الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)" أيْ فبسبب أنهم قوم يجهلون فبالتالي لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم لوط (ص)، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه! لقد تَصَرَّفوا تَصَرُّفَاً يدلّ علي مَدَيَ ما وصلوا إليه من شرٍّ وتَبَجُّحٍ وإصرارٍ وخَبَلٍ حيث قال بعضهم لبعضٍ أخرجوا واطردوا آل لوطٍ أيْ قومه أيْ هو ومَن آمن معه بالإسلام من قريتكم، وعَلّلوا وبَرَّرُوا ذلك بأنهم أناس يَتَطَهَّرون!! فهذه جريمتهم!! يَتنظّفون ويَتَعَفّفون فلا يَفعلون مِثْلهم!! إنهم مِن شِدَّة شَرِّهم وإغلاقهم لعقولهم قد قَلَبُوا الحقائق فأصبح عندهم الخير شرَّاً والشرّ خيرا!! إنهم يَسْخَرون من طهارتهم ولا يطيقون أن يبقي بينهم طاهراً أخلاقِيَّاً يُذَكّرهم بالطهر والأخلاق فهم لا يُبقون معهم إلا مَن كان مِثْلهم قَذِرَاً لا أخلاقياً مُنْغَمِسَاً في كلّ سوء!!
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)"، "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ لِسُنَّةٍ أيْ لطريقةٍ مِن سُنُنِ الله تعالي في كَوْنه والتي لن تَنْقَطِع أبداً حتي يوم القيامة.. أيْ فأنْقذناه وخَلّصْنَاه وسَلّمْنَاه هو وأهله من العذاب والهلاك، بقُدْرَتِنا وعِلْمِنا وحِكْمتنا ورحمتنا وفضلنا وكرمنا ورعايتنا ونِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ، والمقصود بأهله أيْ أهل دينه الإسلام أيْ المؤمنين معه مِن عائلته ومِن غيرهم، إلا امرأته أيْ لكنْ زوجته الكافرة قَدَّرْناها أيْ قَضَيْنا وحَكَمْنا عليها أنها من الغابرين أيْ من الباقين في العذاب المُهْلِك لا الناجين منه مع آل لوط وذلك بسبب أنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتكبي الفواحش فاسْتَحَقّت بالتالي ذلك.. "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)" أيْ وأنزلنا عليهم مَطَرَاً، ليس مِن ماءٍ ولكنْ مِن حجارةٍ صلبة مُلتهِبَة أهلكتهم جميعا وخَرَّبَت بيوتهم وجعلت أسْقُفَهَا مُلامِسَة للأرض، وذلك بسبب إصرارهم علي الشرور والمَفاسد والأضرار وعلي رأسها ارتكاب جريمةٍ شنيعةٍ هي جِمَاع رجل مع رجل والتي لم يَسبقهم لها قبلهم أيّ أحدٍ رغم أنهم تُرِكُوا لفتراتٍ طويلة وتَنَوَّعَت لهم وسائل دعوة رسولهم إليهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (82) من سورة هود "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فسَاءَ مَطَرُ المُنْذَرِين أيْ فبالتالي مَا أسْوَأ مَطَر الذين أُنْذِرُوا وحُذّرُوا كثيراً ولكنهم كَذّبوا واسْتَهْتَروا واسْتَهْزَؤا واسْتَكْبَروا واسْتَمَرّوا في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، حيث قد نَزَلَ عليهم بأشدِّ أنواع العذاب والهلاك والإتْعاس
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس حولك، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليكون ذلك تَذْكِيراً وتعليماً من الله تعالي لهم لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7) حيث قد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوْحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ شَرْعه الإسلام هو وحده النظام المُناسب تماماً لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم دون غيره من الأنظمة المُخَالِفة ليتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاقه لتَتِمّ سعادتهم في الداريْن، قل لهم احمدوا الله حَمْدَاً كثيراً علي كل هذه النّعَم العظيمة التي لا تحصي، وقل أيضا سلامٌ علي عباده الذين اصْطَفَيَ أيْ وعليك بالدعاء وادْعوا جميعا دَوْمَاً بالسلام في الداريْن أيْ بتمام الأمان والاستقرار والرحمة والخير والحب والسرور والرضا والسلامة من أيِّ سوءٍ وشقاءٍ قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ علي عباده الذين اصْطَفَيَ أيْ الذين اصْطفاهم أيْ اختارهم أيْ اختاروا هم أولا الإيمان به والعمل بأخلاق دينه الإسلام فاختار لهم بالتالي ما اختاروه وشاءه ويَسَّره لهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وهذا الدعاء بالسلام يكون للرسل الكرام الذين اصطفاهم الله تعالي ليكونوا مَبْعُوثين منه للناس ليُعَلّموهم الإسلام، وإمامهم وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص)، الذين بَذَلوا كل جهْدٍ مُمْكِنٍ لتوصيل أمانة الإسلام للبَشَر ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم وصَبَرُوا تمام الصبر علي ذلك وتَحَمَّلوا كلَّ أذَي مَا استطاعوا (برجاء مراجعة الآية (33)، (34) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن كيفية اصطفاء الله للرسل)، ويكون الدعاء بالسلام أيضا لكل المسلمين عموما، السابقين الأموات والحالِيِّين الأحياء منهم ومَن يموت والقادِمين، حتي يَعُمَّ السلامُ وتَعُمَّ السعادة التامَّة علي الجميع في الداريْن.. ".. آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)" أيْ هذا سؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وقل أيضاً هل عبادة الله تعالي خالِق الخَلْق ومَالِك المُلْك القويّ المَتِين المُعِين الناصِر القادِر علي كلِّ شيءٍ الكريم الرزَّاق الوَهَّاب الودود الرحيم والذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي بعبادته أيْ بطاعته تَتَحَقّق السعادة التامة في الدنيا والآخرة، هل هي خيرٌ أيْ أفضل أم عبادة ما يُشركون به في العبادة غيره تعالي مِن آلهةٍ يَدَّعُونها هؤلاء المشركون كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، لا تَضرّ ولا تَنْفع أيّ أحدٍ بأيِّ شيءٍ حيث هي لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه قطعاً بلا أيِّ شكّ لا تُوجَد أيّ مُقارَنَة بين الخالِق والمَخْلُوق!! بين الكَمال والنقْصان! بين الخير والشرّ! بين السعادة والتعاسة!
ومعني "أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن خَلَقَ أيْ أوْجَدَ من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ ونِعَمٍ وخَيْرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، وكذلك أنزل لكم أيْ من أجلكم أيْ من أجل منافعكم وسعاداتكم من السماء أيْ من السحب التي فيها ماءً بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه لِيَحْيَا كلُّ حَيٍّ فأنْبَتْنا به أيْ فأنْشَأنا وأوْجَدنا وأخْرجنا بسبب هذا الماء نحن وحدنا لا غيرنا حدائق أيْ بساتين من كل أنواع الأشجار والنباتات والزروع المُفيدة لكم ولأنعامكم والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صُوَر الأرْزاق المُتَنَوِّعَة مِن صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة، ذات بَهْجَة أيْ صاحِبَة ولها بَهْجَة أيْ سرور وفرح وسعادة أيْ تُسْعِد بسبب جمالها وحُسْنها كلَّ مَن يَنظر إليها ويَنتفع بها من الخَلْق.. ".. مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا.." أيْ ما كان لكم أيها الناس أيّ استطاعةٍ أبداً بأيِّ حالٍ مِن الأحوال أنْ تُنْشِئوا وتُوجِدُوا وتُخْرِجوا شَجَرَ هذه الحدائق لَوْلَا قُدْرَتِنا وعِلْمِنا وحِكْمتنا ورحمتنا وفضلنا وكرمنا ورعايتنا ورزقنا ونِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ عليكم.. ".. أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.." أيْ هل إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ مع الله فَعَلَ هذا حتى يُعْبَدَ معه؟! هل إلاهٌ آخر موجودٌ مع الله؟! إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لا لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل!! إنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده سبحانه الخالِق المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك!!.. والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)" أيْ لكن هؤلاء الذين يَعبدون مَعْبُودات غيره سبحانه هم أناس يَعْدِلون بمعني يُساوُون بينه تعالي وبين مَعْبُوداتهم والتي هي خَلْقٌ مِن خَلْقِه سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وظلماً وزُورَاً ويَعْدِلُون أيضاً بمعني يَميلون ويَنْحَرِفون نحو الباطل الذي هو الكفر عن الحقّ الواضِح القاطِع الحاسِم والذي هو الإيمان بالله واتّباع دينه الإسلام والذي هم مُتَأكّدون تماماً أنه الحقّ من خلال فِطْرتهم التي بداخل عقولهم والتي هي مسلمة أصلا والتي تُذَكّرهم دائماً به (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والسبب في ذلك تعطيلهم لهذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتعالَيَ الله عَمَّا يقولون ويَفعلون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني "أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعْجِزاته سبحانه ودلالاته علي اسْتِحْقاقه وحده للعبادة بلا أيِّ شريك.. أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن جَعَلَ أيْ خَلَقَ الأرضَ قراراً أيْ مكان استقرارٍ لكم وهي في ذاتها مستقرّة ليست هائجة مُضطربة ومُمَهَّدَة يسهل الانتقال فيها لكي تنتفعوا وتسعدوا بكل خيراتها، وخَلَقَ فيها أنهاراً من مياهٍ عَذْبَةٍ لسَقْيكم ونَفْعكم أنتم ودَوابّكم ونباتاتكم وكل شيءٍ حَيٍّ فيه مَنْفَعة وسعادة لكم، وخَلَقَ لها رواسِيَ أيْ ما يُبقيها راسِيَة ثابتة كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة لتَتَمَكّنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش والتّمَتُّع فيها، وخَلَقَ بين البحريْن، أيْ الماءَيْن أيْ ماء الأنهار العَذْب أيْ الحلو وماء البحار المالح، بما في كلٍّ منهما من مخلوقات نافعة مُسْعِدَة للخَلْق، حاجزاً أيْ مانِعَاً لا يُرَيَ عبارة عن مساحة مائيَّة من خَوَاصّ فيزيائِيَّة تَمْنع اختلاط هذا بذاك، حيث يَصُبّ النهر العَذْب في البحر المالِح، فلا يَغْلِب ويَتَعَدَّي أحدهما علي الآخر فيَمْتَزِجان فتَتَغيَّر بالتالي مُوَاصفاتهما وفوائدهما بل يظلّ كلّ ماءٍ منهما مُحْتَفِظَاً بخصائصه ومنافعه للخَلْق ليَنتفعوا وليَسعدوا به.. ".. أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.." أيْ هذا استخدامٌ لذاتِ الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ هل إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ مع الله فَعَلَ هذا حتى يُعْبَدَ معه؟! هل إلاهٌ آخر موجودٌ مع الله؟! إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لا لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل!! إنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده سبحانه الخالِق المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك!!.. والسؤال هو لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)" أيْ رغم كل هذا الوضوح في الأدِلّة لكنَّ أكثر هؤلاء المشركين الذين يَعبدون مَعْبُودات غيره سبحانه وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعْجِزاته سبحانه ودلالاته علي اسْتِحْقاقه وحده للعبادة بلا أيِّ شريك.. أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن يُجِيب أيْ يُلَبِّي ويُنَفّذ دعاء المُضطر إذا دعاه أيْ المُصاب بمُصيبةٍ شديدةٍ وفي احتياجٍ شديدٍ لمَن يُخَلّصه منها حيث انتهت كل أسبابه التي يُمْكِنه اتّخاذها، ويُجيب غيره قطعاً مِمَّن يَدْعونه لأيِّ حاجَةٍ مِن حاجاتهم، ويَكْشِف السوء أيْ ويُزيل مَا يَسُوء أيْ الضرَرَ الذي قد يَحْدُث أحياناً سواءً أكان جسدياً أم نفسياً أم مالياً أم غيره، عن هذا المُضطر وعن غيره، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسِبَاً مُفيداً له ولغيره (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل: الله تعالي وحده هو الذي يُجيب ويَكْشف ويَرْحم ويَرْزق ويُسْعِد.. ".. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ.." أيْ ومَن يَجعلكم خُلفاء له في الأرض أيْ نُوَّابَاً عنه تَخْلُفونه فيها لإدارة شئونها بما أوْصاكم به من نظام الإسلام الذي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد كل مَن يعمل بأخلاقه تمام السعادة في دنياه وأخراه حيث يُمَكّنكم مِنها ويُيَسِّر لكم كل أسباب الانتفاع والسعادة بكل خيراتها، كذلك مَن يَجعلكم خُلَفاء لِمَن قَبْلكم بعد إماتتهم بأنْ يَخْلقكم ثم يُميتكم كما أماتهم ويَخْلُق بقُدْرَته وعِلْمه خُلفاء لكم بَعْد إماتتكم وهكذا حتي يوم القيامة؟! إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة أيضاً أنه الله تعالي وحده لا غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30) من سورة البقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.."، والآية (165) من سورة الأنعام "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.." أيْ هذا استخدامٌ لذاتِ الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ هل إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ مع الله فَعَلَ هذا حتى يُعْبَدَ معه؟! هل إلاهٌ آخر موجودٌ مع الله؟! إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لا لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل!! إنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز وأنْعَم هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ!! إذَن فهو وحده سبحانه الخالِق المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك!!.. والسؤال هو لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)" أيْ لكنْ رغم كلّ ما ذُكِر إلاّ أنكم أيها البَعِيدون عن ربكم وإسلامكم وأيها المُشْرِكون الذين يَعبدون مَعْبُودات غير الله لا تَتذكَّرون هذا كثيراً بل تتذكّرونه تَذَكّراً قليلا!!.. لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولا تتذكّرون ربكم وإسلامكم، ولا تعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. والسبب أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعْجِزاته سبحانه ودلالاته علي اسْتِحْقاقه وحده للعبادة بلا أيِّ شريك.. أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن يَهديكم أيْ الذي يُرْشِدكم مِن خِلال النجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ فتَعرفوا الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البر والبحر بما يَهديكم ويُرْشدكم ويُوصلكم إذا سِرْتُم في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث تريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحكم ومنافعكم وسعاداتكم، وكذلك مِن خِلال الأمَارات والمَعَالِم التي تُرْشِدكم أثناء سَيْركم فيها وتَسْتَدِلّون بها علي الطرق والأماكن التي تريدون الوصول إليها كالجبال والتلال والسهول والوِدْيان والأنهار والغابات وغير ذلك مِمَّا تضعونه علي طرقكم وأماكنكم من علاماتٍ وإرشاداتٍ بإلهامٍ وتوفيقٍ وتيسيرٍ مِنّا لعقولكم.. ".. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.." أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن يُطْلِق ويَبْعَث ويُحَرِّك الرياح لتكون تَبْشِيرَاً بين يَدَيْ رحمته أيْ مُقَدِّمَة لرحمته حينما يَرَي الناس الرياح المُعْتَدِلَة ذات النسيم فإنهم يَسْتَبْشِرون برحماتٍ ثم رحماتٍ مُتَتَالِيَاتٍ من ربهم الرحيم الودود الكريم حيث سيأتي المطر بالماء الطيّب المُفيد المُسْعِد الذي به حياتهم لا الشديد المُضِرّ المُتْعِس المُهْلِك.. ".. أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.." أيْ هذا استخدامٌ لذاتِ الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ هل إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ مع الله فَعَلَ هذا حتى يُعْبَدَ معه؟! هل إلاهٌ آخر موجودٌ مع الله؟! إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لا لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل!! إنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز وأنْعَم هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ!! إذَن فهو وحده سبحانه الخالِق المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك!!.. والسؤال هو لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)" أيْ تَعَاظَم الله وارْتَفَع وابْتَعَد أيْ فعَظّمُوه واعلوا شأنه أيها المسلمون فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
ومعني "أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعْجِزاته سبحانه ودلالاته علي اسْتِحْقاقه وحده للعبادة بلا أيِّ شريك.. أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن يَبْدأ الخَلْقَ ثم يُعِيده أيْ يَخْلُقه مِن عَدَمٍ أولا في الدنيا ثم يُعيده بعد إماتته وتحويله تُراباً بإعادة خَلْقه بجسده وروحه مرّة ثانية في الآخرة لحسابه، بلا أيِّ جهْدٍ مِنه فهو قادر علي كل شيءٍ فبمُجَرَّد أن يقول له كن فيكون كما يريد لا يُعْجِزه شيء.. إنَّ مِمَّا يَسْتَغْرِبه ويَتَعَجَّب منه أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه كيف يُكَذّب مَن يُكَذّب بوجود الله تعالي وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة؟! ألم يَنْظر هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يَبْدَأ خَلْقاً مَا في كلِّ لحظةٍ سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فهو وحده الخالق!! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. ".. وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.." أيْ وأيضاً هل عبادة مَا تَعبدون خيرٌ أم عبادة مَن يُسَبِّب لكم أسباب كل أنواع الأرزاق التي لا تُحْصَيَ سواء أكانت هذه الأسباب من السماء كالمطر والهواء والشمس والطاقة ونحو هذا ممّا يُعْلَم أو لا يُعْلَم أم كانت من الأرض مثل الأنهار والبحار والنباتات والثمار والحيوانات والطيور والأسماك والمعادن والخامات وغيرها ومثل العقل والصحة والقوة ونحوها ممّا يَنفعكم ويُسعدكم؟!!.. ".. أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.." أيْ هذا استخدامٌ لذاتِ الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ هل إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ مع الله فَعَلَ هذا حتى يُعْبَدَ معه؟! هل إلاهٌ آخر موجودٌ مع الله؟! إنَّ الإجابة بالقَطْع حتماً لا لأيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِل!! إنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز وأنْعَم هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ!! إذَن فهو وحده سبحانه الخالِق المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك!!.. والسؤال هو لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هاتُوا بُرْهانكم أيْ أَحْضِرُوا دليلكم على صِحَّة ما تدَّعون أنَّ هناك آلهة تَسْتَحِقّ العبادة غير الله تعالي، إنْ كنتم صادقين في دعواكم هذه، فإنْ لم تأتوا به فأنتم بالتالي حتماً كاذبون، وهم قطعاً ليس لهم أيّ بُرْهانٍ علي ذلك بل كلّ الأدِلّة ضِدَّ هذا الادِّعاء الكاذِب السَّفِيه
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا وَثَقْتَ ثِقَة تامَّة وصَدَّقْتَ صِدْقَاً كاملاً بما يُخبرك به الله تعالي، الحقّ العدل الصدق الذي هو بكل شيءٍ عليم، من خلال رسله وكتبه التي أرسلها للبَشَر، من الغيب، وهو كل ما غابَ عن إدْرَاكِك وحَوَاسِّك، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا تعلمه أم من المستقبل، لأنك بذلك ستُحْسِن الاستفادة مِمَّا مَضَيَ، وستُحْسِن الاستعداد لِمَا هو قادِم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للناس جميعا، ولكلِّ مَن يسأل عن موعد يوم القيامة أو عن أيِّ شيءٍ مستقبليّ، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لا يعلم مخلوقٌ في السماوات والأرض الغَيْبَ – وهو كل ما غابَ عن إدْرَاكِ المَخْلوقات وحَوَاسِّهم، سواء أكان مِن الماضي والحاضِر الذي لا يعلمونه أم مِن المستقبل – إلا الله هو وحده الذي يَعلمه، وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)" أيْ هذا تأكيدٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ الله تعالي وحده لا غيره هو الذي يَعلم الغَيْب، وتَذْكِيرٌ بالآخرة لكي يُحْسَن الإعداد لها.. أيْ ولا يَشْعُر أيْ ولا يَدْرِي ولا يَعلم الناس أيَّ آنٍ أيْ أيَّ وقتٍ يُبْعَثون إذ عِلْم ذلك لا يَعْلمه إلا هو سبحانه وحده أيْ يُخْرَجون بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كَوْنهم تُرابَاً فيُحْيِيهم الله بقُدْرَته يوم القيامة ويُعيدهم أحياءً كما كانوا في دنياهم لحسابهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (187) من سورة الأعراف "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فالعقلاء، وهم المؤمنون، يعلمون تماما أنهم سيُبْعَثون حتماً ولذا فهُمْ يُحْسِنون الاستعداد لهذا بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ مِن خلال تَمَسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وإحسان طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بينما غير العقلاء، وهم غير المؤمنين، هم في تمام النّسْيان والتّيِه والضَّيَاع فلا يَتَذَكّرون هذا اليوم بعذاباته وتعاساته لهم ولا يَسْتَشْعِرون بمَجيئه ولو تَذَكّرُوه لم يُصِدِّقوه وسَخِرُوا منه ولذا يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار لأنه مِن وِجْهَة نَظَرِهم لا حياة أخري بعد حياتهم الدنيا ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)" أيْ بل أكثر وأقْبَح مِن أنهم مَا يَشعرون أيَّان يُبْعَثون أنهم قد ادَّارك أيْ قَلّ وانْتَهَيَ وفَنيَ عِلْمهم هؤلاء الكافرون المُشركون في أمر الآخرة وما فيها مِن حسابٍ وعِقابٍ وجنةٍ ونارٍ حيث نَسوها تماماً ولم تكن في فِكْرهم إلا نادرا، لأنَّ لفظ ادَّارَك يُسْتَخْدَم أحياناً في اللغة العربية بمعني قَلّ وانْتَهَيَ وفَنيَ كما يقول العرب أدْرَك الثمَر أيْ نَضج بما يَعني ضِمْنَاً أنه صَارَ جاهِزَاً للأكل وللفَناء وللانتهاء منه وكما يُقال الدَّرْك أيْ الأسْفَل مِن كلِّ شيء وكما يُقال تَدَارَك بَنُو فلان إذا تَتَابَعُوا فى الفَناء والانتهاء، وعند بعض العلماء ادَّارَك بمعني تَدَارَك أيْ تَلاحَق وتَتَابَع وتَجَمَّع عِلْمهم في أمر الآخرة أنها لا تكون ولا وجود لها وذلك في أثناء حياتهم الدنيا ثم تَجَمَّع عِلْمهم في الآخرة حينما يُبْعَثون إلي حياتهم الآخرة ويَرَوْنَ مَا كانوا يُكَذّبونه عِلْمَاً حقيقياً لا يُمْكِن تكذيبه فلا يَمْلِكون إلا الإيمان أيْ التصديق بها لكنْ في وقتٍ لن يَنْفَع فيه أيّ إيمانٍ حيث الوقت وقت حسابٍ وعقاب، وعند علماء آخرين ادَّارك عِلْمهم في الآخرة أيْ تَجَمَّع لهم عِلْمهم بها في دنياهم مِن خلال كُتُب الله ورسله ولكنّهم لم يَلْتَفِتُوا إليها ويَهْتَمُّوا بها ويَسْتَعِدُّوا لها بل وسَخِرُوا منها.. ".. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا.." أيْ بل أسْوَأ وأقْبَح مِن أنهم في دنياهم مَا يَشعرون أيَّان يُبْعَثون ومِن أنهم ادَّارَك عِلْمهم في الآخرة، أنهم في شَكّ منها أيْ مِن وُجُود الآخرة وحُدُوثها أصلاً أيْ في حيرةٍ من حقيقة أمرها مُتَرَدِّدين في شأنها غير مُتأكّدين منها غير واثقين فيها هل هي صِدْق أم لا فهُمْ يُكَذّبون بها، رغم كل الأدِلّة في الآيات السابقة والتي يَقْبلها كلُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ ولا يُكَذّبها إلا كلُّ سَفِيهٍ ظالِمٍ علي صِدْق وجود الله وصِدْق وَحْدَانِيَّته بلا أيِّ شَريكٍ وصِدْق حُدُوثها وصِدْق البَعْث.. ".. بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)" أيْ بل أسْوَأ وأقْبَح مِن أنهم في شَكّ من الآخرة أنهم منها أيْ مِن دلائل قيامها ومِن حقائقها عَمُون أيْ عُمْي الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا المَوْضِع أيْ إدْراك العقل الذي به يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون، أيْ عَمِيَت عقولهم فلم تُبْصِر شيئاً مِن أدِلّة حُدُوثها ومِمَّا ذُكِرَ لهم مِن خِلال كُتُب الله ورسله عَمَّا يَحْدُث فيها من عذابٍ للمُسيئين ونعيمٍ خالدٍ للمُحْسِنين، عَمِيَت عن الحقّ والعدل والخير والسعادة، عَمِيَت عن اتّباع أخلاق الإسلام في دنياهم فتعسوا بالتالي فيها ثم في أخراهم، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره ودليلٌ عليه أنهم قد ادَّارَك عِلْمهم في الآخرة وأنهم في شَكّ منها وأنهم منها عَمُون.. أيْ وقال الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، قالوا مُكَذّبين بالبَعْث بعد الموت يوم القيامة مُشَكّكِين فيه مُسْتَبْعِدين له مُتَعَجِّبين منه مُسْتَهْزِئين به والحساب والعقاب والجنة والنار: هل إذا كُنَّا تُراباً نحن وآباؤنا بعد موتنا هل نحن بالتأكيد مُخْرَجُون من قبورنا مَبْعُوثون إلي الحياة من جديدٍ مرة أخري – واللام للتأكيد – أيْ هل إذا مِتْنَا وأصبحنا تراباً وعظاماً مُفَتّتَة هل نحن مَبْعُوثون أيْ هل سنُحْيَا خَلْقَاً جديداً فيه حياة مرة أخري بأجسادنا وأرواحنا كما كنا في حياتنا الدنيا قبل موتنا للحساب والجزاء في يوم القيامة الذي يَدَّعِيه المسلمون؟! إنَّ هذا لا يُصَدِّقه عقل!! أي لا يُصَدِّقون أبداً ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم، رغم أنه مَن كان قادراً سبحانه علي كل هذه المُعْجِزات المُبْهِرات السابق ذِكْرها في الآيات السابقة وبَدْء خَلْق البَشَر من عدمٍ فهو قادرٌ حتماً علي أن يُعيد إحيائه بعد موته وبَعْثه يوم القيامة لحسابه علي ما فَعَل حيث الخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قَدْر مَا تَسْتَوْعِبه وتَفْهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!
ومعني "لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)" أيْ وقالوا كذلك مُؤَكّدين لتكذيبهم واستهزائهم وسُوئهم وإغلاقهم لعقولهم لقد وُعِدْنا هذا الوعد بالإخْراج والبَعْث والحساب والعقاب نحن مِن محمدٍ وَوُعِدَ آباؤنا مِن رسلٍ سابقين مِن قبل محمدٍ ومن قبلنا ولم يَحْدُث ولم نشاهده ولم يأتِ بَعْد، وما هذا الوعد إلا أساطير الأوَّلِين جَمْع أُسْطُورَة أيْ قصة مَسْطُورَة مَكتوبة قديماً، أيْ هو قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! فهو إذَن وَعْدٌ كاذبٌ هزلِيّ خرافيّ وبالتالي فلن نؤمن به أيْ لن نُصَدِّقه.. إنَّ السبب في كُفرهم وضَلالهم وسُوئهم هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم تَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطعتم وانْظروا وشاهِدوا بأبصاركم وتَدَبَّروا بعقولكم في كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُجْرِمِين مِن قَبْلكم – أيْ الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا مُجْرِمين، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)" أيْ ولا تَشعر بالحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب عدم إيمانهم وإصرارهم علي سُوئهم، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مِثْل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)" أيْ هذا مزيدٌ من التسلية والطمْأنَة والتخفيف والتبشير.. أيْ ولا تكن أبداً في حالةِ انقباضٍ واختناقٍ وضيقٍ وألمٍ في عقلك ومَشاعِرك من الحُزن مِن الذي يمكرون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم أيْ يُدَبِّرونه من مَكائد وجرائم وأضرار لإيذاء الناس والإسلام والمسلمين، والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به قوْلِيَّاً وفِعْلِيَّا، فإنَّ الله حتماً ناصركم ومُذْهِب ضيقكم فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِرُوا ولا تهتمّوا كثيرا بهم، مع إحسان اتّخاذ أسباب الحَذَر منهم ما استطعتم، وانْطَلِقوا في حياتكم سعداء بالله وبالإسلام، وانْشُرُوا إسلامكم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظة حَسَنة، فالله معكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، ثم الآية (99) منها "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ.."، ثم الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران لبيان أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سينتصرون في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً لهم، ثم الآيات (121) حتي (127) منها، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا لبيان أنَّ النصر من عند الله وحده سبحانه)
ومعني "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)" أيْ دائما يقول الذين يُكَذّبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا!! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا! إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المُعْجِزات والتي تُثْبِت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71)" أيْ أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام، بل أنتم كاذبون!!.. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم في الدنيا، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذَن كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُحَذّرَاً لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا بالداريْن قبل أن يُعَذّبوا ويتعسوا بهما، عَسَيَ أيْ لعلّ أن يكون تَبِعَ ولَحِقَ وقَرُبَ لكم بعض الذي تستعجلون حُدُوثه من العذاب، في الدنيا أولا مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة حيث العذاب الذي لا يُوصَف والذي سيكون أشدّ وأعظم وأتَمّ وأخْلَد والذي يبدأ بقبوركم عند موتكم والموت يأتي فجأة وكل ما هو آتٍ سواء الموت أو يوم القيامة فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالِك المُلْك الذي لا يُمكن أن يُعطِي وعداً بشيء ثم لا يُوفِي به فهذا ليس من صفات العظماء الأوفياء! وإذا كان كثيرٌ مِن عظماء أوفياء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الوفاء كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد احتمالية تحريك عقولهم لعلهم يستفيقون مع احتمالية تغيير ذواتهم والأمل في تحقّق ذلك ليعودوا لربهم ولإسلامهم، للخير وللسعادة، قبل حُدُوث الأمر وفَوَات الأوَان، وفيه أيضا تهديدٌ لهم إنْ ماتوا مُصِرِّين علي سُوئهم، كما أنه يُفيد التّمَنّي من الرسول (ص) والمسلمين مِن بَعْده بقُرْب حُدُوث يوم القيامة لينالوا أعظم الجزاء وينال أهل الشرّ عقابهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (63) من سورة الأحزاب ".. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا"، والآية (17) من سورة الشوري ".. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)" أيْ وإنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك، وإنَّ واللام للتأكيد، يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً هو صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا، ولكنَّ كثيرا من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كلّ كاذِبٍ ناكِر، وأعظمها نِعْمَة القرآن والإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ثم مِن النِعَم التي قد تُنْسَيَ عدم تَعْجيل العقوبة للمُكَذّبين والعاصِين لإعطائهم الفُرْصَة ليتوبوا ليسعدوا، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذبون وجود الله أصلا، أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنام أو أحجار أو كواكب أو نحوها، أم مَن شابههم في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بأعمالهم وعقولهم وألسنتهم، والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال، فالقليل هم الذين يشكرون بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه، بما استطاعوا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)" أيْ وإنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعِيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك، وإنَّ واللام للتأكيد، يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل، بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما تُكِنّ صدورهم أيْ كلّ ما هو مَكْنون أيْ مُختفِي بداخل كل خَلْقه – بمَن فيهم قطعاً الذين يُكَذّبون السابِق ذِكْرهم – سواء أكان فِكْرا سِرِّيا أم روحا أم طاقة أم خلايا أم غيره، وكذلك بالأوْليَ ما يُعْلِنون أيْ وكل ما يُظهرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردهم أم مع غيرهم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه فهو معهم بعِلْمه وبقُدْرته أينما كانوا ويعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه، وسيُحاسبهم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فعليهم أن ينتبهوا لذلك إذَن ويفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)" أيْ هذا بيانٌ لكمال عِلْمه تعالي لتأكيد مَا سَبَقَ ذِكْره مِن أنه سبحانه أعلم بما يعملون ويقولون جميعا وأنه يَحْكُم بينهم فيما فيه يختلفون بتمام العلم إذ لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كَوْنِه وخَلْقِه.. أيْ ومَا مِن غائبةٍ أيْ وليس أيّ خَافِيَةٍ عن الخَلْق في السماء والأرض إلا في كتابٍ مُبينٍ أيْ واضحٍ عند ربك وهو اللّوْح المحفوظ، أيْ أنَّ الله تعالي وحده هو الذي يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السماء والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقولونه أو يفعلونه من خيرٍ أو شَرٍّ سواء أكان عَلَنِيَّاً أم سِرِّيَّاً وهو مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالَم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة، وبالتالي إذَن فكيف يَجْهَل أو يَنْسَىَ سبحانه شيئاً وكلّ شيءٍ مُسَجَّلٌ مَحْفُوظٌ بتمامه بلا أيِّ زيادةٍ أو نُقصانٍ أو تغيير؟! وكيف يُمْكِن لأيِّ أحدٍ إنكار أيِّ شيءٍ مِمَّا سيُواجَه به يوم القيامة مِمَّا قاله وفَعَلَه وكله مُسَجَّل عليه لحظة بلحظة؟! بل كلّ أحدٍ سيَنال مَا يَسْتَحِقّه بتمام العلم والعدل.. إنه لمَّا كان الإنسان يَنْسَيَ ولا يَحفظ الأمور إلا بكتابتها في كتابٍ حتي لا يَنْساها خاطَبَه سبحانه علي قَدْر عقله بما يَعْرفه ويَفْهمه ليُقَرِّب الأمر لذِهْنه فبَيَّنَ له أنَّ كل الأمور مُسَجَّلَة مَحْفُوظَة في كتابٍ عنده هو اللوح المحفوظ.. إنَّ مَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. إنَّ ذلك كله، أيْ الخَلْق وإحاطة عِلْمه بكل ما في السماء والأرض وبكل خَلْقه وأقوالهم وأفعالهم وأرزاقهم وأحوالهم وبكتابة هذا العلم وإثباته وحِفْظه في كتابٍ والحُكْم بينهم وكتابة التقديرات وأنظمة الحياة ونحوها، يَسِير علي الله كل اليُسْر أيْ سَهْلٌ مَيْسُورٌ تماماً عليه تعالي لتمام علمه وقُدْرته فهو القادر علي كل شيءٍ الذي يقول له كن فيكون كما يريد.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين العاملين بإسلامهم حيث سيُعطيهم سبحانه كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم في مُقابِل ذلك، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكَذّبين والعاصِين حيث لهم كل شَرٍّ وتعاسةٍ فيهما بما يُناسِب سُوئهم، لعلّ ذلك يُوقِظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أنْ يَتعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)"، "وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم حيث هو مُصَدِّقٌ لِمَا بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عند الله كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يُؤْمِن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقٌ ومُؤَيِّدٌ ومُؤَكِّدٌ ومُبَيِّنٌ ومُتَمِّمٌ لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وهو في ذات الوقت مُهَيْمِنٌ عليها أيْ حاكِمٌ مُرَاقِبٌ علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه.. أيْ إنَّ هذا القرآن العظيم الذي أوْحَيْناه لرسولنا الكريم محمد (ص) يَقْرَأ علي بني إسرائيل ويَذْكُر ويَحْكِي لهم – أيْ أبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم عليهم السلام جميعا، وإسرائيل معناها بالعِبْرِيَّة التي هي اللغة اليهودية عبد الله حيث إسْرَاَ تعني عَبْد وإيِل تعني الله، وأبناؤه المقصود بهم اليهود الذين أنزل عليهم التوراة من خلال رسولهم الكريم موسي (ص) ثم الإنجيل من خلال رسولهم الكريم عيسي (ص) قبل نزول القرآن العظيم، ويُناديهم سبحانه بهذه الصفة لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة حيث هم ذرِّيَّة رسولٍ كريمٍ فلا يَصِحّ منهم مُخَالَفَة الإسلام بل عليهم أن يكونوا مثله في اتِّباعه والدعوة إليه لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما – أكثر الذي هم فيه يختلفون من أمور الإسلام حيث يُبَيِّن لهم أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والحقّ من الباطل والعدل من الظلم وأين السعادة من التعاسة، وبالتالي فلو كانوا عاقِلِين مُنْصِفِين عادِلين لأسْلَموا ولو أسْلَمُوا مَا اختلفوا ومَا تَعِسُوا بالداريْن لعدم إسلامهم.. هذا، ومن أمثلة اختلافهم مَوْقِفهم من عيسي (ص) حيث كَفَر به بعضهم واتّهَموا أمه مريم المُطَهَّرَة بالفاحشة والبعض الذي آمَنَ به وأصبح نصرانياً غالَيَ في تقديسه واعتبره إلاهاً أو ابن إلاهٍ إضافة لتحريف بعضهم لبعض معاني التوراة لتحصيل بعض أثمان الدنيا الرخيصة وما شابه ذلك من خلافات.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد أنَّ القرآن الكريم قد تَرَكَ أشياء اختلفوا فيها ولم يَقصّها لأنه لا فائدة مِن ذِكْرها ولأنَّ فى عدم ذكرها ستْرَاً لهم عَمَّا وَقَعوا فيه من أخطاءٍ لعلّ هذا الستْر يَدْفعهم لمراجعة أنفسهم فيُسْلِموا فيَسعدوا بالداريْن لأنه مِن المُفْتَرَض أنَّ الستْر يُحَرِّك فِطرة المَسْتُور العاقِل المُنْصِف العادِل ليُراجِع نفسه ليعود للخير.. "وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)" أيْ هذا مزيدٌ من المَدْح للقرآن العظيم والبيان لصفاته وحِكْمَة نزوله.. أيْ وإنَّ هذا القرآن هُدَيً – وإنَّ واللام للتأكيد – أيْ إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن حيث يُرْشِد لكلِّ خُلُقٍ يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد فيهما، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لكلِّ مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه لأنهم بذلك حتماً سيعيشون دائماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ولكنَّ الذين ينتفعون به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)" أيْ إنَّ مُرَبِّيك وخالِقك ورازِقك وراعِيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك – وإنَّ للتأكيد – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل، بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حتماً، يَقْضِي أيْ يَحْكُم بينهم أيْ بين الناس جميعاً بمَنْ فيهم الذين اختلفوا مِن بني إسرائيل، بحُكْمِه العادل تمام العدل، في الدنيا أولا بأنْ يُنجي ويَنصر ويُسعد المؤمنين ويُعَذّب ويَهزم ويُتعس ويهلك المُكَذّبين، بمعني أنه مَن استجاب فآمَنَ واتّبَع الإسلام الذي أوْحاه لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) في كُتُبه وآخرها القرآن العظيم فله كلّ خيرٍ وسعادة ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة بقَدْر عدم استجابته وبسببها، ثم في الآخرة يوم القيامة يوم الحساب يَقَضِي بينهم، حيث هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من درجات الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)" أيْ والحال والواقع أنه هو العزيز أيْ الذي لا يُغَالَب ولا يُمَانَع فلا يَغلبه أو يَمتنع عن أوامره أيّ مخلوقٍ وبالتالي فهو لا يُرَدّ حُكْمه مُطْلَقَاً، وهو العليم، أي بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه وبالتالي فلا يَخْتَلِط عليه حقّ بباطلٍ أبداً ويكون حُكْمه كامِل العدل والصواب
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)" أيْ واذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ سابقا، فبالتالي، ولذلك، توكّل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي الله تعالي وحده فهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ القادر علي كل شيء، وبالتالي فالاعتماد عليه مَضْمُونٌ مُتَوَاصِلٌ مُطَمْئِنٌ مَوْثُوقٌ دائمُ تامُّ الضمانِ والتّوَاصُل والطمأنينة والثقة بينما الاعتماد علي غيره ليس كذلك حتماً إذ بمُجَرَّد ضَعْفه أو تَغَيُّره أو مَوْته يَضيع مَن يتوكّل عليه، والمقصود اعْتَمِد عليه وحده في كل شئون حياتك لتسعد في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أيْ اعتمد عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيَكفيك كفاية تامّة ولن تحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقك القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لك الرحيم بك هو وكيلك، أيْ الحافظ لك المُدافِع عنك، فهل تحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! فكن دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ثم كن بالتالي مُطْمَئِنّاً اطمئناناً كاملاً ومُسْتَبْشِراً تماماً ومُنْتَظِرَاً دائماً لكل خيرٍ ونصرٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وعَوْنٍ وتوفيقٍ وتيسيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في دنياك ثم أخراك.. كن مُستمِرَّاً ثابتاً صابراً علي العمل بالإسلام وعلي دعوتك لله وله مُتَوكّلا عليه في كل أمورك لا تُبالِي.. كن مستمرّاً فى طريقك الذى أمرك الله به بلا مبالاة بمَكْرِ وكَيْدِ أعدائك فكن علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاك ويُنجيك ويَنصرك.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخَيْره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مِثْلهم أجرهم مِن ربهم فيهما.. ".. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)" أيْ لأنك علي الحقّ الواضِح الذي هو الإسلام ومَن كان علي الحقّ أحَقّ وأوْلَيَ بالتوكّل مِن غيره وأحقّ بالنصر وأحقّ بألّا يُتْرَك أبداً وأحقّ بالاستمرار علي الحقّ وحُسْن دعوته له ودفاعه عنه وأحقّ بأنْ يتأكّد تماماً أنه لن يَنْتَظِر مِن تَوَكّله إلا أنه سيعيش دائماً في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، حيث هو سبحانه لابُدَّ حتماً سيُحَقّق له كل ذلك بسبب تَوَكّله عليه واستعانته به وطاعته له
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحْسِنون دعوة الآخرين لله وللإسلام ويَصْبِرون علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)"، "وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)" أيْ إنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لا يُمْكِن أبداً أنْ تُسْمِع الدعاء أيْ الدعوة لله وللإسلام للموتي الذين لا حياة فيهم ولا للصُّمّ الذين لا يَسمعون خاصَّة إذا وَلّوْا مُدْبِرين أيْ انْصَرَفوا مُعْطِين أدْباركم أيْ ظهوركم لها أيْ مُبْتَعِدِين عنها، والمقصود هو أن استَمِرُّوا أيها المسلمون في التمسّك والعمل بإسلامكم وفي الدعوة إليه بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ولا تلتفتوا إلي أقوال وأفعال المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين واطْمَئِنّوا ولا تشعروا بتقصيرٍ نحوهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة ووسائلها وأساليبها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنَّ المشكلة هي فيهم هم وليست فيكم أنتم، في عقولهم، فهم كالموتي، فهل مِن المُمكن أن تُسْمِعُوا مَيِّتَاً أيّ شيء؟! وهم كالصُّمّ، فهل الأَصَمّ أي الذي لا يَسمع مِن المُمكن أن يَسمع أيّ دعوة تُوَجَّه إليه؟! فما بالكم لو أضافوا لذلك أنهم يُدْبِرُون عنكم أيْ يُعطونكم ظهورهم ويَنصرفون!! إنهم حتي لو بَقوا ولم يَنْصَرِفوا وكانوا صُمَّاً لَكَانَ مِن المُمْكِن دعوتهم بالإشارة!! بما يدلّ علي أنهم مُصِرُّون تمام الإصرار علي عِنادهم وتكذيبهم واستكبارهم، وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم تماما بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (82) من سورة النحل "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، ثم الآية (105) من سورة المائدة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)" أيْ وكذلك لا يُمْكِنك ولا يُمكنكم أبداً أن تكون هادِيَاً أيْ مُرْشِدَاً أو تكونوا هُدَاة العُمْيَان، لله وللإسلام، وإبْعادهم عن ضلالتهم أيْ ضَيَاعِهم أيْ شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، لأنهم أيضا يُعَطّلون استخدام عقولهم فلا يَتَدَبَّرون فيما يرونه حولهم مِن معجزاتٍ دالَّاتٍ قاِطعاتٍ علي وجود ربهم وعلي صلاحية شرعه الإسلام علي إصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها في دنياها وأخراها، ولذلك فهم كالعُمْيان الذين لا يرون شيئا حولهم!!.. ".. إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81)" أيْ أنت مَا تُسْمِع سَمَاعَاً نافِعَاً عن الله والإسلام يُفْهَم ويُقْبَل ويُطَبَّق إلا مَن يُصَدِّق بآياتنا فهُمْ بالتالي بسبب إيمانهم هذا وكدليلٍ عليه مُسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَايَا وتشريعات الله تعالي التي يَسْمعونها أيْ مُتَمَسِّكون عامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم وثابتون دائما عليها، والمقصود أنه فقط الذين سيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون ما تُسْمِعُونهم إيّاه وتَدْعونهم إليه، هم الذين يؤمنون بآيات الله أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبآياته، أيْ بالدلالات والعلامات الواضِحات المُعْجِزات في كل مَخْلوقاته سبحانه في كل كوْنه وفي آياته في قرآنه العظيم، وبأنَّ هذه الآيات الكريمة هي مِن عنده تعالي، وأنه هو وحده الذي يعلم تماما خَلْقه وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، فهؤلاء فقط – بعد هذا الإيمان – هم الذين سيُسْلِمون أيْ سيَتَمَسّكون تمام التمسّك وسيَعملون تمام العمل بكل أخلاق إسلامهم عن يقينٍ تامٍّ أي تأكّدٍ بلا أيّ شكّ أنه أساس سعادتهم التامّة في الدنيا والآخرة
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)" أيْ هذا بيانٌ لِعَلاَمَةٍ من العَلامات الكبري لقيام الساعة أيْ يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيساً علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيداً علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالِد، وذلك لتَذْكير الناس به وبالحساب والعقاب والجنة والنار ليُحْسِنوا الاستعداد له بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ وإذا وَقَعَ أيْ وَجَبَ القول أيْ العذاب عليهم أيْ علي المُكَذّبين والعاصِين حين تَبْدَأ بدايات يوم القيامة أخرجنا لهم كمُعْجِزَةٍ لبيانِ قُدْرَتنا علي كلِّ شيءٍ ومنه البَعْث وكعلامةٍ كبري من علامات قيام هذا اليوم والتي تُفيد بَدْء حُدُوثه وأهواله وانقطاع العمل والتوبة حيث الوقت وقت حسابٍ وعِقابٍ لا وقت عمل، من الأرض أيْ مِن مكانٍ مَا في الأرض، دابَّة وهي كلّ مَا يَدبّ علي الأرض مِن مخلوقاتٍ وهذه الدابَّة لا يَعلم شكلها وحجمها وصفاتها إلا الله تعالي، تُكَلّمهم أيْ تُخْبِرهم أيْ تُكَلّم الناس جميعاً بِلُغَتِهم مؤمنين وكافرين، أنَّ الناس أيْ بأنَّ الناس الكافرين، كانوا بآياتنا لا يُوقِنون أيْ لا يُصَدِّقون بها ولا يَتأكّدون منها بل يَتَشكّكون فيها أيْ بدلالاتنا وعلاماتنا الواضِحات المُعْجِزات في كل مَخْلوقاتنا في كل كوْننا وبآياتنا في كُتُبنا وآخرها القرآن العظيم التي أوْحَيْناها لرسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد (ص) والتي تدلّ علي وجودنا واسْتِحْقاقنا وحدنا بالعبادة بلا أيِّ شريكٍ وتُبَشّر المُحْسِنين أيْ المؤمنين بربهم العامِلِين بإسلامهم بتمام الخير والسعادة بالداريْن وتُنْذِر المُسيئين بالشرِّ والتعاسة فيهما
ومعني "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيساً علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيداً علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم نَحْشُر أيْ نَجْمَع ونَحْشُد مَحْشُورين مُتَزَاحِمين مِن كل أمَّة مِن الأمم أيْ مِن كل مُجْتَمَعٍ مِن المُجْتَمَعات فَوْجَاً أيْ جَمْعَاً مِمَّن يُكَذّب بآياتنا أيْ مِن الذي كان حاله في دنياه أنه يُكَذّب بآياتنا أيْ الذين كانوا يُكَذّبون بآياتنا أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا الكرام وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كُتُبنا التي أوْحَيْناها إليهم وآخرها القرآن العظيم والتي تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات الإسلام التي تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)" أيْ فهُمْ بالتالي بسبب تكذيبهم هذا في حالَة حَشْرِهم يُوزَعُون أيْ يُمْنَعُون من عدم النظام – والوازِع هو المانِع – فيُدْفَعُون ويُساقون ويُجْمَعون بعضهم علي بعضٍ مَحْشُورِين مُتَزَاحِمِين لكنْ مُنْتَظِمين بحيث لا يَتَقَدَّم أحدٌ منهم على غيره وإنما يُحَرَّكُون إلى حيث يُراد منهم بكل عنفٍ وإهانةٍ وذِلّةٍ ورُعْبٍ إلي حيث العذاب الذي يَسْتَحِقّونه بكل صُوَرِه المختلفة التي لا تُوصَف
ومعني "حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)" أيْ حتي إذا حَضَرُوا للحساب الذي بَعْده العذاب قال الله تعالي لهم ذامَّاً إيَّاهم ذَمَّاً شديداً وكنوعٍ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ بالنار هل كذّبتم بآياتي أيْ لم تُصَدِّقوا بها (برجاء مراجعة معني الآيات في الآية السابقة) والحال والواقع أنكم لم تُحيطوا بها عِلْمَاً أيْ كذّبتم بلا أيِّ علمٍ بها ولا تَعَقُّلٍ ولا تَدَبُّرٍ فيها ولا أيِّ دليلٍ علي صِحَّة تكذيبكم فكنتم سفهاء لا عقلاء حيث كذّبتم بشيءٍ لم تعلموه أصلا رغم أنه يستحقّ حتماً من كلّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حين يَعلمه كل تَصْديقٍ وعَمَلٍ به لا أيّ تكذيبٍ بما يدلّ علي إغلاقكم لعقولكم وعِنادكم واسْتكباركم وإصْراركم علي شُروركم وبالتالي اسْتِحْقاقكم للعذاب بما يُناسب ذلك.. ".. أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)" أيْ هذا استفهامٌ لمزيدٍ من الذمِّ الأشَدّ عن ذمِّهم السابِق.. أيْ هل كذّبتم بآياتي ولم تُحيطوا بها علماً أمْ أيّ شيءٍ كنتم تعملون في دنياكم حتى شَغَلكم هذا الشيء عن أن تُحيطوا بها علما وتَتَفكّروا فيها؟! أيْ حين لم تَبْحَثوا عنها ولم تَتَدَبَّروا فيها فبماذا اشْتَغَلْتُم بالتالي إذَن؟! أيْ لَمَّا لمْ تَشْتَغِلوا بذلك العمل الهامّ فأيّ شيءٍ كنتم تعملونه بعد ذلك فكل عملٍ غيره فكأنه ليس بعملٍ حيث هو أساس كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن وبدونه يكون كل شرّ وتعاسةٍ فيهما كما حَدَثَ لكم؟! إنَّ هذا السؤال التَوْبِيخِيّ يُفيد ضِمْنَاً أنهم لم يكن لهم عملٌ يعملونه في دنياهم غير التكذيب وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فاسْتَحَقّوا بالتالي حتماً مَا ينتظرهم من عذابٍ مُناسِبٍ لا يُوصَف.. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم أن يكون دائم السؤال لنفسه ماذا أنا أعمل؟ هل أفعل خيراً مُسْعِدَاً لي ولغيري بالداريْن فأستمرّ عليه وأسْتَزيد منه أم شَرَّاً مُتْعِسَاً فيهما فأمتنع عنه وأعود للخير؟
ومعني " وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)" أيْ ونَزَلَ العذابُ عليهم بسبب أنهم ظَلَمُوا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)" أيْ فهُمْ بالتالي عندما وَقَعَ القوْلَ عليهم وبسببه لا يَنْطِقون أيْ ليس لهم أيّ عُذْرٍ يَنْطِقون أيْ يَتَكلّمون به بعد إرسال الرسل والكتب والإسلام واختيارهم التكذيب بكامل حرية إرادة عقولهم، أو لا يستطيعون الكلام من شِدَّة خوفهم ورُعْبهم وذِلّتهم وإهانتهم لِمَا يَرَوْنه من العذاب العظيم الذي لا يُوصَف.. هذا ، وهناك بعض مواقف يَنْطِقون فيها بما فَعَلوا من سوءٍ كما ذُكِرَ في آياتٍ أخري لأنَّ مواقف الآخرة مُتَعَدِّدة في شِدَّتها عليهم ففي بعضها يُجْبَرون علي النّطق والاعتراف وبعضها الآخر تُخْرَس ألسنتهم
ومعني "أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم يُشاهِد هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رَأوا وتَأكّدوا أنّا لا غيرنا جَعَلْنا أيْ خَلَقْنا، مِن رَحَماتنا بالناس وبكل خَلْقنا ومِن حبّنا لهم وإرادتنا إسعادهم بحياتهم، الليل لكي يسكنوا فيه أيْ يستقرّوا ويرتاحوا بعد تَعَب حركتهم وسَعْيهم فيكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله، وجعلنا لهم النهار مُبْصِرَاً أيْ مُبْصَرَاً به أيْ مُضِيئاً بحيث يُبْصِرون فيه الأشياء ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكلّ هذا وغيره مِن أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وَوُصِفَ النهار بالإبصار وهو وَصْفٌ للناس مُبَالَغَة في إضاءته كأنه ذو إبصارٍ يُبْصِر مَا فيه.. وهكذا تَوَالِي لليلٍ ونهارٍ وتَوَالِي لكلّ خيرٍ وسعادة طوال الحياة الدنيا ثم إلي تمام السعادة وخلودها في الحياة الآخرة.. إنَّ هذا التوالي لهما هو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر – والشكر – من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات – وإنَّ واللام للتأكيد – أيْ دلالات ومُعْجِزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. كما تَدُلّ علي قُدْرَته سبحانه علي بَعْث الناس بعد موتهم يوم القيامة حيث نوم الليل شبيهٌ بالموت وانْبِعاث النهار شبيهٌ بالحياة فهي عملية موت وحياة مُتَكَرِّرَة طوال الزمن فكيف يُنْكِر العقلاء البَعْث الآخر وله صُورَة مُتَكَرِّرَة طوال حياتهم؟!.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)" أيْ لكنَّ مِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات نافِعَة فقط لأناسٍ يُؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما بها بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)"، "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيساً علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيداً علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور أيْ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حيث يكون ذلك هو يوم انتهاء الحياة الدنيا بكل ما فيها وبدء البَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لبَدْء حسابهم، ففَزِعَ بسبب ذلك حينها أيْ فخافَ خوفاً شديداً مِن شِدَّة هذا الصوت الذي حَدَثَ بهذه النفْخَة المُرْعِبَة ومَا يَحْدُث معها من أمورٍ مُزَلْزِلَةٍ مُفْزِعَة كلّ مَن في السموات ومَن في الأرض إلا مَن شاء الله لهم عدم الفَزَع برحمته وفضله وأمْنِه وحِفْظِه وتَثْبيته فيكونون علي العكس تماماً في تمام الأمن والسعادة يَستبشرون بهذه النفخة لأنهم يعلمون متأكّدين أنها بداية نَيْل مَا وَعَدَهم به ربهم في دنياهم مِن وَعْدٍ صادِقٍ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً بجناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر وهؤلاء هم المؤمنون بربهم العامِلُون بأخلاق إسلامهم كالنبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (103) من سورة الأنبياء "لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)" أيْ وكلُّ أحدٍ من المخلوقات جاؤوه أيْ حَضَرُوا إلي الله تعالي لحسابهم في مكانِ الحَشْر والحساب وكانوا داخِرين أيْ مُنْقَادين خاضِعين مُستسلمين مُطيعين كل الانْقياد والخُضوع والاسْتِسْلام والطاعة لا يُمْكِن لأيِّ أحدٍ منهم أنْ يَتَخَلّف، حيث يأتي المؤمنون في كل عِزّةٍ وتكريمٍ وأمنٍ واسْتِبْشارٍ وخيرٍ ونورٍ ونَضَارَةٍ وسعادة، بينما يأتي المُكَذّبون والمُعانِدون والمُسْتَكْبِرون والظالمون والفاسِدون والعاصُون في كلِّ ذِلّةٍ وإهانةٍ وخوفٍ وفزعٍ وتَشاؤُمٍ وشَرٍّ وتعاسة.. "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)" أيْ وتُشاهِد أيها المُشاهِد يومها مُتَغَيِّراتٍ هائلةٍ تدلّ علي نهاية الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة، تَرَي الجبال تَظنّها ثابتة بلا حركة بأماكنها كما كانت بالدنيا وهي في الواقِع تَسِير سَيْر السحاب بقُدْرَته سبحانه أيْ مِثْله حيث تُحَرِّكه الرياح بخِفّة وسرعة.. ".. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.." أيْ انظروا صُنْعَ الله أيْ عَمَلَ الله أيْ خَلْقَ الله – ولفظ "صُنْع" يُفيد عملاً مَصْنُوعَاً بصنعةٍ ومَهَارَةٍ واحترافٍ وإحكامٍ – الذي أتْقَنَ أيْ أحْسَنَ وأحْكَمَ بكلّ دِقّةٍ بلا أيّ خَلَلٍ كلَّ شيءٍ خَلَقَه، كلّ مَخْلُوقٍ خَلَقَه، بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه، فكلّ مخلوقاته مُعْجِزات مُبْهِرات مُتْقَنَات لا يُمْكِن لأيِّ أحدٍ أنْ يَتَجَرَّأَ علي ادِّعاء أنه خَلَقَها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة الفرقان ".. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بما سيكون بعد النفْخ في الصور والإتْيان داخِرين لله تعالي الذي أتْقَنَ كلَّ شيءٍ ومِن هذا الإتقان عِلْمه التامّ المُتْقَن بكل أقوالهم وأفعالهم وذلك لكي يُحْسِنوا الاستعداد للحساب.. أيْ وتذكّروا دوْماً أيها الناس أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تفعلونه أيْ تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89)" أيْ فلْيَستبشر ولْيُوقِن كل مسلم يأتي بأيّ حسنةٍ أيْ يفعلها أيْ بأيِّ خيرٍ مِن أيّ نوعٍ مَا فحتماً سيكون له ما هو أفضل وأكثر خير منها، مِن فضل ربه وكرمه ورزقه ورحمته ووُدِّه، في دنياه حيث كل خير وسعادة تامّة تُقابِل ما قدَّمه من خيرٍ وأكثر منه كثيرا، وكلما ألْحَقَ الخير بخيرٍ يتبعه طوال يومه وعمره كلما كان عمره كله خيريا سعيدا تمام السعادة، ثم في أخراه ليَستبشِر بأنَّ الحسنة الواحدة من الخير التي قد فعلها في الدنيا سيُجازيه سبحانه عليها بعَشرة أضعافها علي الأقل، إلي أضعاف كثيرة لا تُحصَي كما وَعَدَ ووَعْده الصدْق ".. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.." (البقرة:245)، علي قَدْر جَوْدَة الحسنة وإتقانها والصدق فيها ومنافعها ودوامها ونحو ذلك ".. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:261).. ".. وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89)" أيْ وهُمْ آمِنُون يومها، يوم القيامة، حتماً، مِن أيِّ خوف، فهُمْ في كلّ أمانٍ وتَبْشِيرٍ وتَكْريمٍ وتَشْريفٍ وخيراتٍ ورحماتٍ وسعادات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (103) من سورة الأنبياء "لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن جاء أيْ أتَيَ وحَضَرَ يوم القيامة بالسيِّئة أيْ بالشرِّ، أيْ فَعَلَ في دنياه السيِّئات أي الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، ولم يَتُبْ منها حتي مات علي ذلك، وزادَت سيئاتُه علي حَسَناته، فبسبب سيِّئاتهم أمثال هؤلاء قد كُبَّت وجوههم في النار أيْ أُلْقُوا وقُذِفُوا فيها علي وجوههم مَقْلُوبين، والكَبُّ هو الإلقاء والقَذْف علي الوجه كما تُقْذَف النفايات في المَحَارِق، بما يُفيد شِدَّة عذابهم وإذلالاهم وإهانتهم حيث يُقْذَفون في الجحيم بعضهم فوق بعض وقد تَبَعْثَرَت أجسادهم بلا أيِّ رحمةٍ ولا عنايةٍ ولا نظام.. وذلك إضافة قطعاً إلي عذاب نار الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم مُتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)" أيْ ويُقالُ لهم ويُسْأَلون حينها، من الله تعالي أو من ملائكة العذاب، لزيادة ذَمِّهم ولَوْمِهم ونَدَمِهم وألَمهم ليكون ذلك عذاباً نفسيّاً أليماً إلي جانب العذاب الجسديّ المُؤْلِم: هل تُجزون إلا جزاء وبسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من أعمال سَيِّئة؟ أيْ هل جُزِيتُم بغير ما كنتم تعملون؟! أيْ لم تُجازُوا أي تُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملتم في دنياكم، ولكن بمِثْله، أي لم تُظلَموا ولو بمِقْدار ذرّة وإنما عُومِلْتم بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالكم السَّيِّئَة
