الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾ فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿94﴾ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴿95﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم ما أحَلَّ الله لخَلْقِه.. فهو سبحانه أحَلَّ لهم كلّ طيِّب، وقد بَيَّنه لهم، أنه كل نافعٍ مُفيدٍ غير ضارٍّ مُسْعِدٍ.. لينعموا وليسعدوا به.. وهو أعلم بخَلْقه وما يُصلحهم ويُسعدهم وما يَضرّهم ويتعسهم.. فكيف تَتَجَرَّأ عليه وتُحَرِّم ما أحَلّه؟!!.. يقول مُحَذّرَاً من ذلك "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.." ﴿الأعراف:32﴾.. إلا في بعض حالاتٍ فرديةٍ قد يمتنع أحدٌ عن طعامٍ مَا لأنه يؤذيه أو لا يستسيغه ويحبه لكن لا يُحَرِّمه علي غيره أو يَدَّعِيَ كذباً أنَّ التحريم أيْ المَنْع من الله تعالي
هذا، ومعني "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾" أيْ كل الأطعمة الطيِّبة كانت حَلالاً لأبناء يعقوب ﷺ ، لليهود، إلا ما حرَّم يعقوب على نفسه بسبب مرضٍ مَا نَزَلَ به، وذلك مِن قبل أن تُنَزَّل التوراة، فلمَّا نُزّلَت التوراة بعده بزمنٍ علي موسي ﷺ اتّضَحَ لهم فيها أنَّ الله لم يُحَرِّم عليهم ما حَرَّمه أبوهم الرسول الكريم يعقوب علي نفسه وإنما كان التحريم أمراً فردياً منه خاصاً به لا لغيره.. وفي هذا إخْراسٌ لألسنةِ بعض اليهود ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يريدون تكذيب الرسول الكريم محمد ﷺ والقرآن العظيم أنه ليس من عند الله لأنه لو كان من عنده لَكَانَ مُصَدِّقَاً للأديان السابقة لأنها كلها هي الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ فيها حيث يَدَّعُون كذباً وزُورَاً أنَّ القرآن قد حَلّلَ بعض الأطعمة التي كانت مُحَرَّمَة علي مَن أسلموا سابقا ويَذْكُرون لذلك مثالاً لبعضِ طعامٍ كان مُحَرَّمَاً في فترة يعقوب ﷺ وهو حلال في القرآن فبَيَّنَ لهم أنه كان أمراً فردياً من نفسه ولسببٍ من الأسباب وليس تحريماً منه سبحانه كتشريعٍ للناس في هذا الزمن.. وهم بهذا الادِّعاء الكاذب المَفْضُوح وما يُشبهه من ادِّعاءاتٍ يُريدون التشويش علي الناس وتشويه الإسلام ومنع انتشاره بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾" أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُتَحَدِّيَاً لهم لفَضْح كذبهم فأحضروا التوراة إذَن فاقرأوها علي الجميع إنْ كنتم صادقين في ادِّعاءاتكم هذه.. ولن يَفعلوا حتماً لأنهم كاذبون فهي ليست فيها ما يَدَّعون
ومعني "فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿94﴾" أيْ فأيّ أحدٍ يَفْتَرِي أيْ يَخْتَلِق علي الله كذباً ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، من بعد ذلك الظهور للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذباً وزُوُرَاً وتخريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو أنَّ شيئا حلالا وهو حرام أو أنه حرام وهو حلال، أو يُغَيِّر في تفسيرات ومعاني الآيات ليُبْعِد الناس عن أخلاق إسلامهم، أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخريفات.. وكل ذلك لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿94﴾" أيْ فهؤلاء الذين يَفعلون ذلك حتماً هم الظالمون أيْ الغارِقون فى الظلم البالِغون أعلي درجاته السائرون في طريق التعاسة المُسْتَحِقّون لعذاب الله في دنياهم وأخراهم علي قَدْر ظلمهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴿95﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك ولمَن يسأل عَمَّا يقوله الله تعالي، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم صَدَقَ الله تعالي حتماً في كلّ ما يقول ويُشَرِّع للناس في كتبه وعلي ألسنة رسله من تشريعاتٍ وأخلاقياتٍ وأنظمةٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وإذا كنتم تريدون حقا أيها الناس الوصول إلى الطريق المستقيم السعيد في الداريْن فاتّبِعوا إذَن بالتالي أيْ سِيِرُوا خَلْفَ وأطيعوا مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفا أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴿96﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿97﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رَمْزاً لأن يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم
هذا، ومعني "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴿96﴾" أيْ إنَّ أوَّل وأسْبَقَ وأعظمَ بيتٍ – أيْ مكانٍ وبناءٍ – في القِدَم والعَظَمَة والمَكَانَة والشرف والعِزّة والكرامة، بُنِيَ وأُسِّسَ وأُعِدَّ للناس في الأرض يجتمعون فيه علي كل خيرٍ، لَهُو بيت الله الحرام الذي في مكة.. ".. مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴿96﴾" أيْ جعله الله مُبَارَكَاً أيْ كثيرَ دائمَ الخيرِ أيْ مَكَانَاً كله بَرَكَة أيْ زيادة دائمة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ من كل الأنواع، وجعله كذلك مكاناً يكون هداية للعالمين أيْ إرشاداً للخير كله في الداريْن للناس جميعا فهو المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ لهم كلهم فهذا هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم، ومَن جاءه حاجَّاً أو مُعْتَمِرَاً استفادَ خيراً كثيراً، فكلٌّ من الحجّ والعُمْرَة هو مؤتمر سنويّ أو دوريّ يجتمع فيه المسلمون من كل مكانٍ يتحاوَرون فيه في مناخٍ ربَّانِيٍّ أخَوَيٍّ وُدِّيٍّ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهو دورة تدريبية لفترةٍ لتقويةِ إرادة العقل فيمتنع بعدها عن فِعْل أيِّ شَرٍّ ويَنطَلِق بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير.. وهو زاد مُكَثّف مُرَكّز يَستزيده المخلوق بتواصُلِه المستمرّ مع خالقه دون انشغالٍ فيعود بعدها لحياته اليومية بطاقاتٍ خيريةٍ تُفَجِّر كل خيرٍ فيه ومَن حوله فينطلقون يكتشفون حياتهم ويُطَوِّرونها ويَنتفعون ويَسعدون بكل خيراتها ولحظاتها.. وهو تدريب علي تمام الالتزام بكل أخلاق الإسلام صغرت أم كبرت وسواء أكانت شعائر تُحَرِّك المَشاعِر الإنسانية بالعقول أم معاملات تَرْقَيَ بالحياة وتُصلحها وتُكملها وتُسعدها.. وهو تعليم وممارسة علي الحوار الأخَوَيّ الصادق الهاديء الهادف البَنَّاء الذي يبتغي بحقّ الوصول لكل خير وإصلاح وإسعاد بعيدا عن أيِّ جدالٍ والذي هو عكس ذلك.. وهو مُمَارَسَة عملية علي التواضع إذ الجميع متساوون، وعلي النظام والانضباط رغم الأعداد الهائلة، وعلي تبادل المنافع والعلوم والتجارات وغيرها بكل صدقٍ وأمانةٍ وإتقان
ومعني "فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿97﴾" أيْ في هذا البيت الحرام دلالات وعلامات واضِحات قاطِعات دامِغات تُبَيِّن كوْنه أعظمَ بيتٍ وُضِعَ للناس وكوْنه مباركاً وهُدَيً للعالمين والتي منها مقام إبراهيم بمعني الصخرة التي قام ووَقَف عليها أثناء بنائه وظهر فيها أثر قَدَمِه وحفظها الله تعالي بقُدْرته كل هذه السنين كآيةٍ أيْ معجزةٍ للتدبّر في أنه علي كل شيءٍ قديرٌ وبمعني أيضا أنه يُذَكّركم بمقامه أيْ بمكانه الذي قام به وصَلّيَ ودَعَا وكذلك مقامه أيْ تَصَرّفه وحاله فيه – وكذلك أحوال رسولنا الكريم محمد ﷺ – وكيفية تطبيقاته العملية لأخلاق الإسلام فتتعلّمون منه كل خيرٍ حين تَتّخِذونه قُدْوَة أيْ تَتَشَبَّهون به في طاعته لربه وأخلاقه في كل شئون حياتكم لتسعدوا في الداريْن.. ".. وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.." أيْ ومن الآيات البَيِّنات التي فيه أيضا أنَّ مَن دَخَلَه كان آمِنَاً أيْ جعله الله تعالي مكاناً آمِنَاً مِن أيِّ اعتداءٍ يأمَن فيه كلّ مَن دخله علي نفسه وماله وأهله بينما خارجه قد يُعْتَدَيَ عليه.. ".. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.." أيْ وفَرَضَ الله علي الناس – والفَرْض هو ما يُثاب ويَنتفع فاعِلُه بفِعْله في الداريْن ويَأثم ويَخسر فيهما بتَرْكِه دون عذر مقبول – أنْ يَحجّوا البيت علي الوجه المطلوب كما فَعَلَه الرسول ﷺ متى كان فى استطاعتهم ذلك ماليا وجسديا، وأن يكون الحجّ لله أيْ طائعين مُخلصين مُحسنين له وحده سبحانه لا لغيره (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وذلك لينتفعوا وليسعدوا بالمنافع والسعادات الدنيوية والأخروية التي سَبَقَ ذِكْرها في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾.. ".. وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿97﴾" أيْ ومَن لم يشكر هذه النِعَم بعد هذا كله ولم يعمل بالإسلام بل كَفَرَ بالله أي لم يُصَدِّق بوجوده ولا برسوله ﷺ ولا بقرآنه ولا بآخرته ولا بحسابه وعقابه وجنته وناره، وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار، فإنَّ كفره حتماً عليه هو لا علي غيره، أيْ هو الذي سيُعَاقَب في دنياه وأخراه علي قَدْر فِعْله، أيْ هو الذي في الدنيا سيكون له قطعا درجةٌ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة له كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم سينتظره بالقطع في الآخرة ما هو أتمّ تعاسة وأعظم وأشدّ وأخلد، فالله تعالي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ غَنِيّ عنه وعن حجِّه وعمله، وعن الناس والخَلْق جميعا، فهو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ الناس جميعا! فهو لا يُشَجِّعهم على الحجّ وأيّ خيرٍ لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الحجّ وهذا الخير أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ به يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بالشر يحدث الفساد والضرَر فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴿98﴾ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿99﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴿100﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴿98﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – لماذا تُكَذّبون بآيات الله سواء أكانت آياتٍ أيْ معجزات في كل مخلوقات الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، والحال والواقع أنَّ الله شهيدٌ علي ما تعملون أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أعمالكم وأقوالكم ومن كلّ خَلْقه مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله؟! فانتبهوا لذلك إذَن وأَسْلِمُوا يا أهل الكتاب ويا أيها الناس جميعا وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما
ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿99﴾" أيْ قل لهم كذلك لماذا تَمنعون عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مَن آمَنَ أيْ صَدَّقَ بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه؟!.. تَصُدُّونه قَدْر استطاعتكم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. والاستفهام والسؤال هو لمزيدٍ – إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة – من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما.. إنكم ".. تَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ تُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي تريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحجر:9﴾، وكذلك تريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن تستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ.." أيْ وأنتم علماء أيْ وحالكم وواقعكم أنكم عالِمُون تعلمون تماما بداخل عقولكم علماً مُؤَكّداً كعلم المُشاهَدَة بالعين أنها – أيْ شريعة الله – الصدق فهي يَقْبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، بل أنتم تَشهدون بصِدْقِها فيما بينكم ويُسِرّ بذلك بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات ولكنكم تُخْفون ذلك!!.. إنَّ هذا العلم المُؤَكّد بأنَّها هي الحقّ من المُفْتَرَض أنْ يَقود أيّ عاقلٍ لأنْ يُسارِع بأنْ يؤمن بها لا أن يكفر!!.. لكنْ كل ذلك هو بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿99﴾" أيْ وليس الله تعالي حتماً بغافلٍ عن أعمالكم وأقوالكم أنتم يا أمثال هؤلاء ويا كل المسلمين ويا كل الناس أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته أبداً ولو لِلَحْظَة لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه دائما أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين وللمُخَالِفِين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحُدُوث العذاب
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴿100﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تطيعوا بعضاً من الذين أُعْطُوا الكتاب قبل القرآن الكريم كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ والنصاري الذين أعطوا الإنجيل من خلال عيسي ﷺ ، ومَن يَتَشَبَّه بهم، تُطيعوهم فيما يريدون منكم أن تفعلوه من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام لكي يَصُدُّوكم عن سبيل الله كما ذُكِرَ في الآية السابقة، أيْ إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، يَتَدَرَّجُوا معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يرجعوكم بعد إيمانكم كافرين أيْ مُكَذّبين بربكم ودينكم فاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث ينشرون ذلك بينكم ويُيَسِّرونه لكم ويُعينوكم عليه فتتعسون تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ولفظ "فريقاً" يُفيد أنَّ بعضهم فقط لا كلهم يفعلون ذلك، وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿101﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿102﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُعْتَصِمَاً دائما بالله أيْ مُتَحَصِّنَاً به لاجِئاً دوْماً إليه، وبرسوله الكريم ﷺ وبدينك الإسلام
هذا، ومعني "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿101﴾" أيْ وكيف يا أيها الذين يكفرون بعد إيمانهم تكفرون أيْ تُكَذّبون بعد تصديقكم، تكذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظركم وذلك بعد إيمانكم وعملكم بأخلاق إسلامكم؟! وحالكم وواقعكم أنكم تُقْرَأ عليكم آيات الله في كل وقتٍ سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ، وفيكم أيْ بينكم وعندكم سُنَّة رسوله ﷺ أيْ طريقته وأسلوبه في التعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله؟! إنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق أن يحدث هذا من أمثالكم الذين اجتمع لهم كل أسباب الإيمان والسعادة في دنياهم وأخراهم والبُعْد عن الكفر والتعاسة فيهما!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما.. ".. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ.." أيْ ومَن يَتَحَصَّن بالله دائما ويلجأ إليه ويتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ويعتصم برسوله الكريم ﷺ ، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظارِ باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله ﷺ يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿101﴾" أيْ ومَن يفعل ذلك فحتماً قد أُرْشِدَ ووُفّقَ ووُصِّلَ إلي طريقٍ مستقيم، أيْ أَرْشَده ووَفّقه وأَوْصَله الله تعالي إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وحَصَّنه مِن تَرْك الإسلام بعضه أو كله بل ومن الكفر، وذلك لأنه هو أولا قد أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واجتهد في اتّباع أخلاق الإسلام فشاء الله له حتماً هدايته وعاوَنه عليها ووَفّقه لها ويَسَّر له أسبابها وسَدَّدَ خُطاه نحوها ونحو التمسّك والعمل بها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿102﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله حَقَّ تُقاته ما استطعتم، أيْ كونوا من المتقين أيْ الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. كونوا من المتقين لله حقّ تُقاته أيْ بما يُناسب ويَسْتَحِقّه جلاله وعظمته تعالي، فتفعلوا كل خير وتتركوا كل شرّ، أيْ تتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم وتُدَاوِموا علي ذلك مُسْتَصْحِبين نوايا خيرٍ بعقولكم في كل قول وعمل أنكم تطلبون حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتم وأخلد في الآخرة ولا تطلبوا أيّ سُمْعَة أو جاهٍ أو ليراكم الناس فيقولون عنكم كذا وكذا من المدح الكاذب المُضِرّ أو ما شابه هذا من صور الرياء، وإنْ فعلتم شرَّاً بصورةٍ استثنائية فعودوا لفطرة عقولكم الخيرية سريعا لتعود لكم سعادتكم التامّة ولا تتعكّر كثيرا بالاستمرار علي هذا الشرّ، فأنتم بهذا تكونون من المتقين لله حقّ تُقاته.. لكن كونوا كذلك ما استطعتم، أيْ قَدْر طاقتكم وإمكاناتكم، أيْ بما تستطيعون فِعْله من خيرٍ لأنَّ الخير ليس له حدود – أمّا الشرّ فيُتْرَك قطعا بالكامل تماما ولا تَجْزِئة فيه لأنَّ أيّ جزء منه هو شرّ كما قال ﷺ "ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم.." ﴿جزء من حديث رواه البخاري ومسلم﴾ – لأنه تعالي من رحمته وحبه لخَلْقه وتيسيره لهم لإسعادهم فَسَّرَ وحَدَّدَ حَقَّ تُقاته الذي ذَكَرَه في هذه الآية الكريمة بما قاله في الآية ﴿16﴾ من سورة التّغابُن "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.." والمُسْتَطَاع هو الذي لا مَشَقَّة عند أدائه بل يُؤَدَّيَ بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وابتهاج وسعادة، وهذا هو ما يُوصِي به الإسلام لأنه يُعين علي الاستمرارية والمُدَاوَمَة كما يُفهم ضِمْنَاً من قوله ﷺ "أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أَدْوَمَها وإنْ قَلّ" ﴿رواه مسلم﴾، وهذا هو أيضا ما يُوافق تعريف الوُسْع في قوله تعالي "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." ﴿البقرة:286﴾ والذي يعني أن تعمل كلَّ عملِ خيرٍ بصورةٍ متوسطةٍ مُعْتَدِلَةٍ بحيث يبقَيَ لك بعده جزءاً مَوفوراً ومُتَّسَعَاً من الجهد ، ولا يكون استفراغ واستخدام كل الجهد إلا في حالاتٍ استثنائية مثل حالات الاعتداء علي الإسلام والمسلمين وما شابهها فإذا انتهت عادت حالة الوُسْع أيْ التَّوَسُّط والاعتدال.. ".. وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿102﴾" أيْ ولا تُفارقوا دين الإسلام طوال حياتكم إلي نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له يَضرّكم ويُتعسكم فيها ولا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه فهو حتما وحده لا غيره الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿103﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكا عاملاً بخُلُقِ الاتّحاد، وخُلُق الأُخُوَّة في الله وفي الإسلام وفي الإنسانية.. وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة، فالاتحاد قوّة، فَبِهِ يَتَكَاتَف جميع البَشَر ويَتَوافقون علي المساحات المشتركة فيما بينهم بما يحقّق مصالحهم وسعاداتهم رغم اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وحتي دياناتهم، وبالأخُوَّة الإنسانية يَتَحَابّ الإنسان مع أخيه الإنسان لأنه إنسان مثله له من العقل والمشاعر بداخله ما يجعله يحب التعامل معه وتبادل المنافع والخبرات بينهم لتحقيق المصلحة والسعادة لهم كما وَصَّانا ربنا بذلك في قوله تعالي ".. وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.." ﴿الحجرات:13﴾، وبالأُخُوَّة في الله يَتَواصون فيما بينهم بدوام التّوَاصُل مع ربهم، كالحبل الذي يَصِل بين طرفين، ليَرْعاهم ويُؤَمِّنهم ويُحبّهم ويُوَفّقهم ويُسَدِّد خُطاهم ويَرزقهم ويَنصرهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، ثم بالأُخُوَّة في الإسلام تزداد الروابط ومشاعر الحب الدافئة ويتلاحَمون ويتعاونون ويتحرّكون في كل مجالات الحياة كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تَدَاعَيَ – أيْ دَعَا بعضه بعضاً للتجمّع للعوْن – له سائر الجَسَد بالسَّهَر والحُمَّيَ كما قال الرسول ﷺ ، فتَتِمّ لهم السعادة الكاملة في الداريْن
هذا، ومعني "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿103﴾" أيْ وتَمَسَّكُوا جميعا أيها المسلمون بكتاب الله كله وهو القرآن العظيم وبِدِين الله كله الذي فيه وهو الإسلام وكونوا مُجتمعين علي الاعتصام به، وسُمِّيَ القرآن والإسلام حَبْلاً لأنه يَصِل ويَربط بين طرفين هما المسلم وخالِقه القويّ الكريم سبحانه وبسبب هذا الاتصال والارتباط يَرْعاه ويُؤَمِّنه ويُحبّه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويرزقه ويُقَوِّيه وينصره ويُسعده في دنياه وأخراه، ويُنجيه كذلك من كل سوءٍ فيهما مثل المُتَمَسِّك بحبلٍ ثابتٍ من أحدِ طَرَفَيْهِ في مكانٍ مُنْحَدِرٍ يَضْمَن النجاة من الانزلاق.. ".. وَلا تَفَرَّقُوا.." أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أنْ تَتفرّقوا في شأنه وفي قواعده وأصوله وأنتم في إطاره وداخله مسلمين، أن تختلفوا إلي فِرَقٍ يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا، أو حتي تختلفوا كما اختلف السابقين قبلكم فتَصِلُوا إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه! وإلا لو فعلتم ذلك لضعفتم وتَخلّفتم وانحططتم وذللتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم، بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتّحاد والتعاون والإخاء والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاقه والتي هي أسباب القوة والرِّفْعَة والسعادة في الداريْن.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا.." أيْ وتَذَكَّروا دائما ولا تَنْسوا أبداً أيها المسلمون نِعَمَ الله العظيمة عليكم والتي لا تُحْصَيَ، واشكروها دوْماً بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي يحفظها ويزيدها لكم والتي منها ومن أعظمها حين كنتم أعداءً يُعادِي ويُؤذِي ويَضُرّ ويُتْعِس بعضكم بعضا بسبب بُعْدكم عن القرآن والإسلام، فجَعَلَ الأُلْفَة والمَحَبَّة بين عقولكم ومشاعركم بسببه حينما اجتهدتم في العمل بأخلاقه فيَسَّرَ لكم ووَفّقَكم لذلك فصِرْتُم بهذه النعمة إخوانا يُؤَاخِي ويحب ويُعين ويَرْعَيَ ويُسْعِد بعضكم بعضا، واذكروا أيضا حين كنتم علي حافّة حُفْرَة من حُفَرِ النار في الآخرة ستَقعون وتُعَذّبون فيها بما لا يُوصَف بسبب بُعْدكم عن ربكم وإسلامكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار فنَجَّاكم منها بتيسير الإسلام لكم، وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كنتم فيه بسبب بُعْدِكم عن ربكم وإسلامكم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فحافظوا علي هذه النِّعَم إذَن بالاعتصام بالله جميعا وعدم التَّفَرُّق.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿103﴾" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم آياته في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لعلكم تهتدون أي لكي تكونوا بذلك من المهتدين أيْ لكي تهتدوا، أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾" أيْ ولتكونوا أيها المسلمون جميعا ولتجعلوا من أنفسكم كلكم أمة أيْ مجموعة مُجْتَمِعَة كلهم وكلّ واحدٍ منهم علي قَدْر استطاعته وبما يُمْكِنه – وكذلك ليكن منكم بعضكم وليس كلكم يتَأَهَّلون ويَتَخَصَّصون في تفاصيل الإسلام وعلومه وأحكامه وقوانينه وتشريعاته ليُسْأَلوا عَمَّا لا يَعلمه الناس منه مِمَّا لا يُعْلَم إلا بالتَّخَصُّص – يَدْعون إلي الخير عموماً أيْ يُشَجِّعون عليه ويَطلبون من أنفسهم وغيرهم فِعْله وهو كل ما يَنفع ويُسْعِد ويُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، ويَمنعون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. هذا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما جزء من الخير وتخصيصهما بالذكْر هو لمزيدٍ من الاهتمام بهما والتأكيد عليهما والتنبيه لفَضْلهما وأَثَرهما الكبير في إسعاد الخَلْق وأجرهما العظيم لفاعِلهما.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿105﴾ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿106﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿107﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، فبهذا تَقْوُون وتَنْمون وتتطوّرون وتَرْقون وتزدهرون وتنتصرون وتسعدون في دنياكم وأخراكم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف تَتَشَاحَنون وتَتَبَاغَضون وتتقاطعون وتتصارَعون وقد تقتتلون فتضعفون وتَنْكَمِشون وتتراجعون وتتخَلّفون وتنهزمون وتَتْعَسُون فيهما
هذا، ومعني "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿105﴾" أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أيها المسلمون أن تكونوا مثل اليهود والنصاري وغيرهم الذين تَفَرَّقوا وتَشَتّتوا ولم يجتمعوا واختلفوا فتَنازَعوا ولم يَتّفِقوا، إيّاكم أنْ تَتفرّقوا في شأن الإسلام وفي قواعده وأصوله وأنتم في إطاره وداخله مسلمين، أنْ تختلفوا إلي فِرَقٍ وطوائف وطبقات يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا، أو حتي تختلفوا فتَصِلُوا مثلهم إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه! بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتّحاد والتعاون والإخاء والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاقه والتي هي أسباب القوة والرِّفْعَة والسعادة في الداريْن.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ.." أيْ ولم يكن اختلافهم لالتباسٍ عليهم من جهة الإسلام وإنما كان خِلافهم وتَفرّقهم مِن بعد ما جاءهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بكتابهم أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. لقد اختلفوا في الإسلام وهو الذي مِن المُفْتَرَض أن يكون سَبَبَاً لإزالة الخِلاف ويجتمع علي أخلاقه الجميع!!.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا وعقوبة لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض، ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿105﴾" أيْ وأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً لهم عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسب شرورهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في الدنيا أولا حيث التّشَاحُن فيما بينهم والتّباغُض والتقاطع والتصارُع وحتي التقاتُل بسبب الطائفية والطَبَقِيَّة والحزبية والعنصرية والعَصَبِيَّة بما يُؤَدِّي إلي ضعفهم وتَخَلّفهم وانحطاطهم وانهزامهم وذِلّتهم وبالجملة إلي كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة لهم وقد يَصِل الأمر إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. وليَحْذَر المسلمون تمام الحَذَر أنْ يَسعوا للتفرقة بين المسلمين أو حتي بين عموم الناس والإنسانية وإلا تَعِسوا تماما كتعاستهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿106﴾" أيْ يوم القيامة سَتَبْيَضّ وجوهٌ أي ستكون بيضاء مستنيرة مِمَّا عليها من نور السعادة مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة من ربها الكريم وهي وجوه السعداء وهم المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. وكذلك يومها سَتَسْوَدّ وجوهٌ أخري أيْ ستكون مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة بسبب ما فعلوه في حياتهم الدنيا من سوء، وهي وجوه الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿106﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لحال الناس يومها، فأمَّا الذين اسْوَدَّتْ وجوههم فيُقال لهم علي سبيل العذاب النفسيّ قبل الجسديّ هل كذّبتم بعد تَصديقكم؟! هل كفرتم بعد أن كانت فِطْرتكم مؤمنة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أو بعد أن كنتم مؤمنين بالفِعْل فارْتَدَدْتُم عن الإيمان وقد جاءتكم كل الدلائل التي تَدلّكم عليه وترشدكم إليه في كتبكم ومع رسلكم وفي مُعجزات الكوْن حولكم لكنكم اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم التكذيب؟! كيف فضَّلتم الكفر وتعاساته علي الإيمان وسعاداته؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فأنتم لذلك لا عُذْر لكم، وبالتالي ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿106﴾" أيْ فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿107﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين ابْيَضَّت وجوههم أيْ كانت بيضاء مُستنيرة مِمَّا عليها من نور السعادة مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة من ربها الكريم وهي وجوه السعداء وهم المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهؤلاء في رحمة الله أيْ في جنته التي فيها رحماته وخيراته وأنْعُمه التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وهم في هذه الرحمات والخيرات والجنات بنعيمها التامّ خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ ﴿108﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ ﴿108﴾" أيْ هذه هي دَلائل الله تعالي علي وجوده ومُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه نَذكرها لك ونُخبرك ونُذَكِّرك بها ونُرشدك إليها بالصِّدْق لا بالكذب أيها الرسول الكريم وأيها المسلم والتي كلها صِدْق والتي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الحق والصدق وهو بحقٍّ الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل) .. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذه هي آيات القرآن العظيم نقرؤها عليك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ ﴿108﴾" أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيُريد ويَشاء ويُحبّ أصلا ظلم أيّ أحدٍ بل أيّ مخلوقٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يحدث حتما مثل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، ومَن كان لا يُريد أصلاً ظلما فإنه مِن باب أوْلَيَ لا يظلم مُطلقا! وكذلك سبحانه لا يُريد للناس والخَلْق ظلماً لبعضهم بعضا.. لكنَّ الذين يُعَذّبون كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وكانوا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿109﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿109﴾" أيْ وهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿109﴾" أيْ وكلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وهو وحده الذي له الحُكم، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ﴿110﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ﴿110﴾" أيْ هذا مَدْحٌ وتشجيعٌ وتَحْفِيزٌ وتَبْشِيرٌ وإسعادٌ للمسلمين لكي يكون ذلك دافعاً لهم حتي يستمروا طوال حياتهم علي العمل بأخلاق إسلامهم ودعوة غيرهم له ليسعد الجميع بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ أنتم يا مَن تُسْلِمُون صِرْتُم بإسلامكم أفضل أمّة أيْ مجموعة وُجِدَت وخَلَقَها الله مِن بين كل الناس، لأنها للناس أيْ لنفعهم، وهذه الأفضلية هي ما دُمْتُم وطَالَمَا تَحَقّق فيكم وبسبب أنكم تَطلبون من أنفسكم وغيركم وتُوصُون دَوْمَاً بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف، أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة والذي هو بالجملة كلّ أخلاق الإسلام، وأيضا بسبب أنكم تَمنعون ذواتكم ومَن حولكم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. إضافة حتماً إلي أنكم أوّلاً وأخيراً تؤمنون بالله أيْ تصدقون بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وتعملون بكل أخلاق إسلامكم فكانت كل أقوالكم وأعمالكم ما استطعتم في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلتموه تُبْتُم منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. فإيمانكم هو الذي دَفَعَكم لهذا الخير.. وأنتم مستمرّون علي ذلك طوال حياتكم.. فإنْ فَرَّطَ أحدٌ منكم في صفةٍ من هذه الصفات فقد افْتَقَدَ حتماً هذه الخَيْرِيَّة وتَعِسَ في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْدِه عن ربه وإسلامه.. هذا، وتقديم ذِكْر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان للتنبيه علي عظيم أهميتهما للناس حيث بهما – وبالإيمان وأخلاقه قطعا – يسعدون في الداريْن وبدون كل ذلك يَتعسون فيهما.. ".. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.." أيْ ولو صَدَّقَ أهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ وكغيرهم، لو آمنوا بالقرآن العظيم الذي أُوحِيَ إلي خاتم الرسل محمد ﷺ وأَسْلَمُوا وأَمَرُوا بالمعروف ونَهوا عن المنكر مثلكم لكان خيراً لهم حتماً مِمَّا هم عليه لأنهم سيسعدون تماما مثل سعادتكم في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تَحْفِيزٌ لهم علي الإيمان وذمٌّ إنْ لم يؤمنوا.. ".. مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ﴿110﴾" أي ليسوا كلهم لم يؤمنوا بل البعض منهم قد آمَنَ وحَسُنَ إيمانه فسَعِدَ في الداريْن، ولكنَّ كثيراً منهم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام قد اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للكفر أم ما شابه هذا.. وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴿111﴾ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متأكّدا تماماً بلا أيِّ شكّ أنك لو تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك فلن يتمكّن أحدٌ من الإضرار بك، إلا ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا
هذا، ومعني "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴿111﴾" أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ لا يُمكن أبداً حاليا أو مستقبلا للفاسقين الذين سَبَقَ ذِكْرهم في الآية السابقة أن يُصيبوكم بضَرَرٍ أيْ بسوءٍ مَا إلا أذَيً أيْ ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً، فلا تَتَوَهَّمُوا أنهم أقوياء فتخافوهم، وذلك لأنه ما دُمْتُم دائِمِي التَّوَاصُل مع ربكم دائمي الاستعانة به ودعائه، وما دمتم دائمي التواصُل مع الآخرين بحُسن العلاقات معهم، وما دمتم حُكماء رَزِينِين مُتَوَازِنِين مِقْدَامِين مُنَظّمِين مُنْضَبِطين صالحين مُثَقّفِين مُتَعَلّمِين مُسْتَقِرِّين هادئين صادقين أمينين أقوياء وبالجملة فيكم كل الصفات التي تُعينكم علي حياةٍ صحيحةٍ صالحةٍ مُتَطَوِّرَةٍ سَلِسَةٍ سعيدة، فأنتم حينئذ قد أحسنتم تَحْصِين ذواتكم من الإصابة بأيّ ضَرَر! وإنْ أصابكم فسَتُحْسِنون قطعا التعامُل معه والخروج منه بأسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وبأكثر خبراتٍ مُتَاحَةٍ وأقلّ خساراتٍ مُمْكِنَة ومُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وذلك لأنكم قد تَحَصَّنْتم بالله أولا مالِك المُلْك أقوي الأقوياء ثم بالصحبة الصالحة حولكم من كل أهل الخير إضافة لذواتكم وأخلاقكم المَتِينة وتناصَحْتُم فيما بينكم وأَمَرْتُم بالمعروف ونَهيتهم عن المنكر، فكيف لمَن تَحَصَّن بهؤلاء أن يتأثّر بضَرَرٍ مَا؟! إنه ولا شكّ هو الأقوي والأعلي وما سيُصيبه مِمَّن يَكْرهه لنْ يَزِنَ عنده إلا جناح بعوضة!.. إنه إذا كان المسلمون بهذه الصفات، وهم كذلك بإذن الله لو تَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، فلن يَقِفَ قطعاً أمامهم أيُّ عدو يريد الاعتداء عليهم بقتالٍ أو غيره من صور العدوان صَغُرَ أم كَبُر، إنهم حتماً مُنتصرون بنصر ربهم ثم بقوة إرادتهم وحُسن إعدادهم، وعدوهم بالقطع سَيَفِرّ مُنْهَزِمَاً، وهذا هو معني ".. وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴿111﴾" أيْ إنهم لا يستطيعون مواجهتكم حتما ما دُمْتُم كذلك ولو حَدَثَ وقاتلوكم بالسلاح فإنهم يُعطونكم ظهورهم فارِّين خائفين مُنْهَزِمين من شدّة جُبْنِهم ثم لا يُنْصَرون عليكم بأيِّ حالٍ من الأحوال وبأيِّ مُعينٍ يستعينون به وفي أيِّ وقتٍ لا في قتالٍ ولا غيره من كل شئون الحياة لأنَّ الله القويّ المَتِين معكم وناصركم يَنصر دوْمَاً وحتماً أهل الحقّ والخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً للمسلمين مُتْعِسَاً مُهِينا لهم.. أمَّا إنْ فَرَّطْتُم في التمسّك والعمل بأخلاق إسلامكم فانتظروا إذّن أن يضرّوكم بكل ضَرَرٍ بأيِّ شكلٍ وبأيِّ درجةٍ وأن ينتصروا عليكم ويهزموكم ويذِلّوكم ويتعسوكم!!
