الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
" .. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴿32﴾ " أي هل يَتَوَهَّم مثل هذا المُكَذب المُعانِد المُستكبِر المُستهزيء أنه لن يكون هناك مكان ومُستقرّ في نار جهنم له ولكلّ الكافرين مثله ؟! إنها ستكون بكل تأكيدٍ وبلا أيّ شكٍّ مليئة بالأماكن والمُستقرّات المُجَهَّزَة لهم ! حيث العذاب المُؤلم المُهين علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴿33﴾ " ، " لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿34﴾ " أيْ وأمَّا الذي جاء بالصدق أي فَعَلَه – فحاله بالتأكيد عكس حال الكاذب الذي ُذكِرَ في الآية السابقة – أي كان صادقا عادلا مُحِقّاً في كلّ أقواله وأفعاله في حياته الدنيا وحَضَرَ يوم القيامة وفي صحيفة أعماله المُسَجَّلَة له عند الله تعالي أنه كان دائما متمسّكا بكل أخلاق إسلامه ما استطاع ، وكان مُصَدِّقَاً أي متأكّدا تماما مِن صِدْق هذا الصدق الذي جاءه به الرسول ﷺ وهو القرآن العظيم وكان هو مَرْجعه دوْماً في كلّ تصرّفاته في كلّ لحظات حياته ، فهو إذن قد صَدَّقَ به وهو القرآن وعَمل بالصدْق الذي فيه فكان مُصَدِّقَاً صادِقَاً قد جاء بالصدق كله ، لأنه أحيانا قد يَنقل أحدٌ صِدْقَاً مَا ولكنه لا يُصَدِّقه بل هو مُكَذّب به مُعَانِد له مُستكبِر عليه لا يَنتفع بالعمل به ! .. " .. أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴿33﴾ " أيْ هؤلاء الذين يَتَّصِفون بهذا هم وحدهم لا غيرهم المُتقون أي المُتَجَنِّبُون لكلَّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿34﴾ " أيْ هؤلاء قطعا سيكون لهم كلّ ما يَشاءون أي يُريدون ويَتمَنّون حتما في أخراهم عند ربهم خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، إضافة إلي ما نالوه في دنياهم مِمَّا كانوا يشاؤونه ويريدونه مِن خيرٍ وسعادةٍ حيث كل العوْن منه سبحانه والتوفيق والرضا والرعاية والأمن والنصر والقوة والرزق ، فهذا بالقطع هو الجزاء المُتَوَقّع المُنْتَظَر لكلّ مَن كان مِثْلهم مِن المُحسنين في كل أقوالهم وأعمالهم (برجاء مراجعة معني الإحسان والإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿35﴾ " أيْ هذا الثواب العظيم الذي يُعطيه لهم الله تعالي من فضله وكرمه ورحمته وعطائه بغير حساب ووفائه بوعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقا هو لكي يسعدوا به تمام السعادة ولكي يَطمَئِنّوا ويَستبشروا أنه لابُدَّ حتما وبالتأكيد سيكون أيضا لكي يُكَفّر ويَمحو ويَغفر به ذنوبهم مهما كانت فلا يُحاسبهم عليها ولا يَخصمها من أجورهم – فهو يَتعامَل معهم وكلّ أهل الخير بالفضل والكرم لا بالعدل – حتي ولو كانت هذه الذنوب هي الأسوأ أي الأشدّ ما داموا يستغفرون منها فما بالنا بالذنوب السيئة فقط أي الأخفّ والأقل سوءاً فلابُدَّ أنها مغفورة مِن باب أوْلَيَ ! وهذا من عظيم الرحمة والفضل والحبّ للخَلْق والتشجيع لهم ليكونوا دائما مجتهدين في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا تائبين أولا بأوّل من أيّ سوءٍ قد يفعلونه .. إنَّ هذا العطاء الهائل بلا حدود سيكون أيضا مَحسوباً علي مستوي الأحْسن مِمّا عملوه وليس الحَسَن أي يُضَاعَف لهم الأجر بحيث تكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فيُصبِح الجزاء كله على الأحْسَن والأكبر
أمّا معني " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿36﴾ " أيْ هل يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ الله تعالي لا يَكْفِي عباده المؤمنين به المتمسّكين ما استطاعوا بكلّ أخلاق إسلامهم كفاية تامّة ؟! إنه بكل تأكيد سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم ، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم ، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه ، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا ؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل عن التوكل﴾ ، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم .. كذلك فليَتركوا جانبا ولا يَهتمّوا ولا يَتأثروا أبدا بإيذاء الذين يُؤذونهم وليَصبروا عليه وليَستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم ودعوتهم له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن فوائد الصبر وسعاداته في الدنيا والآخرة لمَن يصبر علي اختبارٍ أو ضَرَرٍ ما أصابه .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ .. " أي بعض البَعِيدين عن ربهم وإسلامهم لا يقدرون قدْرة الله تعالي التامّة وعلمه التامّ حقّ التقدير وهو المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال فيَقومون بتخويف المسلمين مِن أشياء غير الله سبحانه من مخلوقاته والتي هي أيَّاً كانت لا تأثير لها مُطلقا إلا بما يَسمح هو به وكلها حتما مِن دونه أيْ أدني أيْ أقلّ منه ولا تُقارَن أصلا بخالقها ! فلا يَخاف بالقطع إذن أبداً مَن كان مع الله وكان معه ! .. " .. وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿36﴾ " أيْ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ.. " ﴿الرعد : 11﴾ ، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه ، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله ؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ﴿37﴾ " أي أمّا مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله ، فمِثْل هذا لا يُمكن لأيّ أحدٍ بعد ذلك مهما بَلَغَ مِن قوة أن يكون مُضِلَّاً له أي يُبعده ويَنْحَرِف به عن طريق الخير والسعادة الذي هو فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ﴿37﴾ " أي هل يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ الله تعالي وهو المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال ليس عزيزا صاحبَ انتقامٍ مِن كلّ مُكذب مُعانِد مُستكبر مُستهزيء ؟! إنه بكل تأكيد عزيزٌ مُنتقمٌ أيْ غالِب لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ وينتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم .. فلْيَحذر إذن مثل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان ، وليَطمئنّ أهل الخير ولا يخافوا شيئا وليَستبشروا وليَصبروا وليَنتظروا كلّ الخير والسعادة في دنياهم قبل أخراهم
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿38﴾ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿39﴾ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) ، فأنت بذلك ستَضمن كل خيرٍ وسعادة ، ستضمن كل أنواع الرزق ، ستحيا في أمانٍ واستقرار دون أيّ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين علي الأرزاق ، فقد تَكَفّل الخالق الرزّاق الوهّاب الكريم للجميع بأرزاقهم
هذا ، ومعني " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿38﴾ " أي لو سُئِلَ أيّ أحدٍ مِن المشركين بالله ، أي الذين يعبدون غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، مَن الذي خلق السموات والأرض وكلَّ ما فيهما من مخلوقات وسخرّها كلها لمنفعة خَلْقه كالشمس والقمر وغيرهما ، لم يكن لهم أيّ إجابة إلا أنَّ الخالق هو الله وحده !! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي خَلَقها ! فليس لهم إذن إلا هذه الإجابة ! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها ! وهذه هي إجابة المشركين ، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة !! .. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا ، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون ، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وما كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ .. " أيْ قل لأمثال هؤلاء يا محمد ﷺ ويا كل مسلم مِن بعده علي سبيل الذمّ واللوْم الشديد والسخرية والتحقير لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، قل لهم أخبروني عن شركائكم ، عن آلهتكم هذه التي تَدْعونها أي تعبدونها غيره سبحانه وأرُونِي أي أطْلِعُوني وعَرِّفُوني بها وقد جعلتموها كذبا وزورا شريكا له في العبادة ، أروني إيّاها علي أرض الواقع حتي نَرَيَ سَوِيَّاً هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقدرة عليه والعلم به أم لا ؟! وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكل حجَجهم الوَاهِيَة حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي – ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته حينما يُلام عمليا هكذا – لأنهم بالقطع لن يُطْلِعوه علي شيءٍ لأنهم يعلمون أنه يَرَيَ هذه الآلهة ويَعلمها بالفِعْل وأنهم يُصابون بالخِزْي والعار حينما يُواجههم أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويسألهم هل هي آلهة حقيقة أم لا ، وذلك لأنهم يعلمون تماما أنها لا تقدر علي أيّ شيءٍ ولم تخلق شيئا بل هي مخلوقة مثلهم بل هي أضعف منهم ، ولن تستطيع كشف أيْ إزالة أيَّ ضَرَرٍ عن أيَّ أحدٍ نَزَلَ به أو إمساك أيْ منع أيَّ رحمةٍ وخيرٍ يريده الله له ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فليُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، واستخدام لفظ " هُنَّ " الذي يُفيد التأنيث هو لأنهم كانوا أحيانا يُسَمّون آلهتهم بأسماء مؤنثة كاللّات والعُزَّيَ وما شابه ذلك .. هذا ، ولم يذكر سبحانه إجابة لهم علي هذا السؤال لأنها معروفة مُتَوَقّعَة من السياق وهي بالتأكيد قولهم : لا .. " .. قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿38﴾ " أي يكفيني الله لا أعبد غيره ولا أتوكّل علي غيره وهو وحده الذي يَعتمد عليه كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم ، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم ، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه ، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا ؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل عن التوكل﴾ ، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
أمَّا معني " قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " ، " مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿40﴾ " أيْ لا تَهْتَمّ كثيرا أيها المسلم المتمسّك بكل أخلاق إسلامك بعَداء مَن حولك ومَكرهم مِن المُكذبين والمُعاندين ومَن يُشبههم بل أخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنك عاملٌ أي مستمرٌّ علي طريق ربك وإسلامك المُسْعِد في الداريْن ومستمرّ في حُسن دعوتهم وجميع الناس لهما بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وأخبرهم أن يكونوا هم أيضا عامِلين علي مَكَانتهم أيْ مستمرّين علي حالتهم وطريقتهم التي هم فيها ومُصِرِّين عليها من التكذيب والعِناد ومستمرّين علي عدائهم للإسلام وللمسلمين وللحقّ وللعدل وللخير قدْر إمكاناتهم واستطاعاتهم ، وذلك لأنك تثق ثقة تامّة بسبب توكّلك التامّ علي ربك بمَن ستكون له حُسن العاقبة أي النتيجة في الدنيا والآخرة ، إنه أنت بالقطع ، حيث أهل الخير حتما سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما ، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد ، وهذا هو معني " .. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " ، " مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿40﴾ " أيْ وحين يَصِلكم عذاب الله الذي يذِلّكم ويُهينكم ويَفضحكم في الدنيا والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في الآخرة حين يَحِلّ عليكم أي يَنْزِل العذاب حيث تُقذفون وتُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد ، حينها ستَعلمون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم
إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿41﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿41﴾ " أيْ أنزلنا القرآن العظيم عليك يا محمد ﷺ من أجل نَفْع الناس ، أنزلناه بالحقّ ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدلٍ دون أيّ كذبٍ أو ظلم ، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا " أي فمَن اسْتَرْشَدَ به وسارَ خَلْفه وتمسّك بكلّ أخلاقه فهو حتما أول المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة ، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء ، ومَن لم يَهتد وضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عنه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما ، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء !! .. " .. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿41﴾ " أيْ ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد ، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة ، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة " لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا ، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي ، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه ، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن ، طريق الهداية أو الضلال ، دون أيِّ إكراه ، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ﴿43﴾ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾ " أي ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكلّ خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء﴾ ، أنه يُمِيت ويُحْيِي ويَفعل ما يشاء والقادر تمام القدْرة علي كل شيءٍ بمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد ولا يَقْدِر على ذلك أحدٌ غيره تعالي ، فهو وحده الذي يَقبض ويَستردّ أرواح الخَلْق حين الموت وحين النوم ، أمّا الأرواح التي انتهى أجلها فيمسكها عنده أي يمنعها من العودة لأجسامها مرة أخري حتي يَحِين يوم القيامة حيث يَبعثها أي يُعيدها فيها ويُحييها للحساب ، وأمّا التي لم يَحِن وقت موتها ، فإنه يُرسلها أي يُطْلِقها ويُرجعها إلى أجسامها عند اليقظة من نومها ، وتستمرّ على هذه الحالة إلي أن يأتي موعد موتها المُحّدَّد أيْ الأجَل المُسَمَّيَ لها هي الأخري فلا يُعيدها .. وهذا دليل عمليّ يَحدث أمام البَشَر في كلّ وقتٍ ليتأكّدوا تماما من قدرته سبحانه علي بعثهم يوم القيامة وأنه ما أيْسَرَ هذا بالنسبة له عزّ وجلّ .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾ " أي إنَّ في ذلك الذي ُذكِرَ من تمام القدرة على تَوَفّى الأنفس وإمساكها وإرسالها ، هو بالقطع دلالات قاطعات علي وجود الله تعالي وأنه هو وحده المُستحِقّ للعبادة ولكن لا ينتفع بها إلا الذين يتفكّرون أي يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيَستفيدون منها ويَسعدون بها
أمّا معني " أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ﴿43﴾ " أيْ هل بعد كلّ هذه الأدلة القاطِعَة التي سَبَقَ ذِكْرها علي أنّ الله تعالي هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة تَدَبَّرَ وتَفَكَّرَ المُكذبون والمُعاندون والمُستكبرون وأحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لعبادته أم اتَّخذوا شفعاء غير الله أي آلهة غيره يعبدونها ؟! إنهم لم يَتفكّروا بل اتَّخذوا شفعاء بالفعل !! والشفعاء جمع شفيع وهو كلّ صاحب شَفَاعَة أي وَسَاطَة عند الآخرين لتحقيق المنافع أيْ له مَكَانَة وقوة ، والمقصود هذه الآلهة المَزْعُومة التي يُطيعونها كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو بَشَر ضعفاء يَمرضون ويَفتقرون ويَموتون أمثالهم أو ما شابه هذا ، والتي يَتَوَهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضَرَر !! .. والاستفهام هو للنفي القاطع لهذا الأمر وللذمّ الشديد لهم والتعجُّب من سوء حالهم .. " .. قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ﴿43﴾ " أي اذْكُر لهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده ويا كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، اذْكُر لهم وذَكِّرهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا ، أنهم يتّخذونها آلهة حتي ولو كانوا يرونها أمامهم لا تملك أيَّ قدْرةٍ علي نفعهم ولا مَنْع ضَرَرهم ولا تملك شيئا من أمرها فكيف بغيرها بل ولا تَعقل أصلا لأنها خَلَقَها خالِقها سبحانه جمادات لا تَسمع ولا تَرَيَ ولا تُفَكّر ؟! إنهم أقوي منها !! وهل يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿44﴾ " أي اذْكُر لهم يا كلّ مسلم وذَكِّرهم أنَّ كلّ صُوَرِ النفع ومَنْع الضَرَر في الدنيا والآخرة هي لله تعالي وحده لا لأيِّ أحدٍ غيره ، فهو وحده النافع الضارّ ، فاعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده لتَسعدوا تمام السعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النفع والضَرَر بيده سبحانه﴾ لأنه هو الذي يَملك كلّ ما في السماوات والأرض وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، فالشفاعة هنا في هذه الآية الكريمة من معانيها الجَمْع – عكس الوَتْر أي الواحد – حيث هو سبحانه الذي يَجْمَع الخير كله ويمنع الضَرَر كله لكلّ خَلْقه ، إلا بما يأذن به لمصلحةٍ مَا مِن مَنْعِ خيرٍ ما أو السماح بضَرَرٍ ما لفتراتٍ لينتفعوا بذلك ليَخرجوا من هذه الفترات مُستفيدين خبرات كثيرة نافعة مُسْعِدَة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. هذا ، ومن معاني الشفاعة أيضا هنا أنه لا يمكن لأحدٍ أن يَشفع أي يَتَوَسَّط لأحدٍ لطَلَب عفو الله وكرمه يوم القيامة إلا إذا سَمَحَ سبحانه بذلك لأنَّ له وحده الشفاعة كلها وليست أبداً لغيره (برجاء مراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة " .. مَنْ ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بإِذْنِه .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿44﴾ " أي ستَعودون إليه وحده لا غيره بعد موتكم حيث يَبعثكم بأجسادكم وأرواحكم للحساب الخِتاميّ لِمَا فَعَلْتم فيُعطِي أهل الخير كلَّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ ما يستحِقّونه من كلّ شرٍّ وتعاسةٍ علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فأحسِنوا الاستعداد لذلك إذن بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿45﴾ " أي الذين لا يؤمنون بوجود آخرةٍ وبَعْثٍ بعد الموت يوم القيامة وحسابٍ وعقابٍ وجنة ونار سواء أكانوا كافرين وهم الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله أصلا أم مشركين أي يعبدون غيره تعالي كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حجر أو نحوه أم مَن يُشبههم ، حينما يُذْكَر أمامهم لا إله إلا الله أو يُدْعَوْنَ لكي يقولوها ويعملوا بها أي لكي يعبدوا الله وحده ويتمسّكوا بأخلاق الإسلام ، بكلّ حكمةٍ وموعظة حسنة ، أو حتي مجرّد الحديث عن الله تعالى وصفاته وعن آداب قرآنه وهداياته وصلاحية إسلامه لإسعاد البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها حتي قيام الساعة تمام السعادة في دنياها وأخراها ، أو حتي لو ُذكِّرُوا بالخير والحقّ والعدل وفوائد ذلك وسعاداته ، اشْمَأَزَّت أي انْقَبَضَت عقولهم ومشاعرهم بداخلها غاية الانقباض وكَرِهته كراهية شديدة وظهر هذا واضحا علي وجوههم وتَمَنّوا لو تَغَيَّرَ الحديث سريعا !! وهذا يدلّ علي وصولهم لمرحلةٍ من السوء والبُعْد عن الله والإسلام والإصرار التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار إلي درجة كراهية ذِكْر أيّ خيرٍ أمامهم والتعاسة به !! مع أنه من المُفْتَرَض أنّ الفطرة تسعد بذلك !! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. بينما إذا ُذكِرَ أمامهم كلّ ما هو مُخِالِف لله وللإسلام من آلهةٍ تُعْبَد غيره سبحانه ومِن أنظمةٍ مُضِرَّةٍ مُتْعِسَةٍ للبَشَر ومِن كلِّ شرٍّ وفسادٍ وظلمٍ ونحو هذا تراهم يَستبشرون أي في غاية السرور ويظهر ذلك تماما علي وجوههم وفي مشاعرهم وتصرّفاتهم !!
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿46﴾ " أيْ هذه تَوْصِيَة من الله تعالي للمسلمين بأن يتوكّلوا عليه ويدعوه ويعبدوه وحده ويتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللاعتماد عليه واللجوء إليه لأنه هو الذي فَطَرَ أيْ خَلَقَ السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات مُعجزات وبالتالي فهو قادر علي كلّ شيءٍ تمام القدْرة عالم به تمام العلم فهو عالم الغيْب والشهادة أي عالمٌ بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط ! .. وهي توصية لهم كذلك بألاّ يَهْتَمّوا ويَتأثّروا بأقوالِ وأفعالِ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين حولهم ما داموا قد أحسنوا دعوتهم لله وللإسلام بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الداريْن﴾ ، وذلك لأنه تعالي هو الحَكَم العَدْل والذي يَحْكُم قطعا بين الجميع في كلّ الشئون التي يَتنازعون فيها بتمام عدله في الدنيا والآخرة حيث أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. ﴿ثم لمَن يريد مزيداً من الشرح والتفصيل برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس .. ثم مراجعة الدعاء وأسباب استجابته في الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة .. ثم مراجعة أنَّ التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام هو سبب تمام سعادة الداريْن في الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء﴾
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴿47﴾ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴿47﴾ " أيْ مِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة للذين ظلموا ، لو ُفرِضَ وكانوا يَمتلكون وقتها ضِعف ما في الأرض مِن كلّ أملاكها لَقَاموا بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن يَفتدوا ذواتهم أي يُنَجُّوها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء ، فالعذاب في ذاته سَيِّئَاً فكيف الحال إذا كان سوء العذاب والذي يعني شِدَّته وهَوْله وتَعَدّده واستمراره ، وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض !! .. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لهم .. والذين ظلموا هم الذين أتعسوا أنفسهم ومَن حولهم بصورةٍ ما مِن صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداء ً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، بعدما ذاقوا في دنياهم بسبب أفعالهم درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة .. " .. وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴿47﴾ " أي وحينها ظَهَرَ لهم منه تعالي غير ما كانوا يَتَوَقّعونه ويَتَصَوّرونه ويَحسبون حسابه ، أيْ فَاقَ كلّ تَخَيُّلٍ يُمكِن أن يَخطر بفِكْرهم ، وذلك بسبب ما وجدوه حقيقيا مِن فَظَاعَة عذابهم وأشكاله المختلفة والذي كانوا في دنياهم يُكذّبونه ويَستهزؤن به
ومعني " وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿48﴾ " أيْ وظَهَرَ لهم النتائج السيئات أي العقوبات والجزاءات لِمَا كانوا يَكسبونه أي يعملونه في دنياهم ، وحاقَ أيْ أحاطَ بهم مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع الذي كانوا في حياتهم الدنيا يسخرون منه ومِمَّن يُحَذّرهم مِن حدوثه وشِدّته
فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿49﴾ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿50﴾ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿51﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد ، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم ، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾ ، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾ – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة ، وأيّ أزمة أنت فيها ، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به ، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره ، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء (برجاء مراجعة الآية ﴿22﴾ ، ﴿23﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن الاعتصام علي الدوام بالله تعالي وليس وقت الشدَّة والأزمات فقط﴾ .. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ مُتَوَاضِعا أي لا تَتَعَالَيَ علي الآخرين وتُحْسِن التعامُل معهم ولا تحتقرهم وتحفظ حقوقهم فبذلك يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بعكسه يَتعسون فيهما
هذا ، ومعني " فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿49﴾ " أي إذا حَدَثَ ولَمَسَ وَوَجَدَ إنسانٌ ما ، أيّ إنسان ، أو الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا أو المشرك الذي يُشرك بالله آلهة غيره فيَعبد صنما أو حجرا أو نحوه ، ضُرَّاً أيْ ضَرَراً ما ، أيْ شيئاً ما يَضرّه ويُسيء إليه في صحته أو ماله أو عمله أو أحبابه أو ما شابه هذا ، حينها يَدْعو خالقه الله تعالي بكل تَوَسُّلٍ واحتياج وتَذلّل ، وبكل إنابةٍ أيْ عودة تامّة له لا لأيِّ أحدٍ غيره ، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينه أي في دعائه وفي طاعته له وقتها حيث يكون مُخْلِصا مُحْسِنا ويَترك ويَلفظ ويَنْسَيَ آلهته ! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ ! (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، إنه حينها يَنْسَيَ بل يَحتقر عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ لأنه متأكّد أنها لن تنفعه بأيّ شيء ! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته ! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره ! .. " .. ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ .. " أي إذا استجابَ دعاءه وأراه رحماته سبحانه وخَوَّله منه أيْ أعطاه ومَلّكه نِعَمه وأذاقه سعاداتها فتَراه بَدَلاً أن يشكره تعالي علي خيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هو يَنْسَيَ الله والضّرَّ والدعاءَ الذي كان يدعوه إليه سابقا ليُكْشَفَ عنه !! بل ويقول ما أنا فيه ليس من عند الله الرزّاق الوهّاب وبعوْنه وتوفيقه وسداده وإنما هو بسبب عِلمي وفِكري وتخطيطي وجهدي وعملي وحدي !! بل وحتي لو كان الله هو الذي أعطاني إياه فبالتأكيد لأنه عَلِمَ ما عندي من عِلْم ٍغزير أكثر من غيري أستحِقّ به هذا !! أي يعود لِشَرِّه ولشِرْكه ويعبد آلهته بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها ! فلماذا لا يستمرّ علي عبادة ربه ليسعد في الداريْن وقد جَرَّبَ أفضاله ورحماته وسعاداته ؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء ! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله ، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولِتَرْكِهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار ! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي ويَدَّعون أنه بسبب علومهم وأفكارهم وخططهم وجهودهم ونحو هذا وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم ! وهذا هو حال المُغْتَرّ الفخور المُتَعالِي بما عنده والذي علي كل مسلم متمسّك بكل أخلاق إسلامه أن يتجنّبه تماما وعلي كل المسلمين أن يحذروه حَذرَاً شديدا وألاّ يَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم .. إنه سبحانه يَردّ عليه بقوله مُحَذّرا له ولأمثاله ليَعتَبِر هو ومَن حوله ومَن بعدهم : " .. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿49﴾ " أي ليس الأمر كما يَدَّعِي أمثال هؤلاء أنه بسبب علومهم وقوّاتهم – وإنْ كان ذلك مِن الأسباب التي عليهم أنْ يَتّخذوها بإتقانٍ ليَصِلوا لِمَا يُريدون – وإنما أعطيناهم ما أعطيناهم هم وغيرهم من كلّ البَشَر بعدما أصبناهم به من بعض الضَرَر على سبيل الإحسان مِنّا عليهم وعلى سبيل الاختبار لهم ليَخرجوا مِن مِثْل هذه الاختبارات مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿49﴾ " أي لكنَّ كثيرا من الناس لا يُدركون هذا ، ولا يَعقلونه ولا يَتدبّرون فيه ، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم ، وذلك لأن بعضهم يكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا ، وبعضهم يُشرك به أي يَعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه ، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ ، وبعضهم مسلم لكنه تارِك لكثير من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنسي قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يدرك ويتفهَّم ويعلم ويستخرج الخير الكثير المخفيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح ، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين ، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها ، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم ، تعاسة تكون علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، ما لم يستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما .. إنهم لا يُحسنون استخدام عقولهم ، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه ، لأنهم قد وَضَعوا عليها أغشية وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ " .. أَكْثَرُهُمْ .. " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿50﴾ " ، " فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿51﴾ " أيْ قد قال هذه الكلمة الدَّالّة على التكذيب والغرور والتَّعَالِي والبُعْد عن الله والإسلام ، وهي إنما أوتيته علي علمٍ عندي وما يشبهها من كلمات ، قالها بعض السابقين مِن المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم ، فكانت نتيجتهم السَّيِّئة أنهم قد نَزَل بهم العذاب الدنيويّ قبل الأخرويّ وحينها لم ينفعهم كلّ الذي كَسَبوه وحَصَلوا عليه وامتلكوه من قوَيَ بشرية ومالية وعلمية وغيرها ولم تمنع عنهم أيّ درجةٍ من درجات العذاب سواء أكان قَلَقَاً أم توتّرا أم ضيقا أم اضطرابا أم صراعا أم اقتتالا مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، وذلك قبل عذاب الآخرة حيث ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم .. فَلْيَحْذَر إذن الحالِيِّين مِمَّا حَدَث لمَن سَبَقهم ، ولا يَتَشَبّهوا أبداً بهم فيَتعسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم ، ولْيَعودوا لربهم ولإسلامهم لكي يَسعدوا فيهما .. وهذا هو معني " فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿51﴾ " أيْ فنَزَلَ وحَلَّ وتَحَقّقَ بهؤلاء السابقين النتائج السَّيِّئات أي العقوبات والجزاءات التي يستحِقّونها في الدنيا والآخرة في مُقابِل مَا كانوا يَكسبونه أي يعملونه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار ، وقد سُمِّيَت العقوبات بالسَّيِّئات لأنها تُسِيء للمُعَاقَب وتُؤلمه وتُحزنه .. " .. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا .. " أي والذين ظلموا من المُخَاطَبِين بالقرآن الحالِيِّين أشباههم ويفعلون مثل ظلمهم كالتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والتكبّر ونحو هذا من صور البُعْد عن الله والإسلام سيُصيبهم هم أيضا المَصير السَّيِّء المُشَابِه ، فَلْيَحْذَر إذن كلُّ عاقلٍ أن يكون مصيره مثلهم .. " .. وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿51﴾ " أيْ ليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا ، أم حتي مؤمنا ، أم أيّ مخلوق ، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه ! فهو مُلكه ! وهو خالق كلّ شيءٍ وقادر تماما عليه ! ولو اجتمع الخَلْق جميعا ، كلّ الخَلْق في الأرض ، وكل الخَلْق في السماء ، لكي يمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطاعوا قطعا ! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطاع أبدا الكافرون به منع ذلك ! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب لن يَتمكَّنَ أيّ خَلْقٍ مُجْتَمِعِين مهما بَلَغَت قوّتهم أن يمنعوه !
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) ، فأنت بذلك ستَضمن كل خيرٍ وسعادة ، ستضمن كل أنواع الرزق ، ستحيا في أمانٍ واستقرار دون أيّ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين علي الأرزاق ، فقد تَكَفّل الخالق الرزّاق الوهّاب الكريم للجميع بأرزاقهم
هذا ، ومعني " أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ " أيْ هل جَهلَ بعض الناس وكانوا كالجَهَلَة والغافلين والتائهين فلم يَبحثوا ويَتفكّروا ويَتَدَبَّروا بعقولهم فيعلموا ويتأكّدوا ويَثِقوا تماما أنه كما أنَّ الله تعالي هو وحده الخالِق للكوْن ، فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه ، مِن روحٍ في المخلوقات ذوات الأرواح ومن قوةٍ وماء وهواء وطاقة ومعادن وخامات وحركة ونموّ خلايا وفكرٍ وعملٍ ونحو ذلك ، ولو مَنَعَ شيئا مِن هذا لاَمْتَنَعَت الأرزاق ! إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به ، ويُيَسِّر له الأسباب ، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه .. فلماذا إذن يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مما لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضررٍ كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد ؟! إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه ! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه ، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا ! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه ! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات .. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم ، فهو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته ، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ " أي لا يتنفع بمِثْل هذه الآيات أي الدلالات والمُشاهَدات والنصائح والأخلاقيّات والدروس والعِبَر ولا يُحسن التعامُل مع هذه المواقف والأحوال ، إلا المؤمنون الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة .. بينما المُكَذبون المُعَانِدون المُستَكْبِرون المُصِرُّون علي ما هم فيه لا ينتفعون بها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿53﴾ " أي اذْكُر يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بَعده لجميع الناس وذَكِّرهم وليَتذكّروا فيما بينهم أنهم عبادي وأني قد نَسَبْتهم إليَّ لأنهم خَلْقِي وصَنْعَتِي وكلّ صانع يحب صنعته ويريد لها أن تكون علي أفضل وأسعد حال – ولله المَثَل الأعلي – وأني أبشّرهم وأطَمْئِنهم بحُبِّي وتكريمي لهم وإرادتي لإسعادهم في دنياهم وأخراهم وأقول لهم وأؤَكِّد أنهم مهما أسْرَفوا علي أنفسهم أيْ أكثروا وبَالَغُوا في الشرور والمَفاسد والأضرار والأخطاء سواء أكانت كبيرة أم صغيرة حتي ولو كانت كفرا أي عدم تصديقٍ بوجودي أصلا أو شركا أي عبادةً وطاعة لآلهةٍ غيري كأصنامٍ وغيرها ، فلا يَقْنَطوا أبدا أي يَيْأَسُوا من رحمتي فقد وَسِعَت كلّ شيء ، فليَستغفروا منها ، باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لهم سعادتهم التامّة بالإسلام وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. وسأغفرها حتما جميعها لهم لأني أنا الغفور أي الكثير المَغْفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة ، الرحيم الذي رحمته أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسْبِق غضبه .. هذا ، والمسلمون إن تابوا من ذنوبهم قَبِلَ قطعاً سبحانه توبتهم كما وَعَدَ تَفَضُّلاً منه وكَرَمَا ، وإن ماتوا مِن غير أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم باستغفار صالحين لهم أو شفاعةِ أيْ تَوَسُّل أنبياء أو شهيد لهم أو نحو هذا ، وإن شاء عذّبهم علي قدْر ذنوبهم ثم أدخلهم أقلّ درجات الجنة بفضله وكرمه ، أمّا غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا في الإسلام ، غَفَرَ سبحانه لهم ما كان منهم قَبْل الإسلام لأنَّ الإسلام يَمْحُو كلّ ما قبله ، وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله لهم لقوله تعالي : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا " ﴿النساء : 48﴾ .. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَقَنطَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير !
وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴿54﴾ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿55﴾ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴿56﴾ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿57﴾ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾ بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿59﴾ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴿60﴾ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿61﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ في كلّ أقوالك وأعمالك من المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴿54﴾ " أيْ وارْجِعُوا إلي ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، ارْجِعُوا إليه مُسرِعين وأسْلِمُوا له أيْ وتمسّكوا بأخلاق إسلامه مع فتح باب التوبة والرحمة هكذا فتحاً واسعاً كريماً كما في الآية السابقة ، أيْ كونوا دائما في كلّ أحوالكم في كلّ شئون حياتكم مُنيبين إلي الله أي راجعين إليه ، أي اجعلوا دوْما مَرْجِعِيَّتكم هي الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكونوا دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامكم أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ لتُزيلوا سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتكم بتعاسة هذا الخطأ .. وكونوا عابدين لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكونوا دائماً في كلّ أقوالكم وأعمالكم من المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ .. " .. مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴿54﴾ " أيْ وأسْرِعوا بذلك مِن قبل فوات الأوان وحضور العذاب الدنيويّ قَبْل الأخرويّ والذي لن يكون لكم حينها أيّ ناصر ينصركم أيْ مُنْقِذٍ ينْقِذكم منه لو بَقِيتم علي شروركم ومَفاسدكم وأضراركم .. إنه عذابٌ في الدنيا يَتَمَثّل في درجةٍ مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم .. إنَّ الآية الكريمة تُشَجِّعُ الجميع على التوبة الصادقة المصحوبة بوسائل وتصرّفات وأخلاقيّات عملية حتى تكون رحمة الله تعالى بهم أكمل وأتمّ وأوسع فيسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿55﴾ " أيْ وأيضا اتَّبِعوا القرآن العظيم فهو أحسن ما ُأنْزِلَ إليكم أيها الناس مِن كتبٍ فيها تشريعات من عند ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، لأنه جَمَعَ كلَّ خيرٍ أُنْزِلَ في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرها والتي كان كلّ كتاب منها يُناسِب عصره وكان الأحسنَ وقتها ، فهو إذن الأحسن الآن لأنه مُناسِبٌ لكلّ العصور ولكل مُتَغَيِّرات البَشَريّة حتي يوم القيامة ، كذلك من معاني أحسن أي كله هو الأتمّ والأكمل في الحُسن فليس فيه حَسَن وأحْسَنَ منه فلفظ الأحسن هنا يفيد المُبَالَغَة في الحُسْن ، وأيضا من معاني أحسن أي أنْسَب رأي مِمَّا تحتمله مفاهيم الآيات بما يُحَقّق أفضل تَصَرُّفٍ في كلّ موقفٍ لتحقيق المصلحة والكمال والسعادة للجميع لأنّ الإسلام كله حَسَن مُسْعِد فليس فيه شيء أحسنَ مِن آخر ! .. إنَّ مِمَّا تُرْشِد إليه الآيات أيضا ضِمْنَاً أن اجتهدوا دوْما قدْر استطاعتكم في ترْك ما هو أقلّ حُسْنَاً وابتعدوا تماما عن كلّ ما هو سَيِّءٍ مُخَالِفٍ للإسلام من أقوال الناس حولكم .. وفي هذا تشجيعٌ لكلّ مسلمٍ ليَجتهد ويحاول أن يَصِلَ دائما لمرحلة الكمال ما استطاع في كلّ شئون حياته ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ولينال تمام الثواب في أخراه .. " .. مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿55﴾ " أيْ وأسْرِعوا بذلك مِن قبل فوات الأوان وحضور العذاب الدنيويّ قَبْل الأخرويّ إذا خَالَفْتم القرآن والذي سيكون فجأة دون أن تَدْروا مِن أين جاءكم ولا كيف بدأ بحيث لا يُمكنكم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه .. إنه عذابٌ في الدنيا يَتَمَثّل في درجةٍ مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم
ومعني " أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴿56﴾ " أيْ وأنِيبوا إلي ربكم وأسلِموا له واتَّبِعوا أحسنَ ما ُأنْزِلَ إليكم من ربكم (برجاء مراجعة الآيات السابقة لتكتمل المعاني﴾ ، حَذَرَاً مِن أن تقول ، ولكي لا تقول نفسٌ مِن البَشَر المُقَصِّرِين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، يوم يَحلّ بها أيّ نوع من أنواع العذاب الدنيويّ أو الأخرويّ ، يا حَسْرتِي أي يا نَدَمِي وألَمِي الشديد علي تقصيري الكبير الذي قَصَّرته في حقّ الله تعالي وفي الطريق الذي كان عليَّ أن اتّخذه وأسير فيه حتي أصِلَ إلي جانبه والقُرْب منه فأنال بذلك في الدنيا كلّ عزّة ورِفْعَة ومَكَانَة وعوْن وتوفيق وسداد وحب ورضا ورعاية وأمن ورزق وقوة ونصر ، ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. بل ولم أكْتَفِ بالتقصير والتضييع لوَصَايَاه سبحانه بل أضفتَ إليه أن كنت مِمَّن يستهزؤن بالله وبرسله وبالقرآن وبالإسلام وبالمسلمين وبالحقّ والعدل والخير وبالآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار .. وفي هذه الآية الكريمة مزيدٌ من التذكِير والتحذير من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للبَشَر ليُسارعوا بالعودة إليه وإلي إسلامهم ويَعملوا بكلّ أخلاقه ليَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وذلك قبل أن يَنزل بهم عذاب دنيويّ قد لا يَنفع معه أيّ تَحَسُّر ثم العذاب الأخروي والذي حتما لن يُفيد معه حينها أيّ نَدَم
ومعني " أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿57﴾ " أيْ ولكي لا تقول أيضا هذه النفس مُتَحَجِّجَة بحجَّةٍ ضعيفةٍ زائفةٍ مكشوفةٍ لا قيمة لها ولن تُوقِفَ العذابَ المُجَهَّزَ لها ولن تمنع حَسْرتها أو أمنيتها التي لن تتحَقّق بالنجاة ، أنه لو كان الله أرشدني للإسلام في دنياي لكنتُ من المُتّقين أي المُتَجَنِّبين للمعاصي وللتعاسات وللعذابات فيها وبالتالي المُتجنبين الآن في الآخرة لهذا الموقف العصيب والعذاب الرهيب ولكنتُ مِمَّن يدخلون الجنة وينعمون بنعيمها !! .. وهي حجَّة حتما واهِيَة مَفْضُوحة غير مَقبولة وكاذبة لأنَّ هذه النفس العاصية – أيْ هذا الإنسان العاصِي – تعلم تماما أنها اختارَت طريق الشرّ والفساد وتَرَكَت هداية الله وإرشاده في القرآن بكامل حريّة اختيارها بسبب تعطليها لعقلها بالأغشية التي وضعتها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وبسبب أنها لم تَسْتَجِب لنداء الفطرة بداخل هذا العقل والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾
ومعني " أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾ " أي ولكي لا تقول أيضا هذه النفس العاصِيَة مُتَمَنِّيَة أمْنِيَّة مستحيلة لن تتحَقّق أبدا حين تَرَيَ في الآخرة ما هو مُجَهَّز لها من عذابٍ في نار جهنم تستحِقّه ومُناسب لِمَا فَعَلَته من شرور ومَفاسد وأضرار في دنياها ، تقول حينها لو كان من المُمكن أن يكون لي كَرَّة أيْ عَوْدَة مرة أخري للحياة الدنيا لكي أكون من المُحسنين الذي يُحسنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم بما يُوافِق كلّ أخلاق الإسلام فأنجو من النار وأدخل الجنة !! .. ولكن ، لقد انتهت الأماني ! فيوم القيامة هو يوم الحساب الخِتامِيّ وقد انتهي تماما وفاتَ وقت العمل ! .. فلْيَحذَر إذن كل عاقلٍ مثل هذا بأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه بكلّ أخلاق إسلامه
ومعني " بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿59﴾ " أيْ يَرُدّ تعالي علي هذا النادِم ذامَّاً إيّاه وكاشفاً محاولة كذبه ، أنه ليس الأمر كما تَدَّعِي أنك كنتَ في دنياك تَتَمَنّيَ الهداية أو أنه لم تَصِلك الأدِلّة التي تُعينك عليها ، لا بل قد وَصَلَتك آياتي فلا تفكّر في ادِّعاء الكذب أنها لم تَصِل إليك ! وذلك لأنه في الآية قبل السابقة إفادَة ضِمْنِيَّة بأنَّ بعض هؤلاء العُصاة وكأنهم يُلَمِّحُون بأنَّ الله تعالي لم يَهْدِهم ولم يُرسل لهم ما يهديهم ولذلك لم يَهتدوا ولم يكونوا من المُتّقين !! .. وآياتي يقصد بها آياته سبحانه في القرآن العظيم ودَلائله علي وجوده ومُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه .. " .. فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿59﴾ " أيْ فقابلتَ هذه الآيات بأنّك لم تُصَدّق بأنها من عندنا وتَعَالَيْتَ عليها فلم تَتَّبِعها وخَالَفتها واتَّبَعْتَ الشرور والمَفاسد والأضرار وكنت من الكافرين أي الثابتين المستمرّين المُصِرِّين علي الكفر أي الذين يُغطون الحقائق ويُخفونها لأنَّ الكفر في الأصل يعني في اللغة العربية التغطية ، فلقد غَطَّيْتَ وأخْفَيْتَ حقيقة وجود الله وصلاحية شرعه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمانٍ ومكان وهي الحقيقة الموجودة في فطرتك بداخل عقلك والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. وفي هذا إنهاءٌ لكلّ عُذْرٍ من أمثال هؤلاء وقطعٌ لأيِّ أملٍ في نجاتهم من عذابهم المُعَدّ لكلٍّ منهم بما يستحِقّه
أمّا معني " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴿60﴾ " أيْ ويوم يقوم الناس من قبورهم حين يَبعثهم سبحانه بأجسادهم وأرواحهم للحياة الآخرة للحساب الخِتامِيّ ، حينها سَيَرَيَ الرَّائِي حالَ الإذلال والانكسار والعار الذي فيه الذين كَذَبوا علي الله فادَّعوا له شريكاً في مُلكه أو ولدا أو زوجة أو ادَّعَيَ بعضهم مثلا أنه رسولٌ أو يُوحَيَ إليه أو قال عنه سبحانه ما لم يقله أو شَرَّعَ باسمه ما هو مُخالِف لشرعه أو ما شابه هذا من أكاذيب وادِّعاءات ، سَيَرَيَ وجوههم مُسْوَدَّة أيْ مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة بسبب ما فعلوه في حياتهم الدنيا من شرور ومَفاسد وأضرار .. " .. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴿60﴾ " أيْ هل ليس فيها مَثْوَي لهم ؟! أيْ بكلّ تأكيدٍ هناك في جهنم يوم القيامة مثويً أي مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير للمُتكبِّرين ومَن يُشبههم ، وهم الذين تَعَالوا علي غيرهم وظلموهم وأكلوا حقوقهم واحتقروهم وأساءوا مُعَامَلتهم وتَطَاوَلوا عليهم بل وعلي الله تعالي والرسل الكرام والكتب وآخرها القرآن العظيم والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وكانوا مُكَذّبين للحقّ مُعانِدين غير مُتَّبِعين له مُستهزئين به يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار .. فالاستفهام في الآية الكريمة ليس للسؤال هل سيكون لهم مكان في جهنم أم لن تسعهم ! وإنما هو للتقرير أي للتأكيد علي ذلك
ومعني " وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿61﴾ " أيْ وفي المُقابِل وعلي عكس الحال السَّيِّء التَّعِيس للذين ذُكِرُوا في الآية السابقة ، سيكون حتما حال الذين اتقوا وهم الذين كانوا من المُتقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، فهؤلاء قطعا يُنَجِّيهم الله تعالي بفضله وكرمه ورحمته مِن أن يَمَسَّهم أي يَلْمَسهم ويُصيبهم أيّ سوءٍ يُسِيء إليهم أو أيِّ حُزْنٍ يُحزنهم ، ويكون حالهم مُمْتَزِجَاً مُخْتَلِطَاً مَمْلوءا تماما بكلّ فوزٍ ونجاح أيْ هم في تمام الفلاح والخير والسعادة بسبب فوزهم الكامل بعطاء الله التامّ لهم في أعلي درجات جناته حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿62﴾ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿63﴾ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴿64﴾ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿65﴾ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ﴿66﴾ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿67﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿62﴾ " أي الله وحده سبحانه هو الخالِق الذي خَلَقَ كل الخَلْق وأوْجَده مِن عَدَمٍ ولم يستطع أيُّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ علي أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقهم ، فهو وحده كامل الصفات الحُسْنَيَ القادر علي كل شيءٍ تمام القدْرة العالِم به تمام العلم وهو وحده الوكيل عليه أي الحافِظ والراعِي والمُتَكَفّل باحتياجاته والحارس له والمُدافع عنه والمُتَصَرِّف في شئونه علي أكمل وأسعد وجهٍ وبكل حِكمةٍ دون أيّ عَبَثٍ والمُرشد له لكل خيرٍ وسعادة ، كمَن هو وكيل عن غيره في تصريف أعماله ولله المثل الأعلي ، ولذا فهو وحده المُستحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده وتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل)
ومعني " لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿63﴾ " أي هذا أيضا مزيد من البيان والتوضيح والتدْليل والتأكيد لِمَا في الآية السابقة من أنه سبحانه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وللطاعة حيث له وحده مَقالِيد أيْ مَفاتيح خزائن كل ما في السموات والأرض التي فيها رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها ، وهو المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال تشريعاته في قرآنه ، فليعبدوه إذن وحده وليتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿63﴾ " أيْ وبالتالي فالذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله وهي آياته سبحانه في القرآن العظيم ودَلائله علي وجوده ومُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه فهم بكلّ تأكيدٍ الخاسرون حقاً أشدّ الخسارة لأنهم قد حَرَموا أنفسهم من كلّ خزائن خيرات الله وسعاداته هذه في الدنيا والآخرة ، إضافة بالقطع أنهم سيكون لهم في حياتهم درجة ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴿64﴾ " أيْ قل يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده ويا كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، للذين يدعونك إلي عبادة غير الله تعالي كصنمٍ أو حجر أو نحوه ، اسألهم علي سبيل الذمّ واللّوْم والرفض والتعَجُّب الشديد ، هل بَعْد كلّ الذي تشاهدونه في الكوْن في أيّ وقتٍ من الآيات أي الدلالات المُعجزات الدالاّت على أنَّ الله تعالي واحد لا شريك له وعلي صِدْق ما جاءكم في القرآن العظيم تأمروننى أن أعبد غيره وأن اتَّبع غير دينه الإسلام لأفقد سعادتي في دنياي وأخراي مثلكم أيها الجاهلون ؟! أي الجاهلون بذلك وبكلّ ما يستحِقّه سبحانه من حبٍّ وطاعةٍ وتعظيم وشكر وتوكّل واعتماد .. وَوَصْفهم بالجهل هنا مناسب تماما لحالهم البائس في سَفَهِ وتَخْرِيفِ طَلَبِهم عبادة غير الله تعالي والذي لم يكن إلاّ بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يستخدموها في حُسْن العلم والبحث والتدبّر والاستجابة لِمَا في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وهذا التعطيل للعقول سببه الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم لو كانوا علي أقلّ قدْرٍ من العقل المُنْصِف العادِل ومن العلم ما طَلَبوا مثل هذا الطلَب السَّفِيه التافِه !!
ومعني " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿65﴾ " أيْ ولقد ُأوحِىَ إليك أيها الرسول الكريم في القرآن العظيم ، وأوحى أيضا إلى كلّ الرسل الذين كانوا مِن قَبْلك في كلّ الكتب السابقة ، التحذير الشديد من الشرك بالله تعالي أيْ عبادة غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نحوها ، حتي أنّه علي سبيل الفَرْض لو أنّك أنت أو أيّ رسولٍ أَشْرَك ، والمقصود تشديد الأمر أنه لو أيّ أحدٍ من الناس حتي ولو كان رسولاً أشركَ بالله ، سيَحْبط عمله ، أي سيَفسد فسادا تامّا ، أي سيُحْرَم جزاء ما كان يعمله مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياه كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا : " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ﴿النحل : 97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة ، ثم قطعا سيُحْرَم أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم .. إنه بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَع بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة ، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصاب في حياته بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في آخرته سيَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة .. إنَّ في الآية الكريمة تحذيراً شديداً لتَرْك الشرْك وعدم التَّشَبُّه بالمشركين ومَن يُشبههم وإلاّ كانت التعاسة التامّة في الداريْن
ومعني " بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ﴿66﴾ " أيْ لا تعبد أبدا أيها المسلم وأيها العاقل المُنْصِف العادل ما يدعونك إليه هؤلاء المشركون الجاهلون من آلهةٍ غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها وإلاّ تَعِسْتَ تمام التعاسة في دنياك وأخراك بل اعبد الله وحده بلا أيّ شريكٍ لتَسعدَ تمام السعادة فيهما (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، واعبده بإخلاصٍ وإحسان (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وتَمَسَّكَ بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكن مِن الشاكرين له علي كلّ نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأوّلها وأهمّها وأعلاها نِعْمَة السعادة الكاملة بالتوفيق والتيسير منه لحُسن استخدام العقل ليَختار بكامل إرادته الهداية لله وللإسلام والنجاة من التعاسة الكاملة بتَرْك عبادة غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فتشكره بعقلك باستشعار قيمة كلّ النِعَم التي أنت فيها وبلسانك بحمده وبعملك باستخدامها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبالتالي ستجدها دائما باقية بل وفي ازدياد وتنوّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ.. " ﴿إبراهيم : 7﴾
ومعني " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿67﴾ " أيْ إنَّ هؤلاء المشركين الذين عبدوا آلهة أخري غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها وسَاوُوها به سبحانه وهو الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وهي مخلوقاته وهو خالقها وليس لها أيّ قدْرةٍ ولا علم ولا مُلك ، وكذلك الكافرين الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله أصلا ، هؤلاء ومَن يُشبههم لم يُعَظّموا الله حقّ تعظيمه ولم يُعطوه ما يَستحِقّه ويُناسبه تعالي من التقدير والتعظيم والقيمة والطاعة والتنزيه عمّا لا يَليق به ، بل فعلوا ما يُناقِض ذلك حيث أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى هي من مخلوقاته ، وكيف يفعلون ذلك والحال والواقع أنه سبحانه هو وحده المُتَكَفّل بإبقاء السموات والأرض على حالهما في الدنيا بكل مخلوقاتهما ومعجزاتهما وخيراتهما ، وهو المُتَوَلّى لتبديلهما أو إزالتهما في الآخرة حيث الأرض كلها مع عظمتها تكون يوم القيامة في قبضته أيْ تحت قدْرته كالشىء الذي يَقْبِض عليه القابِض ، والسموات كذلك مع ضخامتها تكون مَطْوِيَّات بيمينه أيْ أيضا تحت قدْرته وتصرّفه كما يَطوى الإنسان الشيء الهَيِّنَ القليل بيمينه ، وما دام الأمر كذلك فكيف يُشركون معه غيره في العبادة أو يَكفرون به ؟! ولكنَّ السبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿67﴾ " أي سَبِّحوه ، أي نَزّهوه ، أي ابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به ، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه ، فله كلّ صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة ، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴿68﴾ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿69﴾ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿70﴾ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿71﴾ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴿72﴾ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴿73﴾ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿74﴾ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿75﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنت مُوقِنا أي مُتأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلْت ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكِّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا سيَدْفَع حتما كل عاقل لأن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وبأن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴿68﴾ " أي وعندما يُنْفَخ أول نَفْخَة في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره – حينها يُصيب الصَّعْق أي الموت كل مَن تَبَقّيَ حَيَّاً في السموات والأرض إلا مَن شاء الله أي مَن كان قد مات سابقا قبل النفخة أو بعض المخلوقات التي يشاء الله لها أن تَبْقَيَ ولا يعلمها إلا هو سبحانه ولعلها بعض الملائكة التي تحمل العرش أو التي تَخدم أهل الجنة وتُعذب أهل النار أو مَلَك الموت أو الشهداء لكرامتهم عند الله أو أرواح البَشَر أو قد يكون هو سبحانه بذاته العَلِيَّة لأنَّ كلّ شيءٍ هَالِك إلا هو تعالي الباقي ، كذلك يُصيب الصَّعْق الموتي السابقين أي الاضطراب الشديد بهذه النفخة أي الصيحة ، ثم بعد ذلك يُنْفَخ في الصور نفخة ثانية مُعْلِنَة بدء البعث أي إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم من أجل الحساب الخِتامِيّ لأعمالهم ، فحينها يقومون في ذهول ممّا يحدث حولهم يَتَلَفَّتُون ويَنظرون إليه بتَعَجُّب ودهشة واستغراب وتَحَيُّر وتَرَقُّب وانتظار لأيّ حالٍ سيكون مَصيرهم .. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ لكلّ مَن يريد الاعتبار ليُحْسِن الاستعداد لذلك ، بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وبحُسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿69﴾ " ، " وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿70﴾ " أي يوم القيامة تُضيء أرض الحَشْر والحساب التي سيُجْمَع فيها البَشَر بنورٍ يَخْلقه ربها لها لإضاءتها ، وتُضيء أيضا بنورِ ذاته العَلِيَّة سبحانه حينما يَظهر لخَلْقه لحسابهم ، وتُنِير كذلك بنور عَدْله ، ويُوضَع الكتاب الخاصّ بكل إنسانٍ أمامه ويأخذه بيده وفيه تسجيل لكلّ أقواله وأفعاله بخيرها وشرّها في كلّ لحظات حياته ، ويُؤْتَيَ بالنبيِّين ليَشهدوا علي أممهم أنهم قد بَلّغوهم الإسلام بتمامه دون أيّ نقصانٍ أو زيادةٍ كما وَصَّاهم ربهم فمنهم مَن عمل به ومنهم مَن تَرَكَه بعضه أو كله أو عادَاه ، ويُؤْتَيَ أيضا بالشهداء أي الذين سيَشهدون بالحقّ بكلّ ما حَدَثَ علي كلّ إنسانٍ سواء أكان هؤلاء الشهداء من الملائكة التي كانت تُسَجِّل الأعمال أم البَشَر الصالِحين العادِلين أم أعضاء الجسد أم نحو هذا بحيث تَكْتَمِل كلّ جوانب المُحاكَمَة العادِلَة ويتمّ القضاء بين الجميع بالحقّ أي بالعدل دون أيّ ذرّة ظلم فلا تُنْقَص أيّ حَسَنَة مِن الحَسَنات ولا تُزادُ أيّ سيئة من السيئات لأيِّ أحدٍ عند أعْدِل العادِلين وأحْكَم الحاكِمين سبحانه ليأخذ كلٌّ حقّه كاملا إنْ خيراً فله كلّ خيرٍ وسعادةٍ وفضلٍ زائدٍ بغير حسابٍ وإنْ شرَّاً فله كلّ شرٍّ وتعاسةٍ علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره أو يعفو سبحانه ويُرَاضِي مَن له حقّ عنده ليَعفو عنه ، وكلّ هذا هو معني " وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿70﴾ " أي وستُعْطَيَ حتما كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاءها وحقّها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ حيث خالقهم تعالي هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني " وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿71﴾ " أيْ وبعد الحساب والمُحَاكَمَة العادِلَة يتمّ الوفاء لكلّ نفسٍ بحقّها ، فيُدْفَع الذين كفروا إلي عذاب جهنم دَفْعَاً عنيفا شديدا مُهينا وهم زُمَرَاً أيْ مجموعات – جمع زُمْرَة – بواسطة ملائكة العذاب ، وبمجرّد وصولهم إليها تُفْتَح أبوابها سريعا كما تُفتح أبواب السجون المُحْكَمَة حيث هي تنتظرهم لكي يُقْذَفوا فيها ، ويقول لهم حُرَّاسها من الملائكة الغِلاظ الشِّدَاد علي سبيل الذمّ واللّوْم الشديد لمزيدٍ من العذاب النفسيّ مع الجسديّ هل لم يصل إليكم رسل من بينكم تعرفون صِدْقهم وحُسن أخلاقهم يُخبرونكم ويُذَكّرونكم بالإسلام لتعملوا به لتَسعدوا في الداريْن ويُحَذّرونكم مِن مُلاقاة مثل هذا اليوم الرهيب أم وَصَلَ لكم ؟! فيَرُوّدوا مَذلولين مُعترفين بشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أنه بالفعل قد وَصَلَ إليهم ولكنهم كفروا أيْ لم يُصَدِّقوا ولذلك فقد ثَبَتَ عليهم العذاب ، والمراد بالكلمة هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم
ومعني " قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴿72﴾ " أي يَرُدّ عليهم الذين كانوا يسألونهم قائلين لهم لمزيدٍ من إذلالهم وإهانتهم ادخلوا كلّ مجموعةٍ من بابِ عذابِ جهنم الذي يُناسب شرورها ومَفاسدها وأضرارها ، فالعذاب ينتظركم علي الأبواب مُشْتاق لكم مُتَعَجِّل لإيذائكم ، وستَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنكم عذابها لحظة ، فما أسوأ هذا مِن مَثْوَي أيْ مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير للمُتكبِّرين ومَن يُشبههم ، وهم الذين تَعَالوا علي غيرهم وظلموهم وأكلوا حقوقهم واحتقروهم وأساءوا مُعَامَلتهم وتَطَاوَلوا عليهم بل وعلي الله تعالي والرسل الكرام والكتب وآخرها القرآن العظيم والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وكانوا مُكَذّبين للحقّ مُعانِدين غير مُتَّبِعين له مُستهزئين به يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار
أمّا معني " وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴿73﴾ " أيْ أمَّا حال السعداء ، وهم الذين اتقوا ربهم ، أي الذين كانوا في حياتهم الدنيا من المُتَّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، فهؤلاء قطعاً حالهم هو علي العكس تماما من حال الذين ُذكِرُوا سابقا ، إنهم أيضا يُساقون ولكن شَتَّان بين المَسَاقَيْن !! إنه مَسَاقُ الإعزازِ والتشريف بلا دَفْع ولا تكليفٍ بل بتَلَهُّفِ المُحِبّ لحبيبه لتعجيل إعطائه ما يُحِبّ ، إنهم يُساقون في مواكب تعظيمٍ راكبين مُكَرَّمِين لابِسِين أفخمَ الثياب والحُلِيّ والزينة كما يَجِيء الوافدون إلى قصور الملوك ، ومِن بَديع ألفاظ القرآن العظيم استخدام المُمَاثَلَة لذات اللفظ " وَسِيقَ " لحاليْن مختلفيْن تماما لشَدِّ انتباه القاريء والسامع لكي يُحْدِث مُقَارَنَة فورية بين الحاليْن فيُعينه ذلك علي حُسن استخدام عقله وإحسان الاختيار ، إنهم يُسَاقون إِلى الجنة دار الخير والسعادة والراحة التامّة الخالدة زُمَراً أي مجموعات مُرَتَّبَة في التكريم بكلّ عدلٍ علي حسب اختلاف درجات أعمالهم ، إنهم حين يَصِلُون إلي الجنة وهم في مَوْكب التكريم يجدونها وقد ُفتِحَت أبوابها واستعَدَّت في أجمل صورها لاستقبالهم كما يُسْتَقْبَل أعظم العظماء ، ويستقبلهم حُرَّاسها وخُدَّامها مِن الملائكة بكل ترحيبٍ وتكريمٍ وتعظيمٍ يقولون لهم مُهَنِّئين مُبَشِّرين سلام عليكم أي أمان وسرور تامّ لكم ، لقد طِبْتم أي طَهُرْتُم من السوء في الدنيا باتّباعكم الإسلام فعِشْتُم بذلك حياة طيِّبَة سعيدة ، وطِبْتم الآن نَفْسَاً وطابَت أحوالكم ومَكَانَتكم – أي حَسُنَت واطْمَأَنَّت – ورضيتم رضا تامَّاً في الآخرة وفُزْتُم بما تنالونه مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، فبسبب طِيبكم هذا فادخلوها خالدين بلا نهاية فهي الدار الطيِّبَة التي لا تقبل إلا الطيِّبين ، مِن فَضْل الكريم سبحانه عليكم بغير حساب
ومعني " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿74﴾ " أيْ عندما يدخل أهل الجنة فيها ويَرون نعيمها الهائل الذي لم يَروا مثله من قبل يقولون الحمد لله علي أن وَفّقَنا للوصول إلي وعْده الصادِق بأنْ يَسَّرَ لنا العمل بأخلاق الإسلام ، وهو الوعْد الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً والذي وَعَدَنا إيّاه في حياتنا الدنيا من خلال رسله وكتبه وهو الجنة لِمَن يعمل خيرا ، والحمد لله علي أنْ جَعَلَ لنا أرضَ الدنيا مكاناً نعمل فيه بكلّ خيرٍ فسعدنا بذلك ثم أورَثنا عَمَلُنا الصالِح هذا الذي عملناه في دنيانا أرضَ الجنة هذه نَتَبَوَّأ منها حيث نشاء أيْ نَنْزِل فيها ونَتَمَتّع تمام التّمَتّع في أيِّ مكانٍ نريد دون مُزَاحَمَة أو مُنَازَعَة مِن أحدٍ حيث لكلٍّ مُلْكه الخاصّ به التامّ المُبْهِج المُسْعِد المُريح تمام السعادة والراحة ، والذي أعطاه الله له بفضله وكرمه بما يُناسِب عمله .. " .. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿74﴾ " أيْ ما أعظم ثواب المُطِيعين لله العاملين بأخلاق الإسلام في حياتهم الدنيا ، ما أطيب وأجمل وأفضل هذا الأجر ، هذه الجنة ، ليس هناك أجر أكبر من ذلك في مُقابِل العمل الصالح الذي يعمله العاملون ويجتهدون فيه في حياتهم الدنيا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك بكلّ أخلاق الإسلام .. وهذا قد يكون من كلام أهل الجنة استكمالا لكلامهم السابق أو من كلام الله تعالي كَنِعْمَ الختام للآية الكريمة
ومعني " وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿75﴾ " أي ومِن مَشَاهِد تكريم أهل الجنة أيضا أنهم يرون بتَمَتّعٍ وسعادةٍ عظمةَ ورَوْعَةَ عَرْش ربهم العظيم ويَرَيَ الرَّائِي منهم الملائكةَ حافّيين مِن حوله أيْ مُحيطين به وهي تُسَبِّح بحمده تَمَتُّعاً بذلك أيْ تُعَظّمه وتُنَزِّهه وتُبْعِده تعالي عن كلّ صفةٍ لا تَليق به فله كلّ صفات الكمال .. " .. وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ .. " أيْ ويَسعدون بأنْ قد حَكَمَ تعالي بين الجميع بحُكْمِه الذي قطعاً كلّه عدْل دون أيّ ذرّة ظلم .. " .. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿75﴾ " أيْ ويَتَلَذّذ ويَسعد أهل الجنة والملائكة والكوْن كله بشكر ربِّ العالمين علي أنْ أعطيَ كلّ ذي حقٍّ حقّه وافيا وزائداً بغير حسابٍ بكرَمه وفضله ورحمته سبحانه.