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رَمْزاً لأنْ يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمْنهم وراحتهم وسعادتهم.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه المعاني التي سَبَقَ ذِكْرها هي بعض ما يُسْتَفاد من هذه الآيات الكريمة
هذا، ومعني "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)" أيْ هذا تَلْخِيصٌ لِمَا يَدْعو الله تعالي إليه الناس من خلال رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وكُتُبه وآخرها القرآن العظيم ليسعدوا بالداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنما أُمِرْتُ أيْ مَا أُمِرْتُ أيْ مَا أوُجِبَ عليَّ تنفيذه من الله وأكَّدَه وأوْصاني به بشِدَّة فلا أُخالِفه حتي لا أُعاقَب وأتْعَس بالداريْن بل أسْعَد فيهما إلا فقط أنْ أعْبُدَ أيْ أطيعَ بلا أيِّ شريك، ربَّ أيْ مُرَبِّي وخالِق ورازِق وراعِي ومُرْشِد من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد تمام السعادة في الدنيا والآخرة، هذه البلدة أيْ مَكّة المُكَرَّمَة، الذي حَرَّمها أيْ جَعَلَها مُحَرَّمَة، حيث من رحمته تعالي بالناس وكرمه وفضله عليهم أنْ جَعَلَ بها الكعبة المُشَرَّفَة وهي البيت الحرام الذي عَظّمه وحَرَّم الاعتداء فيه وفيما حوله علي الإنسان والحيوان والطير وسَفْك الدماء والظلم بكل أنواعه وبالتالي جَعَلَها قِياماً للناس، كما قال تعالي في الآية (97) من سورة المائدة "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ.." أيْ مِمَّا تقوم به وعليه حياتهم أيْ صلاحها ومِن أُسُسِها وبدونها تَفْسَد هذه الحياة وتَتْعَس، لأنَّ هذا البيت الحرام أصل وحدتهم وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم، وهو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (196) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات وجود الكعبة والحجّ والعمرة لها)، وجعل هذه البلدة كذلك لكي تكون نموذَجَاً مِثَالِيَّاً تَقْتَدِي به كل بلاد الأرض في أمنها ورخائها وسعادتها فيسعد الجميع في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ.." أيْ هذا مَنْعٌ لأيِّ أحدٍ أنْ يَتَوَهَّم أنه سبحانه ربّ هذه البلدة وفقط!!.. أيْ وله تعالي وحده كل شيءٍ في السماوات والأرض والكَوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ المُلْك من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)" أيْ وأَمَرَنِي أيضاً أنْ أكون مِن المسلمين أيْ مِن المُسْتَسْلِمين لوَصَايَاه تعالي وتشريعاته أيْ المُتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم الثابتين دائما عليها المُخْلِصين المُحْسِنين أثناء ذلك (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)" أيْ وأَمَرَنِي أيضاً أنْ أَتّبِعَ وأُبَلّغكم أنْ تَتّبِعوا جميعاً أيها الناس القرآنَ في كل شئون حياتكم في كل أقوالكم وأعمالكم، مِن يَتلو الشيء أي يَجيء بعده ويَتْبَعه، وأنْ أتْلُوه لنفسي وعليكم وأنِ اتْلُوه أنتم أيضاً بمعني اقرأوه باستمرارٍ بكل تدبُّر وتعَمُّق واعملوا بما فيه كله مِن أخلاق، لكي تسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)" أيْ فمَن اسْتَرْشَدَ به وسارَ خَلْفه وتمسّك بكلّ أخلاقه فإنما يهتدي لنفسه أيْ فهو حتما أول المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن لم يَهتد وضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عنه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!! فقل بالتالي إذَن لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنما أنا مِن المُنْذِرين أيْ مَا أنا إلا فقط من المُنذرين أيْ ليست أبداً مُهِمَّتي إكراه الناس علي الهداية لله وللإسلام وجَعْلهم مسلمين إجباراً فهذا ليس باستطاعتي ولا يَطْلبه الله مِنّي وإنما مُهِمَّتي فقط ومهمّة المسلمين من بعدي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌّ منهم نذيراً مُبِيناً أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق بعض الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (104) من سورة الأنعام " قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)" أيْ وقل أيضاً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس حولك، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليكون ذلك تَذْكِيراً وتعليماً من الله تعالي لهم لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7) حيث قد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوْحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ شَرْعه الإسلام هو وحده النظام المُناسب تماماً لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم دون غيره من الأنظمة المُخَالِفة ليتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاقه لتَتِمّ سعادتهم في الداريْن، قل لهم احمدوا الله حَمْدَاً كثيراً علي كل هذه النّعَم العظيمة التي لا تحصي.. ".. سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ.." أيْ وقل أيضا: هو سبحانه سيَسْتَمِرّ زماناً بعد زمانٍ وساعة فساعة في أن يُطْلِعكم ويُظْهِر لكم لتُشاهِدُوا أيها الناس آياته أيْ دلائل وحدانيته وقُدْرته وعِلْمه في أقطار ونواحِي السموات والأرض فيما تَرَوْنه في كل لحظة من مُخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِرات، وفي أنفسكم حيث وَضَع فيكم رُوحَاً وعَقْلاً وحَوَاسَّاً وقوىً متنوِّعة مُبْهِرَة، وفي عقاب المُكذبين المُعاندين ونَصْر الإسلام والمسلمين، وفي كل ما يُفيد تدبير جميع شئون الكوْن والخَلْق علي أكمل وجهٍ بما لا يُمكن لأيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُكَذّبه.. ".. فَتَعْرِفُونَهَا.." أيْ فيَتَسَبَّب ويُؤَدِّي بكم هذا أنْ تَعلموا وتَتَأكّدوا بلا أيِّ شَكّ ولا يُمْكِنكم مُطْلَقَاً أنْ تُكَذّبوا أنها حقّ وصِدْق فيُفيدكم ذلك إذا أحسنتم استخدام عقولكم واسْتَجَبْتُم لنداء الفطرة بداخلكم والتي هي مسلمة أصلاً أنْ تَتَأكّدوا صِدْق وجوده سبحانه وقُدْرَته وعِلْمه وصِدْق كُتُبه ورُسُله فبالتالي تُسْلِموا فتسعدوا بالداريْن وإلا تعستم فيهما لو كَذّبتم وعَصَيْتم.. ولقد صَدَقَ الله تعالى وعْده قطعاً حيث في كل ساعةٍ يُرِي ويُطْلِع الناس على أسرار جديدة في هذا الكوْن الهائل وفي أنفسهم بما يكتشفونه بعقولهم بتيسيره سبحانه لهم والتي كلها توضح وتؤكّد لهم أنه الحقّ أيْ أنه تعالي هو الإله الواحد بلا أيّ شريكٍ وأنّ الرسول (ص) حقّ أيْ صِدْق وجاء بالحقّ وهو القرآن بما فيه من الإسلام الذي كله حقّ حيث يُصلح البشرية كلها ويُكملها ويُسعدها تماماً بالداريْن حين تعمل بكلّ أخلاقه وأنّ البعث حقّ والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار كل ذلك صِدْق بلا أيّ شكّ.. ".. وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)" أيْ وليس ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصْلِحك ويُكْمِلك ويُسْعِدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – حتماً بغافلٍ عن ما تعملونه وتقولونه أيها الناس أيْ لا يَنشغل عن كل أعمالكم وأقوالكم ولا يَنساها ولا تَفُوته ولو للحظة فهو يعلمها تمام العلم بعلمٍ ليس بَعْده أيّ علمٍ أكثر منه لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانْتَبِهوا لهذا وأحْسِنُوا التعامُل معه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم وناصِرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين وللمُخَالِفِين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَان وحُدُوث العذاب فيهما
طسم ﴿1﴾
أي هذا القرءان العظيم ، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني "تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾" أي هذه هي الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة للقرآن الذي بين أيديكم ، وهذه هي صِفته ، هو الكتاب المُبِين ، أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد تمام السعادة لِمَن يعمل بكلّ ما فيه في الدنيا والآخرة
نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿3﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿4﴾ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿5﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿6﴾ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿7﴾ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿8﴾ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿10﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾ ۞ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿12﴾ فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿14﴾ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴿15﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿16﴾ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴿17﴾ فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴿18﴾ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿19﴾ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴿20﴾ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿21﴾ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿22﴾ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴿23﴾ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴿24﴾ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿25﴾ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴿26﴾ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿27﴾ قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿28﴾ ۞ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿29﴾ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿30﴾ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴿31﴾ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿32﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿33﴾ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿34﴾ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴿35﴾ فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴿36﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿37﴾ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿38﴾ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴿41﴾ وأتْبَعْناهُم فِي هَذهِ الدّنيا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴿42﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿43﴾ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿44﴾ وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿45﴾ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿46﴾ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴿48﴾ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿49﴾ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿50﴾ ۞ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿51﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴿53﴾ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿54﴾ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴿55﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أن أهل الحق والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاءمراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاءمراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ .. " أي نَقُصّ عليكم ونُحَدّثكم ونُخبركم ونَذكر لكم من أخبار موسي مع فرعون ، بالحقّ أي بالصدق التامّ ، لينتفع ويسعد بها في دنياه وأخراه مَن أراد الاعتبار بما فيها وأخذ الدروس منها
.. " .. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " ﴿3﴾ أي الذين سيَستمعون وسيعقلون وسيتدبَّرون وسينتفعون وسيسعدون بها هم فقط المؤمنون أي المُصَدِّقون بوجود ربهم وبأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عنده سبحانه وأنه هو وحده الذي يعلم تماما خَلْقه وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، والذين قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾
ومعني " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ " ﴿4﴾ أي تعالي علي الله في أرضه سبحانه فكفر به أي لم يُصَدِّق بوجوده بل ادَّعَيَ أنه إله يستحقّ العبادة !! وتَعَالَيَ علي الناس فآذاهم وعذبهم وظلمهم وفَرَّقهم فجعلهم شيعا أي فِرَقا وطوائف ومجموعات تختلف وتتصارَع فيما بينها ليضعفهم ويمكنه إذلالهم وإشغالهم والتحَكّم فيهم فلا يفكّرون في مقاومته مثلا أو مُخالَفته أو التجمُّع والثورة عليه وانتزاع الملك منه ، فأصبحوا بذلك كلهم ضعفاء ، وكان أكثرهم ضعفا بني إسرائيل والذين منهم موسي ﷺ لأنهم لم يكونوا من أهل مصر الأصليين بل كانوا مُهَجَّرين من أماكن مختلفة ، فاستضعفهم وأذلّهم وأذاقهم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والمَهَانَة ونحوها والعذاب الجسديّ باستخدامهم عبيدا مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك ، بل وَصَلَ به التّعَاِلِي والتّعَدِّي والفجور أنه كان يذبح أبناءهم لإضعاف قوّتهم فلا يطالبون بحقوقهم ويستحيي نساءهم أي يُبقيهنّ أحياء للخدمة وليكنّ جواريِ عنده .. إنه بكل هذا وغيره مِن كل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس هو بحقّ مِن أشدّ المُفْسِدين في الأرض الذين لا يقومون بأي إصلاح ينفع الآخرين ويسعدهم
ومعني " وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿5﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ " ﴿6﴾ أي ومع كل ما يريده ويفعله هذا المُتَكَبِّر المُتَعَالِي الطّاغِي المُسْتَبْدّ الظالِم المُفْسِد ، فإنَّ الله تعالي خالِقه وخالق الكوْن كله والقادر علي كل شيء يريد شيئا آخر ، فأيّ الإرادتيْن ستتحقّق إذن ؟! إرادة الخالِق أم المخلوق ؟! وهل هناك أيّ وجه للمقارنة ؟! إنَّ قوّته سبحانه بالقطع لا تُقارَن مع قوّة هذا الفرعون الوَهْمِيَّة الزائفة التي يحاول أن يَخدع بها الآخرين !! ولولا أنهم خائفون منه مستسلمون له لَمَا استطاع فِعْل ما يفعل ! ولو تجمَّعوا ووقفوا في وجهه وقاوموه لانكشف زيفه وخداعه ! .. إنه تعالي يريد أنْ يَمُنَّ أيْ يتفضّل وينعم بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي المؤمنين المستضعفين المظلومين بالقوة والنصر والعِزَّة والكرامة وكل أنواع الأرزاق ، وأن يجعلهم أئمة أي قادة أعِزَّة سادة ملوكا يقودون مَن حولهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم ، وأن يجعلهم يرثون أملاك الظالمين وينتفعون ويسعدون هم ومَن حولهم بها ، وأن يُمَكِّن لهم أي يجعل لهم مَكانا ومُلكا ومَكَانَة ونفوذا وسلطانا يديرون به أرضا يعيشون عليها ، يديرونها بشرع الله ، أي بنظام الإسلام وبأخلاقياته (برجاءمراجعة الآيات ﴿60﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها﴾ ، فينشرون كلّ خيرٍ وحقٍّ وعدل وسعادة لكل الأرض .. وكل ذلك ما داموا مُستمرّين علي الإيمان بربهم والتمسّك بكل أخلاق إسلامهم ، فإن ابتعدوا عنهما فلا شيء لهم من ذلك قطعا بل سيتعسون وسيهلكون في الداريْن تماما كأيّ ظالم مُفْسِد ! .. وأيضا يريد تعالي أن يُرِيَ هؤلاء الظالمين المُتَعَالِين كفرعون ، وهامان وهو أحد وزرائه ومستشاريه ومعاونيه علي كل ظلم وفساد ، وجنودهما الذين يساعدونهما علي ذلك ، بل ويستمتعون هم أيضا به ، وبدونهم لم يكن بمقدورهما فعله ، وبالتالي فهم مشاركون تماما معهما في كل جرائمهما ، ويستحقّون مثلهما أيّ عذاب يصيبهما .. يريد أن يُريهم سبحانه قدراته وعظمته في تغيير الأحوال وجَعْل المُستضعفين المؤمنين أقوياء أعِزّاء والمُستكبرين الكافرين ضعفاء أذِلاّء .. وما يريده الله تعالي لابُدّ حتما سيتحقّق وسيُيَسِّر أسبابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم كما سيأتي تفصيله في الآيات القادمة (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ لابُدّ حتما سينتصرون .. ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ منها ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنّ النصر من عند الله تعالي وحده﴾ .. ومعني ما كانوا يَحذرون أي ما كانوا دائما يخافونه منهم أي مِمَّن ظلموهم واستعبدوهم وهو تجمّعهم وقوّتهم والانتصار عليهم ووِرْث مُلكهم بقوة ربهم وإرادته ليقيموا بين الناس عدل الإسلام وسعاداته لهم بدلا من ظلمهم وفسادهم وتعاساتهم
ومعني " وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿7﴾ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿8﴾ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿10﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾ ۞ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿12﴾ فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " أي وأوّل هذه التيسيرات الربانية لإنهاء مُلك فرعون وإهلاكه هو ولادة موسي ﷺ مِن أمّ من بني إسرائيل – وبنو إسرائيل هم بنو سيدنا يعقوب عليه السلام وكان بعضهم لا يزال علي مِلّة سيدنا إبراهيم ﷺ أي علي الإسلام ومنهم أمّ موسي وهم من الشام ولكنهم قَدِمُوا إلي مصر في فترة حكم يوسف عليه السلام لمَّا استقدمهم وأبويه إليها – ثم حمايته من قتل فرعون له بإلقائه في اليَمّ أي البحر والمقصود نِيل مصر ليحفظه خالقه بقدراته الخارقة سبحانه حيث من المفترض للبحر أن يبتلعه لا أن يحفظه !! ثم يأخذه فرعون بنفسه من خدمه ليقوم هو بتربيته في بيته حتي يكبر فيكون هو سبب إهلاكه !! وهذا بالقطع من سخرية الله تعالي بالظالم أن يجعل تدميره في تدبيره هو بيديه !! ولكي يعلم الجميع أنّ قوة الظالم ومكائده مهما بلغت فلن تَصِل قطعا حتي إلي مقدار ذرّة من قوة خالقه وتدبيره !! .. " وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿7﴾ " أي لقد ألْهَمَ الله تعالي أمّ موسي في عقلها أن ترضعه لفترة إلي أن يأتي وقت تخاف عليه من احتمالية قتله بجنود فرعون فعليها حينها أن تلقيه في الماء بعد وضعه في صندوق ولا تخاف من غرقه ولا تحزن علي فراقه فخالقه سيحميه بكل تأكيد وسيردّه لها في توقيت مناسب بل وستسعد به حينما تري ربه وربها يُجَهِّزه لأن يكون رسولا منه للناس يقودهم لكل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم بالإسلام الذي سيوحيه إليه في التوراة .. " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿8﴾ " أي فأخذه من الماء عائلة فرعون ليكون بعد ذلك عند كبره عدوا لهم أي معاديا مقاوما لدينهم لأنه سيعبد الله وحده وسيتمسك بالإسلام ولن يعبد فرعون ولا يسير علي دينه أي نظامه المُضِرّ المُتْعِس لأنه مُخالِف لنظام الله ، كما أنه سيكون مصدر حزن أي تعاسة لهم حيث سينصره الله تعالي وقومه عليهم وسيهلكهم وسيرثون ملكهم .. إنّ فرعون وأقاربه ووزرائه وأشهرهم هامان ومَن معهم مِن المُعاوِنين مِن الجنود والعاملين وغيرهم كانوا خاطئين أي فاعلين للأخطاء ، أي للشرور والمفاسد والأضرار ، فكانوا بسبب ذلك مستحقّين لهذه العداوة ولهذه التعاسة ولهذا الإهلاك (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التام من الحياة﴾ .. " وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ " أي ألقيَ الله تعالي مشاعر الرِّقّة والحب لموسي في قلب امرأة فرعون - والتي ستؤمن بالإسلام مستقبلا - واعتبرته قُرَّة عيْنٍ أي استقرار وسعادة لها وله وطلبت منه عدم قتله لعله ينفعهم في خدمتهم حينما يكبر أو يتخذوه ولدا لهما إن كان مناسبا لذلك ، فاستجاب لطلبها ، وهم لا يشعرون أي لا يدرون بما سيحدث لهم علي يديه في المستقبل القريب ! .. " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿10﴾ " أي صار فؤاد أي قلب أي عقل أم موسي فارغا ، أي من تمام تأكّدها من وعد الله بحمايته وإعادته لها سالما فرغت مِن هَمّ وقلق الخوف علي قتله فهو الآن في رعاية خالقه القوي المتين .. وقد تعني الآية الكريمة أيضا أنها أحيانا – كأيّ بَشَر وكأيّ أمّ – قد يطير عقلها وكأنّ دماغها فارغة مِن أيّ عقل يفكر حينما تتذكر أنه قد يُقتل ! .. أو فارغا من كل شيء إلا من ذكر ابنها الذي ألقته في الماء .. لقد قارَبت أن تُظْهِر أحيانا لمن حولها أنه ابنها في أوقات خوفها عليه وفي هذه الحالة كان سيُقتل حتما لولا أنّ الله تعالي كان يثبتها ويطمئنها – وكذلك كل مسلم عليه أن يكون ثابتا دوما علي تواصله مع ربه ودينه ليسعد دائما ولا يخاف أو يقلق أو يتعس – لكي تكون من المؤمنين أي من الذين ينالون الثواب العظيم من المؤمنين في مثل هذه المواقف وأيضا لكي تكون من كاملي الإيمان أي المُتشبِّهين بالرسل في كمال إيمانهم أي تصديقهم الكامل وثقتهم التامّة بربهم وكمال تمسكهم بكل أخلاق إسلامهم في كل مواقف ولحظات حياتهم والذين سعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ.. " أي قالت أم موسي لأخته تَتَبَّعي أثره لتعلمي أين سيذهب به الماء ومَن سيأخذه ، " .. فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾ " أي أخذت تبصره أي تنظر إليه عن بُعد من جانب الشاطيء ﴿ولفظ جُنُب يعني أيضا ُقرْب وتَشَوُّق﴾ بطريقة بحيث لا يشعر جنود فرعون أنها تراقبه وإلا شكّوا في أنه من طرفها فيقتلوه .. " وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ .. " أي منعناه من قبول الرضاعة من المراضِع ، جمع مُرْضِع ، وهي المرأة التي ُترضِع بالأجر ، " .. مِن قَبْلُ .. " أي من قبل وصول أم موسي لبيت فرعون لاستلام موسي منهم لإرضاعه ، " .. فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿12﴾ " أي لما انتشر الأمر بحثا عن مُرْضِع سارَعت أخته فأخبرتهم أن والدتها مرضع طيّبة لا يرفضها رضيع ، وأن أهل بيتها طيّبون سيقومون بكفالته لكم أي ضمان رعايته وحسن تربيته والاهتمام به من أجلكم ، وهم له ناصحون أي مخلصون صادقون شفّافون واضحون في ذلك ولا يُقَصِّرون ولا يَغشّون ولا يَخدعون ولا يُفسدون .. " فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ " أي أعدناه لأمه لكي تستقر وتطمئن وتسعد بعودته لأحضانها وبأنه سيتربي في مكانيْن أحدهما قصر فرعون وثرائه واهتمامه والآخر بيت أسرته وحنانهم ، بل وكذلك ستأخذ أجرا من فرعون علي إرضاعه ورعايته ، ولكي لا تحزن علي فراقه ، ولكي تتأكد عمليا أنّ وعد الله دائما صدق ولا يُمكن أن يُخلف مطلقا وأنه تعالي يحقق وعوده تدريجيا في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مسعدا لمن وَعَدَه ، وكل مسلم بالقطع عليه أن يكون متأكّدا من هذا بلا أيّ شكّ ، فإذا وعد تعالي مثلا بالحياة الطيبة السعيدة لمن أحسن اتخاذ أسباب ذلك فلابُدّ حتما أن يُوَفّي (برجاءمراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ.. " ، للشرح والتفصيل) ، وإذا وعد بالنصر والتمكين ووفرة الأرزاق ونحو هذا لمن أحسن اتخاذ أسباب ذلك فلابد أيضا أن يُوَفّي (برجاءمراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. " ، للشرح والتفصيل) ، وإذا وعد بأنّ أهل الخير لابُدّ حتما سينتصرون فلابد كذلك أن يوفي (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ منها ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده﴾ ، وهكذا ... ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ، أي كثير من الناس لا يدركون هذا ، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه ، تماما كالجهلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم ، وذلك لأن بعضهم يكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا ، وبعضهم يشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه ، وبعضهم ينافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ ، وبعضهم مسلم لكنه تارك لكثير من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا ينسي قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يدرك ويتفهَّم ويعلم ويستخرج الخير الكثير المخفيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح ، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين ، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها ، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم ، تعاسة تكون علي قدر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، ما لم يستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما
أما معني " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿14﴾ " أي عندما وَصَل إلي أقوي أحواله من حيث قوة العقل والبدن ، وهو سن عادة بين العشرين والثلاثين ، واستوَيَ أي اكتملت عنده تماما هذه القوي ، في سنّ قد يكون غالبا بين الثلاثين والأربعين ، أعطاه الله الكريم ذو الفضل العظيم حُكما أي حِكمة ومُلكا وسلطانا وعقلا راجحا وعلما بحيث يُحسن التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة للجميع ، إضافة لإعطائه النبوة وما فيها من تشريعات الإسلام .. وهذا سيكون حال كل مُحسِن ، كل مُتقِن مُجيد ، كل متمسك بكل أخلاق إسلامه ، سيُؤتيَ حتما من فضل ربه من الحكمة والعلم ما يُسعده ومَن حوله في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا ، وهذا هو معني ".. وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿14﴾ "
ومعني " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا .. " أي لمّا أعطي الله تعالي موسي النبوّة وما فيها من تشريعات الإسلام بدأت تظهر عليه بعض علامات عبادة الله وحده ومخالفة فرعون وقومه في عبادتهم إياه ، وبدأ يُذكّر قومه وهم بني إسرائيل بالإسلام دين أبيهم يعقوب وجدهم إبراهيم ، وبدأ ينتشر أمره ، ولم يحتمل استكبار وظلم فرعون للناس ، فخرج من قصره بل من بلدته – وذلك في الفترة ما قبل الإعلان عن الإسلام وتحديه لفرعون عَلَناً بأنه ليس بإله وإظهار معجزة تحوّل العصي إلي ثعبان عند إلقائها – لكنه كان يدخلها مُتخَفّيا بين الحين والحين لمقابلة أمه وأهله وقومه من بني إسرائيل لدعوتهم للإسلام ، وذلك في وقت غفلة أهلها أي انشغالهم بأعمالهم أو وقت راحتهم أو ما شابه هذا .. " .. فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ .. " أي يتصارعان علي خلافٍ ماليّ ، أو فكريّ حيث كانت دعوة موسي للإسلام بدأ يسمع بها البعض ، أو نحو ذلك من خلافات ، " .. هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ .. " أي أحدهما مِمّن يتشيّعون له أي يتّبعونه ويؤيّدونه ويتجمّعون حوله ، أي علي دينه الإسلام ، والآخر عدو له أي علي غير دينه من أقباط مصر الذين يعبدون فرعون ، ورأي موسي أنّ الذي مِن شيعته هو المظلوم فأراد أن ينصره علي عدوه الظالم له ، بعد أن استغاث به أي طلب نجدته وعونه ونُصرته ، " .. فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ .. " أي دفعه بأطراف أصابعه فقتله بالخطأ ولم يقصد قطعا قتله وإنما كان يقصد فقط إبعاده عن المظلوم ومنعه من ظلمه ، ولم يتوقع أبدا أن يحدث ذلك ، ولعل الله أراد هذا الموقف ليتعلم منه الجميع الحذر والتأنّي في تصرفاتهم ليسعدوا بذلك ولا يتعسوا بفِعل عكسه
" .. قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴿15﴾ " أي بسببه ، لأنه عدو مُبين أي واضح للإنسان ، أي ضده يريد إضلاله أي إبعاده عن كل خير وسعادة ، والسعيد هو من كان دائما حذرا منه أشد الحذر واتخذه دوما عدوا أي لم يتّبع خطواته وقاومها ولم يستجب لأيّ شر مُتعِس بل تمسك بكل أخلاق إسلامه التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرّد علي كل خير ُمفسِد بعيد عن الحق وعن رحمات ربه ، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البشر ليُقارنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشر وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيحرصون علي الأول وهو الخير أشد الحرص ويتمسكون به دوما لمصلحتهم ولسعادتهم وينبذون الثاني وهو الشر ويلفظونه ، وبه أيضا تتحقق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيرا فله كل الخير ومن اختار شرا فليس له إلا الشر بما يناسب أفعاله (برجاءأيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. " قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿16﴾ " أي اعتديت علي ذاتي وأسأت لها وأتعستها بل وأتعست أيضا مَن حولي بفعل هذا السوء المُضِرّ المُتعِس للجميع فسامحني ياربي وتُب عليّ فقد ندمت علي ما فعلت ولن أعود له وسأراضي وسُأعوّض أهل القتيل بما يرضيهم عن هذا القتل الخطأ مِنّي .. فغفر سبحانه له لأنه هو الغفور أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يعاقب عليها لكل من تاب توبة صادقة كهذه وَرَدّ لأصحاب الحق حقوقهم إن كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أي ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاءمراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
" قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴿17﴾ " أي سأشكرك ياربي شكرا عمليا في مقابل نعمة التوبة العظيمة هذه وإعادتي لحبك ورضاك ورعايتك بفضلك وكرمك ورحمتك ، ونعمة هدايتي للإسلام ، وإسعادي بكل ذلك ، إضافة لكل نعمك المُسعِدة السابقة والدائمة عليّ وعلي مَن حولي وعلي كل خلقك والتي لا يُمكن حصرها ، وهذا الشكر العمليّ بأن أعدك ياربي ، وأعِنّي علي الوفاء بوعدي هذا أي َيسّر لي الأسباب لذلك ، ألا أكون أبدا يوما ما ظهيرا أي مُعينا ومُساعدا لأيّ مجرم أي يرتكب الجرائم أي الشرور والمفاسد والأضرار المُتعِسة أيّا كان نوعها ، وعلي كل مسلم بالقطع أن يكون كذلك فيُقابل نِعَم ربه بكل خير ، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله باستخدامها في كل خير دون أي شر ، وبالتالي سيجدها دائما باقية بل وفي ازدياد وتنوّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ.. " ﴿إبراهيم : 7﴾
أما معني " فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴿18﴾ " أي صار خائفا مِن فِعْلته – كأيّ بَشَر ، فاستعان بالله مباشرة لكي ُينجيه ويُيَسِّر أموره ليتمكّن من توصيل دعوة الإسلام للناس – وأخذ يُراقِب ويَنتظر ويَتلفت ويتطلع إلي أخبار الناس وماذا يتناقلونه فيما بينهم عن خبر قتل القبطيّ ، فهو خائف من أن يبحثوا عنه ويأخذوه ويعاقبوه بعقوبة أشدّ ممّا فعل حيث سيقتلوه رغم أنه كان قتلا خطأ منه لا مُتعمَّدا ، ثم لمّا أصبح صباح اليوم التالي سمع صوت صراخ واستغاثة أي طلب نَجدة واستعانة ونُصرة ، ووجدها صادرة من الإسرائيليّ الذي طلب نجدته بالأمس وأوقعه في قتل القِبْطيّ ، ولذا قال له موسي إنك لغويّ مُبين أي كثير الغواية أي الضلالة بصورة واضحة وبعيد عن الهداية لحُسْن التصرَّف في الأمور حيث أنت كثير التشاجُر مع الآخرين ، كما رأيتك بالأمس واليوم .. " فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿19﴾" أي لمّا أراد أن يبطش أي يتعامَل بالقوة مع قبطيّ آخر هو أيضا عدو لهما أي كاره مُقاوم مُعانِد لهما لأنه ليس علي دين الإسلام بل يعبد فرعون ، وأراد نصرة الإسرائيلي مرة أخري لكونه لمّا استطلع الأمر رآه أيضا مظلوما كما كان بالأمس رغم كثرة مشاجراته ، حينها بدأت إرادة الله في أن ينكشف أمر قتله للقبطيّ في اليوم السابق لكي يخرج من المدينة ويتدرّب في دورة تدريبية لبعض الوقت علي بعض خشونة العيش في بلاد مَدْيَن التي سيخرج إليها ، لأنه طيلة حياته قد تربّي في رفاهية قصر فرعون ، وذلك لتجهيزه لتحمّل بعض الصعاب التي سيقابلها عند دعوته له ولقومه وهو أشدّ الناس عداوة لله علي وجه الأرض حيث ادّعي أنه ربهم الأعلي ! حينها قال أحدهما لموسي مُعلِنا أنه هو الذي قتل القبطيّ بالأمس ، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، وهذا قد يكون من قول الإسرائيليّ نفسه لأنه توهَّم أنَّ موسي لمَّا قال له إنك لغوي مبين أنه سيعاقبه هو وقد يقتله !! وقد يكون من قول القبطي حيث بدأ يتردَّد بين الناس ولكن بصورة غير مؤكّدة أنه من المُحتَمل أن يكون موسي هو الذي قتل القبطي السابق .. ومعني : " .. إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿19﴾ " أي ما تريد إلا أن تكون ظالما قاسيا تُعامِل الناس بالقسوة دون أيّ لين أو رأفة ، وما تريد أن تصلح بين المتخاصمين أو أن تنشر الصلاح والخير والسعادة عموما بين الجميع ، حيث تصرّفاتك تدلّ علي ذلك
أما معني " .. وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴿20﴾ أي جاء رجل مؤمن بالله من آل فرعون يمشي مُسرعا من أطراف المدينة ليلحق بموسي ويحذره قبل أن يلحقوا هم به ويقتلوه لأنه قد علم أنَّ فرعون والملأ معه وهم وزراءه ومساعديه ومديريه وسادة القوم يأتمرون أي يتشارون ويأمر بعضهم بعضا ويضعون المؤامرات من أجل قتله ، ونَصَحَه بألا يَبقي في المدينة وأن يُسارع إلي الخروج منها
ومعني " .. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿21﴾ " أي خرج من مدينة فرعون وهو خائف يُراقِب ويتوقع وينتظر أن يُقتَل فلا يتمكّن من توصيل دعوة الله للناس وهي الإسلام ، ومباشرة وكعادة كل مسلم يلجأ إلي ربه القوي المتين الرحيم الودود العليم بكل الأحوال القادر علي كل شيء ليُنجيه ليتمكّن من أداء أمانة الدعوة ، ينجيه من الظالمين الذين ظلموا ذواتهم ومَن حولهم – فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
ومعني " .. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿22﴾ " أي لمّا خرج من مدينة فرعون أخذ اتجاها يُلاقِي مدين وهي مدينة سيدنا شعيب في جنوب الشام ليكون بعيدا عن مُلك فرعون وعلي اعتبار أن له فيها بقية صلة قرابة حيث هو من نسل إسرائيل أي سيدنا يعقوب ومدين سميت كذلك علي اسم مدين ابن سيدنا إبراهيم أبي اسحق وجِدّ يعقوب .. ولكونه لا يعرف الطريق دعا ربه مُتَرَجِّيَاً إياه برحمته وتوفيقه أن يرشده إلي الطريق المستقيم الصحيح المعتدل ، فاستجاب الرحيم الودود المجيب وهداه إليه ، إلي طريق مدين حيث سيأمن هناك بلقاء بعض المؤمنين ، والأهم هداه إلي مزيدٍ من أخلاق الإسلام سيتلقاها منهم عند التعامُل معهم ، ثم بعد عدة سنوات سيُتِمّ نعمته عليه بكلامه عند جبل الطور بسيناء وإبلاغه بأنه رسوله للناس وإنزاله التوراة عليه ليُبَلّغ الإسلام الذي فيها لهم ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم
ومعني " .. وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴿23﴾ " أي عندما وصل إلي بئر ماءٍ يشرب منه أهل مدينة مدين رأي عليه مجموعة من الناس يجمعون الماء ويسقون حيواناتهم ، ووجد من دونهم أي في غير مكانهم هذا علي مقربة منهم امرأتين تذودان أي تمنعان وتدفعان وتحميان غنمهما حتي لا تختلط بغنم غيرهم ، فقال لهما ما خطبكما أي ما طلبكما وما شأنكما وما حالكما ولماذا لا تسقيان غنمكما كالآخرين ؟! قالتا له أنهما اعتادا ألا يسقيا غنمها إلا بعد أن يُصدر أي يرجع الرعاة عن البئر بعد أن ينتهوا من سقي دوابّهم فيصبح المكان فارغا فيمكنهما السقي ، وذلك لأنه ليس في بيتهما رجال إلا أبوهما وهو كبير السن لا يتحمّل ذلك ، وهما لا يريدان مُزاحَمَة الرجال .. وذلك بالقطع من حُسن تربيتهما وأخلاقهما
ومعني " .. فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴿24﴾ " أي بأخلاقه الإسلامية الحسنة وطلبا لثواب الله لا غير أشفق عليهما وعاونهما علي السقي حتي لا ينتظرا كثيرا من الوقت ويبذلا كثيرا من الجهد ، ثم بعدها ذهب ليستريح في ظل شجرة ، وتذكُّر حينها نِعَم الله عليه التي لا تُحصَي منذ ولادته ونجاته من القتل وحسن تربيته بين حنان أمه وأسرته ورفاهية قصر فرعون وشفقة امرأته المؤمنة عليه وإعطائه الحكمة والعلم وحُسن الخُلق من الإسلام بحيث يُحسن التصرّف في الأمور كلها ونجاته من شرور فرعون حتي وصل إلي مدين ، تذكّر كل هذا الخير وغيره ، وتذكّر حاله الآن ، فناجَيَ ربه أي تحدّث معه بما يدور بعقله بداخله في سِرِّه ، وقال في هذه المناجاة كلاما طيبا جمع فيه بين الشكر الجزيل لله تعالي علي كل هذا الخير الذي كان فيه وبين المدح لعظيم فضل الله علي كل خلقه وبين الدعاء والطلب لبعض احتياجاته الآن ، فقال " .. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " أي لمِثل هذا الخير الذي لا يُحصَي والذي أنزلته إليّ يارب مِن قبل أنا فقير أي محتاج إليه الآن ، فأنا أحتاج إلي مأوي وزوجة وعمل طيب ورزق وعلاقات اجتماعية طيبة مع الآخرين محفوفة بأخلاق الإسلام إلي غير ذلك مِمّا تعلمه عنّي أكثر مِنّي يا أغني الأغنياء مالك الملك كله القويّ المتين القادر علي كل شيء .. فلم يكد يمرّ وقت طويل حتي بدأت علامات استجابة دعاء المُجيب الودود الكريم الرحيم سبحانه تظهر ، وهذا بالقطع يحدث لكل مسلم متمسك بإسلامه يدعو ربه محتاجا إليه (برجاءمراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الدعاء وكيفيته واستجابته وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿25﴾ " أي وَصَلت إليه إحدي المرأتين ، وكان لا يزال تحت الشجرة ، وكانت هي شديدة الحياء أي الخجل والاحتشام ، فقالت له أنّ أباها – وهو سيدنا شعيب عليه السلام ، أو هو أحد أقربائه ، أو هو شيخ كبير مؤمن صالح – يدعوه للحضور إليهم ليعطيه أجر عمله الفاضل الذي قام به لهما وهو سقاية دوابّهما وتوفير الجهود والأوقات لهما ، فلمّا وصل إليه قصّ عليه قصصه مع فرعون وقومه ، فطمْأنَه بأنّ الله قد نجّاه من هؤلاء الظالمين حيث سيكون في مَأمَن عنده وسيجد بإذن الله صلاحاً وحُسن خُلقٍ فيه وفيمن سيتعامَل معهم لأنهم مؤمنون بالله تعالي متمسّكون بإسلامهم .. " قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴿26﴾ " أي اقترحت إحدي المرأتين علي أبيها استئجاره ، أي أن يعمل معهم بأجر ، وذكّرته بالقاعدة الإسلامية الهامة في اختيار العاملين والتي بها يتحقق كل خير وسعادة وقوة ورُقِيّ وتطوّر للجميع ، وهي أنَّ خير أي أفضل أجير يُستأجَر لأيّ عملٍ أيَّاً كان نوع عمله هو القويّ أي الكُفْء القادر المُتَخَصِّص في مجاله ، الأمين أي المتمسك بكل أخلاق إسلامه الذي يُراعِي ربه ويُحسِن طَلَب الدنيا والآخرة معا فلا يهمل أو يترك الإتقان أو يغش أو يسرق أو يرتشي أو يخون أو نحو هذا مما يجعل المجتمع ضعيفا مُتخلّفا تعيسا في دنياه وأخراه .. " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿27﴾ " أي أراد هذا الشيخ الكبير المؤمن الصالح بتوفيق الله له أن يجمع بين أمرين كلاهما خير ، وهو استئجاره مع عرض الزواج عليه من إحدي ابنتيه بعدما استشف رأيها فيه عند الحديث عن قوته وأمانته ، وهكذا الإسلام يُيَسِّر الزواج بعرض كل طرف علي الآخر في إطار أخلاقياته وضوابطه وتيسير المهور ونحو ذلك مِمَّا يُسعِد الناس ، وتفاهَم معه علي أن يكون مهرها خدمته ثماني سنوات ، وإن زادها لعشر سنين فهذا سيكون تفضّلا وزيادة منه وليس إلزاما عليه وله ثوابه العظيم عليها عند الله ، وطمْأنه أنه سيجده إن شاء الله من الصالحين أي المتمسكين بكل أخلاق الإسلام ولن يجد أيّ مشقة أو ظلم أو إجبار علي الالتزام بعشر سنوات أو نحو هذا ، وسيسعد الجميع بذلك .. " .. قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿28﴾ " أي قال له موسي أنَّ ذلك الشرط الذي اشترطته قد وافقتُ عليه وأصبح الأمر عقدا بيني وبينك ، وأيّ فترة قضيتها سواء السنوات الثمانية أم زدتها فأصبحت عشرا فقد وَفيت بعقدي معك وبعدها لا يُطلب مِنّي مزيدا من الخدمة وإلا كان ذلك عدوانا عليّ أي ظلما لي ، والله تعالي هو وحده الوكيل أي الشاهد علي هذا الذي قلناه فيما بيننا فليس معنا شاهد آخر ، وكفي به شاهدا ، وهو الحافظ لحقّ كلٍّ مِنّا وهو الذي سيُحاسِب مَن يُخلف وعده
أما معني : " فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿29﴾ " أي لمَّا أنهَيَ موسي مدة خدمته ، وهي السنوات الثمانية أو العشر ، سار بزوجته عائدا إلي بلده مصر ، لاشتياقه لأمه وأسرته وأهله وقومه بني إسرائيل ، وظنَّ أنَّ قوم فرعون من المصريين قد نسوا حادثة قتله الخطأ للقبطيّ .. وفي أثناء عودته ، وبالقرب من أحد جوانب جبل الطور بسيناء ، آنسَ نارا أي رأيَ وأحَسَّ وشعَرَ بالأنس أي الطمأنينة والألفة والفرح حينما رأي هذه النار لأنه سينتفع بها ، فقال لزوجته ابق ِمكانك واستريحي قليلا وسأذهب أنا إلي مكانها لعلي أجد عندها أحدا يعطيني خبرا أي معلومة عن الطريق الذي سنسير فيه أو أتمكن من أن أحضر لكم جَذوة أي شُعلة من هذه النار نستخدمها في أن نصطلي أي نتدفأ بها ، أو في الإنارة أو الطهي أو نحو ذلك
ومعني " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿30﴾ " أي لمَّا وَصَل إلي النار ، ناداه الله تعالي من الشاطيء الأيمن للوادي الذي كان بجوار جبل الطور – أي من الجانب الأيمن للوادي – والذي كان موسي يسير فيه مُتّجِها للنار ، والأيمن أيضا يعني الأبْرَك أي الأكثر بركة وقتها لأنه مكان تكريم الله لموسي بتكليمه وبإبلاغه أنه قد أصبح رسولا له سبحانه ليُبَلّغ الإسلام للناس ليسعدوا به من خلال التوراة التي سيُوحيها إليه .. ولهذا فهذه البقعة أي القطعة من الأرض عند الشجرة التي كانت هناك وقتها هي مبارَكة ، أي كلها خير مُتزايد ، لأنها شهدت هذه الأحداث .. لقد ناداه الله تعالي وكلّمه أنه هو رب العالمين أي خالقهم ومُرَبِّيهم وراعيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم .. " وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴿31﴾ " أي ولكي يزيده تأكيدا أنّ الذي يُكلّمه هو الله تعالي ، ولكي يُجَهّزه بمعجزةٍ يُقابل بها فرعون وقومه وتعينهم علي التصديق بوجود الله وبأنّ موسي رسول من عنده ، أراد سبحانه أن يريه دليلا قويا قاطعا علي ذلك ، فكلّمه أيضا طالبا منه أن يلقي عصاه أي يرميها ، فلمّا رآها تحوّلَت إلي ثعبان حقيقيّ يهتزّ أي يتحرك بسرعة محاولا الاختفاء عن الأنظار ، ولذلك يُسمَّي جانّ ، لأن الجنّ في اللغة العربية هو كل ما لا تراه العين وخفي عنها ، حينها التفّ موسي للخلف وفرَّ هاربا دون عودةٍ بسبب خوفه ، فناداه سبحانه وطمْأنه أن يُقبل أي يأتي ويعود ثانية ولا يخاف فهو من الآمنين ، أي في أمانٍ تامّ – وكذلك أي مسلم – مادام هو في تواصُلٍ دائم ٍمع خالقه القوي المتين الذي يحفظه ويرعاه ويُؤَمِّنه ويُطَمْئنه ويُرضيه ويُعينه ويُوفقه ويُقوِّيه ويرزقه وينصره ويُسعده في دنياه وأخراه .. " اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿32﴾ " أي ودليل ثانٍ علي أنَّ الله تعالي القادر علي كل شيء هو الذي يكلّمك وهو مؤيِّدك وناصرك حتما ، أنك لو سلكت أي أدخلت يدك في جيب ثيابك ثم أخرجتها فستجدها ناصعة البياض لامعة متلألأة ليس فيها أيّ سوءٍ أيْ عيب ٍمن لونٍ مختلف عن بياضها أو من مرض أو غيره .. وقم بضمّ جناحك أي ذراعك إلي جنبك لكي يزول عنك الرهب أي الخوف الذي أنت فيه الآن ، وهي حركة يقوم بها الإنسان عند خوفه لتقلله وتمنعه .. فذانك أي هذان برهانان أي دليلان قاطعان من ربك – وهما تحوّل العصي عند رميها إلي ثعبان وإخراج اليد بيضاء تماما – إلي فرعون وملئه وهم وزرائه ومستشاريه ومعاونيه وموظفيه وسادة القوم ومَن شابههم ، فهم قوم فاسقون أي خارجون عن طاعة الله حيث كانوا يعبدون غيره كفرعون والشمس والكواكب ونحو هذا وكانوا يفعلون الشر ويتركون الخير ، ولذا فهم محتاجون حاجة شديدة لمثل هذه الآيات المعجزات لتُوقظهم وتُفيقهم ، فهذه الآيات ستُؤيّدك وستُثبت صِدْقك أنك رسول من عند الله فلعلهم يتّبعونك والإسلام لعلهم يسعدون في دنياهم وأخراهم
أما معني " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿33﴾ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿34﴾ " أي لمّا عَلِمَ بتكريم الله تعالي له باختياره رسولا له ليُبَلّغ الإسلام للناس ليسعدوا به ، ومِن شدة حرصه علي حمل هذه الأمانة وتوصيلها كاملة ، أمانة الدعوة إلي الله والإسلام ، بدأ يسأل الله تيسير الأمور ، لأنه سيدعو فرعون وهو أشدّ الخلق في ذلك الوقت استكبار وظلما وفسادا حتي ادَّعَيَ بين قومه أنه ربهم الأعلي !! فكان مِمَّا طلبه تيسير عقبة أنه قد َقتل منهم نفساً خطأ فيخاف أن يعاقبوه في مقابله بقتله فلا تستمرّ الدعوة ، كما أن أخاه هارون له قدرة كبيرة علي حسن التعبير وبأسلوب قد يكون أجود منه – مع مراعاة أن لفظ أفصح مِنّي يدل علي أنّ موسي أيضا فصيح – لأنه قد تركهم فترة طويلة طرأت عليهم فيها مُتغيّرات يعرفها هارون أكثر منه فيُحسن الحديث معهم بما يُناسبهم بصورة أفصح أي أوضح وأكثر بلاغة منه ، فسأل الله بكرمه وفضله أن يرفعه أيضا إلي درجة أن يكون رسولا حتي يكون له رِدْءَاً أي مُعيناً ومُسانداً وناصراً لكي يُصَدِّق كلامه أي يُظهره بالتدليل عليه بالأدلة القاطعة ويُؤكّده ويُبيّنه ويشرحه ويُفصّله أو يُلخّصه حسب الحاجة ولكي يُعين بعضهما بعضا علي حُسن توصيل الإسلام لقومهما ، حيث بمفرده قد يكذبونه أو لا يتمكّن من الردّ عليهم ومحاورتهم حينما يُكثرون مُجَادلته خاصة وأنَّ كثيرا منهم مُستكبرون مُعاندون مُراوِغون ظالمون .. ثم كثير من الناس يُصَدِّقون الكلام إذا كان صادرا من اثنين أكثر مِمَّا لو كان صادرا من واحد فقط .. ثم إضافة لكل ماسبق ، يطلب وجود هارون لأنه لو ُفرِضَ ومُنِعَ أحدهما عن الدعوة لسببٍ ما كسجن ٍأو قتلٍ أو غيره يُكمل الآخر ... ثم قطعا سيُكْمِل من بعدهما المؤمنون بهما كما يحدث مع كل الرسل ، بعون الله وتأييده ونصره لهم ، ليظل الإسلام باقيا علي وجه الأرض حتي يوم القيامة لتسعد به البشرية كلها تمام السعادة – لو عملت بكل أخلاقه – في دنياها وأخراها .. " قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴿35﴾ " أي طمْأنه الله تعالي بأنه قد استجاب دعاءه – وكذلك الحال مع كل مسلم يلجأ إليه بالدعاء (برجاءمراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن استجابة الدعاء وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ – وبأنه سيَشُدّ عَضُده أي سيُقوِّي ذراعه وهو تعبير عربي يُفيد أنه سيُقوِّيه وسيساعده بكل ما يحتاجه من قويَ ومساعدات مختلفة ، ومنها إمداده بأخيه وإمكاناته ، وسيقف تماما ودائما بجواره حتي ينتصر ويحقق ما يريد .. وبَشَّره سبحانه مبكرا بالنصر علي أهل الباطل والشر حيث سيجعل له ولأخيه سلطانا أي قوة ونفوذا وهيْبة وحجَّة وإقناعا في كلامهما وقدرة عقلية وجسدية ونحو ذلك مِمَّا يحفظهما ويحميهما من مكائد الظالمين فلا تصل إليهما حتي يتمكّنا من توصيل الإسلام للناس (برجاءأيضا مراجعة الآية ﴿67﴾ من سورة المائدة " .. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. " ، لمزيد ٍمن الشرح والتفصيل) .. وبهذا ، بهذه الآيات ، بهذه الأدِلّة والحجج والمعجزات القاطعات الحاسمات والمعونات التامَّات من الله تعالي وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ، سيغلبون ، سينتصرون ، بإذن الله وبكل تأكيد ، هما ومَن يؤمن معهما بربهم ويتمسك بإسلامهم ، وسيسعدون تماما في دنياهم وأخراهم ، بينما سينهزم حتما الكافرون وسيتعسون تماما فيهما
ومعني " فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴿36﴾ " أي حينما وصل إليهم موسي بآيات الله هذه البينات أي الواضحات تماما الدالات علي صدق ما يقول وما يدعوهم إليه من عبادة الله وحده واتباع الإسلام ليسعدوا في الدارين ، ردوا عليه ردا يفيد بأنهم مكذبون معاندون مستكبرون مستهزؤن مراوغون ، حيث قالوا له أن هذه الآيات ليست معجزات وإنما هي مثل السحر الذي نفعله ونخدع به الآخرين !! وأنه قد افتري هذا الأمر أي اختلقه أي هو كذب لا أصل له ثم يريد نسبته إلي من يعبده ويسميه الله !! ولو كان صادقا لكنا سمعنا عن مثل الذي يقوله هذا من عبادة الله وحده واتباع دين الإسلام من آبائنا السابقين ولكنا لم نسمع أن أحدا منهم قد فعل هذا ، فهو إذن كاذب !! ولكنهم بالقطع هم الكاذبون في كل ذلك الذي قالوه ، فهم يعلمون أن ما جاءهم موسي لا يمكن أن يكون سحرا لأنهم مهرة تماما بالسحر وأن ما جاء به من انقلاب العصي ثعبانا حيقيقيا هو خارق للعادة ولا يمكن أن يقوم به مخلوق ، كما أنهم قد سمعوا كثيرا عن إبراهيم وعبادته لله ، وكذلك لم يكن زمن يوسف بعيدا عنهم !! ولكنه التكذيب والعناد من أجل ثمن ما من أثمان الدنيا رخيص دنيء زائل يوما ما كمنصب أو جاه أو مال أو غيره .. ولذلك قال لهم موسي : " وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿37﴾ " أي إذا كنتم تدَّعون أنّي علي الضلال وأنتم علي الهُدي ، بلا كلام ٍعقليٍّ ودليل منطقيٍّ مقبول ، فالأمر إذن مُردود لله تعالي لا إليّ ، فيكفيني أنّه خالقنا وربنا وهو الذي يعلم تمام العلم مَن الصادق الذي معه الهدي أي الخير الذي جاءه مِن عنده سبحانه ويتمسَّك به كله ويتّبعه ، ومَن الكاذب الذي علي الباطل أي الشر ، وسيَحكم بيننا بعدله في الدنيا والآخرة ، وهو الذي يعلم أيضا مَن سيُؤمن به منكم فتكون له حسن العاقبة أي النتيجة بسبب إيمانه حيث تمام السعادة في دنياه وأخراه ، ومَن سيكفر فتكون له تمام التعاسة فيهما ، لأنه بكل تأكيد لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم .. والظالم هو كل مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن ، بأيّ نوع ٍمن أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم ٍأو حجر ٍأو نجم ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشر أم ما شابه هذا .. وفي كلام موسي هذا تخويف وتحذير لهم ، بكل أدب ٍوبكلام ضِمْنِيّ يفهمه ويعقله من أراد أن يفهم ويعقل ، ولم يَرُدّ عليهم بسوءٍ مثلهم ، لكي يستفيقوا فيسعدوا قبل أن يحلّ عليهم عذابٌ بما يستحقون فيتعسوا في الدنيا والآخرة .. " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿38﴾ " أي خشي فرعون من تأثر الملأ حوله – وهم وزرائه ومستشاريه ومعاونيه وسادة القوم ومَن يُشبههم – من كلام موسي فأراد أن يُذكّرهم بأنه إلاههم فنادي فيهم أنه لم يعلم لهم أيّ إله غيره ولو كان يعلمه لعبده معهم !! وكأنه عظيم الأمانة والتقوي والنصح وإراة الخير لهم !!! ثم أراد أن يُبَيِّن لهم أنه سيبحث بصورة جدِّيَّة وبكل صدق ٍعن إله موسي هذا الذي يَدَّعيه – وهو في حقيقة الأمر يريد إثبات كذبه لديهم – لعله يراه فيطمئنّ لوجوده ويطلب من الجميع عبادته وهو معهم !! وهذا من استهزائه بهم وبعقولهم حيث هو متأكد تماما أنهم سيطيعونه في كل ما يقول حتي ولو كان سفها وسخفا وتخريفا مثل الذي قاله لأنهم إما يخافون بطشه بهم أو يطلبون عنده ثمن ٍما من أثمان الدنيا رخيص ٍدنيء ٍزائل ٍيوماً ما كمنصب ٍأو جاهٍ أو مال ٍأو غيره ! ولذلك طلب من هامان وهو أقرب وزرائه عونا له علي ظلمه وسوئه أن يُوقِد نارا علي طين ٍلكي يصنع منه حجارة صلبة يبني بها صرحا أي بناءً عاليا لكي يبحث بنفسه عن إله موسي هذا !! وقبل أن يتحقق من الأمر إذا به يحكم علي موسي مسبقا بأنه من الكاذبين !! وسواء فعل ما طلبه حقيقة أم لم يفعله فالنتيجة أنه سيعود لهم قائلا لم أجد إلاها بكل صدق وأنا إذن الإله حتميا كما قلت لكم !! وسيُصَدِّقه بالقطع هؤلاء السفهاء المتخلفون الذي قد ألغوا عقولهم !! .. " وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾ " أي تعالوا علي خلْق الله فاستعبدوهم وظلموهم واعتدوا عليهم وأذاقوهم أسوأ أنواع العذاب ونهبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم ، وتعالوا علي رسل الله فكذبوهم وعاندوهم واستهزؤا بهم ولم يتّبعوهم وآذوهم وقاوموهم ومنعوا الناس ما استطاعوا من اتّباعهم ، ونشروا الشرور والمفاسد والأضرار ، بل تعالوا علي الله ذاته فكذبوا بوجوده سبحانه وعبدوا غيره وساووه بخلقه ووصفوه بما لا يليق ، تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّا كبيرا ، وكل ذلك كان بغير حقّ أي بكل اعتداءٍ وظلم ، لأنَّ العِزَّة تكون بحقّ حينما تُستخدم في إقامة العدل بين الناس وحفظ حقوقهم ومنع أيّ أحد من الاعتداء عليهم وبالتالي إسعادهم في دنياهم وأخراهم ، وكل ذلك بسبب أنهم كانوا يتشكّكون في وجود الله وفي رجوعهم إليه في حياةٍ آخرةٍ عنده بعد حياتهم الدنيا ويتوهَّمون أن لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، وذلك لأنهم قد عَطلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي طلب أثمان الدنيا الرخيصة ، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة – وهي المسلمة أصلا – بداخل هذه العقول (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ " أي جمعناهم جميعا هو وكل معاونيه علي الظلم فقذفناهم وألقيناهم في البحر دفعة واحدة وتركناهم يغرقون فيه .. فانظروا وتدبّروا واعقلوا واعلموا وخذوا الدروس والعِبَر من نهاية الظالمين هذه ، فلا يكن أحد أبدا مثلهم وإلا نال مصيرهم وتعس تمام التعاسة كتعاستهم في الدنيا والآخرة (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
أما معني " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴿41﴾ " أي مِن شِدّة غضب الله تعالي عليهم بسبب شدة عِنادهم واستعلائهم وكذبهم واستهزائم ومُرَاوَغتهم وشرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، جعلهم سبحانه في الدنيا أئمة أي قادة في الشرّ بحيث كل مَن يتّخذهم قدوة ويفعل مثلهم يزداد ميزان سيئاتهم وعذابهم في النار لأنه تَعَلّمَ منهم ، ثم في الآخرة يقودونهم أيضا إلي أماكن عذابهم – كما كانوا يقودونهم في دنياهم إلي كل شرّ وكانوا أساتذتهم في ذلك – وينالون هم بالقطع أشدّ العذاب ، عذاب الأساتذة والمُوَجِّهين والأئمة والقادة !! ولن يجدوا لهم يومها حتما أيَّ أحدٍ ينصرهم أي يمنعهم من عذاب الله الذي يستحقونه بما يُناسِب أفعالهم أو يَدفعه عنهم ..
" وأتْبَعْناهُم فِي هَذهِ الدّنيا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴿42﴾ " أي وكذلك من شدة الغضب عليهم ، بسبب جرائمهم الشديدة السوء ، جعل الله اللعنة مُتَابِعَة أي مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أي مكان ، وذلك في الدنيا ، حيث لعنة الناس تُتَابعهم ، فكلّما تذكّر أفعالهم أيّ أحدٍ لعنهم ، أي دعا عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله ، أي مزيدٍ من العذاب ، في مقابل ظلمهم وإيذائهم الشديد لخلق الله ، إضافة إلي لعنته تعالي التي كانت عليهم في دنياهم والتي ستنتظرهم في أخراهم ، أي إخراجهم من كل رحمة ورعاية ، فاجتمعت عليهم لعنات الخالق وكل خلْقه .. هذا ، والذين يفعلون مثلهم في أيّ زمن ٍفهم مُعَرَّضون لما يُشبه مَصيرهم ، فستجدهم دوْماً في درجةٍ ما من درجات العذاب – بسبب لعنة ربهم عليهم أي بعدهم عن رحمته وحبه ورعايته وعونه وتوفيقه – كقلق أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع ٍأو اقتتالٍ مع الآخرين ، وبالجملة تراهم في كل ألم ٍوكآبةٍ وتعاسة ، وحتي لو ظهر عليهم بعض سعادة فهي سطحية لا مُتَعَمِّقة وَهْمِيَّة لا حقيقية مؤقتة لا دائمة (برجاءمراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة التوبة " .. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. ثم يوم القيامة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ ألماً وكآبة وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد ، إنهم سيكونون من المَقبُوحِين ، أي من الموصوفين والمَشْتُومِين بالقبْح ، أي مِن الذين جعلهم الله قبيحين بسبب أفعالهم السيئة القبيحة ، أي الذميمين ، في منظرهم فهم مُشَوَّهون قذرون ، وكذلك في حالهم ووضعهم ، وبالجملة هم مُهْلَكون مَذلولون مُهَانون في أسوأ أنواع العذاب الخالد
أما معني " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿43﴾ " أي أعطينا موسي التوراة فيها الإسلام – بعد إهلاك الأمم السابقة التي كذبت بالله وبرسولها وبالإسلام ، فتعَالَت عليهم ، ولم تعمل به ، فتعست تمام التعاسة وهلكت في دنياها وأخراها ، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم – وذلك لكي تكون بصائر للناس ، جمْع بَصيرة أي إدراك العقل ، أي لكي يتبَصَّروا بها أي يَروا ويُدركوا ويَتدبَّروا بعقولهم وتُنير لهم طريقهم في حياتهم وتكون لهم هديً أي إرشادا فيعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشر والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لهم الرحمة أي السعادة التامة في الدنيا والآخرة .. فلعلهم يتذكّرون ذلك ، أي لكي يتذكروه ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
ومعني " وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿44﴾ أي القرآن العظيم الذي أنزلناه عليك هو بكل تأكيد وَحْي من عند الله وليس اختلاقا منك كما يدَّعون كذبا وزورا ، والدليل القاطع علي ذلك ، أنك لم تكن بالقطع في زمن موسي !! ولم تكن معه في الجانب الغربي مثلا من جبل الطور حينما قضينا إليه الأمر أي حكمنا بكونه أصبح رسولا لنا وأوحينا إليه التوراة فيها الإسلام ليبلّغه لقومه ليسعدوا به في الداريْن !! ولم تكن قطعا من الشاهدين أي الحاضرين لهذا الموقف فهو قد حدث حتما قبلك بأزمنة بعيدة !! فكيف عرفت بهذه الأحداث إذن إذا لم تكن وحيا لك من عند الله ؟! كما أنَّ قومك يعلمون تمام العلم نشأتك وأنك ُأمِّيّ لا تقرأ ولا تكتب وأنك لم تتعلم تاريخ الأمم السابقة علي يد أحدٍ بحيث يمكنك تأليف مثل هذا القرآن العظيم !! وهم يعرفون ذلك تماما بداخل عقولهم وبفطرتهم فيها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الأية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره !! " وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿45﴾ " أي وأيضا كان بينك وبينهم يا محمد ﷺ قرونا أي أجيالا كثيرة من الناس أنشأناها أي خلقناها فعاشت أعمارا طويلة ولم تشاهدها ولم تحضرها ، ولولا إخبار القرآن بها لك ما علمتها ، فكيف يدَّعون كذبا وزورا أنه ليس وحيا من عند الله وأنك الذي اختلقته ؟!! .. بل خلال هذه القرون الطويلة نسوا ربهم وإسلامهم ، ولذلك أرسلناك بالقرآن لتُجَدِّد لهم دينهم وليعودوا إليه وإلي خالقهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ... ثم دليل آخر علي أنّ هذا القرآن هو من عند الله وليس من عندك كما يفترون عليك ، أنك لم تكن أبدا يوما ثاويا أي مقيما بين أهل مدين وهي مدينة سيدنا شعيب عليه السلام لكي تُعلّمهم بعض الآيات التي ُأنزلت عليك وفي فترة إقامتك بينهم هذه تعلّمتَ منهم هذه الأخبار الموجودة بالقرآن ! فهذا زمن غير زمنك تماما !! .. إنَّ الحقيقة التي لا يُمكن لأيّ أحدٍ صاحب ِعقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُكذب بها هي أننا قد أرسلناك لهم بكل هذه الأحداث السابقة التي لم تحضرها ولم تشاهدها بوحي ٍمِنّا ليعتبروا بها ليسعدوا في الدنيا والآخرة ، ولولا هذا الإرسال بهذا الوحي ما كان علم بذلك أحدٌ مِمَّن هم في زمنك ..
" وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿46﴾ " أي وكذلك لم تكن موجودا وقت أن نادينا موسي أنه لا إله إلا الله ، ولولا أننا أوحينا بذلك لك في القرآن ما كنت قد علمته ، فكيف يدَّعون أنك الذي ألّفته ؟! .. ولكن أرسلناك به ليكون رحمة أي إرشادا لتمام الخير والسعادة في الداريْن من الخالق لخلْقه لمن يؤمن به أي يُصَدِّق ويعمل بما فيه كله ، وليكون أيضا إنذاراً أي تحذيراً لمن لا يؤمن به بكل شر وتعاسة فيهما ، فأنذِر هؤلاء الذين لم يأتهم نذير قبلك منذ زمن موسي وعيسي .. فلعلهم يتذكّرون ذلك ، أي لكي يتذكروه ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الدنيا والآخرة وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
أما معني " وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾ أي لو أصابتهم مصيبة ما ، أيْ نوعٌ ما من أنواع العذاب ، بسبب ما قدَّمته أيديهم أي بسبب أفعالهم السيئة ، وهذا هو قانون الحياة الإلهيّ العادِل أنه مَن زَرَعَ خيرا حَصَدَ خيرا ومَن زرَع شرَّاً فلن يحصد بالقطع إلا كل شر كما نبَّهنا تعالي لذلك بقوله " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، سواء أكان هذا العذاب قلقاً أم توتّراً أم ضيقاً أم صراعاً أم اقتتالا مع الآخرين ، أي كلّ ألم ٍوكآبةٍ وتعاسة ، أم حتي إهلاكا واستئصالا تامّا من الحياة (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، حينها سيقولون وسيتحجَّجون وسيُراوغون وسيَكْذبون وسيَدَّعون أنه لو كان الله أرسل إليهم رسولا وأرسل معه آياته لتُذكّرهم ولتُحذرهم من مثل هذا العذاب والمصير لكانوا اتّبعوها وآمنوا بربهم ورسوله علي الفور !! فأراد الله تعالي بهذا القرآن العظيم أن يكشف حجَج ومُرَاوغات مثل هؤلاء ومدي صدقهم أو كذبهم ، وهذا من تمام رحمته وحلمه علي أمثالهم ، فمَن يؤمن منهم ويتوب ويعود لربه ولقرآنه ولإسلامه يسعد في الدارين كبقية المؤمنين بربهم المتمسِّكين بأخلاق إسلامهم ، ومَن يستمرّ ويُصِرّ تمام الإصرار علي تكذيبه وعناده واستكباره ، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيص ٍدنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فهذا إن جاءه في دنياه صورة ما من صور العذاب في أي وقت ، ثم انتظره في أخراه ما هو أشدّ عذاباً وأتمّ وأعظم ، فليس له حينها أي حجّة أو عذر لأنه مُسْتَحِقٌ تماما له ولم يُظلَم في أيّ شيء !! فمَن ُأنذِرَ فليس له أيّ عُذر !