ومعني "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾" أيْ هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وُضِعَت عليهم وأحاطَت بهم ولازَمَتهم صِفَةُ الذلّة أيْ الحَقَارَة والمَهَانَة والضعف، أين مَا وُجِدُوا في أيِّ مكانٍ وزمانٍ أفراداً أو مجموعات.. ".. إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ.." أيْ لا يَنْجُون مُطلقاً من هذه الذلّة أيْ لا يشعرون أبداً بالاستقرار والأمان علي أنفسهم وأموالهم وبالتالي يُمكنهم التّنَقّل والتَّحَرُّك إلا بحبلٍ من الله أيْ بعهدٍ منه – من معاني الحبل في اللغة العربية العهد لأنه يربط بين طرفين أو أطراف كما يفعل الحبل – أيْ بأنْ يُعطيهم المسلمون عهداً من الله لهم بتأمينهم ولا يخلفونه قطعاً لأنه شَرْعٌ منه سبحانه شَرَعَه في الإسلام لأمثال هؤلاء يلتزمون به نحوهم وهو تأمين المُسالِمين من غير المسلمين الذين يعيشون معهم كمواطنين في أوطانهم فيكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وكذلك للذين يتعاملون معهم ويحضرون إليهم من خارج الوطن لتجارةٍ أو علمٍ أو غيره.. ومن المعاني أيضا أنهم لا يَنْجُون من هذه الذلّة إلا أن يعتصموا بحبلٍ مِن الله أيْ بكتابه القرآن العظيم وبدينه الإسلام أيْ إلا أن يُسْلِموا وبالتالي يَعِزّوُن ولا تُصيبهم أيّ ذِلّة، وسُمِّيَ القرآن والإسلام حَبْلاً لأنه يَصِل ويَربط بين طرفين هما المَخْلوق وخالِقه.. أو إلا أن يعطيهم عموم الناس غير المسلمين مِثْل هذا العهد وهذه الحماية لمنافع مَا فيما بينهم.. وعندما يفتقدون حَبْل الله وحَبْل الناس لسببٍ من الأسباب يعودون للأصل وهو الذلّة أين ما ثُقِفُوا.. ".. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ.." أيْ وانْصَرَفوا ورَجَعُوا مُحَمَّلِين بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً لهم فلا يُحِبّهم ولا يُوفّقهم ولا يُيَسِّر لهم أمورهم فكانوا في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك ﴾، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ.." أيْ وكذلك وُضِعَت عليهم وأحاطَت بهم ولازَمَتهم صِفَةُ المَسْكَنَة أيْ السكون لمَن يُذِلّها والخضوع والاستسلام له والقبول بإذلاله وإهانته لضعف نفوسهم فليس لهم هِمَم عالية.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾" أيْ ذلك الذي يُصيبهم لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله أيْ لا يُصَدِّقون بها ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ولأنهم لم يكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالي لِيُنَبِّؤُوهم أيْ يُخْبِروهم بالإسلام الذي يُسعدهم في الداريْن بغير حقّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقٍّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فَعَلُوا ما فَعَلُوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. ".. ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾" أيْ ذلك الذي تَجَرَّأُوا علي فِعْله من الكفر بآيات الله وقَتْل الأنبياء بغير حقّ كان بسبب أنهم كانوا قَبْل هذا الفِعْل الشّنِيع قد عَصَوْا ربهم بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وكانوا يعتدون علي حدوده وضوابطه بفِعْلهم الكبائر ويعتدون علي الأنبياء بعدم طاعتهم وبإيذائهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم فهُم لم يُطيعوا كل أخلاق الإسلام واعتادوا علي ذلك وأسْرَفوا وبَالَغُوا وزَادُوا فيه فازدادوا في مَعاصِيهم شيئا فشيئا تدريجيا حتي وَصَلُوا إلي مرحلة الكفر والقتل.. كذلك من معاني لفظ "ذلك" هو مزيد من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره والتذكير به واستكماله بإضافة سببيْن آخرين – إضافة إلي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء – للذي يُصيبهم من الذلّة والمَسْكَنَة والغَضَب من الله وهما أنهم عَصَوْا أيْ لم يُطيعوا أخلاق الإسلام وكانوا يعتدون علي حدود الله وعلي الأنبياء وغيرهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكل مسلمٍ من الاعتياد علي فِعْل المَعاصِي الصغيرة لأنها ستَتَدَرَّجَ به غالبا إلي فِعْل المعاصي الكبيرة كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا فيَصِلَ إلي ما وَصَلُوا إليه من الكفر والقتل وكل سوء، وكل تعاسة في دنياهم وأخراهم
۞ لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿113﴾ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿114﴾ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿115﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿113﴾" أيْ ليس أهل الكتاب مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، فليس كلهم أشراراً بل منهم أخيار علي خيرٍ عظيم، فمنهم مجموعة قائمة أيْ مستقيمة قد أسْلَمَت بالفِعْل وهي قائمة أيْ مُلاَزِمَة ثابِتَة مُدَاوِمَة علي دين الله وهو الإسلام الذي كان يناسب عصرهم والذي أُنْزِلَ إليهم في التوراة التي فيها اليهودية وفي الإنجيل الذي فيه النصرانية اللتين آمنوا بهما بلا تحريفٍ ولَمَّا عاصَرُوا نزول الإسلام الذي يناسب كل العصور بعد زمنهم حتي يوم القيامة في القرآن العظيم آمنوا أيضا به وبالرسول الكريم محمد ﷺ الذي أنزل عليه أيْ صَدَّقوه وأَسْلَموا.. إنهم مسلمون يقرأون آيات الله في القرآن الكريم في أوقات الليل وغيره.. وهم يَسجدون أيْ وحالهم أنهم يَخضعون لخالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته ويستجيبون ويستسلمون لها ويقومون بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا يسجدون لله مُتَوَاضِعين خاشِعين ساكِنين علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، ويكتسبون من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا يستعلون عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. إنَّ الآية الكريمة تُقَرِّر وتُذَكّر المسلمين أنَّ كثيرا من غير المسلمين صالحين ولو تَعَرَّفوا علي الإسلام بصورةٍ صحيحةٍ وأحسنَ المسلمون عَرْضَه عليهم ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالقُدْوَة الصالحة المُسْعِدَة لاستجابوا، لأنهم ملتزمون يقومون بالأخلاق الحسنة التي أمرهم بها ربهم في دينهم الأصليّ قبل تحريفه من بعضهم، ثم هم لم يَصِلْهم بَعْدُ الإسلام أو وَصَلَهم بصورةٍ مُشَوَّهَةٍ مَنْقُوصَة
ومعني "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿114﴾" أيْ إنهم يُصَدِّقون بوجود الله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر حيث حسابه وعقابه وجنته وناره ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. وهم لا يَكتفون بإصلاح وإكمال وإسعاد أنفسهم فقط بل ويأمرون بالمعروف أي يطلبون من غيرهم بَعْدَ ذواتهم ويُوصُون دَوْمَاً بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف، أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة والذي هو بالجملة كلّ أخلاق الإسلام، وأيضا ينهون عن المنكر أي يمنعون أنفسهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. وهم يسارعون في الخيرات أيْ دائما في كل أحوالهم أصحاب هِمَمٍ عاليةٍ يَنطلقون مُسرعين مُسابِقين في فِعْل أيّ خيرٍ مُسْعِدٍ حسبما يستطيعون في كل شأنٍ من شئون حياتهم بلا أيّ تَرَدُّدٍ مُنْتَهِزين فرصته حريصين مُجتهدين ألاّ يَفوتهم ينتقلون من خيرٍ لغيره فهم في خيرٍ مستمِرٍّ دائمٍ وذلك لشدّة رغبتهم في تحصيل فوائده من سعادات دنياهم وأخراهم.. ".. وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿114﴾" أيْ هذا تشجيعٌ علي مزيدٍ مِن الخير، أيْ وهؤلاء المَوْصُوفون سابقا بهذه الصفات الطيبة الكريمة حتما سيكونون مِن جُمْلَة وعِدَاد الصالحين الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة مع الصالحين أيْ مع النبيين والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿115﴾" أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما يفعلوا في دنياهم من أيِّ خيرٍ قَلّ أو كَثُر في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ، والخير هو كلّ نافعٍ مُسْعِدٍ للنفس وللغير، فلن يُحْرَمُوا أجره أبدا ولن يُنْكَرُوه بل يُعْتَرَف لهم به فلا يُمكن قطعا لله تعالي العدل الذي لا يَظلم مثقال ذرة والذي يُحب لخَلْقه أن يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ أن يضيع أو يخْفِي عمل أيّ فاعلِ خيرٍ بل يكتبه ويُسَجِّله ويَحفظه له، وسيُعطيهم عليه أعظم العطاء حيث سيَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ بالقطع أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلوه وقَدَّموه في الدنيا ولا يُقارَن به، سيجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لهم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي سيَجدونها وسيُكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم إلا مَن كان مثلهم وذلك بسبب فِعْلهم للخير نتيجة لإيمانهم به وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿115﴾" أيْ والله عليمٌ بكل شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه فهو عليم بالمتقين ولن يضيع بالقطع أجورهم وسيُجازيهم بما يَسْتَحِقّون وسيُجازي المُسِيئين أيضا بما يستحقّون من عذابٍ في الداريْن يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والمتقون هم المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿116﴾ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿117﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿13﴾، من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿116﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، يوم يريد الله تعالي أن ينزل بهم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعهم حتما وتمنع عنهم أموالهم بكل أنواعها ولا أولادهم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ مُعين لهم من عذاب الله أيّ شيء، فكل هذه الإمكانات وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿116﴾ " أيْ وهؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ليَنجو ويَسعد ولا يَتعس في دنياه وأخراه
ومعني "مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿117﴾" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ حالُ وشَبَهُ ما يُنفق هؤلاء الذين كفروا في هذه الحياة الدنيا حيث يُبْطِلون نفقاتهم أي يُضيعون أجور وسعادات ما يُنفقون في دنياهم ثم أخراهم بسبب أنهم يكفرون أي لا يُصَدِّقون بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار فيُنفقون أموالهم وغيرها مِن أيِّ نفقاتٍ فقط رياءً للناس أي لكي يَروا منهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بها رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون به وبها أصلا، أو ينفقونها في محاربة ومُعَاداة الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وفي الشرور والمَفاسد والأضرار، وبالتالي فليس لهم أجر في الداريْن بل لهم عقاب، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقاتهم التي لا يَنالون عليها خيراً وعطاءً من الله في حياتهم ثم آخرتهم بل لهم عذاب كحَالِ وشَبَهِ ريح فيها صرٌّ أيْ بَرْدٌ شديدٌ هَبَّتْ على زرعِ قومٍ كانوا يرجون خيره ونفعه فلم تُبْقِ منه شيئا ولم ينتفعوا ويسعدوا به ولم يَحصدوا إلا التّعَب والحَسْرَة والتعاسة، عقوبة لهم، وذلك لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فعَاقبهم الله بعقابٍ يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. وفي هذا التشبيه أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن الرياء أو المَنِّ والأذيَ أو غيره من السوء – والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل – حتي لا يَتَشَبَّه بمثل هؤلاء الكافرين الذين هذه من أبرز صفاتهم والذين لا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات للمؤمن فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. إنَّ أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب مَنّهِم وإيذاهم وريائهم وكفرهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. وكل ما ينفقونه لمَنْع انتشار الإسلام سيَذهب هَبَاءً بلا تأثيرٍ بتمسُّك المسلمين بإسلامهم مع عوْنِ الله وقوّته التي ستُهلكهم كما أهلكت زروعهم وأموالهم.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلَ غير المسلمين خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. ".. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿117﴾" أيْ وما ظلمهم الله بذلك حَتْمَاً، أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿118﴾ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿119﴾ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿120﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتّخِذ من غير المسلمين ومن غير الثقات الأمناء الأقوياء مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ تُقَرِّبهم إليك وتُسِرّ إليهم بأسرارك وأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، لأنهم قد يفْشُون الأسرار ويكيدون المكائد لك وللإسلام وللمسلمين بناءً علي ذلك كما يُثبت الواقع هذا كثيرا، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿118﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا لكم بطانة أيْ مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ تُقَرِّبُونهم إليكم وتُسِرُّون إليهم بأسراركم وأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، والبطانة في الأصل هي ما يُبَطّن به الثوب من الداخل وسُمِّيَ هؤلاء بطانة لأنهم يَطّلِعون علي بَوَاطِن وخَفَايا الأمور، وهم من دونكم أيْ من غيركم أيْ غير مسلمين غير ثقاتٍ ولا أُمَنَاء، وذلك لأنَّهم وأمثالهم ".. لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.." أيْ هذه هي أهم أسباب المَنْع والتحذير الشديد منهم أنهم لا يَأْلُون أيَّ جهدٍ أيْ لا يُقَصِّرون فيه ويَبذلون أقصاه في إيقاع الخَبَل بكم وهو الاضطراب والفَوْضَيَ والفساد، وأنهم يَتمنّون لكم العَنَتَ وهو الضرَرَ والشدَّة والتعاسة، وأنهم قد ظهرت الكراهية الشديدة في بعض فَلتات أقوالهم من أفواههم وفي بعض أفعالهم السيئة وما تُخْفِيه مشاعرهم داخل عقولهم من كفرٍ وكُرْهٍ وعداءٍ نحوكم أكثر بكثيرٍ مِمَّا يُظهرونه.. إنهم قد يفْشون الأسرار ويكيدون المَكَائد لكم وللإسلام وللمسلمين بناءً علي ذلك كما يُثبت الواقع هذا كثيرا، فكونوا حَذِرين أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونكم ويَكرهون أيّ خيرٍ لكم، فعَامِلوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع الحذر، وإلا أبعدوكم عنها تدريجيا إن استجبتم لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولكم، فتَتعسون بالتالي في دنياكم وأخراكم.. ".. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿118﴾" أيْ قد وَضَّحْنا لكم الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس، لتَتّعِظوا، فإنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم فيتعمَّقون ويتدبَّرون فيما يسمعون فينتفعون ويسعدون به في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ علي تَعَقّلكم واتّعاظكم.. وفي هذا التعبير والتذكير بالعقل مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿119﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتّنْفِير للمسلمين مِن أن يَتّخذوا بِطانَة من غير المسلمين وبيانٌ لعدمِ صِحَّة ومَنْطِقِيَّة بل وغَرَابَة ذلك والتَّعَجُّب من حدوثه حيث هناك صعوبة في التّلاقِي فيما بينهم وهم علي هذه الصفات السيئة لأنَّ الفرق شاسع بين صفاتهم الخَيْرِيَّة وصفات غيرهم الشَّرِّيَّة، فها أنتم يا هؤلاء يا أيها المسلمون، وخاصة الذين قد يَتّخِذون منكم بِطانَة منهم – ولفظ "ها" في اللغة العربية للتنبيه لِمَا سيُقال – تُحِبُّونهم أيْ تحبون وتريدون لهم الرحمة والهداية للإسلام ليسعدوا في الداريْن وقد تُحِبّون مَن له علاقة معكم كزمالةٍ أو صَدَاقةٍ أو جِيرَةٍ أو غيرها مِن مُنْطَلَق الإنسانية وحُسْن المعاملة التي يطلبها منكم إسلامكم ولعلهم بها يُسْلِمون بينما هم لا يُحبّونكم حيث لا يُحبّون لكم الخير بل يُحبّون ويريدون لكم الكفر والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ.." أيْ وكذلك أنتم تُصَدِّقون بكل الكتب التى أنزلها الله على رسله الكرام ومنها كتابهم لأنها كلها من عنده وهم لا يؤمنون بكتابكم وهو القرآن العظيم ولا برسولكم الكريم محمد ﷺ الذي أنزله عليه.. ".. وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.. " أيْ وأيضا هم مُنافقون يُظهرون الإيمان ويخفون الكفر مُحاولين خِداعكم فهُم إذا قابلوكم في مكانٍ مَا قالوا آمَنَّا أيْ صَدَّقنا مثلكم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق الإسلام، وذلك لكي ينتفعوا بما عندكم وبوجودهم بينكم ويعلمون أسراركم ويفشونها وينشرون الشرّ والفساد والضَّرَرَ فيكم وما شابه هذا مِمَّا يحاولون به أن يَضرّوكم ويُضْعِفوكم، وإذا خَلَوْا أيْ ذَهَبوا وانْفَرَدوا ببعضهم البعض عَضُّوا أيْ أمْسَكوا وضَغَطوا وجَرَحُوا بأسنانهم الأنامِل أيْ أطراف الأصابع لأيديهم من الغيظ عليكم أيْ شدّة الغضب والغِلّ والألم منكم بسبب ما أنتم فيه مِن أمنٍ وتَآلُفٍ وتعاونٍ ونصرٍ وعِزّ وخيرٍ وسعادةٍ بإسلامكم وما هم فيه من عكس ذلك، وهذا مظهر لأعلى درجات الغيظ يفعله البعض عندما ينزل به ما لا يقدر على تغييره.. فكيف إذَن بعد كل هذا تَثِقون بهم وتتّخِذونهم بطانة لكم؟!!.. ".. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.." أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم دُوُمُوا علي غَيْظكم حتي موتكم، والمقصود أنه ما دُمْتُم مستمرِّين علي شَرِّكم وكَيْدكم للإسلام والمسلمين وغَيْظكم منهم بلا توبة وعودة لله وله لتسعدوا فستستمرّون حتما علي غيظكم حتي الموت وستُعَذّبون في الداريْن لأنَّ سبب هذا الغَيْظ عندكم مستمرٌّ ومُتَزَايِدٌ وهو انتشار الإسلام وتَزَايُد الحبّ والعَوْن بين المسلمين والعِزّ والنصر والخير والسعادة لهم إضافة إلي أنكم ترون أنَّ كراهيتكم ومكائدكم له ولهم لا فائدة منها حيث لم تنقص من قوّتهم وعُلُوّ كلمتهم وما ازددتم أنتم إلا غَيْظاً وألَمَاً وخسارة وتعاسة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿119﴾" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العلنية والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿120﴾" أيْ ثم إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من صفاتٍ سيئةٍ لأمثال هؤلاء وشدّة عداوتهم وكراهيتهم لكم وعدم صلاحيتهم مطلقاً لأنْ تتّخِذونهم بطانة أنهم إنْ جاءتكم أيُّ نعمةٍ وسعادةٍ مَا قَلّت أو كَثُرَت تحزنهم وإنْ تَحْدُث لكم مصيبة مَا يسعدوا بها.. ".. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ هذا هو العلاج الذي يُنجيكم من الشرور عموماً ومن شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم، إنه الصبر والتقوي، أيْ إنْ تصبروا علي أيِّ أذَيً يُصيبكم، منهم أو مِن غيرهم، ستَخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ وخبراتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وتَتّقوا أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والتي منها ألاّ تَتّخذوا منهم بطانة وأن تحذروا وتَتَجَنّبوا ما يُؤذونكم به أصلا وأن تتخذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة ليحذروكم، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنه لا يَضرّكم كَيْدهم – وهو ما يُدَبّرونه لكم مِن شرٍّ – شيئاً يُذْكَر أيْ لن تُبَالوا وتتأثّروا به لأنَّ المُتَدَرِّب بالاتّقاء والصبر يكون غالباً ثابتاً مُتّزِنَاً قليل الانفعال جريئاً على الخصم مُستعداً لمقاومة الصعاب والتّغَلّب عليها ويكون له النصر في كل شئون حياته بإذن الله، ثم لو فُرِضَ وأصابكم شيءٌ مِن كَيْدهم فسيكون ضَرَره ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من هذه السورة " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."﴾.. لكنْ إنْ لم تصبروا وتتّقوا ضَرّكم كَيْدهم قطعاً بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات وهزموكم وأتعسوكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿120﴾" أيْ إنْ تصبروا وتتّقوا لا يَضرّكم كَيْدهم لأنَّ الله يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً مَنْع كيدهم عنكم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿121﴾ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿122﴾ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿123﴾ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴿124﴾ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴿125﴾ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿126﴾ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴿127﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ النصر من عند الله تعالي وحده، في كل مواقف الحياة بدءاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو القتال في سبيل الله دفاعا عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء، ثم أحسنتَ اتّخاذ الأسباب، وأهمها قوة التّواصُل مع مالِك المُلْك القويّ العزيز، ثم قوة الاتّحاد والأُخُوَّة والتّرابُط بلا أيِّ نزاعٍ أو خِلافٍ أو تَعَصُّب لطائفةٍ أو جِنْسٍ أو غيره مِمَّا يُفْشِل ويَضُرّ ويُتْعِس، ثم قوة الإعداد بكل صوره العلمية والعملية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والمجتمعية وغيرها، كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ وصحابته الكرام.. حينئذٍ لا بُدَّ حتماً سيَتَنَزّل نصر الله تعالي وستعمل جنوده التي لا يعلمها إلا هو مع المسلمين أصحاب الحقّ وسيَستبشرون وسيَسعدون بفضل ربهم العزيز الحكيم السميع العليم، وستَتَقَطّع أطراف ورَوَابِط المعتدين ويفقدون قواهم ويعودون مُنْهَزِمين مَكْبُوتين بغَيْظهم وحَسْرتهم تنتظرهم كل خَيْبَةٍ في دنياهم ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في أخراهم.. فأَبْشِر.. واشكر ربك علي هذا الفضل العظيم، بعقلك بتَدَبّره، وبلسانك بحمده، وبعملك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ، فسيزيدك نصراً كما وَعَدَ ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. واسْعَد بما ينتظرك من الخير الكثير في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿121﴾" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين غَدَوْتَ يا رسولنا الكريم أيْ خرجتَ مبكراً أول النهار من عند بيت أهلك يوم غزوة أُحُد لكي تُبَوِّيُء أيْ تُنزل المسلمين في مراكز ومنازل ومواقع للقتال تكون الأصلح ليُقاتلوا منها أعداءهم المعتدين عليهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿121﴾" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة.. أيْ هو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الداريْن حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿122﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين عَزَمَت وقَصَدَت لكن لم تَفْعَل وتُنَفّذ مجموعتان منكم أيها المسلمون أن تَضْعُفَا وتَجْبُنَا وتَرْجِعَا عن قتال العدو يوم غزوة أُحُد.. ".. وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا.." أيْ والله خالق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك الذي له كل صفات الكمال الحُسني هو وليُّهما أيْ وَلِيّ أمرهما يُديره لهما علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم، فبالتالي حفظهم من الوقوع في هذا الفشل والخطأ الشنيع فثَبَتُوا وانطلقوا في القتال.. هذا، ونعمة الثبات علي الخير المُسْعِد في الداريْن وعدم الانزلاق إلي الشرّ المُتْعِس فيهما هي نعمة عظيمة يُذَكّرهم سبحانه بها ليُدَاوِمُوا علي المحافظة عليها وشكره والتوكّل عليه ليَعصمهم ويمنعهم دائما من كل شرّ.. كما يُذكّرهم بأنه من أسباب الفشل اتّخاذ غير المسلمين بطانة حيث كان في صفوفهم يومها بعض المنافقين الذين رجعوا عن القتال لزعزعتهم وإضعافهم، ومنها أيضا عدم الصبر والتقوي كما أوصاهم بهما في الآية ﴿120﴾ .. وهكذا دائما حال المسلم لا يَتّخذ بطانة من غير المسلمين ويصبر ويَتّقِي حتي يتحقّق له النصر في كل شئون حياته المختلفة، وإنْ وَرَدَ في خاطره تفكيرٌ شَرِّيٍّ مَا فحينها وفوراً يلْجَأ إلي الله ويتَحَصَّن به ويعتَمِد عليه ويدْعُوه أن يساعده علي مقاومة خواطر الشرّ بعقله حينما يفكر فيها ولا يُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة وهو وحده سبحانه سميع عليم يسمع تماما كلّ طلباته وأقواله وطلبات كل خَلْقه ويعلم بتمام العلم احتياجاتهم جميعا، وهو وحده القادر حتما علي إبعاد هذه الخواطر عنهم وحفظهم ورعايتهم وتلبية كلّ ما يحتاجونه، فليطمَئِنّوا إذن وليسْتَبْشِروا وليحْسِنوا وليسْعَدوا.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿122﴾" أيْ وعليه وحده فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن
ومعني "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿123﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حالهم في غزوة أُحُدٍ وما حَدَثَ لهم من سوءٍ لأنه كان منهم مَن تَخَاذَل وضَعُف يَذْكُرهم بحالهم في غزوة بَدْرٍ حيث لم يكونوا كذلك فانتصروا ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام واتّخاذ كل أسباب النصر والبُعْد عن كل أسباب الهزيمة ما استطاع ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ولقد نصركم الله أيْ جعلكم تفوزون في معركة بدرٍ أيها المسلمون علي عدوكم وهَزَمَهم وأعَزّكم وأذَلّهم رغم أنكم كنتم حينها أذِلّة أي قِلّة ضعفاء فقراء في العَدَد والعُدَّة، وليس المقصود حتماً بكوْنهم أذِلّة أنهم كانوا ضعاف النفوس أو كانوا راضين بالهَوَان بل كانوا كامِلِي العِزّة والقوة النفسية بربهم وبإسلامهم ولكنْ بالمُقَارَنَة بعدوهم وأعداده وتجهيزاته فإنَّ هذا يُوهِم الناظر إليهم من غيرهم أنّهم كأنّهم أذِلّة وأنّهم مهزومون.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وما دام الأمر كما ذُكِرَ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿123﴾" أيْ لعلكم بهذه التقوي تكونون قد قُمْتُم بواجب شكر ما أنْعَمنا به عليكم مِن نِعَمٍ يَصعب حَصْرها، فتقواكم هي شكركم لنا.. ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم : 7﴾ .. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده مُتَّقِين له متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴿124﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين كان يقول رسولنا الكريم للمؤمنين يوم الغزوة لمزيدٍ من تثبيتهم وتقويتهم للقاء عدوهم وتبشيرهم بعوْن ربهم ونصره القريب، هل لا يكفيكم لكي تَطمئنّ نفوسكم وتَقْوَيَ أن يُزَوِّدكم ويُعِينكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة مُرْسَلِين من عنده للقتال معكم والدفاع عنكم وإضعاف عدوكم ونصركم؟
ومعني "بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴿125﴾" أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما قد يَتَوَهَّم البعض منكم أنَّ هذا المَدَد بهذا العَدَد بهذا الجند من جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه لن يَكْفِي، بل سيَكْفِي حتما لتحقيق نصركم وهزيمة عدوكم، فأبْشِروا وابْذُلوا ما استطعتم في قتالهم.. بل لكم بُشْرَيَ أخري وهي إنْ تصبروا علي القتال أيْ تَثْبُتوا، وتَتّقوا أيْ تَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتي منها أن تَتّخذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة وتَتّقوا أيْ تَتَجَنّبوا أيَّ سببٍ للهزيمة، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، إنْ فَعَلْتُم هذا، فعلتم هذين الشرطين، الصبر والتقوي، فإنَّ ربكم يَعِدُكُم – كمزيدٍ من التشجيع لكم عليهما – ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً أنه إنْ يأتوكم أيْ يحضر إليكم أعداؤكم من فَوْرهم هذا أيْ من وقتهم هذا أيْ من ساعتهم هذه أيْ في الحال فَوْرَاً مُسْرِعِين فلا تَنْزَعِجوا وتَتَوَهَّموا أنَّ المَدَدَ لن يُمكنه اللّحاق بكم من سرعة مفاجأتهم لكم فإنه سيزيدكم فَوْرِيَّاً مَدَدَاً آخر حيث يُمْدِدكم بألفين زيادة فيَصِل العدد إلي خمسة آلاف من الملائكة مُسَوِّمين أي مُعَلِّمِين ذواتهم بعلاماتٍ أيْ ستَجِدُون وستَظهر لكم علامات نزولهم وإرسالهم إليكم بتثبيتكم وتوفيقكم للنصر وتيسيره لكم، وذلك لمزيدٍ من طَمْأَنتكم وتبشيركم بحَتْمِيَّة تحقّق النصر إذ كلما ازْدَدْتُم صبراً وتقوي كلما ازداد حتما عوْن الله لكم بكل صور العوْن
ومعني "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿126﴾" أيْ هذا بيانٌ لِحُبِّه تعالي للمسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم ورضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم بما هو أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد.. أيْ وما جَعَل الله هذا الوعد بالنصر وهذا الإمداد بالملائكة – وغيره من كل أنواع الجنود والقوَيَ التي لا يعلمها إلا هو سبحانه – إلا ليكون بُشْرَىَ لكم أيها المسلمون يُبَشّركم بها أيْ خَبَرَاً سَارَّاً مُفْرِحَاً يُخبركم به بأنكم ستنتصرون حتما علي أعدائكم ما دُمْتُم أهْلَاً للنصر حيث أحسنتم اتّخاذ أسبابه ما استطعتم ولكي تَسْكُن به عقولكم ومشاعركم بداخلها فيذهب الخوف والقلق عنها وتطيب وتَسعد وتطمئنّ بتحقّق وعد الله بنصركم فيكون ذلك تشجيعا لكم للإقدام بقوةٍ علي الصعاب مُستعينين بربكم لاجئين إليه طالِبين منه عوْنه ونصره.. ".. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ ليس الفوز في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة إلا من عند الله تعالي وحده، لا مِن عند أيِّ أحدٍ أو مَخلوقٍ غيره، ولا مِن عَدَدٍ ولا عُدَّةٍ ولا بأيِّ سببٍ غير ذلك من صور الإعداد والقوة، فهو بإذنه فقط، فبسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة يحدث الانتصار بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فلا تَنْخَدِعوا بأسبابكم التي تَتّخِذونها، فصحيحٌ أنَّ الإسلام قد أمر بإحسان اتّخاذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ لكنَّ الاعتماد عليها وحدها مهما كَثُرَت وعَظُمَت دون الاعتماد علي مَن يملك جَعْلها فَعَّالَة مُؤَثّرة مُحَقّقة للفوز وهو الله تعالي خالقها، والذي هو أيضا يجعل أسباب العَدُوّ الكارِه قليلة أو مُنْعَدِمَة الفَعَالِيّة والتأثير، لا قيمة له حتما، ومَن يَنْخَدِع بأسبابه ووسائله التي يَتّخذها ويَنْسَيَ قُدْرَة خالقه وخالقها ومُحَرِّكها لن يفوز بالتأكيد.. إنه مَن يَعتمد علي الله وحده فهو كافِيه قطعا فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانعٍ يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، ولذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿126﴾" أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴿127﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم النصر وثماره الطيبة ونتائجه السعيدة وفوائده وأهدافه.. أيْ يَطلب منكم الإسلام العمل بكل أخلاقه لتسعدوا تماما في الداريْن ويَطلب منكم نَشْره بكلّ قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليسعد الجميع به مثلكم ويَطلب منكم الدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي ولو بالقتال إذا قاتلكم ويَنصركم الله عليهم بنصره وعوْنه إنْ كنتم أهْلَاً للنصر وكل ذلك ليَقطع طَرَفَاً من الذين كفروا أيْ لكي يَقتطع من أطرافهم أيْ يَنقص منهم، من أعدادهم بالقتل، ومن مُعِدَّاتهم وأملاكهم وسلطانهم ونفوذهم وأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، أو يَكْبِتهم إن لم يُقْتَلوا أيْ يَذلّهم ويهينهم ويغيظهم غيظاً شديداً بسبب ما يُنْزِل بهم من هزيمةٍ وعذاب، فتكون النتيجة أن ينقلبوا خائبين أيْ يعودوا خاسرين مُنْهَزِمِين لم يُحِقّقوا ما يَهدفون إليه من حربهم ضدّ الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ومحاولاتهم اليائسة في هذا بل يزداد قوة وانتشاراً ويزداد الناس سعادة بالعمل به ويزدادوا هم وكفرهم وشَرّهم وفسادهم وضَرَرهم انحساراً وتَرَاجُعَاً وانقراضاً وانهزاماً وتعاسة وحسرة وغيظاً وألما وخسراناً وقَطْعَاً ونقصاً وهلاكاً أو كَبْتَاً وكل ذلك في دنياهم قبل الكَبْت والهلاك والشقاء الأعظم والأتمّ والأخلد في أخراهم
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴿128﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. هذا، وقد يَتَوَقّع الداعي استحالة استجابة بعض المَدْعُوين فإذا بهم يستجيبون! حتي ولو بعد حين! كما حَدَثَ مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما اللّذَيْن لم يُسْلِمَا إلا بعد حوالي عشرين عاما من بدء دعوة الإسلام لَمَّا استفاقا وعادا لفطرة عقلهما، بل وقد أساءا خلالها أشدّ الإساءة للإسلام والمسلمين، فليس لك من الأمر شيء أيها الداعي لله وللإسلام إلا أن تُحْسِن دعوتك وتحسن الاستعانة بربك، ولك أجرك علي كلّ حالٍ سواء استجابوا لك أم لا
هذا، ومعني "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴿128﴾" أيْ ليس لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده مِن أمر الناس شيءٌ بل الأمر كله لله وحده خالِقهم العالِم تماما بهم أي ليس عليك إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك وهو أمر ليس لك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده ﷺ هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآيات من سورة البقرة ﴿75﴾ حتي ﴿78﴾ والآيات ﴿159﴾ حتي ﴿162﴾ عن كيفية نشر الدعوة، والآية ﴿251﴾ عن دَفْع الخير للشرّ، والآية ﴿218﴾ عن صور الجهاد وسعاداته، ثم الآية ﴿109﴾ عن مقابلة الإساءة بالحسنة، والآية ﴿136﴾، ﴿137﴾ عن الإيمان بجميع الرسل والذي يؤدي لإحسان معاملة كل إنسان من أجل إنسانيته، والآية ﴿139﴾ عن تَرْك الجدال، ثم الآية ﴿207﴾ عن بيع الذات لله وللإسلام، ثم النظر للآية ﴿63﴾ من سورة النساء عن كيفية دعوة المنافقين والمُعاندين، ثم أخيرا الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران﴾، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين﴾، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الأمر كله لله فهو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴿128﴾" أيْ ليس لك من الأمر شيءٌ بل الأمر كله لله وحده فهو إمَّا يقطع طَرَفَاً من الذين كفروا أو يَكْبِتهم كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أو يتوبَ عليهم إنْ تابوا ورجعوا لربهم وأسلموا فيسعدوا في الداريْن أو يُعَذّبهم فيهما بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم إنْ أصَرُّوا علي كفرهم، فاصبر علي ما أنت عليه من إسلامك ودعوة غيرك له حتي تري ما يسعدك إمّا بتوبتهم وإسلامهم وإمّا بعذابهم وهلاكهم والتّخَلّص منهم لأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم حينها بإصرارهم علي ما هم فيه ظالمون مُسْتَحِقّون للعذاب قطعا لم يظلمهم حتما ربهم بل هم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿129﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿129﴾" أيْ وهو تعالي وحده له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فليس لأحدٍ من الأمر شيء، وهذا تأكيدٌ لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة، ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ومَن يفعل ذلك يَسعد في الدنيا والآخرة.. ".. يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ الذي يتوب من ذنوبه يُسقطها عنه ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿53﴾ من سورة الزمر "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ.." أيْ وأمَّا مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿129﴾" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. هذا، ومع أنَّ الآية الكريمة تتحدَّث عن المغفرة والعذاب إلاّ أنها تُخْتَم بالمغفرة والرحمة للدلالة علي أنهما حتما الأغْلَب والأقْرَب من العقاب لأنه تعالي الغفور الرحيم الودود الكريم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿130﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من المُرَابِين أي الذين يتعاملون بالربا وما شابهها من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿130﴾" (برجاء مراجعة الآيات ﴿275﴾ حتي ﴿280﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الأضرار الاقتصادية والمجتمعية للربا وتعاساتها الدنيوية والأخروية﴾.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿130﴾" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿131﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقِين – أي المُتَجَنّبِين – لعذاب نار جهنم يوم القيامة، بأن تكون من المؤمنين بربك، لأنها أُعِدَّت للكافرين