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿2﴾ " أي هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم ، فهو كتابٌ أنزله الله تعالي العزيز العليم ، ولذا فهو يَتَّصِفُ بصفةِ مَن أنزله سبحانه ، فهو كتابٌ كله عِزَّة وعلم وحِكْمَة لمَن يَتَّبعه ويتمسّك بكلّ أخلاقه التي فيه ، هو كتابٌ عزيزٌ عليمٌ ، أيْ غالِبٌ لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَتَدَبَّره ويعمل به كله ويَلجأ إلي مُنزله تعالي ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلْك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعانِدين المُستكبرين ، وهو عليمٌ أيْ كله علم وحِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث وكله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل ، وهو كذلك حاكِم أي مَرْجِع شامل يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها .. هذا ، وفي الآية الكريمة تأكيدٌ علي أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز هو ليس مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ أو عالم أو غيره كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله العزيز العليم الذي يَعلم كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ مِن أحوال كوْنه وخَلْقه
غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يَحْيا حياته دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عذاب الله والرجاء في خيراته ورحماته وسعاداته بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن التوازُن في الحياة بين الخوف والرجاء﴾ وذلك من خلال تمسّكه بكلّ أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي مُتأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلْت ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكِّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لأن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خير وترْك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام وبأن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿3﴾ " أيْ هذه هي بعض صفات الله تعالي الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ ، وهي أيضا بعض المعاني التي يحتويها هذا الكتاب ، هذا القرآن العظيم ، فهو تعالي غافر أيِّ ذنبٍ أيْ سوءٍ سابقٍ وحالِيٍّ أيْ ساتِر لمَن فَعَلَه ومُزِيل لأثره التّعِيس عنه بفضله ورحمته ، وقابِل لأيِّ توبةٍ مِن أيِّ ذنبٍ مُستقبليٍّ ، مِن أيِّ أحدٍ يَتوب منه بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، أي هو سبحانه الكثير المَغفرة الذي يَعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِبُ عليها .. إنه لولا صِفَة الرحمة والمغفرة وفتح باب التوبة علي الدوام لَتَمَادَىَ المُذنِب في الذنوب ، ويَئِسَ أنْ يعود إلى الطريق المستقيم حيث لا عودة مُحْتَمَلَة ، إلي طريق الله والإسلام ، طريق تمام الخير والسعادة في الداريْن ، وبمِثْل هؤلاء سيَتعس المجتمع كله في دنياه وأخراه ، لكنْ إنْ عرف أنَّ له رباً رحيما غفورا حليما ودودا كريما يغفر الذنب ويَقْبَل التوبة ، فإنه يُقْبِل عليه ويتوب ، ولِمَ لا ؟! وقد تكفَّل له ووعده بمغفرة ذنوبه كلها وإسعاد حياته الدنيوية والأخروية إنْ تاب وعاد .. " .. شَدِيدِ الْعِقَابِ .. " أيْ عقابه أيْ عذابه الدنيويّ والأخرويّ شديد بما يُناسِب شرور ومَفاسد وأضرار مَن يفعلها ولا يتوب منها .. " .. ذِي الطَّوْلِ .. " أيْ صاحِب ومَالِك تمام الإطالة والزيادة والبَسْط أي الإفاضة والقدْرة بالفضل والتّوْسِعَة والغني والكرم والخير والعطاء والإحسان والثواب علي خَلْقه في دنياهم وأخراهم .. " .. لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ .. " أي هو وحده الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وبالتالي فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿3﴾ " أي مصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إلي الله تعالي وحده لا إلي غيره ، وهو أعلم بهم تمام العلم ، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه ، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة ، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴿4﴾ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴿5﴾ وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴿4﴾ " أيْ لا يُمْكِنُ أبداً بالقطع لأيِّ مؤمنٍ أيْ مُصَدِّقٍ بوجود الله تعالي ولأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يجُادل في آياته سبحانه ، وهي آياته في القرآن العظيم ودَلائله علي وجوده ومُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه ، لأنها واضحة كلّ الوضوح مُقْنِعَة تمام الإقناع ، إلا فقط الذين كفروا هم الذين يُجادلون فيها ، أي الذين يُغَطّون الحقائق ويُخفونها لأنَّ الكفر في الأصل يعني في اللغة العربية التغطية ، فلقد غَطَّوا وأخْفوا حقيقة وجود الله وصلاحية شرعه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمانٍ ومكان وهي الحقيقة الموجودة في فطرتهم التي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع ، ولا لأيّ كتاب منير أي وَحْي من الله واضح كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يصبه تحريف ، فهذا هو أصدق مَرْجع ، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين ، وهي غير مقبولة حتما مِن العقول المُنْصِفَة ولا مِن الفِطَر المسلمة أصلا .. " .. فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴿4﴾ " أيْ وبالتالي فاصْبِر أيّها المسلم وإيّاك أنْ تَنْخَدِع بتَنَقّلهم وتَغَيُّرهم بين البلدان يُتاجِرون ويَرْبَحون ويَتَنَزَّهون ويَتَرَقّون في المناصب والأموال وأنواع القوي المختلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها ونحو ذلك مِن مُتَع الحياة وتظنّ أنّ هذا مستمرٌّ لهم أو أنهم علي الحقّ مثلا أو ما شابه هذا من ظنون سيئة وانخداعات ، فإنَّ الله تعالي يُمْهِلهم أيْ يتركهم لفترة ولا يُهْمِلهم حتما ، أيْ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. إنهم لهم متاعٌ قليل في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له .. وحتي ما هم فيه مِن متاع مُتنوِّع من أموال ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أي لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره ، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره ، فهو إذن قليل دنيء زائل يوما ما ، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم ، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة ، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يحدث لهم بعده ، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا .. ثم في آخرتهم سيَضطرهم الله تعالي أي سيُجْبرهم وسيَسوقهم بغير إرادتهم وهم أذِلّة مُنقادين مُستسلمين إلي عذابٍ غليظ أي فظيع ثقيل شديد مُخيف مُهلك لا يُمكن تَخَيّله .. هذا ، والمسلم بالقطع في دنياه عليه ألا يَتمنّي ويتطلّع أبدا أن يكون مثلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه ، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في الآخرة .. والدليل علي كلّ ما سَبَقَ ذِكْره ، علي أنهم مُمْهَلُون أيْ مَتْرُوكون لفترة وليسوا مُهْمَلِين قطعاً من الله تعالي ، وأنهم لابُدّ مُنهزمون وأهل الحقّ والخير لابُدّ مُنتصرون ، هو ما حَدَثَ للأمم السابقة أمثالهم مِن المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ، وهذا هو معني " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴿5﴾ " أيْ فلقد كذّبت هذه الأمم التي كانت قبلهم بدءا من قوم نوح ، وكذبت كذلك الأمم التي تَحَزَّبَت بعدهم في صورةِ أحزابٍ وتَجَمُّعات مُكَذّبة ومُعَادِيَة ومُؤْذِيَة لله ورسله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، ولم يَكتفوا بالتكذيب فقط بل أيضا هَمَّت أيْ عَزَمَت ونَوَت وأرادت وحاوَلت وبدأت كلّ فرقة منهم أخْذ رسولهم والتّمَكُّن منه لإيذائه أو قتله لمنعه من دعوتهم وغيرهم للإسلام ليَسعدوا به في الداريْن ، وجادَلوا أيضا بغير حقٍّ في آيات الله كما يُجادل بعض الحالِيِّين المُكذبين مُحاولين دَحْض أي إبطال وإخماد وإبعاد وإزالة وهزيمة الحقّ الذي هو ثابت ولن يتغيّر ويَنتشر وهو الإسلام .. " .. فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴿5﴾ " أي فعَاقَبْتُهم فانظر أيّها المسلم العاقِل وشاهِد وتَدَبَّر وتَذَكَّر آثار مساكنهم التي تشهد بهلاكهم وتَعَقّل كيف كان عقابهم بصور العذاب المختلفة كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها عِبْرة للخَلْق وعِظَة للحالِيِّين أمثالهم لكي يَتَّعِظوا ويستيقظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل فوات الأوان حيث لم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم التي كانوا يمتلكونها (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، فإذا كان هذا قد حَدَثَ لهؤلاء الأقوياء فما بالُكُم بمَن هم أضعف منهم !! إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما !! فليَحذروا ذلك إذن وليَستفيقوا
ومعني " وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿6﴾ " أيْ وكما ثَبَتَ عذاب ربك الدنيويّ أيها الرسول الكريم وأيها المسلم علي الذين كفروا السابقين الهالِكين المذكورين في الآية السابقة وكما ثَبَتَ عليهم أيضا أنهم أصحاب النار في الآخرة ومُقيمون في عذابها ، فكذلك يكون أسلوبنا دائما مع كلّ المُكذبين الحالِيِّين بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، إذا استمرّوا في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ، ولم يعودوا لربهم وإسلامهم ليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم .. والمراد بالكلمة هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم .. وفي هذه الآيات الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتَسْلِيَة وطَمْأَنَة للمسلمين بانتصارهم وعُلُوّ شأنهم
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿8﴾ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ﴾ .. وإذا كنتَ دائما من المُتَّبِعين لسبيل الله أي لطريقه أي للإسلام بالتمسّك بكلّ أخلاقه (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ومن المُتَعَاوِنِين مع كلّ مَن يَسير في هذا الطريق والذين يَدْعو بعضهم لبعضٍ بكلّ خيرٍ وسعادةٍ ليكونوا دائما مُجْتَمِعِين عليهما في دنياهم وأخراهم
هذا ، ومعني " الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ " أي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة من الله تعالي للمسلمين وتكريم لهم ورحمة بهم بتوضيح أنَّ الكوْن كله باستمرار مُعَاوِنٌ ومُنَاصِرٌ ومُسَخَّرٌ لهم بإذنه وتيسيرٍ منه ما داموا يجتهدون في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامهم ، وعلي رأس هذه المخلوقات التي تحبهم وتساعدهم الملائكة المخلوقة بلا أخطاء بل لتنفيذ أوامر الله في كوْنه ونَفْع خَلْقِه بخدمتهم بتجهيز حركة الكوْن وإمكاناته لهم والتي تُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، بل ويُساعدهم أيضا أشرفها وهي التي تحمل عَرْش الله – والذي لا يعلم وَصْفه وعظمته إلا هو سبحانه – وغيرها القريبة منها حولها وحوله .. إنه إذا كان المُكذبون المُعاندون المُستكبرون يقومون بإظهار عدائهم للمسلمين فعليهم ألا يُبالوا بهم ولا يلتفتوا إليهم ولا يُقيموا لهم وَزْناً لأنَّ معهم بعد الله وبأمره أشرف المخلوقات تقوم في المُقابِل بإظهار المَحَبَّة والنُّصْرَة والعوْن لهم ، فليَطمئنوا إذن وليَستبشروا وليَسعدوا .. " .. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ .. " أي هي دائمة الذكْر لخالقها الكريم مُنتظرة لأوامره جاهزة لتنفيذها في أيّ وقت ، وأفضل ذِكْرها تسبيحه سبحانه أي تنزيهه عن كلّ صفة لا تليق به وحمده علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه .. " .. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ .. " أي بالقطع هي من مخلوقات الله التي لا تَعرف كفرا ! ولكنه لتذكير الإنسان بقيمة الإيمان في إسعاد الحياة والترغيب فيه والتشجيع عليه وبأنه هو أقوي الروابط وأعظمها وأسعدها في الحياة الدنيا والتي علي كل بني آدم أن يجتمعوا عليها ليسعدوا بها فيما بينهم ومع كلّ مخلوقات الكوْن في الدنيا والآخرة .. " .. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ " أي ومِن وظائفها أيضا الاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم بكل خيرٍ وسعادةٍ ، وأنْ يَشملهم ربهم دائما برحماته وخيراته وتيسراته التي شملت كلّ شيءٍ مِن خَلْقه في كوْنه والذي يعلم عنه كلّ شيء بتمام العلم ، وأن يعفو عن الذين يتوبون من شرورهم ويَتَّبِعون سبيل ربهم أي طريقه أي يجتهدون في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامه ، وأنْ يُيَسِّر لهم العمل به كله وفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ دوْما ليَقيهم بذلك عذاب النار وجَحِيمها .. وفي هذا إشعارٌ بحبّها لهم وعنايتها بهم بسبب اشتراكهم جميعا في الإيمان بربهم خالقهم وراعِيهم .. إنَّ علي جميع المؤمنين أن يجتهدوا في التَّشَبُّه بهذه الملائكة لكي يحيوا حياتهم بمثل هذا الحب والصفاء والتعاون ليسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿8﴾ " أيْ وتَدْعو الملائكة أيضا للمؤمنين بأن يُدخلهم بفضله وكرمه سبحانه جنات عدْن التي وعدهم بها وكلّ المؤمنين به العاملين بإسلامه ، أي بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم ، وبأنْ يُتِمَّ سعادتهم برحمته عليهم بأن يُدْخِلَ معهم ويكونوا قريبين منهم مَن يُحِبّونهم ويَسعدون بوجودهم وجوارهم وصُحْبتهم مِن الصالحين الذين كانوا يعملون بأخلاق الإسلام في دنياهم مِن الآباء والأزواج والأبناء والأحفاد .. إنّ وعْده حتما الصِّدْق الذي لا يُخلَف مُطلقا ، ولماذا يخلفه تعالي وهو القادر علي كلّ شيء ؟! إنَّ الإخلاف يأتي مِن البَشَر الذين قد يستطيعون فِعْل بعض الأشياء وعدم استطاعة فعل بعضها الآخر علي حسب طاقاتهم وظروفهم وأحوالهم ، أمَّا الخالق الكريم العظيم فليس قطعا كخَلْقِه !! ولذا تؤكِّد الملائكة هذا بأنه هو العزيز أي الغالِب الذي لا يُغْلَب بأيّ شيءٍ وبالتالي فهو مُحَقّقٌ لوعْده حتما ، وهو الحكيم في كلّ تصرّفاته بكلّ دِقّةٍ وحِكْمةٍ بلا أيّ عَبَث فلا يُمكن مثلا أن يَنسَيَ وعْده أو يَنشغل عنه أو يُبَدِّله ! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا
ومعني " وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿9﴾ " أيْ وأيضا تدعو الملائكة للمؤمنين ، حبا فيهم وتكريما وإسعادً لهم ، أن يُجَنِّبهم ربهم فِعْل السيئات أي الشرور والمَفاسد والأضرار ، وأن يتوب عليهم ويحفظهم من النتائج السَّيِّئات أي العقوبات والجزاءات التي يستحِقّونها في الدنيا والآخرة لو فعلوها ، بأن يُيَسِّر لهم دائما التوبة والعمل بكلّ أخلاق الإسلام وفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ .. إنَّ اليوم الذي يَمُرّ عليهم هكذا ، الذي يَتَجَنَّبون فيه كلّ سوءٍ ويفعلون كلّ خيرٍ ويتوبون من كلّ ذنبٍ أوَّلاً بأوّل ويَتوَاصَلون دوْما مع ربهم بنوايا خيرٍ في عقولهم مع كلّ أقوالهم وأعمالهم ، هو ولا شكّ رحمة وعافية تامّة من الله تعالي لهم وهو فوز عظيم هائل ليس بعده فوز أكثر منه ، في الدنيا حيث تمام الراحة والأمن والسعادة ، ثم حتما في الآخرة يومئذ يوم القيامة حيث تمام الرحمة ومغفرة كلّ الذنوب وحيث ما هو أتمّ راحة وسعادة وأعظم وأخلد فيما لا عين رَأَت ولا أذُن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ﴿10﴾ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴿11﴾ ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ۖ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ۚ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ﴿10﴾ " أي يوم القيامة تُنادِي ملائكة العذاب علي الذين كفروا أي لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولم يعملوا بأخلاق الإسلام وكانوا مُكذبين مُعاندين مُستكبرين مُستهزئين وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، تُنادِي عليهم وهم في عذاب النار قائلة لهم علي سبيل الذمِّ كمزيدٍ مِن عذابٍ نفسيّ إضافة إلي الجسديّ إنَّ مَقْتَ الله تعالي أي غضبه الشديد عليكم وكراهيته الشديدة لكم هو أكثر كثيرا من غضبكم علي أنفسكم الآن ، علي عقولكم ، وأكبر من كراهية ولَعْن وكُرْه بعضكم بعضا ، بسبب أنكم في دنياكم اخترتم الكفر بكامل إرادتكم وظللتم مُصِرِّين عليه حتي موتكم ولم تختاروا الإيمان حين دعاكم المسلمون له فنِلْتُم هذا العذاب الأليم المُهين ، وذلك بسبب الأغشية التي وضعتموها علي العقول بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا قطعٌ لهم لأيِّ أملٍ في أيّ نجاة من أيّ عذابٍ في الآخرة .. كما أنَّ هذه الآية الكريمة فيها تحذيرٌ شديد هو رحمة من الله بالكافرين الحالِيِّين قبل موتهم لأنها تُفيد في إيقاظهم في دنياهم الآن قبل أخراهم فيُحْسِنوا استخدام عقولهم ويعلموا أنَّ غضب الله عليهم في الدنيا بسبب اختيارهم للكفر حين يُدْعَوْن للإيمان هو شديدٌ جدا أكثر من ألمهم وحسْرتهم التي ستكون حينما يَندمون ويُعَذّبون في الآخرة حيث لن ينفع أيُّ نَدَم ، فلعلّ ذلك يوقظهم من غفلتهم ويجعلهم يستجيبون لفطرتهم والتي هي مسلمة أصلا وبداخل عقلهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان
أمَّا معني " قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴿11﴾ " أيْ حينما رأوا العذاب الذي كانوا يُكذبونه حقيقة واقعة وذاقوه بالفِعْل قالوا علي سبيل الاسْتِعْطاف ، وقد نالوا ما يَستحِقّونه بكلّ عدل ، وهم في منتهي الذلّة والإهانة والحَسْرة والندامَة ، في وقتٍ لن ينفع فيه أيّ نَدَمٍ حيث قد انتهي وقت العمل في الدنيا وجاء وقت الحساب ، قالوا يارب لقد اعترفنا تماما بما كنا نُكذب به في دنيانا أنك أنت ربنا وحدك الذي بقدرته وعظمته وعلمه خَلَقَنا وأمَاتَنا مرّتيْن وأحيانا كذلك مرتين ، يَقصدون أنهم كانوا مَيِّتين بلا أرواح بداخل أجساد آبائهم ثم أحياهم بأن جعل فيهم روحا وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليَحيوا حياتهم الدنيا ثم أماتهم بعد انتهاء آجالهم فيها ودخلوا قبورهم ثم أحياهم مرة ثانية يوم القيامة للحساب .. " .. فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴿11﴾ " أيْ لقد أقررنا بأننا كنا مُكذبين مُعاندين مُستكبرين مُستهزئين شِرِّرِيِنَ فاسدين ظالمين ، مُتَوَهِّمِين أنهم بهذا الاعتراف قد يُنْقَذُون مِمَّا هم فيه ، مُتَمَنِّين أن يجدوا بذلك أيَّ سبيلٍ أيْ طريقٍ للخروج ولو لفترةِ راحةٍ أو للعودة للدنيا من أجل فِعْل الخير وترْك الشرّ فيدخلوا بذلك الجنة ، ولكن لن يحدث ذلك أبداً بالقطع ، فلقد فات الأوان ، فيزدادون بانقطاع أملهم هذا عذاباً وألَمَاً وحَسْرةً ونَدَامَة
ومعني " ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ۖ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ۚ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴿12﴾ " أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب سببه أنكم كنتم في دنياكم إذا عُبِدَ الله تعالى وحده وُطلِبَ منكم ذلك كفرتم به أي لم تُصَدِّقوا بوجوده ولم تعملوا بدينه الإسلام ، وعندما كان يُشْرَك معه في العبادة غيره من الأصنام وغيرها كنتم تؤمنون أيْ تُصَدِّقون ذلك وتُطيعونه وتَفعلون كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار وتتركون كلّ الخير والصلاح والنفع ، ومادام هذا كان حالكم في الدنيا فابْقوا إذن في النار ولن يكون لكم أيّ أملٍ في أيِّ خروج منها ولو للحظة بأيِّ حالٍ من الأحوال .. إنكم حتما ستكونون هكذا حتي لو ُفرِضَ وعُدْتم للدنيا كما تَتَمَنّون واهِمين لأنكم أنتم الذين اخترتم ذلك بكامل حرية إرادة عقولكم ، فتَذلّلكم هذا واسْتِعْطافكم – والذي ُذكِرَ في الآية السابقة والتي يُرْجَيَ مراجعتها لتكتمل المعاني – لن يُفيد بأيّ شيء ! .. " .. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴿12﴾ " أيْ وبما أنكم كذلك فالحُكْم عليكم إذن هو عند الله خالقكم فهو وحده العالِم بكلّ شيءٍ عنكم وعن كلّ خَلْقه وهو الذي سيَقضِي بينكم بعدله وبحِكمته وليس الأصنام التي عبدتموها وقد حَكَمَ بالفِعْل بعذابكم فلا طريق إذن إلي نجاتكم لأنه صدر منه وهو العَلِيّ أي المُتَعَالِي والمُتَرَفّع سبحانه عن أن يكون له مُمَاثِل لأنَّ له كلّ صفات العُلُوّ والرِّفْعَة والعظمة والنفوذ والمُلك والسلطان والكمال وهو الكبير أيْ أكبر وأعظم من أن يكون له شريك أو مُعِين أو صاحبة أو ولد ، وبالتالي فالحُكْم لن يَتَمَكَّنَ أيّ أحدٍ من تغييره أو تعديله أو تخفيفه ، فليس لكم إذن أيّ أملٍ في أيّ نجاة
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿14﴾ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴿15﴾ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿19﴾ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ في كل أقوالك وأعمالك من المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي مُتأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلْت ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكِّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لأن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خير وترْك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام وبأن يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا تمسّكتَ بالروح الذي أنزله الله تعالي للناس ، أيْ عملتَ بالقرآن ، بكلّ الإسلام ، وكان مرْجعك دائما في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ " أيْ هو تعالي الذي يُظْهِر ويُبَيِّن ويُوَضِّح لكم آياته ، أيْ آياته في القرآن العظيم وأيضا دَلائله علي وجوده من خلال مُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه ، والتي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين القادر علي كل شيءٍ المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده وعمل بكل أخلاق آيات قرآنه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا .. " أيْ ومن هذه الآيات والنِعَم عليكم التي لا تُحْصَيَ أنه يُنَزِّل لكم من السماء مطراً معتدلاً لسَقْي الزروع والدوابّ ونموها بما يُحيي الأرض ومَن عليها ويُكثر كلّ أنواع أرزاقها وخيراتها ومنافعها وسعاداتها لكم .. " .. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ " أيْ لكن لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذه الآيات ولا يتفكّر فيها ولا يَنتفع ولا يَسعد بها إلا فقط كلّ مَن يُنيب ، أي الذين جعلوا دوْما مَرْجِعِيَّتهم هي الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكانوا دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامهم أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيلوا سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتهم بتعاسة هذا الخطأ ، فهؤلاء هم الذين سيعبدون الله وحده وسيخلصون له العبادة وسيشكرونه وحده وسيتوكلون عليه وحده ، وهم حتما وفقط الذين سيسعدون بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿14﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أنَّ كلّ شيءٍ في هذا الوجود يدلّ على أنّ الله تعالى واحد لا شريك له وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ، فبالتالي فاستمرّوا علي دعائه أي علي عبادته وطاعته وسؤاله والاعتماد عليه واعملوا بكلّ أخلاق دينه الإسلام وأخلِصوا في ذلك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، حتي ولو كَرِهَ الكافرون ومَن يُشبههم حولكم هذا أيْ غاظَهم وأغضبهم ، فلا تلتفتوا لذلك ولا تتأثّروا به واستمرّوا لتَسعدوا في الداريْن واتركوهم ليَموتوا بغَيْظهم ولن يضرّوكم إلا أذي قليلا لأنهم قطعا في قبضة الله القوي العزيز ولن يستطيعوا فِعْل شيءٍ لا يريده (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن فوائد الصبر وسعاداته في الدنيا والآخرة لمَن يصبر علي اختبارٍ أو ضَرَرٍ ما أصابه .. ثم مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. ولعلهم يستقيظون يوما ما ويعودون لربهم ولإسلامهم برؤيتكم مستمرّين علي إسلامكم وبحُسن دعوتكم لهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ليسعدوا مثل سعاداتكم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني " رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴿15﴾ " أيْ وأيضا مِن صِفات كماله سبحانه التي تُفيد أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ، أنه رفيع الدرجات ذو الْعَرْش ، أي هو وحده صاحب الرِّفْعَة والمقام العالي وصاحب العرش العظيم الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا هو ، أيْ هو تعالي الذي قد تَمَلّكَ المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه ، ولذا فهو وحده الذي يَرْفع في الداريْن مَن يَسْتَحِقّ الرَّفْع والعِزَّ والسعادة بسبب عمله بكلّ أخلاق الإسلام ، ويَخْفِض مَن يستحق الخَفْض والذلّ والتعاسة بتَرْكها .. " .. يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .. " أيْ ومن أعظم نِعَمه ورحماته التي لا تُحْصَيَ علي البَشَر أنه يُنَزِّل لهم الوحْي بأوامره علي مَن يختاره منهم وهم رسله الكرام الذين اختارهم لحُسن أخلاقهم وكمالها ، وقد سَمَّيَ الله تعالي وَحْيَه رُوحا ، وخاتمه القرآن العظيم ، لأنه كالروح بالنسبة للجسد ، فهو الذي يُحي البَشَر ، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها ، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة ، الحياة الحقيقية ، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستؤدي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة ﴿لمزيد من الشرح والتفصيل ، برجاء مراجعة الآية ﴿24﴾ من سورة الأنفال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ .. "﴾ .. " .. لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴿15﴾ " أي لكي يُحذّرهم هذا الوحي وهذا الرسول من يوم التلاقي مع خالقهم ، يوم القيامة والحساب ، حيث يُلاقِي كلّ البَشَر أعمالهم ويُلاقوا بعضهم بعضا ليَحكم أحكم الحاكمين بينهم بتمام عدله ليأخذ كلُّ صاحب حقٍّ حقّه ويُعطي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة ويُعاقب أهل الشرّ بما يستحِقّونه من كلّ شرّ وتعاسة .. فليُحْسِن الجميع إذن الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ الخير وترْك كل الشرّ من خلال العمل بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني " يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ " أيْ وفي يوم التلاقِي هذا ، يوم الحساب العَسِير المُخِيف المُتْعِس لمَن لم يُصَدِّق به اليَسير الآمِن المُسْعِد لمَن صَدَّقَه وأحسنَ الاستعداد له بعمله بأخلاق إسلامه ، يكونوا جميعا بارزين أي ظاهرين علي أرض الحشر لا يسترهم ساتِر ولا يَختفي علي الله منهم شيء لا مِن ذواتهم ولا من أعمالهم وأقوالهم فهو الذي يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه .. " .. لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ " أي تُنادِي الملائكة سائلة لمَن المُلك اليوم نفيا قاطعا لأيّ مُلكٍ لأيّ أحدٍ وتُجيب أنه حتما لله الواحد أيْ الذي ليس معه شريك القهار أيْ الكثير القَهْر أيْ الغَلَبَة لكلّ شيء ، فالجميع تحت سلطانه ، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم .. أو الله تعالي ذاته يَسأل ويُجيب لأنه هو وحده مالِك المُلك ولا أحد يملك النطق إلا بإذنه .. أو يُجيب جميع الخَلْق اعترافا بذلك ، فيقول المؤمنون هذا الجواب سعادةً وتمتعا ، ويقوله الكافرون تعاسة وذلّة واستسلاما
ومعني " الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ " أي اليوم ، يوم القيامة ، تُعْطَيَ كلّ نفسٍ من نفوس بني آدم جزاء ما عملت بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، إنْ خيرا فلها كل خيرٍ وسعادة وفضل وزيادة علي قدْر أعمالها ، وإنْ شرّا فلها ما تستحِقّه من كل شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورها ومَفاسدها وأضرارها .. " .. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ " أي لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر ! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة
ومعني " وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ " أيْ وحَذّرهم يا أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده ، حَذّر جميع الناس خاصة المُكذبين منهم والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين والذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، حَذّرهم بكلّ حِكمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، حَذّرهم من يوم الآزفة ، أي اليوم القريبة ساعة حدوثه – مِن أَزِفَ أي اقترب – وهو يوم الموت ويوم القيامة ، لأنّ كلّ ما هو آتٍ فهو قريب حتي لو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد ، حين تتحرّك القلوب من شدّة الاضطراب حركة شديدة سريعة كأنها وَصَلَت عند الحَنْجَرَة بدلا من مكانها الطبيعي ويكونوا كاظِمين لها أيْ مُحاوِلِين كتمانها وحَبْسها حتي لا تخرج من حناجرهم وأفواههم ، وهذا دلالة علي شدّة فزع كلّ مُكَذّبٍ فاسدٍ حينها ، بينما تكون قلوب المؤمنين الصالحين يومها آمِنة مُستبشرة مُنتظِرة لكلّ خيرٍ وسعادة .. " .. مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ " أي وقتها لن يكون للظالمين أيّ مُحِبٍّ مُشْفِقٍ يُعِينهم ولا أيّ شفيع أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله لينقذهم مِمَّا هم فيه ، والمقصود أنهم لا أمل لهم في أيّ نجاة .. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم فأتعسوها وأتعسوهم بأيّ نوع من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ لكلّ عاقلٍ لكي يُحْسِنَ الاستعداد لذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ولكي يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿19﴾ " أيْ هو سبحانه عليم بكلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ، فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه في كلّ كوْنه ، ومن هذا العلم أنه يعلم حتما حتي أقلّ نظرةٍ من العيون الخائنة والتي لا يعلمها أحد ، أي التي تنظر بتَخَفّي وبتَسَلّل وباختلاس مع الاجتهاد في إظهار الأمانة والعِفّة إلي ما حرّم الله النظر إليه كالنظر بشهوة للنساء وكالنظر للعورات ونحو هذا ، ويعلم كذلك قطعا ما تُخفيه الصدور أي العقول من أفكار ونوايا وأهداف ، وسيُحاسِب الجميع بما يستحِقّون علي كل أقوالهم وأفعالهم التي تصدر منهم في السرّ أو العَلَن .. فليجتهد المسلم إذن في تَذَكّر ذلك باستمرار وليعلم أن الله معه بعلمه علي الدوام ، وليكن من المُراقِبين له سبحانه في كل الأقوال والأفعال الذين لا يقولون ولا يفعلون إلا خيرا ، ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾ " أيْ هو سبحانه وحده الذي يَحكم بالعدل ، بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم ، لأنه يعلم كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ ومُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء والمُحاباة وكل العيوب ، يَحكم في الدنيا بالعدل ويُقَدِّر ويُدَبِّر كوْنه بأفضل وأتمّ تقديرٍ وتدبيرٍ وتنفيذٍ علي أكمل وجهٍ يُسْعِد جميع خَلْقه حيث لابُدَّ حتما يَنصر أهل الحقّ والخير في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، ولابُدَّ حتما يهزم أهل الباطل والشرّ يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عنده وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. ثم في الآخرة يوم القيامة بالقطع له كلّ الحُكم والتدبير العادل تماما بين الجميع .. " .. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ .. " أي بينما الآلهة المَعْبُودة غيره تعالي كالأصنام والأحجار وغيرها والتي يَدْعونها أيْ يعبدونها ويسألونها هؤلاء المشركون المَخْبُولون ومَن يُشبههم لا يمكن قطعا أن تَحكم في الكوْن بأيّ شيءٍ أو تُدَبِّره لأنها أصلا لا تَدري ولا تعلم أيّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ ولا تَقْدر عليه فليس لها أيّ تأثيرٍ بأيّ شيء ، لا في الدنيا ولا في الآخرة !! .. " .. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾ " أي هو وحده الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ والبصير أي الذي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وبالتالي أيضا فهو وحده تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة ولإخلاصها له (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ﴿21﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿22﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ﴿21﴾ " أيْ هل هؤلاء المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون لم يَتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها ؟! .. وفي هذا السؤال في الآية الكريمة توسيع لدائرة التدبُّر ، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته ، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه .. " .. كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ﴿21﴾ " أي لم يكونوا ضعافا بل كانوا شديدي القُوَيَ من كل أنواعها الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها ، وكانوا شديدي الآثار أي تركوا آثارا كثيرة لأنهم كانوا كثيري الإثارة للأرض أي التقليب لها وحرثها وحفرها وتهييجها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها ، وكانوا كثيري التعمير لها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا .. لكنَّ كل هذا لم يستطع أن يَقيهم أي يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم !! .. فمَن كان أضعف منهم فليكن إذن أكثر حذرا فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب !
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿22﴾ " أيْ ذلك الأَخْذ بالعذاب أيْ العقاب بما يستحِقّون كان بسبب أنهم كانت رسلهم تُحْضِر لهم كلّ البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه .. وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. أي لم يكن لهم أيّ حجّة ولكنهم مع كلّ ذلك كذبوا وعانَدوا واستكبروا ورَاوَغوا واستهزؤا وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه دون أيّ خطوة نحو أيِّ خيرٍ حتي يُعينهم الله علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا سبحانه بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فنَزَلَ بهم لذلك عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. " .. إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿22﴾ " أيْ هو سبحانه عظيمُ تامُّ القوةِ لن يَمنعه عمّا يريد فِعْله أيّ مانع وحين يُعاقِب مُكذبا مُعانِدا مُستكبرا مُسْتَهْزِئاً فإنَّ عقابه يكون شديدا مُؤلِما مُوجِعا مُهلِكا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿23﴾ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴿24﴾ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿25﴾ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴿26﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿27﴾ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴿28﴾ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿30﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿31﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿32﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿33﴾ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿34﴾ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴿35﴾ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ﴿36﴾ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴿37﴾ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿38﴾ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴿39﴾ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿40﴾ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴿41﴾ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴿42﴾ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿43﴾ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿44﴾ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴿45﴾ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴿46﴾ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ﴿47﴾ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴿48﴾ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ ﴿49﴾ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿23﴾ " أيْ لقد بعثنا موسى ﷺ للناس حوله بمُعجزات باهِرات من فضلنا وقدْرتنا ، ومنحناه أيضا سلطانا مُبينا أيْ حجَّة قوية واضحة يَقْضِي بها علي حجَج أعدائه .. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم ، في دنياهم وأخراهم ، كما حَدَثَ مع موسي ﷺ
ومعني " إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴿24﴾ " أيْ أرسلنا موسي ﷺ إلي فرعون ملك مصر الظالم المُتَكَبِّر الذي قال أنا ربكم الأعلي ، ومعه هامان وهو أحد وزرائه ومستشاريه ومعاونيه علي كل ظلم وفساد ، ومعهما قارون وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة ، لكي يدعوهم إلي عبادة الله وحده والعمل بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن ، ولكنهم كذبوه وآذوه وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا وقالوا عليه ﷺ أنه ساحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل ! وأنه كذاب كثير الكذب يكذب ولم يرسله الله بشيءٍ بل لا يوجد إله أصلا إلا فرعون !! .. إنهم حتما هم الكاذبون ، لأنّ موسي لم يكن أبداً ساحرا بل العصي انقلبت ثعبانا حقيقيا أمامهم وهم أدْرَيَ الناس بالسحر في هذا الزمن ، كما أنهم يعلمون تماما صِدْقه وحُسن خُلُقه حيث تربي في بيت فرعون ويعرفه تمام المعرفة .. إنهم ما قالوا ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولقد خَصَّ تعالي هؤلاء الثلاثة فقط بالذكر مع أنّ موسي ﷺ كان رسولا لهم ولغيرهم ، لأنهم كانوا هم الزعماء الذين كانوا يُدَبِّرون المَكايد ضدّه فيتبعهم عموم الناس بعد ذلك
ومعني " فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿25﴾ " أيْ لم يَكتفوا بتكذيب الحقّ – وهو الإسلام والأدِلّة القاطِعة علي صِدْقه – حينما أحضره إليهم موسي ﷺ من عند الله تعالي ، بل انتقلوا لمرحلةٍ شديدة السوء في التعامُل معه ومع الذين أسلموا حيث قالوا على سبيل التهديد اقتلوا الذكور من أبناء الذين آمنوا معه حتي لا ينشأوا علي الإسلام فيَقْوَيَ بهم ويَظلّوا عبيدا لهم وهم سادتهم يَنهبون جهودهم وخيراتهم ، واتركوا الإناث أحياء بدون قتلٍ للخدمة وللانتفاع بهنّ ، فيكون ذلك أعظم ذلّة لهؤلاء المسلمين وتخويفا لهم ولعلهم يرجعون عن إسلامهم وإرهابا لبقية الناس لكيلا لا يُسلِموا .. " .. وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿25﴾ " أيْ هذا تحقيرٌ لكلّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين في كلّ زمانٍ ومكان مهما بلغت قوّاتهم وعداءاتهم وتشجيعٌ للمسلمين على أن يتمسكوا ويعملوا دائما بكل أخلاق إسلامهم من غير أن يخيفهم أيُّ تهديدٍ مِن أيِّ أحد ، فكيد كل هؤلاء وأشباههم ، أيْ مكرهم وخداعهم واعتداؤهم وإيذاؤهم ونحو ذلك ، ما هو إلا في ضلال أي ضياع وتَلاشِي وهلاك ، فهذا هو حتما مصيره المحتوم ، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ فرعون والظالمين معه لم يَتمكّنوا مِمَّا أرادوا حيث انشغلوا عنه بما نَزَلَ بهم من مصائب كانتشار الجراد وهلاك الزروع وما شابه هذا إلي حين أهلكهم الله تعالي واستأصلهم تماما بالغرق
ومعني " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴿26﴾ " أيْ وهذا نوعٌ آخر مِن تَكَبُّر فرعون وعِناده واستهزائه وظلمه وفساده حيث قال لوزرائه ومستشاريه اتركوني أقتل موسي هذا حتي نتخلص من الإسلام الذي يدعو الناس إليه ، ولِنَرَيَ ربه هذا الذي يَدَّعِيه والذي سيَدْعوه وسيَلجأ إليه هل سَيُنقذه مِنِّي إن كان في إمكانه ذلك فأنا لا يَهمّني لا موسي ولا ربه ؟!! إنّي فقط قَلِقٌ ومُشْفِقٌ عليكم مِن خَطَر أنْ يُغَيِّر دينكم بأن تعبدوا إلاهاً غيري لا تعرفونه فتضرّروا وتتعسوا بذلك !! أو أن يُحْدِث الفساد في البلاد بأن يكون هناك دينان فيُعادِي ويُصارع ويُقاتل أهل كلّ دينٍ بعضهم بعضا !! .. إنَّ هذا دائما هو حال المُتكبرين الظالمين المُستبِدِّين يُحاولون التخلّص من أهل الحقّ والخير لأنهم يُهَدِّدون مُلكهم وسلطانهم ، ويَقْلِبون الحقائق تماما ويَدَّعُون كاذبين مُخادِعِين للبُسَطاء أنهم ما يريدون إلا مصلحتهم وسعادتهم لأنهم هم الذين معهم الخير والصلاح والأمن كله بينما الآخرين هم الذين معهم الشرّ والفساد والخَطَر كله !! .. هذا ، وقوله ذروني يُفيد ضِمْنَاً أنّ بعض المستشارين حوله كانوا مُعترضين علي قتل موسي ﷺ لأنّ هذا لن يحلّ المشكلة بل سيزيدها حيث سيتأكّد الناس أنه كان علي الحقّ وأنّ فرعون لم يكن له حجّة أمام حجته القوية فقَتَله فيؤمنوا به بعد قَتْلِه ، أو كان بعضهم قد آمَنَ بالفِعْل بموسي ﷺ وأراد إنقاذه بأسلوب خَفِيّ ، أو أنَّ فرعون ذاته قد تأكّد من أنّ موسي ﷺ علي الحقّ فترَدَّد في قتله خوفا من نزول عذابٍ ما به ، أو نحو هذا من أسبابٍ جعلها الله تعالي لحمايته لينشر إسلامه
ومعني " وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿27﴾ " أيْ وبعد أن عَلِمَ موسي ﷺ بتهديد فرعون بقتله قال لقومه على سبيل التثبيت لهم على عبادة الله وحده والعمل بدينه الإسلام إنى تَحَصَّنْت بربي وربكم ولَجَأت إليه وتوكّلت واعتمدت عليه أن يحميني من كل مُتَعَالٍ مُتَطَاوِلٍ عليه تعالي وعلي دينه ولا يُصَدِّق بوجود يومٍ للحساب علي الأقوال والأعمال في الحياة الآخرة وبالتالي فلن يكون له أيّ مانع يمنعه مِن فِعْل أيّ سوء .. لأنه إذا اجتمع في الإنسان التكَبُّر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بنتائج أعماله السيئة فتكتمل فيه أسباب القسوة والجرأة في الاعتداء على الناس وظلمهم بكل أنواع الظلم .. وفي الآية الكريمة إرشادٌ للمسلمين لكي يكونوا دوْما من المتوكّلين علي الله ربهم وربّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴿28﴾ " أيْ وأثناء هذا التهديد من فرعون لموسي ﷺ واستعاذته وتَحَصُّنه بالله تعالي ، بدأ ظهور هذا التّحْصِين حيث سَخَّرَ له سبحانه رجلا مؤمنا من عائلة فرعون والمُقَرَّبين إليه كان يخْفِي إيمانه بالله حتي لا يُصيبه أذي منهم فيمكنه قول الحقّ لهم حين يحتاج الأمر فيتقبّلوه منه لأنه كأنه مثلهم ومنهم وقد يُفيد في وقتٍ ما وقد جاء هذا الوقت وهو وقت إنقاذ رسول الله ليتمكن من تبليغ الإسلام للناس ، لقد أخذ يدافع عنه دفاعا حكيما مُؤَثّرا يحمل أحيانا ترغيباً وإرشادً وأحيانا أخري تخويفا وتأنيبا ، لقد تَسَاءَلَ مُتَعَجِّبَاً وذامَّاً لهم عن كيف يقتلون رجلا لم يرتكب أيّ جريمة ولم يَقْتُل أحدا حتي يُقْتَلَ ولكن بسبب فقط أن يقول ربي الله وقد قَدَّمَ لهم الدلالات الواضحات والمُعجزات القاطعات علي صحة قوله وفِعْله وصِدْق ما جاءهم به وعَرَضَه عليهم من ربهم ولم يقل ذلك دون دليلٍ حاسم ، وفي هذا إرشاد ضِمْنِيّ لهم أنّ الله هو ربهم وليس فرعون ، ولعلهم يستفيقون بهذا التوجيه والتأنيب ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن .. " .. وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ .. " أيْ واستَمَرَّ في أسلوبه الحكيم العقلانيّ المَنْطِقِيّ المُقْنع حيث لم يَكْتفِ برفض قَصْدِهم قتل موسى ﷺ بل أَخَذَ في محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القَصْد بمختلف الأساليب والحجَج فقال لهم لا تقتلوه لأنه أحد أمريْن ، إمَّا أن يكون كاذبا ، وبدأ بالكذب ليُقَلّل غضبهم وإظهارا للإنصاف وعدم الوقوف بجانبه حتي يتقبّلوا كلامه واقتراحه ، ففي هذه الحالة فإنَّ ضَرَر كذبه سيعود عليه لا عليكم حيث سينكشف أمره وسيَنْفِر وسيَبتعد عنه الناس من تلقاء أنفسهم وسيُعاقبوه هم وسيَنبذوه وسيَتخلّصوا منه بطريقتهم وقد يقتلوه فتكونوا قد حقّقتم ما تريدون دون إثارتهم عليكم ، لأنّ الكذب ليس له عمر طويل ويسهل كشفه مع الوقت والأحداث وتناقضات كَذِبَات الكذّاب التي يَكذبها .. وإمَّا أن يكون صادقا ، ولابُدَّ لأيِّ عاقلٍ أن يضع هذا الاحتمال ولو بنسبةٍ قليلة ، وهو يَدَّعِي أنكم ستُصابون بالعذاب الدنيويّ قبل الأخرويّ إذا لم تَتَّبعوه أو آذيتموه فلابُدَّ أنّ ربه سيُنفذ له هذا لإثبات صِدْقه وسيُصيبكم نوعٌ ما من أنواع العذاب والذي سيكون مُضِرَّاً مُتْعِسَاً لكم ولو ظللتم مُكذبين له سيُصيبكم كلّ الذي يَعدكم به والذي قد يهلككم ويستأصلكم من الحياة تماما .. ثم أيضا إنْ كان صادقاً لم تُحْرَموا خيره وسيُصيبكم بعض هذا الخير الذي يَعدكم به وتستفيدون وتسعدون به في دنياكم وأخراكم ، إذن فلماذا تقتلونه ؟! فبالتالي فالاحتياط والأفضل والأنفع ألاَّ يُقْتَل !! .. " .. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴿28﴾ " أيْ ثمّ أيضا مِن سُنَّة أي طريقة الله تعالي أنه يستحيل أن يترك أحداً يَكذب عليه دون أن يَفضح كذبه أو يهلكه لأنَّ سَتْر هذا النوع من الكذب وترْكه سيَضرّ وسيُتْعِس خَلْقه حتما – ولذلك مثلا يُرَيَ واقعيا أنه كلما ادَّعَيَ أحدٌ أنه رسولٌ بعد الرسول محمد ﷺ خاتم الرسل فَضَحَه الله عند الناس يوما ما وكَشَفوه وعاقبوه – فالله تعالي لا يُمْكِن أبدا ولا يُعْقَل بالتأكيد أن يَهدي للخير ويُرْشِد ويُوَفّق ويُيَسِّر حالَ ويُؤَيِّد بالأدِلَّة مَن كان مُسْرِفا أيْ مُتجاوزا للحقّ والعدل والخير فاعلا كل الشرور والمَفاسد والأضرار مُبَالِغا فيها مُعتادً عليها مُتمسّكا بها ، كذابا أي يكذب كثيرا علي الله والناس !! .. ولو كان موسى مُسرفا أو كذابا لَمَا أيَّدَه الله تعالى حتما بالمُعجزات الباهرات وبالحجَج القاطعات الدالاّت على صِدْقه !! وإنما سيُهلكه قطعا فلا حاجة إذن لأن تقتلوه أنتم !! .. وفي هذا الكلام توجيه ضِمْنِيّ لفرعون لعله يستفيق ومَن حوله ويعود لربه وهو الذي فقط لم يكذب ويَدَّعِ أنه رسول بل ادَّعَي أنه هو الإله كما أنه شديد الإسراف في ظلم الناس وقتلهم !!
ومعني " يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ " أيْ قال الرجل المؤمن أيضا يا أهلى – تَوَدُّدَاً إليهم وحرصاً عليهم ليَقبلوا نصائحه ليسعدوا في الداريْن – أنتم اليوم لكم الملك وحالكم علي أحسن حالٍ حيث أنتم غالِبين ومُنتصرين ومُتحَكّمين في بلادكم فمن يستطيع أن يَدْفع عنا عذاب الله وينقذنا منه حين يأتينا ويَصِل إلينا بسبب عدم شكرنا له واعتدائنا على خَلْقه وعلي رسوله ؟! وذكَرَ نفسه معهم في حالة التحذير من العذاب ليُبَيِّن لهم أنه منهم ويخاف عليهم وهو لهم ناصح أمين مُحبّ ولا يريد إلا مصلحتهم وسعادتهم .. " .. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ " أي عندما سمع فرعون هذا الكلام المُقنع خاف من انتقاص هيبته أو اقتناعهم فقاطَعَ المؤمن وهو يتكلم وقال هذه المقولة تكَبُّرا وغرورا وإعجابا بذاته فليس أحد مثله في آرائه فهو دائما علي صواب لا يُخطيء !! فعليهم إذن أن تكون رؤيتهم للأمور مثل رؤيته هو أيْ آراؤهم مثل رأيه لكي يفلحوا في الحياة !! أي لا أشير عليكم إلا برأيِ أنا وهو الصواب وبقية الآراء منكم غير صواب فهو إذن رأيٌ واحدٌ صائبٌ !! وهذا هو دوْما حال المُتكبرين المُسْتَبِدِّين الذين ينفردون بآرائهم ويحكمون الناس بالحديد والنار لاستعبادهم ونَهْب ثرواتهم .. أو قالها غِشَّاً وخِداعا ومُرَاوَغَة وتَرَاجُعاً واستعطافا لمن حوله ، ليوافقوا علي رأيه بقتل موسي ﷺ لأنه قد خاف منه بالفِعْل ، فهو لا يُعطيهم من الآراء إلا ما يراه لنفسه ولن يغشّ نفسه قطعا ولا يُخْفِي غير ما يُظْهِر فليَطمئنوا إذن أنّ هذا الرأي هو الصواب فهو مُخلص لهم تماما يريد مصلحتهم ، وهو بالقطع يغشّهم تمام الغِشّ لأنه يريد التخلّص منه حتي لا يَقضِي علي مُلكه وألوهِيَّته التي يَدَّعِيها لو أسلمَ شعبه فسيستيقظون ويعلمون أنه بَشَر ضعيف مثلهم يمرض ويشيخ ويموت وليس ربهم وسيُطالبون بحقوقهم وثرواتهم وبالعدل بين الجميع رؤساء ومرؤسين فلا يوجد سادة وعبيد كما هو الوضع الحالي .. وممّا يدلّ علي خداعهم قوله بعدها " .. وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ " أي فهو يَكذب ويَدَّعِي أنه ما يُرشدهم بآرائه إلا للطريق الرشد الصواب الخيريّ السعيد ! .. إنه يهديهم للإيمان به وللكفر بموسي ، بالله تعالي !! .. لكن أين عقولهم هم ؟! ولكنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿30﴾ " أيْ ولكنَّ الرجل المؤمن لم يَسكت أمام هذا الكذب والخداع الذي يقوله فرعون ، بل استكمل كلامه وكرَّرَ دعوة قومه من غير يأسٍ كحال الدعاة إلي الله والإسلام دائما الذين يدعون غيرهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة ويصبرون علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ حيث قال لهم يا أهلي إنى أخاف عليكم إذا تَعَرَّضتم لموسى ﷺ بالقتل أو بالتكذيب أن ينزل بكم من الله عذابٌ مثل أيام العذاب التي عُذّبَت فيها الأحزاب أيْ الأمم السابقة التي تعرفون تاريخها السَّيِّء والتي تَحَزَّبَت أيْ تَجَمَّعَت ضد رسلها وعادَتْهم وآذتْهم وحاوَلت منعهم من تبليغ الإسلام للناس فتَعِسوا وهَلكوا ، فأخاف عليكم لو تَشَبَّهتهم بهم أن تتعسوا وتهلكوا مثلهم في الدنيا والآخرة
ومعني " مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿31﴾ " أي هذا تفصيلٌ وتَبْيِينٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره ، أيْ مِثْل عادة وعمل هذه الأقوام ، قوم نوح وعادٍ قوم الرسول هود وثمود قوم الرسول صالح والذين جاءوا من بعدهم من الأمم المُكذبة مثلهم كقوم إبراهيم ولوط وغيرهم ، عادتهم وعملهم الدَّؤُوب أي الدائم المستمرّ الجادّ في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وعادة الله فيهم بالعذاب بدرجةٍ من الدرجات في الدنيا قبل الآخرة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فاحذروا تماما أن تتشبّهوا بهم فيكون مصيركم مثلهم .. " .. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿31﴾ " أي ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيُريد ويَشاء ويُحبّ أصلا ظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يحدث حتما مثل هذا وهو أعدل العادلين ، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره ، ومَن كان لا يُريد أصلاً ظلما فإنه مِن باب أوْلَيَ لا يظلم مُطلقا ! وكذلك سبحانه لا يُريد للعباد ظلما لبعضهم بعضا .. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما ، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم ! لقد كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربه وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿32﴾ " أيْ وبعد أنْ حَذّرَهم من عذاب الله في الدنيا بدأ يُحذرهم من عذابه العظيم في الآخرة فقال لهم يا أهلي إني أخشي عليكم يوم التنادِ أي يوم القيامة حيث يَحْدُث التنادِي بين الجميع في مواقف مُتَعَدِّدة فيُنادَيَ مثلا علي كلّ أمة ورسولها من أجل الحساب وعلي كلّ شاهِدٍ ومَن سيَشهد عليه وتُنَادِي الملائكة علي أهل السعادة ليدخلوا جنات الخلود وعلي أهل التعاسة لعذاب النيران ويُنَادِي بعضهم بعضا بداخلها باللعن والسَّبِّ واللّوْم والذمّ ويُنادُون مُستغيثين منها ، إلي غير ذلك من النداءات
ومعني " يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿33﴾ " أيْ يومها ستُحاولون الفرار مِن شِدَّة المَوْقِف ومِن النار حيث ستجتهدون في التّوَلّيِ أي الرجوع هاربين مُدْبِرين أيْ مُعْطِين أدباركم أيْ ظهوركم للنار مُتَوَهِّمِين أنكم بذلك ستَنْجون منها وستذهبون بعيدا عنها ولكن لن يكون لكم حينها من عذاب الله أيّ عاصمٍ أيْ مانع حيث ستُقْذَفون حتما فيها .. " .. وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿33﴾ " أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ.. " ﴿الرعد : 11﴾ ، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه ، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله ؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿34﴾ " أيْ واستمرّ الرجل المؤمن في تحذير قومه وتذكرتهم بألا يكونوا مثل أجدادهم في تكذيب رسل الله وعدم العمل بأخلاق الإسلام التي كانوا يَدْعونهم إليها ليسعدوا في الداريْن ، وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم فيهما ، حيث ذَكَّرَهم أنَّ يوسف ﷺ قد جاء أجدادهم سابقا من قبل موسي ﷺ بالبَيِّنات أيْ الدلالات الواضحات علي أنه رسول من عند الله والتي تَمَثَّلَت عمليا في أنه كان يدعوهم لعبادة ربٍّ واحدٍ هو الله تعالي لا لأربابٍ مُتَعَدِّدين وكان حَسَن الخُلُق حَسَن التخطيط لحفظ خيرات البلاد والعدل في توزيعها عليهم .. " .. فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا .. " أي ومع ذلك فقد بقي أجدادكم طوال حياتهم مُتَشَكّكين في ما جاءهم به من الإسلام مُتَرَدِّدين في العمل بأخلاقه ، كما أنتم الآن مع موسي ﷺ ، ثم بعد موته أيضا قالوا فَرِحِين أنه لن يبعث الله بعد ذلك أيّ رسول ! ويقصدون أنهم كانوا مُتَرَدِّدين في الإِيمان بيوسف ثم استراحوا بموته من هذا التّرَدُّد ! وادَّعَوْا بغير علمٍ كاذبين علي الله – وأيضا مُتَمَنّين ذلك – أنه لن يَبعث بعده أيَّ رسولٍ آخر ! فقد انتهوا واستراحوا من هذه الأمور ! ولو جاء رسولٌ فهو إذن كذاب لأنّ الله قد خَتَمَ بيوسف كل الرسل وبالتالي لن يؤمنوا به ، وكأنهم يجدون لأنفسهم عُذرا مُسبقا لعدم الإيمان مستقبلا !! وهو ما يدلّ علي شدّة كذبهم وافترائهم علي الله وعزمهم وإصرارهم التامّ علي الاستمرار في الكفر حتي نهاية حياتهم !! .. ثم أنتم أيضا الآن الذين جئتم بعدهم توارثتم هذه الأكاذيب وصَدَّقتموها وعَطّلتم عقولكم فلما جاءكم موسي ﷺ لم تؤمنوا به لأنه ليس رسولا في أوهامكم السيئة المَوْرُوثة !! .. " .. كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿34﴾ " أي هكذا دائما لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن هو مُسرف أيْ مُتجاوز للحقّ والعدل والخير مُكَذّب به فاعل لكل الشرور والمَفاسد والأضرار مُبَالغ فيها مُعتاد عليها مُتمسّك بها ، وهو أيضا مُرتاب أيْ مُتَشَكّك فيما جاءه به الرسل الكرام ، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار هذا الإسراف والارْتِيَاب بكامل حرية إرادة عقله وظلَّ مُصِرَّاً مُستمرَّاً عليه دون أيّ تراجُع (برجاء مراجعة الآية السابقة ﴿33﴾ لتكتمل المعاني﴾ .. وأنتم ستكونون مثلهم في مثل هذا الضلال والشقاء الشديد وستهلكون في دنياكم وأخراكم كمَن أهلكهم الله مِن السابقين المُكَذّبين إذا لم تُحسنوا استخدام عقولكم وتستجيبوا لموسي ﷺ وبَقيتم هكذا مُسرفين مُرتابين .. وهذه الفقرة من الآية الكريمة قد تكون من كلام الله تعالي أو استمراراً لكلام الرجل المؤمن
ومعني " الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴿35﴾ " أيْ ثمّ بَيَّنَ لهم أنَّ الذين يجادلون في آيات الله ، أيْ الدَّلاَلاَت والمخلوقات في كوْنه التي تدلّ على أنه إلهٌ واحد بلا أيّ شريك وعلى كمال صفاته وقدْراته ، والمُعجزات التي تدلّ على صدْق أنبيائه ، وآياته في كُتبه التي تحمل التشريعات والأخلاقيّات التي تُسعد الناس في الداريْن تمام السعادة ، يُجادلون بغير سلطان أيْ دليل جاءهم من عند الله تعالي عن طريق رسله ، وبالتالي فهم كاذبون مُعاندون مُستكبرون مُرَاوِغون ، مِثْل هؤلاء يَمْقَتهم الله ويَمْقت جدالهم أكبر المَقْت أيْ يَكرههم ويَكره هذا الجدال منهم ويَغضب عليهم أشدّ الكُرْه والغضب وسيُعاقِبهم عليه بما يُناسِب أكبر العقاب ، والمؤمنون أيضا كذلك يَكرهون هذا أكبر الكُرْه ويَغضبون له أكبر الغضب ، وفي هذا تكريمٌ عظيم للمؤمنين ورفعٌ لشأنهم لأنّ الله أضافهم إليه في هذا الموقف ومَدَحهم بأنْ وَصَفهم أنهم يَكرهون الباطل ويُحبّون الحقّ .. والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءَاً إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع ، ولا لأيّ كتاب منير أي وَحْي من الله واضح كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يصبه تحريف ، فهذا هو أصدق مَرْجع ، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين ، وهي غير مقبولة حتما مِن العقول المُنْصِفَة ولا مِن الفِطَر المسلمة أصلا .. " .. كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴿35﴾ " أيْ هكذا دائما يَطبع الله علي عقل كلّ مَن كان مُتَكَبِّراً جبَّاراً أي مُتَعَاليا مُتَطَاوِلا عليه تعالي وعلي دينه وعلي الناس يَحتقرهم ويذلّهم ولا يعطيهم حقوقهم ، جبّارا يريد إجبار غيره وإرغامه علي ما يريده هو بكلّ ظلمٍ وعدوان وإيذاء وحتي تهديدٍ بقتل .. والطبع هو الخَتْم علي العقول ، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير ، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير !! بل بعضهم لم يعد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك !! وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فالمشكلة إذن ليست في الآيات وفي كبرها أو صغرها وإنما في عقولهم هم !! .. هذا ، وعند بعض العلماء هذه الآية الكريمة هي من كلام الله تعالي
ومعني " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ﴿36﴾ " ، " أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴿37﴾ " أيْ وقال فرعون لوزيره هامان أكبر معاونيه علي الظلم والفساد قولا يدلّ علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه ومُرَاوَغته حيث طَلَبَ منه أن يبني له بناء عاليا يتمكن منه من بلوغ الوسائل والطرق والأبواب في السماوات والتي تمكّنه من الإطّلاع علي إله موسي هذا الذي يَدَّعِيه ومشاهدته والذي هو مُتشكّك فيه بل ومُتَيَقّن من كذبه !! وهو يريد بذلك أن يصعد هو والناس علي هذا الصرح فينظروا فلا يَجدوا إلاهاً فيتأكّدوا من كذب موسي ﷺ ويُصَدِّقوا أن لا إله إلا فرعون !! .. " .. وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ .. " أي وهكذا زَيَّنَ التفكير الشَّرِّيّ بعقل فرعون هذه الأعمال السيئة له أيْ حَسَّنَها له ، واختار هذا التكذيب والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله هو والمُكذبين مثله لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ .. " أي وبسبب استجابته لهذا التزيين بكامل حرية اختيار إرادة عقله كانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أنه قد تمَّ صَدّه عن السبيل أيْ امْتَنَعَ عن الطريق ، عن اتِّباع طريق الله والإسلام ، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. إنه ومَن حوله لم يكونوا حينها فاقِدي العقول ! وإنما كانوا أصحاب بَصِيرة يَتبَصَّرون بها الأمور أي أصحاب عقول يتعَقّلون ويَتدبَّرون بها أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، فليس لهم إذن أيّ عذرٍ فيما هم فيه من شرور ! ولكنه تعطيل العقول وعدم الاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة ، ولذا فقد استَحَقّوا تماما بلا أيّ ظلمٍ العذاب بالإهلاك (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. وهذا هو معني " .. وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴿37﴾ " أيْ ولن يكون حتما وبكل تأكيد مصير المَكائد التي يكيدها فرعون وأعوانه ومَن يشبههم ضدّ الله ورسله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة إلا في تَبَاب أيْ هلاك وخسران وضياع وانقطاع وانتهاء
ومعني " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿38﴾ " أيْ ولكنَّ الرجل المؤمن لم يَسكت أمام الكذب والخداع الذي يقوله فرعون ، بل استمرَّ وكرَّرَ دعوة قومه من غير يأسٍ كحال الدعاة إلي الله والإسلام دائما الذين يدعون غيرهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة ويصبرون علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ حيث قال لهم يا أهلي اتَّبعوني فيما أدعوكم إليه وأنصحكم به لكي أرْشدكم إلي طريق الرشاد وأدّلكم عليه وأبَيِّنه لكم ، أي طريق الصواب والصلاح والخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، وكأنه يقول لهم ضِمْنَاً أنه ليس فرعون الذي عنده هذا الرُّشْد كما حاول خداعهم قائلا " .. وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ " (برجاء مراجعة هذه الآية الكريمة لتكتمل المعاني﴾
ومعني " يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴿39﴾ " أي يُذَكِّرهم أنَّ هذه الحياة الدنيا ما هي إلاّ مجرّد مَتاع قليل حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمُتَعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له حيث هي دار القرار أي الاستقرار الدائم والخلود .. وحتي ما هم فيه مِن مَتاع مُتنوِّع من أموال ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أي لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره ، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره ، فهو إذن قليل دنيء زائل يوما ما ، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم ، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة ، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يحدث لهم بعده ، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا .. ثم في آخرتهم سيَضطرهم الله تعالي أي سيُجْبرهم وسيَسوقهم بغير إرادتهم وهم أذِلّة مُنقادين مُستسلمين إلي عذابٍ غليظ أي فظيع ثقيل شديد مُخيف مُهلك لا يُمكن تَخَيّله ، لو ظَلّوا علي حالهم مِن التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء .. ولذا فعليهم أن يُحسنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
ومعني " مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿40﴾ " أيْ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة في الدنيا فَلا يُجْزَىَ في الآخرة إلا فقط بعقوبةٍ مِثْلها تُناسبها دون أيّ ذرّة ظلم كَرَمَاً مِن الله تعالى وعَدْلا ، أو حتي يعفو برحمته التي وَسِعَت كلّ شيء ، بينما مَن عَمِل خيرا ، بأيّ نوع من أنواع الخير ، من ذكر أو أنثي أي من عموم الناس ، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام ، فهؤلاء تُضَاعَف لهم أجورهم أضعافا كثيرة علي قدْر تأثير أعمالهم وأقوالهم وإتقانها ونَفْعها وحُسْن النوايا بالعقل أثناء فِعْلها ونحو ذلك ، وهم يدخلون الجنة بما يناسب درجات أعمالهم ويزيد عنها كثيرا حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ، ويأتيهم فيها كلّ أنواع الأرزاق الوفيرة الهنيئة بمجرّد أن تخطر علي بالهم ويَتمنّونها .. هذا ، ومَن يعمل خيرا ما وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا ! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالك الملك كله ! .. " .. بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿40﴾ " أيْ هذه الأرزاق تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا مَن أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب
ومعني " وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴿41﴾ " ، " تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴿42﴾ " أيْ ويستمرّ في دعوة قومه بكلّ حِكمةٍ وموعظة حَسَنة وفي ندائهم لكلّ خيرٍ مُحِبَّاً لهم ومُشْفِقَاً عليهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن ، فيسألهم مُتَعَجِّبَاً ومُسْتَغْرْبَاً ورافضاً التناقُض بين حاله الخيريّ وحالهم الشريّ أنْ أخبروني ما لي أراكم أني أدعوكم إلي كل ما يُؤدّي إلي النجاة وأنتم تدعونني إلي الهلاك ؟! ثم يُفَسِّر ويُوَضِّح ذلك فيقول كيف أدعوكم إلي طريق النجاة من أيّ سوءٍ في الدنيا والآخرة وللسعادة فيهما تمام السعادة من خلال الإيمان بربكم والعمل بدينه الإسلام وعبادة المُسْتَحِقّ وحده للعبادة الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه العزيز الغفار ، أي الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المَتين مالِك المُلك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، الغفار أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتعلقا بهم الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ ، بينما أنتم في المُقَابِل تدعونني لعكس ذلك تماما حيث تعاسة الدنيا التامّة ونار الآخرة الخالدة ؟!! تدعونني إلي أن أكفر بالله أي لا أصَدِّقَ بوجوده وأكذب دلالات ذلك في كل مخلوقاته في كوْنه وأكذب بالمُعجزات التي يأتي بها رسله والتشريعات منه التي تُسْعِد دنيانا وأخرانا وتدعونني أيضا لأن أشرك به أي أعبد وأطيع آلهة غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو بَشَر ضعفاء يُصيبهم المرض والفقر والموت مثلنا وكلها لا تنفع ولا تمنع ضَرَرَاً وليس لها أيّ صفةٍ مِن صفات الكمال التي يَتَّصِف بها الإله وتدعونني لأن أشرك بالله ما ليس لي به علم أيْ أعبد إلاهاً غيره ليس لي أيّ دليل علي صِحَّة أنه إله يستحقّ العبادة لأعبده وهذا من أقبح أنواع الجهل والسَّفَه والسوء !!