ومعني " فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴿48﴾ " أي مِمَّا أثبت تماما كذبهم ومُرَاوَغتهم أنهم لمَّا جاءهم الحقّ من عند الله ، أي الآيات التي طلبوها في الآية السابقة مع رسولٍ كما طلبوا ، أي لمَّا جاءهم القرآن الكريم مع الرسول الأمين محمد ﷺ ، قالوا قولا غريبا سفيها لا يقبله أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حيث قالوا ما يَدلّ علي مُرَاوَغتهم وعِنادهم مهما جاءهم من آياتٍ لأن المشكلة ليست في الآيات ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، لقد قالوا أنه لولا أن القرآن نَزَلَ مُتَفَرِّقا علي مدي سنوات طويلة ولولا أنه ليس كما أوتي موسي من التوراة التي نزلت ككتاب واحد مرَّة واحدة لكانوا آمنوا !! وقد نَزَّله تعالي كذلك ليُناسِب الأحداث فيكون أكثر تأثيرا ويتذكّره كلّ مَن مَرَّت به أحداث مشابهة فينتفع ويسعد بحُسن التعامُل معها علي أكمل وأنسب وأسعد وجه ، ثم آيات التوراة كانت تُناسِب عصرها فكانت كافية علي الصورة التي نزلت عليها دفعة واحدة ، وليست كالقرآن ستبقي حتي يوم القيامة فيحتاج إلي تفصيلات لكي يُناسِب كل المُتغَيِّرات المُتوَّقعة للبشرية فيظل صالحا تماما لإكمالها وإصلاحها وإسعادها !! .. ثم ما يؤكد أنهم مُراوغون ، أنهم قد كفروا أيضا بالتوراة من قبل نزول القرآن ، ثم الآن يطلبون كتابا مثل التوراة التي هم بها كافرون !! فهم إذن مُتَناقِضون بما يُثبت تماما أنهم ليسوا صادقين في التوصُّل للحقّ لاتّباعه !! وسواء نزل القرآن دفعة واحدة كالتوراة أم نزل علي أيِّ صورة فهم لن يؤمنوا به !! .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنهم طلبوا مثل ما أوتي موسي أي آيات حِسَّية مَرْئيَّة مَلمُوسَة كتحَوُّل العصي إلي ثعبان ونحو هذا ، فرَدَّ عليهم القرآن أنهم قد كفروا بمثل هذه الآيات سابقا فلو جاءتهم مثلها فسيكفرون أيضا لأنَّ مشكلتهم في عقولهم وليست في الآيات حولهم !! .. ثم المعجزات الحِسِّيَّة تنتهي بانتهاء مدتها ولا يراها إلا من عايَشها في فترتها الزمنية أما معجزة القرآن فهي باقية إلي يوم القيامة لأن به نُظماً مُتكاملة تُصلح الجميع وتُكملهم وتُسعدهم في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغيِّراتها إلي قيام الساعة .. إنهم مِن شدة جرأتهم علي الله ورسوله والقرآن والإسلام ، ومن شدة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم ، قالوا عن كلٍّ مِن القرآن والتوارة أنهما سِحْران ! أي كلٍّ منهما ليس وحيا من الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن ، وإنما هو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل ! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء ! وأنَّ كُلاّ مِن القرآن والتوراة قد تظاهرا أي شدَّ كلٌّ منهما ظهر الآخر أي ساعده وعاونه لكي يَسحرا البشر !! ولذلك فهم يكفرون بكلٍّ منهما بل بكلّ كتب الله التي أرسلها !! .. إنهم حتما كاذبون ، لأن موسي لم يكن أبداً ساحرا بل العصي انقلبت ثعبانا حقيقيا ، ولأنَّ الرسول محمد ﷺ لو كان ساحرا فلماذا لم يسحرهم هم أيضا ليؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به ؟!!
ومعني " قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿49﴾ " أي إذا لم يكُن يُعجبكم القرآن والتوراة وتقولون عنهما أنهما يسحران الناس ولا يقومان بهدايتهم وإرشادهم وإسعادهم في الداريْن ! وتعتذرون عن كفركم بهما أنَّ هناك كتابا آخر من عند الله هو بديل لهما وأنتم تؤمنون به لأنه أكثر هداية وإرشادا منهما ! فأحضروه إذن لنا وسنؤمن به وسنتَّبعه إن وجدناكم صادقين في إدعائكم هذا .. وفي هذا الرَّدّ تمام الثقة من الداعي لمن يدعوه أنه لن يكون هناك أهدي للناس لتمام الخير والسعادة من هذا القرآن العظيم الذي هو من عند خالقهم الذي يعلم تمام العلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم ، وكذلك في هذا الرَّدّ تمام الإنصاف من الداعي أنه لو كان هناك فعلا كتاب أهدي منه فسنتبعه جميعا فورا فهذا هو حال الصادق دائما حينما يري الحقَّ الذي يحقق له وللجميع خيره وسعادته فإنه يُسارِع لاتّباعه لتحقيق ذلك ، كما أنَّ فيه تمام الاعتزار بهذا القرآن وإظهار تمام عجزهم عن الإتيان بمثله وأنهم حتما كاذبون مُخادعون مُرَاوِغون ولن يؤمنوا مهما جاءهم من آيات ودلائل لأن المشكلة فيهم هم وليست في الآيات والأدِلّة حيث قد عَطلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل هذه العقول (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وهذا هو معني " فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿50﴾ " أي إذا لم يستجيبوا لهذا الطلب ، وهو الإتيان بكتاب أهدي من القرآن ولم يتسجيبوا كذلك للإيمان ، وبالقطع حتما لن يستجيبوا أبدا ، لأنهم بكل تأكيد كاذبون مُخادعون مُرَاوِغون ، فليعلم الجميع حينها إذن وقد ثبَتَ ثبوتا أكيدا بلا أيّ شكّ أنهم لا يريدون اتّباع الحقّ بل يتّبعون أهواءهم أي شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، وهل هناك أضلّ أي أكثر ضلالا أي ضياعا وشرا وتعاسة مِن مثل هذا الذي يسير خلف هواه أي وراء كل شرٍّ وفساد وضرر من غير أي اتّباع لهُدي الله وهو القرآن والإسلام وما فيهما من كل خير وسعادة لمن يتمسك بكل أخلاقهما ؟!! .. إن الله تعالي لا يمكن أن يهدي له وللإسلام مثل هؤلاء الظالمين لأنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم ٍأو حجر ٍأو نار ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أي خطوة منهم نحو أي خير حتي يساعدهم ربهم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ.. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فهم قد شاءوا الضلالة بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم فشاءها الله لهم (برجاءمراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
أما معني " وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿51﴾ " أي لأنَّ الله تعالي يُحبّ خلْقه ويريد إسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لم يتركهم في الحياة دون توجيه وإرشاد لكل خير وسعادة ولذا قام بتوصيل وتبيين وتفصيل أقواله وإرشاداته لهم في القرآن الكريم وفي كل الكتب السابقة منذ خَلْق آدم عن طريق رسله ليكونوا دوْما في كل لحظات حياتهم وكل مواقفها علي تواصُل دائم مع ربهم وإسلامهم بكل أخلاقياته ونُظمه وتشريعاته التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن لو عملوا بها كلها وتُحذرهم من ترك بعضها أو كلها وإلا تعسوا فيهما علي قدْر ما تركوه مثل بعض سابقيهم الذين فعلوا ذلك .. لعلهم يتذكّرون هذا ، أي لكي يتذكروه ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴿53﴾ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿54﴾ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴿55﴾ " أي مَن كان مؤمنا إيمانا صادقا بالله وهو مُتمسِّك بالتشريعات التي أتته في كتب سابقة ﴿وغَلَبَ علي ظنه أنها لم يُصبها تحريف أو تخريف ما ، ولم يُبَدِّل هو ولم يُحَرِّف في دين الله شيئا بل ظلّ متمسكا بكل صواب وخير من دين ربه دون أيّ شرّ﴾ قبل نزول القرآن – والتي أصلها كلها أخلاق الإسلام – وعن طريق رسل سابقين قبل الرسول محمد ﷺ ، حينما يسمع بالقرآن يؤمن به مباشرة ، لأنه يتأكد أنه يحتوي علي مِثل الدين الذي هو عليه تماما ، وأنه أتَيَ من مَصْدرٍ واحد وهو الله خالق الخلْق الذي يعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن ، لكنه مُكَمِّل له بما يُناسب العصر وحتي يوم القيامة لأنه ليس بعده كتاب آخر ، وحينما يُتليَ عليه ويَتدبَّر آياته يؤمن به أي يُصَدِّق بلا أيّ شكّ لأنه الحقّ أي الصدق من عند الله لأنه يوافق تماما ما هو عليه من دينٍ ويُضيف إليه ما يحتاجه الزمن الحاليّ والمستقبليّ .. وهؤلاء يَطمَئنّون ويَستبشرون أنهم كانوا قبل السماع به والاستماع لآياته علي صوابٍ حيث كانوا مسلمين بصدقٍ مُصَدِّقين مُستسلمين مُنقادين طائعين لتشريعات الله التي تُسعدهم في دنياهم وأخراهم .. إنَّ مثل هؤلاء يُضاعَف لهم بالقطع أجرهم بسبب صبرهم علي الجهد الذي بذلوه للوصول للإسلام حيث لم يكونوا في بيئةٍ مسلمة أصلا وبسبب ما يتعرَّضون له أو ما يُحتمل أن يتعرَّضوا له مِمَّن حولهم بسبب تركهم لدينهم وانتقالهم لدين الإسلام ، فالله تعالي لا يظلم أحدا ولو مقدار ذرَّة ويُضاعِف الأجر بغير حسابٍ لكل صابرٍ بكرمه وفضله الواسع ... ثم بعد أن امتدح الله إيمانهم وبَيَّنَ ثوابهم العظيم ، ليكون ذلك تشجيعا لهم للاستمرار علي دين الإسلام ودَفعا لغيرهم ليؤمنوا مثلهم لينالوا مثل أجرهم ، امتدحهم كذلك بأنهم " .. وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ .. " – أيضا تشجيعا لهم للاستمرارية ولدفع للغير للاقتداء والتشبُّه بهم فيسعد الجميع بهذا الخُلُق في الدنيا ثم بعظيم الأجر في الآخرة – أي يَدْفعون بقوة وبسرعة وبهِمَّة أيَّ سيئة منهم بحسنات كثيرة ، وهذا هو أيضا معني قوله تعالي " .. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ .. " (برجاءمراجعة الآية ﴿114﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة هود ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، ومن معانيها كذلك عدم مقابلتهم لأيّ إساءةٍ من غيرهم في قولٍ أو عملٍ بإساءة مثلها بل يصبرون عليها وعلي قائلها وفاعلها بل ويُحسنون إليه ما استطاعوا ، فهذا هو العاصم لهم – بعد الله تعالي – ألا يُخطئوا مثله ، وقد يكون ذلك سببا كبيرا لتغييره نحو التمسك بكل أخلاق الإسلام ، كما يثبت الواقع ذلك كثيرا ، فيسعدون بهذا في دنياهم بحُسن معاملته لهم حينما يتغيّر ، ثم بأعظم الثواب في أخراهم .. وإذا كانوا يُحسنون معاملة المُسيء هكذا ، فمن المؤكد أنهم يُحسنون أكثر وأكثر معاملة الآخرين مِمَّن لم يُسيئوا إليهم بل هم يُحسنون ، إنهم بلا أيّ شكّ لهم كل الخير والسعادة في الداريْن ... ثم امتدحهم كذلك ، للتشجيع وللدفع لغيرهم لفعل فِعْلهم ، أنهم " .. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿54﴾ " أي يُنفقون من مالهم وجهدهم وصحتهم ووقتهم وفكرهم وغيره مِمَّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خير في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. ثم امتدحهم كذلك ، للتشجيع وللدفع للآخرين لاتخاذهم قدوة ، بقوله : " وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴿55﴾ " أي يبتعدون ويمتنعون عن أيّ كلام فيه لغو أيْ غير مفيد ومن باب أوْليَ أيّ كلام شرِّيّ بل كل كلامهم خير في خير ، ويقولون حينها للذين يتحدثون باللغو لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، وهو رَدّ مُؤَدَّب يعني أنَّ كلَّ فرد سيتحمَّل نتيجة عمله لا يتحمله عنه أحد غيره ، وهو يشمل ضِمْنا الترك والابتعاد وعدم الرضا عمَّا يقولون ، ويقولون لهم أيضا سلام عليكم أي يقولون خيرا يَسلمون به من الوقوع في أيّ خطأٍ وشرٍّ وسوء ، ولا يُسمعونهم إلا كل خير وسلام وأمن ، فهم إن كانوا رضوا لأنفسهم هذا اللغو السيء فأهل الخير لا يرضون ذلك حتما ، ومن معاني سلام عليكم كذلك قول السلام عليكم والانصراف أحيانا ، علي حسب تقدير المواقف ، لإنهاء الأمر بخير .. ويقولون لهم أيضا لا نبتغي الجاهلين أي لا يطلبون ولا يريدون مُجَالَسَة أو مُخَالَطة أو مُحَاوَرَة مَن قد يكون مِن الجاهلين أي السفهاء أي ضعاف العقول الذين لا يُحسنون التعامُل بحُسن الخُلُق مع غيرهم لأنهم إن أساءوا بقول أو بفعل فلن يقابلوه بمثله لأنهم مِن أصحاب الخُلُق الإسلاميّ الذين يُكرمون ذواتهم بالترفع عن فِعْل ذلك والسقوط فيه ، وهذا أيضا نوع من الترك لهم ، ليس ترفعا عليهم وتركا لدعوتهم لأخلاق الإسلام وإنما لعل هذا الموقف يُوقظهم ويَردّهم لربهم ولإسلامهم فيسعد الجميع بذلك ، بانتشار الخير وإيقاف الشرّ وعدم التّمَادِي فيه
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴿58﴾ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت من الذين يحرصون أشدّ الحرص علي دعوة جميع الناس إلي الله والإسلام علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ حيث كان يحزن أشدّ الحزن بإعراض مَن يُعرِض ويبتعد ، فطلب منه ربه الرحيم الودود أن يَتَوَازَن في هذا الأمر ، وأن يستمرّ في دعوته ، ولا ييأس من مثل هؤلاء البعض الذين قد لا يستحقون أحيانا من داعيهم للخير كل هذا الحزن عليهم ! لأنهم يعلمون صدقه وصدق ما يدعوهم إليه من الحق والخير ، ولكنهم مِن ظلمهم وعِنادهم ينكرونه وينحرفون عنه من أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فكن مثل رسولنا الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن متوازنا مستمرا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمدعوين حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ .. " أي لا يمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما ، وهذا هو معني " .. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾ " أي هو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خلقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها ، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاءمراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ " أي أنَّ الداعي إلي الله والإسلام سيجد مِن بين الذين يدعوهم مَن يعلمون أنَّ ما يدعوهم إليه هو الهدي ، هو الطريق الواضح الصحيح المضمون لكل خير وسعادة في الداريْن ، ولكن لديهم بعض التحفّظات علي اتّباع هذا الهدي أي علي الإيمان بالله والتمسك بالإسلام ، وأهمها خوفهم علي سلطانهم ونفوذهم ومالهم ونحو ذلك أن يُخطف أي يُنتَزَع منهم ، فهم يخافون أن يخطفهم الآخرون مِمَّا هم فيه حيث سيُعادونهم حينما يخالفونهم ويتّبعون الإسلام .. فيَرُدّ عليهم الله تعالي مُطمْئنا لهم – وأيضا كاشفا وفاضِحا لمن يتّخِذ مثل هذه التحفظات حجَّة للمُرَاوَغة وعدم اتَّباع الإسلام – أنه إذا كان سبحانه بكرمه وعزّته وقوّته وحفظه وأمنه قد جعل لكفار مكة الحرم المكيّ وما حوله مكانا آمنا من كل الحروب مُتمكّنين منه مُستقرِّين فيه حيث كان يُقدِّسه الجميع ولا يُهاجمون أهله أو مَن يدخله أو يلجأ إليه في حين أنَّ الناس حول منطقتهم كانوا يُخطفون أي يُؤذَوْن ويُعَذبون ويُأسَرون ويَتصارعون فيما بينهم ويفقدون ممتلكاتهم ويَقتل بعضهم بعضا علي أثمان الدنيا الرخيصة ، بل وجعل بفضله ورزقه الواسع كل أنواع الخيرات تُجْبَيَ إليهم أي تُجمع عندهم وكل هذا الرزق من لدنه أي من عنده ، وقد فعل ذلك لهم وهم كافرون به مُعادون له ولرسوله وللإسلام فهل من المعقول ألا يُعطِي ما هو أكثر أمنا وطمأنينة ورزقا وخيرا وسعادة لمَن يؤمن به ويتمسك بكل أخلاق إسلامه ؟!! .. إنَّ مَن يتّخذ الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، مَرْجِعا دائماً له في كل مواقف ولحظات حياته ، سيَجد دوْما وحتما المَكانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وسيجد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، وسيجد الشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وسيجد الهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، وبالجملة سيجد السعادة كلها في دنياه وأخراه (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. ولكنَّ كثيرا مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أي لا يعقلون أي لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في هذا ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ويتصرَّفون وكأنهم كالجهلة الذين لا يعلمون أيّ علم نافع مفيد ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عطلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴿58﴾ " أي أنّ السبب الحقيقي للإهلاك والتخطف من الأرض والذي علي الجميع أن يدركه جيدا هو ليس بالقطع الإيمان بالله والتمسك بأخلاق الإسلام وإنما هو بكل تأكيد البَطَر في المعيشة بكل أشكاله أي الكِبْر والتعالي واستخدام النِعَم في كل شرّ مُضِرّ مُتْعِس بدلا عن استخدامها في كل خير مُفيد مُسْعِد وعدم الاعتراف بالمُنعِم وهو الله الخالق الكريم الرزّاق الوهّاب وعدم شكره بل ونسبة النِعَم لغيره بل وعبادة هذا الغير وما شابه هذا من أسباب البُعْد عن الله والإسلام والتي تؤدي حتما لفقدان النعَم بسبب سوء استخدامها ولتمام التعاسة في الدنيا والآخرة (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، ومعني " وَكَمْ أَهْلَكْنَا .. " أي كثيرا ما أهلكنا ، .. ومعني " .. فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِم إلا قليلا .. " أي كل مَن يمرّ علي ما تبَقيَ من بيوتهم أو آثارها وينظر إليها فسيجدها خَرِبَة لم يُعَمَّر إلا القليل منها ولا يسكنها إلا القليلون والمقصود شدة الخراب والهلاك .. " .. وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ " أي هلكوا كلهم تماما عن آخرهم فلم يبق منهم أيّ أحد يرث غيره وإنما عاد كل ما كانوا يمتلكونه لمالكه الحقيقي وهو الله تعالي
ومعني " وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴿59﴾ " أي مِن رحمة الخالق بخلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم – لأنهم خلْقه وصَنْعَته – يُرسِل إليهم الرسل بين الحين والآخر بالإسلام الذي فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، ومن عدله تعالي أنه يحلم أي يصبر كثيرا دون عقاب أوّلا بأوّل علي المُكذبين المُعَاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين منهم ليُعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا له ولدينهم ليسعدوا مثل مَن سعدوا في الداريْن ، فهو سبحانه لا يُهلك أيّ قرية بمَن فيها إلا بعد أن يُخبرهم بتمام العلم وبكل التفاصيل عن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، وقد أعطاهم جميعا العقول التي يعقلون بها ذلك والفطرة التي بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بحيث لا يكون لأيّ أحدٍ منهم أيّ حجّة أو عُذر حينما يُعَاقَب إذا لم يستجب وكان من أهل الشرور والمفاسِد والأضرار واستمرّ علي ذلك مُصِرَّا تمام الإصرار دون أيّ خطوة نحو أيّ خير (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، وذلك عن طريق الرسل الذين يرسلهم إلي أمّ هذه القري أي إلي عاصمتها وأكبر أماكن تجمّعها حتي يسمع بهم الجميع وينتشر أمرهم وما يتلونه عليهم من آيات الله أي تشريعاته وأخلاقياته وأنظمته المُسْعِدَة لهم تمام السعادة في الدنيا والآخرة .. إنه تعالي حتما لا يُمكن مُطلقا أن يُهْلِك قرية مؤمنة بربها متمسكة بأخلاق إسلامها !! بل هذه هي التي لها تمام السعادة في دنياها وأخراها .. وإنما القرية التي تُهْلَك بالقطع هي التي يكون أهلها ظالمين ، بأيّ نوع من أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم ٍأو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا (برجاءأيضا مراجعة الآية ﴿117﴾ من سورة هود " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴿117﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿60﴾ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿61﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا .. وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وبأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خير ٍبعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا .. " أي ما مِن شيءٍ من أرزاق الله وخيراته تُعْطَوْنه إلا وهو مِمّا يُتَمَتّع به في الحياة ويُتزَيَّن أي يُتَجَمَّل ويُتَحَسَّن به وكلها ليست دائمة وإنما تزول إما بإنتهاء المتعة أو بانتهاء أجل المُتَمَتّع وهو الإنسان بمجيء أجله بالموت فلا تنخدعوا بهذا المتاع مهما حصَّلتم منه وأحسنوا التعامُل معه باستخدامه في كل خير دون أيّ شرّ ولا تنسوا استحضار نوايا الخير في عقولكم أثناء ذلك أنكم تفعلون هذا طلبا لحب ربكم واستجابة لما طلبه منكم بفعل ذلك وطلبا لثوابه العظيم في الآخرة لمن يستجيب لهذا وبذلك تكونوا قد أحسنتم بالفِعْل طَلَبَ الدنيا والآخرة معا ، " .. وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ .. " أي لا وجه للمقارنة مُطلَقا بين مُتَع الدنيا مهما كانت عظيمة وبين ما عند الله تعالي في الآخرة من نعيم ٍعظيم في جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بَشَر والذي هو بالقطع أعظم خيرا وأبقي وأدوم وأخلد إلي ما لا نهاية من نعيم هذه الحياة الدنيا مهما كان عظيما والذي هو أقل خيرا حتما والذي هو من صفاته أنه دوما يزول بعد فترة أو يزول عنه مالكه بموته .. " .. أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أي ألاَ يَعْقِل هذا الذي لا يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا ويَنسيَ آخرته أو حتي لا يُصدِّق بوجودها فيفعل في دنياه كل شرّ مُضِرّ مُتعِس له ولمَن حوله ؟!! إنَّ العاقل ولا شكّ هو الذي يُحسن استخدام عقله فيُحسن طلبهما معا كما وصَّيَ بذلك ربه ودينه الإسلام
ومعني " أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿61﴾ " أي لا يُمكن بالقطع أن يستوي حال مَن آمن بربه وصَدَّق بوعده الحَسَن المؤكّد بأعلي درجات الجنات في الآخرة لمن يُحْسِن في دنياه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه – وسيَلقيَ ذلك الوعد بكل تأكيد لأنه من الذي لا يُخْلِف وعده مُطلقا وهو الله تعالي الخالق الكريم الوهَّاب مالك الملك صاحب الفضل العظيم – مع حال مَن لم يؤمن بربه ولم يعمل بدينه الإسلام ولم يُصَدِّق بوعده ولا بآخرته ولا بحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَتَّع بمُتَع الحياة علي أيّ صورة سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّا أم خيرا .. إنَّ حال مثل هذا قطعا أن يكون يوم القيامة من المُحْضَرين أي يُحْضَر للحساب وللعذاب في نار جهنم علي قدْر شروره وأضراره ومفاسده ... إنَّ أيّ عاقل سيختار حتما طريق الله ، طريق الإسلام ، طريق تمام السعادة في الداريْن ، ويترك تماما أيَّ طريقٍ مخالف لذلك ، لأنه سيكون طريق تمام التعاسة فيهما
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿62﴾ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴿63﴾ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ۚ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴿64﴾ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴿65﴾ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ﴿66﴾ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴿67﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿62﴾ " أي يوم القيامة يُنادِي الله تعالي أو من خلال ملائكته علي المشركين أي الذين أشركوا مع الله آلهة أخري كصنم ٍأو حجر ٍأو نجم ٍأو غيره فعبدوها ولم يعبدوه سبحانه ، فيقول لهم بصورة فيها لوْم شديد كنوع ٍمن التعذيب النفسيّ قبل التعذيب الجسديّ في النار سائلا إيّاهم أين الآلهة التي كنتم تعبدونها وتدَّعون كذبا وزورا أنها التي تستحقّ الطاعة وليس الله تعالي ؟!! .. " قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ .. " أي حينها يَردّ الذين حقّ أي ثبت وتأكّد عليهم القول أي العذاب وهم القادة والأساتذة والمُوَجِّهين والمُرشدين الذين كانوا يدعونهم إلي الإشراك بالله بعبادة غيره ، فيقولوا وهم يُحَدِّدون الذين أشركوا ويُشيرون إليهم ويعترفون عليهم ويشهدون ضدّهم ويكشفون ضلالهم من أجل مزيدٍ من تعذيبهم تعذيبا نفسيا قبل دخولهم جهنم : " .. رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴿63﴾ " أي هؤلاء هم ياربنا الذين أغويناهم أي أضللناهم وأوقعناهم في الغِواية أي الشرّ والفساد ، لقد فعلنا بهم مثل ما نحن فيه من الغِواية ، من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيص ٍدنيء ٍزائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وهم قد قَبِلوا هذه الغِواية بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم بمجرد أن دعوناهم إليها ، فهم الذين اختاروا الشرّ والفساد ولم يُكرههم أحد عليه ، من أجل الحصول علي أثمان الدنيا الرخيصة ، فهم يستحقون إذن العذاب أيضا ، ونحن نتبرَّأ منهم ومن أعمالهم وأقوالهم أي لا علاقة لنا بها ولا نتحمَّل نتائجها بل كلٌّ يتحمَّل نتيجة عمله ، إنهم ما كانوا إيانا يعبدون أي لم يعبدوننا نحن ولكنهم أطاعوا واتَّبعوا كل شرّ مُفسِد مُضِرّ مُتْعِس بإرادتهم ولم نطلب منهم أبدا أن نكون آلهة لهم ليعبدونا أي يطيعونا أو كان لنا سلطان أو نفوذ عليهم لإجبارهم علي ذلك بل ولم يكن لهم هم أيّ دليل علي أحَقِيَّة آلهتهم بالعبادة !! .. " وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ۚ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴿64﴾ " أي حينها يُقالُ لهم ، أيضا من أجل اللّوْم الشديد والتعذيب النفسيّ قبل التعذيب الجسديّ في النار ، إن كنتم صادقين أيها المشركون في أنّ هناك آلهة أخري غير الله كنتم تعبدونها فاطلبوها الآن في هذا الموقف العصيب لكي تنفعكم أو تمنع عنكم العذاب ! فيطلبونها فلا يستجيب لهم أيّ أحد بكل تأكيد !! لأنهم بالقطع كاذبون .. فيُشاهِدون العذاب ويتأكّدون تماما وقتها أنهم ذائقوه بلا أيّ شكّ ودون أيّ ظلم فقد ثبَتَت جرائمهم ولم يستطيعوا الإتيان بأيّ دليل علي براءتهم وصدقهم .. وحينها يكون الندم الشديد في وقتٍ لم يَعُد ينفع فيه أيّ ندم لأنه قد انتهي وقت العمل في الدنيا وجاء وقت الحساب ويتمنّون لو أنهم كانوا يهتدون في دنياهم أي كانوا يؤمنون بربهم ويتمسّكون بأخلاق إسلامهم حيث لم يكن سيحدث لهم ما يحدث ولكانوا سعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم مثل مَن آمنوا وتمسّكوا بإسلامهم .. " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴿65﴾ " أي بعد النداء السابق عليهم والسؤال عمَّا كانوا يعبدونه من آلهة ، يُنادَوْن مرة ثانية للسؤال هذه المرة عن اتّباع الرسل والإسلام الذي كانوا يدعونهم إليه ليسعدوا في الداريْن هل استجابوا لهم أم كذبوهم وعانَدوهم وراوَغوهم واستكبروا عليهم واستهزؤا بهم ؟! .. " فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ﴿66﴾ " أي يومها يختفي عنهم كلُّ نبأٍ يُمكنهم أن يُنَبِّئوا به أي كلُّ حديثٍ فيه دليل علي براءتهم أو حجّة علي ما كانوا فيه ، ولا يمكنهم أن يسألوا بعضهم بعضا حتي ولو كان أقرب الناس إليهم من أقارب وأنساب ونحوهم لأنَّ أحداً ليس عنده أيّ إجابة بل الجميع كأنهم بُكْمٌ لا يتكلمون مِن هوْل الموقف ومن ثبوت كل الأدِلّة ضدّهم أنهم كانوا في كل شرّ وسوءٍ وفساد .. " فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴿67﴾ " أي ورغم كل شرّ وسوءٍ فباب التوبة مفتوح للجميع ، بأن يستغفر عمَّا فعَل ويندم عليه بداخل عقله ويعزم علي عدم العودة إليه ويُعيد الحقوق لأصحابها إن كان شرّه مُتعلقا بحقّ من حقوقهم ، وأن يُجَدِّد إيمانه أي تصديقه بربه ويُحْسِن استخدام عقله ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وأن يعمل صالحا ما استطاع لتعويض ما فاته فيتمسّك بكل أخلاق الإسلام ولو حَدَثَ ووَقع في أي شرّ يُسارع بالعودة لربه ودينه ، بهذا يضمن بكل تأكيد أن يكون من المُفلحين أي الناجحين الفائزين الذين يَسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فرحمة الله وَسِعَت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه .. هذا ، ولفظ " عسي " حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التحقق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء ! وإذا كان كثير من كرماء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله !! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوما كذلك حريصين علي دوام التوبة ودوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿68﴾ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿69﴾ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنت متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاءمراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما من المُتّقين لله في كل قولٍ وعمل لأنه يعلم كل ما يُخفيه الإنسان وما يُعلنه ، أي كنت دائما من المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنت دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ .. " أي هو سبحانه الذي يخلق ما يشاء من كل مخلوقات هذا الكوْن العظيم المُعْجِز بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد وغيره ممَّا لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وهو الذي يختار لكلّ مخلوق ما يُناسبه من وظائف ويعطيه إمكانات ذلك ليقوم بها علي أكمل وجه ، وهو الذي اختار نظام الحياة علي هذا الشكل المُمتع المُسْعِد لكل مخلوق ، وهو الذي جعل لكلٍّ أجلا مُحَدَّدا ثم ينتهي من أجل توَازُن الكون ، وهو الذي جعل لكل بَشَر أجله ثم يموت حتي لا تَتَشابَك الأجيال وتَتَصَارَع باختلاف تطوّراتها وأفكارها لو طالَت مُدَد بقائها ، ولكن يكون لكل جيل فترة للتمتّع بمُتَع الحياة والسعادة بها ثم يأتي مَن بَعْده وهكذا ، وهو الذي اختار للبَشَر أفضل وأكمل تشريع وهو الإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم ، وهو الذي اختار لهم أفضلهم ليكونوا رسلا منه لهم ليُعلّموهم أخلاق إسلامهم (برجاءمراجعة الآية ﴿33﴾ ، ﴿34﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن كيفية اختيار الله لرسله﴾ ، وهو الذي جعل قانون الأسباب والنتائج بحيث مَن يُحسن في حياته يحيا حياة سعيدة تماما ومن يُسيء يَحصد حتما تعاسة علي قدْر إساءته وبما يُناسبها إلي أن يتوب ويُصْلِح مِن نفسه فتعود له سعادته الكاملة ، وهو الذي جعل الآخرة لتمام العدل لينال المُحسن في دنياه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أعلي درجات الجنات وينال المُسيء ما يستحِقّه في عذاب النار بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، بعد أن أعطيَ سبحانه الجميع كل المعطيات والإمكانات وكل الإرشادات في الإسلام بما يُعينهم علي أسعد حياة ، حيث أعطاهم الفطرة المسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وأعطاهم العقول التي تتدبَّر وتُفكر وتبتكر وتتطور .. إلي غير ذلك من اختيارات لله للخلْق وللحياة الدنيا وللآخرة .. وكل ذلك مُسَخَّر للإنسان ، أكرم خلْقه ، من أجل تمام صلاحه وكماله وسعادته في دنياه وأخراه .. فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَاركا فيه علي أن أنعم علينا بأن خلقنا في هذه الحياة لكي نَنعم ونَسعد بها لفترة ثم نخلد في أتمّ سعادة عنده في جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بَشَر (برجاءمراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، لمعرفة قصة الحياة وسبب الخِلْقة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان﴾ .. إنه بالقطع وبكل تأكيد ليس هناك اختيار أفضل من اختيار الله تعالي في كل شيء !! وهل يُقارَن اختيار الخالق بالمخلوق ؟!! كما أنه حتما ليس لأيِّ أحدٍ استطاعة في تعديل اختيار الله هذا أو الزيادة عليه أو النقصان منه أو حتي اقتراح شيء من ذلك !! وهذا هو معني ".. مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ .. " ، ولذلك فالسعيد تمام السعادة في الداريْن هو الذي يرضَيَ تمام الرضا باختيار الله ويَطمئنّ له تمام الاطمئنان ويعمل به تمام العمل أي يعمل بكل أخلاق الإسلام التي اختارها للبَشَر لتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم (برجاءمراجعة كيفية إحسان طَلَب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وأيضا إذا أراد فِعْل شيءٍ ما في حياته صغر أم كبر فليأخذ بآراء المُتَخصِّصين ثم يستخير الله أي يطلب منه أن يختار له أفضل وأسعد فِعْل يُمكن فِعْله فهو العالِم الخبير بكل شيء وسيُيَسِّر له الأفضل والأسعد وسيُحقّقه له إذا كان فيه أفضل مصلحة له ، في التوقيت الأنْسَب والأسعد له ولمَن حوله ، فليُحسن إذن التوكل عليه تمام التوكل أي تمام الاعتماد ، وليعلم وليتأكّد أنه قد يريد الإنسان شيئا ويختاره لكنه لا يمكنه أبدا تحقيقه إلا إذا سَمَحَ سبحانه بذلك ، وهذا أيضا من معاني " .. مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ .. " .... ثم الإنسان خلال هذا الإطار المُسْعِد من أخلاق الإسلام ، والتي اختارها خالقه له ، يختار بعد ذلك لنفسه ولمن حوله مايشاء من تفاصيل حياته ، بكل حرية اختيار إرادة عقله ، بما لا يُخالِف الإسلام ، والذي يَضَع له قواعد وأصول كل شيء خيريّ مُسْعِد ثم يترك التفاصيل للناس يَضعون ما يشاءون من قوانين تُنَظّم حياتهم – في إطار هذه القواعد والأصول – بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وأزمانهم وبيئاتهم وأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم ونحو ذلك بحيث يُحَقّقون تمام السعادة في الداريْن (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿68﴾ " أي بعد التدبُّر والتعَمُّق في كل هذا الكوْن المُعْجِز المُتكَامِل فسبحان الله إذن حتما مِن كل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، وهو ذِكْر يعني تنزيه الله أي إبعاده عن كل صفة لا تليق به ، وتعاليَ أي تَعَاظَم وارتفع وابتعد أيضا عنها وعمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنم ٍأو حجر ٍأو نجم ٍأو غيره مِمَّا هو أضعف منهم ! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده !! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها !! ولكنه التعطيل للعقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أما معني " وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿69﴾ " أيْ يعلم الخالق سبحانه بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه كلَّ شيء عن كلِّ خَلْقه ، كل ما هو مَكنون أيْ مُختفِي بداخلهم سواء أكان فِكْرا سِرِّيا أم روحا أم طاقة أم خلايا أم غيره ، وكذلك بالأوْليَ كل ما هو مُعْلَن مِن أقوالٍ وأفعالٍ سواء أعلنوه أمام أحد أم كانوا بمفردهم ، فالعاقل إذن مَن يُحسن ، ويَتَّقِي الله في سِرِّه وعَلَنه أي لا يفعل إلا كل خير مُفيد مُسْعِد له ولمن حوله في دنياهم وأخراهم ويترك كل شرّ مُضِرّ مُتْعِس لهم فيهما