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿131﴾" أيْ وخافوا وتَجَنّبوا دخول عذاب النار يوم القيامة يا أيها الذين آمنوا واجعلوا بينكم وبين عذابها وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم لتسعدوا في الداريْن، فهكذا يجب أن يفعل كل عاقلٍ يُحسن استخدام عقله ولا يَخدع نفسه ويريد ضمان سلامته وسعادته في دنياه وأخراه، حيث هي نار لا تُوصَف ولا تُقارَن مُطلقا بأيٍّ من نيران الدنيا.. وأيضا تَجَنّبوا نار عذاب الدنيا إذا ابتعدتم عن ربكم وإسلامكم حيث ستَجدون كل شَرٍّ وتعاسةٍ بقَدْر بُعْدكم عنه.. ".. الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿131﴾" أيْ التي جُهِّزَت بعذاباتها المُتنوِّعَة المُتَزَايِدَة للكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم في سوء أقوالهم وأفعالهم، والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿132﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿132﴾" أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها الذين آمنوا – وأيها الناس – ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿132﴾" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿133﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿133﴾" أيْ وسارِعوا مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدي بكم ويُؤَهِّلكم ويكون سببا إلي نَيْل مغفرته ورحمته فتعيشون في رحابها سعداء في دنياكم وإلي تحصيل في أخراكم جناتٍ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي هي واسعات شاسعات تَسَعكم جميعا بنعيمها حيث عرضها كعرض السماوات والأرض فما بالكم بطولها ومساحتها إذ معلوم أنَّ الطول أكبر من العَرْض!! وسارِعوا بالتوبة عند فِعْل أيِّ شَرٍّ سواء أكان صغيرا أم كبيرا دون إصرارٍ واستمرارٍ عليه مع علمكم أنه شَرّ، بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لكم في دنياكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ ولِتَنَالوا في أخراكم أعلي درجات هذه الجنات المُبْهِرَات التي لا تُوصَف والتي هي مُعَدَّة ومُجَهَّزَة للمُتّقِين أيْ للذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "سارِعوا" يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي الاستجابة حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يحرصون فيه متعاونين مُتَحَابِّين علي أن يسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بالجوائز العظيمة الموعود بها
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿134﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون من كل أنواع الإنفاق في أيِّ وجهٍ من وجوه الخير بما يستطيعون.. وإذا كنتَ قويّ الإرادة بعقلك فتَتَدَرَّب تدريجيا علي عدم الغضب، وإذا غضبتَ فتَدَرَّب علي كَظْمه وكِتْمانه وعدم إخراجه في صورةِ خطأٍ مَا قوليّ أو فِعْلِيّ أو غيره من صور الانتقام، بل وتَدَرَّب علي أن تعفو عَمَّن أساء إليك وتسامحه فإنَّ الذي يعفو ويسامح هو الأقوَيَ والأعَزّ والأعلي والأحسن والأصْفَيَ بَالَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي.. وإذا كنتَ من المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، فبذلك يَثِقون بك وتَزداد معاملاتك وأرباحك وسعاداتك في الداريْن
هذا، ومعني "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿134﴾" أيْ الذين من صفاتهم أنهم ينفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.." أيْ يُنفقون بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي في كل الأحوال والأوقات حسبما أمكن سواء في حال السرور أيْ اليُسْر والرخاء والغِنَي والقوة والصحة ونحوها أو في حال الضَّرَر أيْ الحُزْن والعُسْر والشدَّة والفقر والضعف والمرض وغيره، فهم لا يتوقّفون أبداً ولا يمنعهم مانِعٌ ما استطاعوا عن الإنفاق في كلّ خيرٍ والفِعْل له بما أمكنهم كَثُر أم قَلّ ما داموا قادرين عليه، فهم لا ينشغلون بأحوالهم عن غيرهم، لرغبتهم الأكيدة في تحصيل عطاء ربهم وخيره وإسعاده لهم والذي لا يُوصَف في دنياهم وأخراهم والذي يزداد كلما ازدادت شِدَّة حالهم لكي يُعَوِّضهم عَمَّا وجدوه من مَشَقّاتٍ أثناء إنفاقهم.. ".. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.." أيْ والكاتِمِين الحابِسِين المُمْسِكِين الغضب الشديد، أيْ ومِن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم أقوياء الإرادة يَتَحَكّمون بعقولهم في مشاعرهم بحيث إذا أغضبهم أحدٌ بقولٍ أو فِعْلٍ مَا مُسِيءٍ كَتَموا ذلك الغضب فلم يُخرجوه في صورةِ سوءٍ مثله رغم قُدْرتهم علي ذلك وقابَلوا هذا المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان الأمر الذي يُؤدّي إلي كثير من المصالح والسعادات ومَنْع كثير من المفاسد والتعاسات لهم ولمَن حولهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿34﴾ من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿134﴾" أيْ والله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿136﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾" أيْ ومن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم متمسّكون عامِلون بكل أخلاق إسلامهم ولو فُرِضَ وفَعَلوا فاحشة مَا أيْ كبيرة من الكبائر أيْ شرَّاً فاحِشاً أيْ مُضِرّا ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر والتي يَكْبُر ويَعْظُم ويَشْتَدّ قُبْحها وعقابها في الدنيا والآخرة لضَرَرها الشديد البالغ علي النفس والغير كالقتل وشرب الخمر والزنا ونحو هذا، أو ظلموا أنفسهم بفِعْلِ ذنبٍ صغيرٍ هو أقل من الفاحشة.. هذا، وسواء أكان الذنب كبيراً أم صغيراً فهو حتماً ظلمٌ للنفس بدرجةٍ من الدرجات، وإذا كان الذنب الصغير ظلماً لها فالفاحشة حتماً أشدّ ظلماً لها لأنها أشدّ ضَرَرَاً وتعاسة عليها في الداريْن، فعلي المُتّقين تَرْك كلّ أنواع الذنوب صَغُرَت أم كَبُرَت لِمَا فيها من التعاسات لفاعلها ومَن حوله علي قَدْرها في دنياه وأخراه بينما تاركها له تمام السعادة فيهما.. ".. ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.." أيْ تَذَكّروا هيبة اللَّه خالقهم وعظمته ومراقبته لهم وأوامره ونَوَاهِيه وحسابه وعقابه وجنته وناره ورحمته وغضبه وفقدانهم لرضاه عنهم ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم في أخراهم مع عقابه وعذابه وإتعاسه لهم فيهما بما يُناسب فِعْلهم السَّيِّء، أيْ ذَكَروا كل ذلك وغيره فاستغفروا لذنوبهم أىْ بمجرّد أن تَذَكّروه نَدموا وخَجلوا وسارَعوا بلا أيِّ انتظارٍ بعد معصيتهم لطَلَب المغفرة منه سبحانه لسيئاتهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التى ارتكبوها، وتابوا إليه توبة صادقة بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، لكي يَغفرها لهم أيْ يُسقطها عنهم ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويُسامحهم بل ويَدفع عنهم آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسترهم ويُعينهم ويُسعدهم.. ".. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.." أيْ هذا استفهامٌ للنّفْي القاطِع، أيْ ولا أحد أبداً يغفر ذنوب المُذْنِبين ويقبل توبتهم إلا الله الخالق الكريم الغفور الرحيم، فالمقصود بيان عظيم مغفرته ورحمته فهو كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة، كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾" أيْ ولم يَستمِرّوا ويُداوِمُوا ويُواظِبوا علي ما فَعَلوا من شَرٍّ ويُكَرِّروه ويَفعلوا غيره بلا توبةٍ وهم يعلمون أنَّ الإصرار علي الشرّ يَضُرّ بهم ويُتعسهم ويعلمون قُبْحه وسوءه وأضراره وتعاساته في دنياهم ثم أخراهم ويعلمون بكل تأكيدٍ واسع رحمة الله وتوبته علي مَن يتوب وعظيم غضبه علي مَن يُدَاوِم علي فِعْل السوء دون توبته منه.. والمقصود سرعة توبتهم أوَّلاً بأوَّل إذا فَعَلوا شَرَّاً مَا وعودتهم للخير مُسْرِعِين ليسعدوا في الداريْن وعدم استمرارهم علي الشَّرِّ فيتعسوا فيهما
ومعني "أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿136﴾" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الحسنة السابقة أجرهم وثوابهم وعطاؤهم قطعا في مُقابِل ذلك من فضل ربهم وكرمه عليهم مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها، فيكونون بهذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ في جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، إنها جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، ويكونون خالدين فيها أبدا بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿136﴾" أيْ وما أعظم ثواب المُطِيعين لله العاملين بأخلاق الإسلام في حياتهم الدنيا، ما أطيب وأجمل وأفضل هذا الأجر، هذه الجنة، ليس هناك أجر أكبر من ذلك في مُقابِل العمل الصالح الذي يعمله العاملون ويجتهدون فيه في حياتهم الدنيا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿137﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿137﴾" أيْ قد مَضَت وذَهَبَت وثَبَتَت وتَقَرَّرَت من قَبْل زمانكم سابقا أيها المسلمون الحالِيُّون سُنَن الله أيْ طُرُقه وأساليبه وعاداته دائما في كلّ السابقين المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين مَضوا وذَهبوا وانتهوا وهَلكوا قبل ذلك، ولن تتبَدَّل أيْ تَتَغَيَّر مُطلقا إلي يوم القيامة، أنَّ أهل الحقّ لابُدَّ حتما وبلا أيّ شك سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة المُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿137﴾" أيْ فتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطعتم وانظروا وشاهِدوا بأبصاركم وتدبَّروا بعقولكم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلكم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفي المسلمون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿ 11 ﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿138﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿138﴾" أيْ هذا القرآن العظيم هو توضيحٌ للناس كاملٌ شاملٌ لكل أصول وقواعد تنظيم الحياة وإسعادها تمام السعادة، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وهو هُدَي أيْ هو هادِي أيْ مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وهو موعظة أي تَذْكِرَة لكلّ مَن يريد التّذَكّر والاتّعاظ ليستمرَّ علي الخير وليعودَ إليه مُسْرِعَاً إن ابتعد عنه.. وهذا البَيان والهُدَيَ والموعظة هو للمُتّقِين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه العِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المتقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿139﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادة قوية لا تنكسر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال والجراح، وحتي لو حَدَثَ وأصابك بعض الحزن فاعلم وتأكّد أنه من المشاعر الإنسانية العادية في العقل البشريّ والتي جعلها سبحانه لا لتكون مُقْعِدَة ومُحْبِطَة وإنما لتكون وقوداً لإعادة الانطلاق في الحياة بكل قوةٍ بعد تصحيح الأخطاء.. بهذا تكون كما أراد الله والإسلام لك ولكل مسلم يعمل بكل أخلاق إسلامه أن يكون هو الأعلي في هذه الدنيا، فيكون قائداً لا مَقُودَاً مَتْبُوعَاً لا تابعاً رئيساً لا مَرْؤُوساً يقود الناس لكل خيرٍ وسعادة في الداريْن
هذا، ومعني "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿139﴾" أيْ ولا تضعفوا أبدا أيها المسلمون أيْ تضعف إرادة وعزيمة عقولكم في أيِّ شأنٍ من شئون حياتكم، ولا تحزنوا مطلقاً علي أيِّ شيءٍ يفوتكم فلا يمكنكم تحصيله لسببٍ ما حُزْنَاً يُقْعِدكم عن مواصلة الحياة والتغلّب علي بعض صعابها والاستفادة من التعامُل معها والصبر عليها والاستفادة منها خبرات واستفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ أو يُقعدكم ويُبعدكم عن اللجوء إلي الله الخالق الكريم المُعين القادر علي كل شيء ودعائه والتوكّل عليه مع إحسان اتِّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا المُحَرَّمة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أو يُوقِعكم في شَرٍّ ما كسوءِ تَعَامُلٍ معه تعالي بنسيانِ فضله وعوْنه ودعائه ورفض تقديراته في كوْنه ويَجعلكم تُسِيئون لأنفسكم ومَن حولكم بالاستسلام للمصيبة وما شابه هذا مِمَّا يُتعسكم ويُتعسهم.. ".. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.." أيْ وخاصة وأنتم حالكم أنكم الأَعْلَوْن أيّها المسلمون أهل الحقّ والخير أيْ أنتم حتما أعليَ مِن أيِّ غيرِ مسلمٍ لأنكم علي تَوَاصُلٍ دائمٍ بربكم تَطلبون منه حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسَدَاده ورزقه وقوَّته ونصره، وهم ليسوا كذلك، وأنتم حتما أعلي منهم لأنكم تطلبون دوْماً أعلي وأغلي شيءٍ وهو أعلي درجات الجنة بينما هم قد لا يعرفونها أصلا وكلّ أهدافهم في حياتهم أثمان دنيوية رخيصة دنيئة زائلة يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وأنتم الأعلون إذ معكم كلّ الحقّ والعدل والحِكْمَة والهُدَيَ في القرآن والإسلام وهم يَفتقدون كلّ هذا، فأنتم بكلّ ذلك بحقٍّ الأعلون وهم بحقّ الأَدْنَوْن، أنتم حتما الأَسْعَد في الدنيا والآخرة وهم حتما الأَتْعَس فيهما، وفوقَ كلّ ذلك وقبله وبعده فإنّ الله خالِق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك كله القاهِر الناصر الذي يقول للشيء كن فيكون، معكم بعوْنه وتأييده وتوفيقه وتيسيره ونصره، ومَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في نهاية الأمر حتي ولو حَدَثَ له أحيانا واستثنائيَّاً بعضُ هزيمةٍ بسبب ترْك بعض أسباب النصر فسَيَسْتَدْركها سريعا بعوْن الله، وأيضا لن ينقصكم شيئا ولا ذرَّة أو أقلّ من أجور أعمالكم وما تستحِقّونه من خيرٍ في مُقابِلها لا في دنياكم ولا في أخراكم بل سيُضاعفها لكم أضعافا كثيرة لتنالوا تمام الخير والنصر والسعادة فيهما.. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره من حوافز تَدْفَع المسلمين بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ للانطلاق في الحياة بكلّ قوّة وعِزَّة لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿139﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴿141﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا عَلِمْتَ وتأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الأيام دُوَل، أيْ مُتَدَاوَلَة بين الناس، أيْ مَن يَطلب العُلاَ والتّقَدُّم والرخاء والسعادة في هذه الحياة، ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك قَدْر استطاعته من كل أنواع القُوَيَ الاقتصادية والسياسية والإدارية والعلمية والإعلامية والمجتمعية والعسكرية وغيرها، فلابُدَّ حتماً سيَصِل، حتي ولو كان كافرا!! فهذا هو قانون الأسباب والنتائج في هذه الدنيا والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾.. لكنَّ المسلم الذي يعمل بكل أخلاق إسلامه وأحسنَ اتّخاذ مثل هذه الأسباب إحساناً تامَّاً مَا أمكن لابُدَّ حتماً وبكل تأكيدٍ سيُساعده ربه ويُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه، وهو ما لا يكون لغير المسلم قطعا، فيكون وصوله للريادة والعُلَا والهناء هو ومَن حوله أسرع وأفضل وأيسر من غير المسلم لأنه يأخذ بيد نفسه والآخرين لكل خير وسعادة كما طَلَبَ منه ربه وإسلامه ذلك، وسيستمرّ هكذا في الصَّدَارَة ما دام بقي مستمرّاً علي إحسان اتّخاذ الأسباب، فإنْ تَهَاوَن وأهْمَلَ وقَصَّرَ، ذَهَبَت لمَن يُحْسِن!.. وهكذا.. فكن مِمَّن يُحسن القيادة لكل خير فيَسْعَد ويُسْعِد غيره في دنياهم وأخراهم.. ولا تكن أبداً من المُسِيئين الذين يَتعسون ويُتعسونهم فيها
هذا، ومعني "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحفيز للمسلمين لمزيدٍ من دَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة، كما أنَّ فيه تسلية وتخفيفاً عنهم وتثبيتاً وطَمْأَنَة وتبشيراً وإسعاداً لهم.. أيْ إنْ يُصبكم أيُّ جرحٍ وألمٍ مَا قَلّ أو كَثُرَ فقد أصاب غيركم من غير المسلمين مثله فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل وأنتم الأعْلَوْن أن تَهِنوا وتَحزنوا وبعضهم لم يفعلوا ذلك وهم الأدْنَيَ منكم فاصبروا وانطلقوا فأنتم حتماً أوْلَيَ منهم بهذا الصبر وهذا الانطلاق (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿104﴾ من سورة النساء "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا"﴾.. ".. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.." أيْ هذا بيانٌ لسُنَّة الله أي طريقته الدائمة الجارية فى كوْنه، أنَّ مَن يُحْسِن اتّخاذ الأسباب يَصِل غالبا لنتائجها ومَن لم يُحسنها لا يَصِل حتماً، وهذا شَدٌّ لعزائم المسلمين وإرشادٌ لهم لإحسان اتّخاذ أسباب النصر والنجاح في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها وإلا إذا لم يُحسنوا اتّخاذها ذَهَبَت لمَن يُحْسِنها حتي ولو لم يكن مسلما! كما أنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عنهم والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ فلا تَحزنوا إنْ يَمْسَسكم قَرْحٌ مَا فهذه الأوقات والأزمان والأحوال التي فيها حزن أو فرح نُدَاوِلها بين الناس أيْ نجعلها مُتَدَاوَلَة أيْ مُتَنَاقَلَة بينهم علي حسب حُسْن اتّخاذهم للأسباب، فمَن يَطلب العُلاَ والتّقَدُّم والرخاء والسعادة في هذه الحياة، ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك قَدْر استطاعته من كل أنواع القُوَيَ الاقتصادية والسياسية والإدارية والعلمية والإعلامية والمجتمعية والعسكرية وغيرها، فلابُدَّ حتماً سيَصِل، حتي ولو كان كافرا!! فهذا هو قانون الأسباب والنتائج في هذه الدنيا والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾.. لكنَّ المسلم الذي يعمل بكل أخلاق إسلامه وأحسنَ اتّخاذ مثل هذه الأسباب إحساناً تامَّاً مَا أمكن لابُدَّ حتماً وبكل تأكيدٍ سيُساعده ربه ويُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه، وهو ما لا يكون لغير المسلم قطعاً، فيكون وصوله للريادة والعُلَا والهناء هو ومَن حوله أسْرَع وأفضل وأيْسَر من غير المسلم لأنه يأخذ بيَدِ نفسه والآخرين لكل خيرٍ وسعادةٍ كما طَلَبَ منه ربه وإسلامه ذلك، وسيستمرّ هكذا في الصَّدَارَة ما دام بقي مستمرّاً علي إحسان اتّخاذ الأسباب، فإنْ تَهَاوَن وأهْمَلَ وقَصَّرَ، ذَهَبَت لمَن يُحْسِن!.. ".. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التسلية والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ ولا تَحزنوا فإنَّ مِن حِكَم أنْ يصيبكم قَرْحٌ أحيانا بسبب عدم إحسان اتّخاذ الأسباب أو أحسنتم اتّخاذها ولكنْ لم تَصِلُوا لِمَا تُريدون من نتائج أو كاختبارٍ من ربكم بلا سببٍ منكم أو ما شابه هذا من أحداثٍ واختباراتٍ في دنياكم هو لِتَخرجوا منها مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ولِيَعلمَ الله الذين آمنوا، وهذا من باب التمثيل والتشبيه للتقريب للأذهان أيْ فَعَلْنا فِعْل مَن يُريد أن يعلم لأنه سبحانه عالمٌ بكلّ شيءٍ قَبْل حُدُوثه حتماً، والمقصود أنه بمِثْل هذه الأحداث والاختبارات ستَزدادون استفاداتٍ حيث سيَعْلم الله أيْ ستَعْلمون وسيُعْلِمكم وسيُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظْهِر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. ".. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ.." أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره وهي لكي يَجعل منكم كلكم شهداء تكريماً لكم لحُسن خُلُقكم حين تعملون بأخلاق إسلامكم وتُحسنون التعامُل مع ما يَمسّكم من قَرْحٍ فتصبرون عليه وتستفيدون منه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.."﴾ فتكونون بذلك مُؤَهَّلِين لأنْ تكونوا شهداء علي الناس في كل شئون حياتهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة تكونون شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. كذلك من معاني شهداء أنهم يبذلون كل ما استطاعوا في سبيل القيام بمهمّة الشهادة المُسْعِدَة هذه إلي حَدِّ أنهم قد يبذلون دماءهم في سبيلها حبا في ربهم ودينهم واستجابة لطلبهما فيكون بعضهم من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يُرْزَقون قد نالوا أعظم درجات التشريف حيث أعلي درجات الجنات في تمام السعادة الخالدة التي لا تُوصَف مع النّبِيِّيِن والصِّدِّيقِين والصالحين.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾" أيْ والله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول ﷺ وللإسلام، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ظُلْمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴿141﴾" أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره – وأيضا مزيد من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم – وهي لكي يُمَحِّص الله الذين آمنوا أيْ يَختبرهم ويُخَلّصهم ويُنَقّيهم من كلّ سوءٍ لأنه يحبهم حيث بالاختبارات يَخرجون مستفيدين منها استفادات كثيرة إذ يُراجِعون ذواتهم ويَتَخَلّصون من عيوبهم ويُصَحِّحُون أخطاءهم فيَصلحون ويَكملون ويَرْقون ويَقوون ويَسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وبهذا الصلاح والكمال من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام يُصبحون مُؤَهَّلِين للنصر في كل شئون حياتهم وعلي أعدائهم وتأييد ربهم وعوْنه لهم ويستخدمهم تعالي من ضمن جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه لكي يَمْحَق الكافرين أو الظالمين أو الفاسدين أو غيرهم أيْ يَسْحقهم ويَمْحهم ويستأصلهم حتي تسعد البشرية بانزواء شَرِّهم وضعفه واختفائه تدريجيا
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴿142﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك، والجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴿142﴾" أيْ هل ظننتم أيها المسلمون أن تدخلوا الجنة دون أن يعلم الله المجاهدين منكم والصابرين أيْ بدون أن تُجاهدوا وتَصبروا؟! كلا بالقطع! إنْ كان هذا هو حُسْبانكم فهو حُسْبَان خاطيء إذ لابُدَّ أن يَعلم الله هذا منكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿214﴾ من سورة البقرة " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم.."﴾، والمقصود أن تَعلموا أنتم ويُعْلِمكم سبحانه ويُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – المجاهدين والصابرين والذين لا يُجاهدون ولا يَصبرون لأنَّ الله تعالي حتماً يعلم أحوال الجميع حتي قبل أن يقوموا بجهادهم وصبرهم أو كَسَلهم وتخاذلهم ولكنَّ الأمر هو لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه المُجاهِد الصابِر أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به وجهاداً وصبراً لتتمّ سعادته، ويعلم المُتَخَاذِل المُتَكاسِل المُتَرَاجِع غير الصَّبُور ومَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلاّ تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الأحداث الكاشِفَة في الدنيا، لا يكون للمُسِيئين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال المجاهدون الصابرون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!.. هذا، ولفظ "لمَّا" يُفيد أنه لم يَحدث الأمر حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا.. هذا، ومعني الجهاد عموما هو بذل الجهد، وفي سبيل الله يعني في كل خير، والجهاد صور ودرجات، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾.. والصابرون هم الثابِتُون الصَّامِدُون المُستمِرّون بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴿143﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَتَمنّون إلا خيرا، وإذا حَدَثَ وحَانَ وقت فِعْله فَعَلوه، وإذا وَعدوا بشيءٍ أوفوا بوعودهم وعهودهم وعقودهم ومواثيقهم.. وإيّاك إياك أن تكون مثل بعض السابقين، وبعض الحالِيِّين، الذين يتمنّون مثلا الاستشهاد في سبيل الله بخيال عقولهم، فإذا ما حَدَثَ حقيقة علي أرض الواقع ورأوه أمام أعينهم ونظرهم، إذا هم يَجْبُنون ويَتَخاذلون ويَتَراجعون.. إنهم حتماً ستُصيبهم الذلّة والتعاسة في الداريْن.. فلا تكن مثلهم أبداً أسعدك الله وإلا تَعِسْتَ تعاساتهم.. وكن من الذين يَنظرون لكل ذلك بنظر المُستفيد المُعْتَبِر
هذا، ومعني "وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴿143﴾" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شجعانا مِقْدَامِين مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، وهو أيضا تذكيرٌ وتحفيزٌ لهم لكي يكونوا علي الدوام من الذين لا يَتَمنّون إلا خيرا، وإذا حَدَثَ وحَانَ وقت فِعْله فَعَلوه، وإذا وَعدوا بشيءٍ أوفوا بوعودهم وعهودهم وعقودهم ومواثيقهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ أو يَتَوَهَّم أنَّ فِعْل الخير يكون بالتمَنّي فقط دون تنفيذه واقعيا أو لا يُحسن الاستعداد لفِعْله بما يحتاجه من جهودٍ وأسبابٍ أو لا يصبر عليه حتي يستكمله أو ما شابه هذا مِمَّا يستحقّ اللّوْم والعِتاب.. أي ولقد كنتم دائما أيها المسلمون تتمنّون أيْ تَطلبون وتحبّون الموت في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ من أجل الدفاع عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مِن قَبْل أن تُلاقوه واقِعَاً حادِثَاً بالفِعْل، فها هو ذا الاستشهاد يَحْدُث فِعْلاً عند مُلاقاتكم لأعدائكم ويَقع ما كنتم تتمنّون، ورأيتموه أمامكم، وتنظرون إليه مشاهدين مُعاينين للموت بكل وضوحٍ بلا أيِّ تَشْويشٍ متأكّدين منه تماما مُتَأمِّلين مُتَفَكّرين فيه، فأين إذَن صبركم وثباتكم؟! فنَفّذوا بالتالي ما كنتم تتمنّون وما وَعَدْتم به بناءً علي هذا التّمَنّي وأثْبِتوا صِدْقكم في ذلك فقد جاءتكم الفُرْصَة فأَقْدِمُوا واصبروا واستعينوا بربكم ولا تتراجَعوا لتُحَقّقوا كل ما تتمنّوه من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. والمقصود بتَمَنّي الموت الرغبة فيه بداخل مشاعر العقل وإظهار ذلك بالقول بالحديث للغير وإظهاره بالعمل بمُلاقاته وعدم الارتعاش عند حدوثه أو الهروب منه عند رَدّ المعتدين مثلما يحدث مع الصالحين من المسلمين وشهدائهم الذين يُقْبِلون عليه لأنَّ مَن تأكَّدَ بلا أيِّ شكّ أنه بالاستشهاد سيكون من أهل الجنة اشتاق لها وأحَبَّ واستعجل الوصول إليها سريعاً مُجْتَازَاً أيَّ عائقٍ يَعوقه أو يُؤَخّر وصوله
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُفَرِّطون في إسلامهم ولا يَتَرَاجَعُون ولا يَرْتَدّون عنه كله أو بعضه لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وإنما يتمسّكون بكل أخلاقه وبكل ما أوصاهم به رسولهم الكريم ﷺ أن يعملوا به من إسلامٍ بعد وفاته لأنه بَشَرٌ مثلهم وله أجله لكنه يُوحَيَ إليه، فمِن حُبّه والوفاء له حَمْل هذه الوَصِيَّة المُسْعِدَة والتمسّك والعمل بها ودعوة الآخرين لها ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنه رغم قُدْسِيَّة الرسول ﷺ وعظيم شأنه إلا أنَّ الإسلام يُوصِي المسلمين بعدم الاعتماد علي الأفراد وإنما يعتمدون علي المجموع وعلي الشوري وعلي المؤسسات، بعد ربهم قطعا، فيَنطلق الجميع ويَقْوُون ويَسعدون، ولا يَضعفون أو يَتَرَاجَعون أو يَنهزمون بغياب فردٍ أو أفرادٍ مهما كانت مكانتهم عن إحسان اتّخاذ أسباب عِزّهم وتَقَدُّمهم وسعادتهم.. إنه مَن يَرْتَدّ عن دينه الإسلام أو يُفَرِّط في بعضه فهو الخاسِر حتماً لا الله تعالي، فهو الذي سيَتعس تعاسة جُزْئِيَّة أو كُلّيَّة في دنياه علي قَدْر مَا فَرَّط، ثم له التعاسة الأكبر والأتمّ في أخراه، وسيَستمرّ غالِب المسلمين علي تمسّكهم وعملهم بإسلامهم، بالأمانة التي أوْدَعها إيّاهم ربهم ورسولهم، سعداء به سعادة تامّة في دنياهم، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم، وهذا هو جزاء الله المُسْعِد للشاكرين من خَلْقه أمثالهم الذين يشكرون بعقولهم باستشعار نِعَمه سبحانه التي لا تُحْصَيَ، وبألسنتهم بحمده، وبأعمالهم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾" أيْ هذا تقريرٌ لحقيقةٍ ثابتةٍ مُؤَكّدةٍ وهي أن رسولكم الكريم محمد ما هو إلا رسول، أيْ مَبْعوث بالإسلام مِنّا للناس ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، فهو بَشَرٌ ككلّ البَشَر، قد خَلَت أيْ مَضَت وذَهَبت مِن قَبْله الرسل السابقين له، وبالتالي سيَخْلُوا كما خَلوا أيْ سيَمْضِي أيْ سيموت هو أيضا كما ماتوا هم ومَضوا وذهبوا وكما يموت جميع البَشَر، فهو ليس له صفة تُمَيِّزه عن كل البَشَر إلا الرسالة التى أوْحاها الله إليه وهي الإسلام في آخر كتبه وهو القرآن العظيم، وهي رسالة باقية محفوظة إلي يوم القيامة ولا تتطلّب بقاءه أو خلوده، كما حَدَث للرسل الذين سبقوه حيث قد أدّوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا فاستمرّ أتْباعهم بعدهم متمسّكين بإسلامهم بعد خُلُوِّهم، فعليكم أنتم أيضا أن تتمسّكوا وتعملوا به مثلهم بعد خُلُوِّه، لأنَّ هدف بَعْث الرسل تبليغ الرسالة للناس لا أن يَتَوَاجَدوا بينهم خالدين.. ".. أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.." أيْ فهل إنْ مات رسولكم الكريم بانتهاء أجله وقد علمتم أنه ككلّ البَشَر حتماً سيموت أو قُتِلَ بعدوٍّ أو غيره وهو ينشر الإسلام ويدافع عنه انقلبتم علي أعقابكم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ رَجَعْتم علي أقدامكم للخَلْف هارِبين مُبْتَعِدين والمقصود ارْتَدَدْتم عن إسلامكم؟! مع علمكم أنَّ خُلُوّ الرسل قبله وبقاء دينهم الإسلام بعدهم مُتَمَسَّكاً مَعْمُولَاً به بين الناس يجب أن يكون سَبَبَاً للتمسّك بدين محمد ﷺ أيضا لا للانقلاب عليه!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا.." أيْ ومَن يَرْتَدّ ويَرْجِع عن إسلامه ويَتركه ويَكفر ولا يعمل بأخلاقه فحتما وبكل تأكيدٍ لن يضرّ الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين ينقلبون علي أعقابهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمخلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. ".. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾" أيْ وسيُعْطِي الله الشاكرين أعظم العطاء من كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، والشاكرون هم الذين يحمدون الله تعالي علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، وأعظمها عوْنهم علي اختيارهم الإسلام دينا وعملهم بأخلاقه وثباتهم عليه بلا أيِّ ارتدادٍ عن أيِّ خُلُقٍ منه تحت أيّ ظروفٍ أو مُتَغَيِّرات، يشكرون النِّعَم بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴿145﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا علمتَ وتأكّدتَ تماما بلا أيّ شكّ أنك لن تموت إلا بإذن الله حين يقبض روحك حينما يأتي أجلك الذي قَدّره لك.. فإنَّ هذا لا بُدَّ سيَدفعك لأنْ تكون في حياتك مِقْدَامَاً شجاعا قويا مُنْطَلِقا حكيما رَزِينَاً مُحْسِنَاً لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة وغير ذلك من الصفات المُسْعِدَة في الداريْن، لأنك متأكّدٌ أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه لن يُقَصِّر عمرك وأنَّ الجُبْن والتخاذل لن يُطيله! فكَم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم من مِقْدَامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ من الذين يريدون الدنيا والآخرة معا، فهذا هو ما يريده الله تعالي لخَلْقه وهو الهدف الأساسي لخَلْقِهم، أن يسعدوا بخيرات أرضه وكوْنه والتي لا تُحْصَيَ، وما أنزل سبحانه الإسلام للبشرية إلا ليُنَظّم لها بأخلاقه وأنظمته الشاملة كل شئون حياتها فتَسعد بكل لحظاتها، ولذا امتدحهم تعالي بقوله "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ﴿البقرة:201﴾، ووَعَدَهم بالاستجابة ووَعْده الحقّ فقال "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" ﴿آل عمران:148﴾ (برجاء مراجعة الآيتين لتكتمل المعاني﴾.. إنَّ للسعادة في الدنيا أسبابها، وهي مجتمعة في العمل بكل أخلاق الإسلام، فتَفعل كلّ خيرٍ وتَترك أيَّ شرّ، وإنَّ للسعادة الأعظم في الآخرة أسبابها، فقط بأن تكون مُصَدِّقَاً بربك وبرسله وبتشريعاته وبها، وبأن تربط كل أقوالك وأفعالك في دنياك بنوايا خيرٍ بعقلك – كما طَلَب ذلك منك ربك ورسولك ﷺ بقوله "إنما الأعمال بالنّيَّات" – أنك تَطلب بها حب ربك ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. إنَّ بعض أو أكثر أو حتي كل غير المسلمين يطلبون الدنيا فقط دون ربطها بالآخرة لأنهم لا يُصَدّقون بوجودها ولا بوجود ربهم أصلا!.. إنهم يطلبونها دون تمييزٍ بين خيرٍ وشَرٍّ ونافعٍ وضارٍّ وحقٍّ وباطل، ولذا فهم يُسيئون أكثر كثيراً مِمَّا يُصيبون ويُفسدون أكثر مِمَّا يُصْلِحون، وبالتالي سيَتعسون قطعا أكثر كثيراً مِمَّا يَسعدون.. إنَّ هذه الصورة السَّيِّئة من طَلَب الدنيا هي التي ذَمَّها ربنا وقرآننا وإسلامنا وحَذّرنا منها أشدّ التحذير، لأنها في هذه الحالة ستكون مصدر ذِلّةٍ وهَوَانٍ وضعفٍ وانكسارٍ وضَرَرٍ وشَرٍّ وكآبةٍ وتعاسةٍ علي طالبها وعلي مَن حوله بل وعلي البشرية كلها بل والكوْن كله، وسيكون هذا حتما هو اللعب واللهو المُضِرّ المُتْعِس والذي يُنهي عنه.. أمَّا الطلب الجميل للدنيا فيكون بأخلاق الإسلام كلها، بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ، وبنوايا حسنة بالعقل تربط بين الدنيا والآخرة، وبِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، وبتَوَاضُعٍ وتعاوُنٍ وتسامُحٍ وتحاوُرٍ وتفاهُمٍ وحُسْنِ تخطيطٍ وإعدادٍ واتّخاذِ أسباب، وحُسن علاقاتٍ إنسانيةٍ راقية، وما شابه ذلك، مع الاستعداد التامّ لتَرْك كل هذا والتضحية به بكل كَرَمٍ وعِزّةٍ وشُمُوخٍ حينما يحتاج الأمر كالدفاع عن الذات والعِرْض والخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء ونحو ذلك، فهذا هو ما يحبه ربنا ورسولنا ﷺ وقرآننا وإسلامنا، فهُم لم يطلبوا مِنّا قطعا تَرْك الدنيا، وإلا لماذا خَلَقَها تعالي وأرسل لها الرسل ومعهم التشريعات التي تنظمها واسْتُشْهِد الشهداء دفاعا عنها وعن الحقّ والخَلْق فيها؟! ولماذا كان القرآن والإسلام بكل هذه التفصيلات التي تُنَظّم كلّ صغيرٍ وكبيرٍ بها فلقد كان يكفي آية واحدة مثلا تطلب أن اتركوا الدنيا واهجروها؟!!.. فالحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه كما يحب ربنا ويَرْضَيَ عنا علي هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ولا تُعَدّ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾
هذا، ومعني " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴿145﴾" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ لأنه يَتَوَهَّم أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَه وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! فالواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. أيْ ولا يُمكن أبداً حتماً لأيِّ نفسٍ من النفوس أن تموت لأيِّ سببٍ من الأسباب إلا بإذن الله خالِقها ومالِكها أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فهو سبحانه الذى كَتَبَ لكل نفسٍ خَلَقَها عُمْرَها كتاباً مُؤَجَّلَاً، أىْ له أجل مُحَدَّد، أيْ مُؤَقّتَاً بوقتٍ معلومٍ مُؤَخَّرَاً إليه لا يتقدَّم عنه لحظة ولا يتأَخَّر، وهو آتٍ يوما ما بلا أيّ شكّ.. هذا، وطول الأعمار ونقصانها هي من حِكَم الله التي يَعْتَبِر بها مَن أراد الاعتبار ليَنتفع بما يَحدث حوله لمَن طال عمره أو بقِصَرِ عُمْر آخرين وموتهم مُبكّرا وما شابه هذا مِن عِبَرٍ مُفيدةٍ مُسْعِدَةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا.." أيْ ومَن يَطلب بعمله ثواب الدنيا أىْ جزاءها وعطاءها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق نُعْطِهِ منها ما نشاء أن نُؤتيه، والمقصود التنبيه علي أنَّ الذي يعمل فيها ولها وحدها فقط ولا يريد الآخرة معها ولا يعمل لها سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسٍ لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يشبههم، فمِثْل هذا سيَأخذ منها علي قَدْر جهوده وقد يأخذ أقلّ أو أكثر بقَدْر ما يشاء الله له برحمته ولمصلحته ولمَن حوله لعله يستفيق ويعود إليه ثم مع الوقت وضعفه الجسديّ والعقليّ يَقِلّ ما يأخذه ويتناقص ثم ينعدم تماما بموته ثم ليس له في الآخرة أيّ نصيبٍ أيْ قَدْرٍ مِن ثوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ لأنه لم يعمل لها أصلا بل ويُحَاسَب علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا.." أيْ ومَن يَطلب بعمله في الدنيا ثواب الآخرة أي الأجر فيها يوم القيامة الذي لا يُوصَف في جناتها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر، واجْتَهَدَ في ذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، فمِثْل هذا المُجْتَهِد وَعْدٌ علي الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مطلقا أن يزيد له في هذا العمل الذي يعمله أي يزيد في توفيقه وعوْنه وتسهيل طرق الخير له وفي ثماره ونتائجه المُسْعِدَة في دنياه ثم أيضا في أخراه إذ يزيد ويُضاعف له قطعا في أجره حيث الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة من أفضاله ورحماته وخيراته سبحانه، فمِثْله الذي يزرع في الدنيا للآخرة وهو دوْما مرتبط بها تجده بسبب ذلك دائما في ازديادٍ من كلّ هِمَّة ونشاط وقوة وعَزْم وخير وسعادة لتأكّده أنه كلما زاد من عمله الخيريّ كلما ازداد خيرا علي خير وسعادة علي سعادة في دنياه وكلما ازداد استبشارا بما ينتظره في أخراه، وكل ذلك النجاح الدنيويّ والأخرويّ الذي يحققّه هو بسبب أنه متأكّد تماما من وَعْد ربه في قوله "..نُؤْتِهِ مِنْهَا.." وقوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى.." ﴿محمد:17﴾.. فأيّ الاختياريْن إذَن أفضل؟! إنه لا مُقَارَنة بكل تأكيد!! إنَّ أيَّ صاحب عقل حتما سيُحسن الاختيار ويختار الأعظم والأدْوَم والأخلد بأنْ يُحسن طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد الله اللطيف سبحانه من عباده وكما يريده إسلامه منهم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة.. ثم مراجعة أيضا الآية ﴿18﴾، ﴿19﴾ من سورة الإسراء "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا"، "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا"﴾.. ".. وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴿145﴾" أيْ وسنُعْطِي الشاكرين أعظم العطاء من كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، والشاكرون هم الذين يحمدون الله تعالي علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، وأعظمها عوْنهم علي اختيارهم الإسلام دينا وعملهم بأخلاقه وثباتهم عليه بلا أيِّ ارتدادٍ عن أيِّ خُلُقٍ منه تحت أيّ ظروفٍ أو مُتَغَيِّرات، يشكرون النِّعَم بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. هذا، واستخدام ذات اللفظ "الشاكرين"، ولفظ الجزاء، كما في الآية السابقة، هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيه والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿146﴾ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿147﴾ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿148﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ﴾.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿146﴾" أيْ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين أن يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم، كما أنه لَوْمٌ وعِتَابٌ وتحذيرٌ لمَن لا يفعل ذلك ويَتراجَع بلا عُذْرٍ مقبولٍ لأنه يَتَوَهَّم أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَه وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! فالواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. أيْ كم مِن نَبِيّ، أيْ كثير منهم، في السابق، قاتَلَ معه رِبِّيُّون كثيرون ﴿والرِّبِّيُّون والرَّبَّانِيُّون بمعني واحد عند كثير من العلماء﴾ وهم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطِون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبّون لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فمَا وَهَنُوا أبداً أى مَا عَجَزوا أو جَبُنُوا نفسياً ومَا ضَعُفوا أىْ جسدياً وبكل أنواع القُوَيَ عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عَمَّا يؤمنون به وما استكانوا أيْ ما سَكَنوا لمَن يُذِلّهم وخضعوا واستسلموا له وقَبِلوا بإذلاله وإهانته لضعف نفوسهم حيث ليس لهم هِمَم عالية، بسبب ما أصابهم أو أنبياءهم مِن صِعَابٍ أو جراحٍ أو استشهادٍ أو غيره، لأنَّ الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة حيث كانوا يَنشرونه بكل قُدْوةٍ وحِكَمةٍ وموعظةٍ حسنة ويدافعون عنه بما استطاعوا بكل الوسائل المُمْكِنَة حتي قُتِلوا من أجل إعلاء كلمة الله ونُصْرة الإسلام والمسلمين.. إنه لو حَدَثَ منهم وَهنٌ أو ضعفٌ أو استكانة لَكَانَت الذلّة والتعاسة التامّة، ولكنهم صَبَروا وثبتوا واستمرّوا ففازوا وسعدوا في الداريْن.. فاتّخِذوهم قُدْوة لكم لتنالوا مثل مَكَانتهم وسعادتهم فيهما.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿146﴾" أيْ والله حتماً يحبّ الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للصابرين
ومعني "وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿147﴾" أيْ هذا بيانٌ للحال الطيّب الدائم لهؤلاء الربّانِيِّين أثناء تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم وحُسن دعوتهم له ودفاعهم عنه وثباتهم علي ذلك وعلي ما قد يصيبهم من ضَرَرٍ أثناءه بكل قوةٍ وهِمَّةٍ وبلا أيِّ ضعفٍ أو اضطرابٍ أو ضيقٍ مُستعينين دَوْمَاً بربهم متوكّلين مُعتمدين عليه.. أي ولم يكن لهم دائما قولٌ في مثل هذه المواقف الشديدة وغيرها عموماً إلا أن يُكثروا من أنْ يقولوا ويدعوا مُتَوسِّلين ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – اغفر لنا ذنوبنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وكذلك اغفر إسرافنا في أمرنا أي إكثارنا ومُبَالَغَتنا في الأخطاء سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وأحْيِنَا دائما في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿147﴾" أيْ ورَسِّخْ أقدامنا فلا نَفِرّ، واجعل الغَلَبَة لنا بعَوْنك وتوفيقك وتأييدك وتيسيرك علي أعدائنا هؤلاء القوم الكافرين أيْ المُكَذّبين بك وبرسلك وبكتبك وبآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك الغير العاملين بالإسلام المُعادِين له الفاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. لقد خَتَم الرّبَّانيون دعاءهم بما هو نتيجة حَتْمِيَّة للاستعانة بربهم خالقهم القادر علي كلّ شيءٍ ولحُسن الاستعداد وللصبر وللثبات وهو النصر على الأعداء.. فلْيَتَشَبَّه بهم كل مسلم يريد أن يَنَالَ مثل مكانتهم وسعادتهم في الداريْن
ومعني "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿148﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهؤلاء الرَّبَّانِيِّين في مُقابِل صفاتهم وأفعالهم وأقوالهم الطيّبة هذه أنْ أعطاهم الله عطاءَ وجزاءَ الدنيا وهو كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم العطاء والجزاء والأجر الحَسَن الذي لا يُوصَف في الآخرة حيث ما هو أعظم خيرا وسعادة وأتمّ وأخْلد يتمثّل في تمام الرضا والغُفْران والجنان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿148﴾" أيْ والله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبْصِر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿149﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿149﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إنْ تُطيعوا الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، تُطيعوهم فيما يريدون منكم أن تفعلوه من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام، أيْ إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، يَتَدَرَّجُوا معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يَرُدُّوكم علي أعقابكم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ يَرْجِعوكم علي أقدامكم للخَلْف هارِبين مُبْتَعِدين والمقصود يجعلوكم تَرْتَدُّوا عن إسلامكم أي تكفروا بعد إيمانكم، فتَنْقَلِبوا خاسرين أيْ فتَعودوا وتَرْجِعوا بسبب ذلك حتماً خاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسرون وتَفقدون دنياكم فتتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدكم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسرون حتما أخراكم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴿150﴾ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴿151﴾ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿152﴾ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿153﴾ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿154﴾ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿155﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴿157﴾ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴿158﴾ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿159﴾ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿160﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴿150﴾" أيْ ليس الكافرون الذين سَبَقَ ذِكْرهم في الآية السابقة ولا مَن يُشبههم ولا غيرهم ولا أيّ أحدٍ هو مولاكم أيها المؤمنون فتُطيعوه فيما يُخالِف الإسلام لكنَّ الله وحده هو مولاكم أيْ مُتَوَلّي أموركم في كل شئون حياتكم ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لكم، أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم وحافظكم ومانِعكم من الضرَر ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام، ومَن كان الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. فأطيعوه إذَن باتّباع كل أخلاق إسلامكم وتوكّلوا عليه واشكروه واطلبوا نصره هو وحده فهو الذي يستحقّ هذا.. ".. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴿150﴾" أيْ لأنه هو خير الناصرين أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! فنَصْره سبحانه مُؤَكّد لمَن يتّخذ أسبابه لأنه هو مالِك الأسباب كلها ولا يصعب عليه شيء فى كوْنه
ومعني "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴿151﴾" أيْ هذا طمْأَنَة وتَبْشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم، وهو دليل من الأدِلّة علي أنه مولاهم وهو خير الناصرين، وبأَهْوَن الأسباب!.. أيْ سنَقْذِف في عقول ومشاعر الذي كفروا الخوف الشديد فيكون ذلك سبباً في هروبهم وتَرْكهم لكل أسبابهم قوّتهم مهما عظمت وهزيمتهم.. فإلقاء الرعب فيهم وبينهم هو من ضِمْن جنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، وهو من الأسلحة البسيطة ذات التأثير الفَعَّال استهزاءً من القويّ العزيز بهم إذ لا داعي معهم لاستخدام قوة أكبر من ذلك!!.. ".. بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ.." أيْ هذا الرعب الذي هم فيه في دنياهم هو بسبب إشراكهم بالله آلهة غيره يعبدونها أي يطيعونها كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرة والعلم والرزق ونحو ذلك.. فكل المشركين يُوقِنون تمام اليقين بداخل عقولهم أنهم لا يَستندون إلي شيء، فآلهتم لا تنفع ولا تضرّ بشيء، ولذلك فهم في حياتهم في رُعْبٍ دائمٍ بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور من تَوَقّع المكروه والهزيمة علي الدوام لأنهم يُدْركون تماما أنه لا يقف بجوارهم إلهٌ قويّ متينٌ قادرٌ علي كل شيءٍ يَحميهم ويَرعاهم ويُعينهم، كما أنهم فيما بينهم يُفَرِّقهم التنازُع علي مصالحهم حتي وإنْ ظَهَروا مُجتمعين، بينما يُقابلهم المسلمون المتمسّكون بإسلامهم حقّ التمسّك العامِلون بكل أخلاقه يُحسنون اتّخاذ كل أسباب النجاح بكل قوةٍ ويتعاونون ويتكاتفون فيما بينهم ويُعينهم ربهم ويزيدهم قوة والتحاماً ويُحبّون الاستشهاد ويَحرصون عليه أشدّ الحرص كما يحبون هم ويحرصون علي حياتهم فلا بُدَّ سيَجعلهم سبحانه يخافون منهم وينهزمون حتماً أمامهم في دنياهم.. ".. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.." أيْ ما لم يُنَزّل الله بإشراكه دليلا، أيْ جعلوها واتّخذوها آلهة من عند أنفسهم دون أن يكون معهم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالهم وأفعالهم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليهم، ولا يوجد عندهم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ.." أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة.. ".. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴿151﴾" أيْ وما أسوأ مكان إقامةِ واستقرارِ الظالمين حيث تمام العذاب والتعاسة الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿152﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي ينصر حتماً مَن يتّخذ أسباب النصر ويُحسنها كاملة قَدْر إمكانه، ومَن لم يتّخذها لا ينصره، لأنَّ هناك قانونا عاما للحياة يعلمه الجميع وهو قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان غير مسلمٍ ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما قال تعالي مُوَضِّحَاً هذا "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فهذا هو تمام العدل، عدل الله العادل، الذي يُوَفّي لكلٍّ حقّه كاملاً دون أيّ ظلم، فهو سبحانه يحب المسلمين ويَرْعاهم ويُرَاعي مشاعرهم ويَنصرهم ما داموا مسلمين حقّ الإسلام أيْ متمسّكين عامِلين بأخلاق إسلامهم، فإنْ قَصَّرُوا وفَرَّطُوا، فحينذ قد تَساووا مع غيرهم وحتي أعدائهم، فلينتصر حينها إذَن الأقوي والأكثر استعدادا، فلا خواطِر ولا عَشَم ولا مُحَابَاة ولا مُجَامَلَة وقتها!! وإلا اخْتَلّ العدل وانْكَسَرَت القواعد وانتشرَت الفوضَيَ وعَمَّت التعاسة.. أيْ ولقد حقّق الله لكم أيها المسلمون ما وَعَدَكم به من نصرٍ علي أعدائكم حين كنتم تَحَسّونهم أيْ تقتلونهم قتلاً شديداً يفقدون به حسّهم وحركتهم – وذلك في بداية غزوة أُحُد – بإذنه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ.." أيْ واستمرّ ذلك النصر والوَعْد به إلي أنْ أخْلَفتم أنتم شروطه ووَعْدكم مع ربكم، أيْ إلي أنْ فشلتم أيْ ضَعُفتم وجَبُنْتم وتَرَاجَعْتم عن قتال العدو نفسياً بانكسار إرادتكم أو جسدياً أو غيره، وتنازَعتم في الأمر أي اختلفتم في الأمر الذي أمركم به قائدكم وما اتفقتم عليه من خطَط وأهداف، وعصيتم أيْ خالَفتم وصايا الله ورسوله ﷺ وأخلاق إسلامكم في بعض أقوالكم وأفعالكم، وكان كل ذلك من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، حينها حَلّت بكم الهزيمة من بعد ما أراكم ربكم ما تحبون من نصرٍ وعِزّة ومَكَانَة ونحو هذا في بداية المعركة حينما كنتم مُلْتَزِمين بأسباب النصر.. ".. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.." أيْ هذا ذمٌّ فلا يُفْعَل مثله، ومدحٌ يُقْتَدَي به.. أي منكم أيها المسلمون مَن يَطلب بعمله ثواب الدنيا أىْ جزاءها وعطاءها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق ويَنْسَيَ العمل معها للآخرة، فهو مسلمٌ مُصَدِّقٌ بها لكنه ينساها أحيانا أو كثيرا بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها، فلْيَستيقظ ولْيَعمل لهما معا ليَسعد فيهما معا.. ومنكم مَن يَطلب بعمله في الدنيا ثواب الآخرة أي الأجر فيها يوم القيامة الذي لا يُوصَف في جناتها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر، ويجْتَهِد في ذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ أنه يريد أيضا الآخرة من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، فلْيَستمرّ في ذلك وليَقْتَدِي به كل مَن أراد أن يكون مثله فائزاً بكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن (برجاء لتكتمل المعاني عن حُسن طَلَب المسلم للدنيا والآخرة معا مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ".. وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ"، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾.. ".. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ.." أيْ ثم بسبب فَشَلِكم وتنازُعِكم وعِصيانكم، رَدَّكم عنهم، أيْ رَجَعتم عن أعدائكم بغير نصرٍ، أيْ لم يُحَقّق ربكم لكم تمام النصر عليهم استمراراً لِمَا كان في أول المعركة حينما كنتم مُتّخِذين أسبابه، لأنه لو نَصَرَكم وأنتم علي هذا الحال السيء لكان ضَرَرَاً شديداً عليكم حيث تعتادون علي عدم اتّخاذ الأسباب في كل شئون حياتكم لأنكم تنتصرون ما دمتم مسلمين حتي لو كنتم غير مُؤَهَّلِين للنصر!.. ".. لِيَبْتَلِيَكُمْ.." أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلّوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿2﴾، ﴿3﴾ من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم الآيتين ﴿140﴾، ﴿141﴾ من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ".. ثم مراجعة مرة أخري كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ منها، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿ 15﴾ منها أيضا، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾.. ".. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ.." أيْ ولقد سامَحَكم لَمَّا تُبْتُم ومَحَا عنكم آثار ذنوبكم المُتْعِسَة في الداريْن، وأحْياكم في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿152﴾" أيْ والله تعالى صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على المؤمنين، وعلي الناس وعلي الخَلْق جميعا، بما يُوَسِّعَ عليهم من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما يَعفو عنهم من أخطائهم وبما يُعينهم علي الخروج منها باستفاداتٍ كثيرة وبما يُعْطِي المُحسنين منهم في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ خالدٍ لا يُوصَف، فهو وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم الهائل الكامل الدائم الذي لا يُقارَن
ومعني "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿153﴾" أيْ هذا بيانٌ لحال المسلمين حينما يَتنازعون ويَعصون فإنهم ينهزمون حتما لأنهم يتركون أهم أسباب نصرهم من التَّوافُق والتلاحُم وطاعة الله والرسول والإسلام وتمام الاستعداد بكل أنواع القوي مع حُسن التوكّل عليه سبحانه والإخلاص له والإقدام والثبات والصبر.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين كنتم تُصْعِدون أي تَذهبون في صَعِيد الأرض أيْ علي وجهها وما ارتفع منها تَصْعَدون مرتفعاتها هاربين من أعدائكم، ولا تَلْوُون رؤوسكم علي أيِّ أحدٍ تَلْتَفِتُون إليه، والمقصود إظهار حالة شدّة وسرعة الهرب والتّشَتّت والعشوائية والخوف والذلّة التي حَدَثَت لهم في غزوة أحد لَمَّا تَنَازَعوا وعَصوا.. ".. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.." أيْ والحال والواقع أنَّ الرسول ﷺ ثابتٌ يُناديكم في آخركم أيْ من ورائكم لتَرْجِعوا لتَثْبُتوا.. ".. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ.." أيْ فأعطاكم وجزاكم الله عقاباً مناسباً لعِصيانكم وكنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ له وبسببه – لتستفيقوا ولتعودوا لربكم ولأخلاق إسلامكم – ألَمَاً علي ألمٍ وحُزْنَاً علي حزنٍ وتعاسة فوق تعاسة، فهو ألم وحزن كثير مُتَرَاكِم.. ولكنه عقاب له ثوابه أي أجره وخيره في الداريْن ولذا اسْتُخْدِمَ لفظ "فأثابكم"! لأنَّ فيه الثواب العظيم للصبر ولتصويب الأخطاء.. ".. لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين وتخفيفٌ عنهم مِمَّا أصابهم.. أيْ رغم أنَّ ظاهر ما حَدَثَ سيء، ورغم أنه بسبب عصيانكم وكنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ له، إلا أنَّ في باطنه خيرٌ كثيرٌ ستُدْركونه مع الوقت حيث ستَخرجون منه مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. إنَّ ما حَدَثَ هو تدريبٌ وإعدادٌ لكم وتجهيزٌ لمُجَابَهَة أيّ صعوبات قد تقابلونها في حياتكم فتنتصرون عليها بإرادتكم القوية التي خرجتم بها من هذه الدورة التدريبية المكثفة، وبالتالي فهو لكيلا تأسوا أيْ لا تحزنوا مستقبلا علي ما فاتكم من أرزاقٍ لا يمكنكم تحصيلها لسببٍ ما ولا تحزنوا علي ما أصابكم من مصائب وتكونوا أقوياء تنتصرون علي أيّ عَقَبَةٍ وتعيشون أعِزّة سعداء بذلك، إنه لكَي لا تحزنوا حُزْنَاً يُقْعِدكم عن مواصلة الحياة والتغلّب علي بعض صعابها والاستفادة من التعامُل معها والصبر عليها والاستفادة منها خبرات واستفادات كثيرة، أو يُقعدكم ويُبعدكم عن اللجوء إلي الله الخالق الكريم المُعين القادر علي كل شيء ودعائه والتوكّل عليه مع إحسان اتِّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا المُحَرَّمة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أو يُوقِعكم في شَرٍّ مَا كسوءِ تَعَامُلٍ معه تعالي بنسيانِ فضله وعوْنه ودعائه ورفض تقديراته في كوْنه ويَجعلكم تُسِيئون لأنفسكم ومَن حولكم بالاستسلام للمصيبة وما شابه هذا مِمَّا يُتعسكم ويُتعسهم.. إنه قد فاتكم هذا الرزق الذي كنتم تسعون إليه ولم تحصلوا عليه لأنَّ الله لم يكتبه لكم لحكمةٍ ما تستفيدون منها عاجلا أو آجلا سواء علمتموها وقتها أو بعد حين.. إنه بهذا الذي حَدَثَ لكم ستكونون دائما مستقبلا مُنْتَبِهين مُستعِدّين لمِثْل هذه الأمور وتَقْوَيَ إرادة عقولكم لمواجهتها والاستفادة منها والهداية بها وبنتائجها، فباستعدادكم لكل المُتغيّرات ستعيشون كل حياتكم مُتَوَازِنين حُكَماء تسعدون بالخير الكثير وتعالجون الشرّ القليل إذا حدث بما يُفيدكم ويُسعدكم أنتم ومن حولكم فتسعدون تمام السعادة في دنياكم ثم لكم أجوركم العظيمة في أخراكم علي حُسن التصرّف أثناء الخير أو الشرّ (برجاء أيضا لكي تكتمل المعاني مراجعة الجزء من الآية السابقة "..لِيَبْتَلِيَكُمْ.."، ثم الآية ﴿51﴾ من سورة التوبة "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"﴾.. إنَّ مَن عَلِمَ ذلك بتَدَبّر وتعقّل وتعمّق، وهذا هو دائما حال المسلم الذي يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه، هَانَت عليه المصائب إذا حَدَثَت واطمأنّ تماما لكل تقديراته تعالى وكان دوْما بعوْنه صبورا عند الشدائد وشكورا عند المَسَرَّات فيَسعد بذلك في دنياه وأخراه، بينما مَن لم يَتَخَلّق بخُلُق الإسلام فإنه يتخبَّط في الخوف والقَلَق إذا أصابته أيّ مصيبة ويتكبّر ويتعالَيَ ويتفاخَر علي الآخرين إذا جاءه خيرٌ مَا فيَخرج عن الاتِّزان والحكمة في الحالتين ويَتعس في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿153﴾" أيْ واعلموا وتذكّروا دوْماً طوال حياتكم أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿154﴾" أي هذا بيانٌ لبعض مظاهر رحمة الله بالمسلمين وتسليته وطَمْأَنَته وتَبشيره وتثبيته لهم وتخفيفه عنهم بعض ما أصابهم وحبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته.. أيْ ثم أنزل عليكم أيها المسلمون مِن بَعد الغَمّ الذي أصابكم أَمْنَاً تامَّاً بلا أيِّ خوفٍ كان مظهره نعاساً وهو أول النوم واسترخائه الذي يُريح الجسم ويُقَوِّيه ولا يُرْخِيه تماما كالنوم العميق، وهو دلالة علي الأمن والاستقرار والاسترداد للقوة لأنَّ المهموم لا يستقرّ ولا ينام غالبا، وهو أيضا دليلٌ يُبَشّركم بأنَّ الله معكم بعلمه وقُدْرته وعوْنه ونصره وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، يَغْشَيَ طائفة منكم أيْ يُغَطّي كالغشاء مجموعة منكم وهي المجموعة الصابرة الثابتة المُتَوَكّلة علي ربها العامِلَة بكل أخلاق إسلامها التي لا تَفِرّ حتي تُنْصَر أو تُسْتَشْهَد.. ".. وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ.." أيْ وهناك مجموعة أخري معكم وبينكم قد كان هَمَّهُم أنفسهم فقط لا يَعْنِيهم غيرها، أهَمَّهم نجاتها وتحصيل مكاسبها الدنيوية لا يَهتمّون إلا بذلك، لا يَهمّها حال الإسلام والمسلمين انتشرَ وانتصرَ وانتصروا أم لا، وأيضا قد أَوْقَعَت نفسها فى الهَمّ والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها وخوفها المستمرّ وفقدانها ما كانت تأمله من غنائم وكل ذلك وغيره سببه عدم عملها بكل أخلاق إسلامها ونسيان توكّلها علي ربها وسؤاله عوْنه ونَصْره وحرصها علي دنياها ومكاسبها ونسيانها أخراها وما شابه ذلك من اهتماماتٍ جعلتها مُنْشَغِلَة بها إلي حدّ الهَمّ والحزن والأنانِية.. فأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً لا يُنَزّل الله عليهم أَمْنه وسَكِينته وتَبْشيره وعوْنه ونصره.. ".. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ.." أيْ ولم يَكتفوا بما سَبَقَ ذِكْره من سوءٍ، بل يُضيفون إليه سوءَ خُلُقٍ أشدّ وأفظع وهو أنهم يُسيئون الظنّ بالله تعالي حيث يظنون به ظنا ليس هو الحقّ الذي يجب أن يُظَنّ به سبحانه وهو العدل والعوْن والتأييد عند الثبات بتمام قُدْرته وعلمه، فهم يَتَوَهَّمون به تَوَهُّمَاً باطلا كاذبا غير حقيقيّ كظنّ أهل الجاهلية – وهم الجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ والذين يجهلون الإسلام وما فيه من مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم – بأنه لن ينصر الإسلام والمسلمين ولن يهزم أعداءهم وما شابه ذلك من ظنون باطلة كاذبة فاسدة يظنها الإنسان الذي يضعف اتصاله بربه وعمله بأخلاق إسلامه فيتركها جزئيا أو كُلّيَّاً ويَصير لا يَهمّه إلا نفسه.. ".. يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ هذا تفسيرٌ وتوضيحٌ لبعض ظنّ الجاهلية الذي يظنّه أمثال هؤلاء الذين قد أَهَمّتهم أنفسهم فقط حيث يقولون فيما بينهم ولغيرهم رافضين لِمَا حَدَثَ مُعترضين نادِمين علي تَوَاجُدهم مع المسلمين في أزمتهم ليس لنا شيء من الأمر أيْ من أمر التّوَاجُد في هذه الأزمة وإنما تَوَاجَدْنا فيها مُكْرَهِين بدون أخذ رأينا، ولو كان الأمر مَوْكُولاً إلينا ونحن الذي نُديره لم يَحْدُث ما حَدَث! وهل تحقّق لنا من الأمر أيْ أمر النصر وأخذ المكاسب مِمَّا وَعَدَنا به الإسلام أيّ شيء؟!.. وكل ما يقولونه هو من أجل التشكيك في نصر الله وعوْنه وتقديره للأمور لحِكَمٍ يعلمها وفي صِدْق الإسلام أنه سيَنتشر وسيَنتصر والتشكيك في القيادة بإظهار خطأ آرائها لنشر الضعف والهزيمة بين المسلمين.. ".. قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الأمر كله، أيْ أمر النصر أو الهزيمة أو أيّ شيءٍ أو أيّ حَدَث، كله بيَدِ الله تعالي الخالق الحكيم المُدَبِّر القادر علي كل شيءٍ حيث هو الذي يُدَبِّر كل شئون خَلْقه علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُحقّق مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم، وهم ليس عليهم إلا إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُسْتَطَاعَة، لكنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها متروك له وحده سبحانه، فقد يُحَقّق أمرا بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون أي يعتمدون عليه تمام الاعتماد ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الصبر علي اختبارٍ أو ضررٍ مَا له فوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ.." أيْ وهُم يُسِرُّون بداخل عقولهم ما لا يُظهرونه لك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة الكثيرة.. ".. يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.." أي هذا بيانٌ لبعض ما يُخفون وما يَقولونه فيما بينهم من سوءٍ حيث يقولون رافِضين لِرَدِّك عليهم "إنَّ الأمر كلّه لله" رَادِّين عليه بِرَدٍّ سَيءٍّ : لو كان لنا من الأمر المَسْمُوع المُطَاع في هذه الأزمة أيّ شيءٍ أيْ قد أُخِذَ برأينا ومَشُورتنا لَمَا خَرَجنا إلي هذا المكان ولَمَا قُتِلَ من المسلمين مَن قُتِل هنا فيه ولَمَا انهزمنا فلقد كان رأينا ألاّ نخرج، وكذلك لو كان لنا شيء من الأمر الذي تَعِدُون به أيها المسلمون وتَدَّعُونه أنَّ الأمر كله لله تعالى حيث يُعطيكم النصر لَمَا غُلِبْنَا!!.. وفي هذا أيضا – كما في قولهم الأول "هل لنا مِن الأمر مِن شيء" – مزيدٌ من التشكيك في نصر الله وعوْنه وتقديره للأمور لحِكَمٍ يعلمها وفي صِدْق الإسلام أنه سيَنتشر وسيَنتصر والتشكيك في القيادة بإظهار خطأ آرائها لنشر الضعف والهزيمة بين المسلمين.. ".. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُؤَكِّداً لهم ما سَبَقَ وقُلْته لهم إنَّ الأمر كله لله وليس إليهم ولا لأيِّ أحدٍ لو كنتم فى منازلكم في أكثر الأماكن أماناً لَخَرَجَ الذين قَدَّرَ الله عليهم الموت إلي أماكن قتلهم فالآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المحتوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. ".. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ وحَدَثَ ما حَدَث مِن غَمٍّ لكم لكي يَخْتَبِر الله ما في صدوركم فتخرجوا بهذا الاختبار مستفيدين استفادات كثيرة ولكي يُمَحِّص ما في قلوبكم أيْ يُخَلّصها ويُنَقّيها من كلّ سوءٍ إذ تُراجِعون ذواتكم وتَتَخَلّصون من عيوبكم وتُصَحِّحُون أخطاءكم فتَصلحون وتَكملون وتَرْقون وتَقْوون وتسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿140﴾، ﴿141﴾ من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴿141﴾"، ثم مراجعة الآية ﴿152﴾ منها ".. ليبتليكم.."، والآية ﴿153﴾ منها أيضا ".. لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ.."﴾.. هذا، واستخدام لفظ "قلوبكم" يُفيد معني عقولكم وأفكاركم ولفظ "صدوركم" أَعَمّ منه حيث يُفيد معني العقول والأفكار أيضا مع إضافة أخلاقكم ومشاعركم كالغضب والاضطراب وغيره، وكلٌّ من اللفظيْن يُؤَكّد الآخر من أجل مزيدٍ من التأكيد علي التطهير والرُّقِيّ الكامل للإنسان بالاختبار إذا أحسنَ التعامُل معه والاستفادة منه.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿154﴾" أيْ وهو لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العلنية والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿155﴾" أيْ بيانٌ للسبب في عدم اكتمال النصر يوم غزوة أحد رغم حُدُوثه في بدايتها – وفي أيِّ هزيمةٍ للمسلم في أيِّ معركةٍ في أيِّ شأنٍ من شئون حياته سواء أكانت هزيمة فكرية أم علمية أم اقتصادية أم عسكرية أم غيرها – وهو ذنوبه أي شروره ومَفاسده وأضراره التي يرتكبها، فكلما ازدادت ذنوبه كلما ازدادت هزائمه وخسائره وتعاساته الدنيوية والأخروية.. وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ وإرشادٌ لكل مسلم ألاّ يَسْتَسْهِل أبداً فِعْل الشّرّ القليل الخفيف ومن باب أَوْلَيَ قطعاً الكبير، إذ شرّ صغير بجانب آخر صغير يصبح بالقطع شرَّاً كبيراً، ويصبح ثغرة في التفكير الخَيْرِيّ بالعقل بما يُهَدِّد باحتمالية الوقوع في شرٍّ أكبر يوماً مَا وعند حَدَثٍ مَا فيكون الضرَر حينئذٍ كبيرا والتعاسة كبيرة في الداريْن، وما ذلك إلا بسبب كثرة الاعتياد علي الشرّ القليل، لأنَّ الاعتياد علي فِعْل الشرّ يُضعف إرادة العقل وهي التي تمنع من الوقوع فيه فتصبح إرادته مع الوقت تدريجيا ضعيفة مُستعدة للوقوع في أيِّ شرٍّ آخر مستقبلا بينما لو قاوَمَته وامْتَنَعَت عنه وفَعَلَت الخير دائما من خلال عملها بأخلاق إسلامها كانت قوية علي الدوام يصعب وقوعها غالبا في الشرّ ويُعينها ربها علي ذلك حتماً.. أيْ إنَّ الذين فَرُّوا منكم أيها المسلمون في غزوة أحد يوم التقي الجَمْعان أيْ جَمْع المسلمين وجمع أعدائهم إنما أوقعهم الشيطان في هذا الزَّلَل أيْ الخطأ بسبب بعض ما عملوا من ذنوبٍ سابقا.. هذا، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل.. ".. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿155﴾" أيْ ولقد سامَحَهم الله لَمَّا تابوا ومَحَا عنهم آثار ذنوبهم المُتْعِسَة في الداريْن، وأحْياهم في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾، وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الحليم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تكونوا أبداً مثل الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وبأنَّ الأمر كله له وليس إليهم ولا لأيِّ أحدٍ كأمرِ النصر أو الهزيمة أو أيّ شيءٍ أو أيّ حَدَث حيث كله بيَدِه تعالي الخالق الحكيم المُدَبِّر القادر علي كل شيءٍ إذ هو الذي يُدَبِّر كل شئون خَلْقه علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُحقّق مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم، وهم ليس عليهم إلا إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُسْتَطَاعَة، لكنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها متروك له وحده سبحانه، فقد يُحَقّق أمرا بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون أي يعتمدون عليه تمام الاعتماد ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الصبر علي اختبارٍ أو ضررٍ مَا له فوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. إنَّ الذين كفروا كذّبوا أيضا بأنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنهم يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. إنهم يَأسون أيْ يَحزنون علي ما فاتهم ولِمَا أصابهم حُزْنَاً شديداً يُقْعِدهم عن مُوَاصَلَة حياتهم بصورةٍ طبيعيةٍ فهم يتخبَّطون في الخوف والقَلَق إذا أصابتهم أيّ مصيبة ويخافون دوْماً مِمَّا قد يَحدث في المستقبل لأنهم لا يَستندون للقويّ المَتين المُعين مالِك المُلك القادر علي كل شيء لأنهم لا يؤمنون به أصلا.. ولذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره فهم يقولون بخوفٍ وجُبْنٍ وحَسْرَةٍ ونَدَمٍ لإخوانهم الأحياء في شأنِ مَن فَقَدوهم مِن إخوانهم في الكفر ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين إذا ضربوا في الأرض أيْ انتقلوا فيها للتجارة والعمل والعلم ونحوه فماتوا أو كانوا غُزَّاً أيْ غُزَاة في معارك فقُتِلُوا لو كانوا مُقِيمين عندنا في مكاننا وما فارقونا وبَقوا مُلازِمِين بيوتهم ولم يخرجوا ولم يقاتلوا ما ماتوا وما قتلوا!!.. إنهم يَقصدون أيضا نشر فَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بين المسلمين لتَثْبِيط وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم وعن السعى فى الأرض من أجل طَلَب الرزق الذى أحلّه الله تعالي لخَلْقه فلا يتفوَّقون عليهم.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين كفروا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المخالفة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ.." أيْ لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك القول الذي يقولونه والعمل الذي يعملونه حسرة أيْ نَدَمَاً وحُزْنَاً وألَمَاً وهَمَّاً وتَعَبَاً شديداً مُتَكَرِّرَاً في قلوبهم أيْ عقولهم ومشاعرهم هُمْ وحدهم ويحفظ منها عقولكم أنتم.. لقد جعل الله ذلك القول منهم والعمل به يزيدهم حسرة في قلوبهم ولا يُخَفّفها عنهم لأنهم يكفرون به سبحانه ولا يطلبون عوْنه لأنَّ الإنسان إذا لم يصبر وينشغل عن هَمِّه بما يُفيد ويستعن بربه ليُخَفّفه عنه ويَظلّ يتذكّر ألمه دوْماً يزداد هَمَّاً علي هَمٍّ وحسرة وألما ونَدَمَاً وضعفاً كما يُثبت الواقع ذلك، ثم هُمْ أيضا كانوا يَتَوَقّعون ويَتَوَهَّمون كنتيجة لأقوالهم وأفعالهم هذه نفع أنفسهم وإضرار المسلمين فلَمَّا رأوا فَشَل ذواتهم ورأوهم لا يلتفتون إليها وظلّوا متمسّكين عاملين بإسلامهم ازدادت حسرتهم، وكل ذلك في دنياهم، ثم سيَنتظرهم حتماً حسرة أشدّ وأتمّ وأخلد وأتعس في أخراهم لمَّا يروا عذابهم ويروا نعيم المسلمين الذي لا يُوصَف من فضل الله وكرمه عليهم.. ".. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ.." أيْ والله سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، وإنْ كانت مُسَافِرَة أو غَازِيَة أو مُتَحَرِّكَة، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها وإنْ كانت مُقِيمَة ساكِنَة، فلا يَمنع عن الموت قعود، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مما يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وانطلقوا بكل هِمَّةٍ واستبشارٍ للدفاع عن إسلامكم بكل صور الدفاع ضدّ المعتدين وللسعى فى طَلَب رزق ربكم الحلال بإحسانِ اتّخاذ أسبابِ ذلك لِتَتِمّ سعادتكم فيهما حيث الإقدام بحَذَرٍ وبحُسْنِ أسبابٍ لن يُقَصِّر عُمْرَاً والجُبْن والتخاذل لن يُطيله!.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَراكم ومُطّلِع على كل أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴿157﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير والإرشاد والتحفيز والتشجيع للمسلمين – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره – ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين كفروا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المخالفة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. أيْ وإذا قُتِلْتُم أيها المسلمون شهداء في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وذلك بأنْ قَتَلَكم قاتِلٌ مُعْتَدٍ في ساحة قتالٍ ضدّ مُعتدين عليكم فاسْتشهدتم وأنتم تُدافعون عن الخير والحقّ والعدل والإسلام والمسلمين والأبرياء في أيِّ مكانٍ، فستكونون ساعتها من الأحياء عند ربكم تُرْزَقُون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا، كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا بقوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" ﴿آل عمران:169﴾ (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال وأسبابه وفوائده وسعاداته﴾.. وإنْ مُتّم بدون قَتْلٍ ميتة طبيعية بنهاية أجلكم أثناء هذا القتال أو عموما في أيِّ شأنٍ من شئون حياتكم، أيضا في سبيل الله، أيْ في سبيل أيِّ خيرٍ وحقّ، ما دامَت نواياكم بعقولكم أثناء كل أقوالكم وأفعالكم أنكم تقولونها وتفعلونها طَلَبَاً لحب الله ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وسعادته في دنياكم ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في أخراكم، إذ هو تعالي الذي طَلَبَ منكم ذلك ويحبه، لأنه ما خَلَقَ الخَلْق أصلا وما أنزل عليهم الإسلام ليُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها وكل لحظاتها إلا ليسعدوا بها تمام السعادة ثم بآخرتهم، فإنْ مُتّم علي هذه الحالة، فاسعدوا وأبشروا عظيم البشارة أنكم قد مُتّم في سبيل الله، وثوابكم عظيم جدا يُقارِب ثواب الشهيد أو قد يُساويه من عظيم فضل الله وكرمه ومغفرته ورحمته والذي هو حتما لا يُقارن بكل ما جَمَعَه الناس – وأنتم – في كل دنياهم.. فمَن مات مثلا وهو يدعو إلي خيرٍ مَا، أو يتعلّم علما مَا أو يُعَلّمه، أو يُنتج مُنْتَجَاً مَا نافعاً مفيداً لعموم الخَلْق، أو يعمل عملاً طيباً ليكسب ويربح قُوُتَه ومَن يَعُول، أو ما شابه هذا من كل أنواع الخيرات في كل مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والفكرية والفنية والرياضية وغيرها، فالموت أثناء أيٍّ من ذلك هو موت في سبيل الله.. إنكم لئن قُتِلْتُم في سبيل الله أو مُتّم لَنِلْتُم حتماً بكل تأكيدٍ مغفرة من الله تعالى لكلّ ذنوبكم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها ولفُزْتُم برحمته الواسعة الغامِرَة التى تُسعدكم وتُؤَمّنكم تمام السعادة والأمن في جناتٍ فيها من النعيم الخالد التامّ المُسْعِد الذي هو بلا حسابٍ مَا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بشر، وهذا بالقطع بلا أيِّ مُقَارَنَة خيرٌ مِمَّا يجمعون هؤلاء الناس ومِمَّا تجمعون أنتم أيضا من كل نِعَم الدنيا طوال العُمْر