أما معني " لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿43﴾ " أيْ لا شَكَّ وحقاً أنَّ آلهتكم التي تدعونني لعبادتها سواء أكانت أصناما أم كواكب أم غيرها ، كلّ إلهٍ منها هو باطل أيْ مُنْعَدِم ليس له قيمة أو وزن لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لعجزه ونقصه ، فهو ليس له دعوة يستحِقّ أن يدعوه بها أحد لأنه لن يجيبه قطعا إلي ما سأله إياه لأنه لا يملك شيئا من أمره فهو مخلوق مثله بل هو أقوي منه فكيف يُجيبه لما يُريد حين يلجأ إليه ؟! كما أنه ليس له دعوة بمعني عبادة يستحِقّها أو يستحِقّ أن يدعو أحد غيره له لعبادته أو أن يدعو هو بذاته الخَلْق لكي يعبدوه لأنه ليس له مُطلقا أيّ صِفَةٍ من صفات الألوهية كالقدْرة التامّة علي كلّ شيءٍ والعلم التامّ به وغير ذلك من صفات الكمال والتي هي لله تعالي وحده الخالق الرازق المُدَبِّر لأمور الكوْن كله بكل حِكمةٍ دون أيّ عَبَث .. " .. وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿43﴾ " أيْ ولا شكّ أيضا أنَّ مصيرنا ومَرْجعنا جميعا كلّ البَشَر بعد موتنا إلى الله تعالي خالقنا يوم القيامة ليُجازِي كلّ عاملٍ بعمله إنْ خيرا فله كلّ الخير والسعادة وإنْ شَرَّاً فله عقابه بما يُناسب شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، ولا شكَّ كذلك أنّ المُسْرِفين أيْ المُبالِغين في الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أنواعها المُكْثِرين منها هم أهل النار المُلازِمين لها .. وهو بالتأكيد يقصد أيضا ضِمْنَاً توجيه ونُصح فرعون وأعوانه لأنهم حتما منهم بل قادتهم .. وهذا أسلوب من أساليب الدعوة غير المباشرة يُفيد كثيرا مع الظالمين المُستكبرين يستخدمه الداعي عندما يحتاجه حسب تقديره .. فليُحسن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد لذلك الرجوع بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ
ومعني " فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿44﴾ " أي هذا الذي أنصحكم به بكلّ صدقٍ وإشفاق وحب ، إنْ صدّقتموه فقد سَعِدتم في الدنيا والآخرة ، وإنْ كذَّبتموه فسيأتي يومٌ ستعلمون فيه صِدْق ما أقوله لكم وستتذكّرون أني قد نصحتكم بكلّ ما أمكن مِن خير ، وذلك مع الوقت وتَغَيُّر الأحداث ، أو حين ينزل بكم العذاب في دنياكم وأخراكم لو ظللتم علي تكذيبكم وعِنادكم وستَندمون وقتها حيث لن ينفع أيّ نَدَمٍ ، فاستفيقوا إذن الآن وعودوا لربكم قبل فوات الأوان .. " .. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ .. " أيْ وأنا أسَلّم أمري إلي الله تعالي وأجعله له وأتوكّل وأعتمد عليه وأستعين به فإنه الكافي لمَن يفعل ذلك .. " .. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿44﴾ " أيْ هو يَرَيَ بكامِل الرؤية كلّ خَلْقه وكلّ شيءٍ فله كلّ صفات الكمال الحُسني وبالتالي سيَحْمِي قطعاً من المَكَارِه كلّ مَن يلجأ إليه وسيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، في دنياهم ثم أخراهم
ومعني " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴿45﴾ " أيْ فكانت نتيجة إيمان هذا الرجل وحُسن دعوته لقومة بالموعظة الحَسَنة وجَهْره بكلمة الحقّ بكلّ حكمةٍ أمام أكبر المُسْتَبِدِّين الظالمين المُتكبرين في عصره فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلي وتسليمه أمره لله واستعانته التامّة به وتوكّله عليه ، أنْ حَفِظَه الله تعالى وحَمَاه ونَجَّاه من النتائج السَّيِّئة والشدائد للمَكْر أيْ الكيْد والتدبير السَّيِّء الذي كانوا يَمكرونه ويُريدون به كلّ أنواع الإيذاء له .. " .. وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴿45﴾ " أيْ ولم يَحفظه سبحانه فقط بل وأيضا أحاط بعائلة فرعون وأعوانه الظالمين العذاب السَّيِّء الشديد ، في دنياهم حيث الغَرَق وعذابه ، وفي أخراهم أسوأ درجات النار
أما معني " ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴿46﴾ " أيْ هذا بيانٌ لسوء العذاب الذي أحاط بهم بعد موتهم حيث أرواح فرعون وأقاربه وأعوانه ، وكذلك كلّ مَن يُشبههم في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، وهي في قبورها إلي أن تقوم الساعة ، تُعْرَض أي تُمَرَّر غُدُوَّاً وعَشِيَّاً أيْ صباحا ومساء – وقد يُفيد ذلك ضِمْنَاً أنَّ هذا الاستعراض يكون مُتَّصِلاً علي الدوام حيث ليس هناك تحديد للوقت – لكي تُشاهِد درجة النار التي ستدخلها لتَتَعَذّب برؤيتها ، ثم يوم القيامة يدخلون بالأجساد والأرواح معا إلي أشدّ العذاب وأعظمه وأتَمّه وأخلده
ومعني " وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ﴿47﴾ " أيْ اذْكُر يا أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده وذَكِّر مَن حولك ليَتَّعِظوا فلا يكونوا أبدا مثلهم حين يَتَخاصَم أهل النار فيها ويَسُبّ ويَلعن بعضهم بعضا ويُلقِي التّهْمَة عليه لأنّ كلّاً منهم قد ضَلَّ غيره بصورةٍ من الصور وكان مُتَسَبِّبا في جزءٍ مِمَّا هم فيه مِن العذاب المُؤلم المُهين ، فيقول حينها الضعفاء التابعين للمُستكبرين المُتعالِين القادة والزعماء والكُبَراء الذين اتَّبَعوهم طَمَعَاً فيهم أو خوفا منهم وهم في تمام الرعب والألم والحَسْرَة والندَم والذلّة والاستعطاف مُتَوَهِّمين أنهم لهم مَكَانَة ما كما كانوا في الدنيا لقد كنا تابعين لكم في كلّ ما تأمرونا به من عبادة غير الله ومِن فسادٍ وشرٍّ ومُسَخَّرين لخدمتكم فهل تخدمونا الآن بأن تَمنعوا وتَتَحَمَّلوا عنا ولو جزءا من عذاب النار !!
ومعني " قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴿48﴾ " أيْ يَرُدّ عليهم المُستكبرون المُعاندون المُتعالون القادة الزعماء الكُبَراء المَتْبُوعُون ، بصورةٍ فيها تمام العجز والتيئيس والقطع لأيّ أملٍ للخروج مِمَّا هم فيه من النار ، أنهم وهم جميعا فيها كما يرون فكيف يَدفعون عنهم أيّ شيءٍ مِن عذابها ولو كان عندهم أيّ قدْرة علي ذلك لمنعوه عن أنفسهم أولا ؟! ثم لقد انتهي كلّ شيءٍ حيث الله تعالي قد حَكَمَ بين الجميع بحكمه العادل الذي لا رَجْعَة فيه ونالَ أهل الخير خيرهم وسعادتهم التامّة الخالدة في درجات الجنات وأهل الشرّ شرّهم وتعاستهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ ﴿49﴾ " أيْ وبعد أن يَئِسَ الجميع من نُصْرَة بعضهم بعضا ومِن أيّ أملٍ في أيّ خروج مِن العذاب ، تَوَجَّه كلّ الذين في النار ، مُستكبرون وضعفاء تابعون ومَتْبُوعُون ، نحو خَزَنَة جهنم ، أيْ حُرَّاسها من الملائكة المُكَلّفة من الله تعالي بعذابهم ، مُتَوَهِّمين أنها قد تنفعهم بأيّ شيء ، قائلين لها أن تسأل ربها تخفيف ولو مقدار يوم من العذاب ليرتاحوا فيه !!
ومعني " قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿50﴾ " أيْ سَأَلَتْهم الملائكة بما يُفيد الذمّ واللوْم الشديد ولِيَزدادوا حَسْرة ونَدَمَاً ولكي يُقِرُّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم ، هل لم تُحْضِر لكم رسلكم الذين أرسلهم الله إليكم كلّ البَيِّنات أيْ الدلائل والمُعِجزات الواضحات القاطِعات الدامِغات المُبَيِّنَات لوجود الله واستحقاقه وحده للعبادة وصلاحية شرعه الإسلام بنُظُمه وأخلاقيَّاته لإسعاد البَشَر لو عملوا به كله ؟ .. " .. قَالُوا بَلَىٰ .. " أيْ أَقَرُّوا واعتَرَفوا بأنهم مع كلّ تلك الأدِلّة كذبوا واستكبروا في الأرض أي تعالَوْا علي الله وعلي رسله فلم يستجيبوا بل كفروا أي كذبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض ، وما كلّ هذا إلا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿50﴾ " أيْ رَدَّت عليهم الملائكة بما يُفيد أنه لا أمل لهم أبداً في أيّ نجاةٍ من عذاب النار فقالت بما أنَّ الأمر كما اعترفتم فادْعوا إذن أنتم لأنفسكم ولن ندعوا لكم بل نَتَبَرَّأ منكم واسْتَمِرُّوا في دعائكم إلي ما شِئْتم واعلموا أنكم سواء دَعَوتم أم لم تَدعو فلن يُستجاب لدعائكم وتَوَسُّلكم للنجاة ولن تَنجوا من عذابكم وذِلّتكم لأنَّ سؤال الكافرين أمثالكم ومَن يُشبههم ما هو إلا في ضياع أيْ كأنه لم يَكُن ولا يُستجاب له
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴿51﴾ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴿52﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴿53﴾ هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿54﴾ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿55﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ مُتَوَاضِعَاً ، أي لا تَتَعَالَيَ علي الناس ولا تَحتقرهم ولا تَسْتَذِلَّهم ولا تَفتخر عليهم ولا تُسِيء إليهم بقولٍ أو فِعْلٍ يُقَلّل من شأنهم بل تَتَبَسَّط معهم في غير مَهَانَة ولا ذِلّة وتَتَوَاجَد بينهم وتتعامَل معهم وتسأل عنهم وتدعو لهم وتُحْسِن إليهم في الأقوال والأعمال وتَحفظ حقوقهم وتهتمّ بمشاعرهم الإنسانية وتُعينهم وتَخدمهم وما شابه هذا من علاقاتٍ طيّبة ، بهذا يتعاون الجميع ويَرْقون ويَقْوُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم ، بينما بالتّكَبُّر والتَّعَالِي والاحتقار والإذلال والتفاخُر والتَّبَاهِي والإساءة في الأقوال والأعمال والإضاعة للحقوق والإيذاء للمشاعِر ونحو ذلك من شرور يَتباغضون ويَتنازعون ويَتصارعون ويَضعفون ويَقتتلون ويَتعسون في الداريْن
هذا ، ومعني " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴿51﴾ " أيْ نحن الله تعالي خالق الخَلْق كامل الصفات الحُسنيَ القادر علي كل شيء الذي بمجرد أن يقول لأيّ شيءٍ كُن فيكون كما يريد ، قد قَضَيْنا وحَكَمْنا وانتهَيَ الأمر وُفرِغَ منه وتأكَّدَ وثَبتَ يقيناً بلا أيّ شكٍّ ولا أيّ تغييرٍ ، أنَّ النتائج والنهايات الحَسَنة الطيِّبة المُسْعِدَة مِن نَصْرٍ وغَلَبٍ وفوزٍ ونجاح ونحوه في الدنيا والآخرة هي دائما وحتما لرسلنا ومَن يؤمنون بهم ويَتَّبِعونهم .. فهل هناك مثلا رسول أرسله تعالي وتَرَكَه وخَذَلَه وانهزم نهائيا هو ومَن معه مِن جُنْدِ الله في الأرض الذين يَنشرون دينه ويتمسّكون به ويُدافعون عنه وُقضِيَ علي الإسلام ؟!! هل حَدَثَ مِثْل هذا أبدا ؟!! .. وفي الآية الكريمة بشارة عظيمة للمسلمين المتمسّكين بكلّ أخلاق إسلامهم بتمام السعادة والمَكَانَة في دنياهم ثم " .. وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴿51﴾ " أي وأيضا في يوم القيامة ينصرهم بالقطع بما هو أعظم وأروع نصرا حين يقوم الأشهاد ، جمع شهود والتي هي جمع شاهِد ، حيث يقوم ويأتي الذين سيَشهدون بالحقّ بكلّ ما حَدَثَ علي كلّ إنسانٍ سواء أكان هؤلاء الشهداء مِن الرسل الكرام أم الملائكة التي كانت تُسَجِّل الأعمال أم البَشَر الصالِحين العادِلين أم أعضاء الجسد أم نحو هذا بحيث تَكْتَمِل كلّ جوانب المُحاكَمَة العادِلَة ويتمّ القضاء بين الجميع بالحقّ أي بالعدل دون أيّ ذرّة ظلم فلا تُنْقَص أيّ حَسَنَة مِن الحَسَنات ولا تُزادُ أيّ سيئة من السيئات لأيِّ أحدٍ عند أعْدِل العادِلين وأحْكَم الحاكِمين سبحانه ليأخذ كلٌّ حقّه كاملا إنْ خيراً فله كلّ خيرٍ وسعادةٍ وفضلٍ زائدٍ بغير حسابٍ وإنْ شرَّاً فله كلّ شرٍّ وتعاسةٍ علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره أو يعفو سبحانه ويُرَاضِي مَن له حقّ عنده ليَعفو عنه ، حيث خالقهم تعالي هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه .. هذا ، ولفظ " الأشْهَاد " يُفيد أنَّ نصرهم يومها سيكون مشهودا من الجميع لعظمته وتمامه ورَوْعته وبهجته
ومعني " يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴿52﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، لا يُفيد الظالمين اعتذارُهم عَمَّا فعلوا ولن يُقْبَل منهم ولن يَتِمَّ العفو عنهم لأنها ستكون كلها أعذارا ضعيفة ساقِطة لا قيمة لها مرفوضة تماما لأنه قد فات الأوان حيث اليوم هو وقت الحساب لا وقت العمل والتصويب .. والظالمون هم الذين ظلموا ذواتهم ومَن حولهم – فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر ٍأو صنم ٍأو حجر ٍأو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ما شابه هذا .. إنهم أيضا ستكون لهم اللعنة أيْ الطرد والإبْعاد عن رحمات الله تعالي ، ولهم كلّ ما هو سَيِّء يَحدث من أسوأ دارٍ يُمكن السَّكَن فيها وهي النار بكلّ أنواع عذابها المُؤلِم المُهين
أمّا معني " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴿53﴾ " ، " هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿54﴾ " أيْ هذا مثالٌ واضحٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نَصْرِه تعالي الحَتْمِيّ المُؤَكَّد لرسله وللمؤمنين في كل زمن حتي يوم القيامة ، حيث أعَزَّ ونَصَرَ موسي ﷺ وقومه بني إسرائيل وأهلك واستأصل تماما من الحياة عدوه المُتَكَبِّر فرعون وكل أعوانه ومَكَّنهم من أراضيهم وثرواتهم .. أي لقد أعطينا رسولنا الكريم موسي كل ما يُهْتَدَيَ به من آيات ومُعجزات وتشريعات أي كل ما يُسْتَرْشَد به إلي كل خيرٍ وسعادة وعزّة ونصر في الدنيا والآخرة ، وهو التوراة ، وجعلنا هذا الكتاب ميراثا للناس يتوارثونه من بعده ينتفعون بما فيه من أخلاقيّات الإسلام المُسْعِدَة المناسبة لعصرهم .. " هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿54﴾ " أيْ هو هُدَي وتذكرة ، وأنزلناه علي موسي ﷺ لكي يكون من أجل الهُدَي والتذكرة ، لمَن أراد أن يهتدي ويتذكّر ويَسعد في الداريْن ، وهم فقط أولوا الألباب ، أي أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلة الذين يتذكّرون ولا يَنسون ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وذلك بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه بكلّ إنصافٍ وعدل .. فالأمر إذن سَهْل مَيْسُور لمن يريده بصِدْق .. أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فإنهم قطعا لا يهتدون ولا يَتَذَكّرون !!
ومعني " فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿55﴾ " أي إذا كان الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم من أننا حتما سننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، فكن إذن وكونوا أيها المسلمون من بعده من الصابرين أي الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. " أي ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ .. " أيْ ومِمَّا يُعينكم أيضا علي الصبر ، دوام استغفار الله تعالي من كل ذنب أوَّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ لتُزيلوا سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتكم بتعاسة هذا الخطأ .. " .. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ .. " أيْ وكذلك يُعينكم علي الصبر أن تُسَبِّحوا ربكم أيْ تُنَزِّهوه وتُبْعِدوه عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وأن تحمدوه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه .. " بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿55﴾ " أي في آخر النهار وأوله ، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم ، أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة .. هذا ، وتوجيه الله تعالي للرسول ﷺ بالاستغفار وهو المَعْصوم مِن فِعْل أيّ ذنب وبدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه ﷺ دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿56﴾ " أي إنَّ الذين يُجادلون في آيات الله وهي الدَّلاَلاَت والمخلوقات في كوْنه التي تدلّ على أنه إلهٌ واحد بلا أيّ شريك وعلى كمال صفاته وقدْراته ، والمُعجزات التي تدلّ على صِدْق أنبيائه ، وآياته في كُتبه التي تحمل التشريعات والأخلاقيّات التي تُسعد الناس في الداريْن تمام السعادة ، يُجادلون بغير سلطانٍ أيْ دليل جاءهم من عند الله تعالي عن طريق رسله ، وبالتالي فهم كاذبون مُعانِدون مُستكبرون مُرَاوِغون ، مِثْل هؤلاء لا يُجادلون إلا بسبب أنَّ في عقولهم كِبْراً أيْ تَعَالِيَاً وتَعَاظُماً علي الله وعلي اتّباع الإسلام حتي لا يفقدوا مَكانتهم بين الناس ويَتَسَاوُوا بهم لو عملوا بأخلاق الإسلام ولا يُمكنهم حينها استغلال جهودهم وثرواتهم ونهبها ، فهم إذن لا يُجادلون لأنّ معهم الحقّ فهم متأكّدون من كذبهم أو لأنهم يكذبون بالله أو بالرسل أو بالإسلام لأنهم يعلمون صِدْق كلّ هذا وأنه لا يمكن لأيّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يكذبه أو يُجادل فيه .. والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءَاً إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع ، ولا لأيّ كتاب منير أي وَحْي من الله واضح كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يصبه تحريف ، فهذا هو أصدق مَرْجع ، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين ، وهي غير مقبولة حتما مِن العقول المُنْصِفَة ولا مِن الفِطَر المسلمة أصلا .. " .. مَّا هُم بِبَالِغِيهِ .. " أيْ لن يَبلغوا ويَصِلُوا أبدا إلي هذا الكِبْر ، إلي أهدافه ، إلي تحقيق شيءٍ مِمَّا يريدونه مِن كِبْرهم هذا الذي في عقولهم الفاسدة ، كمنع انتشار الإسلام ونَشْر شرّهم وفسادهم وظلمهم وتَعَالِيهم علي الآخرين واستعبادهم لهم ونحو هذا ، لأنَّ العطاء والمنع بيد الله تعالى وحده ، فالحقّ دائما هو المُنتصر مع الوقت بأمر الله وباطلهم دائما هو المُنْهَزِم ، ولن تستمرّ عوامِل كِبْرهم معهم مِن قوَيَ فكرية ومالية وعلمية وجسدية وغيرها حيث سيَحرمهم منها خالقهم عاجِلاً أو آجِلاً لسوء استخدامهم لها .. " .. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿56﴾ " أيْ وبما أنَّ الأمر كذلك فعليك وعلي كلّ المسلمين إذن بالعمل بما يَحْمِي من شرور مثل هؤلاء ومَن يُشبههم وكلّ الشرور عموما سواء أكانت كِبْراً أم كفرا أم فسادً أم غيره ، وهو أن تكونوا دائما مُستعيذين بالله أيْ لاجِئين إليه مُعْتَصِمين به متوكّلين عليه فهو الذي له كل صفات الكمال القادر علي كلّ شيءٍ ومنها أنه هو السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ والبصير أي الذي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً وبالتالي سَيَحْمِي حتما مِن كلّ سوءٍ كلَّ مَن يَلْجَأ إليه ويَسأله ويستعين به
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ " أي أقْسِمُ بعِزَّتي وجَلالِي أنّ خَلْقَ السماوات والأرض بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ هو أكبر مِن خَلْق الناس وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما الناس يَتغيَّرون ويَمرضون ويَضعفون ويَشيخون ويَموتون فهي إذن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منهم ، فهل الذي خَلَقَ الأكْبَرَ لا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ وهو الناس !! وفي هذا دليلٌ ضِمْنِيٌّ علي قدْرته التامّة سبحانه علي بَعْثهم يوم الحساب من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لأنه إذا كان خَلْقهم أهْوَن وأقلّ كثيرا هكذا مِن خَلْق السماوات والأرض فإنّ إعادة خَلْقهم سيكون أكثر سهولة حيث الموادّ موجودة والطريقة أصبحت معروفة !! والله تعالي يَستويِ قطعا عنده الصعب والسهل والبدء مِن عدمٍ والإعادة فكله يكون بقول كن فيكون كما يريد ولكنه يُخاطِب البَشَر بما تفهمه عقولهم !! فمَن يَسْتَبْعِد ويَسْتَغْرِب البَعْث لماذا لا يُصَدِّقه إذن ؟! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا العمل بخُلُق التواضع وعدم التكَبُّر والتعَالِي علي الآخرين وظلمهم لأنه إذا كنتم يابني آدم ترون واقعيا أنكم لا شيء يُذْكَر بالنسبة للكوْن فلماذا تتكَبَّرون إذن ؟! .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ " أي ومع كل هذا الوضوح فإنَّ كثيرا من الناس لا يعقلون ذلك ، وهؤلاء هم الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون والذين ينسون آخرتهم ومن يُشبههم ، ولو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في هذا ، ولا يتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ولا يعلمون قيمة هذا الدين العظيم وقيمة هذه الفطرة التي تَزِن تصرّفاتهم بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، ولو كانوا يَتعَمَّقون في الأمور ويعلمون عنها بحقٍّ وليس بصورةٍ سَطْحِيَّةٍ ويستشعرونها بجدِّيَّة ، لَأَحْسَنوا التصرّف بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة .. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ أكثر يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلَّة مِن هؤلاء المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين وأشباههم يعلمون الحقّ ويُسْلِمُون في كل زمن
ومعني " وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ " أي كما أنه لا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح ، فكذلك هو الفرق الشاسِع بين المؤمن والكافر ، أي بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك العامل بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله ، وبين المُسِيء الذي يَفعل السَّيِّئات المُكَذّب بكل ذلك أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله ، فالأول قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ به ونَشَرَه لغيره ، بينما الثاني فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم ، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحْسِن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه ، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ " أي ولكنكم أيها الناس لا تَتذكَّرون هذا كثيرا بل تتذكّرونه تَذَكّرا قليلا !! لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا ، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم ، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه ، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها ، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن
ومعني " إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿59﴾ " أيْ ساعة حدوث يوم القيامة هي حتما وبكل تأكيد قادمة يوما ما لا شكّ فيها ، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها ، ولا يعلم موعدها إلا الله تعالي ، وهذا الإخفاء لها هو من مصلحة الإنسان ، من أجل دَفْع كلّ عاقلٍ لاستمرار الحَذَر والاستعداد الدائم التامّ لها طوال حياته بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام فيَسعد بذلك ، لأنه لا يَعلم متي هي ولا متي موعد موته ، لأنه لو كان يَعلم موعدهما لكان من المحتمل أن يُؤَجِّل الاستعداد لها .. والحكمة في حَتْمِيَّة مَجِيء الساعة هي لكي يتحقّق العدل والحقّ بأن يأخذ كلٌّ حقه ، فمَن عمل خيرا فله كلّ خير وسعادة وزيادة ومَن عمل شرَّاً فليس له إلا كلّ شرٍّ وشقاء يناسب شرّه بكل عدل دون أيّ ظلم ، إذ ليس من المعقول أن تنتهي هذه الحياة وهذا الكوْن المُحْكَم وهذا الخَلْق الدقيق المُعْجِز وكلّ هذه المُعجزات وكل هذه الأحداث هكذا بصورة عَبَثِيَّة فَوْضَوِيَّة ! وإنما مِمَّا يُوافِق العقل والمَنْطِق والفطرة (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ أن يَتَناسَب الختام مع بدء الحياة واستمرارها فيكون في مُنتهي الحِكمة والدقّة والعدل أيضا كما كان الكوْن والخَلْق كذلك دائما من الخالق سبحانه .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿59﴾ " أيْ ومع كلّ هذا الوضوح والمَنْطِقِيَّة للأِدلّة العقلية علي قطعية قيام الساعة والتي يَتَقبَّلها حتما كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، ورغم الصدق التامّ لكل ما أخبر به كل الرسل الكرام الصادقين وكتبهم التي أوحاها الله تعالي إليهم وآخرها القرآن العظيم والتي تُخْبِر بمَجِيئها ، لكنَّ كثيرا من الناس لا يُصَدِّقون حدوثها ، وهم المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، سواء أكانوا كافرين يُكذبون وجود الله أصلا أو كتبه أو رسله أو حسابه أو عقابه أو جنته أو ناره ، أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنام أو أحجار أو كواكب أو نحوها ، أم مَن شابههم ، الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار مُتَوَهِّمِين عدم وجود حساب لأعمالهم .. إنّ سبب عدم تصديقهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائمَ الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء مِن رعايةٍ وأمن وحب وعوْن وتوفيق وسداد ورزق فهو خالق كلّ شيءٍ ومالكه والقادر عليه .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴿60﴾ " أيْ ومِن وَصَايا ربكم لكم أيها الناس وهو مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُرْشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم أن اسألوني واعبدوني ُأعْطِكم وأتقبَّل عبادتكم فأسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. إنَّ الله تعالي سيَستجيب حتما لكلّ مَن يَدْعوه إمَّا عاجلا أو آجلا في التوقيت الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقت له ولمَن حوله ، وسيَستجيب بالصورة التي طَلَبَها تماما أو بصورة أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنه أو بكلّ ذلك ، فليس هناك إذَن دعوة خاسرة ! بل كلها مَكاسِب .. هذا ، ويُرَاعَيَ أنه لابُدَّ مِن إحسان اتِّخاذ الأسباب مع الدعاء ، فلا رزق مثلا دون سَعْيٍ حلالٍ له مهما كان شكل أو نوع الدعاء ! وهكذا مع كل صور ومُتَطَلّبات الحياة ، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام والتي كلها رُشْد وسعادة في الدنيا والآخرة .. كذلك يُرَاعَيَ أنَّ مَن يَدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُستجاب له قطعا وهو آثِم كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا ، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لابُدَّ يَنصرها العدل الكريم حتي ولو كانت من غير مسلم إقامة للعدل في الأرض ليَأْمَن الخَلْق .. هذا ، وبما أن " الدعاء هو العبادة " كما قال ﷺ فمِن معاني الآية الكريمة كذلك أنَّ الله تعالي يُجيب أي يتقبل حتما ووَعْدَاً عبادة مَن يُخْلِص له العبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴿60﴾ " أيْ أمَّا مَن استكبر عن العبادة والدعاء فلم يَسْتَجِب وتَعَالَيَ علي الله والرسل والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وكذّب وعانَد واستهزأ وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار فحتما مثل هؤلاء سيدخلون نار جهنم وحالهم أنهم داخِرون أيْ أذِلاّء مُهَانُون حَقيرون لهم كل أنواع العذاب المُؤلِم المُهِين