ومعني " وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿70﴾ " أي لا إله غيره بالقطع وهو المُستحِقّ وحده للعبادة فتعاليَ عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا ، وهو المستحقّ وحده للحمد في الأولي أي في الحياة الدنيا علي كل خيراته وأرزاقه التي أسعد بها جميع خَلْقه ، وللحمد في الآخرة حيث تمام النعيم الخالد لمَن أحسن في دنياه ، وله الحُكم أي هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيء ليُبَيِّن حُكمه فيه ، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة ، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله ، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لما فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسان وخير وسعادة ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقاب علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدل
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴿71﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿72﴾ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿73﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاءمراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴿71﴾ " أي اذكر لهم وَذكّرهم يا محمد ﷺ ، وكذلك يا كلّ مَن يقرأ القرآن ، أرأيتم أي أخبروني وانظروا ماذا سيَحدث لو ُفرِضَ وجعل الله علي الأرض ومن عليها الليل سَرمدا أي دائما مستمرّا حتي يوم القيامة ؟! مَن يُمكنه منكم ، مهما كان من العلماء والخبراء ، أو مِمَّن يَدَّعيه بعضكم أنه آلهة غير الله تُعْبَد ، أن يأتي بالنهار الذي فيه الضياء أي النور والطاقة والحرارة ؟!! ألا تستمعون لهذا الكلام وتتدبَّرون فيه وتعقلونه فتوقنون أنه ليس هناك أيّ معبود إلا الله تعالي وحده القادر علي كل شيء الرزّاق الوهّاب المُعين الذي يُربّيكم ويرعاكم ويحفظكم ويُرشدكم لكل خير وسعادة في دنياكم وأخراكم ؟!! .. " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿72﴾ " أي وكذلك الحال بالنسبة للنهار ، هل تُطيقون أن يظلّ دائما عليكم حتي يوم القيامة دون أن يأتيكم ليل تستريحون فيه ؟!! ألا تنظرون نظرة تدبُّر وتعقّل إلي كل هذا فتوقنون أنه لا معبود يستحقّ العبادة إلا الله تعالي وحده من غير أيّ شريك ؟!! .. " وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿73﴾ " أي أنَّ تَوَالِي الليل والنهار هو من رحمات الله بخَلْقه ومِن حبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم ، وهو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت .. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحصي ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله ، وهكذا .. ولعلكم تشكرون ، أي لكي تشكروا كل هذا بأن تستشعروه بعقولكم وتحمدوه بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خير مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك شاكرين سعداء بزيادة النِعَم في الدنيا والآخرة
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿74﴾ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿75﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ﴾
هذا ، ومعني " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿74﴾ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿75﴾ أي ُأعِيدَ النداء عليهم بذات النداء كما في الآية ﴿62﴾ السابقة (برجاءمراجعة تفسيرها﴾ وذلك لمزيدٍ من اللّوْم الشديد والتعذيب النفسيّ في هذا الموقف قبل الجسديّ في النار ، مع التركيز هذه المرة في هذا النداء علي موقف نزْع أي إخراج وإحضار شهيد أمامهم من كل مجموعة من هؤلاء المشركين الذين عبدوا مع الله تعالي آلهة أخري ليَشهد علي كذبهم فيُصْدَمون بهذا ولا يَنطقون بأيّ رَدّ فتُقام عليهم الحُجَّة أي يُقامُ عليهم الدليل القاطِع علي كذبهم وارتكابهم لجرائمهم ويتأكّدون تماما أنهم مُستحقّون للعذاب دون أيّ ذرّة ظلم ، والشهيد الذي سيَشهد عليهم هو الرسول الذي أرسله الله إليهم بالإسلام فكذبوه وعانَدوه ورَاوَغوه واستكبروا عليه واستهزؤا به من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وقد يكون هذا الشهيد من المسلمين الصالحين الذين آمنوا برسلهم وتمسّكوا بإسلامهم وكانوا يدعونهم مع الرسل وبعد انتهاء أجل رسلهم لكل خير وسعادة ، وقد يكون كذلك واحدا منهم مُشرِكا مثلهم ليُحاول أن يُدافع عنهم فيفشل قطعا فتثبت بذلك الجريمة عليهم .. " فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ .. " أي بعد إحضار الشهيد يُسألَون عن إحضار بُرهانهم أي دليلهم علي صدق قولهم أنه كان هناك آلهة تستحقّ العبادة غير الله تعالي .. " .. فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ .. " أي وقتها ، وحينما لا يستطيعون بالقطع النطق والإتيان بأيّ دليل – وهذا هو معني " .. وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿75﴾ " أي ضاعَ وغابَ واختفيَ عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذبا وزورا في دنياهم من وجود آلهة غير الله تنفعهم أو تمنع الضرر عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها – حينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مفترين الكذب والافتراء كله
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿76﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿77﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿78﴾ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿79﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿80﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴿81﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿82﴾ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿83﴾ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿84﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خير ٍبعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُحسنين لطَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت دَوْما صالحا مُصلِحا لا فاسدا مُفسدا ، عادلا لا ظالما ، متواضعا لا مُتكبِّرا ، وبالجملة مُسْعِدا لذاتك ولمَن حولك لا مُتعسا لها ولهم ، فإنه بالخير ، والعدل ، والتواضع أي عدم التعالِي علي الآخرين وحُسن التعامل معهم وعدم احتقارهم وحفظ حقوقهم ، يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بالفساد والشرّ والظلم والكِبْر ونحو ذلك يتعس الجميع فيهما .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مِمَّن يُحسنون دعوة الآخرين لله وللإسلام كما فعل أولوا العلم حينما ذكّروا الذين انبهروا بمال قارون (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافَيء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنت متمسكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ .. " أي كان من بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بإرسال موسي إليهم بالتوراة التي فيها الإسلام الذي يُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، ويُقال أنه كان من أقارب موسي ، وهو قد آمَن به في أول الأمر ، ولكنه بغيَ عليهم أي علي من حوله أي جاوز كل الحدود أي كفر بالله وظلم وآذيَ وتكَبَّر وعَذّب وفعل كل شرّ ، وكان من أسباب ذلك تعالِيه وفخره بكثرة أمواله والتي قال تعالي عنها " .. وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ .. " أي أعطاه الله من كل أنواع الكنوز أي الأموال المختلفة المكنوزة أي المخزونة في خزائن والتي مفاتيحها لو حملها مجموعة من أصحاب القوة فإنها تنوء بهم أي تميل بهم حين ينهضون بها من ثقلها الشديد ، " .. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿76﴾ " أي ولقد نصحه الصالحون من قومه مِمَّن حوله بعدم الفرح وهو السرور الشديد بالأرزاق بما يؤدي إلي الكِبْر أي التّعالِي علي الناس والتفاخُر عليهم واحتقارهم وعدم الاعتراف بحقوقهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفعل وما شابه هذا من شرور ومَفاسِد وأضرار والتي بالقطع لا يحبها الله تعالي لأنها تؤدي قطعا إلي تعاسة الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما يحب الله بكل تأكيد الذين يفرحون ويسعدون تمام السعادة بتواصلهم مع ربهم وتمسكهم بكل أخلاق إسلامهم الأمر الذي يساعدهم حتما علي تمام السعادة في الدنيا والآخرة (برجاءمراجعة الآية ﴿58﴾ من سورة يونس " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾ " ، للشرح والتفصيل)
أما معني " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .. " أي اطلب بالذي أعطاك الله إيَّاه في الدنيا من كل الخيرات والأرزاق المختلفة التي لا تُحصَي ، اطلب به الدار الآخرة ، أي أحسن طلب الدنيا والآخرة معا كما يطلب منك ذلك ربك والإسلام ، وتَوَازَن بينهما ، فلا تنسَ الانتفاع والسعادة التامَّة بنصيبك في الدنيا أي بما تحصل عليه فيها بما تبذل من جهود وأسباب بما يُيَسِّره الله لك ويُعينك عليه ، ولا تنسَ بالقطع – بنصيبك هذا من الدنيا – حُسن الإعداد التامّ للآخرة والتي هي الأعظم نعيما وسعادة وخيرا والأتمّ والأدْوَم والأخلد ، بأن تستخدم هذا النصيب وبنوايا حَسَنة بداخل عقلك في كل خير ٍدون أي شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا﴾ ، وهذا هو معني " .. وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿77﴾ " أي إن استخدمت هذا النصيب من الدنيا الذي أحسن الله إليك بإعطائك إياه في كل خير ٍفقد أحسنتَ أي سَعِدتَ تمام السعادة به في الداريْن ، أمَّا إن ابتغيتَ أي طلبتَ به الفساد أي الشرّ في الأرض بكل أنواعه فقد أسأتَ وتَعِستَ تمام التعاسة فيهما ، لأنَّ الله بالقطع لا يحب المُفسدين ولا يُوَفقهم ولا يُيَسِّر أمورهم ولا يُسعدهم
ومعني " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي .. " أي ما أنا فيه ليس من عند الله الرزّاق الوهّاب وبعوْنه وتوفيقه وسداده كما تدَّعون وإنما هو بسبب علمي وفكري وتخطيطي وجهدي وعملي وحدي !! فأنا إذن حرّ في كيفية إنفاقه في خير ٍأو شرّ فلا شأن لكم بي ولا تنصحوني بشيء !! وهذا هو حال مَن يكفر أي يُكذب بوجود الله خالق الخَلْق ومُدَبِّر أمورهم ومُعينهم ومُوَفقهم بما يُسعدهم !! بل وحتي لو كان الله هو الذي أعطاني إياه كما تدّعون فبالتأكيد لأنه عَلِمَ ما عندي من عِلْم ٍغزير أكثر منكم أستحِقّ به هذا العطاء الوفير الذي يزيد كثيرا عمَّا عندكم !! وهذا هو حال المُغْتَرّ الفخور المُتَعالِي بما عنده والذي علي كل مسلم متمسك بكل أخلاق إسلامه أن يتجنّبه تماما .. فَرَدَّ سبحانه عليه بقوله مُحَذّرا له ولأمثاله ليَعتَبِر هو ومَن حوله ومَن بعدهم : " .. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا .. " أي ألم يعلم بعِلْمه الغزير هذا الذي يَدَّعيه أخبار السابقين وألم يسمع عنها ؟! إنّه بالتأكيد قد عَلِمَ وسَمع لأنه قد سمع بذلك الكثيرون وتَنَاقلوه فيما بينهم فما بالك وهو من أصحاب العلم ! أنَّ الله المُعْطِي قد أهلك قبله كثيرا من الأجيال ليس مثله فقط بل هم كانوا أشدّ منه قوّة وأكثر جَمعا للأموال بكل أنواعها وللأفراد بكل قُوَّاتهم ، فلو كان وكانوا صادقين في أنَّ هذه القُوَيَ هي بسبب علمهم وجهدهم وليست بتوفيق الله وتيسيره لكانوا حافَظوا عليها ! أو كانوا حافَظوا علي أنفسهم من الهلاك ما داموا كانوا صالحين خَيِّريِن لا فاسدين شُرِّيِّين ! فقد يُهلِك الله أحدهم القويّ الشديد هذا بحشرة تافهة لا تُرَي حتي بالعين المُجَرَّدة !! إنه تعالي لا يُهلِك بالقطع الصالحين أهل الخير وإنما الفاسدين أهل الشرّ !! .. " .. وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿78﴾ " أي لا يُسأل المجرمون عن ذنوبهم التي فعلوها ، لأنها مَعلومة مَعروفة مُوَثّقَة تماما ، منهم حيث هم أدري بأنفسهم تماما وبما ارتكبوه من جرائم ! ومِن الله تعالي خالقهم بالقطع الذي يعلم سِرَّهم وما هو أخفَيَ منه .. إنهم لا يُسألون لا في الدنيا ولا في الآخرة حينما يُنزل ربهم بهم العذاب الذي يستحِقّونه ، ففي دنياهم ينالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة بالتأكيد دون أيّ سؤال ! ولماذا السؤال والله تعالي يعلم ذنوبهم تماما والملائكة التي ستُعذبهم تعلمها وهم أنفسهم يعلمونها ؟! بل ووجوههم وأحوالهم البائسة تُظهِر جرائمهم ومقدار العذاب الذي يستحِقّونه !! فالأمر مع الله تعالي العالِم الخبير بكل شيء عن كل خَلْقه العادِل الذي لا يظلم مُطلقا ولو بمقدار ذرَّة لا يحتاج إلي تحقيقٍ كما يحتاجه البَشَر لمعرفة أين الحقائق لتحقيق تمام العدل دون أيّ ظلم !
أما معني " .. فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ .. " أي استمرّ قارون علي ما هو فيه ولم يلتفت إلي نصائح مَن نصحوه ، وخرج ذات يوم علي القوم حوله وهو في تمام الزينة بكل أنواعها من ثياب وخدَم وحَرَس ومُعِدَّات ونحوها وهو في تمام الفخر والتّعَالِي ، " .. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿79﴾ " أي حينها انْبَهَر بالمَنظر الذين يتمسكون بالحياة الدنيا ومُتعها وينسون الآخرة أو حتي لا يؤمن بعضهم بوجودها أصلا حيث هم لا يرون بعد دنياهم حياة أخري ولذا فهم حريصون أشدّ الحرص علي دنياهم ينالون منها كل شيء سواء أكان ضارّا أم نافعا شرّا أم خيرا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية إحسان طَلَب الدنيا والآخرة معا﴾ ولذلك تَمَنّوا برغبة شديدة أن يكون لهم مثل ما ُأعطي قارون حيث هو صاحب نصيب عظيم هائل من كل أرزاق الدنيا المختلفة .. " وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا " أي حينها قال المؤمنون بربهم المتمسكون بكل أخلاق إسلامهم العالِمون بالقيمة الحيقيقية للحياة الدنيا والتي لا تُساوي شيئا يُذكَر نسبة إلي الآخرة وعظيم نعيمها الذي لا يُقارَن وخلوده ، قالوا لهم ناصحين : ويلكم ، أي سيكون لكم الويْل أي الهلاك لو فكَّرتم بهذا الأسلوب السطحِيّ الخاطيء كتفكير قارون وأمثاله فطلبتم الدنيا فقط علي أيِّ صورة سواء أكانت بِشَرٍّ أم بخير بضررٍ أم بنفعٍ ، ولو فعلتم ذلك فستهلكون حتما في دنياكم حيث تمام التعاسة ثم في أخراكم قطعا حيث ما هو أشدّ تعاسة وألما وعذابا وأتمّ وأعظم (برجاءأيضا مراجعة الآية ﴿131﴾ من سورة طه " وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴿131﴾ " ، ثم الآية ﴿58﴾ من سورة يونس " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. لكنَّ الخير كل الخير ، والأكثر خيرا قطعا مِمَّا أوتي قارون وأشباهه ، والسعادة تمام السعادة ، أن تنالوا ثواب الله ، أي أعظم أجره وعطاءه وسعادته في دنياكم ثم في أخراكم ، وذلك بأن تُحسنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وذلك بأن تؤمنوا بربكم وتتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم فتعملوا صالحا دائما أي تعملوا كل خير دون أيّ شرّ .. " وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿80﴾ " أي لا يُؤتَيَ الجنة ، ولا يُؤتَيَ هذه الأعمال الصالحة المُؤَهِّلَة لدخول أعلي درجاتها ، أي لا تُعْطَيَ ولا تُيَسَّر أسبابها ، إلا للصابرين أي الثابتين المستمرّين علي إيمانهم بربهم وتمسكهم بكل أخلاق إسلامهم وإحسانهم لطَلَب الدنيا والآخرة معا
ومعني " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴿81﴾ " أي مِن شِدَّة إصراره التامّ علي ما هو فيه من الظلم والتّعَالِي وعدم استجابته لأيّ نصح بأيّ خطوة نحو الخير ولفترات طويلة فلابُدَّ إذن من نزول العقاب فلا عُذر لمن ُأنذر وكثيرا وبوسائل مُتَعَدِّدة ، فخَسَف الله به وبداره الأرض أي انشَقَّت وابتلعته وقصوره وغاب فيها وغار ليذوق الإذلال والإهانة في مُقابل التّعَالِي والتّعَاظم الذي كان فيه ، وحينها لم تنفعه أي فئة أي مجموعة حوله مِن خدمه وحرسه ونحوهم أن ينصروه أي ينقذوه من عذاب الله والذي لا ناصر وقتها غيره سبحانه وهو قد أمَرَ بعذابه ، ولا كان هو بالقطع مُنتصرا لنفسه أيْ مُستطيعا لإنقاذها (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿82﴾ " أي صارَ الذين كانوا سابقا يتمنّون أن يكونوا في مكانِه يقولون : " وَيْكأنّ " وهي كلمة عند العرب تُفيد الندَم والتّعجُّب والتَّعلّم والإدراك والتيقُّن والنظر والمُشاهدة ، أي أيقنوا تمام اليقين أي تأكّدوا بلا أي شكّ وعلموا تمام العلم - حينما رأوا بأعينهم ما حدث لقارون أمامهم - أنَّ الله يَبسط أي يُوَسِّع ويزيد الرزق لمَن يشاء مِن خَلْقه ويَقْدِر أي يُضَيِّق ، وأنهم كانوا مُخطئين حين تمنّوا مكانته ، وأنَّ بَسْط الرزق ليس دليلا أبدا علي حب الله لمن فَتَحَ عليه في رزقه كما أنَّ تضييقه لا يعني مُطلقا كراهيته للذي يُضَيِّق عليه ، وإنما الأمر مرتبط بأشياء كثيرة منها كيفية إحسان اتّخاذ الأسباب وتيسير الله لها وإرادته في تحقّقها وإنفاذها ونحو هذا بما يحقّق المصلحة والسعادة والعبرة والاستفادة للجميع ليسعدوا في دنياهم وأخراهم إذا استفادوا وتدبَّروا وأحسنوا استخدام عقولهم في كل ما يدور حولهم .. إنهم كذلك حين يرون هلاك الظالم يقولون وقتها لولا أن مَنَّ الله علينا أي أنعم وتفضَّل علينا بالإيمان به وبالتمسك بأخلاق إسلامه ويَسَّر لنا أسباب ذلك حينما اخترناه بكامل حرية اختيار إرادة عقولنا ولولا أنه أعاننا علي عدم تقليد قارون في ظلمه وتكبُّره ونسيانه للآخرة ولولا أنه صَبَرَ علينا ولم يعاقبنا علي ما قلنا ، لولا هذا وغيره من النِعَم والأفضال لكان خَسَفَ بنا مثلما خسف به .. وكذلك يقولون أننا عَلِمنا وأيقنّا وتأكّدنا أنه لا يمكن أبدا أن يُفلح الكافرون الذين كذبوا بوجود الله ولم يعملوا بدينه أي لا ينجحون ولا يفوزون ولا يسعدون لا في دنياهم ولا في أخراهم
أما معني " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿83﴾ " أي هذه الجنة الموصوفة لكم بأوصاف عظيمة مُشَوِّقة في القرآن وكل كتب الله تعالي هي مُعَدَّة ومُجَهَّزَة للذين لا يَطلبون العُلُوَّ في الأرض ولا الفساد أي الذين لا يتعالون علي الله ورسله وإسلامه فيُكذبون بهم ، وعلي الناس وكل المخلوقات بالتّعَالِي عليها وإيذائها وظلمها ولا يُريدون نشر الفساد أيْ أيّ شرٍّ أو ضررٍ وبالجملة لا يريدون أيّ تعاسة لذواتهم ولمَن حولهم وللكوْن كله بل يريدون كل خير وسعادة للجميع في دنياهم وأخراهم .. وبكل تأكيد فالعاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني " مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿84﴾ " أي فلْيَستبشر ولْيُوقِن كل مسلم يأتي بأيّ حسنةٍ أيْ خيرٍ مِن أيّ نوع ٍما فحتما سيكون له ما هو أكثر خير منها ، مِن فضل ربه وكرمه ورزقه ورحمته ووُدِّه ، في دنياه حيث كل خير وسعادة تامّة تُقابِل ما قدَّمه من خيرٍ وأكثر منه كثيرا ، وكلما ألْحَقَ الخير بخيرٍ يتبعه طوال يومه وعمره كلما كان عمره كله خيريا سعيدا تمام السعادة ، ثم في أخراه ليَستبشِر بأنَّ الحسنة الواحدة من الخير التي قد فعلها في الدنيا سيُجازيه سبحانه عليها بعَشرة أضعافها علي الأقل ، إلي أضعاف كثيرة لا تُحصَي كما وعد ووعده الصدق : " .. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " ﴿البقرة : 245﴾ ، علي قَدْر جَوْدَة الحسنة وإتقانها والصدق فيها ومنافعها ودوامها ونحو ذلك " .. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " ﴿البقرة : 261﴾ .. أمَّا مَن فعل سيئة ولم يَتُب منها ، فلا يُجَازَيَ إلا بمثلها بتمام العدل دون أيّ ذرَّة ظلم " إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .. " ﴿النساء : 40﴾ ، فله في دنياه من التعاسة والألم والقلق والتوتّر والضيق والاضطراب علي قَدْرها ثم في أخراه ما يُساويها من عذابٍ في النار ، وقد يعفو سبحانه وهو كثير العفو والحِلْم ورحمته وَسِعَت كل شيء وتسبق دائما غضبه وهو الغفور الرحيم ، بسبب دعاء الصالحين لهذا المُسِيء مثلا في جنازته أو دعاء المسلمين العام بعضهم لبعض أو بشفاعة الشافعين الذين أذِن الله لهم بالشفاعة يوم القيامة لكرامتهم ومنزلتهم أو ما شابه هذا
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿85﴾ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ﴿86﴾ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿87﴾ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿88﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجِعك في كل مواقِف ولحظات حياتك ، فستجد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد الهُدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، والمَكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاءمراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون دعوة الآخرين لله وللإسلام ويصبرون علي أذاهم (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافَيء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه المعاني هي بعض ما يُستَفاد من تلك الآيات الكريمة
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿85﴾ " أي يا أيها الرسول ، ويا كلّ المسلمين مِن بَعده ، إنَّ الله تعالي خالقكم الكريم ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم ومُنَزِّل عليكم هذا القرآن العظيم ومُوصيكم بالالتزام والعمل به لأنَّ فيه كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم ، لا يُمكن أبدا أن يترككم أو يهملكم ! لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولكنه سيُردّك يا محمد ﷺ إلي مَعَاد أي إلي مَرْجِع أي إلي مكان ترجع إليه أي إلي مكة ، وذلك بعد أن أخرجه قومه منها ، وقد رَدَّه سبحانه بالفِعْل ووَفيَ بوعده معه والذي لا يُخْلَف مُطلَقا ورَدَّه فاتحا مُنتصرا مُعَزَّزا مُكَرَّمَا ، ثم سيَرُدّه ﷺ بالقطع بعد انتهاء حياته الدنيا إلي مَعاد آخر أي مَرْجع ومَصير آخر وهو يوم المَعاد أي يوم القيامة حيث أعظم مَكَانَة يمكن أن ينالها بَشَر في الفردوس الأعلي من الجنة في مُقابل دعوته للعالمين لهذا القرآن ولهذا الإسلام وبذله ما استطاع من جهودٍ في سبيل ذلك .. وكذلك الحال بالنسبة لكم أيها المسلمون ، لو تشبَّهتم برسولكم الكريم ، فلابُدَّ حتما في دنياكم سيُكرمكم ربكم وسيُعزّكم وسيُسعدكم تمام السعادة في كل لحظات حياتكم ما دمتم متمسّكين بكل أخلاق إسلامكم ، وسيَنصركم في التوقيت وبالأسلوب الذي يَراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لكم ولمَن حولكم ما دمتم قد أحسنتم اتِّخاذ أسباب النصر ما استطعتم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاءمراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) ، ثم في أخراكم وبعد موتكم سيَردّكم إلي مَعَادٍ آخر أي مَرْجِعٍ ومَصيرٍ دائم هو يوم القيامة حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. وكذلك فإنَّ كل مسلم متمسّك بكل أخلاق إسلامه إذا افتقد شيئا في حياته – كما ُأخرج الرسول ﷺ من مكة أحبّ الأماكن إليه وتَرَكَ كل شئونه فيها – فلابُدَّ حتما سيُعَوِّضه ربه بأشياء كثيرة هي قريبة الشَّبَه به أو مثله أو أفضل بكل تأكيد .. وبالجملة ، فإنَّ الله تعالي ربكم سيُردّكم وسيُرجعكم دائما إليه ، إلي معادِ خير ٍدوْما ، إلي مَرْجِع ٍحَسَنٍ علي الدوام ، ليس مُعَرَّفَا ولكنه نكرة ليكون الأمر مُشَوِّقا عظيما لا يتخيّله أحد ، فهو كلّ خيرٍ ، كل نصرٍ ، كل مقامٍ عظيمٍ كريمٍ ، كل سعادةٍ ، في دنياكم ، لمَن أراد ذلك وسَعَيَ إليه من خلال دوام تواصُله مع ربه وتمسّكه بقرآنه وإسلامه ، فسيُوَفّقه وسيُيَسِّر له أسبابه حتما ، ثم لكم في أخراكم مَعَاد آخر دائم معه ، مَرْجِع ومَصير خالد إليه يوم القيامة ، حيث الحساب الختاميّ ، حيث جنة الخلد لمَن تمَسَّك بالقرآن والإسلام ، وحيث العقاب في النار لمَن أساء ، علي قدر شروره ومفاسِده وأضراره ، بكلّ عدل ، فهو تعالي عالِم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ، بمَن كان علي الهُدي أثناء الحياة الدنيا ، أي علي الخير والصلاح والحقّ والعدل والصواب والسعادة ، ومَن كان في ضلالٍ مُبين أي ضياعٍ واضحٍ وشرٍّ وفسادٍ وخطأٍ وتعاسةٍ تامّة .. ومعني " وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ﴿86﴾ " أي والدليل علي أنَّ رحمات الله تعالي دائما معكم وأنه قادر علي كل شيء وأنَّ ما تظنوه أحيانا مُسْتَبْعَداً مُستحيلا فهو يُحقّقه بقول كن فيكون - أو تدريجيا - حينما يريد تحقيقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ، وعلي أنّه يردّكم دائما لكل خير لمن أرادَ ذلك وسَعَيَ إليه كما وَعَدَ في الآية السابقة ووعْده بكل تأكيد هو الصدق دائما ، الدليل علي كل ذلك أنَّك ما كان يَدور أبدا في ذِهْنك يوما وما طلبتَ أو أردتَ أن يُنَزَّلَ عليك القرآن وتكون رسولا مُختارا من الله للناس جميعا تهديهم وترشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، ولكن قد حَدَثَ هذا ، بسبب رحمته تعالي بك وبخلْقه وحبه لك لهم وإراته لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم ، لأنهم خلْقه وصَنْعته ! فاستبشروا دائما خيرا واطمئنّوا واسعدوا بذلك ، أنَّ ربكم معكم دوْما بحبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وتيسيره ونصره وقوَّته ورزقه في الدنيا والآخرة ، لمَن آمَنَ به وتمسَّك بإسلامه .. وفي مُقابِل هذه النِعَم ، والتي لا يُمكن حصرها ، فليس مِن العقل ولا الإنصاف أن يكون أحدكم ظهيرا أي مُعينا للكافرين الذين يكذبون بوجود الخالق أصلا والذين ينشرون كل شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة !! وإلا ستضيع النِعَم حتما منكم كما تضيع منهم ، وستتعسون في دنياكم وأخراكم كما تَعِسوا هم فيهما .. وإنما الذي يُعقَل أن تُحسنوا شكر هذه النِعَم ، بعقولكم باستشعارها ، وبألسنكم بحمدها ، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أي شرّ ، حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. ومعني " وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿87﴾ " أي ولا يمنعك أيّ أحد بالقطع عن التمسّك بآيات القرآن وما فيه من الإسلام بعد أن علمتَ كل هذا الخير وإلا لَمَا كان لإنزالها فائدة وكان الأمر عَبَثَاً إذن ! وتأكَّد أنَّ معك دوْما ربك الخالق المُعين الناصر المُؤَيِّد القادر علي كل شيء ، ولا تلتفت أبدا إلي مكائدهم ومُعَوِّقاتهم ولا تتأثر بها ، فالمسلم حتما هو المُنتصِر في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم ، واستَمِرّ في دعوتك لغيرهم ، ولهم أيضا بما يُناسبهم .. وبالقطع فإيّاكم أيها المسلمون أن تكونوا من المشركين ، أي الذين يعبدون غير الله آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ، وإلا تعِستم تمام التعاسة مثلهم في الدنيا والآخرة .. ومعني " وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿88﴾ " أي ولا تعبدوا إلا الله تعالي لأنه هو وحده المستحقّ للعبادة (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وهو وحده الباقي بينما أيّ مخلوق من مخلوقاته لابُدَّ حتما يهلك وينتهي يوما ما ، بما فيهم حتما ما يَدَّعِيه البعض مِن آلهةٍ يعبدونها غيره سبحانه ! وهو وحده الذي له الحُكم ، أي هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيء ليُبَيِّن حُكمه فيه ، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة ، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله ، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقاب علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم
الم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك ، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك ، وهذا هو الغالب ، أو من غيرك ، وهو كثير الحدوث أيضا ، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاءمراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة ، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾ ، ﴿156﴾ ، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة " بشيء " والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾
إنك إذا كنت مستعدا دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة
إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة
إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون ، ولذا فهو بين الحين والحين ، حيث الأصل دائما السعادة والخير ، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة ، يختبرهم ببعض الصعوبات ، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته ، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه ، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث ، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم .. فيَسعد الجميع بكل هذا
إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه ، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل ، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم ، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه ، بينما لو علموا الغيب ، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني !! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل !! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه ، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم ، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ " أي هل يظنّ الناس أنهم بمُجرَّد أن يقولوا أنهم مؤمنون يُتْرَكون دون فتنةٍ أي اختبار لهذا القول هل هو صِدْق أم كذب ؟! كلا بالقطع ! لابُدَّ أن يحدث لهم بين الحين والحين اختبار ما وبما يُناسب كلاًّ منهم لكي يَظهَر لهم مَن هو الصادق ومَن هو الكاذب ، تماما كالذي يُعلن أنه قد تعلّم علما ما أو مهنة ما فإنه لا يُؤْخَذ بكلامه حتي يتمّ اختباره ومعرفة صِدْقه مِن كذبه ودرجته ومستواه وتطبيقه العمليّ الواقعيّ ونحو هذا ، ويتمّ هذا كل فترة وبما يُناسبه للإطمئنان علي أنه مُستمرّ علي ذلك .. " وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. " أي هذه هي طريقة الله تعالي مع كل الناس السابقين منذ آدم عليه السلام ، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم ، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات ، وهو يُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم .. " .. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿3﴾ " أي وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم .. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته ، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته ، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله وإلا تَعِس في الداريْن .. ثم في الآخرة بعد ذلك ، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا ، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقاب ولا يكون لهم أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع !
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت دوْما من الذين يعملون الحسنات لا السَّيِّئات ، أي يعملون كل خيرٍ لا أيّ شرّ ، أي يتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وإذا كنت مُوقِنا أي متأكدا تماما بلا أيّ شكّ أنَّ الله تعالي لا يمكن أبدا أن يُساوي بين مَن يعمل خيرا ومَن يعمل شرا ، لا في دنياه ولا في أخراه ، فمَن يزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً ، أن يحصد كل خير وسعادة ، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءا ، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل للحياة الدنيا وللآخرة والذي نبَّهنا له ربنا تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾
هذا ، ومعني " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا .. " أي هل يظنّ مَن يعملون السيئات ، أي الشرور والمَفاسِد والأضرار ، سواء أكانت هذه الشرور في صورة كفرٍ أيْ تكذيبٍ بوجود الله أم شِرْكٍ أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقٍ أي إظهار للخير وإخفاء للشرّ أم ظلم واعتداء وعدم عدل أم فساد ونشر له أم ما شابه هذا ، هل يتوهَّمون أن يَسبقوا الله تعالي أي كأنهم يهربون منه وهو يطاردهم فيسبقوه في الجري أي يفلتوا من عقابه ؟!! كلا بالقطع !! إنهم " .. سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿4﴾ " أي ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه ، ما أسوأ هذا الظنّ والتّوهُّم ، ما أسوأ هذا القرار والتفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس ! أنهم يُمكنهم الهروب من عقاب الله أو أنه عاجز غير قادر عليه أو هو غير موجود أصلا كما يفتري البعض أو نحو هذا من الحكم السيء علي ما يدور حولهم من أمور !! .. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما ، بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم ، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم
مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما مِمَّن يرجون بكل صدقٍ لقاء الله ، أي يتمنّون ويرغبون ويتشوَّقون ويُحبون ويأملون ويستبشرون ويسعون لحُسْن لقاء خالقهم ورازقهم ومُرَبِّيهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم ، أي يتمنّون سرعة مجيء الآخرة ويوم القيامة للقائه المُنْتَظَر لينالوا أعلي درجات جناته التي وعدهم بها وليحصلوا علي ثواب أعمالهم الحَسَنَة .. إنَّ مثل هؤلاء المُشتاقين المُحِبِّين الراغبين الصادقين الحريصين علي هذا اللقاء ، يتّخذون ما أمكنهم من أسبابٍ لإحسان التجهيز له ليكون لقاءً سعيدا آمِنا لهم ، ولذا فهم دوْما يتمسّكون ما استطاعوا بكل أخلاق إسلامهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿75﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وهم يُحسنون علي الدوام طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وهم يستعدّون دائما للموت وهم علي الإسلام وعلي كلّ خير .. إنَّ كلّ مَن يفعل ذلك وهو مُخلِص مُحْسِن (برجاءمراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ فَلْيَستَبْشِر ولْيَطمَئنّ ولْيَسْعَد بأنَّ أجل الله أي التوقيت المُقَدَّر لهذا وهو يوم القيامة والذي يبدأ بالموت لابُدَّ سيأتي ، وكل ما هو آتٍ يوما ما فهو حتما قريب حتي لو تَوَهَّم البعض أنه بعيد ، ووَعْد الله لا يمكن أن يُخْلَف مُطْلَقاً .. " .. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿5﴾ " أي هو سبحانه يسمع تماما رجاء الراجين ودعاءهم وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بأقوالهم وأفعالهم وبصِدْق الصادقين منهم وسيُحسن لقاءهم ومقابلتهم بكلّ خيرٍ وكرمٍ وفضلٍ ونصرٍ وبكل ما يُسعدهم تماما ، في دنياهم أولا ، ثم بما هو حتما أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراهم
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله ، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك ، والجهاد عموما هو بذل الجهد ، وفي سبيل الله يعني في كل خير ، والجهاد صور ودرجات ، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته ، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاءمراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ .. " أي مَن يبذل أيّ جهدٍ في أيّ خيرٍ بنوايا حسنة بداخل عقله أنه يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) فإنَّ فوائد ذلك كله وسعاداته حتما ستعود عليه هو أولا ، ثم علي مَن حوله ، حيث سيَحيا في كل خيرٍ وسعادة ، لأنَّ مَن يزرع خيرا لابُدَّ قطعا يحصد خيرا في الداريْن ، كما وَعَدَ بذلك سبحانه ووعْده لا يُخْلَف مُطْلَقا : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. " .. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ أي لن ينتفع الله تعالي ممَّن يفعل ذلك بأيّ شيء ، لأنه لا يحتاج لأيّ شيء ، لأنه في غني تامّ عن العالمين ، لأنه مالك الملك كله ، وما مع الناس مِن أملاكٍ فهي جزء لا يُذكَر من ملكه سبحانه ، كما أنه لن يُضَرّ بالقطع بمَن لم يفعل أيّ خير وفعَل كل شر ! وإنما الضرر كله علي فاعله أولا ثم قد يمتد أثره لغيره فتكون تمام التعاسة في الدنيا والآخرة
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاءمراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) أي مُصَدِّقا بوجود الله وبجنته وناره وحسابه وعقابه في الآخرة يوم القيامة حين يَبعث الناس إليه بعد موتهم .. وإذا كنت دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. لأنَّ نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة والتي وَعَدَ بها الله تعالي في الآخرة ووعْده لا يُخْلَف مُطْلَقا بل وأقسم علي تحقيقها ، هي تكفير ما عملته مِن أيّ سيئات أيْ شرور ومفاسد وأضرار أيْ سترها ومحوها وإزالتها ، مع جزائك علي أعمالك الصالحة أي الخيريّة المُفيدة المُسْعِدَة بجزاءٍ أحسن من الذي عملته أي بأفضل كثيرا وكثيرا منه ، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف جزاء الأعمال الحسنة أضعافا مُضَاعَفة ، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها ، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم ! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع ، سبحانه الوهّاب الرزّاق الذي يرزق بغير حساب .. وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية للذين آمنوا وعملوا الصالحات كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق : " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ﴿النحل : 97﴾ (برجاءمراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُحْسِنا إلي والديك ، وإلي جميع الناس ، بل وإلي جميع المخلوقات .. والإحسان هو تمام الإتقان لكل أقوالك وأعمالك بحيث تكون دائما حَسَنَة علي أكمل وجه مُمكِن يحبه الله ورسوله ﷺ والإسلام ، كما يُفهَم من قوله ﷺ عن الإحسان في الحديث المعروف : " .. أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. " ﴿جزء من حديث أخرجه مسلم﴾ فاستشعار هذا بالعقل سيَدْفَع كل عاقل حتما لإجادة ما يقوم به تمام الجودة ، فيَسعد الجميع بذلك في الداريْن .. والعكس صحيح بالتأكيد ، فعدم الإحسان يُتعسهم فيهما .. وبالجملة فالإحسان هو حُسْن الخُلُق ، هو التمسُّك بكل أخلاق الإسلام وإتقانها .. والإحسان للوالدين يكون بكل قولٍ طيّبٍ وفعلٍ جميلٍ ، والسؤال عنهما وعونهما وخدمتهما والإنفاق عليهما عند الحاجة ، وكل ذلك حسب الاستطاعة ، وإرضائهما ما أمكن بفعل ما يريدون ، إلا إذا كان طلبهما في غير معروفٍ ، أي في غير خيرٍ ، أي في شرٍّ أو سوء ، كالشرك بالله مثلا أي عبادة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، أو كالزواج مثلا مِمَّن لا يرغب الإبن أو تعلّم علم ما لا يريده أو ماشابه هذا مِمَّا قد يفعله أحيانا بعض الآباء استغلالا سَيّئا لِمَا أعطاهما الإسلام من مَكانة وتشريف واستبدادا بآرائهما علي أبنائهما ، فهنا يكون الاعتذار بأدبٍ ولُطْفٍ وتوضيح أنَّ الإسلام كما أعطي لهما فضلا وعُلُوَّا أعطي أيضا للأبناء بل لكل إنسان حرية اختيار اتجاه حياته والتصرُّف فيها .. ولا تنس الاستغفار سريعا مِن أيّ هفوة مُسيئة قد تظهر منك نحوهما والعودة بسرعة للإحسان .. وهما أيضا يستغفران الله إذا نسيا برَّ أبنائهما .. ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
هذا ومعني : " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا .. " أي ألزمناه وحمَّلناه أمانة وعَهْد وَوَصِيَّة الحُسْن مع الوالدين ، والحُسْن هو أصل ومصدر الإحسان ، أي المطلوب قِمَّة الإتقان والجمال في أيّ قولٍ أو عملٍ عند التعامُل معهما ، لأنهما سببا وجوده بإذن الله وقد بذلا ما استطاعا من إنفاقٍ وإشفاقٍ وحبٍّ لحُسْن رعايته وتربيته .. " .. وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا .. " أي لكنْ إنْ بَذلا ما استطاعا مِن جهودٍ لِدَفعك لفِعْل شرٍّ ما مُضِرٌّ مُتْعِس في الداريْن ، فحينها بالقطع لا تُطعهما ، بل انصحهما بكل خيرٍ ، وبكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة لعموم الناس بمن فيهم الوالدين وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، كأنْ تُشرك بالله مثلا أي تعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، تشرك به شيئا ليس لك به علم ، أي ليس عندك ولا عند أيّ أحدٍ أيّ دليل عِلميّ عقليّ مَنطقيّ مَقبول علي كونه إله يُعبَد غير الله !! ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني العبادة برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿8﴾ " أي الجميع سيرجع إليه سبحانه يوم القيامة ، الآباء والأبناء ، المؤمنون والمشركون وغيرهم ، وهو تعالي عليم خبير بهم جميعا وبما عملوه ، وسيُخبرهم به بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة ، فمَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه ، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاءمراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) أي مُصَدِّقا بوجود الله وبجنته وناره وحسابه وعقابه في الآخرة يوم القيامة حين يَبعث الناس إليه بعد موتهم .. وإذا كنت دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ حريصا دوْما علي دعوة الآخرين لهذا الذي أنت فيه من الإيمان بربّك والتمسّك بإسلامك بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة ليسعدوا مثل سعادتك في الداريْن (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ حريصا أشدّ الحِرْص علي الاستمرار علي ذلك .. فإنْ فعلتَ كلّ هذا ، فأبْشِر واطمئنّ واسْعَد أنَّ الله قد وَعَدَ ووعْده لا يُخْلَف مُطْلَقا بل وأكثر من ذلك فقد أقسمَ سبحانه للمزيد من التأكيد أنَّ مَن يفعل ذلك سيُدخِله في الصالحين ، أي سيَجعله في دنياه منهم ، مِن زُمراتهم ومجموعاتهم وتعدادهم ، من الراسخين في الصلاح المُستمرِّين فيه الهُداة الدعاة له الذين يُشْبِهون الرسل الكرام في مكانتهم ورفعتهم وعِزَّتهم .. ثم في أخراهم سيُحشَرون أيضا معهم في أعلي درجات الجنات مع النبيّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن أبدا مثل بعض الناس غير المُستقِرِّين علي الإيمان بالله والتمسك بالإسلام والذين بمجرّد أن يُؤذوا بأيّ أذي بسبب إسلامهم كسَبٍّ مثلا أو استهزاء أو ضرب أو سجن أو تضييق ماليّ أو ما شابه هذا فإنهم يُسيئون التقدير والتفكير ويُساوون بين هذا العذاب الدنيويّ ممَّن حولهم - والذين يريدون إبعادهم عن ربهم وإسلامهم ليظلوا عبيدا لهم وينهبون جهودهم وخيراتهم وثرواتهم - وعذاب الله في الآخرة للكافرين به الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار ، وهو العذاب في النار والذي لا يُمكن أبدا تخيّله ولا تحمّله ولا الهروب منه والذي هو متنوّع وخالد وهائل وعظيم ، بينما عذاب الدنيا يُمكن تحمّله أو مقاومته أو الفرار منه أو التغلّب عليه بقوة الله أوغير ذلك من الاحتمالات ، فلا مُقارَنَة إذن بين العذابيْن !
إنّ من أسباب عدم الاستقرار علي الإيمان بالله والتمسك بالإسلام عند مثل هؤلاء ، عدم الاقتناع بصلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية بكل متغيِّراتها تمام السعادة حتي يوم القيامة ، أو مِن أجل مُجَارَاة الآخرين حتي لا يُخالفوهم فيخسروا صحبتهم وفوائدها ، أو لكوْنهم اتّبعوا الإسلام كعادة من العادات وتقليد من التقاليد الموروثة عن الآباء والأجداد والأوطان ، أو كوْنهم منافقين يُظهرون الخير ويُخفون الشرّ (برجاءمراجعة مزيدٍ من الشرح والتفصيل عن تعاسات النفاق في الداريْن في الآيات ﴿8﴾ ، ﴿9﴾ ، ﴿10﴾ من سورة البقرة﴾ ، وكل ذلك وما يُشبهه من أسباب عدم الاستقرار علي الإسلام يكون بسبب خوفٍ من شيءٍ ما أو من أجل تحقيق ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
فإيّاك ثم إياك أن تكون مثل هؤلاء فترتدّ عن إسلامك وأخلاقه وأنظمته أو حتي مجرّد تفكّر في ذلك ولو للحظة بعدما ذقت سعاداته (برجاءمراجعة الآية ﴿217﴾ من سورة البقرة ، والآية ﴿54﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿86﴾ حتي ﴿91﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الرِّدَّة عن الإسلام وتعاساتها في الداريْن﴾ ، وإلا تعِستَ تمام التعاسة في دنياك وأخراك مثلهم .. إلا إذا ُأكْرِهْتَ – أي ُأجبرت – إكراها شديدا ، كالتهديد بقتلٍ أو تعذيبٍ شديدٍ أو سجنٍ شديدٍ أو ما شابه هذا ، علي أن تنطق بكلمةِ كفرٍ أو نحوها ، فلا شيء عليك إن نطقت بها ما دُمتَ داخل عقلك مسلما تمام الإسلام متمسكا به وبربك تمام التمسّك وتعود للعمل بأخلاقه بمجرّد انتهاء التهديد ، مع مراعاة أنَّ أحوال النطق بالكفر تقديريَّة تختلف مِن شخصٍ لآخر ومن موقف لآخر ومن تهديد لآخر ، لكن مَن صَبَرَ علي التهديد وتنفيذه بالإيذاء الفعليّ ولم يستجب فله بالقطع أجره العظيم في الدنيا والآخرة (برجاءمراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن .. ثم مراجعة الآيات ﴿106﴾ حتي ﴿109﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن الإكراه علي الكفر﴾
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاءمراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) ، وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه أحد (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت متمسكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبار أو ضرر ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاءمراجعة مرة أخري الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ .. " أي بعض الناس يَنطق بالإيمان بالله وُيظهِر بعض أخلاق الإسلام ولكنه داخليا بداخل عقله غير مُستَقِرٍّ مَهزوز غير مقتنع ، فإيمانه مجرّد مُجَاراة للآخرين حتي لا يُخالفهم فيَخسر صحبتهم وبعض منافعهم أو هو عادة وتقليد وميراث ورثه من أهله ووطنه أو هو نفاق بإظهار الخير وإخفاء الشرّ أو هو خوف من ضررٍ ما أو لتحقيق ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة أو ما شابه هذا من أنواع الإيمان السَّطْحِيّ غير المُستقِرّ غير المُتَجَذِر .. " .. فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ .. " أي مثل هذا الصنف من المؤمنين المهزوزين ، بمجرّد أن يُؤذَيَ في الله أي من أجل الله وبسبب إيمانه به وتمسكه بأخلاق إسلامه ، يُؤذَيَ مثلا بسَبٍّ أو استهزاءٍ أو ضربٍ أو سجنٍ أو تضييقٍ ماليّ أو نحو هذا ، فإنه يُسِيء التقدير والتفكير ويُساوِي بين فتنة الناس حوله أي اختبارهم الذي وضعوه فيه أي عذابهم له من أجل إبعاده عن ربه وإسلامه ليظل عبدا لهم وينهبون جهوده وخيراته وثرواته ، يُساويه بعذاب الله في الآخرة للكافرين به الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ! وهو العذاب في النار والذي لا يُمكن أبدا تخيّله ولا تحمّله ولا الهروب منه والذي هو مُتنوّع وخالد وهائل وعظيم ، بينما عذاب الدنيا يمكن تحمّله أو مقاومته أو الفرار منه أو التغلّب عليه بقوة الله أوغير ذلك من الاحتمالات ، فلا مُقَارَنَة إذن بين العذابيْن ! (برجاءأيضا مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة الحج " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿11﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ .. " أي حينما يُحقّق الله النصر والعِزَّة والكرامة والمَكانة والمُلك والثروات والخيرات للمسلمين – حينما يُحسنون اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لذلك فيٌعينهم حينها عليها ويُيَسِّر لهم أسبابها – يعود إليهم بكل خِسَّة ويقول بكل كذب وتَبَجُّحٍ مُتَوَهِّمَا أنه يخدعهم أني كنت من الصابرين الثابتين وكنت دائما معكم في إيمانكم وإسلامكم وإعدادكم لهذا النصر فأعطوني إذن مِمَّا أعطاكم الله !! (برجاءأيضا مراجعة الآية ﴿141﴾ من سورة النساء " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ .. " ، ثم الآية ﴿52﴾ من سورة المائدة " .. فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴿52﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾ " أي ألا يعلم هؤلاء أنَّ الله لا يحتاج إلي مثل هذه الادِّعاءات الكاذبة والمُرَاوَغات منهم لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه هم عن ذواتهم ؟!! ويعلم تماما ما يقولونه ويقصدونه بداخل عقولهم ويفعلونه من خيرٍ أو شرٍّ سواء في الظاهر أمام الآخرين أم بمفردهم ؟!!
أما معني " وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴿11﴾ أي و بمِثل هذه الفِتن أي بهذه الابتلاءات أي الاختبارات سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم - في الدنيا أولا – المؤمنين أي المُصَدِّقين بوجود ربهم المتمسّكين بأخلاق إسلامهم المُخلصين المُحسِنين في ذلك (برجاءمراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان﴾ ، والمنافقين أي الذين يُظهرون الخير ويخفون الشرّ ، فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم ، فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم .. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته ، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته ، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظهر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله وإلا تَعِس في الداريْن .. ثم في الآخرة بعد ذلك ، بعد هذه الاختبارات الكاشِفَة في الدنيا ، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم حينها أي اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع ! وفي هذا ترهيب من العذاب للمؤمنين المَهزوزين غير المُسْتَقِرِّين علي الإيمان وترغيب لهم في الثواب لعلهم يَستفيقون فيَستَقِرُّون علي إيمانهم بربهم وإسلامهم ويَتَثَبَّتون في ذلك فيَسعدون في دنياهم وأخراهم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿12﴾ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاءمراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه أحد (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت متمسكا بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مُوقِنا أي مُتأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لما فعلت ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكِّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا سيَدْفَع حتما كل عاقل لأن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خير وترك كل شرّ وبأن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أي يقول الذين كفروا للذين آمنوا من أجل محاولة خداعهم وإغرائهم أنهم إذا اتَّبَعوا سبيلهم ، أي طريقهم ، أي طريق المَفاسِد والشرور والأضرار والتعاسات ! أي يعبدوا آلهتهم التي يعبدونها غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ، فإنهم يعدونهم وَعْدا مُؤكَّدا أنهم لو كان هناك ما يُسَمَّي بيوم القيامة كما يُقال وكان هناك حساب وعقاب وجنة ونار فنحن سنتحمَّل عنكم خطايكم أي أخطاءكم !! وما أشدّ سَفَه وضعف وتخريف تفكيرهم !! إنه لن يتحمَّل أحدٌ عن أحدٍ شيئا ، فكلٌّ سيتحَمَّل نتيجة عمله ، إنْ خيرا فله كل الخير وإن شرّا فله شرّ يُناسبه ، فهذا هو تمام العدل ، إنهم يتوهَّمون أنهم في الآخرة سيكون لهم مَكَانَة كما لهم في الدنيا تُمكّنهم من التوسُّط والشفاعة لمَن يُعَذّبون !! ولا يدرون أنهم هم الذين سيكونون في أذلّ وأهون مكانة وأعظم عذاب !! وذلك لأنهم عطلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل هذه العقول (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. إنهم بكل تأكيد كاذبون في كل ادِّعاءاتهم هذه بكل أشكالها وصورها ، ولن يستطيعوا حَمْل أيّ ذنبٍ عن أيّ أحد ، بل لن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم أصلا ! .. " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿13﴾ " أي سيَحملون حتما أحمالا ثقيلة هي ذنوبهم التي فعلوها بل وذنوب الذين كانوا هم سببا في إبعادهم عن ربهم ودينهم ، سواء أكانت هذه الذنوب أيْ هذه الشرور في صورة كفرٍ أي تكذيبٍ بوجود الله أم شِرْكٍ أي عبادة غيره أم نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أم اعتداءٍ وعدم عدلٍ أم فسادٍ ونشرٍ للشرّ أم ما شابه هذا .. إنهم قطعا سيُسْأَلون يوم القيامة عن كل هذه الافتراءات أي كل هذه الأكاذيب المُخْتَلَقَة التي ليس لها أيّ أصل ، وسيُحَاسَبون عليها وعلي كل شرورهم ومَفَاسِدهم وأضرارهم ، وسيُعَذبون في نار جهنم علي قدْرها وبما يُناسبها بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿14﴾ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿15﴾ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿16﴾ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿17﴾ وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿18﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿19﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿20﴾ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴿21﴾ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿22﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿23﴾ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿25﴾ ۞ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿26﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿27﴾ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿29﴾ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴿30﴾ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿31﴾ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿32﴾ وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿33﴾ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿34﴾ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿35﴾ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿36﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿37﴾ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿38﴾ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴿39﴾ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿40﴾ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿41﴾ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿42﴾ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴿43﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاءمراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تسلية وطمأنة وتبشير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحق والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاءمراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وعاد وثمود وشعيب وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاءمراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود والمؤمنون وإبراهيم وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا .. " أي أرسله الله تعالي الخالق الكريم كرسولٍ منه للناس حوله وأوْحَيَ إليه بالإسلام لكي يدعوهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة لعبادة الله وحده ولا يشركون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره وأن يتمسكوا بأخلاق دينه الإسلام ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، فظل وبقيَ بينهم علي ذلك يدعوهم بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُسْتَطَاعَة المُناسِبة لمدة تسعمائة وخمسين عاما لا يملّ ولا ينقطع بما يدلّ علي عظيم صبره وحرصه الشديد عليهم وعلي إسعادهم والحب لهم والشفقة عليهم أن يصيبهم ما يُتعسهم أو يُعذبهم أو يُهلكهم لو ابتعدوا عن الله والإسلام .. " .. فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿14﴾ " أي رغم كل هذه المدة وكل هذا التنوُّع في أساليب الدعوة ورغم كل هذا الصبر عليهم لفترة هائلة لكي يستفيقوا ، لم يستجيبوا واستمرّوا علي إصرارهم الشديد علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم دون أيّ خطوة نحو أيّ خير ، فكان لابُدَّ إذن من إهلاكهم وإراحة الأرض والمؤمنين مِن شرورهم ومَفَاسِدهم وأضرارهم لينشأ جيل جديد يؤمن بالله ويعمل بأخلاق الإسلام ليسعد في دنياه وأخراه ، فأخذهم الطوفان أي ما يطوف بالشيء بصورة شديدة والمقصود الماء الغزير المُهْلِك الذي خرج من الأرض ونزل من السماء وغمَرهم من كل مكان فأهلكهم (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. لقد استحقوا هذا النوع من العذاب لأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم ولمَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم ، وقد ُأهلكوا وهم كانوا مستمرّين علي ظلمهم ، أي علي كفرهم أي تكذيبهم بوجود الله ، وعلي شركهم أي عبادتهم آلهة غيره تعالي كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ، إضافة بالقطع إلي ظلمٍ أقل من ذلك يَنتج عن هذا الكفر وهذا الشرك كفعل الشرور والمَفاسد والأضرار بأنواعها المختلفة
ومعني " فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿15﴾ " أي أنجاه الله تعالي هو وأصحاب السفينة أي مُلاّكها لأن نوحا ما صنعها إلا لهم بوَحْي ٍوتعليم منه سبحانه فهم مَن يملكها ، وهم المؤمنون بالله أي المُصَدِّقون به المتمسكون بدينه الإسلام .. وقد جعل الله أحداث قصة السفينة هذه عِبْرة ودرسا لكل الناس حتي يتذكّروها إلي يوم القيامة لمَن أراد الاعتبار والاستفادة ممَّا فيها من دروس عن كيفية الصبر علي الدعوة لله وللإسلام وتنويعها وأنه مهما طال الزمن فإنَّ أهل الحق والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتخاذ كل الأسباب المُمكِنة والمُتاحَة والمُستَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابد حتما سينهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاءمراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أما معني " وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ .. " أي واذكر يا محمد ﷺ ويا كل قاريءٍ للقرآن إبراهيم عليه السلام واسْتَفِد من قصته حين قال لقومه طالبا منهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأن يكونوا مُخلصين مُحسِنين في ذلك (برجاءمراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ ، وأن يتّقوه سبحانه أي يتجنّبوا كل شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبه وعونه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلوا أبدا لمرحلة إغضابه بل يسارعون لفِعْل كل خير يُسعدهم ومَن حولهم .. " .. ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ .. " أي إن فعلتم ذلك فسيكون لكم حتما تمام كلّ خيرٍ وسعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿16﴾ " أي إن كنتم تعقلون أي إن كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
ومعني " إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا .. " أي إنكم ما تعبدون آلهة غير الله تعالي إلا أوثانا أي أصناما ليس لها أيّ صفةٍ من صفات الآلهة فهي لا تنفع ولا تضرّ بأيّ شيءٍ بل أنتم أقوي منها فكيف يكون العابد أقوي من المعبود ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! .. وتخلقون إفكا أي تقولون وتكذبون كذبا ، وتصنعون أصناما وتدَّعون كذبا أنها آلهة تضرّ وتنفع وترزق وتُعين وتُحي وتُميت ! .. " إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا .. " أي هذه الآلهة التي تعبدونها غير الله تعالي - كما ترون واقعيا أمامكم - هي أضعف منكم ولا تستطيع أبدا رزقكم بأي نوع من أنواع الرزق ، فكيف تعبدونها ؟! كيف تطيعونها ؟! وإلي أي شيء تدعوكم لتعملوا به هل إلي خيرٍ أم إلي شرّ ؟! وهل يمكنها منع أيّ ضرر عنكم إذا كانت هي أصلا لا يمكنها بأيّ حالٍ الدفاع حتي عن ذاتها ضدّ أيّ اعتداء ؟! أين عقولكم ؟! أين العدل والإنصاف ؟! ألا تستمعون إلي نداء الفطرة بداخلكم والتي هي مسلمة أصلا وتدعوكم إلي عبادة الله وحده (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " .. فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ .. " أي فاطلبوا عند الله الرزق فهو خالقكم ومالك الملك كله وهو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وما شابه ذلك ولو منع شيئا منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها ، ولذا فهو وحده المستحِقّ للعبادة وللشكر علي نِعَمه التي لا يُمكن حصرها ، تشكروه بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أي شرٍّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم .. " .. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿17﴾ " أي سترجعون إليه وحده لا إلي غيره بعد موتكم ، ويوم القيامة ، وستُحاسَبون علي كل أقوالكم وأفعالكم إن خيرا فلكم كل خيرٍ وسعادة في أعلي درجات الجنات وإن شرا فلكم كل شرٍّ وتعاسة في أعماق النيران علي قدْر شروركم ومَفاسِدكم وأضراركم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿18﴾ " أي إن صدَّقتموني وآمنتم بربكم وتمسّكتم بإسلامكم فقد سعدتم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، وإن كذبتم بذلك فتذكّروا الأمم السابقة التي كذبت فتَعِست تمام التعاسة فيهما ، وما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين ، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه ، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وليتحمَّل المُكذبون إذن نتيجة تكذيبهم ، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم ، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم ، ولا يتأثروا بهم ، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم ، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أما معني " أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿19﴾ " أي كيف يُكذب مَن يُكذب بوجود الله تعالي ، وبصلاحية شرعه الذي أرسله للبَشَر وهو الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم ، وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة ؟! ألم ينظروا حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يبدأ خَلْقا ما في كل لحظة سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي ؟! إنَّ هذا الاستفهام هو لوْم شديد لمثل هؤلاء علي تعطيلهم لعقولهم وعدم استجابتهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربه ولدينهم ليسعدوا في الداريْن .. ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز !! إذن فهو وحده الخالق !! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة ؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
ومعني " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿20﴾ " أي تَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطعتم وتدبَّروا في كل مخلوقات الله في الكوْن .. ففي هذه الآية الكريمة توسيع لدائرة التدبُّر ، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم كما في الآية السابقة ﴿19﴾ لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته ، لكنهم سيستشعرون قيمة خَلْقٍ آخر حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه ، كما أنَّ الآية السابقة تَلْفِت النظر أكثر إلي التدبُّر في مادة الخَلْق وأصلها وكيفية إنشائها أي إيجادها من عدمٍ بينما هذه الآية تُرَكِّز أكثر علي النظر والتعمُّق في أطوار الخَلْق واختلاف صوره وأشكاله وتطوّراته وتصرّفاته ونحو ذلك .. إنَّ هذا ولا شكّ يُعين بصورةٍ أقوي علي تحريك العقل وتدبُّره أكثر فيَسهل الوصول للحقيقة الأصيلة والموجودة في الفطرة والتي هي مسلمة أصلا ، وهي حقيقة حَتمِيَّة وجود الله تعالي الخالق الكريم (برجاءمراجعة الشرح والتفصيل عن معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف﴾ وحتميَّة قدرته التامَّة سبحانه علي النشأة الآخرة للبَشَر أي الإنشاء الآخر أي إعادة الإيجاد لِمَرَّة أخري ثانية في الحياة الآخرة يوم القيامة ، ولا شكّ أنَّ بَعْث الخَلْق مرة ثانية أي إعادة إحيائه بروحه وجسده هو أيْسَر من المرّة الأولي حيث أصبح الأمر معروفا مُكَّرَرَاً وموادّه الخامّ موجودة متوفرة بينما الخِلْقة الأولي كانت من عدمٍ ولم يكن لها مثيل سابق ، فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. إنه تعالي قطعا قادِر علي كلّ شيءٍ ولا يمنعه أيّ شيءٍ عن خَلْق أيّ شيءٍ في كلّ لحظة ثم إعادته حينما يشاء ، فكل ذلك عليه يسير ، ولا يحتاج إلا فقط لقول كُن ، فيكون كما يريد !
إنه في يوم القيامة سيكون الحساب الختامِيّ لأفعال البشر وأقوالهم حيث الجنة بدرجاتها وتمام خيراتها وسعادتها لمَن أحسن والنار بدرجاتها وتمام عذاباتها وتعاساتها لمَن أساء ، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، وهذا هو معني " يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴿21﴾ " أي يكون هذا الحساب عندما تُقْلَبون أي ترجعون إليه وحده لا إلي غيره ، فانتبهوا لذلك وتذكّروه دائما وأحسنوا الاستعداد له بإحسان طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وقد بدأ هنا في هذه الآية الكريمة بذِكْر العذاب قبل الرحمة لأنَّ الحديث هو عن المُكذبين والمُعانِدين وأحوالهم فمِن المناسب تذكرتهم بعذابهم لو استمرّوا علي ما هم فيه وأصرّوا عليه ، لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم وإسلامهم ، للخير والسعادة في الداريْن ، ومع ذلك فهو أيضا يُذكّرهم – والجميع بالقطع – برحمته سبحانه التي وَسِعَت كل شيء والتي هي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه ليشجّعهم علي العودة من الشرور أيَّاً كان نوعها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام ، ويشاء نَيْل رحمة الله ، أي سعادته التامَّة في دنياه وأخراه ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه ، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها ، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن ، والعكس صحيح تماما ، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة ، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فيكفر بربه ويترك إسلامه ، لم يشأها الله له أي لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يوفقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها ، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألا ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره وأضراره ومفاسده (برجاءمراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
أما معني " وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿22﴾ " أي ليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا ، أم حتي مؤمنا ، أم أيّ مخلوق ، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه ! فهو مُلكه ! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه ! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا ، كل الخلق في الأرض ، وكل الخلق في السماء ، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا ! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك ! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه ! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء ! .. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ – هي أنّه ليس لكم غير الله تعالي وَلِيَّا ، أيْ وليّا لأموركم يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياكم وأخراكم (برجاءمراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وإن اتخذتم غيره وليّا فلكم تمام التعاسة فيهما (برجاءمراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وكذلك ليس لكم أيّ نصيرٍ ينصركم ويعزّكم ويرفعكم إذا ابتعدتم عنه ولجأتم لغيره ، ستنهزمون في الدنيا ، ثم في الآخرة لن ينصركم أيْ ينقذكم أيّ أحدٍ مِن عذابه لمَن يستحقّه منكم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾ ، فمَن يريد إذن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد ، في دنياه وأخراه ، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه
ومعني " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿23﴾ " أي مَن كفرَ أي لم يُصَدِّق بآيات الله سواء في القرآن الكريم أم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة في كل كوْنه ، وكفرَ بلقائه في الآخرة أي كفرَ بالبَعْث أي إحياء الموتي بأجسادهم وأرواحهم بعد موتهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لما فعلوا ، وكفر بالجنة والنار والثواب والعقاب ، فمِثْل هذا الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الكُفْر ، قد افتقد أيّ أمل في رحمة الله ، أي ليس له أي نصيب فيها ، أي يَئِسَ منها ، افتقدها باختياره ! لأنه لم يحبها ولم يحاول أن يفكر فيها وفوائدها وسعاداتها ويتعرَّفَ عليها ويسعي إليها بأن يُحْسِن استخدام عقله بل كفر أي غَطّي نداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا ولم يستجب له (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وكان يُكَذّب ويُعَانِد ويستكبر ويستهزيء ويُراوِغ ويظلم ويرتكب الشرور والمفاسد والأضرار ، وما كل ذلك إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، لأنه كان يتوهَّم ألاَّ حساب في حياة آخرة لكنها حياته الدنيا وفقط ! لقد قطعَ باختياره كل تواصُل بينه وبين خالقه الكريم الرحيم المُعين الرزّاق الوهّاب ! حيث لم يؤمن به ولم يتَّبِع دينه الإسلام .. " وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿23﴾ " أي سيكون لمِثل هؤلاء حتما عذاب أليم أي مُؤلِم مُوجِع في دنياهم وأخراهم في مُقابِل جرائمهم وعلي قدْرها ، فمَن يزرع سوءا لابُدَّ أن يحصد سوءا فهذا هو القانون الإلهيّ العادل للداريْن والذي نبَّهنا له سبحانه بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ففي الدنيا سيكون لهم درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ ألما وعذابا وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
أما معني " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾ " أي لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم إبراهيم ﷺ ، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة ، فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولة أخيرة للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه ! فقال بعضهم مُشيراً بقتله للتخلّص منه وقال آخرون بالحرق بالنار لكي يُعذّب أكثر ولعله يعود لدينهم فيكونوا بذلك قد كسبوا المعركة معه فلا يفعل أحدٌ مثله مستقبلا ، واستقرّ أمرهم بالفِعْل علي إلقائه في النار ، وهنا بالقطع تتدخل إرادة خالق النار بإلغاء وظيفتها وخاصِّيتها بالحرق فلا تؤذي رسوله ﷺ بأيّ شيء بل تكون عليه بردا وسلاما ويُنجيه سبحانه منها فيخرج بلا أيّ أذيَ .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾ " أي لقد كان في ذلك الذي حَدَثَ ولاشكّ آيات عظيمة أي دلائل علي وجود الله الخالق الكريم القويّ المتين القادر علي كل شيء الذي ينصر دوْما المؤمنين أي المُصَدِّقين به المتمسّكين بأخلاق إسلامه ، حتي ولو اجتمع عليهم كل مَن حولهم ، ما داموا دائما مُتوكّلين علي ربهم مُحْسِنين ما استطاعوا لاتّخاذ أسباب النصر (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون حياتهم ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾ ، وإنْ أصابهم اختبارٌ أو ضررٌ ما صَبَروا عليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخرهم (برجاءمراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾ " أي لا يتنفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا المؤمنون الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة .. بينما المُكَذبون المُعَانِدون المُستَكْبِرون المُصِرُّون علي ما هم فيه لا ينتفعون بها لأنهم قد عطلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي بداخل هذه العقول (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أما معني " وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿25﴾ " أي قال لهم إبراهيم ﷺ – إما قبل إلقائه في النار أو بعد نجاة الله له منها – أنَّ هذه الأوثان أي الأصنام التي جعلتموها آلهة لكم غير الله تعالي ما عبدتموها عن اقتناعٍ بأنها حقا آلهة تنفع وتضرّ وترزق وتُعين وتُحي وتُميت ، لأنكم ترون واقعيا أنها أضعف منكم ! ولكنكم عبدتموها من أجل أن يَتَوَدَّد ويُنافِق ويُسَايِر ولا يُخالِف ولا يُغضِب بعضكم بعضا بهذه العبادة ومن أجل أن تنتفعوا مِن ورائها ثمناً ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نحوه ، لكن كل هذا وغيره مدته فقط في الحياة الدنيا وينتهي بموت كل منكم ، ثم يوم القيامة سيَنكشف هذا الحُبّ الزائف المُضِرّ المُنافِق وسيَتبرّأ ويَتخلّص ويَبتعد ويُكَذِب ويَسُبّ بعضكم بعضا ، بل وستَدْعُون علي أنفسكم باللعنة أي الإبعاد عن كلّ خيرٍ ورحمة ، ولن يكون لكم يومها حتما أيّ مأوي ومصير ومستقرّ إلا النار تنالون فيها ما تستحقّون من عذاب الله ، ولن يكون لكم هناك حينها أيّ ناصر ينصركم أيْ ينقذكم منها كما كنتم تتناصرون في الدنيا ، فاستفيقوا قبل فوات الأوان ، وعودوا لربكم ودينه الإسلام لتسعدوا في الداريْن
أما معني " فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿26﴾ " أي لم يُؤمِن له ، أي لسيدنا إبراهيم ﷺ ، مِن قومه حوله إلا لوط ﷺ ، وكان ابن أخيه ، بينما كل الآخرين ظلوا مُصِرِّين تمام الإصرار علي كفرهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ، وقد ظهر ذلك واضحا في محاولة قتله بالحرق بالنار للتخلّص منه وحتي بعد حدوث الآيات العظمي بنجاة الله له وعدم مَقدرتهم مُجتمعين علي قتله لم يؤمنوا وأصرّوا علي ما هم فيه ، ولذلك فلم يَعُد للبقاء بينهم ودعوتهم للخير فائدة ، فليكن إذن الابتعاد عنهم إلي مكان آخر لدعوة آخرين لله وللإسلام يكونون أفضل منهم ويستجيبون بإذن الله ، كما أنَّ تركهم قد يكون أسلوبا ناجحا أحيانا حين يفتقدون أيّ تذكرةٍ بالخير لعلّ ذلك قد يُوقِظ بعضهم ! (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. ولذلك قررا ، إبراهيم ولوط ، الهجرة " .. وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي .. " أي قال إبراهيم ، أو لوط ، أو كلاهما ، إني سأهاجر إلي حيث يُوجّهني ربي واستجابة ًإلي طلبه ، إلي حيث يُمْكِنني عبادة ربي وحده لأسعدَ بذلك ، إلي حيث يُمْكِنني دعوة مَن حولي له ولدينه الإسلام لأبَلّغ رسالته للبَشَر ليَسعدوا مثلي في دنياهم وأخراهم ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله ، برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة﴾ .. " .. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿26﴾ " أي هو الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالك الملك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو الحكيم الذي يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث
أما معني " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿27﴾ " أي عَوَّضه ربه الكريم الوهَّاب عن صبره وتحمّله الأذي من أجله بسبب الإيمان به وتوصيله أمانته ودينه الإسلام للآخرين وثباته وصموده علي ذلك دون أيّ ترَاجُع حتي حين ُألقي في النار ، مع حُسن استخدامه لعقله والوصول لمعرفة ربه والاستجابة لنداء الفطرة بداخل العقل والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، ودعوته لمَن حوله بكل قدوةٍ وحِكمةٍ وموعظةٍ حسنة وبما يُناسبهم لِيُحسنوا استخدام عقولهم ولِيَستجيبوا لفطرتهم هم أيضا ليَعرفوا ربهم وليَرتبطوا بدينه الإسلام ليَسعدوا في الداريْن .. عَوَّضه الله تعالي في مُقابِل كل ذلك ما هو أعظم منه وبما يُناسِب كرمه وفضله سبحانه وبما يُنْسِيه كل أذيَ وأسيَ ، فأعطاه ابنه اسحق – بعد إسماعيل – وأعطي اسحق يعقوب وجعل الأنبياء كلهم مِن هذه الذرِّيَّة الصالحة وأوْحَيَ إليهم كل الكتب التي تحمل الإسلام ليكونوا هم الهُداة لكل البَشَر لربهم ولدينهم ، لكل خيرٍ وسعادة ، ويكون لإبراهيم كلّ هذا الخير في ميزان حسناته يوم القيامة لأنه كان هو السبب فيه .. وليس ذلك التكريم المعنويّ حيث أرفع مَكَانَة لأيّ بَشَر علي وجه الأرض وفقط ، بل أعطاه الله تعالي أيضا أجره في دنياه أي أعطاه كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذرية الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطاه تمام السعادة في الدنيا ، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أي من الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر .. وهذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون حتما نصيب كل مسلم يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم
أما معني " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾ " أي واذكر يا محمد ﷺ ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حدث للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه ، اذكر حين قال رسولنا لوط لقومه ناصحا ولائما لوْما شديدا علي أنهم يأتون أي يفعلون فاحشة أي شرّا فظيعا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً لهم ولغيرهم ما فعلها أيّ أحدٍ من الناس السابقين ولكن فعلوها هم .. ثم وَضَّحَ لهم هذه الفاحشة وغيرها من الشرور قائلا : " أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿29﴾ " أي تشتهون الرجال وتُجَامِعُونهم بدلا من أزواجكم النساء وهو فُحْش لم يفعله أحد قبلكم ، وتقطعون الطرق علي الناس فتؤذونهم بتهديدٍ أوسرقةٍ أواغتصابٍ أو قتلٍ أونحوه ، وفي ناديكم أيْ مكان اجتماعكم ومَجْلسكم تفعلون كل المُنكرات أي الشرور والمَفَاسِد والجرائم .. فما رَدُّوا عليه رَدَّاً مَنْطِقِيَّاً عقليا مُقْنِعَاً كما يُحَدِّثهم هو ﷺ بالعقل والمَنْطِق ، وإنما أجابوا عليه بإجابة فيها استهزاء واستهتار واستكبار وتكذيب وكفر ، حيث طلبوا منه إنزال عذاب الله بهم الذي يعدهم به إن كان صادقا فإن لم ينزل فهو إذن كاذب ، فهم بدلا أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعة لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! لقد كان من المُمكن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِه بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك !! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره .. " قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴿30﴾ " أي بإجابتهم هذه في الآية السابقة تأكّد لوط ﷺ بلا أيّ شكّ مِن إصرارهم علي ما هم فيه ، فلجَأَ – ككلّ مسلم يلجأ إلي ربه عند الشدائد فما بالك بالرسل الكرام – إلي الله تعالي طالبا النصر منه عليهم ، لأنهم فاسدون في أنفسهم مُتْعِسُون لها مُفْسِدون مُتعسون لغيرهم ، وذلك حتي لا ينتشر شرّهم وحتي يرتاح الناس بالتخلّص منهم فتَسعد حياتهم بالخير .. ينصره والمؤمنين به بالأسلوب وفي التوقيت الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاءمراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون حياتهم ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾
أما معني " وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿31﴾ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿32﴾ " أيْ لمَّا حانَ موعد إهلاك قوم لوط ، أرسل سبحانه رسلا من الملائكة لتنفيذ أمر إهلاكهم ، فمَرُّوا أولا علي إبراهيم ﷺ فبَشَّروه بأنه سيُولَد له إسحق ، كما بَشَّروه بأنَّ الله سيَنصر لوطا ﷺ والمؤمنين معه وسيهلك القوم الذين أصرُّوا علي عدم الاستجابة له رغم طول مُدّة نُصْحهم ودعوتهم للخير بوسائل مُتَعَدِّدَة ، لأنهم كانوا ظالمين لذواتهم ولمَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم ثم أخراهم بالكفر وبارتكاب كل أنواع الشرور والمَفاسِد والأضرار .. " قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا .. " أي قال إبراهيم للملائكة ، مُشْفِقاً علي قوم لوط ، وهو المعروف بحِلْمه وطول صبره وشفقته ، لكي يُؤَجِّلوا إهلاكهم كفُرْصَة أخيرة لهم لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، قال لهم ما معناه : إنَّ هذه القرية فيها لوط ، وهو رسول من رسل الله ، فكيف تهلكونها وهو معهم ؟!! .. " قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿32﴾ " أي طَمْأَنوه بأنَّ الله تعالي قد أعلمهم بمَن فيها من المؤمنين أهل الحقّ والخير والكافرين أهل الباطل والشرّ ، وأنهم بالقطع سينجونه من العذاب هو وأهله أي أقاربه والمؤمنين به ، إلا امرأته ستكون من الغابرين أي الباقين في العذاب ، لأنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتكبي الفواحش
ومعني " وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿33﴾ " أيْ لمَّا وَصَلَت الملائكة إلي قرية لوط ودَخَلَت عليه وهي في أبْهَيَ صورة أحَسَّ بالسوء مِن مَجيئهم ، وشعر بقِصَر ذراعه ويده عن حمايتهم فَذَرَعَهُ الضيق أي غَلَبَه بسبب ذلك ، لأنه كان يخاف إن استضافهم مِن اعتداء قومه عليهم وقد اشتهروا بشذوذهم وارتكابهم الفاحشة مع الرجال وإن لم يَستضفهم فسيَحزن لعدم إكرامهم ، فلمَّا لاحَظوا عليه ذلك طَمْأَنوه أنهم ملائكة ورُسُل ربه الذين سيَنصرونه استجابة لدعوته له بهذا ، فلا يَخاف عليهم فلن يستطيع بالقطع أيّ أحدٍ أن يعتدي عليهم ، ولا يَحزن علي هلاك قومه لأنهم مُستَحِقّون لذلك ، وسينجونه هو وأهله أي أقاربه والمؤمنين به ، إلا امرأته كانت من الغابرين أي الباقين في العذاب لأنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتَكِبي الفواحش .. " إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿34﴾ " أي سننزل عليهم بإذن الله وبقدرته عذابا من السماء بسبب أنهم كانوا يفسقون أي يخرجون عن طاعة الله أي عن دينه الإسلام فلا يفعلون الخير بل يفعلون كل شرٍّ ومُصِرُّون علي ذلك تمام الإصرار ، وقد كان العذاب في صورةِ مطرٍ من السماء ليس بماءٍ وإنما بحجارةٍ صلبةٍ شديدةِ الصلابة والسخونة فأهلكتهم جميعا مع الإتيان بأسقف بيوتهم من الأعلي إلي الأسفل علي رؤوسهم لإفنائهم تماما .. " وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿35﴾ " أي تركنا آثار دمارهم وبيوتهم الخَرِبَة لتظلّ آية بَيِّنَة أي علامة ومُعجزة واضحة ودليل ودرس واضح لا ينتفع به إلا أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أي الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حَدَث فيفعلون كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما مثلما حَدَث للذين يفعلون الشرَّ ويُصِرُّون تمام الإصرار عليه ولا يفعلون الخير
أما معني " وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿36﴾ " أي وكما أرسلنا نوحا وإبراهيم إلي قومهما كذلك أرسلنا إلي قبيلة مدين وهي في جنوب الشام أخاهم شعيبا أي رسولنا شعيبا .. والله تعالي يُذَكِّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم ، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه .. ثم بعدها يُوَجِّههم – ككلّ الرسل – لعبادة الله تعالي وحده (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) خاصة بعض الأخلاق التي يتركونها بصورة ظاهرة ، حيث كانوا ينقصون ويُطفّفون حين يكيلون لأحدٍ بضاعة تحتاج لكيْلٍ أو حين يزنون له ما يُوزَن .. مع توصيتهم وتذكرتهم برجاء اليوم الآخر أي حُسْن طَلَبه والاستعداد له أي الإيمان بالبَعْث يوم القيامة وحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاءمراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. مع نُصحهم بتَرْك العَثْو في الأرض وهو الفساد الشديد بكل أنواعه ولا يكونوا مُفسدين أي قاصِدين ساعِين ناشِرين للإفساد ومُستمِرِّين عليه مُتَمَادِين فيه (برجاءمراجعة جوانب وعِبَر ودروس أخري من قصة شعيب ﷺ في سورة الأعراف وهود والشعراء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿37﴾ " أي لم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي مَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم كتطفيف الموازين وغيرها من أنواع الفساد وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، فكان لابُدَّ إذن من أن يَسْرِيَ عليهم ما سَرَيَ علي كل الأمم السابقة التي كذبت رسلها وأصرَّت علي فسادها ، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم ، فأخذتهم أي أهلكتهم وأعدمتهم الرَّجْفَة أي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي باركين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
أما معني " وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿38﴾ " أي واذكر أيضا يا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار حتي يفعل الخير ويترك الشرّ ليَسعد في الداريْن ، اذكر إهلاكنا لعادٍ وهم قوم رسولنا هود وكانوا في جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت ، وإهلاكنا لثمود وهم قوم رسولنا صالح وكانوا عند شمالها قرب الشام ، وذلك لمَّا كذبوا رسلهم وعَبَدوا غير الله وأصرُّوا تمام الإصرار علي شرورهم رغم دعوتهم لفتراتٍ طويلة للإسلام بكل الوسائل المُتَنَوِّعَة المُمْكِنَة ، وقد اتَّضَحَ لكم تماما نتيجة سوء أعمالهم مِمَّا ترونه من آثار مساكنهم المُهَدَّمَة بالعذاب ، حيث رياح شديدة باردة أهلكت عادا وزلزلة هائلة أبادت ثمود .. والسبب في ذلك أنَّ الشيطان ، أي تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم ، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، قد زَيَّنَ أيْ حَسَّنَ لهم هذه الأعمال السيئة (برجاءمراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه﴾ ، واختاروا هم هذا التكذيب وعبادة غير الله تعالي والإصرار علي الشرور والمفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاءمراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ .. " أي بسبب استجابتهم لهذا التزيين بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم كانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أنهم قد تمَّ صَدّهم عن السبيل أي منعهم عن الطريق ، طريق الله والإسلام ، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿38﴾ " أي لم يكونوا حينها فاقدي العقول ! وإنما كانوا أصحاب بَصِيرة يَتبَصَّرون بها الأمور أي أصحاب عقول يتعَقّلون ويَتدبَّرون بها أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، فليس لهم إذن أيّ عذرٍ فيما هم فيه من شرور ! ولكنه تعطيل العقول وعدم الاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة ، ولذا فقد استَحَقوا تماما بلا أيّ ظلمٍ العذاب بالإهلاك (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴿39﴾ " أي واذكر أيضا يا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار حتي يفعل الخير ويترك الشرّ ليَسعد في الداريْن ، اذكر إهلاكنا لقارون صاحب الأموال الطائلة والعلوم الغزيرة وفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلي وهامان أكبر وزائه وأكثرهم عَوْنا له علي ظلمه وفساده ، اذكرهم حين جاءهم موسي بالبَيِّنات أي بكلّ الدلائل والمُعِجزات الواضحات القاطِعات الدامِغات المُبَيِّنَات لوجود الله واستحقاقه وحده للعبادة وصلاحية شرعه الإسلام بنظمه وأخلاقياته لإسعاد البَشَر لو عملوا به كله ، ولكنهم مع كل ذلك كذبوه واستكبروا في الأرض أي تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يستجيبوا بل كفروا أي كذبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض ، وما كل هذا إلا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴿39﴾ " أي بالقطع ما سَبَقوا الله تعالي ! أي كأنهم يَهربون منه وهو يُطاردهم فيَسبقوه في الجَرْي أي يَفلِتوا من عقابه !! كلا حتما ما فَلَتوا وما هَرَبوا !! لقد عُوقبوا بما يَستحِقّون ، في دنياهم أولا ، حيث خُسِفَ بقارون أي انشقّت الأرض وابتلعته ، َوُأغْرِق فرعون وهامان وجنودهما في البحر فهلكوا جميعا ، ثم سيكون لهم حتما في آخرتهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
أما معني " فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿40﴾ " أيْ أخذنا ، أيْ عاقَبنا وعذّبنا وأهلكنا ، كلاًّ من المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبِرين الذين ُذكِرُوا سابقا وأمثالهم ، بما يُناسبه مِن عذابٍ بسبب ذنبه ، أي علي قَدْر شروره ومَفَاسِده وأضراره ، فمنهم مَن عذّبناه وأهلكناه بإرسال حاصِبٍ عليه وهو ريح شديد يحمل الحَصباء أي الحصَيَ الصغير ، ومنهم مَن عُذِّب بالصَّيْحَة وهي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة ، ومنهم مَن عُوقِبَ بأن خُسِفَ به الأرض أي انْشَقَّت وابتلعته ، ومنهم مَن فاضَت عليه السيول والمياه فأغرقته ، وما شابه هذا من صور إهلاك الظالمين (برجاءمراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. " .. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿40﴾ " أي ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم ، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره ، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما ، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم ! لقد كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربه وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاءمراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
أما معني " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿41﴾ " أي هذا مثل يذكره الله تعالي للناس لتقريب المعني للأذهان كي يسهل فهمه وتطبيقه ، وهو حال الذين جعلوا لهم آلهة يعبدونها غير الله كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ، وجعلوها أولياء لهم أي أولياء لأمورهم يتوهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضرر !! إنَّ حالهم في قِلَّة وانعدام العقل والحَقَارَة كحال العنكبوت وهي الحشرة الحقيرة المعروفة والتي جعلت لها بيتا تلجأ إليه تتوهَّم أنه يحميها وتسكن إليه وتطمئن به فإذا به بيت مُهْلَهْل ليس هناك أوْهّن أي أضعف منه ولا يَثْبت أمام حتي نفخة هواء !! وكذلك حال هذه الآلهة !! لن تمنع قطعا أيّ ضرر عن أيّ أحد يعبدها ولن تحميه وتُطَمْئِنه بأيّ شيءٍ بل هي لا تستطيع حماية ذاتها فكيف بغيرها ؟! وبالقطع أيضا لن تنفع بأيّ شيء ! ألا يَرَوْن أنهم أقويَ منها ؟!! وكيف يكون المعبود أضعف من العابِد ؟!! وكيف يعبدون مخلوقات مثلهم ويتركون عبادة خالقها ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! " .. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿41﴾ " أي لو كانوا يَعقلون ما فعلوا الذي فعلوه ، أي لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَتَدَبَّرُوا في هذا واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، ولم يتصرَّفوا وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حالهم ومَثَلهم ! وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿42﴾ " أي أنَّ الله تعالي خالق الخَلْق كله يعلم كلّ شيء عن أيّ شيء بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ، فهو يعلم أنَّ ما يَدْعون أي يعبدون من دونه أي غيره مِن آلهة هي ليست بشيء ! أيْ ليس لها أيّ قيمة ! وهي ليست آلهة أصلا بل هي من مخلوقاته سبحانه ! سواء أكانت صنما أم حجرا أم نجما أم غيره .. ويعلم أنهم قد عَطّلوا عقولهم رغم عِلْمهم تماما بداخلها ومن خلال الفطرة فيها والتي هي مسلمة أصلا أنَّ الله تعالي وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة ، وما ذلك التعطيل للعقول إلا مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاءمراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهو سبحانه يعلم تماما كلّ شرورهم ومَفَاسدهم وأضرارهم لأنفسهم ولمَن حولهم ، وسيُحاسبهم وسيُعاقبهم عليها في دنياهم وأخراهم كما عاقَب السابقين الذين ُذكِروا في الآيات السابقة ومَن يُشبههم .. فليَستفيقوا إذن وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان .. " .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿42﴾ " أي حين يُعاقبهم ، وحين يُدير كلّ شئون خَلْقه وكوْنه علي أكمل وأسعد وجه ، فهو قادر قطعا علي ذلك تماما ، لأنه هو العزيز أي الغالِب الذي لا يُغْلَب الذي يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ ، وهو الحكيم الذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ دِقّة وحِكْمَة دون أيّ عَبَث
ومعني " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴿43﴾ أي هذه التشبيهات في القرآن الكريم نضربها أي نذكرها ونُبَيِّنها للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم .. لكن لا يَعْقِل أي لا يَفهم هذه الأمثال إلا العالِمون أي العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها ، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد !
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاءمراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاءمراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ .. " أيْ خلقهما - بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ - بالحقّ ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأن خالقها هو الحقّ ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿44﴾ " أي لكن لا ينتفع بهذه الآية التي فيها كلّ هذه الآيات أي الدلالات والعلامات الواضحات إلا المؤمنون ، وهم الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل هذه العقول فصَدَّقوا بربهم وتمسَّكوا بدينه الإسلام فسَعِدوا تمام السعادة في الداريْن (برجاءمراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاءمراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا أقمتَ الصلاة ، أيْ قُمْتَ بها علي أَقْوَم وجْهٍ ، أيْ أحسنتها وأتقنتها ، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاءمراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ﴾ .. وإذا كنتَ من الذين يُوقِنون أي يتأكّدون بلا أيّ شكّ أنَّ الله تعالي يعلم ما يَصنعون ، ولذلك فهم دائما من المُتَّقِين أي المُتَجَنِّبين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، وهم لذلك أيضا دَوْما مِن المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأعمالهم (برجاءمراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾
هذا ، ومعني " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ .. " أي اتّبِعوا في كل شئون حياتكم في كل أقوالكم وأعمالكم ما ُأوحِيَ إليكم في هذا القرآن العظيم ، مِن يَتلو الشيء أي يَجيء بعده ويَتْبَعه ، واتلوه أيضا أي اقرأوه بكل تدبُّر وتعَمُّق واعملوا بما فيه كله ، لكي تسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ .. " أي قُوموا بها علي أَقْوَم وجْه ، أي أحْسِنوها وأتقنوها ، ولو فعلتم ذلك لكانت صِلَة ًدائمة بينكم وبين خالقكم ، ومَن كان علي اتِّصال حَسَنٍ دائمٍ مع ربه فسيُعينه وسيُيَسِّر له حتما فِعْل كلّ خيرٍ وسيُقَوِّيه علي تَجَنُّب أيّ شرّ بكل سهولة ويُسْر حيث هو دائما في الخير والسعادة ولا وقت له للشرّ والتعاسة !! وبالتالي فقد استفادَ تماما مِن شحنات صلواته الخمس التي تَشحن عقله بكل خيرٍ وتُقَوِّي إرادته بين الحين والحين علي مَدَار يومه بحيث يَنتهي ولا يَفعل بل ولا يُفكِّر أصلا في فِعْل أيّ فاحشة وهي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضررا شديدا بالذات وبالغير ، ولا فِعْل أيّ مُنْكَرٍ وهو الشرّ المُضِرّ ضررا أقل مِن الفاحشة والذي يُنكره أيْ لا يقبله العقل المُنْصِف العادِل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الفطرة ، برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف﴾ .. " .. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ .. " أيْ ذِكْر الله هو أكبر أيْ أفضل وأعظم الأعمال ، من خلال استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل مع كل قولٍ أو عمل حيث كل عاملٍ لله بأيّ خيرٍ يكون ذاكرا لله تعالي (برجاءمراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذِكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ ، كما أنَّ ذِكْر الله لكم بما يُعطيكم إيّاه من الثواب العظيم والرحمة الواسعة والرزق الوفير والسعادة التامّة في الداريْن هو أكبر وأعظم كثيرا ولا يُقارَن بذِكركم هذا الذي ذكرتموه إيّاه .. " .. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴿45﴾ " أي يعلم تمام العلم كل ما تعملون وكل ما تقولون سواء أكان مُعْلَنا أم مَخْفِيَّا وسواء أمام الغير أم بمفردكم وسيُحاسبكم علي كل شيءٍ فأحْسِنوا الاستعداد بأن تفعلوا وتقولوا كل خيرٍ وأن تكونوا دَوْما مُخلِصين مُحْسِنين في كل ذلك وأن تتركوا كل شرّ (برجاءمراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان﴾