ومعني "وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴿158﴾" أيْ ولئن مُتّم أيها الناس وأيها المسلمون وأنتم فى بيوتكم أو فى أىِّ مكانٍ أو قُتِلْتُم بأيدى أعدائكم وأنتم تجاهدون فى سبيل الله فعلى أىِّ وجهٍ من الوجوه كان موتكم فإنكم حتما إلي الله وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحشر أيْ يوم القيامة حين يبعثكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم حيث يُثاب أهل الخير بكل خير وسعادة وأهل الشرّ بكل شرٍّ وتعاسة بما يستحِقّون بكل عدل، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد للقائه تعالي بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فليس لأيِّ أحدٍ قطعاً بقاءٌ في الدنيا سواء سافَرَ أم جاهَدَ أم قَعَدَ في بيته، فلا تَفِرُّوا من الجهاد ولا من حُسْن الانطلاق في الحياة بحُسْنِ أسبابٍ لإسعاد أنفسكم وغيركم تَجَنّبَاً للموت فإنه قادمٌ حتماً علي أيِّ صورةٍ فأَحْسِنُوا إذَن خاتمتكم بأنْ تجتهدوا أنْ تكونوا دائما في خيرٍ حتي تموتوا عليه فإنَّ العاقل هو مَن يفعل ذلك والسَّفيه مَن لا يفعله، وبما أنَّ الموت بأيِّ شَكْلٍ هو النهاية الحَتْمِيَّة للحياة الدنيا والحَشْر هو النهاية الحَتْمِيَّة للموت أو الشهادة في سبيل الله فمَن استطاع أن يذهب إليه شهيداً فلْيَفعل لينال أعظم وأعلي الدرجات
ومعني "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿159﴾" أيْ فبسبب رحمةٍ عظيمةٍ من الله لكم أيها المسلمون رَقَقْتَ لهم ورَفَقْتَ بهم وكنتَ سَهْلَاً معهم يارسولنا الكريم ولم تُشَدِّد عليهم في القول والعمل رغم خطئهم الشديد ومُخَالَفاتهم في غزوة أُحُد مِمَّا أدَّيَ لعدم اكتمال النصر رغم حُدُوثه في أوَّلها، وذلك حينما رأيتَ ما أصابهم من أضرار وأحزان تابوا منها وندموا عليها، حيث تعامَلْتَ معهم كقائدٍ حكيمٍ بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ إذ لم تُكْثِر مِن لَوْمِهم لأنَّ كثرة اللّوْم والتأنيب قد تولد اليأس والضعف والانهزام وإنما أخذتم العِبْرَة مِمَّا حَدَث لتستفيدوا منه مستقبلاً فتُصَحِّحوا أخطاءكم ولا تُكَرِّروها لِتَقْووا وتَرْقوا وتَسعدوا في الداريْن.. ولقد شكَرَ الله تعالى لرسوله الكريم وامتدحَ ذلك اللّيِن الذي كان العلاج الشافي المُناسِب لحالهم ليَتَشَبَّه به كل مسلم، فالشدّة فى غير موضعها تُفَرِّق ولا تُجَمِّع وتُضْعِف ولا تُقَوِّى وتَضرّ ولا تنفع وتُتْعِس ولا تُسْعِد، ولذا قال تعالى ".. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.." أيْ ولو كنتَ سَيِّءَ الخُلُق شَرِسَاً خَشِنَاً قاسِيَ العقل والمشاعر في أقوالك وأفعالك لانْصَرَفَ ولَتَفَرَّقَ ولَنَفَرَ الناس مِن حولك ولَمَا استطعت أن تدعوهم للإسلام بل سيَكرهونه وقد يَتركونه فلا ينتشر بينهم وتَخسرون سعاداته الدنيوية والأخروية لأنهم يحتاجون لمَن يُحَبِّبهم في ربهم وإسلامهم ويُقَرِّبهم إليهما بكل حبٍّ واحتواءٍ وعطاءٍ وتَدَرُّجٍ وصبرٍ وعلاجٍ لتقصيرهم ومشكلاتهم ويكون قُدْوَة حسنة لهم يفعلون مثله في كل شئون حياتهم، لا العكس.. إنك لو كنتَ فَظّاً غليظاً لَخَسِرْتَ ولَتَعِسْتَ بسبب ذلك في دنياك وأخراك.. ولفظ "لو" يُفيد أنه ﷺ ليس كذلك حتما، بل هو كامِل الخُلُق.. ".. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.." أيْ فبالتالي إذَن فتَجَاوَز عن خطئهم وسامحهم فلا تُعاقبهم واطلب من الله أن يغفر لهم ذنوبهم أيْ يزيلها كأن لم تكن ويُزيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ويَسْتُرْها ويُخْفيها فلا يُعَذّبهم بفضحهم بها فيهما.. ".. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.." أيْ وحاوِرْهم دوْمَاً ما أمكن في الأمر المُناسِب مُحَاوَرتهم فيه من كل شئون حياتكم وانْتَفِع بخبرات مَن حولك مِن أصحاب الخِبْرَة والتَّخَصُّص لأنَّ هذا التّشَاوُر حتما يُقَوِّي ويُسْعِد المُتشاوِرين المُتحاوِرين المُتبادِلين للخبرات في إطار الحبّ والتآلُف والتآخِي والتسامُح والتصافِي حيث يُصَوِّب آراءهم ويُقَلّل أخطاءهم ويُحَقّق أهدافهم ويُسَهِّل حياتهم.. ".. فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ فإذا أرَدْتَ ونَوَيْتَ وعَقَدْتَ العَزْم بجدِّيَّةٍ بداخل عقلك وصَمَّمْتَ علي تنفيذ أمرٍ مَا بعد حُسْن الاستشارة والدراسة له من خلال المُخْتَصِّين فيه فابدأ بالتنفيذ بلا تَرَدُّد لأنَّ التّرَدُّد يُضيع الأوقات ويُضْعِف الجهود وتَوَكّل علي الله تعالي وحده أثناء كل ذلك أي اعْتَمِد عليه ليُساعدك مباشرة أو مِن خلال جُنْدٍ مِن جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وإيّاك أن تعتمد علي أسبابك وحدها لأنَّ تيْسِير سَيْر هذه الأسباب وتيسير تحقيق نتائجها مَتْرُوك له وحده تعالي، فقد يُحَقّق أمراً بصورة تامّة أو جُزْئيّة أو لا يُحَقّقه مطلقا، والمسلمون العامِلون بأخلاق إسلامهم يعلمون ذلك تمام العلم ويتأكدون أنَّ الله لا يفعل لخَلْقه إلا كل خير، ولذا فهم يتوكّلون عليه تماما ويُحسنون ما أمكنهم أسبابهم التي يتّخذونها ثم يستسلمون للنتائج مهما كانت، مع تقييمها وتصويب الخطأ منها والازدياد مِمَّا هو حَسَن فيها، ولهم ثوابهم علي كل حال.. إنه حتماً سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة مزيد من الشرح والتفصيل عن معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة﴾.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿159﴾" أيْ إنَّ الله حتماً يحبّ المُعْتَمِدِين عليه في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتوكّلين
إنَّ الآية الكريمة إرشادٌ لكلّ مسلمٍ أن يكون رحيماً لَيِّنَاً هَيِّنَاً سَهْلاً وَدُودَاً رقيقَ الإحساس والمشاعر العقلية عفيف اللسان ينتقي الألفاظ الجيدة يُحسن التصرّف عَفُوَّاً مُتسامِحَاً مُستغفراً لمَن أساء مُتَآلِفًاً مُتًآخِيَاً مُتَشَاوِرَاً مُتَحَاوِرَاً مُنْتَفِعَاً بخبرات مَن حوله مُحْسِنَاً للتخطيط وللإدارة ولاتّخاذ الأسباب المُتَاحَة المُبَاحَة المُمْكِنَة لكل أمرٍ مع العَزْم والحَزْم وقوة الإرادة لتحقيق الأهداف وتقييم الأمور وتصويب الأخطاء ثم مِن قَبْل هذا كله وبعده حُسْن التوكّل علي الله تعالي بدوام التواصُل معه ودعائه وطلب عوْنه وتوفيقه وسداده ورعايته وأمنه.. إنه بمِثْل هذه الصفات وغيرها من كل أخلاق الإسلام، يَتَحَابّ الجميع فيما بينهم ويَتراحمون ويَتآلَفون ويتآخُون ويتسامَحون ويتحاوَرون ويُحسنون إدارة كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ فيَقْوُون ويَزدهرون.. ويحبهم ربهم ويحبونه.. ويكونون ربَّانِيِّين مُنْتَسِبِين له.. وتَسْهُل حياتهم وتَرْقَيَ.. ويَسعدون فيها، ثم ينالون أعظم وأتمّ وأخلد السعادة في آخرتهم
ومعني "إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿160﴾" أيْ إنْ يُمْدِدكم ويُؤَيِّدكم الله بنصره وعوْنه، إنْ يُرِدْ أنْ ينصركم أيْ يجعلكم تفوزون، في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة، بسبب طاعته بالعمل بأخلاق الإسلام وحُسْن الاستعانة به والتوكّل عليه وحده وصِدْق دعائه وإحسان اتّخاذ ما أمكن لأسباب النصر من قوَي معنويّة وماديّة، فلا غالِب أيْ فلا هازِم لكم حتماً أيْ فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يهزمكم ويفوز عليكم لأنَّ الله معكم ومَن كان الله معه فلن يغلبه أحدٌ من الخَلْق مهما كان حيث لا تُقارَن أبداً قوة الخالق بالمخلوق ولأنَّ النصر يَحدث بإذنه وحده أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب النصر وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ.." أيْ وإنْ يَترككم ويَتَخَلّيَ عنكم فلم يَهْتَمّ بكم ويُعِنْكم ويُؤَيِّدكم ويَنصركم، بسبب مُخالَفتكم إسلامكم وعدم توكّلكم عليه وإحسان اتّخاذ أسباب النصر، فمَن هذا القويّ المُعِين الذي يَنصركم مِن بعده تعالي ومن بعد خُذْلانه؟! لا أحد قطعاً لأنه لا يوجد أبداً مَن يمتلك قُدْرَة تَقِف أمام قُدْرته وإرادته سبحانه، فلا ناصر لكم غيره بكل تأكيد.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿160﴾" أيْ وبالتالي، ولذلك، على الله وحده لا على غيره، فَلْيَجعل المؤمنون تَوَكّلهم أيْ اعتمادهم عليه (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني التوكّل مراجعة الآية السابقة﴾
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴿161﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴿161﴾" أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنبي كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم أن يَغُلّ أيْ أن يَسرق من الغنائم قبل تقسيمها علي الجميع، والغنائم هي المُكْتَسَبَات التي يَكتسبها المسلمون بعد انتصارهم علي عدوهم في معركةٍ مَا من أجل الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء وكلّ مظلومٍ في أيَّ مكان.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مسلم مُتَمَسِّكٍ عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه لا يمكن أبداً أن يَخُونَ الأمانة ويَفعل مِثْل هذا الفِعْل السَّيِّءِ الرَّدِيء فهل من المُمْكِن أن يفعله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. إنَّ هذا تَبْرِئَة من الله تعالي لأنبيائه حيث كان يَدَّعِي بعض المُكَذّبين المُعانِدِين المُستكبرين علي بعضهم ذلك، وكذلك هو تَنْزيهٌ أيْ إبعادٌ لهم أن يَغُلّوا بمعني أن يَخُونوا بأنْ يَتركوا أو يُخْفوا بعض ما أَنْزَلَ الله إليهم من تشريعاتِ وأخلاقِيَّاتِ الإسلام فلا يُبَلّغوه للناس.. ".. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وأيّ أحدٍ يَسرق من الغنائم أو يَخُون أيَّ أمانةٍ فلا يَرُدّها لأصحابها أو يَغْدر ويأخذ ما ليس له من مَكاسِب عامة لعموم المسلمين أو حتي يخْفِي خُلُقَاً من أخلاق الإسلام، من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، يحضر يوم القيامة بإثمِ ما خانَ فيه، يحضر ومعه ما غَلّه حامِلاً إيّاه ليكون فضيحة له ويُعَاقَب عليه بما يُناسب.. ".. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴿161﴾" أيْ ثم تُعْطَيَ حتماً كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿162﴾ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿163﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يبحثون دوْماً عمَّا يحبه الله تعالي ويرضاه فيفعلونه ويواظبون عليه، وعمَّا يكرهه ويَسخط ويغضب منه فلا يفعلونه ولا يقتربون منه أصلا، أيْ كنتَ من الذين يفعلون كل خيرٍ من خلال تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم، فهذا هو ما يحبه ويرضاه سبحانه وبالتالي يُثيب أيْ يُعْطِي عليه كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، ويتركون كل شرّ وهو ما يُغضبه ويُعاقِب عليه بما يُناسب من شرّ وتعاسة فيهما
هذا، ومعني "أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿162﴾" أيْ هل مَن سَعَيَ في طَلَب رضا الله تعالي – أيْ حُبّه وقبول أعماله وتوفيقه وتيسيره ورعايته وأمْنه وقوّته ونصره وعطاءه – بتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، يكون مِثْل مَن انْصَرَفَ ورَجَعَ مُحَمَّلاً بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً له فلا يُحِبّه ولا يُوفّقه ولا يُيَسِّر له أموره بسبب فِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات؟! كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! فالأول حياته كلها خير في خيرٍ وسعادة في سعادةٍ ثم له في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. بينما الآخر حياته الدنيا كلها قَلَق أو توتّر أو ضيق أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلها ألم وكآبة وتعاسة بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور ثم له حتما في آخرته ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم كما بَيَّنَ تعالي ".. وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿162﴾" أيْ ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
ومعني "هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿163﴾" أيْ الناس، المُحْسِنُون منهم الذين يَتّبعون رضوان الله، والمُسِيئُون الذين يَبُوُءُوُنَ بسَخَطٍ من الله، درجاتٌ أيْ مَرَاتِب ومنازِل مختلفة، عند الله تعالي أيْ في عِلْمه وفي حسابه يوم القيامة، بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذَرَّة ظلم، درجاتٌ في دنياهم وأخراهم، فالمُحسنون في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب قُرْبهم منه وتوفيقه وتيسيره لهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وكلما ازدادوا قُرْبَاً وعملاً كلما ارتفعت درجات سعاداتهم – ولو ابتعدوا وتركوا دينهم قَلّت وتَعِسُوا بمِقْدار بُعْدهم عنه وتَرْكهم له – ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، والمُسِيئون في المُقابِل لهم في الداريْن كل شرّ وتعاسة بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم حيث هم في دار الدنيا بكل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كل ألم وكآبة وتعاسة بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور ثم لهم حتما في الدار الآخرة نار فيها ما هو أشدّ ألما وعذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم.. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿163﴾" أيْ والله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بعدله بما يستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة.. فليجتهد العاقل إذَن في رفع درجاته بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿164﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿164﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمؤمنين بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة القرآن والإسلام الذي أرسله إليهم بوحيه لرسوله الكريم محمد ﷺ ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾.. أمَّا غير المؤمنين فلا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ لقد مَنَّ أيْ تَفَضَّلَ وأنْعَمَ الله بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي المؤمنين حين أرسل فيهم والناس جميعا رسولا أيْ مَبْعُوثَاً يكون منهم يعرفونه فيُصَدِّقونه ويَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه، يقرأ عليهم ويُبَلّغهم آياته ويُذَكِّرهم دوْمَاً بها، وآياته هي دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَيُزَكِّيهِمْ.." أيْ ويُطَهِّرهم من كل المُعتقدات والأخلاق الفاسدة المُضِرَّة المُتْعِسَة في الداريْن، ومن كل ما يَضُرّ أجسادهم ويُؤذيها ويُتعسها، بأنْ يُرَبِّيهم علي العمل بكل أخلاق الإسلام فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيسعدون، والتَزْكِيَة هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات.. ".. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.." أيْ ويُعَلّمهم الكتاب الذي أوْحَاه إليه وهو القرآن العظيم بأنْ يُبَيِّن لهم معانيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتهم ليسعدوا بها، ويُعَلّمهم كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ".. وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿164﴾" أيْ وإنَّ الناس كانوا قبل هذا البَعْث للرسل الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ ومعهم الإسلام في كُتُبهم التي أُوُحِيَت إليهم وآخرها القرآن الكريم بكل تأكيدٍ في ضياعٍ واضحٍ حيث نَسوا مع الوقت ما تَرَكهم عليه أبوهم آدم من عبادة الله وحده ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم سواء أكانت كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْراً للشرّ أم ما شابه هذا
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿165﴾ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿166﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴿167﴾ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿168﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون تصويب أخطائهم، فيبدأون بذواتهم لأنَّ معظم الأخطاء تبدأ من الذات كما نَبَّهنا لذلك ربنا وحَذّرنا بقوله تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فهذا هو قانون الحياة، القانون الإلاهِيّ العادل، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَع حَصَد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مؤمنا! ولا يُعَلّقون أخطاءهم دائما علي غيرهم هَرَبَاً مِن تَحَمُّل المسئولية، فمِثْل هؤلاء لن يَصِلُوا لحلولٍ لمشكلاتهم وستَظل عيوبهم وأخطاؤهم مستمرّة حتي يبدأوا بتغيير ذواتهم بالاعتراف أولا بوجود خطأٍ مَا، ثم حُسن تشخيص أسبابه بكل صِدْقٍ ووضوحٍ ودِقّة، ثم تحديد صور العلاج المُمْكِنَة مع مشاورة أهل الخبرة والتّخَصُّص في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، ثم وضع الخطط ومراحل التنفيذ، ثم البدء بالخطوات العملية، كلٌّ في تَخَصُّصه، مع حُسن الإدارة وتوزيع الأعمال وتقييم الأمور والإمكانات، ومِن قبل كل ذلك وبَعْده حُسن التواصُل مع الله تعالي وطَلَب رعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده وحبه ورضاه ورزقه وسعادته في الداريْن.. فإنْ لم تجد خطأ منك بعد بحثٍ صادقٍ ودقيق، فاحمد الله، وابحث فيمَن حولك حينئذٍ، فأحيانا أو كثيرا قد يكون الخطأ عندهم، فاشتركوا معاً في تصويبه بالأسباب التي سَبَقَ ذِكْر بعضها.. فإنْ لم تجد خطأ لا منك ولا من غيرك، وهذا أمر قليل أو نادر الحُدُوث، فاعلم وتأكّد أنَّ الأمر حينئذٍ ربَّانِيّ، أيْ مِن الله تعالي كاختبارٍ منه لك ولهم، ولا بُدَّ سيحمل لكم خيرا كثيرا سيَظْهَر حتي ولو بعد حين، فهو سبحانه علي كل شيء قدير، فلا تُسِيء الظنّ به، فهو قادر علي ألاّ يُوقِع ذلك بكم أصلا ولكنه أراد لكم المصلحة والسعادة وسترون صِدْق هذا حتماً حالاً أو مستقبلاً (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة تفسير الآية ﴿143﴾ ثم الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿152﴾، ﴿153﴾، ﴿154﴾ من سورة آل عمران﴾
هذا، ومعني "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿165﴾" أيْ هل حينما تُصيبكم مصيبة مَا تقولون مُتَعَجِّبين كيف يكون هذا ونحن مسلمون ومعنا ربنا يرعانا ويحفظنا ويُعيننا ويَنصرنا؟! والاستفهام والسؤال هو للإنكار عليهم أن يقولوا هذا وللتَّعَجُّب منه إذ كان علي أمثالهم أن يُدركوا بعقولهم سبب ما حَدَث.. ".. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لكي تُزيلوا تَعَجّبكم واسْتِغَرابكم وتَعرفوا السبب الحقيقي لِمَا حَدَث، هو بسبب أنفسكم، هو من عندكم لا من عند غيركم، بسبب مُخالفتكم لأخلاق إسلامكم، فرَاجِعُوا أخطاءكم وصَحِّحُوها بأنْ تعودوا لربكم ولدينكم، فمعظم الأخطاء تبدأ من ذواتكم كما نَبَّهنا لذلك ربنا وحَذّرنا بقوله تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فهذا هو قانون الحياة، القانون الإلاهِيّ العادل، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَع حَصَد حتي ولو كان كافرا ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مؤمنا!.. هذا، ومعني ".. قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا.." هو تذكرة لهم بما حَدَث في غزوتَيّ بدرٍ وأُحُدٍ لتكون المُقَارَنَة واضحة ليستفيدوا استفاداتٍ كثيرة حيث بمصيبة غزوة أُحُدٍ حين خالَفتم أخلاق الإسلام بأنْ تنازعتم فيما بينكم لم يكتمل النصر الذي كان في بدايتها وقُتِلَ منكم يومها سبعون رجلا بينما في غزوة بدرٍ حيث أطعتم فقد أصبتم مِثْلَيْها أيْ ضعف هذه المُصيبة والحَصِيلَة أيْ قَتَلتم من أعدائكم سبعين رجلا مع إضافة أسْر سبعين آخرين، بفضل الله وكَرَمه وعَوْنه ونَصْره.. وفي هذا أيضا تسلية لهم وتخفيفٌ عنهم مِمَّا أصابهم يوم أُحُدٍ فإنْ كانوا أصابوا منكم حينها فأنتم قد أصبتم منهم الضعف في بدر فلا تَحزنوا ولكن صَوِّبُوا حالكم وعُودوا لاتّخاذ أسباب النصر وأهمها تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم وحُسن استعدادكم لِمَا تُقْدِمُون عليه مِن عملٍ حتي تكونوا دائما مُؤَهَّلِين للنصر فتُنْصَرُوا.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿165﴾" أيْ إنَّ الله حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء، فهو يَقْدِر على النصر ومَنْعِه
ومعني "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿166﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ وما حَدَثَ لكم من إصاباتٍ كجروحٍ وآلامٍ لبعضكم واستشهادٍ لآخرين ونحو ذلك أيها المسلمون يوم غزوة أُحُد حين تَقَابَل جَمْعُكم وتَجَمُّع أعدائكم فهو بإذن الله أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ولا رَادَّ لمُرَادِه.. لكي تخرجوا من ذلك مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة، لكي تُصَحِّحُوا أخطاءكم فتسعدوا في الداريْن (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿51﴾ من سورة التوبة "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، ثم مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن فوائد الصبر وسعاداته في الدنيا والآخرة لمن يصبر علي اختبارٍ أو ضَرَرٍ ما أصابه، ثم مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."﴾.. ".. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿166﴾" أيْ وكذلك لكي يَعلمَ الله المؤمنين، وهذا من باب التمثيل والتشبيه للتقريب للأذهان أيْ فَعَلْنا فِعْل مَن يُريد أن يعلم لأنه سبحانه عالمٌ بكلّ شيءٍ قَبْل حُدُوثه حتماً، والمقصود أنه بمِثْل هذه الأحداث والاختبارات ستَزدادون استفاداتٍ حيث سيَعْلم الله أيْ ستَعْلمون وسيُعْلِمكم وسيُظْهِر ويُمَيِّز لكم – في الدنيا أولا – الصادقين أيْ أهل الحقّ والخير والكاذبين أي أهل الباطل والشرّ فيَسْهُل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وتصويبهم فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم الكاذب أو المنافق الذي يُظْهِر الخير ويخفي الشرّ أو مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله ليَسعد وإلا تَعِس في الداريْن.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع!
ومعني "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴿167﴾" أيْ وحِكْمَة أخري إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره وهي لكي يَعلم الله الذين نافقوا، كما يَعلم المؤمنين (برجاء مراجعة الآية السابقة لمعرفة كيف يعلم الله المؤمنين﴾، أيْ لكي يُظْهِر نفاق الذين نافقوا، أيْ لكي تَعلموا المنافقين، وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، سواء أكان هذا الشَّرّ المَخْفِيّ كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا بإظهار خيرٍ وإخفاء شَرٍّ رغم أنهم مسلمون أم ما شابه هذا، وهم الذين ظَهَروا وانكشفوا عندما قلتم لهم يوم غزوة أحد حينما لم يقاتلوا معكم تعالوا قاتلوا معنا في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، أو ادْفَعُوا أيْ إنْ لم تقاتلوا في سبيل الله وطَلَبَاً لثوابه وخيره في الداريْن فعَلَيَ الأقلّ ادفعوا عارَ ومرارةَ وألمَ وتعاسة الهزيمة بالقتال دفاعاً عن أنفسكم وأهلكم وأوطانكم وممتلكاتكم.. ".. قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ.." أيْ قالوا كاذبين لتَبْرير جُبْنهم وخوفهم من القتال ولنشر الفتنة بين المسلمين بمحاولة زعزعتهم وإضعافهم ومنع أكبر عددٍ مُمْكِنٍ منهم من مشاركتهم في دفاعهم عن إسلامهم والمسلمين واستهزاءً باستعداداتهم للقتال لو كنا نعلم أن قتالاً سيَتِمّ بالفِعْل بينكم وبينهم لسِرْنا خلفكم وذهبنا معكم، وهم كَذَبَة في هذا لأنهم قد علموا وتأكّدوا أنه من المستحيل أنَّ الأعداء قد حضروا بكل هذه التجهيزات مُمتلئين بالانتقام لهزيمتهم في غزوة بدر ثم يعودون بلا قتال!.. وكذلك لو كنا نُحْسِن قتالاً لاتّبعناكم، وكَذَبُوا أيضا لأنهم مُقاتلون يُقاتلون للقبيلة والعصبية.. ولكنهم يَتَوَهَّمون أنَّ هذا العُذْر السَّفِيه يُخْفِي نفاقهم وضعفهم ولعل بعض المسلمين ينخدعون به ويستجيبون لهم فيتراجعون مثلهم عن قتال أعدائهم فينهزم الإسلام والمسلمون.. ".. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ.." أيْ هذا فَضْحٌ من الله وكشفٌ لهم وتأكيدٌ لكذبهم وإظهارٌ لنفاقهم ليعلمهم المسلمون فيتجنّبوهم ويحتاطوا منهم ويُعاملوهم بما يُناسب ولا يتشبّهون مطلقا بهم حتي يسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما مِثْلهم.. أيْ هم بتَصَرُّفهم هذا يومها وحينها بخُذْلانهم للإسلام والمسلمين وجُبْنهم وكذبهم وخداعهم وإخفائهم للشرّ ونحو ذلك مِمَّا قالوه وفعلوه أظهروا وكشفوا عن أنفسهم أنهم أقرب لتصرّفات وأقوال وأفعال أهل الكفر من تصرّفات أهل الإيمان، وأنهم أقرب للكافرين ونَصْرِهم مِن قُرْبِهم للمؤمنين ونَصْرِهم لأنَّ تقليل عدد المؤمنين بعدم الاشتراك معهم في القتال ومحاولة نشر الفِتَن بينهم وزعزعتهم وإضعافهم كأنه بالفِعْل تقوية غير مباشرة للكافرين.. ".. يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.." أيْ ومن الصفات السيئة الدنيئة لهؤلاء المنافقين والتي عليكم أيها المسلمون ألاّ تَتَشَبَّهوا بها أبداً أنهم كاذبون في هذا الموقف وغيره يُظْهِرون خيراً ويُخفون شَرَّاً وما يقولونه مِن خيرٍ هو ظاهريّ ومجرّد كلام بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه ويعملون به.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴿167﴾" أيْ والله حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بما يُخْفِي أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بدواخلهم من شرور، وقد كشف لكم أحوالهم لكى تحذروهم وتعاملوهم بما يناسب، لأنه عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس جميعا وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، وسيُجازِي حتماً بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿168﴾" أيْ هؤلاء المنافقون هم كذلك – إضافة لكل الصفات السيئة التي سَبَقَ ذِكْرها – الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أمثالهم وقَعَدوا مُمْتَنِعِين خائفين عن قتال أعداء الله والمسلمين فبَقوا أحياء لو أطاعونا هؤلاء الذين قاتلوا فقُتِلُوا وقَعَدُوا كما قَعَدْنا لنَجَوا من القتل كما نَجَونا!!.. إنهم لم يكتفوا بمحاولاتهم قبل القتال لزرع الفتن والخلافات والتشكيكات بين المسلمين لإضعافهم ومَنْعهم عن مقاتلة أعدائهم إذا اعتدوا عليهم بالقتال بل أيضا بعد انتهاء قتالهم يقومون بتأنيبهم علي دفاعهم عن إسلامهم وبلادهم وممتلكاتهم وحقوقهم كما يطلب منهم ربهم ودينهم!! وذلك لنشر جُبْنِهم وفَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بينهم لتَثْبِيطهم وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم بل وعن اتّباعه والعمل به بنشر أنه بطاعتهم للإسلام يَخسرون ويَنهزمون ويُقْتَلون وأنَّ الله يَتَخَلّي عن نُصرتهم وأنَّ الجُبْن والقُعُود هو عين الحِكْمة والعقل والمَنفعة والسعادة وأنَّ الإقدام تَهَوُّر ومَضَرَّة وتعاسة!! .. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بالذين نافقوا ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المُخَالِفَة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿168﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء السفهاء بما يُخْرِس ألسنتهم ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم فادْفعوا عن أنفسكم ورُدُّوا وامْنَعوا الموت عند حُدُوثه والذي يأتي حتماً لكلّ أحدٍ انتهي أجله كما ترون واقعيا وسيأتيكم من ربكم في موعده أينما كنتم فامنعوه عنكم إذَن فأنتم أوْلَيَ من غيركم! إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعونه كذباً وزُورَاً أنَّ الحَذَر يمنع من القَدَر وأنكم تَقْدِرُون علي دَفْع القتل عمَّن كُتِبَ عليه ولو أطاعوكم ما قُتِلُوا وأنكم قد نجوتم منه بقعودكم عن القتال! ولا شك أنهم لن يستطيعوا دَفْعه فبالتالي ثَبَت كذبهم وافتراؤهم.. إنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت بأيِّ سببٍ إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنهم يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿156﴾ من سورة آل عمران "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"﴾
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴿169﴾ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿170﴾ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿171﴾ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿172﴾ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴿173﴾ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿175﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْمَاً مِن المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامك المُستعِدّين للدفاع عنها دائما لأنها مصدر سعادتك في حياتك وبدونها تَشْقَيَ وتَتْعَس ولا معني لها، المستعدين دائما للبذل والعطاء في سبيلها أفضل وقتٍ وقولٍ وعملٍ وفكرٍ وجهدٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وتواصُلٍ مع الآخرين ونحو ذلك من صور الجهاد وبذل الجهد في سبيل الله وفي سبيل المحافظة عليها ونشرها ودعوة الغَيْر لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن.. ثم مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فمَن ماتَ أثناء هذا فله درجة من درجات الشهداء، ومَن سَأَلَ ربه الشهادة في سبيل ذلك صادقا أيْ مُتَّخِذَاً ما أمكنه من أسبابها فسيَنالها وإنْ مات علي فراشه كما وَعَدَ الصادق الأمين رسولنا الكريم ﷺ ، ومَن دَفَعَ دَمَه وروحه بالفِعْل دفاعاً عنها عند الاعتداء عليها فهو شهيدٌ حيٌّ يُرْزَق عند ربه في أعلي عِلّيِّيِن مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والصالحين
هذا، ومعني "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴿169﴾" أيْ هذا تشريفٌ وتكريمٌ وتعظيمٌ للشهداء في الدنيا قبل الآخرة وتشجيعٌ لكل مسلم أن يكون قويا شجاعا مِقْدَامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمه وروحه وكل ما يملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامه والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينال العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف.. أيْ ولا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ الذين قُتِلُوا في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة حيث كانوا يَنشرونه بكل قُدْوة وحكمة وموعظة حسنة ويدافعون عنه بما استطاعوا بكل الوسائل المُمْكِنَة حتي قُتِلوا من أجل إعلاء كلمة الله ونُصْرة الإسلام والمسلمين، لا تَحْسَبَنَّ أبداً أمثال هؤلاء أمواتاً مثل أيّ مَيِّتٍ قد مات بمعنى أنهم قد تَلِفَت نفوسهم وانقطعت عنهم النِّعَم وأصبحوا كالجمادات وتحزن علي فقدانهم لحياتهم وفراقهم كما يُفْهَم من معنى المَيِّت فهم لم يخسروا الحياة المحبوبة لكل البَشَر بل حَصَلَ لهم وانتقلوا لحياةٍ أعظم وأكمل سعادة مِمَّا تَحسبون لأنهم وإن فَقَدوا حياتهم ظاهريا أمامكم لكنهم واقعيا أحياء عند ربهم الكريم الرحيم الرزّاق الوهّاب يُرْزَقون ويَتَنَعّمون ويَسعدون بأعظم أنواع النعيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولذا فهم شهداء يَشهدون تمام الخير والسعادة لا أموات، ولكن لا تشعر أنت أيها الحَيّ بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا ولا تُدْركها لأنها حياة لا يعلمها إلاّ علّام الغيوب سبحانه
ومعني "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿170﴾" أيْ هم في حالٍ مَسرورين سَعيدين بعد استشهادهم وانتقالهم من الدنيا للآخرة بما أعطاهم الله من أرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ في جناتٍ خالداتٍ بلا نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿170﴾" أيْ ولكي تَتِمّ سعادتهم بالكامل هم يفرحون ويسعدون بالبشارة التي ينتظرون تَحَقّقها التي يُبَشّرهم بها ربهم الكريم الرحيم الودود ذو الفضل العظيم بشأن مَن يُحِبّون أن يَطْمَئِنّوا عليهم – لأنَّ مِن فطرة الإنسان أنه تَتِمّ سعادته بسعادة مَن يحبهم وتنقص بنقصانها – من إخوانهم الذين كانوا يجاهدون معهم ولكنهم لم ينالوا الشهادة ولم يلحقوا بَعْدُ بهم من ورائهم وبَعْدهم في الزمن إلي الجنة وهم يَنتظرون مَجيئهم كشهداء لينالوا مِثْلَمَا نالوا لِعِلْمِهم أنهم عاملون بإسلامهم مجاهدون يُحبّون الجهاد والشهادة في سبيل ربهم ومُصَمِّمون علي الاستمرار علي ذلك حتي نهاية حياتهم، وكذلك ينتظرون باستبشارٍ مُسْعِدٍ الذين لم يلحقوا بهم أيْ لم يَموتوا بَعْدُ علي الإسلام مِن إخوانهم في الدين مِن أهلهم وأقاربهم وكل مَن يحبونهم ليلحقوا بهم في درجات الجنات علي حسب أعمالهم، يستبشرون – بهذه البِشَارَة الصادقة من الله لهم والتي حتماً ستَتَحَقّق لأنها وَعْد الله الذي لا يُخْلِف وَعْده مطلقاً ثم بما رأوه حقيقة في الجنة مِن صِدْق ما كان يَعِدهم به خالقهم وقرآنهم وإسلامهم في دنياهم من النعيم الهائل للشهداء بل ولكل مسلم يعمل بأخلاق إسلامه – بأنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهذه البُشْرَيَ بعدم الخوف والحزن هي لهم إذ هم في الجنة بالفِعْل، وكذلك هي لمَن سيَلحقون بهم من المسلمين إذا اسْتُشْهِدُوا أو ماتوا بصورةٍ طبيعيةٍ وهم متمسّكون عاملون بأخلاق إسلامهم حيث هم في كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم قبل استشهادهم أو موتهم بسبب ارتباطهم بربهم وعملهم بإسلامهم ثم سيُبْعَثون أحياء آمنين يوم القيامة في حياةٍ آمنةٍ سعيدةٍ بلا أيِّ خوفٍ مِن أيِّ سوءٍ مُتَوَقّعٍ مُستقبليّ أو أيّ حزنٍ علي فوات أيِّ شيءٍ محبوب، ولذلك فهم مُسْتَبْشِرُون تمام الاستبشار.. هذا، وفي الآية الكريمة توجيهٌ وإرشادٌ وتبشيرٌ لكلّ مسلمٍ لتشجيعه علي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه وأن يحبّ لغيره ما يحب لنفسه من كل خيرٍ وأن يجاهد لنشر دينه والدفاع عنه حتي ولو تَطَلّب الأمر الاستشهاد في سبيل هذا لينال أعلي درجات الجنات في الآخرة مثل مَن سبقوه في ذلك
ومعني "يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿171﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنهم في كل نعيمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ وتَبْشِيرٍ دائمٍ بما يَسُرّهم حيث هم في فرحةٍ غامِرَةٍ تامّةٍ بما أُعْطُوا من نِعَم الله وأرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ في جناتٍ خالداتٍ بلا نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهم يستبشرون ويسعدون كذلك من جُمْلَة سعاداتهم بيقينهم واطمئنانهم النفسيّ بجانب الماديّ الذي هم فيه بأنَّ الله لا يمكن أبداً أن يُضيع ويُذهب أجر المؤمنين به سواء أكانوا شهداء أم غير شهداء ولكنْ يُعطيه لهم كاملا علي قَدْر أعمالهم بل وينمِّيه ويزيده من فضله وكرمه ورحمته وحبه لهم، فهم متأكّدون بلا أيِّ شكّ أنَّ كل مؤمنٍ لا يضيع الله أجره مطلقا، لا في دنياه حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَته به وعمله بأخلاق إسلامه، ولا في أخراه حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد
ومعني "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿172﴾" أيْ هذا مدحٌ لمَن يَتّصِف من المسلمين بهذه الصفة العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنه تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم.. أيْ إنَّ الله لا يُضيع أجر المؤمنين أبداً الذين مِن صفاتهم أنهم يُلَبُّون ويُطيعون دعوة الله والرسول للعمل بكل أخلاق الإسلام ونَشْره بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء ولو ببذل الدماء والأرواح من أجل ذلك حتي مِن بعد مَا يُصيبهم القَرْح بأيِّ شَكْلٍ ودرجةٍ أيْ الجرْح والألم قَلّ أو كَثُرَ فهم لا يَتَرَاجَعون ولا يَضعفون رغم ما قد يُصيبهم ولكنهم يَستمرّون علي ما هم عليه بكل عَزْمٍ وصبر مُستعينين بربهم ثم بتعاونهم وتَآلُفهم فيما بينهم وإحسان اتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا صابرين مُحْتَسِبِين أجرهم عليه مُنتظرين دَوْمَاً عوْنه وتوفيقه مُستبشرين دائما بنصره وإسعاده.. ".. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿172﴾" أيْ للذين أتْقَنُوا وأجَادُوا من أمثال هؤلاء المسلمين في كل أقوالهم وأفعالهم فعملوا بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم واتّقوا الله فيها كلها أيْ خافوه وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، أمثال هؤلاء حتماً لهم من الله تعالي أجرٌ عظيمٌ أيْ عطاءٌ هائلٌ من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراهم
ومعني "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴿173﴾" أيْ هذا مزيدٌ من المَدْح لمَن يَتّصِف من المسلمين بهذه الصفة العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثّروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا ثابتين شُجْعَانَاً مُتوكّلين تمام التوكّل علي ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين الذي هو معهم بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم ويَنصرهم ويُسعدهم.. أيْ هم الذين مِن صفاتهم أيضا أنهم حين يُخَوِّفهم الناس حولهم من الخائفين المُتَخَاذِلين المُثَبِّطِين وأشباههم قائلين لهم إنَّ الناس أعداءكم قد جَمَعُوا لكم قوَاهم البشرية والعلمية والعسكرية والمالية والفكرية والإعلامية وغيرها ليَقضوا عليكم فخافوهم فأنتم لا تَقْدِرون علي مواجهتهم.. ".. فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴿173﴾" أيْ فأَدَّيَ هذا إلي أن زادهم تَمَسُّكَاً وصِلَة بربهم وعَمَلاً بكل أخلاق إسلامهم فلم يخافوا ولم يضعفوا ولم يتراجعوا عن مواجهتهم كما كان يَتَوَقّع الناس الذين كانوا يحاولون تخويفهم وإضعاف عزيمتهم بل أعَدُّوا ما استطاعوا من قوةٍ وأحْسَنُوا ما أمكنهم اتّخاذ الأسباب لهزيمتهم قائلين لهم أثناء ذلك كله بكل ثقةٍ واطمئنانٍ في عوْن الله ونصره حسبنا الله أيْ كافِينا الله ونِعْمَ أيْ وما أعظم وأفضل الوكيل النصير الذي تُوُكَل وتُفَوَّض إليه كل أمورنا ناصرنا سبحانه، فمَن يعتمد علي الله وحده فهو كافِيه فى جميع أموره، لأنه تعالي بالِغ أمره أيْ يَصِل إلي ما يريده كله بالقطع بكمال قُدْرته وعلمه دون أيّ مانع يمنعه وذلك بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد، وهذا حتما يكفي المسلم كفاية تامّة ولن يحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقه القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ له الرحيم به هو وكيله، أيْ الحافظ له المُدافِع عنه المُتَكَفّل بما يحتاجه، يُوَفّره له إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل له هذا مِن خَلْقه، فهل يحتاج وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكن كل المسلمين جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ولكنَّه تعالي قد جعل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نَفْع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. فلا يَستعجل إذَن مَن يتوكّل علي الله شيئاً ما ولا يَسْتَبْطِئ حُدُوثه ويَيأس منه وإنما يكون دائما مُسْتَبْشِرَاً سعيدا لأنه ينتظر دَوْمَاً في أيّ وقتٍ كل خيرٍ مِن خالقه الكريم الوهاب
ومعني "فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة المُنْتَظَرَة لذلك أن رَجَعُوا فائزين مَصْحُوبين في دنياهم بنعمةٍ عظيمةٍ من الله تَمَثّلَت في قُرْبهم منه وحبّهم له وحبّه ورعايته وتوفيقه لهم وتثبيتهم علي تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَفَضْلٍ.." أيْ وزيادةٍ في هذا الحبّ والقُرْب والتوكّل والفهم لدينهم والعلم والعمل به مع المَكَانَة العالية والنصر لهم والذلّة لأعدائهم بإلقاء الرعب في قلوبهم حيث لم يستطيعوا أن يُزَعْزِوُا إيمانهم ويَمنعوا نَشْر إسلامهم إضافة لكلِّ نعيمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ وتَبْشِيرٍ دائمٍ بما يَسُرّهم حيث هم في فرحةٍ غامِرَةٍ تامّةٍ بما أُعْطُوا من نِعَم الله وأرزاقه وخَيْراته وهِبَاته وعطاءاته المُتَزَايِدَة التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حساب، وكل ذلك هو في دنياهم، ثم لهم في أخراهم الفوز بالثواب العظيم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.." أيْ ولم يَلْمسهم ويُصِبهم جراحٌ وقتلٌ وكيدُ عدوٍّ ولا مَا يخافونه، وحتي لو أصابهم أذيً مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"﴾.. ".. وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ.." أيْ ونالُوا أعظم نعمةٍ وهي رضا الله، وكل ذلك النعيم والخير الذي حَصَلوا عليه مِمَّا سَبَقَ ذِكْره سببه أنهم اتّبَعُوا أيْ سَعوا في طَلَب كل ما يُرْضِى الله ويُوصلهم إلى ثوابه ورحمته وساروا في طريق تحقيقه من خلال تمام تَوَاصُلهم معه وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم وصَبْرهم وثَباتهم وشجاعتهم وعدم تَرَاجُعهم أمام تخويف الناس حولهم وحُسن توكّلهم علي ربهم وحده واتّخاذهم لأسباب النصر والفوز والنجاح ما استطاعوا.. لقد اتّبَعُوا رضوان الله فرَضِي عنهم ورَضوا هم عنه، أيْ فأحبّهم وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن، وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم ما يستبشرون بانتظاره في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾" أيْ والله تعالى صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ علي أمثال هؤلاء، وكذلك علي المؤمنين عموما، بل وعلي الناس والخَلْق جميعا، بما يُوَسِّعَ عليهم من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما يُيَسِّر لهم العمل بكل أخلاق إسلامهم ويُسعدهم إذا عملوا بها وبما يَعفو عنهم من أخطائهم وبما يُعينهم علي الخروج منها باستفاداتٍ كثيرة وبما يُعْطِي المُحسنين منهم في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ خالدٍ لا يُوصَف، فهو وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم الهائل الكامل الدائم الذي لا يُقارَن.. وفى هذا زيادةُ تَبْشِيرٍ لأمثال هؤلاء المؤمنين لتَحْفِيز الجميع ليَتَشَبَّهوا بهم لينالوا مثل الذي ينالونه
ومعني "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿175﴾" أيْ ليس ذلكم المُثَبِّط لكم الذي يُثَبِّطكم أيْ يضعف عزيمتكم ويُقعدكم ويَعوقكم عن اتّباع أخلاق إسلامكم ولقاء أعدائكم ويُوهِمكم أنهم أقوياء لا تَقْدِرون علي مواجهتهم إلاّ الشيطان الذي يُخَوِّف المؤمنين من قوة أولياءه أيْ أتْباعه وأنصاره والذي هو أيضا يُخَوِّف أولياءه ذاتهم الذين يَتّبعونه ويستجيبون له ليكونوا جُبَنَاء بعيدين عن ربهم وإسلامهم ويُريدكم أن تكونوا مثلهم.. ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنتَ دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه﴾.. ".. فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ.." أيْ فلا تخافوا أمثال هؤلاء أولياء الشيطان وأعْوَانهم والناس الذين قد جَمَعوا لكم قوَاهم المختلفة لأنهم ضِعَاف لا ناصِر لهم وكل أمورهم والخَلْق جميعا بإرادتي أتَحَكَّم فيها ولا يَثْبتون أمامكم أنتم أهل الحقّ، وخافونِ باتّباع كل أخلاق إسلامكم وعدم مُخَالَفتها واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أنْ أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كلّ شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خوف الله تعالي ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خوف الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والإسلام يرشد المسلمين إلي أن يكون خوفهم منه تعالي مَصحوباً بالحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿175﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿176﴾ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿177﴾ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿178﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿176﴾" أيْ ولا تَشعر بالحُزن من الذين يُسَابِق بعضهم بعضا مُنْطَلِقِين داخِلِين مُتَوَغّلِين في الكفر مُتَعَجِّلِين فى إظهاره وتأييده والعمل به عند أيِّ فرصة واقعين فيه سريعا من غير أيّ تَدَبُّر أو تَفَكّر – والكفر هو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظر من يكفر – ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. " .. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا.." أيْ إنهم بذلك حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني أنهم لن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"﴾.. وفي هذا تكريمٌ وتشريفٌ للمسلمين لأنه يُفيد ضِمْنَاً أنَّ ضَرَرهم بمنزلة ضَرَر الله تعالي.. ".. يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ.." أيْ يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في ثواب الآخرة، لأنهم ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم.. أيْ ليس لهم أيّ خيرٍ في آخرتهم حتماً بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم حيث هذه هي إرادة الله وطريقته مع أمثالهم.. إنَّ الذين يختارون بكامل حرية إرادة عقولهم الكفر فلا يَمنعهم الله ويشاؤه لهم أي يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرِّين تمام الإصرار حَرِيصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُريده لهم لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الكفّار هم الذين أرادوا واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الذي هم فيه، فكيف يَهْتَدون بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايتهم وإرشادهم وزَحْزَحتهم عن كفرهم؟! وبالتالي فلا تَحْزنوا فقد أَدَّيْتم ما عليكم نحوهم، وهذا مزيدٌ من تسلية الله تعالي لرسوله الكريم ﷺ وللمسلمين للتخفيف عنهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿176﴾" أيْ وأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، إضافة إلي أنهم لا حَظّ لهم في الآخرة، لهم حتماً أيضا عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسب شرورهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في الدنيا أولا حيث التّشَاحُن فيما بينهم والتّباغُض والتقاطع والتصارُع وحتي التقاتُل بسبب الطائفية والطَبَقِيَّة والحزبية والعنصرية والعَصَبِيَّة بما يُؤَدِّي إلي ضعفهم وتَخَلّفهم وانحطاطهم وانهزامهم وذِلّتهم وبالجملة إلي كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة لهم وقد يَصِل الأمر إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿177﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من معانٍ لمزيدٍ من التنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ إنَّ الذين باعوا الإيمان – وهو التصديق بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والتمسُّك والعمل بأخلاق الإسلام – واشتروا بدلاً منه الكفر، وهو عكس الإيمان، أي دَفَعوا الإيمان وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الكفر، أي باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم، أيْ تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة والخسارة التي لا تُوصَف فيهما، وما كل ذلك السَّفَه والخَبَل الذي هم فيه إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿177﴾" أيْ أمثال هؤلاء السفهاء بذلك الذي يفعلونه حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي ولا دينه الإسلام في أيّ شيءٍ! بل هم قطعا الذين سيَتَضَرَّرون حيث سيُعَذّبون ويَتعسون في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية السابقة للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿178﴾" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين كفروا مُخْطِئين، ولا تَظنّوا أنتم أيضا أيها المسلمون، أنمّا نُمْلِي لهم أيْ أنَّ إملاءنا أيْ إمهالنا لهم أيْ تَرْكَنا لهم لفترةٍ كافية – دون إهمالٍ حتماً – مُطِيلِين في أعمارهم مُهَيِّئِين لهم أسباب نعيمهم في حياتهم الدنيا غير مُسَارِعين بعقوبتهم بما يستحِقّونه علي فِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، لا يَحْسَبُوا ولا تَحسبوا أنَّ هذا الإملاء أيْ الإمهال بهذه الصورة خيرٌ لأنفسهم، لا بالقطع، بل هو شرٌّ لهم إنْ لم يستقيظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، فإنْ عادوا كان هذا الإملاء لهم خيرٌ ورحمة من ربهم الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليهم طويلا بلا تعجيلٍ بالعقوبة لهم حيث سيَسعدون في الداريْن، وإنْ لم يستفيقوا فحتماً كل الشرّ والتعاسة لهم فيهما إذ كلّما تأخّروا يوما كلما اكتسبوا إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياتهم تَكْثُر ذنوبهم وبالتالي عذابهم عليها.. ".. إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿178﴾" أيْ فإنْ لم يَستقيظوا وأَصَرُّوا علي ما هم فيه فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لهذا الإملاء أنه سيكون ليَزدادوا شَرَّاً وبالتالي يزدادوا عذاباً مُهِيناً في دنياهم وأخراهم، فهو سيكون للإسْتِدْرَاج، أي للتقريب من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجهة التي لا يعلمون أنَّ العذاب سيأتيهم منها، أيْ مِن حيث لا يشعرون أنه استدراج بل يَتَوَهَّمون أنّ ذلك تفضيل وتكريم لهم علي غيرهم مع أنه سبب هلاكهم، وذلك من خلال أننا نَمُدّهم بالنِّعَم وأسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمونها في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سَبَبَاً لعذابهم ولهلاكهم، وكذلك نُسَهِّل لهم أنْ يَتَصَرَّفوا تَصَرُّفاتٍ ويقولوا أقوالا يتوهّمون أنَّ فيها خيراً لهم فإذا بها تضرّهم وتُعذّبهم وتهلكهم، وهذا لون من ألوان كَيْدِي القويّ لهم والذى لا يَتَنَبَّه له أمثال هؤلاء، وذلك حتي لا يمكنهم الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حسرتهم وألمهم والاستهزاء بهم وبكل ما يملكون من قُوَيَ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام منهم أيها المسلمون فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. إنهم حتما سيكون لهم عذاب مُهين حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿179﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾.. إنك إذا كنتَ مستعداً دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لِمَا يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إنْ كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿179﴾" أيْ ليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته مع خَلْقه أن يترك المؤمنين، أي يترككم يا أمة المؤمنين، على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين ومَن يُشبههم بكم وعدم التمييز بينكم، وعلي ما أنتم عليه من اليُسْر المُستمرّ بلا عُسْر، بل الذى من شأنه وأسلوبه أن يختبركم ببعض الاختبارات كل فترة لمصلحتكم ولسعادتكم، حتى يُمَيِّزَ لكم الخبيث وهو المنافق الكاذب الذي يُظْهِر الخير ويُخفي الشرّ فيَسهل تَجَنّبه وضَرَره والتعامُل معه بما يُناسب من الطّيِّب وهو المؤمن الصادق العامِل بأخلاق إسلامه، وحتي لا يُؤَدِّي الرخاء الدائم إلي الاعتياد علي شدّة الاسترخاء وعدم القُدْرة علي الإنطلاق في الحياة لاستكشافها (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة﴾.. ".. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.." أيْ وكذلك ليس من شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته أن يُطلعكم أيها المؤمنون وأيها الخَلْق علي الغَيْب أيْ يُظْهِره لكم ويُعْلِمكم به وهو ما غابَ عن علمكم وإدراككم من ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل، فلا أحد يعلم ما سيَحدث في اللحظة القادمة، لمصلحتكم ولسعادتكم، لكي يَجِدّ الجميع ويجتهدوا ويعملوا (برجاء للشرح والتفصيل مراجعة مرة أخري ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة﴾.. ".. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ولكنَّ الله يختار مِن رسله مَن يريد اختياره منهم فيَسْتَثْنِيه ويُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغَيْب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند الناس فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي أرسل به إليهم من ربهم ليسعدوا في الداريْن، ويُطْلِعه كذلك علي كل ما يمكنه أن يحقّق مصلحتهم وسعادتهم كبعض أحوالٍ ستَحْدُث في الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم أيها الناس مِن تمام قُدْرة الله تعالي وكمال علمه والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب في الداريْن وتمام الخير والسعادة فيهما للمؤمنين والشرّ والتعاسة للكافرين، فآمِنوا إذَن بالله أيْ صَدِّقوا بوجوده وبرسله الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبالنور الذي أنزله معهم أيْ الكتب التي فيها كل إرشاد للخير لكم وآخرها القرآن العظيم والذي هو نور يكون سَبَبَاً لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ تُؤْمِنُوا.." أيْ وإنْ تُصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَتَمَسَّكوا وتَعملوا بكلّ أخلاق إسلامكم.. "..وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطِيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿179﴾" أيْ فبالتالي سيكون لكم حتماً من الله تعالي أجرٌ عظيمٌ أيْ عطاءٌ هائلٌ من فضله وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراكم
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿180﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن بخيلا، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معك من نِعَم الله عليك والتي لا تُحْصَيَ فلا تُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيرك أو حتي لك! أو تُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد تأمر غيرك بهذا من شدّة شَرِّك!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ عليك وعلي مَن حولك، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿180﴾" أيْ ولا يظنّ ويَتَوَهَّم الذين يَبخلون بما أعطاهم الله من فضله أيْ الذين يَحرصون حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل وقد يأمرون غيرهم بهذا من شدَّة شَرِّهم! لا يَحْسَبُون مُخْطِئين هذا البُخْل خيراً لهم، بل هو حتما شَرٌّ لهم، ولمَن حولهم، في دنياهم أولا حيث بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتشاحُن والحِقْد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في الداريْن، ثم هو بالقطع شر لهم في أخراهم، يوم القيامة، حيث سيُطَوَّقون أيْ سيُحَاطُون بما بَخِلُوا به ليكون حول رقابهم كطوقٍ من نارٍ يُعَذّبون به بما يُناسب أضرارهم التي فعلوها بسبب بُخْلهم وسيُلازِمهم هذا العذاب كما يُلازِم الطوق الرقبة.. ".. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.." أيْ هذا ضِمْنَاً ذمّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامّ وتّعَجُّبٌ من سوء حال الذين يَبْخلون بما آتاهم الله من فضله، كما أنه تذكيرٌ وتشجيعٌ ضِمْنِيّ علي الإنفاق لمَن يريد ثوابه العظيم ويَغتنم الفرصة قبل موته وتَرْكه ما يَملك.. أيْ ما حال وشأن هؤلاء الذين يبخلون ولا ينفقون في سبيل الله أيْ في كلّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة في الداريْن للنفس وللغير والحال والواقع أنه ليس لهم شيء بل لله مِيراث كل السماوات والأرض بكل ما فيهما فهو مالِك المُلك كله والذي منه جميع ممتلكاتهم وأموالهم والتي هو لا غيره قد مَلّكَها لهم والتي ستَنتقل من أيديهم إليه بعد موتهم ويَرِثها منهم ليُوَرِّثها ويُمَلّكها لغيرهم ثم يَرِث كلَّ شيءٍ في نهاية الحياة الدنيا، فكل الذي معهم هو في الأصل مِلْكه وهم مُجَرَّد مُسْتَخلفين أيْ وكلاء عنه فيه وقد طَلَبَ منهم الإنفاق منه فلم لا يُنْفِقون إذَن؟! فليس لهم بالتالي أيّ عُذْرٍ في البُخْل!! ثم كله عائد إليه فلْيُنفقوه في سبيله ليُعطيهم أجر ذلك خيرا في الداريْن وإلا فسيعود إليه بدون أجرٍ لهم! ولْيَغْتَنِموا الإنفاق ما دامت الأموال معهم ولْيَنْتَهِزوا هذه الفرصة ويُنفقوا ولا يَخشوا فقراً وإقلالا فإنَّ الذي يُنفقون في سبيله هو مالِك السماوات والأرض وبيده خزائنهما وهو الذي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا بقوله ".. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ﴿سبأ:39﴾.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ حِرْصهم الشديد علي ما معهم لن يَحفظه! فالله تعالي هو الحافظ وهو الوَهَّاب وهو المَانِع، فقد يفقدونه كله أو بعضه فوراً أو تدريجيا، وقد يُسَلّط عليهم مَن يَسرقه أو يُتْلِفه، وقد يُصابون بمرضٍ يمنعهم من استخدامه والانتفاع به، وقد يأتيهم أجلهم فينتفع به غيرهم، ونحو هذا مِمَّا يُصيب بالحَسْرة والندم فلا هُم انتفعوا وسعدوا به حقّ السعادة في الدنيا، ولا قَدَّمُوا به خيراً يَلْقون به ربهم في الآخرة.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿180﴾" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿181﴾ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿182﴾ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿183﴾ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿184﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُتَطَاوِلَاً علي الله تعالي أو رسله أو إسلامه، قليل الأدب معهم، سواء أكان تَطَاوُلَاً لفظيا أم عمليا بالتّبَجُّح بفِعْل عكس ما يحبه ويَرْضَيَ به بأنْ تَفعل الشرّ وتترك الخير مُخَالِفَاً أخلاق الإسلام، تَعَالِيَاً واستكباراً وعِنَاداً لا عن جهلٍ أو تقصيرٍ أو سوءِ تقديرٍ.. إنَّ المُتَطَاوِل سَيِّءَ الخُلُقِ المُتَجَرِّيءَ المُتعالِيَ علي ربه ورسله ودينه الذي يرضي بقتل الدعاة لهم والصالحين لا بُدَّ سيحيا حياة تعيسة ثم أتعس حتماً في آخرته.. إنه ينتقل من شَرٍّ إلي شَرٍّ أشدّ.. إنَّ فطرة الخير في عقله تُؤَنّبه وتُعَنّفه وتُهِينه وتَحْقِره بين الحين والحين (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنه يفتقد الأمان والاستقرار النفسيّ الداخليّ، بل والخارجيّ، حيث يَتَوَقّع دائما انتقام ربه منه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وبالتالي يَفقد سعادته
هذا، ومعني "لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿181﴾" أيْ بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سَمِعَ الله وهو الذي له كلّ صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، سَمِعَ قول مَن قالوا كذباً وزُورَاً مُتَطاوِلين عليه مُسيئين الأدب معه واصِفين إيّاه بما لا يَليق ساخِرين من تشجيعه للإنسان علي الإنفاق ورَفْعه لشأنه كأنه يقترض منه حين يسمعون قوله "مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً.." ﴿البقرة:245﴾ قائلين إنَّ الله فقيرٌ مُحتاجٌ إلينا يَطلب مِنّا أن نقرضه بالإنفاق من الأموال والأشياء العَيْنِيَّة والجهود وغيرها، ونحن أغنياء نُنْفِق أو لا ننفق!!.. سبحانه وتعالي عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً.. إنهم يَقصدون بذلك التشكيك في صِدْق القرآن العظيم والرسول الكريم ﷺ بمحاولةٍ يائسةٍ لإيهام الناس أنَّ في الإسلام تَنَاقُضَاً حتي يَكرهوه ولا يَتّبعوه حيث يَصِف الله بالغنيّ الكريم ثم هو يَطلب قَرْضَاً!!.. ".. سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ.." أيْ سنُسَجِّل عليهم فى صحائف أعمالهم كل ما قالوه، كما سنُسَجِّل قتلهم أنبياء الله ودُعَاته الذين يَدْعون الناس له ولدينه الإسلام ليسعدوا به في الداريْن، والتسجيل يعني التوثيق بحيث لا يُمكنهم إنكاره عند حسابهم يوم القيامة كما يُفيد ضِمْنَاً عقابهم فهو ليس مجرّد تدوين وفقط، أيْ سنُعاقبهم في دنياهم وأخراهم علي كل ذلك وغيره من شرور ومَفاسِد وأضرار بما يستحقّونه مِمَّا يناسب من عذابٍ أليمٍ مُهين.. إنهم يقتلونهم بغير حقّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فَعَلوا ما فَعَلوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله والدعاة الصالحين معهم الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. "..وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿181﴾" أيْ وسنُعاقبهم في الآخرة لكلِّ هذا بإلقائهم في نار جهنم ونقول لهم أثناء عذابهم في مُقابِل ما كانوا يقولونه – بما يُفيد تمام الغضب عليهم وكمزيدٍ من العذاب النفسيّ والتأنيب والتهديد والإهانة والتّيْئِيس من النجاة لهم – اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. وذلك قطعا بعد نار وحريق وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿182﴾" أيْ ذلك العذاب الشديد بسبب أقوالكم وأفعالكم السيئة الفاسدة الضارة المتعسة لكم ولغيركم بل وأحيانا للكوْن كله، ولم يكن الله أبداً، الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه علي قَدْر ما قَدّم في حياته.. وفي هذا تشجيعٌ وتذكيرٌ لكلِّ عاقلٍ أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
ومعني "الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿183﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض ما يقوله المُرَاوِغُون من اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يُصِرُّون علي ألاّ يُسْلِموا حيث يَدَّعون أنهم لكي يؤمنوا بأيِّ رسولٍ لا بُدّ أن يأتيهم بمعجزة مُحَدَّدة واحدة فإنْ لم يأتِ بها فلن يُصَدِّقوه، رغم أنهم يعلمون تماما أنه سبحانه قد أيَّدَ رسله بمعجزاتٍ كثيرةٍ مُتَعَدِّدَة بما يُناسب كل زمنٍ وبيئةٍ بحيث يُصَدِّقه الناس في هذا الزمن ويُسلموا.. أيْ إنهم هم الذين يقولون إنَّ الله قد أوْصَانا وآباءنا في كتبٍ سابقة قبل القرآن بأنْ لا نُصَدِّق لرسولٍ حتي يُحْضِر لنا آية أي معجزة مُعَيَّنَة تدلّ علي صِدْقه وهي قُرْبان أيْ صَدَقَة من غنمٍ أو غيره يتَقَرَّب بها إلى الله يُقَدِّمها لتُنْفَق في الخير فتَنْزِل نار من السماء تأكله أي تحرقه وتخفيه أمامنا فحينئذ نُصَدِّقه ونَتَّبعه ونُسلم، والرسول محمد لم يأتِ بمثل هذه الآية وبالتالي فلن نؤمن له ولو أَتَيَ بها لكنّا آمنا به!! فعدم إيماننا له يدلّ علي أننا مُطيعون لربنا فيما أوْصَانَا به مُلْتَزِمُون تماما بعهده إلينا!!.. ".. قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿183﴾" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بما يَكشف ويَفضح مُرَاوَغاتهم وادِّعاءاتهم وعِنادهم قد أحْضَر لآبائكم رسلٌ كثيرون قَبْلي البَيِّناتِ أيْ الدلالات الواضحات والمُعجزات القاطعات الدالاّت علي صِدْقهم وأيضا جاؤوهم بالذي قلتم وهو القُرْبان الذي تأكله النار، فلم قتلتموهم أيْ فلم قَتَلَهم آباؤكم وأجدادكم رغم ذلك مثل زكريا ويحي وغيرهما إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعُونه أنكم تَتّبعون الرسل وتُسْلِمون عندما يأتوكم بما تَطلبون مِمَّا يدلّ علي صدقهم؟!.. إنَّ قتلكم لهم هو دليل قاطع علي عدم إيمانكم بما دَعوكم إليه!.. إنَّ هذا القتل يدلّ علي أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله والدعاة الصالحين معهم الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!
ومعني "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿184﴾" أيْ لا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿184﴾" أيْ ليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَر لهم الرسل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم زُبُرَاً أي صحفا مكتوبة فيها كل الأخلاقيّات والمَوَاعِظ والتشريعات أم كُتُبَاً أكبر من الصحف وختامها القرآن العظيم، أي أحضروا لهم كلّ أنواع الأدِلّة المختلفة، وكلها مُنيرة لهم، أي كالمصباح المُضِيء الذي يُضيء حياتهم حيث يُبَيِّن لهم أين النور من الظلام وأين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة في كلّ شئونهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تماما في دنياهم ثم ليكون لهم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. ولكنهم مع كلّ هذا لم يَستجيبوا وظَلّوا مُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿185﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿185﴾" أيْ كل إنسان سيَذوق حتما طَعْم الموت عند انتهاء مُدَّته التي حدَّدها الله له في حياته الدنيا، سيذوق طَعْمَاً طيّبا هانِئا مُمْتِعَاً مُفْرِحا مُسْعِدَا إذا كان من أهل الخير، وسيَذوق بالقطع طعما خبيثاً مُرَّاً دَنِيئاً مُؤلِمَاً مُزْعِجَاً مُرْعِبَاً مُتْعِسَاً إنْ كان من أهل الشرّ.. " .. وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وما تُعْطَوْنه أيها الناس في دنياكم من خيرٍ وسعادةٍ للمُحسنين أو شرٍّ وتعاسةٍ للمُسيئين في مُقابِل أعمالكم الخيرية أو الشَّرِّيَّة هو ليس وافِيَاً أيْ كاملاً بل هو بعض الحساب لكم وإنما تُعْطَوْن أجوركم التي وَعَدَكم بها خالقكم وافية أيْ كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان بكل عدلٍ بلا أيّ ظلم علي قدْر أعمالكم في الدنيا من خيرٍ أو شَرٍّ حيث كمال الخير والسعادة لأهل الخير وكمال الشرّ والتعاسة لأهل الشرّ في يوم القيامة أيْ الذي تقومون فيه ليُحاسبكم على أقوالكم وأفعالكم حين يبعثكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم.. ثم هو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله لا يَكتفِي بهذا لأهل الخير بل يزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.." أيْ فمَن أُبْعِدَ يومها عن عذاب النار وأُدْخِلَ نعيم الجنة فقد نَجَحَ وربح قطعا نجاحا ورِبْحَا هائلا مُبْهِرَاً لا يُقارَن ولا يُوصَف حيث تمام السعادة في جناتٍ خالداتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿185﴾" أيْ وليست مُتَع الحياة الدنيا لمَن عمل لها وحدها ناسيا الآخرة إلا متاع هو غُرور أيْ خِداع لأنه زائل غير دائم ولا يُقارَن مُطلقا بالآخرة الخالدة.. إنَّ مُتَعَها تَغُرّ الكافرين ومَن يتشبَّهَ بهم مِن الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم لكنَّ المؤمنين المُحسنين لاستخدامها لا يَتشبَّهون بهم أبدا ولا يَنخدعون بها أو يَنسون اتِّخاذها طريقا لآخرتهم الدائمة الأبدية.. إنها متاع الغرور تَغُرّ بحقٍّ إنْ أَنْسَتَ طَلَب الآخرة لكنّها إنْ أَدَّت إلى حُسْن طَلَبها فستكون أفضل متاع وأفضل وسيلة لتحصيلها.. ولهذا فعلي المسلم إذَن أن يُحْسِن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿186﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك، وهذا هو الغالب، أو من غيرك، وهو كثير الحدوث أيضا، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾، ﴿156﴾، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة "بشيء" والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾.. إنك إذا كنت مستعدا دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة.. إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة.. إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألاّ يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون، ولذا فهو بين الحين والحين، حيث الأصل دائما السعادة والخير، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة، يختبرهم ببعض الصعوبات، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم.. فيَسعد الجميع بكل هذا.. إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه، بينما لو علموا الغيب، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني!! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل!! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿186﴾" أيْ بالتأكيد سنَختبركم أيها المسلمون بين الحين والحين باختبارٍ مَا بما يُناسب كلاًّ منكم، فهذه هي طريقتنا مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيكم آدم، وذلك لمصلحتكم ولسعادتكم، لتستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، ونحن نُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم.. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – أعمالكم وأقوالكم وأحداثكم وتصرّفاتكم كلها فيَتَبَيَّنَ لكم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، فيَتَبَيَّنَ بذلك لكم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب ليَسعد حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون لأيّ أحدٍ حجّة أو جدال حينما يَنال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد!.. ".. فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.." أيْ لَتُبْلَوُنَّ في نقصِ بعض أنواع أموالكم بصعوبة الحصول عليها أو ذهابها، وفي نقصِ بعض أنفسكم بموتِ أحبابكم من أقاربكم وأصحابكم وبأنواعِ أمراضٍ مختلفة وبجراحٍ وآلامٍ وأَسْرٍ وقَتْلٍ وخوفٍ في شأنٍ مَا من شئون الحياة وجوعٍ بقِلّة طعامٍ وشرابٍ وما شابه هذا من أشكال الابتلاءات أيْ الاختبارات المُتَعَدِّدة.. ".. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا.." أيْ وكذلك ستُخْتَبَرُون بالتأكيد بما تَسمعون من الذين أعْطوا الكتاب مِن قبل إعطائكم القرآن من السابقين لكم كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة والنصاري الذين أُعْطُوا الإنجيل وكذلك بما تَسمعون من الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، حيث ستَسمعون منهم أذيً كثيراً كبيراً عظيماً مُؤْلِمَاً كسَبٍّ وتشويهٍ وكذبٍ وافتراءٍ وإساءةٍ مُتَنَوِّعَة لربكم ولرسولكم ولقرآنكم ولإسلامكم ولكم.. "..وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ هذا هو العلاج الذي يُنجيكم من كل أنواع البلاء، من الشرور عموماً ومن شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم، إنه الصبر والتقوي، أيْ إنْ تصبروا علي أيِّ أذَيً يُصيبكم، منهم أو مِن غيرهم، أي تكونوا من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. وتَتّقوا أيْ وتَخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والتي منها ألاّ تَتّخذوا منهم أنصارا وأعوانا وأن تحذروا وتَتَجَنّبوا ما يُؤذونكم به أصلا وأن تَتّخِذوا كل أسباب القوة المُمْكِنَة ليحذروكم، مع الصبر أيضا علي كل ذلك أيْ الثبات والاستمرار عليه، فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنه لا يَضرّكم أذاهم وما يُدَبّرونه لكم مِن شرٍّ بأيِّ شيءٍ يُذْكَر أيْ لن تُبَالوا وتتأثّروا به لأنَّ المُتَدَرِّب بالاتّقاء والصبر يكون غالباً ثابتاً مُتّزِنَاً قليل الانفعال جريئاً على الخصم مُستعداً لمقاومة الصعاب والتّغَلّب عليها ويكون له النصر في كل شئون حياته بإذن الله، ثم لو فُرِضَ وأصابكم شيءٌ مِن أذاهم القوليّ أو حتي الفِعْلِيّ فسيكون ضَرَره ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من هذه السورة " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."﴾.. لكنْ إنْ لم تصبروا وتتّقوا ضَرّكم كَيْدهم قطعاً بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات وهزموكم وأتعسوكم.. ".. فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿186﴾" أيْ فإنَّ ذلك الذي ذُكِرَ مِن الصبر بكل صوره والتقوي هو بكل تأكيدٍ من الأمور الهامّة العظيمة الكريمة في الإسلام، هو من عَزْم أيْ جدّ وواجب الأمور أيْ المفروضة الإلْزَامِيَّة لا المُسْتَحَبَّة الاختياريَّة، هو من الأمور التي يُعْزَم لها أيْ تَحتاج إلي عقدِ وتجهيزِ عزيمةٍ أيْ إرادة عقلية قوية للقيام بها علي أكمل وجهٍ ولا يُوَفّق لها ويُيَسَّر له أسبابها من الله إلا أصحاب العَزْم أي الإرادة القوية الصادقة الذين يَبدأون بهذا الخير فيُسَاعَدون من ربهم عليه، وفي هذا تشجيع ودَفْع وتحفيز للجميع ليكونوا كلهم كذلك أصحاب إراداتٍ عقلية قويّة وهِمَّة عالية متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق الإسلام ما استطاعوا ليسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴿187﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الدعاة إلي الله والإسلام، ووَفّيْتَ بميثاقك ووَعْدك مع ربك ورسولك ﷺ ودينك بفِعْل ذلك ليَنتشر الخير وتَسعد أنت والخَلْق جميعا في الداريْن.. ولم تكن من الذين أَخْلَفوا عهودهم ولم يُبَيِّنُوا للناس ما جاءهم من خيرٍ مُسْعِدٍ من ربهم بل كَتَمُوه بعضه أو كله وألقوه وأهملوه من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَعِسُوا وتَعِس مَن حولهم في دنياهم وأخراهم.. فبِئْس أيْ ما أسوأ البيع، وبئس الثمن، وبئس المصير (برجاء مراجعة تفسير الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن الدعوة لله وللإسلام وأساليبها وموانعها وثوابها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة، ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة تفسير الآية ﴿113﴾ من سورة آل عمران ثم الآية ﴿176﴾ منها أيضا، ثم الآية ﴿63﴾ من سورة النساء عن التجهيز للدعوة، ثم الآية ﴿33﴾ والآيات ﴿35﴾ حتي ﴿39﴾ والآية ﴿52﴾ وكلها من سورة الأنعام عن تصنيف المدعوين، ثم الآية ﴿128﴾، ﴿129﴾ من سورة آل عمران عن مشيئة المدعوين للاستجابة﴾
هذا، ومعني "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴿187﴾" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذ الله ميثاق الذين أعْطوا الكتاب قبل القرآن كاليهود الذين أُعْطُوا التوراة والنصاري الذين أُعْطُوا الإنجيل، أيْ أخَذَ منهم عَهْدهم ووَعْدهم المُؤَكَّد، أن يُبَيِّنُوا أيْ يُوَضِّحوا ويُظْهِروا آيات ومعاني هذا الكتاب الذي أعطوه للناس حولهم ولا يكتموا منه أيَّ شيءٍ وذلك حتي يعملوا بأخلاق الإسلام التي فيه فيَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.." أيْ فتَرَكوا وأهْمَلوا هذا العهد – وهذا الكتاب أيضا – ونَقَضُوه ولم يُنَفّذوه وأخْلَفوه وألْقوه ورَموه خَلْف ظهورهم باستهانةٍ واحتقارٍ وعدم اعتناء.. ".. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴿187﴾" أيْ وباعوه وأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره استبدلوه به، فبئس ما يشترون أي ما أسوأ هذا الشراء الذي يشترون حيث هذا الثمن المأخوذ مهما عَظم فهو مَهِين إذ يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فالذين يَفعلون ذلك هم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. والمقصود بأنهم – ومَن يَتَشَبَّه بهم – يَبيعون عهد الله أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿188﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَفرحون بما يفعلون من خيرٍ فَرَحَاً مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، بأن يكون مَصْحُوبَاً مثلا بفخرٍ وتَكَبُّرٍ وإيذاءٍ للآخرين ونحو هذا.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يُحبون أن يُحمدوا بما لم يَفعلوا لأنَّ الأصل ألاّ تحبّ المَدْح المُضِرّ الذي فيه كذب علي شيءٍ فَعَلته فما بالك لو طلبته لِمَا لم تفعله أصلا؟!.. إنَّ هذه بعض صفاتٍ سيئةٍ مُخَالِفَة للإسلام لو تركتها لَسَعِدْتَ
هذا، ومعني "لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿188﴾" أيْ لا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ الذين يَفرحون بما يأتون من أعمالِ خيرٍ فَرَحَاً مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، أي يكون فَرَحهم فيه افتخار بخيرهم الذي قَدَّموه، أو فيه استعلاء علي الآخرين وتقليل من فِعْلهم وشأنهم، أو فيه غرور بذواتهم وانخداع بأنْ لا أحد مِثْلهم رغم أنَّ أمثالهم كثير وأفضل، أو فيه إيذاء لمَن حولهم بقولٍ أو فِعْلٍ شَرِّيٍّ مَا، أو فيه طَلَب لسُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليراه الناس فيقولون عنه كذا وكذا من المدح الكاذب المُبَالَغ فيه والذي لا يُناسِب الفِعْل أو الذي يكون لشيءٍ لم يفعلوه أصلا.. بل هناك من هم أسوأ من ذلك، إنهم الذين يَفرحون بفِعْل الشرّ ويفتخرون به وينشرونه ويُقَلّلون مِن شأن مَن لا يستطيع فِعْله! وإذا كانوا في مَوْقِفٍ يُذْكَر فيه الخير إذا هم يَذْكُرون خيراً لم يفعلوه أصلا بل هم كاذبون ويطلبون مَدْح وحَمْد أيْ شُكْر مَن حولهم عليه!!.. ".. فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿188﴾" أيْ فلا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بمَنْجَاةٍ أيْ في مَأْمَنٍ وفوزٍ بنَجَاةٍ من العذاب في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة، وذلك علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم التي أَتَوْا بها.. هذا، وتكرار لفظ "تَحْسَب" ولفظ "عذاب" هو لمزيدٍ من التأكيد.. إنه عذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ المسلمين مطلوبٌ منهم أنْ يكونوا عكس ما سَبَقَ تماما، أي يكونوا مُتَّبِعين لكل أخلاق إسلامهم والذي يطلب منهم أن يفرحوا بفِعْل كل خيرٍ لأنَّ هذا هو السبب الأساسي لنشر السعادة بين البَشَر لكن يكون فَرَحُهم نافعاً مُسْعِدَاً، أيْ أن يبدأوا بحمد الله وباستشعار نعمته بعقولهم وأنه هو الذي عاوَنهم عليه ووَفّقهم له وسَدَّدَ خُطاهم نحوه، وأن يَتَوَاضَعُوا للآخرين ولا يتعالوا أو يفتخروا به عليهم، وأن يعاونوهم علي مِثْله وأكثر، وألاّ يَغْتَرُّوا وينخدعوا به أن لا أحد أتَيَ بمِثْل ما أَتَوْا به حيث مِثْلهم كثير وأفضل، وألاّ يطلبوا به سُمْعَة أو جَاهَاً أو ليراهم الناس فيمدحوهم أو نحو ذلك من صور الرياء، وإن امتدحهم أحدٌ فليشكروه وليطلبوا منه بأدبٍ أن يكون صادقا غير مُبَالِغٍ، وليعتبروه تشجيعا لهم إذ فطرة العقل تحب ذلك لتستمرّ وتزداد في كل خيرٍ كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ حيث يَمتدح بكل صدقٍ من لا يُخْشَيَ عليه الغرور والتّغَيُّر كوصفه مثلا للصحابيّ الجليل عُبَيْدَة ابن الجراح أنه "أمين هذه الأمة"، وألاّ يفعلوا شَرَّاً ولو فعلوه فلْيُسارِعوا بالتوبة ولا يَفتخروا به، ولا يطلبوا مَدْحَاً كاذباً علي خيرٍ لم يفعلوه، أو نحو ذلك من السوء المُضِرّ المُتْعِس الذي يُقعد عن فعل أيّ خيرٍ ويَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الداريْن
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿189﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴿192﴾ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿193﴾ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿194﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿189﴾" أيْ وهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿189﴾" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، خَلْق السماوات والأرض أيْ إيجادها من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بما فيهما مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء وتغيُّر الصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان.. ".. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.." أيْ وكذلك تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾" أيْ في كلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وغيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دلالات واضحات على تمام قدْرة الله وعلمه ولكنْ لا يُدْرِك أهمية هذه الآيات ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا أولوا الألباب أيْ أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة المُسْتَنِيرَة المُتَفَتّحَة التي لا يُخالِطها نَقْص، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها، فهم يتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" أيْ هم الذين من صفاتهم، أيْ أوُلُوُا الألباب، أنهم يَسْتَحْضِرون علي الدوام بداخل عقولهم ومشاعرهم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ ويذكرونه دائما في جميع أحوالهم قائمين واقفين وقاعدين جالسين ومُضطجعين على جنوبهم ومُسْتَلْقِين علي ظهورهم.. هذا، والذكر يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ.." أيْ وهم أيضا يَتَدَبَّرون بعقولهم بعمقٍ في خَلْقِ السموات والأرض وما فيهما من عجائب قائلين بألسنتهم كثمرةٍ من ثمراتِ تَفَكُّر عقولهم وتَحَرُّك مشاعرهم بداخلها يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – ما أوْجَدْتَ هذا الخَلْقَ عَبَثَاً مُطْلَقَاً بلا حِكْمَةٍ ولا مصلحة، سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن ذلك وعن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقْتَه لِحِكَمٍ كثيرةٍ منها أنْ يَتَعَرَّف الخَلْق علي نِعَمِك التي لا تُحْصَيَ ويَنتفعوا ويَسعدوا بها من كرمك وأفضالك ورحماتك عليهم.. إنهم بهذا التّفَكّر والتّدَبّر في كلّ خَلْق الله تعالي سيَزدادون حتماً يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. ".. فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" وبما أنك يا ربنا ما خَلَقْتَ كل هذا عَبَثَاً فإنه ليس من المعقول بالتالي إذَن أن تنتهي هذه الحياة وهذا الكوْن المُحْكَم وهذا الخَلْق الدقيق المُعْجِز وكلّ هذه المُعجزات وكل هذه الأحداث هكذا بصورةٍ عَبَثِيَّةٍ فَوْضَوِيَّة! وإنما مِمَّا يُوافِق العقل والمَنْطِق والفطرة (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ أن يَتَناسَب الختام مع بدء الحياة واستمرارها فيكون في مُنتهي الحِكمة والدقّة والعدل أيضا كما كان الكوْن والخَلْق كذلك دائما منك سبحانك، أيْ لا بد من آخرةٍ وحسابٍ ختامِيٍّ وجنةٍ ونارٍ لكي يتحقّق العدل والحقّ بأن يأخذ كلٌّ حقه، فإذا كان كل هذا فقِنَا حينها عذاب النار أيْ فاحفظنا ونَجِّنا برحمتك من عذاب النار المُؤْلِم المُهِين بأنْ تُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم.. هذا، والوقاية من عذاب النار نعمة عظيمة مستقلة بذاتها قبل نعمة دخول الجنة والاستقرار الخالد فيها، من عظيم فضله وكرمه ورحمته سبحانه، وذلك لأنَّ دخول الجنة قد يكون لبعض الناس هو بعد عذابٍ مَا يستحِقّونه
ومعني "رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴿192﴾" أيْ يا ربنا نجِّنا من النار فإنك مَن تُدخِلْه النار بذنوبه فقد فَضَحْته وأَهَنْته وأَذْلَلته.. وفي هذا إلحاحٌ في طلب رحمته بالنجاة منها لشدّة سوئها وعذابها.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴿192﴾" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿193﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الإلحاح والتّوَسُّل في طلب رحمات الله بالنجاة من عذاب النار ودخول نعيم الجنة مع بيان الأثر الطيّب لحُسن التّفَكّر في خَلْقِه المُعْجِز المُبْهِر في كلّ كوْنه حيث يؤدّي إلي سرعة إيمان كل عاقلٍ مُتَدَبِّر.. أيْ ربنا إننا سمعنا داعيا، وهو رسولك الكريم وكلّ داعٍ يدعو بعده مثله بكتابك العظيم الذي أنزلته إلينا، يدعو للإيمان أي إلي التصديق بوجود ربكم وبكتبه وبرسله وبحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بكل أخلاق إسلامه، قائلا أن آمنوا أيْ صَدِّقوا بربكم فآمنّا أيْ فصَدَّقنا مُجِيبِين دعوته وعملنا بالإسلام الذي دعانا إليه.. ".. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿193﴾" أيْ فلذلك، فبإيماننا، نَتَوَسَّل إليك ونسألك يا ربنا أن اغفر لنا ذنوبنا أيْ شرورنا الكبيرة التي فعلناها أيْ سَامِحنا فلا تُعاقِبنا عليها وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وكذلك كَفّر عنا سيئاتنا أيْ شرورنا الصغيرة أيْ أيضا اسْتُرها وامْحُها وأَزِلْها ولا تُحاسبنا وتُعاقبنا عليها لكثرة توبتنا منها وعودتنا إليك.. هذا، والغُفْران والتكفير كلاهما فيه معنى السّتْر والتغطية إلاّ أنَّ الغفران يُفيد أكثر معنى عدم العقاب والتكفير يُفيد أكثر ذهاب آثار السيئة، والمقصود مزيد من التأكيد علي الدعاء وطَلَب العفو من كل الذنوب والسيئات والتي هي أيضا مُتَقَارِبَة في معانيها.. هذا، وتكرار لفظ "ربنا" هو لمزيدٍ من التّوَسُّل واللجوء للمُرَبِّي الخالِق الرَّاعِي الوَهَّاب الغفور الرحيم الودود الكريم.. ".. وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿193﴾" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن تجعلنا بعد وفاتنا وقَبْض أرواحنا وانتهاء آجالنا في دنيانا مع الأبرار جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير أيْ مع المؤمنين الخَيِّرِين الصادِقين الطائعين الصالحين الشاكرين المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم.. والمقصود ضِمْنَاً طَلَب التوفيق والتيسير من ربهم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والاستمرار علي ذلك دون أيّ تراجعٍ حتي يُتَوَفّوا وهم علي ذلك فيكونوا من جملة الأبرار في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيَسعدوا مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿194﴾" أيْ ونسألك أيضا يا ربنا أن تُعطينا الذي وعدتنا به في دنيانا علي ألْسِنَة رسلك وعلي تصديق رسلك والإيمان بهم واتّباع أخلاق الإسلام التي جاءوا بها، مِن كل خيرٍ وأمنٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، ثم ولا تُخْزِنَا أيْ ولا تَفْضَحْنا وتُهِنَّا وتُذِلّنا بسبب ذنوبنا يوم القيامة حين نقوم لك وتَبْعثنا من قبورنا بأجسادنا وأرواحنا لتُحاسبنا.. ".. إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿194﴾" أيْ إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بك فإنك أكرم الأكرمين وأعظمهم الخالِق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنك سبحانك لا يُمكِن أن تُخْلِف وعْدك مُطلقا، ولماذا تُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تَعَالَيْتَ عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فأنت مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿195﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم الحديث معه والشكوي إليه عند الحاجة.. وإذا كنتَ من الذين يُهاجِرون في سبيل الله، ومن الذين قد يُؤْذَوْنَ من أجله ورسوله ﷺ وإسلامهم.. وإذا كنتَ من الذين يُقاتِلون في سبيله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فيَقْتُلون ويُقْتَلون حين يَعتدِي مُعْتَدُون عليهم بالقتال
هذا، ومعني "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿195﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائهم وتَوَسّلهم الصادق أن استجاب لهم ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء واتّخاذ أسباب الاستجابة، وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ مُبَيِّنَاً لهم أنه لا يُضيع مُطلقا على أيِّ عاملٍ منهم أجر عمله بما يَستحِقّه في دنياه من كل خيرٍ وسعادةٍ ثم ما هو أتمّ وأعظم من ذلك في أخراه بل ويزيده أضعافا مُضَاعَفَة بلا حسابٍ مِن كرمه وفضله ورحمته سواء أكان ذكراً أم أنثى حيث الأنثى من الذكر والذكر من الأنثى فكلكم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منكم الآخر وكل الناس بعضهم مُتَوَالِد من بعض وكلكم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن المساواة بين الرجال والنساء وفوائد ذلك وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ.." أيْ هذا بيانٌ وإرشادٌ وتوجيهٌ لأعمالِ خيرٍ لها عظيم الأجر في الدنيا والآخرة.. أيْ فالذين فَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها وأُخْرِجُوا من ديارهم ومساكنهم مُكْرَهِين مُضطرّين من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي.." أيْ وأصابهم أيُّ أذيً أيْ شرّ وضَرَر مَا، قوليّ أو فِعْلِيّ، بأيِّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، في سبيلي أيْ في طريقي، أيْ مِن أجلي، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ آخر أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا.." أيْ وقاتَلوا في سبيلي المُعْتَدِين عليهم بالقتال وقُتِلُوا أي اسْتُشْهِدُوا وقَتَلَهم أعداؤهم في سبيلي أيضا سواء في المعارك أو خارجها.. ".. لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – وبتوبتهم من ذنوبهم أوَّلاً بأَوَّل سأَمْحُو عنهم ما فعلوه من سيِّئاتٍ أي شرور ومَفاسد وأضرار وأَسْترها عليهم ولا أعاقبهم عليها وأمْحُها كأن لم تكن وأمْحُ عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأسترها وأخفيها فلا أعذّبهم بفضحهم بها فيهما فبالتالي يعيشون حياتهم بسبب هذا العَفْو والستْر في استشعارٍ للرحمات واستبشارٍ بانتظار كلّ أنواع الخير والرعاية والأمن والرضا والعون والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر.. ".. وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.." أيْ وكذلك أُقْسِم وبالتأكيد سأُدْخِلهم في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿195﴾" أيْ وكان ذلك جزاءً وعَطَاءً عظيماً هائلاً كريماً علي ما يُقَدِّمُونه من عملِ خيرٍ في كل شئون حياتهم لأنه من عندي وأنا وحدي لا غيري الذي عنده العطاء الحَسَن الجميل الكثير حتي علي العمل القليل الكامِل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف، لمَن عمل بأخلاق الإسلام، فارْغَبُوا واطْمَعُوا فيه بالتالي واجتهدوا في الوصول إليه والحصول عليه بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ﴿196﴾ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿197﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَنْخَدِعون مُطلقاً بما يكون عليه أحيانا بعض الذين كفروا من تَحَكّمٍ في بعض البلاد من الأرض وسيطرةٍ عليها بنفوذه وقوّته بكل أشكالها واستغلاله لثرواتها وخيراتها وتَمتّعه بها فإنَّ تَحَكّمهم هذا لن يستمرّ طويلا بل سيكون لمدة قليلة يتمتعون فيها بما معهم ثم يزول عنهم كل شىءٍ ويعودون إلى خالقهم فيُعَذّبهم عذابا يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فاطمئنّ واستمرّ علي ما أنت عليه من تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك ولا يَرِد أبداً بخاطرك ولو للحظة أن تكفر فتتعس مِثْلهم تمام التعاسة في الداريْن فإنَّ ربك الكريم القويّ العزيز حتما ناصر المسلمين العاملين بإسلامهم المُتّخِذين لكل أسباب قوّتهم ورِفْعتهم ما استطاعوا ومُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ﴿196﴾" أيْ اصْبِر أيّها المسلم وإيّاك أنْ تَنْخَدِع بتَنَقّل الذين كفروا وتَغَيُّرهم بين البلدان يُتاجِرون ويَرْبَحون ويَتَنَزَّهون ويَتَرَقّون في المناصب والأموال وأنواع القوي المختلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها ونحو ذلك مِن مُتَع الحياة وتظنّ أنّ هذا مستمرٌّ لهم أو أنهم علي الحقّ مثلا أو ما شابه هذا من ظنون سيئة وانخداعات، فإنَّ الله تعالي يُمْهِلهم أيْ يتركهم لفترة ولا يُهْمِلهم حتما، أيْ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿197﴾" أيْ إنهم لهم متاعٌ قليل في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ثم في آخرتهم ".. مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم.. ".. وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿197﴾" أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي يَفترشونه ويَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يَصيرون إليه وهو النار يُعاقَبون فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. هذا، والمسلم بالقطع في دنياه عليه ألا يَتمنّي ويتطلّع أبدا أن يكون مثلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿198﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿198﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره هو جزاء الذين كفروا لكن الذين اتقوا ربهم أيْ خافوه وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم سواء في سِرِّهم أو علانيتهم، وكانوا دَوْمَاً من المُتّقِين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء لهم حتماً في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. وكل هذا العطاء هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" أيْ جعل الله تعالي الجنّات مكاناً رائعا ورزقا طيّبا كريما مُتَزَايِدَاً لهم يَنزلون ويَستقرّون فيه بلا نهاية، وحالهم فيها كحال مَن هو في نُزُلٍ، أيْ في المكان الذي يَنزل فيه الضيف كالفندق حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور، وكل هذا هو مِن عنده سبحانه الغفور الرحيم الودود الرَّزَّاق الوَهَّاب صاحب الفضل العظيم، فأيّ نعيمٍ أعظم من هذا؟!.. ".. وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿198﴾" أيْ والذي عند الله من نعيمٍ لا يُحْصَيَ ولا يُقَارَن ولا يُوصَف هو خيرٌ حتماً للأبرار مِمَّا يَتَقَلّب فيه الذين كفروا من متاع الدنيا القليل الزائل.. والأبرار جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير أيْ المؤمنون الخَيِّرِون الصادِقون الطائعون الصالحون الشاكرون المُخلصون المُحسنون (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكون العامِلون بأخلاق إسلامهم
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿199﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿199﴾" أيْ وبالتأكيد ليس كلّ أهل الكتاب وهُم اليهود والنصاري سَيِّئِين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات ﴿113﴾، ﴿114﴾، ﴿115﴾ من سورة آل عمران " لَيْسُوا سَوَاءً.."﴾ بل إنَّ منهم مَن يؤمن بوجود الله وبما أُنْزِلَ إليكم أيها المسلمون وهو القرآن العظيم ويَتّبِع الإسلام، ويؤمن كذلك قطعا بما أنزل إليهم سابقا من التوراة والإنجيل، والناظِر إليهم المُتَابِع لهم يَرَاهُم خاشِعين لله أيْ خائفين منه مُراقِبين مُحِبِّين له مُسْتَشْعِرين عظمته وهيبته خاضِعين مُسْتَسْلِمِين لوصاياه وإرشاداته التي أوْصَيَ بها في الإسلام وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" أيْ ومن تمام خُشوعهم وبسببه ومن صفاتهم الكريمة أيضا أنهم لا يَتركون أبداً العمل بآيات الله ويَبيعون أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فإنْ فَعَلوا ذلك فهُم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. ".. أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيبة الحَسَنة هم حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿199﴾" أيْ إنَّ الله حتماً لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿200﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الصابرين في كل موقفٍ، المُصَابِرين أيْ المُلازِمِين للصبر دائماً الأشَدّ صبراً من أعدائهم، المُتّقين في كل شئون حياتك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿200﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَصَابِرُوا.." أيْ ولازِمُوا الصبر واستمرّوا عليه علي الدوام وكونوا أكثر صَبْراً من أعدائكم وغَالِبوهم أيْ اغلبوهم واهزموهم به ولازِمُوا الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين والأبرياء ضدّ أيِّ اعتداءٍ منهم بأيِّ صورة من الصور الفكرية أو الاقتصادية أو العلمية أو العسكرية القتالية أو غيرها.. فالمُصَابَرَة درجةٌ أشدّ من الصبر وتكون عند مواجهة عدوٍّ مَا فهي صبرٌ في مُقابِل صابرٍ آخر.. ".. وَرَابِطُوا.." أيْ وهذا أيضا شكل من أشكال الصبر يُنَبَّه عليه لمزيدٍ من الاهتمام به.. أيْ ولازِمُوا حدود بلادكم بمُعِدَّاتكم المطلوبة وكونوا مُرْتَبِطِين بهذه الحدود لحمايتها ضدّ أيِّ مُعْتَدِين يَعتدون عليها بالقتال ولازِموا أيضا الجهاد وارْتَبِطوا به بكل صُوَرِه ضدّ أعدائكم (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ وبالجملة لازِموا وارْتَبِطوا دائما بلا أيِّ فَكّ لهذا الارتباط بكل صور العبادة أي الطاعة لله تعالي ولازموا سبيله أيْ طريقه، أيْ طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولازِمُوا الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، ولا تُلازِمُوا أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿200﴾" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الصابرين المُصَابِرين المُرَابِطين المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿1﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا تأكّدتَ أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات ﴿187﴾، ﴿221﴾، ﴿226﴾، ﴿227﴾ منها أيضا، ثم الآية ﴿195﴾ من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية﴾.. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بخُلُق صِلَة الأرحام، أي الأقارب، بالسؤال والدعاء والتواصل والتّزَاوُر والتعاون والتآلف والتآخِي والتّهَادِي ونحو ذلك من صور الرحمة والحب والأُلْفَة والعَوْن والتسامُح والتقارُب، وكلها صفات مُسْعِدَة، ولو عَمِلَتْ بها كل أسرة وعائلة، والتي هي حجر الأساس للمجتمع، بل ولو عَمِلَت بها الإنسانية كلها، لَتَرَابَط الجميع وازدادت قوّتهم وتَطوَّروا وارْتَقوا، وسعدوا في دنياهم سعادة تامّة، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ من المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وبالجملة ستَسعد إذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿1﴾" أيْ يا جميع البَشَر، مسلمين وغير مسلمين، خافوا ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وراقِبُوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبين لكل شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وإيّاكم أن تَصِلوا أبدا لمرحلة إغضابه بل سارعوا لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً.." أيْ لأنه هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وكلكم عنده متساوون فلا يتكَبَّرَ أحدٌ علي غيره ولا يَفْضُل أحدٌ أحداً إلا بعمل الخير، وخَلَقَ مِن هذه النفس زوجها حواء من جنسها ونوعها وصنفها ليحدث التآلُف والتحابّ والالتئام والسرور التامّ بينهما لأنهما من بعضهما، وهذه معجزة عظيمة أيضا لأنها هي المرأة الوحيدة التي خُلِقَت من رجلٍ بينما بقية الأنفس يخلقها سبحانه بعد ذلك من التزاوُج بين الرجال والنساء والذي به بَثّ منهما أيْ نَشَرَ في الأرض رجالاً كثيرين ونساءً كثيرات.. وكل هذا هو من بعض دلائل تمام قُدْرته وكمال علمه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ واتّقوا الله الذى تتساءلون به أيْ يَسأل بعضكم بعضاً به بأن يقول له على سبيل الاسْتِعْطَاف والطلَب أسألك بالله أن تفعل كذا أو أن تترك كذا فيما تحتاجونه وما تتبادلونه من شئون حياتكم لعِلْمكم بما في فِطْرتكم من تعظيم الله الذي يُؤَدّي إلي ألاّ تَرُدُّوا مَن سَأَلَكم به، فكما عظّمتموه بذلك فلْتُعَظّموه بعبادته وتَقَواه إذَن.. ".. وَالْأَرْحَامَ.." أيْ وكذلك اتّقُوا أيْ تَجَنّبُوا الأرحام فلا تَقطعوها قريبها وبعيدها، أي عليكم العمل بخُلُق صِلَة الأرحام، أي الأقارب، بالسؤال والدعاء والتواصُل والتّزَاوُر والتعاون والتآلف والتآخِي والتّهَادِي ونحو ذلك من صور الرحمة والحب والأُلْفَة والعَوْن والتسامُح والتقارُب، وكلها صفات مُسْعِدَة، ولو عَمِلَتْ بها كل أسرة وعائلة، والتي هي حَجَر الأساس للمجتمع، بل ولو عَمِلَت بها الإنسانية كلها، لَتَرَابَط الجميع وازدادت قوّتهم وتَطوَّروا وارْتَقوا، وسعدوا في دنياهم سعادة تامّة، ثم أتمّ وأعظم وأخلد في أخراهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿1﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي مُرَاقِبَاً مُطّلِعَاً على كلّ شيءٍ من أحوالكم أيها الناس حافظاً له تمام الحِفْظ وسيُحاسبكم عليه فاحذروا أن تتجاوزوا ما شَرَعَه لكم في الإسلام من وصايا وضوابط مُسْعِدَة، لأنّ هذا التجاوُز يُؤدِّى إلى عدم رضاه عنكم وبالتالي عدم عوْنكم وتوفيقكم فتتعسون حتماً في الداريْن
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلِي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم، الذين يَرُدُّون لهم كل أموالهم كاملة إذا كان لهم مال عندما يَبْلُغون عُمْرَاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها، ولا يُرَاوِغُون أو يُخادِعُون من أجل أكلها بعضها أو كلها، فإنَّ هذا من الأعمال الخبيثة الدنيئة التي تَنشر الشرّ والغِلّ والثأر في المجتمع فيَتْعَس الجميع بأثر ذلك في دنياهم، ثم في الآخرة الإثم العظيم والتعاسة الشديدة.. بينما بحُسن الكفالة والأمانة تَتَرَقّق المَشَاعِر بالعقول وينتشر التّآلُف والتّآخِي ويَقْوَيَ المجتمع بقوة التكافل وحُسن التربية للأيتام ولكلّ مُحتاجٍ فيَسعد الجميع.. في الداريْن (برجاء مراجعة تفسير الآية ﴿220﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإيّاك إيّاك أن تكون من الذين يَستبدلون الطيّب بالخَبيث في كل شئون حياتهم، فيتركون خيراً ويفعلون شرّاً، وإلا تَعِسْتَ علي قَدْر شَرِّك.. في الداريْن
هذا، ومعني "وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿2﴾" أيْ وأَعْطُوا الأيتام، وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ، وكنتم أَوْصِيَاء عليهم، أموالهم إذا وَصَلُوا سِنَّاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها ورأيتم منهم قُدْرَة على حفظها بعد تجربتهم واختبارهم في بعض الأمور التي تُمكّنكم من معرفة ذلك.. ".. وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.." أيْ ولا تُغَيِّرُوا الرَّدِيء من أموالكم بالجَيِّد من أموالهم فتأخذوا الجيّد وتُعطوهم بَدَلاً منه الخبيث، وعموماً لا تَستبدلوا الخبيث أي الحرام وهو أكل مال اليتامى وأموال الناس بالحلال وهو مالكم الذي حصلتم عليه من طُرُقٍ حلالٍ فتأخذوا الحرام وتتركوا الحلال.. ".. وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ.." أيْ ولا تأخذوا أموالهم وتُضِيفوها إلى أموالكم.. ".. إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿2﴾" أيْ إنَّ ذلك الفِعْل كان إثماً كبيراً عظيماً يُعَاقَب عليه فاعله بما يُناسِب في الداريْن فلا تفعلوه إذَن.. إنَّ الآية الكريمة تَمنع مَنْعَاً تامَّاً صارِمَاً علي كلّ مَن يَتَكَفّل بأمر اليتيم أىَّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّى إلى الإضرار بأمواله وممتلكاته بل عليه أن يحفظها له بل ويجتهد في تنميتها ما استطاع حتي يُسَلّمها له تامّة نامِيَة عند بلوغه السِّنَّ الراشِد الذي فيه يمكنه استردادها وحُسن استخدامها
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عادلا مع زوجك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿1﴾ السابقة﴾.. إنه تعالي يُوصِيِ بها وبحُبِّها وبحُسن التعامُل والعدل معها كما وَصَّيَ علي اليتيم تماما، لأنَّ كليهما يَظنّ به سَيِّء الخُلُق ضعفاً قد يُشَجِّع علي استغلاله وظلمه بما يؤدّي إلي التشاحُن والتباغُض والانتقام.. وبالتالي التعاسة.. في الدنيا أولا.. ثم في الآخرة تعاسة وعذاب أشدّ إذ الظلم ظلمات يوم القيامة
هذا، ومعني "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴿3﴾" أيْ وكما أنكم تخافون عظيم الخوف أن لا تَعْدِلوا في تعاملكم مع اليتامي لأنه كان حُوبَاً أيْ ذَنْبَاً كبيراً فخافوا مثله مع النساء واعدلوا تمام العدل معهنّ، وعند بعض العلماء خافوا أيضا إذا تَخَلّفَت العدالة عندما تريدون تَعَدُّد الزوجات فلا تُعَدِّدُوا.. وكذلك من المعاني وإنْ خِفْتم ألاّ تَعْدِلُوا في اليتامى من النساء اللاتي أنتم أوْصِياء عليهنّ بأن لا تُعْطوهنّ مُهُورَهُنَّ التي تُمَاثِل غيرهنّ إذا أردتم الزواج منهنّ علي اعتبار أنكم مَن قُمتم برعايتهنّ، أو تتزوجوهنّ لمجرّد الحصول علي أموالهنّ ثم تظلموهنّ بعد ذلك لأنكم لا رغبة حقيقية لكم فيهنّ والزواج منهنّ، فاتركوهنّ إذَن حتي لا تظلموهنّ وانكحوا أيْ تَزَوَّجوا ما يَطيب لكم وتستحسنونه من النساء من غيرهنّ – ومن معاني ما طابَ لكم من النساء أن تكون الزوجة طيّبة الخُلُق والخِلْقَة والمَكَانَة والأسرة والبيئة والفكر والعلم ونحو ذلك لتسعد الدنيا والآخرة، ثم هي من حقّها من باب عدل الإسلام اختيار زوجها وقبوله أو رفضه علي مِثْل هذه الصفات الطيّبة وغيرها أيضا – بعَدَدِ اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ولا تزيدون علي ذلك، وهذا هو معني ".. فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ.." أيْ فإذا غَلَبَ علي ظَنّكم تَوَفّر تمام العدل فحينها من الممكن أن تُعَدِّدُوا أما إذا لم يَغلب علي ظنّكم تَوَفّر تمام العدل فلا تُعَدِّدُوا واكتفوا بزوجةٍ واحدة وهذا هو معني ".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.."، ومعني ".. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.." أيْ أو اكْتَفُوا بما تملكونه بأيديكم أيْ بما هو عندكم من عَبْدَاتٍ تُجَامِعُوهنّ، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب وبالتالي فقد انتهت هذه الرخْصَة، ولقد كان الإسلام سَمَحَ بجِمَاعِهِنَّ كنوعٍ من التّعامُل مع واقعهم قبل مَجِيئِهِ حيث كانوا يفعلون ذلك حتي استطاع تغييره مع الوقت ومَنْعه، بما يُشْبِه ما فَعَلَه معهم عند تحريم الخمر عليهم حيث لم يمنعهم منها مرة واحدة وإلا صَعُبَت عليهم الاستجابة لأنها كانت جزءاً أصيلاً من حياتهم وإنما مَنَعَهم بالتدريج.. ".. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴿3﴾" أيْ ذلك الاكتفاء بالزوجة الواحدة أَقْرَب إلي أنْ لا تَجُورُوا وتَتَعَدُّوا وتَظلموا.. هذا، ومن العدل عدم الزواج بزوجةٍ ثانيةٍ أو ثالثةٍ أو رابعةٍ إلا بسبب، كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله تعالي ".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.."، وقوله ".. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴿3﴾" ،ثم قوله " وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ.." ﴿النساء:129﴾ (برجاء النظر لتفسيرها لتكتمل المعاني﴾ والتي كلها تُفيد ضِمْنَاً صعوبة العدل بين الزوجات في كل شئون الحياة بكل تفاصيلها، ولهذا يكون تَعَدُّد الزوجات عند الضرورة أو الحاجة الشديدة كمرض الزوجة أو شدّة احتياج الجماع للزوج أو كثرة سفره وتَنَقّله لفتراتٍ طويلةٍ فيحتاج لزوجةٍ في كل مكانٍ حتي أربعة أو كثرة عدد النساء علي الرجال بسبب استشهادهم في الحروب وما شابه هذا من أسبابٍ لا تَكْسِر مشاعر الزوجة الأولي وتُؤْلِمها وتُؤْذِيها بل قد تُرَحِّب به وتساعد عليه وتُثاب من أجله
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التعامُل مع النساء بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ السابقة، للشرح والتفصيل).. ومن الذين يَحفظون لزوجاتهم حقوقهنّ، وأوّلها مَهْرها، إذ هو من العلامات الأولي علي ما سيَكون بينهم من حُسن المُعامَلَة بالحب والحوار والتفاهُم والتسامُح والتقارُب والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة ونحو ذلك من أسباب السعادة الزوجية
هذا، ومعني "وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴿4﴾" أيْ وأعطوا أيها الرجال النساءَ اللاتي ستَتَزَوَّجُونَهنّ صَدُقَاتِهِنَّ أيْ مُهُورَهُنَّ – جَمْع صَدُقَة وهي ما يُعْطَيَ للمرأة مِن مَهْرٍ عند زواجها – نِحْلَة أيْ عَطِيَّة بلا انتظارِ تعويضٍ وبتمام طِيبِ خاطرٍ وموافقةٍ والتزامٍ وصِدْقِ نِيَّةٍ في طَلَب زواجهنّ.. وليس لكم حقّ في هذه المُهُور.. لكنْ إنْ طَابَتَ نفوسُهُنَّ أيْ سَمَحَت ورَضِيَت وتَكَرَّمَت بالتّنَازُل لكم عن شيءٍ من المَهْر قليلاً أو كثيراً أو بالتأخير لبعضه بلا أيِّ إكراهٍ من أيِّ أحدٍ لأيِّ سببٍ من الأسباب فخذوه وانتفعوا به انتفاعاً هنيئاً أيْ حلالاً طيّباً يُؤَدِّي بكم إلي الهناء الكثير أيْ السرور مَريئَاً أيْ بلا مَشَقّة ولا ضَرَر ولا تَنْغِيص ولا إثم بل بنتائج مَحْمُودَة مُسْعِدَة في الداريْن
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التّصَرُّف في الأموال والممتلكات، لأنها هي قوام الحياة، هي أساسها والتي بها تَقوم وتَصْلُح وبدونها تَتَعَطّل.. بل ويُحسنون التَّصَرُّف في كل أمور حياتهم فيُحسنون تقدير الظروف والأفراد ووزنها ووضعها موضعها المناسب الذي يُؤْتِي أفضل النتائج المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿5﴾" أيْ ولا تُعْطوا أيها المسلمون وأيها الناس جميعا السفهاء – جَمْع سَفِيه وهو ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور – أموالكم التي جعلها الله لكم قياما أيْ جعل عليها قيام كل شئون حياتكم أيْ صلاحها وهي أساسها وبدونها تَتَعَطّل، وذلك حتي لا تضيع هذه الأموال والممتلكات والخيرات بإنفاقها فيما لا خير فيه ولا نفع منه وإفسادها وإتلافها فتتعس الحياة وتتعسون في دنياكم وأخراكم.. ".. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿5﴾" أيْ فلا تُعطوا السفهاء ما لا يُناسبهم من مالٍ أو مَنْصِبٍ أو مسئوليةٍ أو نحو ذلك لأنهم لا يُحْسِنون التّصَرُّف وثَبَتَ عليهم ذلك تِكْرَارَاً ولكن اعطوهم ما يناسبهم ويناسب ظروفهم وأحوالهم من أموالٍ وأعمالٍ وأرزاقٍ وغيرها مع القول الطيِّب وحُسن الإعداد والتدريب بما يُشَجِّعهم علي التّطَوُّر والنمو وتَجاوُز ما هم فيه ليسعد الجميع في الداريْن
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلِي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم، الذين يَرُدُّون لهم كل أموالهم كاملة إذا كان لهم مال عندما يَبْلُغون عُمْرَاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها، ولا يُرَاوِغُون أو يُخادِعُون من أجل أكلها بعضها أو كلها، فإنَّ هذا من الأعمال الخبيثة الدنيئة التي تَنشر الشرّ والغِلّ والثأر في المجتمع فيَتْعَس الجميع بأثر ذلك في دنياهم، ثم في الآخرة الإثم العظيم والتعاسة الشديدة.. بينما بحُسن الكفالة والأمانة تَتَرَقّق المَشَاعِر بالعقول وينتشر التّآلُف والتّآخِي ويَقْوَيَ المجتمع بقوة التكافل وحُسن التربية للأيتام ولكلّ مُحتاجٍ فيَسعد الجميع.. في الداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة تفسير الآية ﴿220﴾ من سورة البقرة ثم الآية ﴿2﴾ من سورة آل عمران﴾
هذا، ومعني "وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴿6﴾" أيْ واخْتَبِرُوا الأيتام، وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ، وكنتم أَوْصِيَاء عليهم، باختبارهم وتجربتهم في بعض الأمور إذا قَارَبُوا الوصول لسِنٍّ راشدٍ بما يُمَكّنكم من معرفة أنهم يستطيعون حُسن التّصَرُّف وإدارة شئونهم وأموالهم، واستمرّوا في ذلك حتي إذا وَصَلُوا النكاح أيْ سِنَّ البلوغ والزواج، فإنْ تَبَيَّنْتم ورأيتم واستشعرتم منهم رُشْدَاً أي اتّزَانَاً وصَلاَحَاً وحُسنَ وصوابَ تَصَرُّفٍ، فأَدّوُا وسَلّموا وادْفَعوا إليهم أموالهم كاملة حينها والتي كانت أمانة عندكم لهم، وإنْ لم تستشعروا منهم رُشْدَاً فلا تُعطوهم ممتلكاتهم حتي يَرْشُدُوا.. هذا، ويُرَاعَيَ حُسن إعدادهم وتدريبهم مُبَكّراً بما يُناسبهم وبما يُشَجِّعهم علي التّطَوُّر والنّمُوّ وسرعة الوصول للرشْد والصواب.. ".. وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا.." أيْ ولا تأكلوا أموالهم فإنه يكون إسرافاً منكم أيْ تَجَاوُزَاً للحَدِّ الحلال والدخول في الحرام الذي تُعَاقَبُون عليه في الداريْن.. وكذلك لا تأكلوها بِدَارَاً أيْ مُبَادِرِين أيْ مُسَارِعِين مُسْتَعْجِلِين الانتفاع بها وهم صغار خوفاً أن يَكبروا وتُرَدُّ إليهم ويُمكنهم أخْذَها.. ".. وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ ومَن كان مِن الأوْصِيَاء عليهم غَنِيَّاً فعليه أنْ يَتَعَفّف أيْ يَمتنع أن يأخذ من مال اليتيم شيئاً لكن مَن كان فقيرا فليأخذ منه بقَدْر احتياجاته الضرورية وما يَكفيه بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن.. ".. فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ.." أيْ فإذا سَلّمتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم شاهِدَيْن عند دفعها إليهم بأنهم قد تَسَلّموها، فهذا الإشهاد يُبْعِد عن أيِّ اتّهام ويَمنع أيَّ تَنَازُع مستقبليّ فيَسعد الجميع ولا يَتعسون.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴿6﴾" أيْ ويَكفِي اليتامي وكل مظلوم والناس جميعا كفاية تامّة ويُطَمْئِنُهم اطمِئْناناً كاملا، ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه، أنه سبحانه بكرمه ورحمته وفضله وإحسانه وعدله هو الذي سيكون مُحَاسِباً حافِظَاً لكل حقوقهم، سيكون المُحَاسِب المُرَاقِب المُشاهِد الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه، المُحاسِب لهم علي أعمالهم، والتي سيُجازيهم علي خيرها بكل تأكيدٍ بما هو أعظم منها، في دنياهم أولا حيث تمام السعادة والخير والكفاية التامّة بالنصر والعوْن والرعاية والرضا والحب والأمن ثم في أخراهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر، ويُجَازِيهم بالقطع علي شَرِّها بما يستحِقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم لهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿7﴾" أيْ هذا بَيَانٌ لقاعدةٍ عامّةٍ للتوريث فى الإسلام وهى أنَّ الرجال لا يَنْفَرِدُون وحدهم بالميراث من أقاربهم الموتي بل للنساء أيضا جزء منه سواء أكان هذا الشيء المَوْرُوث قليلا أم كثيرا، ثم ستأتي آيات المواريث بعد ذلك لتوضيح نصيب كل وارِث.. أيْ للرجال جزءٌ ومِقْدارٌ من الأموال والممتلكات التي تركها الوالدان والأقربون بعد موتهم وللنساء أيضاً جزءٌ ومِقْدارٌ مِمَّا تَرَك هؤلاء دون مَنْعٍ أو ظلمٍ أو نقصان.. ".. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ.." أيْ مِن الذي قَلّ أو كَثُر من هذا المال المَتْرُوك، أيْ سواء قلَّ أو كَثُر الميراث فلكلٍّ نصيبه، فليس نصيب النساء والأطفال يكون فيما هو كثير فقط فإنْ كان قليلا أخذه الرجال وحدهم!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ بالنسبة للرجال وللنساء هو للتنبيه وللتأكيد علي أنَّ لكلٍّ منهم نصيبه المُحَدَّد المُنْفَصِل المُسْتَقِلّ عن الآخر وليس للرجال أيّ سلطانٍ علي نصيب النساء في ميراثهنّ.. ".. نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿7﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حقّ النساء وكلّ وارِث في نصيبه لأنَّ الله هو الذي جعله لهم نصيباً مفروضاً أي مِقْدَارَاً مُلْزِمَاً من عنده تعالي وبالتالي فليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أنْ يُغَيِّر فيه أو لا يَلتزم به أو يَتَهاوَن فيه أو يَتحايَل عليه فلا يُعطيه لمُسْتَحِقّه وإلا عُوقِبَ بما يُناسب في الداريْن
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من أصحاب المشاعر الإنسانية الطيّبة الرقيقة الراقية، فإنَّ هذا ينشر الحب والتآلف والتعاون ويَمنع الأنانية والكُرْه والتنازُع فيَسعد الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿8﴾" أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ للتعاطُف والتراحُم والتّحَابّ بين الناس جميعا وإدخال السرور عليهم ليسعدوا بذلك.. أي وإذا تَوَاجَدَ أثناء القِسْمَة للميراث أو حتي عَلِمَ بتقسيمه أصحابُ القرابة الذين ليس لهم في الميراث، أو اليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ أو المساكينُ أيْ المُحتاجون لكلّ أشكال العوْن والذين ليس لهم أيضا في الميراث، فأعطوهم منه أيْ من هذا الميراث قبل تقسيمه شيئاً مَا مِمَّا تَيَسَّرَ مناسباً لا يَضُرّكم ويُسعدهم ويَمنع عنهم مشاعر السوء كالحقد والحسد وغيره مع القول الطيّب الحَسَن الجميل فإن لم تستطيعوا إعطاءهم لقِلّة الميراث مثلا أو لأنه لِصِغارِ سِنٍّ وأنتم فقط كفلاء لهم أو ما شابه ذلك من الموانع فلا أقَلَّ من أن تقولوا لهم قولاً معروفاً أيْ حَسَنَاً وتَرُدُّوهم وتَعتذروا لهم بأدبٍ رَدَّاً جميلاً طيّباً مَقْبُولَاً بلا تَأَفّفٍ ولا إذلال
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿9﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن الذين يَحفظون للضعفاء حقوقهم ويُحسنون معاملتهم، تماما كما يحبون أن يحفظ الآخرون لذُرِّيتهم إذا كانت ضعيفة من بعدهم حقوقهم ويُحسنون معاملتهم بكل أخلاق الإسلام، ومن الذين يَتّقون الله في ذلك ما استطاعوا، بل ويقولون هذا القول السديد الصحيح العادل الحقّ المُسْعِد للآخرين ويدعونهم إليه ليعملوا به.. بهذا يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿9﴾" أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ لعموم الناس أن يَتعامَلوا مع اليتامى بما يُحبّون أن يَتعامَل به غيرهم مع أولادهم الصغار الضعاف الذين سيكونون يتامَيَ هم أيضا مِن بعد موتهم.. أي وعلي الناس جميعا ألاّ يَظلموا اليتامي ولْيَخَفِ الذين لو ماتوا وتركوا مِن خلفهم أبناءً صغاراً ضعافًاً لَخَافوا عليهم أن يَنالهم من الظلم والضياع لغياب كافلهم مثلما فعلوه مِن ظلمٍ مع اليتامي فلْيَتَّقوا الله بالتالي إذَن أيْ عليهم أن يَخافوه ويُراعوه ويَتّبِعوا الإسلام في كل شئونهم وفي أمر كل اليتامي ويَفعلوا معهم ما يُحبّون أن يُفْعَل مع ذُرِّيَّتهم اليتامي مِن بعدهم وذلك بحفظ أموالهم وحُسن تربيتهم ومنع الأذى عنهم، فجَعَلَ سبحانه من خوفهم علي ذُرِّيَّاتهم وحبهم لهم وحنانهم عليهم دافِعَاً لهم على الخوف والحنان على كل اليتامي.. ".. وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿9﴾" أيْ وعليهم أيضا أن يقولوا دائما قولا سديدا أيْ قولا صائبا، أي مُصِيبَاً للهدف، أي الذي يُحَقق دوْما الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة للجميع، أي الذي هو علي الدوام من أخلاق الإسلام، ليسعدوا تمام السعادة بهذا في دنياهم وأخراهم.. بينما القول الغير السَّديد أي الخاطِيء الباطل الضلال الضياع الكاذب الظالم الشَّرِّيّ المُخَالِف للإسلام حتما يؤدي إلي تعاسة الجميع فيهما.. وهذا القول السديد يقولونه لكل مَن حولهم ينصحونه به لنشر الخير والسعادة ومَنْع الشرّ والتعاسة عموماً ولإحسان معاملة كل اليتامي ويقولونه لكل مَن يُوصِي وصية فيها ظلم لهم عندما يتركهم يتامي ويقولونه لكل يتيمٍ يُسعدونه ويُرَبّونه به كما يقولون دائما خيراً مُسْعِدَاً مُرَبِّيَاً لأبنائهم، وهكذا
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿10﴾" (برجاء مراجعة الآية ﴿2﴾، والآية ﴿6﴾ للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ الذين يَظلمون اليتامي بأخذ أموالهم، هم في حقيقة الأمر لا يأكلون أكلاً مُفِيدَاً مُسْعِدَاً بل ما يأكلون إلا ما يؤدّي بهم في الآخرة إلي النار وعذابها المُهِين الذي لا يُوصَف!.. وذلك قطعا مع نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وقد خَصَّ سبحانه بالذكر الأكل فى بطونهم من بين صور انتفاعهم بما يأخذونه من مالٍ حرامٍ لإظهار حقارتهم حتى إنهم يسرقون أموال اليتامي ويظلمونهم لمجرّد ملء البَطْن!.. ".. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿10﴾" أيْ وسيَحترقون وتُشْوَيَ أجسادهم يوم القيامة بسعيرٍ أي بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّبون بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿11﴾ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُلْتَزِمِين بكل دِقّةٍ بنظام المواريث في الإسلام وكيفية توزيعه علي الوَرَثَة حيث هو أعدل نظام يمنع أيّ تَشَاحُنٍ أو تَبَاغُضٍ أو تَقَاطُعٍ وبالتالي يأمن الجميع ويطمئنون بانتشار العدل ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإذا كنتَ من الذين يَستوصون بأبنائهم خيراً فيُحسنون تربيتهم وتوجيههم (برجاء مراجعة تفسير الآية ﴿233﴾، ﴿234﴾ من سورة البقرة، والآية ﴿37﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن وسائل الإسلام في تربية الأبناء ليسعدوا وليسعد آباؤهم ومُرَبِّيهم بهم في الداريْن﴾.. هذا، ويُرْجَيَ مراجعة أهل التَّخَصُّص في علم المواريث عند توزيع ميراث المُتَوَفّي بعد أداء ما عليه مِن دَيْنٍ أو تنفيذ وَصِيَّة له في مجالٍ خَيْرِيّ بما لا يَضُرّ وَرَثَته أو غيرهم
هذا، ومعني "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿11﴾" أيْ يأمركم الله في شأن توريث أولادكم وأبويكم إذا مُتُّم بما يحقق العدل والإصلاح وذلك بأن يكون للذكر مثل نصيب الأنثيين إذا كان الأبناء ذكوراً وإناثاً لأنَّ التكليفات المالية على الأنثى تَقِلّ كثيراً عنها على الذكر حيث هو مُكَلّف بالنفقة على نفسه وأولاده وزوجته وكل مَن يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه أحد، فإنْ تَرَكَ بناتٍ فقط فللبنتَيْن فأكثر ثُلُثَا ما تَرَك والباقي للعَصَبَة – وهم أقارب الميّت الذين لم يُذْكَر لهم نصيب في آيات المواريث بل يأخذون ما تبقي حسب درجة قُرْبهم وحسبما يحقّق المصالح والتي يُحَدِّدها أهل العلم والخِبْرَة في توزيع الميراث – وإنْ تَرَكَ بنتاً واحدة فلها نصف ما تَرَك والباقي للعَصَبَة، وإنْ تَرَك أباً وأماً فلكلِّ واحدٍ منهما السدس إنْ كان له ولد معهما – والولد يعني مولود سواء أكان ذكراً أم أنثي – فإن لم يكن له ولد ووَرِثه أبواه فقط فلأمه الثلث والباقى للأب، فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقى للأب ولا شيء للأخوة.. تُعْطَىَ هذه الأنصبة لمُسْتَحِقّيها بعد تنفيذ ما وصَّى به في حدود ما أجازه الإسلام وبما لا يزيد عن ثلث أمواله وممتلكاته وبعد أداء ما قد يكون عليه من ديون.. آباؤكم وأبناؤكم الذين فُرِض لهم هذا الميرات لا تعرفون أيهم أقرب لكم نفعاً في دنياكم وأخراكم فلا تُفِضّلوا واحداً منهم على الآخر.. هذا الذي تُؤْمَرُون به مَفْروضٌ عليكم من الله فلا مجال لعدم تنفيذه وإلاّ عُوقِبَ وتَعِسَ بما يُناسب في دنياه وأخراه مَن لم يعمل به.. إنَّ الله كان عليماً تمام العلم بخَلْقه وبكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، حكيماً فيما وَصَّاهم بهم من أخلاقيَّات الإسلام ووصاياه وتشريعاته حيث يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ دِقّةٍ بلا أيّ عَبَث
ومعني "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿12﴾" أيْ ولكم أيها الرجال نصف ما تَرَك أزواجكم بعد وفاتهنّ إنْ لم يكن لهنّ ولد ذكراً كان أو أنثى، فإنْ كان لهنّ ولد فلكم الربع مِمَّا تَرَكْن، ويكون الباقي في الحالتين لبقية الوَرَثة، وهذا النصيب ترثونه من بعد إنفاذ وصيتهنّ في حدود ما أجازه الإسلام وبما لا يزيد عن ثلث أموالهنّ وممتلكاتهنّ أو ما يكون عليهنّ من دَيْن لمُسْتَحِقّيه.. ولأزواجكم أيها الرجال الربع مِمَّا تركتم، إن لم يكن لكم ابن أو ابنة منهنّ أو من غيرهنّ، فإنْ كان لكم ابن أو ابنة فلهنّ الثّمُنُ مِمَّا تركتم، وإنْ كُنَّ عِدَّة زوجات حتي أربع يُقَسَّم الربع أو الثمُنُ بينهنّ بالتساوِي، فإنْ كانت زوجة واحدة كان هذا ميراثًا لها، ويكون الباقي لبقية الورثة، وذلك من بعد إنفاذ ما كنتم أوصيتم به من الوصايا الجائزة في الإسلام أو قضاء ما يكون عليكم من دَيْن.. وإنْ مات رجل أو امراة وليس له أو لها ولد ولا والد، وله أو لها أخ أو أخت من أم – وهذا هو معني الكلالة أن يموت مَيّت ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته من أمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كم في آية الكلالة في آخر هذه السورة – فلكل واحدٍ منهما السدس، فإنْ كان الإخوة أو الأخوات لأمٍ أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يُقَسَّم بينهم بالتساوِي لا فرق بين الذكر والأنثى، وهذا الذي فرضه الله للإخوة والأخوات لأمٍ يأخذونه ميراثًا لهم من بعد قضاء ديون الميّت وإنفاذ وَصِيّته إنْ كان قد أوْصَىَ بشيءٍ لا ضَرَر فيه على الوَرَثَة.. بهذا أوصاكم ربكم وصية نافعة مسعدة لكم.. والله عليم تمام العلم بما يُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه وبمَن عَدَلَ منهم ومَن ظلم حليم لا يُعاجلهم بالعقوبة.. فلْيَعمل كلّ عاقلٍ إذَن بهذه الفروض في المواريث وبكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يُخَالِفها فيتعس فيهما.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ في الآيتين الكريمتين عن الوَصِيَّة والدَّيْن هو لمزيدٍ من التأكيد علي الاهتمام بهما والتنبيه لهما وتثبيتهما وعدم نسيانهما
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿13﴾ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿13﴾" أيْ هذه التشريعات والأخلاقِيَّات والنّظُم والوَصَايَا التي نُوصِيكم بها هي حدود الله تعالي أيْ الحواجز التي عليكم ألاّ تقتربوا منها لتَتَخَطّوها لأنَّ تَعَدِّيَها وتجاوزها يُوقِعكم فيما هو مُحَرَّم عليكم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّكم وتتعسكم في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.." أيْ والذي يُنَفِّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي ورسوله ﷺ من أخلاق الإسلام – بما فيها تشريعات المواريث – والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتما سيُدخلهم سبحانه في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿13﴾" أيْ وذلك كله الذي نُعطيهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿14﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأيّ أحدٍ يُخالِف أوامر الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ في الإسلام ويَتَجَاوَز حَواجِزه ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنَّ يدخله يوم القيامة نارا يُعَذّب فيها علي قَدْر ما فَعَل ولمُدَّةٍ تُناسِبه، وذلك إضافة إلي نار التعاسة التي كان فيها في دنياه بسبب سُوُئِه.. ".. خَالِدًا فِيهَا.." أيْ باقٍ فيها لا يخرج منها أبداً إلي ما شاء الله وذلك إذا كانت معصيته كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أو كتبه أو رسله أو آخرته، أو كانت شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه، أو كانت نفاقاً أي إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ وكان هذا الشرّ المَخْفِيّ كفراً أو شركا.. ".. وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿14﴾" أيْ وسيكون له في دنياه كلّ عذاب يُهينه ويحطّ مِن شأنه ليكون مُقابِلا لاستهزائه بالله ورسله وقرآنه وإسلامه وحدوده، ثم قطعا سيكون له في أخراه من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴿15﴾ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَقْرَب الزنا ﴿وهو جِمَاع رجلٍ مع امرأةٍ ليست زوجته﴾ أو اللواط ﴿وهو جماع رجلٍ مع رجلٍ، بينما امرأة مع امرأة يُسَمَّيَ السُّحَاق﴾، لشِدَّة أضرار ذلك وتعاساته، لأنه يُفَكّك الأسرة والتي هي أساس تَمَاسُك المجتمع وتَرَابُطه وقوّته، وينشر اللّقَطَاء وهم أطفال بلا أبٍ ولا أمٍ ولا مأويً فيكونون بذور الجريمة والانتقام من الجميع عند الكِبَر فتنتشر الأحقاد والمشاحنات والثأر وعدم الأمان، بل والأمراض الصحية، فيتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴿15﴾" أيْ واللاتي يَزْنِين من نسائكم فاطلبوا الشهادة أيها المسئولون والقضاة من أربعة رجالٍ منكم أيْ من المسلمين يكونون صالحين عادلين أمناء ثِقَات يشهدون عليهنّ بالزنا من خلال أن يُقْسِموا أنهم رأوا هذا الفِعْل بأعينهم ودخول ذَكَر الرجل في فَرْج المرأة وليس نقلاً عن أحد، وهو أمر شديد الصعوبة أو شبه مستحيل!! إلاّ إذا حَدَثَ في طريقٍ عامٍ أمام كل مَن يسير فيه!! مِمَّا يعني رحمة الله تعالي بخَلْقه وسَتْره عليهم وحبّه لهم وإتاحة الفرصة إليهم ليتوبوا وليعودوا للخير ليَنْجُوا ويَسْلَم الجميع وليجتهدوا في العلاج لذواتهم ولغيرهم، والعلاج يكون بالاستعانة به سبحانه ودعائه بصِدْقٍ وبالاستغفار وبالندم وبالعزم علي عدم العودة وباتّخاذ إجراءٍ عَمَلِيٍّ هامٍّ وهو حَبْس ومَنْع الذات عن أماكن الفساد ومُقَدّماته كالنظر والسمع والكلام الفاسد ونحو ذلك مع التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في الداريْن لضمان عدم العودة لأيِّ شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما.. ".. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴿15﴾" أيْ فإنْ شهد هؤلاء الشهود وتأكد الزنا علي امرأةٍ مَا فتُبْقَيَ في البيت لحفظها وصيانتها عن كل ما أدَّي بها وقد يُؤَدِّي مستقبلاً للوقوع في الفاحشة مع حُسن معاملتها ودعوتها لربها ولإسلامها حيث كلّ خيرٍ وسعادةٍ وذلك حتي يُوَفّي الموتُ أَجَلَها وهي علي هذا الخير من الحِفْظ والإرشاد أو يجعل الله لها سبيلاً أيْ طريقاً للخروج من هذا الوضع لحياةٍ مستقيمةٍ سعيدةٍ بتيسير التوبة لها فتتوب توبة صادقة ويُرَيَ ذلك منها في أقوالها وأفعالها وبتيسير عملها بأخلاق الإسلام وبتيسير زواجها مِن رجلٍ صالحٍ يحفظها إن لم تكن متزوجة، أو بإقامة الحَدّ عليها إذا وَصَل أمرها للحاكم أو القاضي وهو الرجْم حتي الموت إذا كانت متزوجة أو الجَلْد مائة جَلْدة إذا كانت غير متزوجة، وبهذا تَضْمَن تماما قبول توبتها وتكفير ذنبها
ومعني "وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿16﴾" أيْ وكذلك الصنْفان اللذان يأتيان الفاحشة أيْ الزنا منكم أيها الرجال وهما الصنف الذي تَزَوَّج والآخر الذي لم يَتَزَوَّج – أو الرجلان اللذان يُمارسان فاحشة الشذود معا أيْ اللّوَاط أيْ يُجامِع أحدهما الآخر بإدخال الذكر في فتحة الشَّرَج – فلا تَحبسوا أمثال هؤلاء كالنساء لأنهم مُطَالَبُون بالإنفاق علي مَن يَعولون وإنما الذي يُناسبهم من علاجٍ بعد التذكرة بالتوبة والعودة لله ولأخلاق الإسلام هو الإيذاء بما يُناسب من اللّوْم والعِتاب وبعض الضرب وما شابه هذا مِن ذواتهم ومِن الآخرين مِمَّن عَلِمَ وتأكّدَ بفِعْلهم الفاحشة بعد شهادة الشهود الأربعة ليكون ذلك دافعا للعودة للخير للتّخَلّص مِن مَرَارَة وتعاسة هذا الفِعْل، مع إقامة الحَدّ عند وصول الأمر للحاكم أو القاضي وهو الرَّجْم بالحجارة للمُتَزَوِّج والجَلْد مائة جَلْدَة لغير المتزوج.. ".. فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا.." أيْ فإنْ قاما بالتوبة من ذنوبهما مِن بعد ذلك الظلم الذي فَعَلاه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ، وأصلحا أيْ وعملا الصالحات من الأعمال وقاما بإصلاح كلّ ما أفسداه قَدْر استطاعتهما بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا.." أيْ فحينها اعفوا عنهما وأوقفوا أذاهما ولا تُذَكّروهما بما ارتكبا ولا تعيِّروهما به وعاملوهما مُعامَلَة الأطهار الصالحين بكل تقديرٍ واحترامٍ لأنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له ولأنَّ دوام تذكرة النفس بجرائمها يجعلها غالبا تَهون أي تشعر بالذلّة والحقارة والضعف والخِفّة وإذا هانَت يَسْهُل عليها مزيد من الهَوَان بفِعْل مزيدٍ من الجرائم والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿16﴾" أيْ لأنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ كثير عظيم التوبة علي مَن يتوب حيث يعفو عن ذنوبه ولا يُعاقِبه عليها، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿17﴾ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿17﴾" أيْ ما يكون قبول التوبة حقّاً على الله – وهو سبحانه خالِق الخَلْق ومالِكهم فلا يُوصَف بوجوب شيءٍ عليه تعالى عن ذلك لكنه لتأكيد تنفيذ وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقاً ولتكريم التائبين وتشجيعهم علي التوبة برفع شأنهم ومَكَانتهم بأنَّ لهم حقّاً عنده لا بُدَّ أن يأخذوه منه من رحمته وكرمه وحبه لخَلْقه وفي هذا مزيد من إظهار تمام الطمْأنَة والحب والتكريم والعوْن والنصر لهم فلْيَسْتبشروا ولْيَطمئنّوا ولْيَسعدوا إذَن بذلك – إلا للذين يعملون ما هو سيّء أيْ شرّ أي معصية أي ذنب بجهالةٍ أيْ يعملونه بسبب جَهْلٍ منهم بنتائجه الضَّارَّة المُتْعِسَة لهم ولمَن حولهم حيث يفقدون حب ربهم ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه وسعاداته في دنياهم وأخراهم، وبالتالي فكلّ عاصٍ لله مُخْطِئَاً أو مُتعمِّداً فهو جاهل حتي وإن كان عالماً بالتحريم، لأنه قد عَطّلَ عقله وقت فِعْلها فكان كالجاهل السَّفِيه الذي لا عِلْم له، وبالتالي فكلّ شرٍّ يُفْعَل لا بُدَّ وأن يكون مَصْحُوبَاً بجَهَالَة! وبناءً علي ذلك فالذنوب جميعا يَقْبَل الله التوبة منها!.. والتوبة هي الرجوع لله ولطاعته من خلال العمل بأخلاق الإسلام وتكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للمُسِيء سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ.. ".. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.." أيْ إنما التوبة علي الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون مِن زمنٍ قريبٍ مِن وقتِ عملِ السوءِ ولا يستمرّون فيه بلا مُبَالَاةٍ ويُكَرِّرُونه ويَعتادون عليه وإلا صَعُبَت عليهم التوبة، أيْ يسارعون بها قبل حضور الموت أيْ يتوبون أوَّلَاً بأوَّل من كل ذنبٍ ولا يُؤَخّرون توبتهم لأنهم يتوقّعون انتهاء أجلهم في كل لحظةٍ إذ لا أحد يعلم وقت موته.. هذا، ومن أخَّرَ توبته – وهو أمرٌ مُقِلَقٌ غيرُ مَضْمُونٍ – ثم تابَ قبل أن تأتيه سَكَرَات الموت، فإنها مَقْبُولَة، لأنَّ أجَلَ الإنسان كله يُعْتَبَر مِن زمنٍ قريب.. ".. فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.." أيْ فأمثال هؤلاء حتماً يَقبل الله توبتهم ويَعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويُزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتُرهم ويُعِينهم ويُسعدهم.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿17﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿18﴾" أيْ وليست التوبة مَقْبُولَة عند الله تعالي بالنسبة للذين يعملون السَّيِّئات أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ويَستمرّون ويُصِرّون عليها طوال حياتهم ولا يُسارعون بالتوبة منها إلي أن يَجيء أحدَهم سكراتُ الموت بأن يشاهد الأحوال التى لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا فيقول فى هذا الوقت الذى لا فائدة من التوبة فيه إنى تُبْت الآن.. إنَّ مِثْل هؤلاء بالقطع لا ينفعهم هذا النوع من التوبة ولا يُنجيهم من العذاب لأنه لم يكن إلا محاولة يائسة أخيرة للنجاة منه وليس توبة حقيقية صادقة وهو ما لا يَخْفَيَ علي صاحب أقلّ عقل ويعلمه قطعا علاّم الغيوب الذي يعلم أسرار ودواخل عقول البَشَر سبحانه، فهو توبة الاضطرار وليس الاختيار، والتي تُشْبِه تَصَرُّف فرعون حينما أدْرَكه الغَرَق فلم ينفعه ما قاله بأيّ شيء.. ".. وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.." أيْ وكذلك لا تُقْبَل التوبة من الذين يموتون على الكفر أيْ علي التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويموتون وهم مُصِرُّون علي امتداد عُمْرِهم علي فِعْل السوء بكل أشكاله حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿18﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم أعْدَدنا وجَهَّزنا لهم في الآخرة عذاباً مُوجِعاً مُهيناً مُتْعِساً لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الكُفّار خالدون في النار إلي ما شاء الله أمّا عُصَاة المؤمنين فبَعْد قضاء فترة عقوبتهم فيها يخرجون منها ويدخلون أقلّ درجات الجنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴿19﴾ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿20﴾ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَظلم امرأة أبداً أيَّاً كانت، استضعافاً لها واستكباراً وظلماً، سواء أكانت زوجتك أم بنتك أم أختك أم غيرهن، لأنَّ الظلم ظلمات، في الدنيا حيث يؤدّي إلي التشاحُن والتباغُض والتباعُد والثأر والانتقام وفقدان الأمان وكلّ التعاسات، ثم في الآخرة أعظم من ذلك وأتمّ
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴿19﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا يجوز لكم أن تجعلوا نساء آبائكم من جُمْلَة مِيراثهم بعد وفاة هؤلاء الآباء، تتصرّفون فيهنّ بالزواج منهنّ، أو المَنْع لهنّ من الزواج، أو تزويجهنّ للآخرين، أو تتصرفون في أموالهنّ، وهُنّ كارهات لذلك كله.. ".. وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.." أيْ وكذلك لا يجوز لكم أن تعضلوهنّ أي تُضَيِّقوا وتُعَسِّرُوا عليهنّ في حياتهنّ ظلما لكي تَضطروهنّ أن يتنازلنَ لكم عن بعض ما أعطيتموهنّ من مهورٍ أو نحوها ويكون هذا التنازُل الإجباريّ في مُقابِل أن لا تعضلوهنّ.. ".. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.." أيْ إلاّ إذا فَعَلْنَ فِعْلَة مُنْكَرَة ظاهِرَة مُبَيِّنَة أىْ مُوَضِّحَة لمَن تَبْلغه أنها فاحشة لشدّة قُبْحها كالزنا مثلا أو استخدام الفاحِش البَذيء من القول أو الفِعْل الذي لا يُمكن تَحَمّله أو ما شابه هذا فيُمْكِن حينها ويكون لكم عذر لأنَّ الظلم مِن جِهتها لا من جهتكم أن تعضلوهن بكلّ عدلٍ بلا أيِّ ظلمٍ حيث فِعْلهن هذا هو دلالة علي استحالة الحياة معهنّ فيكون العَضْل كنوعٍ من العقوبة ببعض التشديد عليها بما يناسب فِعْلها وبقَدْره، وإنْ كانت التي أتَتْ بالفاحشة هي الزوجة فلزوجها أن يأخذ من بعض ما أعطاها من مهرها أو كله في مُقَابِل أن تفتدي ذاتها منه بأن يُطَلّقها.. ".. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ وصاحبوهن وعاملوهن يا أيها الذين آمنوا بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة، وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام.. أيْ ومع كل ما سَبَقَ ذِكْره فالمطلوب العدل التامّ وعدم الظلم مُطلقاً وحُسن المعاملة مع الزوجات حتي تتحقّق سعادة البيت والأبناء وحتي لا يصلوا إلي هذا الحَدّ من العَضْل وغيره من أسباب الكراهية (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء ثم الآيات ﴿187﴾، ﴿221﴾، ﴿226﴾، ﴿227﴾ منها، ثم الآية ﴿195﴾ من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية﴾.. ".. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴿19﴾" أيْ فإنْ وَصَلْتم إلي حَدِّ كراهيتهنّ لسببٍ من الأسباب، فاجتهدوا معاً في الصبر والعلاج ومحاولة إعادة الأمور لِمَا كانت عليه سابقا فقد يكون في ذلك خيراً كثيراً مُتَمَثّلاً في حفظ الأبناء وإصلاح الحال وإعادة السعادة ونحو هذا مِمَّا يختلف من بيتٍ لآخر، فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً في دنياكم وأخراكم.. وعلي المسلم أن يتذكّر هذا دائما في كل شئون حياته وليس في حياته الزوجية فقط ليسعد تمام السعادة في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿216﴾ من سورة البقرة ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿20﴾" أيْ وإنْ أردتم أيها الأزواج أن تُبَدِّلوا زوجة مكان أخري بأن تُطَلّقوا الأولى لسببٍ من الأسباب وتتزوّجوا غيرها وكنتم قد أعطيتم مَن تريدون طلاقها مالاً كثيراً كمَهْرٍ لزواجها فلا يجوز لكم أن تأخذوا منه أيَّ شيءٍ حتي ولو كان يسيراً بل اتركوه لها كاملاً.. ".. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿20﴾" أيْ هل تأخذونه كَذِبَاً وذَنْبَاً واضحاً لا يَخْفَيَ سُوؤُه علي أحدٍ تُعَاقَبون عليه بما يُناسِب في دنياكم وأخراكم؟!.. والبُهْتان هو الكذب الفظيع غير المعقول الذي يُبْهِت العقل أيْ يُحَيِّره لأنه لا مُبَرِّر ولا أصل له ولشِدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للذين يفعلون هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿21﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للذين يفعلون هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. أيْ وكيف تَستبيحونه وبأىِّ حقّ ووجهٍ تأخذونه والحال والواقع أنه قد أفضى بعضكم إلى بعض أيْ قد امتزج واختلط بعضكم ببعض واستمتع بعضكم ببعض بالجماع، إذ ما اسْتَحَلّ الزوج فَرْج زوجته الا بذلك المَهر فكيف يستردّه وقد أخذ ما يُقابله؟!.. لقد وَصَلَ وانتهي بعضكم إلي بعض إلي أوسع فضاء، إلي أوسع مَدَيَ ومَجَال، لقد تزوجتكم واخْتَلَيَ كل منكم بالآخر وتكاشفتم وتصارَحْتم وتحرّكتم في الحياة كجسدٍ واحدٍ وسعدتم معا، وكان المهر مقابل كل ذلك، وقد أخذتم حقوقكم منهنّ، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟! فالمهر إذَن حقّهنّ تماما!!.. ".. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿21﴾" أيْ وكذلك الحال والواقع أنهنّ قد أخذنَ منكم عهداً ووعداً وعقداً مُوَثّقَاً غليظاً أيْ عظيم الشأن هامّا بالغ الخطورة شديداً قويّاً مَتيناً مُؤَكَّداً لازِم الاحترام والتنفيذ لا يحلّ لكم أن تنقضوه أو تُخالفوه وهو عقد الزواج والذي يُلزمكم بحُسن مُعاملتهنّ بأخلاق الإسلام أو مُفارَقتهنّ بإحسانٍ بهذه الأخلاق أيضا فإنْ أخذتم شيئاً مِمَّا أعطيتموه لهنّ من مهورهنّ فلا يُعَدّ هذا مُفَارَقَة بإحسانٍ بل بظلمٍ وإساءة
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿22﴾ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿23﴾ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿24﴾ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. إذا أحسنتَ اختيار زوجتك فتكون طيِّبة الخُلُق والخِلْقَة والمَكَانَة والأسرة والبيئة والفكر والعلم ونحو ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾، ﴿3﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، فالحياة الزوجية السعيدة سببٌ هامٌّ من أسباب الحياة السعيدة، في الداريْن.. وأول المواصفات ألا تكون من النساء اللاتي تَنْفر فطرة العقل التي فَطَرَها أيْ خَلَقَها وبَرْمَجها عليها خالقها سبحانه من الزواج منها، كزوجة الأب ومَن سيأتي ذِكْرهن في الآية القادمة.. إنَّ سبب التحريم للزواج منهنّ هو ولا شكّ الأضرار الاجتماعية الشديدة والتَّفَكُّك في المجتمع والتشاحُن والتباغُض والانتقام واختلاط الأنساب واختلال المواريث وما شابه ذلك مِمَّا يُؤَدّي لتعاستيّ الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿22﴾" أيْ ولا تَتَزَوَّجُوا أيها الأبناء مَن تَزَوَّجه آباؤكم – وأجدادكم – مِن النساء إلا ما قد سَبَقَ منكم وحَدَثَ وانتهيَ في جاهليتكم قبل معرفتكم بالإسلام فلا مُؤَاخَذَة فيه لكنْ الآن تَجَنَّبوه تماما واتركوه، وذلك تكريماً وتعظيماً وتقديراً لمَكَانَة الآباء وبَرَّاً بهم واحتراماً لزوجاتهم اللاتي من المُفْتَرَض أن يَكُنَّ في مقام الأمهات بالنسبة للأبناء، وكذلك لأنه بالقطع كان في دين الله الذي هو الإسلام فاحشة أيْ شرَّاً عظيمَ الضرَرِ علي الذات والغير شديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، ومَقْتَاً أيْ يَكرهه الله والعقلاء من الناس كُرْهَاً شديداً لأنه يُخالِف العقل والفطرة بداخله وغالبا ما يُحْدِث مَقْتَاً أيْ كراهية شديدة بين الأب وابنه وغيرهم، وساء سبيلاً وطريقاً سَيِّئَاً حيث يُؤَدِّي لأضرارٍ اجتماعية شديدة مُتْعِسَةٍ في الدنيا والآخرة كتفككٍ في المجتمع وتَشاحُنٍ وتَباغُضٍ وانتقامٍ واختلاطٍ للأنساب واختلالٍ للمواريث وما شابه ذلك
ومعني "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿23﴾" أيْ حرَّم الله عليكم زواج أمهاتكم ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب أو الأم، وبناتكم ويشمل بنات الأبناء وإنْ نَزَلْنَ، وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم، وعماتكم أيْ أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم، وخالاتكم أيْ أخوات أمهاتكم وأخوات وجداتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت ويدخل في ذلك أولادهن، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة – وقد حرَّم الرسول ﷺ من الرِّضَاع ما يَحرم من النَّسَب – وأمهات نسائكم، سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهنّ، وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربَّيْنَ غالباً في بيوتكم وتحت رعايتكم، وهُنَّ مُحرَّمَات فإن لم يكنَّ في حجوركم، ولكن بشرط الدخول بأمهاتهنّ، فإنْ لم تكونوا دخلتم بأمهاتهنّ وطلقتموهنّ أو متْنَ قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ، كما حرَّم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم، ومَن أُلحق بهم مِن أبنائكم من الرضاع، وهذا التحريم يكون بالعقد عليها، دخل الابن بها أم لم يدخل، وحرَّم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنَسَبٍ أو رضاعٍ إلا ما قد سَبَقَ ومَضَىَ وانتهيَ منكم في الجاهلية قبل معرفتكم بالإسلام فلا تفعلوه الآن، ولا يجوز كذلك الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها كما جاء في سُنَّة الرسول ﷺ .. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿23﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