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿61﴾ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿62﴾ كَذَٰلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿63﴾ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿64﴾ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿65﴾ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿66﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿61﴾ " أيْ ومِن الدلالات القاطِعَة علي أنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، وأنه سيُجيب حتماً دعاء مَن يَدْعوه – كما ُذكِرَ في الآية السابقة – حيث سَخَّرَ لنفعكم ولسعادتكم كلّ الكوْن من غير أن تسألوه هذه الأمور فكيف لو سألتموه شيئا ما أقل منه كثيرا ؟! أنه كما ترون واقعيا بما لا يُمكن لأيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُكَذّبه قد جعل لكم من رحماته بكم وبكل خَلْقه ومِن حبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم تَوَالِي الليل والنهار ، وهذا التوالي لهما هو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت .. لقد جَعَلَ سبحانه الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهارٍ جديدٍ قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله ، وجعل النهار مُبْصِرَاً أي مُبْصَرَاً به أيْ مُضِيئاً بحيث تُبْصِرون فيه الأشياء ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكلّ هذا وغيره مِن أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ .. وهكذا تَوَالِي لليلٍ ونهارٍ وتَوَالِي لكلّ خيرٍ وسعادة طوال الحياة الدنيا ثم إلي تمام السعادة وخلودها في الحياة الآخرة .. " .. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿61﴾ " أيْ إنَّ الله تعالى هو صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا ، ولكنَّ كثيرا من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كل كاذِب ناكِر ، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذبون وجود الله أصلا ، أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنام أو أحجار أو كواكب أو نحوها ، أم مَن شابههم .. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب ، بأعمالهم وعقولهم وألسنتهم ، والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال .. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه ، بما استطاعوا ، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز ، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿62﴾ " أيْ ذلكم الذي فَعَلَ كلَّ هذا وأعطاكم كلّ هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ هو الله ربكم أيْ مُرَبِّيكم وراعِيكم ورازقكم ومُرْشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم ، وهو خالقكم وخالق كلّ شيءٍ في هذا الوجود ولم يَجْرُؤ أيُّ أحدٍ أن يَدَّعِيَ غير هذا فهو إذن الخالق حتي يأتي إلهٌ آخر بدليلٍ أنه هو الذي خَلَق ! وهو لا إله إلا هو في هذا الكوْن أيْ هو وحده المُستحقّ للعبادة بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿62﴾ " أي فكيف يا أيها الناس بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنصرفون وتَنحرفون كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة .. والاستفهام للتعجب وللرفض وللذم الشديد لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " كَذَٰلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿63﴾ " أيْ هكذا دائما في كل زمان ومكان يُصْرَف ويُحْرَف ويُبْعَد عن عبادة الله وعن اتِّباع الإسلام مَصْدَر الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة كلُّ مَن كان يَجحد بآيات الله ، أيْ لا يَقبل ولا يَعترف ولا يُصَدِّق بها في كتبه وآخرها القرآن العظيم ولا بآياته أيْ دَلائله علي وجوده ومُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كَوْنه ، رغم وضوحها وقطعيتها لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. ومثل هؤلاء هم السبب في أنهم يُبْعَدون عن الله والإسلام ، أيْ هم الذين يَبتعدون بأنفسهم ، باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم ولم يُكْرَهُوا علي ذلك مِن أيّ أحد ، لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿64﴾ " أيْ وأيضا مِن الدلالات القاطِعَة علي أنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه أنه جعل لكم الأرض قراراً أيْ مكان استقرارٍ وهي في ذاتها مستقرّة ليست هائجة مُضطربة ومُمَهَّدَة يسهل الانتقال فيها لكي تنتفعوا وتسعدوا بكل خيراتها ، وكذلك جعل لكم السماء بناءً أي سقفا مُحْكَمَاً لا يسقط عليكم بل يحميكم وفيه كلّ خيرٍ حيث الغلاف الجوي الذي يحفظ طاقات الأرض وهواءها لكم ويحمل الأمطار وحوله ما ينفعكم كالشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وخلقكم بعقولكم وأجسادكم علي أحسن وأنفع وأنسب صورة مضبوطة مُتَنَاسِقَة تُعينكم علي تمام الانتفاع والسعادة بكلّ الخيرات حولكم والتي هي كلها أرزاق مِنّا مِن كل أنواع الطيِّبات كالطعام والشراب واللبس والسكن والركوب وكل ما يُعينكم علي العمل والربح والترويح وغيره مِمَّا يُسْعِد .. " .. ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ .. " أي ذلكم الذي فَعَلَ كلَّ هذا وأعطاكم كلّ هذه النِعَم التي لا تُحْصَيَ هو الله ربكم أيْ مُرَبِّيكم وراعِيكم ورازقكم ومُرْشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم ، فهو إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، وهذا مزيدٌ من التأكيد والتفصيل لِمَا ُذكِرَ سابقا في الآية ﴿62﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. " .. فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿64﴾ " أيْ فتَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين ، أيْ فاسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك ، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كل شيء علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع ، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿65﴾ " أيْ ومِن صفات ربّ العالمين الذي تَبَارَك وتعاليَ شأنه وخيره أنه هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها ، وهو تعالي لا إله غيره لهذا الكوْن أيْ لا مُسْتَحِقّ للعبادة إلا هو وحده ، وبالتالي فاعبدوه أيها الناس واسألوه واعتمدوا عليه وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأخلِصوا وأحسِنوا له هذه العبادة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وتمسَّكوا واعمَلوا بكلّ أخلاق دينه الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، واحمدوه علي كلّ نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. فهو ربّ العالمين أي ربّ الخَلْق والناس جميعا أي خالقهم ومُرَبِّيهم وراعِيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بهم وبما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم .. فإن فَعَلْتم ذلك وارتبطتم بالحيّ الذي لا إله إلا هو شعرتم واستمتعتم بالحياة الحقيقية تامّة السعادة في دنياكم قبل الحياة الأتمّ سعادة والأعظم والأخلد في أخراكم
ومعني " قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿66﴾ " أيْ قُل واذْكُر يا أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده وأَعْلِن بكلّ قدْوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة للذين يعبدون غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها أنّ ربّي الخالق الكريم قد نَهانِي أي مَنعنِي وحَذّرني من عبادة غيره وحَرَّم عليّ ذلك حتي لا أتْعَس تمام التعاسة في دنياي وأخراي – وفي هذا لَفْتٌ لأنظارهم وحُسْنُ دعوةٍ لهم وتحذيرٌ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا في الداريْن – وذلك حينما جاءت البَيِّنات منه تعالي في القرآن العظيم والتي يَقبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوَافِق تماما ما فيه من فطرةٍ مسلمةٍ أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، والبَيِّنات هي كلّ الدلائل والمُعِجزات الواضحات القاطِعات الدامِغات المُبَيِّنَات لوجود الله واستحقاقه وحده للعبادة وصلاحية شرعه الإسلام بنُظُمه وأخلاقيَّاته لإسعاد البَشَر لو عملوا به كله .. " .. وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿66﴾ " أيْ وأَوْصَانِي وأَمَرَنِي في ذات الوقت بأنْ أُسْلِمَ له وهو ربّ العالمين ، أيْ ربّ الخَلْق والناس جميعا ، أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم وراعِيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بهم وبما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، وذلك بأن أتمسّك وأعمل بكل أخلاق الإسلام وأطيعها وأنْقاد وأسْتَسْلِم لها في كلّ شئون حياتي ، فإنْ فعلتُ ذلك سعدتُ في الداريْن وإنْ لم أفعل تَعِستُ فيهما
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿67﴾ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿68﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير ٍدون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿67﴾ " أيْ مِمَّا يَدُلُّ علي أنه سبحانه قادرٌ علي كلّ شيءٍ وعالِمٌ به تمام العلم وقادرٌ علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، أنه تعالي خَلَقكم أيّها الناس من تراب ، فأبوكم آدم من طين ، وأنتم جميعا من سلالته ، ثم تَتَكَوَّنون كأجِنَّة علي مراحل دقيقة في بطون أمهاتكم من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الرجل لتَتَّحِدَ مع بويضة من المرأة ، فتَتَكَوَّن عَلَقَة أي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخلي ، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون أطفالا لا تعلمون ولا تستطيعون أيّ شيء ، ثم تَبلغون أشُدَّكم أي تمام القوة العقلية والجسدية وتَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها ثم تشيخون وتضعفون ، ومنكم بالقطع من يُتَوَفّيَ قبل ذلك أي تسقطه أمه سَقْطَاً أو يتوفّى صغيرا أو شابا أو قبل الشيخوخة .. " .. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى .. " أي وكلّ هذا لكي تَحيوا وتنتفعوا وتسعدوا بحياتكم الدنيا إلي أن تَصِلوا مدّة مُحَدَّدة لكلٍّ منكم لا تزيدون عنها ولا تَقِلّون حيث تموتون ثم تُبعثون بعدها بالأجساد والأرواح يوم القيامة للحساب الختامِيّ لما فعلتم .. " .. وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿67﴾ " أيْ ولعلكم أيضا بكلّ هذا تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيه فتعبدوا ربكم وحده وتشكروه وتتوكّلوا عليه وحده وتتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم وتستعِدّوا للبَعْث وليوم الحساب وتُحسِنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا لتسعدوا فيهما تمام السعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَعَقّلِين مُتَذكّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
ومعني " هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿68﴾ " أيْ هو سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها ، مِن بَشَرٍ وغيره ، ويُميت أخري بأخذ أرواحها منها ، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه ، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مما يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف ، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم ، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ ﴿69﴾ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿70﴾ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴿71﴾ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴿72﴾ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿73﴾ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾ ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ﴿75﴾ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴿76﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ ﴿69﴾ " أيْ انظر وتَعَجَّب يا كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إلي حال الذين يجادلون في آيات الله أيْ الدَّلاَلاَت والمخلوقات في كوْنه التي تدلّ على أنه إلهٌ واحد بلا أيّ شريك وعلى كمال صفاته وقدْراته ، والمُعجزات التي تدلّ على صدْق أنبيائه ، وآياته في كُتبه التي تحمل التشريعات والأخلاقيّات التي تُسعد الناس في الداريْن تمام السعادة .. والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءَاً إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع ، ولا لأيّ كتاب منير أي وَحْي من الله واضح كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يصبه تحريف ، فهذا هو أصدق مَرْجع ، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين ، وهي غير مقبولة حتما مِن العقول المُنْصِفَة ولا مِن الفِطَر المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وبالتالي فهم حتما كاذبون مُعانِدون مُستكبرون مُرَاوِغون .. " .. أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ ﴿69﴾ " أيْ كيف يُبْعَدون هكذا عن الحقّ والعدل والخير والسعادة ويَنْصَرِفون ذاهبين نحو الكذب والظلم والشرّ والتعاسة رغم شدّة وضوح الأمور ؟! ولكنّ السبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿70﴾ " أيْ الذين يُجادلون في آيات الله والذين ُذكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ هم الذين من صفاتهم أنهم يُكذبون بالقرآن العظيم وأيضا بكل كتب الله التي أرْسل بها رسله السابقين وبكلّ سُنَنهم وطريقة حياتهم التي جاؤوهم بها شرحا وتطبيقا عمليا لهذه الكتب ليسعدوا بما فيها من أخلاق الإسلام تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، بما يعني أنهم لا يَقبلون أيّ وصيّةٍ من جهة الله تعالي وأنهم مُصِرُّون تماما علي ما هم فيه ! .. " .. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿70﴾ " أي مع الوقت سيَعلمون وسيُدركون النتائج السَّيِّئة لتكذيبهم سواء بكفرهم أو شركهم بعبادة غيره تعالي أو نفاقهم بإظهار الخير وإخفاء الشرّ أو ظلمهم واعتدائهم وعدم عدلهم أو فسادهم وشرّهم ونشرهم له أو نحو هذا من صور التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ، وذلك حين ينزل بهم نوعٌ ما مِن أنواع العقاب ، في دنياهم حيث القلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة حيث كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد .. .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم وتحذيرٌ لأيّ أحدٍ أن يفعل مثلهم
ومعني " إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴿71﴾ " ، " فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴿72﴾ " أيْ ويوم القيامة سوف يَعلم هؤلاء الذين كانوا في دنياهم يُجادلون في آيات الله ويُكذبون بكتب الله صِدْقَ ما كان يُخبرهم به رسلهم وذلك حين تُجْعَل الأغلال أي القيود والسلاسل الحديدية في رقابهم ويُجَرُّون بها وهم في مُنتهَيَ الذلّة والإهانة والاستسلام إلي حيث يُقْذَفون في عذاب جهنم بكلّ أنواعه المختلفة المُخِيفة ، وحينها لن ينفعهم أيّ تصديقٍ منهم ولا ندم حيث قد فات الأوان لأنّ الوقت وقت حسابٍ لا عمل .. " فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴿72﴾ " أيْ يُجَرُّون في الماء المَغْلِيّ الذي بَلَغَ أقصي درجات الحرارة ثم يُسْجَرُون أي يُحْرَقون ويُشْعَلون في النار ويملأونها بأجسادهم والتي ستكون في ذات الوقت مزيدا من الوقود المُشْعِل لها
ومعني " ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿73﴾ " ، " مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾ " أيْ ومع هذا الموقف المُهين العَصِيب تقول لهم ملائكة العذاب كنوع من العذاب النفسيّ مع العذاب الجسديّ علي سبيل الذمّ واللوْم الشديد ولزيادة حسرتهم ونَدَمهم سائلة إيّاهم أين الآلهة التي كنتم تعبدونها غير الله تعالي ؟! هل يمكنها أن تمنع عنكم شيئا من العذاب الأليم الذي أنتم فيه ؟! إنكم لو كنتم في دنياكم تعبدون بَشَرا مثلكم فهم معكم الآن في عذابكم ولو عبدتم أصناما وأحجارا ونحوها فهي كذلك حولكم قد أصبحت وقودا للنار ! .. " .. قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا .. " أيْ يَرُدُّون بكلّ بؤسٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ قائلين لقد ضاعوا وذهبوا وغابوا عنا ، ثم يَتَحَوَّلون عن هذا القول إلي قولٍ آخر مُتَوَهِّمين أنهم بهذا التّحَوُّل قد تتحقّق لهم النجاة ! فيقولون لم نكن نعبد مِن قبل في الدنيا شيئا يُذْكَر بل كنا مُخطئين حيث اكتشفنا وتأكّدنا الآن أنه لم يكن بشيءٍ له قيمة حتي نعبده ! أو يحاولون بهذا القول الكذب والادِّعاء بأنهم ما عبدوا هذه الآلهة مُطلقا وذلك من شدّة خوفهم ولكن بالقطع لا يَخفيَ علي الله تعالي كذبهم ! إنهم كأنهم يعترفون ضِمْنَاً بأنه لا إله إلا الله لعلهم يَنجون بذلك ولكن قد فات الأوان حيث الوقت وقت الحساب لا العمل .. " .. كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾ " أي هكذا دائما لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب للكافرين الذين يُكَذّبون وجود الله ولا يُصَدِّقون رسله وكتبه والآخرة والجنة والنار والحساب والعقاب ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، وسبب عدم التوفيق هذا أنهم هم الذين اختاروا الكفر بكامل حرية إرادة عقولهم وظلَّوا مُصِرين مُستمرّين عليه دون أيّ تراجُع (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وكلّ المُتَشَبِّهين بهم سيكونون مثلهم في مثل هذا الضلال والشقاء الشديد وسيُهْلَكون في دنياهم وأخراهم إذا لم يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا لربهم ولإسلامهم
ومعني " ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ﴿75﴾ " أيْ وتقول ملائكة العذاب لهم أيضا لمزيدٍ مِن العذاب النفسيّ مع العذاب الجسديّ علي سبيل الذمّ واللوْم الشديد ولزيادة حسرتهم ونَدَمهم ، ذلكم العذاب الذي أنتم فيه الآن يوم القيامة – وكذلك عذاب الدنيا الذي أصابكم بدرجاته المختلفة – هو بسبب أنكم كنتم في دنياكم علي الأرض تفرحون بغير الحقّ أي تُسَرُّون بكلّ ما هو ليس بحقّ أي تُسَرُّون بالباطل وبفِعْله أيْ بالتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، وتُسَرُّون وتَتَعَالون أيضا بغير حقٍّ أي بغير استحقاقٍ لهذا التّعالِي لأنكم بَشَرٌ كبقية البَشَر تنتظرون جميعا رزق ربكم ولا زيادة لكم عليهم والجميع يَمرض ويَضعف ويَشيخ ويموت فلم يكن لكم إذن أيّ حقٍّ في أن تتكبَّروا ! .. وكذلك ما أنتم فيه من عذابٍ هو أيضا بسبب مَرَحكم ، والمَرَح هو درجة أشدّ من الفرح تكون مُخْتَلِطَة بالتّعالِي علي الناس والتفاخُر عليهم واحتقارهم وعدم الاعتراف بحقوقهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفِعْل ونحو ذلك .. هذا ، والمسلمون يَفرحون ويسعدون تمام السعادة بتواصُلهم مع ربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم الأمر الذي يساعدهم حتما علي تمام السعادة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآية ﴿58﴾ من سورة يونس " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾ " ، للشرح والتفصيل) ، وهذا هو قطعا الفَرَح الذي يحبه الله تعالي لخَلْقه ويُوصِيهم به في دينه الإسلام
ومعني " ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴿76﴾ " أيْ تقول لهم ملائكة العذاب أو يقول الله تعالي لقد حقّ عليكم إذن أن تدخلوا أبواب جهنم فادخلوا كلّ مجموعةٍ من بابِ عذابٍ يُناسب شرورها ومَفاسدها وأضرارها ، فالعذاب ينتظركم علي الأبواب مُشْتاق لكم مُتَعَجِّل لإيذائكم ، وستَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنكم عذابها لحظة ، فما أسوأ هذا مِن مَثْوَي أيْ مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير للمُتكبِّرين ومَن يُشبههم ، وهم الذين تَعَالوا علي غيرهم وظلموهم وأكلوا حقوقهم واحتقروهم وأساءوا مُعَامَلتهم وتَطَاوَلوا عليهم بل وعلي الله تعالي والرسل الكرام والكتب وآخرها القرآن العظيم والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وكانوا مُكَذّبين للحقّ مُعانِدين غير مُتَّبِعين له مُستهزئين به يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴿77﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴿78﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴿77﴾ " أيْ كن أيها الرسول الكريم وكونوا أيها المسلمون مِن بَعده من الصابرين أي الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ والعمل بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. " أي ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴿77﴾ " أي وبالتالي فإنْ نُرِك أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده بعض الذي نَعِدُهم به هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من العذاب الدنيويّ بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في أثناء حياتك ليشْفِي ذلك الانتقام منهم بعض ما في صدرك من ضيق ولتسعد بالنصر والتمكين في الأرض ، فهذا سيكون خيرا وبها ونِعْمَت ، وإنْ لم يتحقّق فسيتحقّق لغيرك من المسلمين بعد أن نَتَوَفّاك ، فقُم بتأدية ما عليك ولك أجرك العظيم علي كلّ الأحوال واتْرُك التوقيت والأسلوب له سبحانه فسيأتي به في أفضل وأنْسَب وقتٍ يُحقّق لكم تمام السعادة في الداريْن ، ولو ُفرِضَ ولم يتمّ عذابهم في الدنيا بصورةٍ مِن الصور كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بدرجةٍ ما مِن درجات التعاسة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا حيث العذاب الأكيد لهم ولأمثالهم بما هو أتمّ تعاسة وأعظم ، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذن ! فاستمِرّوا في تمسّككم بإسلامكم وعملكم بكلّ أخلاقه وحُسن دعوتكم لغيركم واصبروا علي أذاهم لتسعدوا بذلك في دنياكم وأخراكم
إنَّ علي المسلم أن يكون هكذا دائما في كلّ شئون حياته متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ نتائج أيّ سببٍ سيتّخذه مِن أجل أيّ خيرٍ لابُدَّ حتما ستتحقّق يوما ما ، إنْ عاجلا أو آجلا ، إمّا فوريا أو بعد فترة قصيرة أو متوسطة أو طويلة ، وعلي حسب نوع الخير ومقداره وحالته ، وسواء رَأَيَ هذه النتائج السعيدة للخير في أول حياته أو وسطها أو آخرها ، أو حتي لم يَرَها مطلقا فيها ! فإنها ستتحقّق حتما ! فما مِن خيرٍ إلا ويؤدّي إلي خيرٍ بكلّ تأكيد ، فهذا هو وعْد الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا لأنه قادر علي كل شيء كما يقول : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. وللمسلم أجره وثوابه في الدنيا ، حيث سيَسعد بأنه دائما في كل خير ، وإنْ لم يتحقّق خيرٌ ما فسيتحقّق حتما له ولغيره خيرٌ غيره وخيرٌ آخر وخيرات كثيرات من الكريم الرزّاق ، ثم له بالقطع أجره العظيم في أخراه علي كلّ ذلك في أعلي درجات الجنات .. فالمهم أن يستمرّ دوْماً علي الخير ويحيا مِن خيرٍ إلي خير ، أمّا موعد النتائج وكيفية وأساليب تحقيقها فهذا متروك للخالق الحكيم مُدَبِّر أمور الخَلْق والكوْن علي أكمل وجه ، حيث سيختار له ولمَن حوله أفضل وأسعد الأوقات التي يُحَقّق لهم فيها نتائج أسباب الخير التي اتّخذوها سابقا ، وقد يُحقّقها بالشكل الذي كانوا يريدون أو بأشكال أخري أكثر خيرا وسعادة للجميع .. فاستمرّ أيها المسلم في تمسّكك وعملك بالإسلام ، واستمرّ في عمل كلّ خير ، واستمرّ في دعوة غيرك له ، وسيتحقّق انتشار الإسلام وانتصاره ، وستكون كلمته هي العليا أيْ سيَتّخذه الناس مَرْجعا لهم ليسعدوا ، وسيَنهزم وسيَهلك أعداؤه وكلّ مُكذب مُعانِد مُكابِر مُسْتَهْزِيء سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره .. وذلك في التوقيت الذي يراه مالِك المُلك الكريم الغفور الرحيم العزيز الحكيم الخبير صالحا مُسعدا للجميع .. وهذا في الدنيا .. ثم في الآخرة يَرْجِع كلّ الخَلْق إليه سبحانه وهو شاهِد عليم بكلّ ما يفعله كلٌّ مِن أهل الخير وأهل الشرّ ، فيُجازي كلاًّ بما يستحقّ مِن خيرٍ وجنان وسعادات أو شرّ ونيران وتعاسات
ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴿78﴾ " أيْ هذا تسلية للرسول ﷺ وللمسلمين وطَمْأَنَة وتَبْشِيرٌ لهم وعوْنٌ علي الصبر أنه ليس أمرا غريبا أو جديدا تكذيب المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين للرسل الكرام وللمسلمين وللإسلام يَدْعونهم إليه ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم ، فلقد أرسلنا رسلا كثيرين من قبلك أيها الرسول الكريم محمد ليكون لكلّ البَشَرَ رسلٌ يدعونهم للإسلام ليسعدوا وذلك لرحمتنا بهم ولحُبِّنا لهم وحرصنا علي سعادتهم ، منهم مَن قصصنا أخبارهم وأحوالهم عليك كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم ، ومنهم من لم نقصص وهم كثير ، وذلك بحسب الدروس والعِبَر من القصص وعدمها ولأنَّ ما قصصناه يشمل الباقي ، فآمَن بهم كثيرون فسعدوا تمام السعادة في الداريْن ، ولم يُصَدِّقهم أيضا كثيرون فتَعِسوا تمام التعاسة فيهما .. " .. وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .. " أيْ ولم يكن أبدا وما يَصِحّ وما يَستقيم لأحدهم أن يأتي بآية ، أيْ معجزة خارقة للعادة للدلالة علي صِدْقه كعَصَيَ موسي ﷺ مثلا أو وَحْي فيه تشريعات تُنَظّم حياة البَشَر لتسعدهم ، إلا بإِذن الله أي بإرادته وأمره إذ هو الوهّاب لِمَا يشاء لِمَن يشاء ، لا مِن تِلْقاء نفسه ولا باقتراح قومه ، فلماذا إذن يقترحون عليك مُعجزات خارقات مُحَدَّدَات تأتيهم بها حتي يُصَدِّقوك يا محمد ﷺ ؟! رغم أنّ القرآن العظيم هو أعظم المعجزات المستمِرَّة لأنه الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، ثم المُعجزات الحِسِّيَّة يراها مَن حَضَرَها وينتهي تأثيرها بانتهاء عصرها وتصبح فقط ذِكْرَيَ يُعْتَبَر بها .. إنه تعالي هو العليم الحكيم الذي يعلم المعجزة المناسبة لكلّ عصر والتي تُعين البَشَر وقتها علي التصديق فهم خَلْقه ويعلم تماما ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم ، فالمشكلة إذن ليست في الآيات وإنما في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، لأنّ أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سيَسْتَدِلّ علي وجوده سبحانه مِن خلال مُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كوْنه ثم تكون الآيات التي تأتي بعد ذلك تأكيداً لما هو متأكّد منه وموجود في فطرته المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " .. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴿78﴾ " أيْ وحينما يأتي أمر الله بعذاب المُكذبين ، سواء في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة في التوقيت الذي يراه سبحانه مُناسبا لعذابهم ليَتحقّق لهم أشدّ ألم ومناسبا لِنُصْرَة أهل الخير لتتحقّق لهم أعظم سعادة ، أو في الآخرة بما هو حتما أشدّ ألما وعذابا وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد ، علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، سيُحْكَم وقتها بالعدل ، وسيكون هذا الحُكْم بالقطع هو تمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم حيث سيَأخذ كلٌّ ما يستحِقّه ، وهنالك أي في ذلك الوقت ، حتما سيَظهَر تماما خسارة المُبطلون أيْ أهل الباطل المُتمَسِّكون العاملون به ، أيْ أهل الشرّ والفساد الذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، حيث سيكون لهم تمام العذاب والتعاسة بما يُناسِب أفعالهم ، وسيَظهر في المُقابِل تماما مَكْسَب أهل الحقّ حيث تمام الخير والسعادة
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿79﴾ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿80﴾ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ ﴿81﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿79﴾ " أي مِن نِعَم الله عليكم أيها الناس والتي لا تُحْصَيَ أنَّه سبحانه قد جَعَلَ لكم بقدرته وعلمه أي أوْجَدَ مِن عدمٍ لمنفعتكم ولسعادتكم أنعاما كثيرة أي حيوانات والتي هي نِعَم لكم كالإبل والبقر والغنم وغيرها تَتَمَلّكونها وتنتفعون تماما بكل منافعها المختلفة وجعلها مُسَخَّرَة تماما مُنْقَادَة طائِعَة لكم لصغيركم وكبيركم فيكون منها ما تركبونه لتنتقلوا من مكان لآخر ومنها ما تأكلون لحومه فتنتفعون وتسعدون بكل ذلك ، ولقد كان من المُمكن جَعْلها كلها مُفْتَرِسَة كما هي بعضها لا تَقْدِرون عليها ولا تنتفعون بأيٍّ من منافعها .. فهل عَمِىَ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن الذين ذكِرُوا في الآيات السابقة عن مظاهر قدْرة الله ونِعَمِه هذه ولم يَرَوا بأعينهم ولم يَعلموا ويَتَدَبَّروا بعقولهم ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنه التعطيل لها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿80﴾ " أيْ وأيضا جَعَلَ لكم فيها منافع أخري كاستخدام أصوافها وجلودها وعظامها وألبانها وغيرها في الاستخدامات والصناعات المختلفة .. " .. وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿80﴾ " أيْ ومِن منافعها كذلك أنكم تستعملونها لكي تَصِلُوا عليها لتحقيق حاجاتكم التي في عقولكم والتي لا يُمكن تحقيقها إلا بصعوبة شديدة كحَمْل الأمتعة وبعض التجارات في بعض الأماكن غير المُمَهَّدَة ولمسافات غير قريبة وما شابه هذا ، وذلك غير الركوب لمسافات مُعتدلة كالمقصود في الآية السابقة .. " .. وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿80﴾ " أيْ وعلى هذه الدوابّ التي تُرْكَب في البَرّ وعلى السفن في البحر تُحْمَلون أيْ يَحملكم الله الذي سَخَّرَ لكم كلّ هذا وسَهَّلَ أسبابه بقدرْته وأعطاكم العقول والقوَيَ المختلفة لتنتفعوا ولتسعدوا به .. فاعبدوه واشكروه وحده
ومعني " وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ ﴿81﴾ " أيْ وهو سبحانه في كلّ وقتٍ يُريكم آياته أيْ مُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كوْنه والتي تدلّ بلا أيّ شكّ على تمام قدْرته وعلمه وأنه هو المستحِقّ وحده للعبادة ، فأخبرونا عن أيِّ آيةٍ من هذه الآيات لا تعترفون بدلالاتها علي ذلك !! وهى كلها في مُنتهي الوضوح بحيث لا يُنكرها من له أقلّ عقل ! إنكم لا تقْدِرون مطلقا علي عدم الاعتراف بأيٍّ من آياته تعالي ، إلا أنْ تُكذبوا وتُعانِدوا وتُكابِروا ! .. وفي هذه الآية الكريمة تَعَجُّب من حالهم السَّيِّء وذمٌّ شديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿83﴾ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴿84﴾ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ " أيْ هل هؤلاء المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون لم يَتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها ؟! .. وفي هذا السؤال في الآية الكريمة توسيع لدائرة التدبُّر ، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته ، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه .. " .. كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ " أيْ لم يكونوا ضعافا بل كانوا كثيري العَدَد شديدي القُوَيَ من كل أنواعها الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها ، وكانوا شديدي الآثار أي تركوا آثارا كثيرة لأنهم كانوا كثيري الإثارة للأرض أي التقليب لها وحرثها وحفرها وتهييجها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها ، وكانوا كثيري التعمير لها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا .. لكنَّ كل هذا الذي كسبوه وعملوه من قوة لم يستطع أن يُغني عنهم أي يَنفعهم ويَنصرهم ويَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب ذنوبهم أي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم !! .. فمَن كان أضعف منهم فليكن إذن أكثر حذرا فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب !
ومعني " فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿83﴾ " أيْ فحين جاء الرسل لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وأحْضَروا لهم البَيِّنات أيْ كلّ الدلالات والمُعِجزات الواضحات القاطِعات الدامِغات المُبَيِّنَات لوجود الله واستحقاقه وحده للعبادة وصلاحية شرعه الإسلام بنُظُمه وأخلاقيّاته لإسعاد البَشَر لو عملوا به كله .. " .. فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ .. " أيْ قَابَلُوا ذلك بكلّ فَرَح أيْ غرور وتَعَالِي واحتقار واستهزاء واستغناء وعدم اهتمامٍ أو احتياج لِمَا جاءهم به رسلهم وإيذاء بالقول والفِعْل وما شابه ذلك من شرور ومَفاسد وأضرار ، مُعْتَبِرين ومُدَّعِين مُتَوَهِّمِين أنَّ ما عندهم من العلم – وهو مُعتقداتهم الفاسِدة المَوْرُوثة من آبائهم بعبادة غير الله تعالي – هو الأفضل لهم في حياتهم وليس ما يأتيهم به الرسل الكرام من عند ربهم الذي هو خالقهم والأعلم بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ! .. وما ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿83﴾ " أيْ وأحاطَ بهم وحَلَّ ونَزَلَ مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع ، بسبب استمرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وعدم اتِّباعهم للإسلام ، عذاب في الدنيا بدرجةٍ ما مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة
ومعني " فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴿84﴾ " ، " فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾ " أيْ فلمَّا شاهَدَ وعايَنَ المُكذبون عذابنا النَّازِل بهم واقعيا ، وهو عذاب الاستئصال التامّ من الحياة بفيضانات أو زلازل أو صواعق أو نحوها (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ قالوا حينها بخوفٍ شديد واستعطافٍ لعلهم يَنْجُون آمَنَّا أيْ صَدَّقنا وأقْرَرنا واعترفنا بأنّ الله وحده هو المُستحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وكذبنا بما كنَّا به مشركين مِن عبادةِ غيره واعتمادٍ عليه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها وتَبَرَّأنا منها كلها .. " فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأَوا بَأْسَنا .. " أيْ مِثْل هؤلاء بالقطع لا ينفعهم هذا النوع من الإيمان ولا يُنجيهم من العذاب لأنه لم يكن إلا محاولة يائسة أخيرة للنجاة منه وليس إيمانا حقيقيا صادقا وهو ما لا يَخْفَيَ علي صاحب أقلّ عقل ويعلمه قطعا علاّم الغيوب الذي يعلم أسرار ودواخل عقول البَشَر سبحانه ، فهو إيمان الاضطرار وليس الاختيار ، مثل إيمان فرعون حينما أدْرَكه الغَرَق فلم ينفعه بأيّ شيء .. أمَّا مَن يُؤْمِن منهم مع درجاتٍ أخَفّ من العذاب الذي هو أقلّ من الاستئصال فيَقْبَله الله منه حتما ، بل هذا هو هدف العقاب أصلا أن يَستفيق المُعَاقَب ، كما حَدَثَ ذلك واقعيا كثيرا ، ويكون بالتالي قد استفادَ مِن هذا العذاب المُعْتَدِل بصوره المختلفة كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع مع الآخرين أو ما شابه هذا وعادَ لربه ولإسلامه ليَسعد في الداريْن .. " .. سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ .. " أي هذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما في كلّ السابقين الذين مضوا وذهبوا وانتهوا قبل ذلك ، ولن تتبَدَّل أيْ تَتَغَيَّر مطلقا في أيّ زمانٍ ومكان إلي يوم القيامة ، أنَّ الإيمان لا ينفع عند نزول عذاب الاستئصال وأنَّ العذاب بدرجاته المختلفة لا بُدّ أن ينزل يوما ما علي مَن يستحِقّه ، فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَعُد لله وللإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه قبل فوات الأوان .. " .. وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾ " أيْ وحين يَنْزِل العذاب المُهْلِك سيَظْهَر وقتها بكلّ وضوح وبلا أيّ شكّ خسارة وهلاك الكافرين المُصِرِّين علي كفرهم إلي أن نَزَلَ بهم العذاب – لأنهم في الأصل دوْما خاسرون تُعَساء ببُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولكنّ الخسارة ستَتّضِح وتُعْلَن وتَصِل لأعلي درجاتها – أيْ المُستمِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وعدم اتِّباعهم للإسلام وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار ، فهذا الخُسْران الشديد والهلاك هو النتيجة الطبيعية المُتَوَقّعَة لهؤلاء وأشباههم حيث قد تعسوا في دنياهم تمام التعاسة ثم فَقَدَوا كلَّ شيءٍ مِمَّا كان يجمعونه من أموال ومناصب وغيرها ولم تنفعهم وتمنع عنهم عذابهم ، لا هي ولا الآلهة التي كانوا يَتَوَهَّمون أنها تنصرهم وتُعينهم ، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما التعاسة الأتمّ والأعظم والأخلد
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿2﴾ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿3﴾ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿4﴾ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿5﴾ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿6﴾ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿7﴾ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿2﴾ " أي هذا القرآن العظيم هو التنزيل الذي أنزله خالِق الخَلْق تعالي الذي يعلم تمام العلم كل ما يُصلح حالهم ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. هذا القرآن العظيم المُعْجِز هو ليس مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ أو عالم أو غيره كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله الرحمن أي الكثير العظيم الواسع الرحمة ، الرحيم أي الدائم الرحمة ، فهو من تمام رحمته التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم تمام السعادة أنزله وأوحاه إلي رسوله الكريم محمد ﷺ ليُبلغه إليهم بما فيه من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة
ومعني " كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿3﴾ " أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم فهو كتاب مَكتوب مُدَوَّن يُرْجَع إليه في كل وقت أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته للناس جميعا ومن صفاته أنه قد فُصِّلَت آياته أيْ بُيِّنَت ووُضِّحَت وجُعِلَت مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بأخلاقه كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم ، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكان وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول ﷺ : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ﴿أخرجه مسلم﴾ .. " .. قُرْآنًا عَرَبِيًّا .. " أيْ جعلناه قرآنا أيْ كتاباً مَقْرُوءَاً عربيا ، أي باللغة العربية ، لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. " .. لقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿3﴾ " أيْ لهم هم فقط بمعني أنه لا يُدْرِك أهميته وفوائده وسعاداته ويَنتفع ويَسعد بها في دنياه وأخراه إلا فقط الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم ، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿4﴾ " أيْ صفة هذا القرآن العظيم وحاله هو كوْنه دائما مُخْبِرَاً للناس بالأخبار السارَّة المُبَشِّرَة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بكلّ ما فيه من أخلاق ، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه .. " .. فأعرض أكثرهم .. " أيْ ورغم كل هذا الوضوح للحقّ لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، إلاّ أنَّ كثيرا من الناس أعْرَضوا عنه ! وهؤلاء هم الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون ، أي أعطوه ظهورهم والتفتوا وانصرفوا وابتعدوا عنه وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! .. " .. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿4﴾ " أيْ ولا يستمعون بالتالي له سماع تَعَقّل وتَعَمُّق وتَدَبُّر فينتفعون بما يسمعونه فيؤمنون بربهم ويتمسّكون بإسلامهم لكي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، أي كأنهم لم يسمعوا شيئا ! وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا ذمّ ولوْم شديد لهم ولأمثالهم وتحذير مِن التَّشَبُّه بهم لتَجَنُّب تعاساتهم في الداريْن
أمّا معني " وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿5﴾ " أيْ وقال المُعْرِضُون ، أيْ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، للرسول ﷺ ولكلّ مَن يدعوهم للإسلام مِن بعده ، بما يَدلّ علي تمام إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وكمحاولةٍ لن تنجح قطعا لتَيْئيسهم من دعوتهم لله وللإسلام ، قلوبنا أي عقولنا في أكِنَّةٍ أيْ أغْلِفَة – جمع كِنان – وفي آذاننا وَقْر أيْ ثِقَل في السمع أيْ صَمَم وبيننا وبينكم حاجز ومانع فأنتم علي دينٍ وحالٍ غير حالنا ، فليس هناك إذن أيّ أملٍ في أن نسمع أو نعقل منكم أيّ شيءٍ أو نستجيب لكم ولا التقاء بيننا وكلٌّ منّا في طريق غير الآخر ! .. " .. فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿5﴾ " أي وبالتالي فاعْمَل بدينك أيها المسلم ولإلهك ولإبطال عبادتنا ونحن في المقابل نعمل بديننا وله ولآلهتنا ونُهَدِّدكم بأننا نعمل لِعَدائكم ولإبطال دعوة الإسلام وإهلاكم ولن نتّبعكم ، فكما أنكم راضون بالعمل بدينكم فإننا أيضا راضون كلّ الرضا بالعمل بديننا ! وهذا من أعظم الخُسران والضياع حيث رضوا بالضلال عن الهدى واستبدلوا الكفر بالإيمان والخير بالشرّ والسعادة بالتعاسة في الدنيا والآخرة ، وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿6﴾ " أيْ اذكر لمِثْل هؤلاء المُكذبين ورُدّ عليهم أيها الرسول الكريم – وأيها المسلم – أنك مثلهم بَشَر لا يُمكنك أن تجبرهم علي الإيمان لأنهم هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الطريق الذي هم فيه والإصرار عليه كما ذَكَروا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني .. ثم برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فماذا تفعل إذن مع مِثْل هؤلاء المُصِرِّين ؟! كما أنك لا يُمكنك أن تُنْزِل أنت بهم العذاب من عندنا والذي يستعجلونه ويطلبونه استهزاءً وتكذيبا به لأنك بَشَر مثلهم ! وأيضا فأنت لست مثلا من جنسٍ آخر غير البَشَر بحيث يَتَحَجَّجون بأنهم لا يُمكنهم تَلَقّي الإسلام منك لأنهم لا يفهمونك !! بل أنت كبَشَرٍ مثلهم مُطَالَب أيضا بما تدعوهم إليه وما ازددتَ عنهم أيها الرسول الكريم إلا بأنك يُوحَيَ إليك ما مُلَخّصه أنّ الله تعالي واحد ليس معه أيّ شريك ، فلْيَتَّبعوك إذن لأنك رسولنا بهذا الوحي ، ولتعبدوه جميعا أيها الناس وحده ولتُخْلِصوا له ولتشكروه ولتتوكّلوا عليه وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، وإذا أردتم أن تسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم فعليكم بالتالي أن تستقيموا إليه أيْ تسيروا مُسْتَقِيمين بلا أيّ انحرافٍ مُتَوَجِّهين إليه ومُخلِصين له سبحانه ومُتَّجِهين نحوه وواصِلين إلي حبه وعوْنه وخيره وسعادته في طريقه طريق الإسلام ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن ، بكلّ استقامةٍ دون أنْ تنحرفوا عن أخلاقه والعمل بها كلها ، وإلا لو ابْتَعَدتم عنها لَتَعِسْتم فيهما تعاسة تُساوِي قَدْر ابتعادكم وانحرافكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار ، وعليكم وأنتم في هذا الطريق المُسْعِد أن تستغفروه أوَّلا بأوّل من أيّ شرورٍ قد وقعتم أو تقعون فيها بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ .. ثم أخبروهم أيضا أنَّ الوَيْل أيْ الهلاك والعذاب والتعاسة في الدنيا والآخرة للمشركين ومَن يشبههم الذين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو نحوها
ومعني " الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿7﴾ " أيْ ومِن أهم وأول صفات المشركين السيئة هم ومَن يُشبههم ، والتي علي كل مسلم حتما أن يتجنّبها وإلا لم يكن مسلما أصلا ، أنهم لا يُؤْتُون الزكاة أيْ لا يُعطون ولا يُؤَدّون ولا يَفعلون ما يُزَكِّي عقولهم ومشاعرهم ويُطهِّرها ويُنَمِّيها ويُنْعِشها ويُسعدها في دنياها وأخراها وهو الإيمان أيْ التصديق بوجود الله تعالي وما يَتْبَعه من التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام والتي منها الإنفاق من مالهم وجهدهم وصحتهم ووقتهم وفكرهم وغيره مِمَّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير بما يُسعدهم ومَن حولهم ، فهم لا يعترفون ولا يُقِرُّون بكلّ ذلك ! .. والزكاة في اللغة العربية مأخوذة من التزكية أيْ التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمُعاملات .. " .. وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿7﴾ " أيْ وأيضا هم يكفرون بلقاء الله في الآخرة ، أيْ لا يُصَدِّقون بوجودها وبالبعث بعد الموت بالأجساد والأرواح وبحسابه سبحانه وبعقابه وبجنته وبناره ، بل وبعضهم يُكَذّب بوجوده هو ذاته !! تعالَيَ عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. وهذا مِمَّا دَفَعَهم لفِعْل كلّ هذا السوء إذ يَتَوَهَّمون أنْ لا حساب ! .. وما كلّ ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿8﴾ " أيْ وفي مُقابِل سوء حال وتعاسة المُكذبين في دنياهم وأخراهم الذين ُذكِرُوا في الآيات السابقة ، فإنَّ الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله تعالي وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبكتبه وآخرها القرآن العظيم وبآخرته وبالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ، وكان أثر إيمانهم أنْ عملوا الصالحات أيْ تمسّكوا وعملوا بكلّ أخلاق الإسلام التي توصيهم بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، مثل هؤلاء حتما لهم من الله خالقهم الكريم الوهّاب أجر أيْ جزاء وعطاء في مقابل ذلك غير مَمْنون أيْ غير مُنقطع ولا مَنقوص بل دائم وفي ازدياد وغير محسوب ، في حياتهم الدنيا إذ هم دائما في كلّ خيرٍ وسعادة بارتباطهم بربهم وبإسلامهم حيث تمام الحقّ والعدل والصواب والعوْن والتوفيق ، كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق : " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ﴿النحل : 97﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، ثم حتما في آخرتهم سيكون لهم عطاء مستمرّ مُتزايد بغير حسابٍ في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بَشَر
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿9﴾ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ﴿10﴾ ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴿11﴾ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿9﴾ " أي اسألهم أيها الرسول الكريم ، وأيها المسلم ، اسأل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ، علي سبيل الرفض والتَّعجُّب ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، اسألهم هل تعلمون بمَن تكفرون ؟! هل تدْرون فظاعة جريمتكم ؟! هل أنتم تكفرون بالله تعالي الذي أوْجَدَ الأرض مِن عَدَمٍ في يومين – قد يكونا مثل أيام البَشَر أو غيرها – بكل ما فيها من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ ونِعَمٍ وخيراتٍ وكلها مُسَخَّرَة لنَفْع وسعادة الإنسان ؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز !! إذن فهو وحده الخالق !! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! .. إنه سبحانه يقول للشيء كُن فيكون كما يريد ، وكان مِن المُمْكِن خَلْق كلّ الخَلْق بكلمة كُن ، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يُحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن .. " .. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا .. " أيْ والأعْجَب أنكم لم تكتفوا بكفركم وعدم تصديقكم بوجود الله وفقط بل أيضا جعلتم له أمثالا وشركاءَ تُساوونهم به سبحانه وتعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو غيرها !! .. " .. ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿9﴾ " أيْ هذا الذي خَلَقَ كل هذا الخَلْق المُعْجِز والقادر علي كل شيءٍ والعالِم به وهذا الذي تجعلون له أندادا هو الله رب العالمين أي خالقهم ومُرَبِّيهم وراعيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم ، فكيف يجوز أن يكون له نِدّ ؟! هل يكون المَملوك العاجز الذي لا يَقْدِر على شيءٍ نِدّاً لمالِكه القادر عليه ؟! .. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فاستيقظوا واستفيقوا وعودوا له ولدينه الإسلام لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ﴿10﴾ " أيْ وأيضا مِن مَظاهِر كمال قدْرته سبحانه علي كل شيء وتمام نِعَمه علي خَلْقه أنه أوْجَدَ في الأرض ما يُبقيها راسِيَة ثابتة ، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها ، حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة ليتمكنوا مِن السَّكَن بأمان علي سطحها والعيش فيها والانتفاع بخيراتها والسعادة بها .. " .. وَبَارَكَ فِيهَا .. " أيْ أكثر خيرها من كل أنواع الخيرات النافِعات المُسعدات .. " .. وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ﴿10﴾ " أيْ حَدَّدَ وَوَازَنَ مَقادير أرزاقها المُتَعَدِّدَة التي فيها والتي سيَسألها ويَطلبها السائلون من كلّ أنواع الأرزاق لجميع الخَلْق بحيث تكون سواءً لهم أيْ مُساويَة ومُسْتَوِيَة أيْ تامّة لطلباتهم واحتياجاتهم وفيرة مُهَيَّأَة كافِيَة مُسْعِدَة إلي يوم القيامة ، وقد فَعَلَ ذلك سبحانه في يومين آخرين إضافة لخَلْق الأرض في يومين فيكون المجموع أربعة أيام ، ويتبقّيَ يومان لخَلْق السموات كما سيأتي في الآية ﴿12﴾ ﴿انظر تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ ، لأنه لو كان تحديد الأقوات وحده في أربعة أيام وخَلْق الأرض في يومين ثم السموات في يومين آخرين كما في الآية ﴿12﴾ لكان المجموع ثمانية أيام وهو ما يُخَالِف ما وَرَدَ في آياتٍ أخري من أنه تعالي قد خَلَقَ السموات والأرض وما بينهما من كل المخلوقات في ستة أيام .. هذا ، ومن معاني سواء للسائلين أيضا أنَّ هذا قد حَدَثَ في أربعة أيامٍ سواء ، أيْ مُستوية أيْ قد اسْتَوَت أي اكتملت تماما هذه الأيام الأربعة دون نقصان أو زيادة ، وذلك لأيِّ سائلٍ يسأل عن مدة خَلْق الأرض وتَهْيِئَة أقواتها والبركة فيها فها هي الإجابة أنها أربعة أيام تامّة
ومعني " ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴿11﴾ " أيْ ثم بعد خَلْق الأرض وأرزاقها قَصَدَ وتَوَجَّهَ سبحانه إلي تسوية السماء وخَلْقها حيث كانت موادّها الخامّ وذرَّاتها مثل الدخان أي البخار والغبار فخَلَقها سبحانه سبع سماوات بغير أعمدة مرئية ، وكان أمرا هيِّنا عليه بمنزلة ما يُقالُ للشئ احْضر راضياً أو كارهاً فيُطيع ، فلقد أتَت أي كانت وحَدَثَت السماوات والأرض وما فيهما من منافع وخيرات علي الهيئة التي يريدها سبحانه تماما دون أيّ تَخَلّفٍ منهما عن شيءٍ يريده ، وقولهما هذا هو تمثيلٌ لحالهما حيث الطاعة التامّة كأنهما قالتا كالعاقِل سَمْعَاً وطاعة لا نملك مُخالَفتك وأنت ربنا وخالقنا ونحن عبيدك مُطيعين لك .. ومن المُمكن قطعا أن يكون الله قد أعطاهما النطق حقيقة .. وهذا يدلّ على انقياد الكوْن كله تماما لخالقه تعالي .. وهو كله مُسَخَّر لنفع وسعادة بني آدم .. فليكن الإنسان إذن في المُقابِل أهْلاً لهذه المَكَانَة وليحمد ربه كثيرا علي نِعَمه هذه التي لا يُمكن حصرها وليكن كذلك مثل كلّ الخَلْق طائعا لربه باختياره بحُسن استخدامه لعقله ليسعد بطاعته من خلال تمسّكه وعمله بكلّ أخلاق إسلامه تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يكون هو المُخالِف الوحيد لخالقه من بين كل المخلوقات فيتعس فيهما تمام التعاسة
ومعني " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿12﴾ " أيْ أتَمَّ خَلْقَ السماء علي هيئة سبع سماوات بغير أعمدةٍ مَرْئِيَّة في يومين – قد يكونا مثل أيام البَشَر أو غيرها – وأوْحَيَ إلي المخلوقات التي في كلّ سماءٍ مِن شمسٍ وقمر وكواكب ونجوم وملائكة وجاذبية وغيرها من مخلوقات مُعْجِزات لا يعلمها إلا هو سبحانه ، أوْحَيَ إليها أمرها ، أيْ أَلْهَمها أمرها ، أي أوامره وتعليماته سبحانه الخاصة بها والمُناسِبَة لها ولخِلْقتها ولمهمّتها والتي عليها تنفيذها لمصلحة ولمنفعة ولسعادة البَشَر .. " .. وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا .. " أيْ وزيّنا السماء القريبة من الأرض بكواكب ونجوم مُضيئة كالمصابيح هي مفيدة لكم لمعرفة الاتجاهات ومُسْعِدَة بمنظرها وبإضاءتها الخافِتَة المُناسِبَة لسكون الليل واتّخاذه للراحة ، وحفظناها حفظا تامّاً من الاختلال والاضطراب والسقوط وغيره .. " .. ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿12﴾ " أي ذلِكَ الذي ذُكِرَ لكم من عظمة خَلْق السموات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ومن نِعَمٍ وخيراتٍ هو نظامٌ مُقَدَّرٌ بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل ، إنه نظامُ الله تعالي ، العزيز الذي لا يُغَالَب ولا يُمَانَع فلا يَغلبه أو يَمتنع عن أوامره أيّ مخلوق ، وهو العليم ، أي بكلّ شيءٍ ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر ، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه .. وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴿13﴾ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿14﴾ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿15﴾ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴿16﴾ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿17﴾ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿18﴾ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿19﴾ حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿20﴾ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿21﴾ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿22﴾ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿23﴾ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنت عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴿13﴾ " أيْ فبالتالي وبعد كلّ هذه الدلالات التي ذُكِرَت في الآيات السابقة المُبَيِّنَة لتمام قدْرة الله تعالي وعلمه وحكمته وفضله وخيره وكرمه والتي تدلّ بلا أيّ شكٍّ علي أنه هو وحده المُستحِقّ للعبادة ، فإنْ أعرضَ أحدٌ رغم كلّ هذا الوضوح للحقّ لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، أيْ أعطاه ظهره والتفتَ وانصرفَ وابتعد عنه وتركه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء ، فقل حينها لمِثْل هؤلاء المُعْرِضين المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ، إنْ استمرّوا علي ما هم فيه ولم يستجيبوا لربهم ولدينه الإسلام ، واستمَرّوا في فِعْل شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، أنك تحذرهم من صاعقة مثل صاعقة قوم عاد الذين كذبوا رسولهم هودا ﷺ وقوم ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا ﷺ ، والصاعقة هي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا ، أي حَذّرْهم عذابا مُهْلِكَاً كالذي أصاب هذه الأمم المُكذبة ومَن يشبهها والذين يعرفون جيدا ماذا حدث لهم ويتناقلون تاريخهم السَّيِّء ويَمُرُّون علي آثارهم وبيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، فلعلهم بهذا التحذير يستفيقون ويعودون لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿14﴾ " أيْ حين جاءت الرسل لهذه الأمم المُكذّبَة ، مِن أمامهم ومِن خلفهم أيْ مِن كلّ جانبٍ بما يعني شدّة حرصهم علي حُسن دعوتهم بكلّ قدْوة وحكمة وموعظة حَسَنة إلي أن يعبدوا الله تعالي وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، قالوا لهم بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة " .. لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿14﴾ " أيْ أنتم لستم إلا بَشَر مثلنا ولستم ملائكة أو لكم فضل علينا بل نحن أفضل منكم من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك ! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريع لتوصلوه لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته ! فأنتم إذن كاذبون ! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكذبون بما ُأرْسِلتم به إلينا !! .. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك ! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب ! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق ! .. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر !! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿15﴾ " أيْ هذا توضيح لحال بعض الأمم المُكذّبة ، فعاد وهم قوم هود ﷺ قد استكبروا في الأرض أيْ تعالوا علي خلْق الله فاستعبدوهم وظلموهم واعتدوا عليهم وأذاقوهم أسوأ أنواع العذاب ونهبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم ، وتعالوا علي رسل الله فكذبوهم وعانَدوهم واستهزؤا بهم ولم يتّبعوهم وآذوهم وقاوموهم ومنعوا الناس ما استطاعوا من اتّباعهم ، ونشروا الشرور والمَفاسد والأضرار ، بل تعالوا علي الله ذاته فكذبوا بوجوده سبحانه وعبدوا غيره وساووه بخَلْقه ووصفوه بما لا يليق ، تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّا كبيرا .. وكل ذلك كان بغير حقّ أيْ بكل اعتداءٍ وظلم ، لأنَّ العِزَّة تكون بحقّ حينما تُستخدم في إقامة العدل بين الناس وحفظ حقوقهم ومنع أيّ أحد من الاعتداء عليهم وبالتالي إسعادهم في دنياهم وأخراهم .. إنهم أيضا قد تَكَبَّروا بغير استحقاقٍ لهذا التّعالِي لأنهم بَشَرٌ كبقية البَشَر ينتظرون جميعا رزق ربهم ولا زيادة لهم عليهم والجميع يَمرض ويَضعف ويَشيخ ويموت فلم يكن لهم إذن أيّ حقٍّ في أن يتكبَّروا ! .. وكلّ ما سَبَق بسبب أنهم كانوا يتشكّكون في وجود الله وفي رجوعهم إليه في حياةٍ آخرةٍ عنده بعد حياتهم الدنيا ويتوهَّمون أن لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، وذلك لأنهم قد عَطلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي طَلَب أثمان الدنيا الرخيصة ، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة – وهي المسلمة أصلا – بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " .. وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً .. " أيْ واغْتَرّوا وتَعَالوا وتَفَاخَروا وانْخَدَعوا بقوّتهم الجسدية والمالية والعسكرية وغيرها وتَوَهَّموا أنه لا أحد في الوجود أقوي منهم وهم قادرون علي كلّ شيءٍ حتي علي مُلاقاة وتَحَدِّي أيّ عذابٍ من الله القويّ الجبّار ومَنْعه والتغلّب عليه !! وهذا هو الشعور الكاذب الخاطِيء الذي يشعر به دائما المُستكبرون في كلّ زمانٍ ومكان .. " .. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً .. " أيْ فَرَدَّ عليهم الله تعالي خالقهم وعلي مَن يشبههم رَدَّاً بسيطا عميقا عقلانيا مَنْطِقِيَّاً مُقْنِعَاً حكيما يعلمه كلّ أحدٍ ولن يستطيع أن يُكذبه ويأتي بدليل علي تكذيبه حيث ذَكَّرَهم بسؤالهم هل لم يشاهدوا ولم يعلموا أنّ الله تعالى الذي أوْجَدهم من العَدَم هو أشدّ منهم قوة حيث كل قوة لهم مَصدرها هو سبحانه واهِب القوة إذ قوّتهم ليست ذاتية ولكنها من عطائه إيّاهم حيث يُخْلَق الإنسان وهو لا يَقْدِر على دَفْع أقلّ شيءٍ عن نفسه ، فهل عَمُوا فلم يَروا هذا الحقّ الواضح الذي لا يُكذبه أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! عَجَبَاً لهم ! إنه لولا خَلْقه إيّاهم لم يُوجَدُوا أصلا ! فلو تَدَبَّروا هذا الأمر لَمَا حَدَثَ لهم غرورٌ بقوّاتهم ولَخَافوا تماما من قوة الله التامّة وعقابه لهم ولاَسْتَجابوا له ليسعدوا في الداريْن ! .. " .. وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿15﴾ " أي ولكنهم لغرورهم واستكبارهم وتعطيلهم لعقولهم لم يُحسنوا التّدَبُّر والتّعَقّل في كلّ هذا وكانوا يُكَذّبون بآيتنا أيْ بمعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كوْننا وبأدِلّتنا وحجَجنا القاطِعَة عليهم والتي جاءتهم بها رسلهم في كتبنا والدالّة كلها على تمام قدْرتنا وعلمنا وكمال صفاتنا الحُسني وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة
ومعني " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴿16﴾ " أيْ فبسبب إصرارهم تمام الإصرار علي استكبارهم وتكذيبهم وعِنادهم واستهزائهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار عاقبناهم بأنْ بعثنا عليهم ريحا شديدة البرودة والصوت والهبوب في عدة أيام مُتتابعات نَكِدَات تَعيسات كلها نَحْس أيّ شرّ لكي يذوقوا العذاب المُخْزِي أي المُهين المُذِلّ في الدنيا والمُناسِب لِتَكَبُّرهم لِيُحَطّمه (برجاء مراجعة متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة في الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) وذلك قبل العذاب الأعظم إهانة وألما والأتمّ والأخلد في الآخرة .. وحينها هم لا يُنصرون أيْ لا يَجدون مطلقا أيَّ أحدٍ ينقذهم مِمَّا هم فيه ويمنعهم منه لا في دنياهم ولا في أخراهم
ومعني " وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿17﴾ " أيْ وأمّا بالنسبة لحال ثمود فقد أرشدناهم لطريق الخير والسعادة عن طريق رسولنا صالح ﷺ الذي بَيَّنَ لهم الإسلام وأرشدهم إليه وإلي تَدَبُّر مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة في كلّ كوْننا والتي لا يُنكرها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، ولكنهم مع ذلك اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم وأحَبُّوا أكثر العَمَيَ أي الكفر والضلال والشرّ والفساد والتعاسة علي الهدي أي الإيمان والصواب والخير والصلاح والسعادة (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ .. " أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة السَّيِّئَة المُتَوَقّعَة هي أنْ أخذتهم أي أصابتهم وأهلكتهم صاعقةٌ من العذاب الإلهيّ المُهين المُذِلّ ، والصاعقة هي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شَرارَة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. " بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿17﴾ " أي بسبب ما كانوا يفعلونه ويُحَقّقونه من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار وشرور ومَفاسد وأضرار وإصرارهم التامّ علي ذلك ، فهذا هو ما يستحِقّونه تماما بكلّ عدلٍ وليس قطعا ظلما من الله لهم !!
ومعني " وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿18﴾ " أيْ وفي المُقابِل وبالقطع لم يُصِب هذا العذاب المؤمنين أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم المُتمسّكين العاملين بكلّ أخلاق إسلامهم الذين هم دائما يتّقون أي يَتجنّبون كلَّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. فهم لم يُصِبْهم أيّ سوءٍ بل كانوا في كلّ خيرٍ وسعادة بالله وبالإسلام وبأنْ أراحهم سبحانه من أهل الشرّ وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم .. وفي الآخرة حتما هم ناجون من أيّ سوءٍ ولهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَرٍ في جنات الخُلْد
أمّا معني " وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿19﴾ " أيْ واذكر لهم أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، اذكر لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين سواء أكانوا كافرين أي لا يُصَدِّقون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كأصنام ونحوها أم مَن يشبههم ، الذين هم أعداء الله أي يُعادون ويُقاومون ويُحاولون منع إسلامه وانتشاره بين الناس ليظلوا مُسْتَعْبِدين لهم ناهِبين لجهودهم وثرواتهم ، وَوَصْفهم بأعداء الله للمبالَغَة في ذمّهم ، وبعد أن حذّرتهم بما سيحدث لهم من عذاب الدنيا ، اذكر لهم وحَذّرهم مِمَّا هو أعظم وأخلد وهو عذاب الآخرة ، حين يُحْشَرون أي يُجْمَعون بصورةٍ مُتَزاحِمَة يوم القيامة ، فيُوزَعون أي يُدْفَعون ويُجْمَع بعضهم علي بعض ويُساقون بكل إهانةٍ وذِلّةٍ ورعب إلي حيث عذاب النار الذي يستحِقّونه بكل صوره المختلفة .. فلعلهم بهذه التذكرة يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿20﴾ " أيْ عندما يَصِلون إلي النار يحاولون الكذب وادِّعاء أنهم ما فَعَلوا الذي فعلوه فيأمر الله تعالى أسماعهم وأبصارهم وجلودهم فتَشهد عليهم بكلّ التفاصيل بما كانوا يعملونه بها من الشرور والمَفاسد والأضرار .. والمقصود بالجلود كلّ الأعضاء لأنها تُغطّيها .. فلا مجال إذن لأيّ كذب .. وفي هذا مزيدٌ من الإهانة لهم حيث تشهد أنفسهم علي ذواتها شهادة تكذيب وفَضْح
ومعني " وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿21﴾ " أيْ وحينها قالوا لأعضاء أجسامهم هذه التي شهدت عليهم وهم مُتَعَجِّبين منها لائِمين لها لِمَ تَشهدون علينا ونحن نحاول أن ندافع عنكم ونمنع عذابكم ؟! فرَدَّت عليهم أنه ليس في الإمكان مطلقا الامتناع عن الشهادة حيث أنطقها سبحانه الذي لا يَسْتَعْصِي عن إرادته أحد ، وهو الذي خلقكم أول مرة أي أنشأكم النشأة الأولى وأوجدكم من عدم في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم للبعث يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم ، وإليه ترجعون أيْ وهاأنتم قد رجعتم إليه فيُحاسبكم على سوء أعمالكم ويَحْكُم فيكم بحكمه العادل علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم ، فالقادر على كل هذا تعالي قادر قطعا على أن ينطقنا وعلى كل شيءٍ يريد إنطاقه !
ومعني " وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿22﴾ " أي وقالت لهم جلودهم ، أو الملائكة ، أو الله تعالي ، علي سبيل التأنيب واللوْم الشديد والذمّ ، إنكم ما كنتم تَتَكَتَّمون من أعضاء أجسادكم الذي كنتم تفعلونه من الشرور والمَفاسد والأضرار خوفا من أن تشهد عليكم ، لأنكم ما خَطَرَ في فِكْركم أبدا أنها ستَفعل ذلك ، ولكنْ أمركم أسوأ من هذا حيث فعلتم ما فعلتم من غير استتارٍ لا من أعضائكم ولا من الله لأنكم تَوَهَّمتم مُخطئين أنه سبحانه لا يعلم جميع أفعالكم فهو يَفوته معرفة كثير من شروركم ولا يعلم إلا الشديد الواضح الشرّ منها فقط !!.. فحالكم في غاية السوء لأنه تعالي معكم بعلمه أينما كنتم ويعلم كل ما تُسِرّون وما تُعلنون كبيره وصغيره .. وعلي كل مسلم قطعا ألا يتشبَّه بهم وإلا تعس مثل تعاساتهم في الداريْن
ومعني " وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿23﴾ " أيْ وهذا الظنّ السَّيِّء الغير اللائق منكم الذي ظننتموه بربكم وهو أنه سبحانه لا يعلم كثيرا مِمَّا تعملونه (برجاء مراجعة الآية السابقة لتكتمل المعاني﴾ هو الذي قد أَرْداكم أي أهلككم ، لأنكم بسببه فعلتم ما تريدون من شرور ومَفاسد وأضرار دون أيّ خوفٍ من حساب وعقاب وابتعدتم عن ربكم وإسلامكم فأصبحتم بالتالي من الخاسرين أي الذين خسروا دنياهم وأخراهم حيث في الدنيا كان لكم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أوضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة لكم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، بسبب أفعالكم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ثم في الآخرة سيكون لكم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
ومعني " فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿24﴾ " أيْ هذا سخرية منهم ومزيد من الإهانة لهم حيث الصبر الآن في جهنم هو صبرٌ علي النار وليس الصبر والتّحَمُّل المعروف الذي يَتْبَعه الفَرَج واليُسْر وحُسن الثواب وبالتالي يقوم به الإنسان آملا في نتائجه ! إنه الصبر الذي جزاؤه أن تكون النارُ مثويً أيْ مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة فليس هناك أيّ أملٍ بعده إلا بما هو أسوأ !! هذا لو استطاعوا الصبر أصلا حيث هو أمر مُسْتَبْعَد مُسْتَحِيل ! ومَن يُمكنه تَحَمُّل عذاب نار جهنم والتي هي أضعاف نار الدنيا وفيها أنواع من العذاب لم تخطر لهم علي بال ؟! .. فإنْ صَبَروا – علي سبيل الفرض – فالنار الدائمة الخالدة هي النتيجة الحَتْمِيَّة إذن !! .. " .. وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿24﴾ " أيْ لا يُجاب لطَلَبِهم لو طَلَبوا إزالة العِتاب من الله لهم ، والاسْتِعْتَاب هو طلب العُتْبَيَ وهي طَلَب الرضا بعد الغضب أي طلب أن يَرْضَيَ عنهم الله بعد غضبه عليهم ، فإنهم لا يُجَابُون بالقطع لأنه قد فات أَوَان ذلك ، أي انتهي وقت التوبة والرجوع لله ، والوقت الآن هو وقت الحساب والجزاء والعذاب لا وقت العمل والأداء ، ولهذا فحينما يَرَيَ كلُّ مَن ظلم بصورةٍ ما من صور الظلم درجة العذاب الذي سيَناله ، لن تنفعه أيّ مُطَالبات بالتخفيف أو الإمهال أي الترْك والإعادة للدنيا لفترةٍ لتصحيح أمره بتوبته مِمَّا فَعَل
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذته علي الدوام عدوا ، أي لم تتّبع خطواته وقاومتها ولم تستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿25﴾ " أيْ وسَهَّلْنا لهم ، أيْ للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين سواء أكانوا كافرين أي لا يُصَدِّقون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كأصنامٍ أو نحوها أم مَن يشبههم ، أصحابَ وزملاءَ سوءٍ فاسدين مُلازِمِين لهم ، إضافة إلي تفكيرهم الشَّرِّيّ داخل عقولهم والمُلازِم دوْما معهم ، فقاموا بتزيين أي تحسين ما بين أيديهم أي دنياهم فأحبّوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، وحَسَّنوا لهم أيضا ما خَلْفهم أيْ ما يَنتظرهم في آخرتهم حيث أوْهَمُوهم بأنه لا آخرة ولا بَعْث بعد الموت ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ليَفعلوا ما أرادوا من شرّ ، واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولم يساعدهم الله تعالي علي مقاومة قُرَناء السوء لأنهم لم يبدأوا هم بهذه المقاومة وقد نَبَّه لذلك بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ وكيف يُعينهم وهم مُصِرُّون إصرارا تامَّا علي اتِّباعهم ؟! .. وذلك علي عكس المؤمنين بالقطع ، حيث لهم أيضا تفكير شَرِّيّ بعقولهم وقُرَناء سوءٍ حولهم ، ولكنهم يمنعونه ويمنعونهم ويفكرون في كل خيرٍ مُسْعِدٍ ، ويستعينون بربهم ويتمسّكون بقرآنهم وبكل أخلاق إسلامهم ويعملون بها ، فيُحَصِّنُون ذواتهم ضِدَّ كلّ هذا ، فيُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم أسباب كل خيرٍ ويَعصمهم من الوقوع في أيّ شرّ ، ولو وَقَعوا استيقظوا سريعا بالتوبة فيأخذ بأيديهم سبحانه لتعود لهم سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ ، ﴿100﴾ من سورة النحل " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿99﴾ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴿100﴾ " ، ثم مراجعة الآية ﴿42﴾ من سورة الحِجْر ، ثم الآية ﴿65﴾ من سورة الإسراء ، لتكتمل المعاني ولمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ .. " أيْ وبالتالي فقد ثَبتَ وتَأكَّدَ عليهم العذاب ، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فهم يَستحِقّونه بسبب جرائمهم ، حيث قد جاءهم كلُّ دليلٍ ولكنهم أصَرُّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وماتوا علي ذلك .. وعذابهم يكون في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة يكون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ ثم سيكون لهم في أخراهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد .. هذا ، والمراد بلفظ " القول " هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في أقواله في كُتُبه وآخرها القرآن الكريم .. " .. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ .. " أي في جُمْلةِ ومع ومِثْل الأمم التي ذَهَبَت وانتهت وعُذّبَت وهَلَكَت قبلهم والتي كانت مُشَابِهَة لهم .. هذا ، وهناك في الآخرة سيكون في النار أمم كثيرة من الجنّ تكون وقودا لإشعال النار ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين ، فهؤلاء المُكذبون سيكونون مع هذه المخلوقات الجِنِّيَّة التي تشتعل بها النار ، فهم إذن في أشدّ عذابها .. " .. إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿25﴾ " أيْ خسر كلّ هؤلاء وكل مَن يَتشبَّه بهم ، في دنياهم وأخراهم ، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما مِن صور العذاب ، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ وأعظم عذابا
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴿26﴾ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿28﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴿26﴾ " أيْ ويقول الذين كفروا أيْ المُكذبين بوجود الله ومَن يشبههم مُوصِين بعضهم بعضا بألاّ يَسمعوا ولا يُطيعوا للقرآن الكريم باتّباع أخلاقه وعليهم أن يَلْغَوا فيه أي يقولوا فيه أقوالاً لا فائدة منها ساقِطَة تُشَوِّش عليه وتُسِيء إليه وتُعِيبه بحيث يمنعون أنفسهم وغيرهم من اتّباعه ، وذلك لعلّ أيْ رجاء وعلي أمل أن يَغلبوا المسلمين ويجعلوهم يبتعدون عن إسلامهم ويمنعوا انتشاره !! .. ولفظ لعلّ يدلّ تماما علي عدم ثقتهم في منعه وضعفهم أمامه وعجزهم الكامل عن مواجهته بِالْحُجَّةِ والدليل الأمر الذي انتهي بهم يائسين لأن يلجأوا لهذه المُهاتَرات أيْ السبّ والوقاحة والتَّطاوُل والكلام المُتناقِض الحقير التهديديّ الهَمَجِيّ غير العقلانيّ ! ثم النتائج غير مضمونة لأنه إن لم يستمع أحدٌ للقرآن في وقتٍ ما فسيسمع غالبا في وقت آخر – حتي ولو بطريق الصُّدْفَة – حينما يستفيق عقله ويزول عنه تأثير هذا الكلام كما أثبت الواقع ذلك كثيرا ! كما يدلّ قطعا علي علمهم التامّ بأنّ القرآن العظيم حتما هو الغالِب وسيَتّبعه الناس ! وذلك لأنه يُوافِق العقل السليم والفطرة التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. وما كل ذلك إلاّ حرصا منهم علي ألاّ يستفيق الناس ويعودوا لربهم ولإسلامهم حتي يظلوا مُسْتَعْبِدِين لهم ناهِبين لجهودهم وثرواتهم وخيراتهم .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ " أيْ فوالله سنَجعل الذين كفروا ، والذين أَلْغَوْا منهم في القرآن الكريم كما ُذكِرَ في الآية السابقة ومَن يشبههم (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، يذوقون العذاب الذي يُهينهم ويحسّون به إحساسا أليما ، في الدنيا والآخرة .. ففي دنياهم سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد ، وهذا هو معني " .. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ " أيْ وسنُحاسبهم وسنُجازيهم بالتأكيد علي كلّ سيئاتهم التي عملوها في الدنيا وعلي أسْوَئها وهو الكفر بأسوأ عقابٍ مناسبٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿28﴾ " أيْ ذلك العذاب الشديد الذي ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ هو جزاء عادل لهؤلاء أعداء الله وهم المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين سواء أكانوا كافرين أي لا يُصَدِّقون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كأصنامٍ ونحوها أم مَن يشبههم ، الذين يُعادون ويُقاومون ويُحاولون منع إسلامه وانتشاره بين الناس ليَظلّوا مُسْتَعْبِدين لهم ناهِبين لجهودهم وثرواتهم ، وَوَصْفهم بأعداء الله للمبالَغَة في ذمّهم .. إنّ ذلك العذاب الشديد يوم القيامة هو عِبَارة عن النار بكلّ أنواع عذاباتها والتي ستكون لهم دار الخلود والاستمرار بلا نهاية إلي ما شاء الله .. " .. جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿28﴾ " أي جزيناهم جزاءً شديداً كهذا بسبب أنهم كانوا يجحدون بآياتنا أيْ كانوا دائما لا يَقبلون ولا يَعترفون ولا يُصَدِّقون بآياتنا في القرآن ، ولا بآياتنا أيْ دلائلنا علي وجودنا ومُعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كَوْننا ، والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ ! والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ، لأنهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ القرآن حقّ ، والله ورسوله ﷺ وإسلامه حقّ ، أي صِدْق ، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة والإخفاء للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أمّا معني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴿29﴾ " أيْ يقول الذين كفروا ، أيْ لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله ولا بكتبه ولا بآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وهم يُعَذّبون في النار ، من شدّة غَيْظهم وحسرتهم ، طالِبين من الله تعالي أن ينتقموا ويَشْفُوا غِلَّهم مِمَّن أضلّوهم ويقوموا هم بتعذيبهم قبل أن تعذبهم ملائكة العذاب ، يقولون ربنا اجعلنا نَرَيَ هذين الصنفيْن اللذيْن قاما بإضلالنا سواء أكانا من الجنّ ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين ، ويَقصدون الشيطان ، والشيطان في اللغة هو كل مُتَمَرّد علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمز لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل ، أيْ أرِنَا كل ما لم نكن مُؤَهَّلِين لرؤيته في دنيانا مِمَّا ساهَمَ في إضلالنا ، وهذا الطلَب يدلّ علي تمام الغيْظ والندم واليأس .. أم كانا من الإنس أيْ أرِنا كلّ بني آدم الذين سَهَّلوا لنا الضلال أي الضياع أي الكفر وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي أدَّت بنا إلي ما نحن فيه .. " .. نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴿29﴾ " أيْ أرِنَا إيَّاهما لننتقم منهما بأنْ نَدُوسهما بأقدامنا احتقارا لهما وغضبا عليهما ليكونا بذلك في أسفل وأحقر وأشدّ مكانٍ من النار !! .. وهكذا تتحول الصداقة التي كانت بينهم إلى عداوة تجعلهم يحتقر بعضهم بعضا ويتمنّى له أسوأ العذاب !
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿30﴾ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴿31﴾ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿30﴾ " أيْ لَمَّا بَيَّنَ الله تعالي أحوال المُكذبين التعيسة في دنياهم وأخراهم ، يُبَيِّن أحوال المؤمنين السعيدة تمام السعادة فيهما ليكون كلّ الناس كذلك .. فهؤلاء الذين قالوا بكل صدقٍ واعترفوا ورضوا أنّ الله وحده بلا أيّ شريك هو ربنا أيْ مُرَبِّينا وخالقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة في دنيانا وأخرانا وأنه هو المُستحِقّ وحده للعبادة فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ ، ثم بعد هذا القول والإقرار تَرْجَموه عمليا بأن استقاموا أيْ تمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم واستمرّوا وثَبَتوا عليها دون أيّ انحرافٍ عنها ، استمرّوا علي هذا الطريق المستقيم ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن ، وكانوا مُخلصين مُحسنين في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿30﴾ " أيْ هؤلاء دوْماً هم في كلّ خير حيث تَتَنَزَّل عليهم أيْ يُلْهَمُون دائما الأفكار الخيْريَّة في عقولهم ، بتوفيق الله وتيسيره وعوْنه وحبه ورضاه ، ولا يفعلون أيّ شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ لهم ولغيرهم ، وبالتالي فهم دائما مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم ، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام ، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أي ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَة وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا
ومعني " نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ " أيْ لمزيدٍ من التبْشِير والطمْأَنَة والإسعاد في الداريْن للمؤمنين المُستقيمين علي كلّ أخلاق الإسلام ، يقول الله الخالق الكريم لهم ويخاطبهم في قرآنه العظيم مُبَشِّرَاً : نحن في الحياة الدنيا أولياء أموركم نُديرها لكم علي أكمل وأسعد وَجْه ، وذلك بسبب استقامتكم ، ومَن كان الله وَلِيّه فهنيئا له السعادة التامّة حيث سيَضمن له حتما الرعاية والقوة كلها والعوْن والتوفيق والسداد والرزق والتيسير والنصر كله ، وكذلك في الآخرة سيَتوَلّيَ كلّ أموره بما يُحقّق له قطعا تمام الأمن والارتياح والسرور ، فهل هناك بُشْرَيَ واطمئنان وفرح أعظم من هذا ؟! .. وأيضا الملائكة تقول لهم نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا أيْ أحبّاؤكم نُدير شئون الكوْن التي يأمرنا بها ربنا من أجل منافعكم وليتحقّق لكم تمام الراحة والطمأنينة والحِفْظ والسعادة .. ثم تقول لهم مُطَمْئِنِين عند قَبْض أرواحهم عند موتهم لقد كنا في الحياة الدنيا مُصاحِبين مُحِبِّين لكم وكذلك سنكون في الآخرة حيث نَصحبكم ونُؤَمِّنكم في قبوركم ويوم البعث والقيامة ونوصلكم إلي جنات النعيم .. فاطْمَئِنّوا إذن فنحن لسنا غُرَبَاء عنكم تخافون منا .. " .. وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ .. " أيْ ولكم في الجنة في الآخرة كلّ ما ترغبون فيه من كل أنواع النعيم والمَلاذّ والمُشْتَهَيَات .. " .. وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ .. " أيْ وكلّ ما تَطلبون مِن مَطَالِب وما تَتَمَنّون من أمنيات حتي قبل أن تطلبوها ، من تمام أفضال الله عليكم ورحماته ونِعَمه
ومعني " نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴿32﴾ " أيْ جعل الله تعالي الجنّات مكاناً رائعا ورزقا طيّبا كريما مُتزايدا لكم تَنزلون وتَستقرّون فيه بلا نهاية ، وحالكم فيها كحال مَن هو في نُزُلٍ ، أيْ في المكان الذي يَنزل فيه الضيف كالفندق حيث تمام التكريم والرعاية والعناية والضيافة والراحة والسرور ، وكل هذا هو مِن ربٍّ غفورٍ أيْ كثير المغفرة لذنوبكم رحيمٍ رحمة واسعة بكم حيث غَفَرَ وسَتَرَ ورَحِمَ ولَطَفَ ، فأيّ نعيمٍ أعظم من هذا ؟!
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون دعوة الآخرين لله وللإسلام ويصبرون علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾ " أيْ لا أحدَ أبداً أحسن كلاماً ولا أعظم مكانَة وحالة وطريقة مِمَّن وَعَظَ كلَّ مَن استطاع حوله مِن الناس بأنْ يَدعوهم ويَطلب إقبالهم ويَجتذبهم إلي عبادة الله وحده وإلي اتِّباع دين الإسلام ، بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، يدعوهم إلي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الحقّ والعدل والخير وتمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وفي ذات الوقت يعمل صالحا أيْ هو متمسّك عامل بكلّ أخلاق الإسلام التي يدعو إليها ولا يُخالِف قوله عمله .. فسَعِدَ وأسعَدَ غيره .. " .. وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾ " أيْ وأثناء عمله بالإسلام ودعوته لغيره هو مُعْتَزٌّ وسعيدٌ وصادق وشاكر لله تمام الاعتزاز والسعادة والصدق والشكر وبكلّ حبٍّ وتواضع وبلا أيّ فخر ولا تَعَالِي بصلته بربه وبدينه الإسلام ، وأنه من المسلمين الذين يعملون بكل نظامه المُسْعِد ولا يعملون بأيّ نظامٍ آخر مُخَالِفٍ له مُضِرٍّ مُتْعِسٍ ومن الذين يدعون إليه لأنه أحسن نظام في الحياة حيث يرفع شأن كلّ مَن يعمل به كله ويُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنه من الذين يَنْسِبُون دائما حُسْن خُلُقهم وعملهم إليه ، ويُعلِنون ذلك ما استطاعوا بالأسلوب وفي التوقيت المناسبين
أمّا معني " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾ " أيْ لا يُمكن بأيِّ حالٍ عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل أن تستوي الأقوال والأفعال الحَسَنَة الخيْرِيَّة المُفيدة المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة مع عكسها السيئة الشَّرِّيَّة المُضِرَّة المُتْعِسَة فيهما ! ولا الصفات الحَسَنَة مع السيئة ، لا في ذاتها ولا في آثارها التي تنتج عنها في الدنيا ولا ثوابها في الآخرة ، لا لفاعلها ولا لمَن حوله ، ولا يستوي الإحسان إلى الخَلْق ولا الإساءة إليهم .. وهذا إرشاد من الله تعالي للبَشَر إلى ما يُنمّى روح المَحَبَّة بينهم خاصة بين الداعي إلي الله والإسلام ومَن يَدْعوهم .. " .. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. " أيْ اجْتَهِد دائما في مُقابَلَة الإساءة ودَفْعها ومَنْعها عن نفسك بالتي هي أحسن أيْ بأحسن صِفَة ومَقُولَة وفِعْلَة حَسَنَة مُمْكِنَة إلي مَن أساء إليك ، فلا تُقابِل السيئة بسيئة مثلها حتي لا ينتشر السوء ولكي تنقطع دائرته فلا تَتَوَاصَل فيَتَوَقَّف ، وإن كان مِن حقك مُعاقبة المُسيء بمِثْل إساءته (برجاء مراجعة الآية ﴿194﴾ من سورة البقرة " .. فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿194﴾ " ، ثم الآية ﴿126﴾ من سورة النحل " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴿126﴾ " ، للشرح والتفصيل) ، لكنك ستَسعد كثيرا في الداريْن إذا كنتَ مُتسامحا ذا فضلٍ وإحسان من غير ضعف ولا ذِلّة فتعفو عَمَّن أساء إليك بقولٍ أو عملٍ وتصبر عليه ، وذلك بأن تكون قويّ الإرادة بعقلك فتتدرَّب تدريجيا علي عدم الغضب وإذا غضبتَ فتَدَرَّب علي كظمه وكتمانه وعدم إخراجه في صورةِ خطأٍ مَا لفظِيٍّ أو عملِيٍّ أو غيره من صور الانتقام ، وذلك في كل تصرّفات حياتك ، مع جميع الناس ، فكلهم هم مَدْعُويك ، أي كلهم يحتاجون لدعوة الإسلام التي معك (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، والتسامح يجعلك أكثر عزّة ويَجعلهم يُراجعون ذواتهم بداخل عقولهم ويكونون أكثر قُرْباً منك وتكون أنت أكثر صفاءً بينما العقوبة والانتقام تشغل الأذهان وتُرْبكها وتؤذيها وتضيع الجهود والأوقات وتُبَاعِد بين الجميع فيتصارعون فيَضعفون فيَتعسون في دنياهم وأخراهم ، والخلاصة أنَّ المُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة ، وهذا هو بعض معاني " .. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾ " أي إذا قابَلْتَ الإساءة مِمٍّن يُسيء إليك بالتي هي أحسن مرّة بعد أخري ، حَصَل فائدةٌ عظيمة وتَغَيُّرٌ كبير مع الوقت – وأحيانا فوريا – عند كثير من الناس كما يثبت الواقع ذلك وهو أنْ يصير عدوك الذي أساء إليك تدريجيا خَيْرِيَّاً نحوك مُحْتَرِمَاً لك وقد يَصِلَ ببعضهم الأمر ربما يُشْبِه كأنه وَلِيّ أيْ مُحِبّ ناصِر حَلِيف حَميم أي صديق قريب جدا منك ، ومن الآخرين ، فالتغيير يُغَيِّره نحو الخير للجميع ، مِن شِدَّة تأثّره بك ، وذلك إذا أحسنَ استخدام عقله فسيُعينه الله حتما للتغيُّر للخير تجاهك وغيرك ، لأنّ الإنسان في فطرته يحب مَن أحسنَ إليه وعفا عنه وقَابَلَ شَرَّه بالخير ومَنْعَه بالعطاء (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿35﴾ " أيْ وما يُلَقَّيَ الجنة أيْ يُعْطَاهَا ويُرْزَقَها ويَنَالَها من فضل الله وكرمه إلا الذين صَبَروا علي الإسلام أيْ استمرّوا وثَبَتوا عليه وتمسّكوا وعملوا ما استطاعوا بكلّ أخلاقه ، وإلاّ مَن كان ذو حظّ عظيم أيْ صاحِب نصيبٍ كبيرٍ من الخُلُق الحَسَن .. وهذا يَشمل أيضا أنه ما يُعْطَيَ ويَنال ويَقْبَل هذه الصفة العظيمة ويُوَفّق لها ويَعمل بها وهي مُقابَلَة الإساءة بالحَسَنة والتي ُذكِرَت في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ إلا الذين صِفَتهم الصبر والذين هم أصحاب حظّ عظيم أيْ نصيبٍ وفير من فِعْل الخير وحُسْن استخدام العقل وقوة إرادته الثابتون المستمرّون علي ذلك .. إنه من معاني " .. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿35﴾ " أيضا أنه ما يَقْبلها أيْ الأخلاق الإسلامية ومنها الدفع بالتي هي أحسن ويعمل به كلها إلا بالتأكيد مَن كان صاحب حظٍّ عظيمٍ أيْ قَدْرٍ هائلٍ من السعادة في الدنيا والآخرة .. إنّ مِثْل هؤلاء مِن كثرة صبرهم وخيرهم يُيَسِّر لهم الله تعالي كلّ صفات الخير بما فيها هذه الصفة التي تبدو صعبة ولكنها سهلة عليهم بتسهيل الله لهم للعمل بها وهي الدفع بالتي هي أحسن والصبر علي الأذي .. وفي هذا مدح مِن الله لمَن يتمسّك بأخلاق الإسلام – خاصّة هذه الصفة التي تحتاج لبعض الجهد – وتشجيع علي الاتِّصاف بها كلها ، وتذكير بالثواب العظيم الذي يَنْتَظِر فاعلها وهو أعلي درجات الجنات
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان ، وإذا اتَّخذته دائما عدوا ، وإذا لم تَتَّبِع خطواته ، أي قاوَمتها ، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿36﴾ " أيْ وإنْ أَلْقَيَ الشيطان في فِكْرك أيها المسلم نَزْغَة من نَزَغَاته أيْ وَسْوَسَة من وَسْوَسَاته ، والنزْغ هو أيّ كلامٍ يُراد به الشرّ والإفساد سواء أكان سِرِّيَّاً أم عَلَنِيَّاً ، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْماً لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيرا فله كل الخير ومن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. " .. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ .. " أيْ حينها وفوراً الْجَأ إلي الله وتَحَصَّن به واعتَمِد عليه وادْعُوه أن يساعدك علي مقاومة خواطر الشرّ بعقلك حينما تفكر فيها ولا تُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة .. " .. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿36﴾ " أيْ هو وحده سبحانه الذي يسمع تماما كلّ طلباتك وأقوالك وطلبات كل خَلْقه ويعلم بتمام العلم احتياجاتكم جميعا ، وهو وحده القادر حتما علي إبعاد هذه الوساوس عنكم وحفظكم ورعايتكم وتلبية كلّ ما تحتاجونه ، فاطمَئِنّوا إذن واسْتَبْشِروا وأَحْسِنوا واسْعَدوا
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿37﴾ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴿38﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنت مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنت دَوْما مِن المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأعمالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معني الإخلاص والإحسان﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿37﴾ " أي ومن بعض مُعْجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر وجعلها يُوَالِي بعضها بعضا لتكون من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم ، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت .. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله ، وهكذا .. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما .. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما .. " .. لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿37﴾ " أيْ وبالتالي فليس من العقل أن تعبدوها وهي مخلوقات مثلكم مُسَخَّرَة لكم لن تنفعكم بأيِّ شيءٍ إلا بما يأمرها بها خالقها !! بل اعبدوا الله الخالق وحده إذن فهو الأحقّ بالعبادة وأخلصوها وأحسنوها له وحده (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿37﴾ " أيْ لو كنتم تعبدونه وحده بحقٍّ كما تقولون وتريدون حقا أن تكون عبادتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن فافعلوا إذن ذلك ، أيْ لا تعبدوا مخلوقاته بل اعبدوه هو وحده ، فإنّ العبادة لا تنبغي لغيره فهو وحده المُسْتحِقّ لها ، ومَن عَبَدَ معه غيره لا يكون حتما عابدا له تعالي
ومعني " فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴿38﴾ " أيْ فإنْ تَعَالَيَ هؤلاء المُكذبون المُعاندون عن عبادة الله سبحانه ورفضوها وقاوموها واستهزأوا بها ، فإنهم بالقطع لن يضرّوا الله شيئا فهو مالِك المُلك الغنيّ عن كلّ شيء ، ولا قيمة لهم ولا لتكذيبهم ، بل هم قطعا مَن يُضَرّ ، مَن سيَتعس في الداريْن ببُعده عن ربه ودينه الإسلام ، فجميع المخلوقات في الكوْن مِن ملائكة وغيرها – فيما عدا هم – والتي هي كلها عنده في مُلكه وسلطانه وتحت تصرّفه وعلمه يرعاهم ويُدير شئونهم علي أكمل وأسعد وجْهٍ هي كلها أكرم منهم وأعلي شأنا عنده حيث كلها تعبده أي تُطيعه بالليل والنهار أي طوال الوقت وهي لا تَسْأم أيْ لا تَملّ ولا تكسل ولا تضعف لحظة بل تستلذّ وتستمتع وتسعد بها لأنها تؤدّي مهمتها التي خلقها ربها من أجلها وهي نفع وإسعاد بني آدم ، وهي تسبحه أي تُنَزّهه وتُبعده عن كلّ صفةٍ لا تليق به كما قال تعالي : " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿44﴾ " ﴿الإسراء : 44﴾ فهي مستديمة علي طاعته وذِكْره ، بينما هؤلاء المُكذبون المُعاندون هم وحدهم السائرون عكس تَجَانُس هذا الكوْن غير مُتآلِفين معه ولذا تراهم دوْما في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد ، وذلك إذا لم يستفيقوا ويعودوا لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان .. فلا تَتأثّروا بهم ولا تَتأسَّفوا عليهم أيها المسلمون واستمرّوا علي تمسّككم بربكم وإسلامكم واجتهدوا في التشبُّه بملائكته وكلّ خَلْقه في تمام الطاعة والذكْر له وحُسن العمل لتسعدوا في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة صور الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن في الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾ " أيْ ومِن بعض مُعْجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنك لو نظرتَ أيها العاقل المُنْصِف العادل إلي الأرض حين تكون خاشعة أيْ يابسة لا حياة فيها ولا نبات ثم إذا أنزل الله سبحانه عليها الماء تجدها تهتزّ أيْ تتحرّك وتَرْبُو أيْ تكبر وتزداد وترتفع منها نباتاتها المتنوعة المُفيدة المُسْعِدَة ، فالقادر علي إحيائها بعد موتها هكذا قادر حتما علي إحياء الموتي من قبورهم بعد موتهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لهم ليَنالَ أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ ما يناسبهم من شرٍّ وتعاسة .. فهو تعالي قادر تمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد .. إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كلّ شيءٍ هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته !
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿40﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿41﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿42﴾ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴿43﴾ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿40﴾ " أيْ إنَّ الذين يَمِيلُون عن الحقّ والعدل والصواب في آياتنا ، بأيّ صورة من صور الإلحاد أي المَيْل في أثناء التعامُل معها ، سواء أكان تكذيبا وعِنادا لها أم استكبارا عليها واستهزاءً بها أم عدم عملٍ بأخلاقها أم تحريفها وتحويلها عن معناها المُراد منها أم ما شابه هذا ، والآيات تشمل آياتنا في الكوْن أي دلائلنا علي وجودنا ومُعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كَوْننا حولهم ، والآيات في الكتب التي تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم وفيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه ، والمُعجزات علي يدِ رسلنا الذين أرسلناهم إليهم لتأكيد صِدْقهم .. " .. لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا .. " أي هذا تهديدٌ شديدٌ من الله تعالي الخالق القويّ الجبَّار لمِثْل هؤلاء المُلْحِدِين مِن خَلْقه ومَن يُشبههم أنهم قطعا ليسوا غائبين عن علمه بل هم تحت بصره وقُدْرته وسيُجازيهم بما يستحِقّون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، في دنياهم حيث سيكون لهم حتما درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " .. أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. " أي هل من يُقْذَف في عذاب النار وهم المُلْحِدون وأشباههم حالهم خير أم مَن يَحْضر يوم القيامة مطمئنا مسرورا مُستبشرا آخذا ما وعده به ربه مِن جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر ؟! أيستوي هذا وذاك ؟! لا يستويان حتما !! إنَّ الفرق واضح بكل تأكيد ولا يحتاج لكثيرِ فِكْر !! فهو سؤالٌ مَعلوم الإجابة إذن ! هدفه التنبيه لهذا والتذكير به والتحذير منه .. " .. اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿40﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ آخر ، أي اعملوا ما تريدون من شرور ومَفاسد وأضرار ، إلْحِدُوا كيفا شئتم ! كما تشاءون اعملوا ! فالله يراكم ومُطّلِع على أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ أيضا لأيّ أحدٍ أن يفعل مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مصيرهم ، بل يُحسن الاختيار بأن يكون مؤمنا لا كافرا ليَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿41﴾ " ، " لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿42﴾ أيْ الذين يُكَذّبون بالقرآن العظيم ولا يعترفون بأنه من عند الله ولا بصلاحيته لإسعاد البشرية حتي يوم القيامة ولا يعملون بأخلاقه ويُعادونه حينما وصل إليهم هم يُكَذّبون به وهو الذي يَتَّصِف بأنه يُذَكِّر الناس بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وبأنه كتاب عزيز أيْ عَزَّ أن يكون له مثيل ويَغْلِب بحججه القاطِعَة ولا يُغْلَب ومحفوظ بعِزّة الله وقوّته من أيّ تغييرٍ أو تبديل وأعَزَّه الله ورفع شأنه عاليا بأنه أعجز البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي قيام الساعة ولا يُمكن أن يَصِلَ إليه ويَدخل عليه ويُؤثر فيه ويُكذّبه ويُبطله ويُحَرِّف فيه أيّ باطلٍ غير حقٍّ بأيّ تأثيرٍ من أيّ ناحيةٍ من نواحيه وبأيّ صورةٍ من الصور بل يَسقط ويَتَلاشَيَ أمامه لأنَّ كله حقّ وصدق وعدل ولأنّ الله القويّ الغالِب هو الذي تَكَفّل بحفظه ، ولأنه تنزيل من خالقٍ حكيم أي يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمةٍ ودِقّة دون أيّ عَبَث حميدٍ أي محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته .. فتكذيبهم إذن دلالة علي شدّة إصرارهم علي التكذيب والعِناد والاستكبار والتعطيل لعقولهم وعدم استجابتهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وبالتالي فهم يستحِقّون في مقابل شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم درجة ما من درجات العذاب في الدنيا كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
أمّا معني " مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴿43﴾ " أيْ هذه هي طريقة الله تعالي دائما مع كل الذين رَحَلوا وذهَبوا وانتهوا من الخَلْق من قبلكم ، أن يُرْسِلَ إليهم أقواله مع رسله وهي الإسلام السهل الذي يُيَسِّر ويُسعد لهم الدنيا والآخرة ، فليس هو إذن أمرا جديدا غير مُجَرَّبٍ يُخْشَيَ أو يُتَحَرَّج منه ومن تطبيقه عمليّا في الحياة !! وليس هناك بالتالي معني وسبب لتكذيبك وكأنك تَدَّعِي شيئا لا يعرفونه ولم يسمعوا عنه وهو إرسال رُسُل بالإسلام وعبادة الله وحده رغم معرفتهم جيدا بنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم وتَنَاقلهم لأخبارهم مع أقوامهم !! .. وكذلك لا تَحزن يا محمد ﷺ ولا تَسْتَثْقِل ذلك ، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده ، حين يُكذبك المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويقولوا لك أقوالا سيئة فيك وفي ربك والإسلام والمسلمين ، فهذا أيضا ليس بالأمر الجديد ، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك ، فالأمر ليس تقصيراً منكم ، وقد صَبَرَ الرسل الكرام قبلكم عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به ، فتَشَبَّهوا بهم .. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم والعمل بها وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. ففي الآية الكريمة تسلية للرسول ﷺ وللمسلمين وطَمْأَنَة وتَبْشِيرٌ لهم وعوْنٌ علي الصبر أنه ليس أمرا غريبا أو جديدا تكذيب المُكذبين للرسل الكرام وللمسلمين ، فلقد أرسلنا رسلا كثيرين من قبلك أيها الرسول الكريم محمد ليكون لكلّ البَشَرَ رسلٌ يدعونهم للإسلام ليسعدوا وذلك لرحمتنا بهم ولحُبِّنا لهم وحرصنا علي سعادتهم ، فآمَن بهم كثيرون فسعدوا تمام السعادة في الداريْن ، ولم يُصَدِّقهم أيضا كثيرون فتَعِسوا تمام التعاسة فيهما .. " .. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ .. " أيْ يَتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها رحمة عظيمة يمحو بها كل ذنب لمَن تاب منه ، حتي لمِثْل هؤلاء المُكَذّبين .. " .. وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴿43﴾ " أي وهو أيضا صاحب عقابٍ مُوجِع لكل مَن استمرّ وأصَرَّ على تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار ، بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة ينال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿44﴾ " أيْ ولو علي سبيل الافتراض أنزلنا هذا القرآن بلغةٍ أعجميةٍ أيْ غير عربيةٍ لقالوا حينها مُتَعَجِّبين مُسْتَغْرِبين رافِضين لو فُصِّلَت أيْ وُضِّحَت آيات هذا الكتاب بلغةٍ نفهمها ؟! أأعجميّ وعربيّ أي كيف يكون أعجميا والرسول عربيّ والمُخَاطَبون عرب ؟! ولَكَانَ حينها لهم حجّة في ألاّ يؤمنوا لأنهم لا يفهمونه ! لكنه هاهو قد ُأنْزِلَ بلغتهم وهم أفصح الناس وأعلمهم باللغة العربية ويعلمون جيدا إعجازه ولم يستطع أحد منهم أن يأتي بمِثْله رغم تَحَدِّيه لهم بذلك بما يدلّ أعظم دلالة علي أنه ليس من كلام البَشَر بل مِن خالقهم سبحانه لأنه لو كان مِن كلامهم لكانوا هم الأقْدَر علي الإتيان بمثله ، فلماذا إذن لا يؤمنون ؟! إنّ المشكلة بالتالي ليست حتما في القرآن العظيم وإنما في إصرارهم علي ما هم فيه والذي سببه تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم بدلا أن يحمدوا ربهم حمدا كثيرا علي أنْ أنزل عليهم هذا القرآن الكريم بلغتهم لكي يفهموه بعُمْق ويعملوا به كله ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن ويُتَرْجِموه لغيرهم بلغتهم كأمانةٍ عندهم من ربهم ليسعدوا هم أيضا وينالوا أعظم الثواب بذلك إذا هم يُعانِدون ويُكَذّبون !! .. " .. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ .. " أيْ قل يأيها الرسول الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده لهؤلاء المُكذبين المُعاندين ومَن يُشبههم أنَّ هذا القرآن العظيم هو للذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره إرشاد لكلّ خيرٍ وصلاح وكمال وسعادة وشفاء من كل شرٍّ وفساد ونقصان وتعاسة في الدنيا والآخرة ، فهم فقط الذين ينتفعون ويسعدون به في الداريْن ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدي كله من أيِّ ضلالٍ أيْ ضياع ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة مَن يُصَدِّق به ويعمل بكلّ أخلاقه سيَجد حتما السعادة كلها في دنياه وأخراه ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ، برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء .. ثم مراجعة الآية ﴿57﴾ ، ﴿58﴾ من سورة يونس " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ " ، " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾ " ، ثم الآية ﴿24﴾ من سورة الأنفال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ .. "﴾ .. " .. وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى .. " أيْ لكن الذين لا يؤمنون بالله وبرسله وبقرآنه وبآخرته أيْ يُكذبون ويُعانِدون ويَستكبرون ، هؤلاء كأنَّ في آذانهم صَمَم فهم لا يسمعون القرآن السماع المفيد المُثْمِر فكأنهم لم يسمعوا أيّ شيءٍ حين يستمعون إليه ، وهو عليهم عَمَي أيْ علي عقولهم ظلام لأنهم كلما استَمَعوا خيرا فيه كلما عانَدوا وفَعَلوا شرَّاً وفسادا وضَرَرَاً وبالتالي كلما دَخَلوا أكثر في ظلام وتعاسة في دنياهم وأخراهم ، فهم إذن في عَمَي فوق عَمَي ، عَمَي مُرَكَّب مُتَزَايِد !! إنهم في ظلماتٍ مُتَزَايِدَة شديدة السواد يتخبَّطون فيها لا يَدْرون أين يذهبون كأنهم عميان ولا يهتدون أبدا به ، ولذا فهم تعساء تمام التعاسة في دنياهم ببُعْدهم عن ربهم وقرآنه وإسلامه ثم في أخراهم سيكون حتما لهم ما هو أتمّ تعاسة وأعظم وأخلد .. " .. أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿44﴾ " أيْ مِثْل هؤلاء هم كمَن يُنادَى عليه وهو في مكانٍ بعيدٍ جدا عمَّن يُناديه وبالتالي فهو لا يَسمعه ولا يُجيبه لوجود مسافة هائلة بينهما ، إنه لا يسمع ولا يفهم أيّ خيرٍ ويَبقي فيما هو فيه من شرٍّ وشقاءٍ حتي يستفيق ويُحسن استخدام عقله ويقترب من ربه ودينه الإسلام ويعود إليهما .. والمقصود أنّهم لا ينتفعون ولا يَسعدون بالقرآن لأنهم هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الابتعاد التامّ عنه
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۗ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۗ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿45﴾ " أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له ، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم ! فلقد أعطينا موسي الكتاب – وهو التوراة – سابقا كما أعطيناكم أنتم القرآن الآن ، فاختَلَف الناس في أمره كما يختلفون في القرآن ، فمنهم مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما ، ولقد نَصَرْنا موسي ﷺ مِن قَبْل فتأكَّدوا أننا سننصركم بالقطع ، تأكّدوا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ .. " أي ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره ، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، لوْلاَ كلّ هذا ، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة ، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل ، وأنّ رحمته سبقت غضبه ، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول " .. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. " ﴿يونس : 93 ، الجاثية : 17﴾ ، لقَضَيَ تعالي بين الناس أيْ لَحَكمَ وفَصَلَ بينهم فوريا أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيرا مع أول ما يفعلونه من شرور !! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ؟! .. " .. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿45﴾ " أيْ هذا وصفٌ للحال السَّيِّء التعيس الذي فيه مِثْل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنهم دائما في شكٍّ من كتبه ومن هذا القرآن مُرِيب أيْ مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ ، أيْ شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ ، لهم ولغيرهم ، أيْ شكّ كثير أكيد ، شكّ في وجود الله وفي صِدْق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها ، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم ، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار ، وما كلّ ذلك الشكّ إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وهذا دائما يجعلهم يعيشون في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألم وكآبة وتعاسة ثم في الآخرة لهم ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. فليَعْتَبِر المسلمون إذن ولا يَتَشَبَّهوا بهم أبدا وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿46﴾ " أيْ مَن اجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن ، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ﴿لمزيد من الشرح والتفصيل ، برجاء مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، ثم الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. "﴾ .. " .. وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا .. " أيْ والعكس صحيح قطعا ، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله ، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه ، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد .. " .. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿46﴾ " أي ولم يَكُن أبداً ربك ، أيّها المسلم وأيها الإنسان ، الخالق الرحيم الكريم مُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يحدث حتما مثل هذا وهو أعدل العادلين ، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة ، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم ! .. وفي هذا تشجيع وتذكير لكل عاقل أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره ، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء.