه
ومعني "قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)" أيْ قال قَوِيٌّ من الجِنِّ، أيْ جِنِّيٌّ قَوِيٌّ، والجِنّيّ مُفْرَد الجِنّ والجِنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين، وهو من جنود الله تعالي التي سَخّرَها لسليمان (ص)، قال أنا أجيئك به أيْ أحضره إليك قبل أن تقوم من مَجْلِسك الذي أنت فيه، وكان في مَجْلسٍ لإدارة بعض شئون الدولة، وإني علي الإتْيان به في هذا الوقت المُحَدَّد قادرٌ أستطيع فِعْله – واللام للتأكيد – وأمينٌ أيْ حافِظٌ حارِسٌ علي ما فيه من جواهر وغيرها أحضره بكل أمانةٍ أيْ وفاءٍ وصِدْقٍ بلا أيِّ خيانةٍ فلا ينْقص أو يَضيع منه أيُّ شيء
ومعني "قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)" أيْ قال سليمان (ص) نبيُّ الله تعالي الذي عنده علمٌ من الكتاب الذي أوْحاه إليه وفيه الإسلام الذي يُناسب عصره – وعند بعض العلماء هو المَلَك جبريل عليه السلام حيث هو عنده علمٌ من الكتاب الذي ينزل به علي كل رسول، وعند علماء آخرين هو رجلٌ صالحٌ من علماء بني إسرائيل وكان مُسْتَجابَ الدعوة وقال كلامه هذا لسليمان لا للعفريت – قال للعفريت من الجنِّ مُسْتَبْطِئاً الوقت الذي حَدَّدَه للإتْيان بالعَرْش أنا أجيئك به قبل أنْ يَرْتَدَّ إليك طرفك أيْ قبل أن يَرْجع إليك جَفْنُك أيْ جَفْن عينك بعد فتحه أي في لحظةٍ أو أقلّ بقُدْرَة الله تعالي القادر علي كلِّ شيءٍ سبحانه، فلمَّا رآه مُسْتَقِرَّاً عنده أيْ فلمَّا رأيَ سليمان العَرْش حاضِرَاً ثابِتَاً أمامه، قال شاكراً الله تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ رادَّاً الفضل كله له سبحانه – وكذلك علي كلِّ مسلمٍ مُتَمَسِّكٍ عامِلٍ بأخلاق إسلامه أن يكون هكذا دائماً شاكراً فلا يَغْتَرّ ويَتَكَبَّر علي غيره ويُؤذيه بما عنده من إمكاناتٍ وأرزاقٍ فهي منه تعالي ولو لم يُيَسِّر له تحصيلها ما كانت ولو لم يشكره عليها بإحسان استخدامها في الخير لا الشرِّ لَسَحَبَها منه – هذا من فضل ربي أيْ هذا من عطاءِ وكَرَمِ ربّي الزائد عليَّ ورحمته الغامِرَة بي، أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي، ليَبْلُوَنِي أيْ لكي يَخْتَبِرَني هل أشكر، بعقلي باستشعار قيمة نِعَمه عليَّ وبلساني بحمده وبأعمالي بأنْ أستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ حتي أجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، أم أكْفُر فلا أسْتَشْعِر قيمتها ولا أعترف بها وأنْسِبها لغيره ولا أحمده عليها وأستخدمها في كلِّ شرٍّ أو حتي أكفر بوجوده أصلاً فيُعاقِبني بالتالي في دنياي وأخراي بتعذيبي وإتْعاسِي بمَا يُناسب كُفْرِي وفِعْلِي للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لي ولغيري؟!.. ".. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)" أيْ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه حتماً حيث سيكون دائماً في خيرٍ مُتَزَايِدٍ وفي سعادةٍ مُسْتَمِرَّةٍ مُتَنَامِيَةٍ وسَيَحْيَا دَوْمَاً مُسْتَبْشِرَاً بانتظار الآخرة حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخْلَد، وشُكْره لن يزيد الله قطعاً أيّ شيء! لأنه تعالي كامل الصفات لا يحتاج لأيّ شيء! ومَن كَفَر بربه فلم يُصَدِّق بوجوده وبالتالي فَعَل كلَّ سُوءٍ لأنه لا حساب بالداريْن مِن وِجْهَة نَظَره أو كَفَرَ بنِعَمه فلم يَشكرها فهو حتماً في دنياه يكون في صورةٍ مَا من صور العذاب يَتَمَثّل في كلِّ قَلَقٍ أو تَوَتُّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون في كلِّ ألمٍ وكَآبَةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الجاثية "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو وأمثاله كفرهم علي أنفسهم حيث هم بالقطع وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّ ربِّي " .. غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)" أيْ لأنه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! وهو كريمٌ أيْ كثيرُ الكَرَم أيْ كثيرُ دائمُ العطاءِ بغير حسابٍ كثيرُ دائمُ التعامُل الكريم مع خَلْقِه حيث لا يُعَجِّل العقوبة للمُسيء بل يَعفو عن كثيرٍ من إساءاته وقد يُكْرِم الكافر للنعمة فلا يَسْلبها كلها منه أو يُبْقيها له رغم كُفْره لعله يَستفيق بهذا الكرم والحِلْم والعفو يوماً مَا ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَل الشقاء فيهما إذا لم يَتُبْ
ومعني "قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)" أيْ قال سليمان لبعض مُعاوِنِيه غَيِّرُوا لها عَرْشها في بعض صِفاته بحيث تُنْكِره إذا رأته ويكون مُتَنَكّرَاً أيْ مُتَخَفّيَاً عليها – كما يَتَنَكَّر الإنسان أحياناً في زِيٍّ يُخْفِي حاله الأصلي حتي لا يُعْرَف – وذلك لكي نَنْظر أيْ نَرَيَ ونَعْرِف هل تهتدي أيْ تَصِل إلي التّعَرُّف عليه وبالتالي تهتدي لله وللإسلام لأنَّ تَعَرُّفها عليه رغم تَنَكُّره لها سيَعْنِي حينها حُسْن إدراكها وتَعَمُّقها في الأمور وأنها ستُسْلِم عن اقتناعٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّل حيث ستَرَيَ عظيم قُدْرَته تعالي في مُعْجِزَة نَقْله وستَتَأكَّد أنني نبيٌّ حقّاً مُؤَيَّدٌ منه سبحانه، أم تكون من الذين لا يَهتدون أيْ لا يَصِلُون للحقّ لأنهم لا يُحْسِنون استخدام عقولهم ولا يَتَدَبَّرون فيما حولهم لأنهم سَطْحِيُّون تائِهون وبالتالي قد يَصْعُب أنْ يُسْلِمُوا؟!
ومعني "فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)" أيْ فلمَّا حَضَرَت قيل لها من سليمان (ص) أو من بعض مُعاوِنيه هل علي هذا النحو عَرْشك؟ هل كذلك عرشك؟ قالت كأنه هو أيْ يُشْبِهه، فهي لم تُؤَكّد أنه هو لأنه قد حَدَثَ فيه بعض التغيير كما أنها لم تَنْفِ أنه هو لأنه قريب الشَّبَه منه، وبذلك تكون قد نَجَحَت في اختبار سليمان لها حين قال نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون لأنّ إجابتها هذه تَدُلّ علي تَعَقّلها وتَدَبُّرها وتَثَبُّتها وعدم تَسَرُّعها بما يُسْتَدَلّ به علي أنها تُحْسِن استخدام عقلها وتَتَدَبَّر في الأمور وبالتالي فهي قريبة مِن أنْ تُسْلِم لأنّ الإسلام دينٌ يَقْبَله أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)" أيْ هذا قد يكون من كلامها أو من كلامه (ص)، فإنْ كان من كلامها فيكون المعني وأُعْطِينَا العلم بوجود الله وعظيم قُدْرَته وعِلْمه وصِدْق أنك نَبِيٌّ وصِدْق ما تدعونا إليه من عبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع دينه الإسلام مِنْ قَبْلها أيْ مِن قَبْل هذه الحالة التي رأينا فيها الآن مُعْجِزَة نَقْل العَرْش وذلك عندما رَفَضْتَ قبول الهدية ولم تَقْبَل إلا دعوتنا للإسلام وقلتَ لوَفْدِنا مُعْلِنَاً عن عظيم فضل الله عليك بأنه قد آتاك خيراً مِمَّا آتانا وكنّا مسلمين منذ ذلك الوقت أيْ مُتّبِعين دين الإسلام طائعين لسلطانك فلم نكُنْ في حاجةٍ حتي إلى مِثْل هذه المُعْجِزَة لنعلم صِدْقك، وإنْ كان مِن كلامه (ص) فيكون المعني وأعطينا أيْ نحن المسلمون العلم أيْ العلم بتوحيد الله وبالإسلام مِن قَبْلها أيْ مِن قَبْل مَلِكَة سَبَأ أو مِن قَبْل هذه المُعْجِزَة وكنا مسلمين سابقين علي إسلامها سعيدين به بالداريْن من قبلها أيْ أسبق منها علماً وإسلاماً وبالتالي سيكون لنا ثواب إسلامها وقومها ومَن بَعْدهم وبَعْدهم حتي يوم القيامة، وفي هذا شُكْرٌ لله تعالي وتَذْكيرٌ بأعظم نِعْمَةٍ علي الناس وهي الإسلام حيث يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم الدنيا علي أكمل وأسعد وَجْهٍ يسعدهم فيها تماما ثم في حياتهم الآخرة
ومعني "وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)" أيْ هذا تذكيرٌ للإنسان بأنْ يُحْسِنَ دائماً استخدام عقله وألّا يَنْسَاق وراءَ مَا حوله ببيئته مِن عقائد وأفكارٍ وثقافاتٍ وعاداتٍ ومعلوماتٍ وغيرها دون تَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ وتَعَلّمٍ وسؤالٍ للثقات الصالحين من أهل العلم والخِبْرَة حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. أيْ هذا من تمام كلام سليمان (ص) – وعند بعض العلماء هو من كلام الله تعالي – أيْ وكنا مسلمين ولكنْ هي حالها لم تَكُن مُسلمة لأنها قد صَدَّها أيْ مَنَعَها عن الإسلام ما كانت تعبد من دون الله أيْ غيره حيث كانت تعبد الشمس لأنها كانت من قوم كافرين به سبحانه.. هذا، وعند بعض العلماء المعني وصَدَّها سليمان بحُسْن دعوته لها عَمَّا كانت تعبد من دون الله
ومعني "قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان لعظيم نِعَم الله تعالي عليه التي لا تُحْصَيَ وأنه قد أُوُتِي مِن كل شيءٍ بفضله وكرمه ورحمته ليكون ذلك مزيداً مِن عَوْنها وقومها علي تَصْديق أنه نَبِيٌّ وتصديق ما يدعوهم إليه من الإيمان بالله تعالي واتّباع دينه الإسلام ليسعدوا مثله تمام السعادة بالداريْن.. أيْ قيل لها من سليمان (ص) أو من بعض مُعاوِنِيه ادْخلي الصرْح أيْ القصْر أو المَبْنَيَ العالِي الضخْم الفَخْم فلمّا شاهَدْته ظَنّتْه لُجَّة أيْ ماءً كثيراً وكَشَفَتْ عن ساقَيْها برَفْع طَرف ثيابها عن أسفل الساقين حتي لا تَبْتَلّ بالماء، حينها قال لها سليمان (ص) ليُزيل اسْتِغْرابها إنَّ الذي تَحْسَبِينه لُجَّة هو صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِن قوارير أيْ قَصْرٌ مُمَلّسٌ – أي جُعِلَ أَمْلَسٌ ناعِمٌ – من زجاجٍ صَافٍ يُظْهِر مَا تحته مِن ماءٍ أو يَظْهَر كأنه ماءٌ مِن شِدَّة لَمَعانه وهو ليس بماء، فلا حاجَة بالتالي إذَن لكَشْف الساقيْن وسِيِرِي عليه، قالت حينها لَمَّا رَأَت مَا آتاه الله تعالي بفضله مِن كلّ شيءٍ ومَا أيَّدَه به مِن مُعْجِزاتٍ بما زاد تمام تأكّدها بلا أيِّ شكّ أنه نبيٌ كريم وأنها لو اتّبَعَت دينه الإسلام ستَسْعَد مِثْله حتما تماما بالداريْن، قالت تائِبَة راجِعَة لربها نادِمَة مُتَحَسِّرَة علي فتراتِ حياتها السابقة التي عاشتها كافرة تعيسة بسبب بُعْدها عن الله والإسلام: ربِّ – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إني ظلمتُ نفسي بأنْ أتعستها بعبادتي لغيرك وباتّباعِي ديناً غير دينك الإسلام، وأسْلَمْتُ مع سليمان أيْ بصُحْبَتِه مُتّبِعَة له مُقْتَدِيَة به مُتَلَقّيَة منه، لله ربِّ جميع الخَلْق، أيْ اسْتَسْلمت لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ تَمَسَّكت وعملت بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتي وسأثبت دائما عليها.. وفي هذا تذكيرٌ لكل الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، بالتوبة أيْ العودة لربهم ولإسلامهم لعلهم يستفيقون ويتوبون ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بَدَلَاً أنْ يتعسوا فيهما
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة الرسول الكريم صالح (ص) والرسول الكريم لوط (ص) وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصتهما في سورة الأعراف وهود وغيرها، من أجل اكتمال المعاني).. هذا، وقصص الأنبياء وغيرهم ليست مُكَرَّرَة وإنما تأتِي مُجَزَّأَة علي مَدَار القرآن الكريم كله للتشويق وللتأكيد علي معنيً مُعَيَّنٍ مُهِمٍّ ولأنَّ كل جزءٍ يَتناوَل القصة مِن زاويةٍ مختلفةٍ وبفوائد أخري بحيث يُكمل بعضها بعضاً وبحيث تُناسِب الأحداث التي تَحْدُث في حياة الناس ليأخذ كل مُتّبِعٍ للقرآن ما يُناسِب ظروفه وأحواله وبيئته وثقافته وعلمه بما يُحَقّق له أعظم وأتَمّ استفادة وسعادة
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)" أيْ ولقد بعثنا إلى قوم ثمود – وهم الذين كانوا يعيشون شمال الجزيرة العربية في منطقة الحِجْر التي تقع بينها وبين الشام – أخاهم رسولنا الكريم صالحا فقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه وهو أن اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)" أيْ فإذا هُمْ، فجأةً سريعاً بمُجَرَّد دعوته لهم لعبادة الله تعالي وبسَبَبها، فريقان أيْ تَجَمُّعان، فريقٌ مؤمنٌ وفريقٌ كافر، يَخْتَصِمون أيْ يَتنازَعُون ويَخْتَلِفون ويَتَجَادَلون ويَتَضَادُّون ويَتَحَاوَرُون، في أمر وشأن ربهم أيْ في وجوده تعالي وفي أنه واحدٌ وقادرٌ علي كل شيءٍ عليمٌ به، وفي صلاحية شَرْعه الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد كل البشريَّة إلي يوم القيامة، وفي البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار، فالمؤمنون يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بكل هذا بينما الكافرون وأشْباههم يُكَذّبونه، والفريق المؤمن يُخاصِم الفريق الكافر في كل زمانٍ ومكانٍ أيْ يَختلف معه ويُحاوِره ويأتيه بالأدِلّة والحُجَج ويَدْعوه لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، بينما الفريق المُكَذّب لا حُجَّة له ولا دليل ويَسْتَكْبِر ويُرَاوِغ ويُقاوِم ويُؤذِي معنوياً ومادِّيَّاً فريق المؤمنين، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)" أيْ قال صالح (ص) للفريق الكافر مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم لماذا تَطْلُبون بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال السيئة وهي عقوبة الله بكم التي يعدكم بها إنْ كفرتم وفعلتم السوء وذلك لإثبات صِدْقِي فإنْ لم تَنْزِل فأنا إذَن كاذب وذلك قَبْل وبَدَل أنْ تَطلبوا سرعة الحَسَنَة وهي الهداية لله وللإسلام والتي ستؤدِّي بكم حتماً لكل حياةٍ حَسَنَةٍ سعيدةٍ في الدنيا والآخرة! وكذلك لم تُسارِعُون بفِعْل السَّيِّئة أيْ كلّ شرٍّ رغم أنها مُضِرَّة مُتْعِسَة لكم ولغيركم كما تَلْمَسُون ذلك واقِعَاً عملياً أمامكم والتي ستُؤَدِّي بكم حتماً لعذابٍ مُناسبٍ لها بالداريْن وتُؤَخّرون وتَتْرُكون فِعْل الحَسَنَة أيْ كلّ خيرٍ والتي ستُؤَدِّي بكم حتماً لسعادةٍ مُناسبة لها فيهما؟! إنَّ أمركم يُثير التَّعَجُّب والدَّهْشَة!! فأنتم بَدَلاً أن تَتعمَّقوا فيما أدعوكم إليه من إسلامٍ فيه كلّ خيرٍ وسعادةٍ لكم في الداريْن وتُحْسِنوا استخدام عقولكم وتَطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيداً من الأدِلَّة لتقتنعوا به وتَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يَحْدُث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بكم تَطلبون العقاب والهلاك لإثبات صِدْقِي!! إنكم تَتمنّون حتي العذاب وتُفَضِّلونه علي أن تَهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام إصراركم علي حالكم دون أيّ مراجعةٍ لذواتكم وتراجعكم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فأنتم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتكم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بكم فلن يكون لكم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألَاَ تعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)").. هذا، وسؤاله (ص) لهم فيه بعض الذمِّ واللّوْم والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)" أيْ هذا حَثٌّ وتَشجيعٌ لهم وللناس جميعا علي التوبة لتَتَحَقّق السعادة التامَّة بالداريْن.. أي لو تَستغفرون الله لكُنتم تُرْحَمُون حتماً لأنه هو الغفور الرحيم، أيْ اسْتَغْفِروا الله لكي تُرْحَمُوا، أيْ اطلبوا مغفرته بصدقٍ أيْ أن يغفر لكم ما أنتم فيه بأن تتوبوا أيْ تَرْجِعوا من كفركم إلي عبادته وحده وتَتّبِعوا دينه الإسلام، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه
ومعني "قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)" أيْ قالوا له مُقابِلِين دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واسْتِهْزاءٍ وقُبْحٍ وسُوءٍ وتَطَاوُلٍ رغم حُسْن دعوته لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ بالداريْن: اطّيَّرْنا بك وبمَن معك أيْ تَشاءَمْنَا بك يا صالح وبمَن معك من المؤمنين وبوجودكم بيننا وبما تدعونا إليه من عبادة الله وحده واتّباع أخلاق الإسلام ونَعْتَبِر أنكم أنتم سبب ومَصْدَر كل شُؤْم أيْ شرٍّ وتعاسة لنا حيث تَتَابَعَتْ علينا الشدائد وأصابنا الفقر وكلما رأيناكم تَوَقّعْنا نزول شرٍّ مَا بنا ولو لم تكونوا معنا لَمَا كان أصابنا مَا أصابنا!! فهم يُغْلِقون عقولهم عن أنَّ ظلمهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار هو الذي أدَّىَ بهم إلى ما نالهم لأنّ مَن يزرع سوءا لابُدَّ أن يحصد سوءاً في دنياه وأخراه كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. إنهم أيضا يَتَوَهَّمون أنهم بذلك يُشَكّكون الناس في الإسلام ورسوله الكريم صالح (ص) فلا يَتّبعه أحدٌ أو يَتّبعونه بتَشَكّكٍ وتَذَبْذبٍ!.. ".. قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ قال لهم رسولهم الكريم صالح مُقابِلَاً رَدّهم القبيح بمُنْتَهَيَ الصبر والحكمة والعقل لعلهم يستفيقون: شُؤْمُكُم عند الله أيْ مَكْتُوبٌ عند الله في عِلْمه أنكم ستَفْعَلون الشرّ وستَجِدُون في مُقابِله حتماً شرَّا، فحسبما تَزْرَعون تَحْصُدون، فلستُ أنا ولا المؤمنون السبب بالتالي إذَن، بل أنتم.. ".. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)" أيْ هذا مزيدٌ من التوضيح لهم.. أيْ لكنْ أنتم في الحقيقةُ أناسٌ تَقَعُون في الفِتْنَة أيْ في الشرِّ بسبب اختياركم لفِعْله بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم بسبب تعطيلكم لها بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. كذلك من المعاني لكنْ أنتم، كما كلّ البَشَر، أناسٌ تُخْتَبَرُون مِن الله تعالي بما حولكم مِن أحداثٍ بخَيْرها وشَرِّها هل تُحْسِنون استخدام عقولكم فتَختارون فِعْل الخير المُفيد المُسْعِد لكم ولغيركم بالداريْن أم العكس وسيُحاسِبكم فيهما بما يُناسب أفعالكم وأقوالكم علي حسب اختياركم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (35) من سورة الأنبياء "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)"، "قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)" أيْ هذا بيانٌ لمُقَابَلَتهم دعوته (ص) لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ بل وإصرارٍ علي محاولة قتله للتّخَلّص منه ومِمَّا يَدعو إليه من إسلامٍ رغم حُسْن دعوته لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ بالداريْن.. أيْ وكان في المدينة التي فيها صالح (ص) وثمود، تسعة مجموعات أو قبائل، يَفعلون كل أنواع الفساد بأيِّ مكانٍ يَتَواجَدُون فيه ويَنْشُرونه ولا يَكْتَفون بأنفسهم ولا يفعلون أبداً الصلاح أيْ أخلاق الإسلام أيْ يعملون الشرّ المُضِرّ المُتْعِس بالداريْن ولا يقومون بأيِّ إصلاحٍ أيْ خيرٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم فيهما أيْ يَرْتَكِبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، وجملة "ولاَ يُصْلِحُون" تُفيد مَزيداً من التأكيد علي فسادهم وأنه خالصٌ تامٌّ ليس به أيّ صلاح!.. "قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)" أيْ قالوا اقْسِمُوا بالله بأنْ تَتَبَادَلُوا القَسَمَ فيما بينكم بأنْ يقْسِم كلُّ واحدٍ للآخرين، وفي القَسَمِ بالله بيانٌ أنهم يعرفونه سبحانه تماماً بفطرتهم لكنْ تَتَعالَيَ عقولهم التي عطّلوها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة الإيمان به، وبيانٌ أيضاً لشِدَّة سَفَههم حيث يُقْسِمون بالله علي قَتْل رسول الله!!.. ".. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)" أيْ سنُبَيِّته أيْ سنَأْتِيه فجأة في وقت البَيَات أيْ الليل فنقتله هو وأهله أيْ أهل دينه الإسلام أيْ المؤمنين معه مِن عائلته ومِن غيرهم – واللام والنون للتأكيد – ثم سنقول لمَن يَتَوَلّي أموره بعد مَقْتله أيْ يَطلب القِصاص مَا حَضَرْنا مَكان هَلاك أهله وهلاكه وبالتالي لم نُشاهِد القَتْل والقاتِل، ونحن صادقون فيما نقول!
ومعني "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)"، "فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)"، "فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)"، "وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)" أيْ ودَبَّرُوا المَكَائِد في الخَفَاء تدبيراً عظيماً بهذه الحِيلَة من أجل إيقاع الشرّ بصالح وبالإسلام وبالمسلمين، ودَبَّرْنا في مُقابِل مَكْرِهم تدبيراً مُحْكَمَاً لِنَجَاته والمسلمين ولاسْتِدْراج الرهْط لعذابهم وهلاكهم، وهم لا يَشعرون بذلك أيْ بمَكْرِنا أيْ بتَدْبيرنا الحكيم وباسْتِدْراجِنا لهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..").. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!.. "فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)" أيْ فلذلك فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء مَكْرهم حيث أننا حَطّمْناهم وأهْلَكْناهم هؤلاء الرهْط وقومهم المُكَذّبين كلهم جميعاً فلم نَتْرِك منهم أيِّ أحد، قبل أن يتمكّنوا من تنفيذ مَكْرهم، بأنْ بَعَثْنا عليهم صَيْحَة ورَجْفَة وزَلْزَلَة وصاعِقَة عظيمة هائلة مُخِيفَة مُدَمِّرَة.. "فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن تَدْميرهم وإهلاكهم.. أيْ فهذه هي مَسَاكنهم خالية خَرِبَة مُدَمَّرَة مَهْجُورَة ليس فيها أحدٌ فانْظروا إليها واعْتَبِرُوا كدليلٍ علي أننا دمَّرْناهم أجمعين بسبب أنهم ظَلَمُوا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)" أيْ إنَّ فِي ذلك الإهلاك للأمم المُكَذّبة السابقة وفي ذلك الذي ذُكِرَ في السورة الكريمة وفي ذلك القَصَص في القرآن الكريم كله والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومُعْجِزَة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وتدلّ علي أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فكونوا جميعا من القوم الذين يعلمون ويعملون بكل ما يعلمونه.. "وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ لِسُنَّةٍ أيْ لطريقةٍ مِن سُنُنِ الله تعالي في كَوْنه والتي لن تَنْقَطِع أبداً حتي يوم القيامة.. أيْ وأنْقذنا وخَلّصْنَا وسَلّمْنَا من العذاب والهلاك، بقُدْرَتِنا وعِلْمِنا وحِكْمتنا ورحمتنا وفضلنا وكرمنا ورعايتنا ونِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ، الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل وكانوا ثابتين دائما عليها مُخْلِصِين مُحْسِنين أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم، وكانوا يتقون في الدنيا أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)" أيْ واذكر يا رسولنا الكريم محمد (ص) ويا كل مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس مَا حَدَثَ للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه، اذكر حين قال رسولنا الكريم لوط (ص) لقومه ناصِحَاً ولائِمَاً لوْماً شديداً هل تأتون أيْ تَفعلون الفاحشة أيْ الشرّ العظيم الضرَر والتعاسة علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره والتي مَا فعلها أيّ أحدٍ من الناس السابقين لأنها تُخَالِف الفطرة السليمة حتى بالنسبة للحيوان الذي يَتَرَفّع عن فِعْلها، ولكنْ فعلتموها أنتم، وأنتم تُبْصِرون أيْ وحالكم ووَاقِعكم أنكم يقيناً تُدْرِكون وتعلمون بعقولكم وتَرون بأعينكم قُبْحَها وشرورها وأضرارها وتعاساتها في الدنيا حيث الأوبئة الجسدية والنفسية وامتناع النسل ثم سيكون لها عذابها العظيم في الآخرة؟! فذلك أعظم قُبْحَاً وذَنْبَاً منكم لأنكم تعلمون لا تجهلون.. كذلك من معاني وأنتم تُبْصِرون أيْ تُشاهِدون إيَّاها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا يُعْلِنون بها ولا يَسْتَتَرون منها أثناء فِعْلها زيادة في فجورهم فتكون بالتالي أقْبَح وأفْظَع وأفْجَر، وفي هذا زيادةُ ذمٍّ لهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلَاً أنْ يتعس فيهما
ومعني "أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)" أيْ هذا توضيحٌ لهذه الفاحشة.. والسؤال لا يُقْصَد به انتظار الإجابة لأنها مَعْلُومَة مَشْهُورَة مُؤَكّدَة وإنما لبيان شِدَّة الاسْتِغْراب كما أنه لبيان مزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلَاً أنْ يتعس فيهما.. أيْ هل أنتم تُضاجِعُون وتُجامِعُون الرجال في أدْبَارهم وتشتهونهم بدلاً من أزواجكم النساء – واللام للتأكيد – وهو فُحْش لم يفعله أحدٌ قبلكم ولا حتي الحيوان!.. ".. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)" أيْ لكنْ أنتم أُنَاسٌ تَجْهلون أيْ لا تَعرفون ما يضرّكم وما ينفعكم وعَوَاقِبَ وتعاسات ما أنتم مُصِرُّون عليه في الداريْن ولا تُدْرِكون ما هو واضح وصدق وعدل وخير، لا تُحسنون استخدام عقولكم، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهماً جيداً فلا يَتدبّرون في الأمور، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ!.. إنكم قوم تجهلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله والعاقل لا يفعل ذلك.. تجهلون الإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بكل أخلاقه.. إنكم كالجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره