الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً مُراعِيَاً لله تعالي في كل أقوالك وأفعالك لأنه يعلم مَا تُسِرّ ومَا تُعْلِن فعليك أن تكون دَوْمَاً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)" أيْ هذا تَنْبِيهٌ وتَذْكِيرٌ للناس أنْ يُحْسِنوا الاستعداد لحسابهم يوم القيامة، بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبحُسْن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. أيْ قَرُبَ جداً للناس وقت حسابهم علي كل أقوالهم وأعمالهم، خَيْرها وشَرّها، اقتربَ منهم وسيأتيهم بلا أيِّ شكّ فعليهم بالتالي إذَن أنْ يُحْسِنوا الاستعداد له بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، إمَّا بالموت الذي يُنْهِي آجالهم في حياتهم الدنيا والذي يأتي فجأة، وهو قريبٌ جداً إذ قد يَحْدُث بعد لحظةٍ كما يُثْبِت الواقع ذلك ولا يمكن لأحدٍ أن يُكَذّب هذا، ثم يبدأ حسابهم المَبْدَئِيّ عند دخولهم قبورهم إلي أن يأتي الحساب الختاميّ الأخرويّ، وإمَّا باقتراب يوم القيامة.. هذا، ولفظ "اقتربَ" يُفيد قُرْب المَجِيء وصِدْقه وتأكيده وهو فِعْلٌ ماضٍ يعني المستقبل المُحَقّق الوقوع أيْ سيأتي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، وهو للإشعار بتَحَقّق هذا الإتْيان حتى لكأنَّ ما سيَقع في المستقبل قريبا قد صار فى حُكْم الواقع فعلاً، وذلك لأنَّ الله تعالي هو الذي يقوله ويَعِدُ به وهو القادر علي كل شيءٍ وهو الذي قد أتَيَ فِعْلَاً في عِلْمه المستقبليّ ما سيَحدث مِمَّا لا يعلمه أحدٌ غيره ولا يعلمه خَلْقه حيث لا أحد يعلم المستقبل إلا هو سبحانه.. ".. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)" أيْ والحال والواقع أنَّ الكافرين والعاصِين منهم هم في نسيانٍ وإهمالٍ وانشغالٍ وعدم انتباهٍ وإدْراكٍ وتَعَقّلٍ لهذا الحساب العظيم فهم غافِلون عن هَوْلِه أيْ تائهون ناسُون ضائعون لاهُون مُنْشَغِلُون غير مُنْتَبِهِين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم تعِيسون في دنياهم بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم وعدم حُسْن استعدادهم لحسابهم وسيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لهما، وهم كذلك مُعْرِضون عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وعمَّا يُذَكّرهم بذلك ويَدْعُوهم إليه أيْ يُعطونه ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وإهمال.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)" أيْ ما يَصِلهم، أيْ مَا يَصِل إلي هؤلاء الناس السابق ذِكْرهم، أيْ إلي الكافرين والعاصِين، في كلّ زمن، مِن تَذْكِيرٍ مِن ربهم في كتابٍ مِن كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم، مُحْدَثٍ أيْ جديدٍ مُتَجَدِّدٍ فيه إسلامٍ يُناسب كل زمن، قد أَحْدَثه الله تعالي أيْ قاله وأوْحاه لِرُسِله رسولاً بعد رسولٍ في زَمَنٍ بعد زمنٍ بلا انقطاعٍ حتي آخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ليُبَلّغه للناس، والمقصود أنَّ الذكْر الذي هو كلامه سبحانه ووَحْيه والذي فيه نظام الإسلام والذي آخره القرآن الكريم الخالِد الخاتم الذي ليس بعده كتاب آخر لأنه كاملٌ شامِلٌ لا يحتاجون لغيره سيَظَلّ يُذَكّرهم منذ بَدْء خَلْقِهم من أبيهم آدم وحتي يوم القيامة بصورةٍ مُتَجَدِّدَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ بما يُناسب أحوالهم بكلِّ مُتَغَيِّراتها، سيَظلّ يُذَكّرهم في كل شئون حياتهم بكل خيرٍ ليَفعلوه وبكل شَرٍّ ليَتركوه ليسعدوا تمام السعادة فيها ثم في آخرتهم.. ".. إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)" أيْ إلا استمعوا هذا الذكْر وهم يَسْخَرون ويَسْتَهْتِرون ويَنْشِغلون عنه بما يَلْهون به من أعمالهم والمقصود أنهم لا يَستمعون إليه إلا بصورةٍ فيها عدم اهتمامٍ ووَعْيٍ وتَدَبُّرٍ وتَرْكِيزٍ وباسْتِهْزاءٍ واسْتِهْتارٍ واسْتِعْلاءٍ لا تَعْظيمٍ فلا يَتّعِظون ويَنْتَفِعون ويَسعدون به في دنياهم ثم أخراهم وهو الذي يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة فيهما
ومعني "لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)" أيْ إلا استمعوه وهم يلعبون وإلا استمعوه وهم قلوبهم أيْ عقولهم تكون لاهِيَة أيْ مُنْشِغَلَة سَاهِيَة غافِلَة عن التّدَبُّر والتّعَمُّق في مَعانِيه ليَنتفعوا بالعمل بها ليسعدوا في الداريْن.. ".. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.." أيْ وإضافة لسوء حالهم باستماعهم الذكْر وهم يَلْعَبون وهم لاهية قلوبهم أضافوا حالاً سَيِّئَاً آخر وهو أنَّ هؤلاء الذين ظلموا أيْ ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، أسَرُّوا النَّجْوَيَ أي أخْفُوا النّجْوَيَ أي الحديث – والنجوي هي الكلام الخافِت السِّرِّيّ ولفظ "وأَسَرُّوا" يُفيد المُبَالَغَة في الإسرار أيْ وأسَرُّوا ما هو سِرِّيّ أصلا – حتي لا تَنْكَشِفَ مَكائدهم ضِدّ الرسول (ص) والإسلام والمسلمين إذ كانوا يَتَناجون أيْ يَتَكَلّمون بصوتٍ خافِتٍ في السِّرّ قائلين مُكَذّبين مُعانِدين مُسْتَكْبِرين مُسْتَهْزِئين مُرَاوِغِين مُشَكّكِين لِمَنْع أنفسهم وغيرهم عن الإيمان بالله تعالي واتّباع أخلاق الإسلام هل هذا الذي يَدَّعِي أنه رسولٌ أيْ مَبْعُوثٌ من ربه وربكم ويَدْعُوكم للإيمان به ولاتّباع دينه الإسلام إلا بَشَرٌ مِثْلكم أيْ ما هذا إلا إنسانٌ مثلكم وليس مَلَكَاً فيكون له فضلٌ عليكم بل أنتم أفضل منه من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولو أراد ربه وربكم إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فهو إذَن كاذب! وهو ليس رسولاً ولا يُمْكِن أنْ يكون كذلك أبدا! وبالتالي فأنتم في المُقابِل عليكم أنْ تُكَذّبوا بما أرْسِل به إليكم!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم قد تَرَفّعوا واستكبروا أن يَتَّبعوا رسولاً من البَشَر ولم يَتَأَفّفوا أن يكونوا عابدين لأصنامٍ وأحجارٍ وأبقارٍ وغيرها!!.. ثم خاتم المُرْسَلِين الرسول الكريم محمد (ص) ليس هو حتماً أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالى إلى الناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفونهم من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. ".. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)" أيْ فبالتالي إذَن فبما أنه بَشَرٌ مِثْلكم وليس مَلَكَاً ويُؤَثّر في الناس هكذا فما جاء به من قرآنٍ لا بُدَّ أن يكون سِحْرَاً وليس غير ذلك يَسحر العقول بأوهامٍ وتخيُّلات ليست حقيقية كالتي يفعلها السِّحْر بالعقل فهل تذهبون لهذا السحر وهو القرآن والإسلام ولهذا الساحر الذي جاء به وهو محمد وتسمعون له وتُصَدِّقونه وتَتّبِعونه وأنتم تُبْصِرون أيْ تُدْرِكون وتعلمون بعقولكم وتَرون بأعينكم صِحَّة ما نقول؟! ما لكم أين ذَهَبَتْ عقولكم؟!.. وهذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن فَعَلَ ذلك!! مِن وِجْهَة نَظَرِهم السَّفِيهَة الفاسِدَة الكاذِبَة!!
ومعني "قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)" أيْ قال الرسول (ص) فى الرَّدِّ على مَا تَنَاجَوْا به في السِّرِّ وقد أطْلَعه الله عليه مِن خلال وَحْيِه: ربى – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – يعلم القول كله الذي يُقال من أيِّ مَخْلوقٍ في كل السماء والأرض والذي منه ما تقولونه سواء أكان سِرَّاً أم جَهْرَاً، وهو السميع العليم أيْ وهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)" أيْ هؤلاء الذين ظلموا السابق ذِكْرهم لم يَكْتَفوا بما يقولونه كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً في شأن الرسول (ص) أنه ليس برسولٍ لأنه بَشَرٌ لا مَلَك وأنَّ ما جاء به من قرآنٍ كريمٍ هو سِحْرٌ لكنْ قالوا أيضاً مُكَذّبين مُعانِدين مُسْتَكْبِرين مُسْتَهْزِئين أنَّ القرآن أضغاثُ أحلامٍ أيْ أخلاط أحلامٍ وهَوَاجِس وتَخَيُّلاتٍ تَدور بعقلِ محمدٍ أثناء نومه وليس كلام الله ووَحْيه كما يَدَّعِي، وقالوا افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عنده ونَسَبَه لله وليس من عند الله فهو لم يُوُحَ إليه شيء – والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا – وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه (ص) هو الصادق الأمين!! وأنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب!! وقالوا: شاعر أيْ يُنَظّم الكلام كالشعراء وما جاء به هو من الشعر الذي يُؤْثّر في الآخرين، وهم يعلمون تماما بداخل عقولهم أنه ليس بشاعرٍ وأنَّ القرآن العظيم ليس بشِعْرٍ لأنَّ للشعر أسلوباً هم أعلم الناس به.. لقد قالوا كل هذه الأقوال السَّيِّئة وغيرها إمَّا في أوقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فأحياناً يقولون أنه ساحرٌ وأحيانا أضغاث أحلام وأحيانا افتراه وأحيانا شاعر وإمَّا قال بعضهم أنه ساحرٌ وبعضهم أضغاث أحلام وبعضهم افتراه وبعضهم ساحر.. إنَّ هذا الانتقال من ادِّعاءٍ كاذبٍ لآخر يدلّ علي حَيْرَتهم وتَرَدّدهم وتَخَبُّطهم وتَضَارُبهم واضطرابهم وضعفهم وهزيمتهم إذ من صفات المَهْزُوم أنه عند هزيمته ينتقل مِن اتّهامٍ سَفيهٍ لآخر حيث لم يَعُدْ يَمْلِك شيئاً مَا يَنْتَصِر به كما يَدلّ انتقالهم هذا علي إصرارهم علي تكذيبهم وأنهم سيُبَرِّرُونه دائماً بأيِّ شكْلٍ من الأشكال لكي يحاولوا يائسين تَنْفير وإبْعاد الناس عنه، وذلك الانهزام أمام القرآن الكريم بسبب أنه في إعجازه وهدايته وإحكامه قد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وحيث يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه، وبالتالي فلا يمكن أبداً لأيِّ أحدٍ مِن الخَلْق مهما كان أنْ يَفْتَرِيَه، لأنه لا يَقْدِر على ذلك أحدٌ مِنهم وقد حاول بالفِعْل كثيرون من أفصح الفصحاء وعَجزوا وفَشلوا ويَئسوا، فمِثْل هذا القرآن لا يكون أبداً إلاّ مِن عند الله فهو لا يُشْبِهه ولا يُقارِبه بالمُطْلق أيٌّ مِن كلام البَشَر.. ".. فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)" أيْ وقالوا أيضا إنْ كان يريد مِنّا أنْ نُصَدِّقه وإنْ كان رسولاً بصِدْقٍ كما يَدَّعِي وليس بشاعرٍ ولا ساحرٍ فبالتالي إذَن فلْيَجِئْنا بآيةٍ أيْ فعليه أنْ يُحْضِرَ إلينا مُعْجِزَة مَرْئِيَّة مَحْسُوسَة تَدلّ علي صِدْقه وأنه مُرْسَلٌ من عند الله مُؤَيَّدٌ منه كما أُرْسِلَ السابقون من الرسل مُؤَيَّدُون بمُعْجِزاتٍ مَرْئِيَّةٍ مَحْسُوسَةٍ كعَصَيَ موسي مثلا أو إحياء الموتي لعيسي، وفي هذا تكذيبٌ ضِمْنِيّ وعدم اعتراف بمعجزة القرآن العظيم واستهانة بشأنها رغم أنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنَّ الله تعالي قادر قطعا علي أن يُنَزّل كلّ آية في أيِّ وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه!.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ويُرَاعَيَ أنهم بطَلَبهم الإتْيان بآيةٍ كما أُرْسِل الرسل الأوّلون يعترفون ضِمْنِيَّاً بأنَّ الرسلَ بَشَرٌ ويُكَذّبون أنفسهم أنهم لا بُدَّ أنْ يكونوا ملائكة وبالتالي فلماذا لا يؤمنون بخاتم الرسل محمد (ص) ويُريدونه مَلَكَاً لا بَشَرَاً؟!
ومعني "مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزئين المُرَاوِغِين ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبالتالي فمَهْمَا أَتَتْهُم ووَصَلَتْهُم من آياتٍ سواء طَلَبوها أم لم يَطْلبوها لن يُؤمنوا، ولن يُؤْمِن وسَيُكَذّب مِثْلهم كلُّ مَن تَشَبَّه بهم وأغْلَق عقله كما أغلقوه.. أيْ مَا آمَنَتْ قبل هؤلاء المُكَذّبين الحالِيِّين أيُّ بلدٍ أهلكنا أهلها أيْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيْنَاهم وأَزَلْنَاهم ودَمَّرْناهم وأتْلَفْناهم سابقاً بسبب تكذيبهم لَمَّا جاءتهم الآيات فهل هم هؤلاء الحالِيِّين يؤمنون إذا جاءتهم آية والمشكلة فيهم مِثْلهم؟! إنهم حتماً لن يؤمنوا!! إلا إذا استفاقوا وأزاحوا الأغشية التي علي عقولهم وأحسنوا استخدامها فحينها فقط سَيُؤمنون وسَيَسْعدون في الداريْن
ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)" أيْ وما بَعثنا قبلك سابقاً يا رسولنا الكريم محمد لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إلا رجالاً مِثْلك لا ملائكة، وهؤلاء الرجال نُوحِي إليهم وَحْيَنا بالكتب التي فيها الإسلام الذي يُناسب زمن الناس حولهم، واخترناهم لكمال أخلاقهم ورَجَاحَة عقولهم وشِدَّة حِلْمهم.. والمقصود أننا من رحمتنا وفضلنا وكرمنا ورزقنا ووُدّنا علي جميع الناس جعلنا الرسل جميعا رجالاً لا ملائكة ليكونوا منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!.. كذلك المقصود أنَّ الرسول الكريم محمد (ص) ما كان أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالي للناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفون من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه (ص) هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتِّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. ".. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)" أيْ فإنْ شَكَكْتُم في ذلك، أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بكم، وأنتم تعلمون صِدْقه تماما حيث تَتَدَاوَلون أخبار الرسل السابقين وأمرهم مَشْهُورٌ بينكم كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم، ولفظ "إنْ" في اللغة العربية يُفيد الشَّكّ أيْ أنتم مَشْكُوكٌ في كوْنكم لا تعلمون، أو إنْ كنتم لا تعلمون حقّاً ذلك أيها الذين لا يعلمونه لجَهْلكم به وأنتم صادقون في معرفة الحقّ، فاسألوا بالتالي إذَن أهل الذكر أيْ أصحاب العلم بذلك مِمَّن يعلمون تَوَاريخ الأمم السابقة ومن علماء أهل الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل أيْ اليهود والنصاري فإنه مَن أسْلَمَ منهم فسيقول الصدق ومَن لم يُسْلِم فهو مُعْتَرِفٌ تماماً بأنَّ الرسل بَشَرٌ حيث يعترفون بموسي وعيسي، فإنَّ العاقلين المُنْصِفِين العادلين منهم سيُؤَكّدون لكم أنَّ الرسل كانوا كلهم بَشَر لا ملائكة.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة إرشاد لكل مسلم أنه سيسعد كثيراً إنْ كان مُستعيناً دائماً – بعد الله تعالي والتوكّل عليه وإحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – بأهل الذكر ويسألهم، أيْ أهل العلم والفِكْر والتّدَبُّر والخِبْرَة، في كل تَخَصُّصٍ ومَجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، سواء أكان شرعيا أم سياسيا أم إداريا أم اقتصاديا أم صناعيا أم تجاريا أم زراعيا أم فنيا أم رياضيا أم ثقافيا أم فكريا أم عسكريا أم غيره، يسألهم فيما لا يعلمه ولا يفهمه ويريد تَعَلّمه وفَهْمه ومعرفة تفاصيله ومنافعه، الصادقين منهم والثقات، حيث سيَجد عندهم حتماً الصواب والخبرات، وسيُوَفّرون عليه الأوقات والمجهودات، وبذلك تتحقّق أفضل النتائج، ويسعد الجميع في دنياه وأخراه، ما داموا يَسْتَصْحِبُون دائما نوايا خيرٍ بعقولهم عند أيِّ قولٍ أو عمل
ومعني "وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)" أيْ هذا تأكيدٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة أنَّ الرسلَ بَشَرٌ لا ملائكة.. أيْ وما جعلنا الرسل كلّ واحدٍ منهم جَسَدَاً، لا يأكلون الطعام ولا يشربون الشراب كالملائكة، ولكنْ جعلناهم يأكلون ويشربون ويَتَزَوَّجون ويَتناسلون ويَتَحرَّكون ويعملون وينامون ويَحْدُث لهم كلّ مَا يُمكن أنْ يَحْدُث لأيِّ بَشَرٍ من قوّةٍ وضعفٍ وصِحَّةٍ ومرضٍ وغِنَي وفقر ونحو ذلك، وما كانوا خالدين أيْ دائمين باقِين ماكِثين مُسْتَمِرِّين بلا نهايةٍ في هذه الحياة الدنيا بلا موتٍ ولكنهم يَموتون كَكُلّ البَشَر عندما تنتهي آجالهم فيها في مواعيدها التي حَدَّدها تعالي لهم بلا تقديمٍ ولا تأخير
ومعني "ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)" أيْ وبعد ما أوحيناه إليهم مِن شَرْعِنا الإسلام صَدَقْناهم الوعد الذي وَعَدْناهم به وهو نَصْرهم ونَشْر إسلامهم وإسعادهم فأنجيناهم أيْ بأنْ أنْجَيْناهم أيْ أنْقذناهم من العذاب الذى أنزلناه بأعدائهم وأنْجينا معهم مَن نريد إنْجاءهم مِن المؤمنين بهم وأهلكنا أيْ وأَفْنَيْنَا وأَبَدْنا وأَزَلْنا ودَمَّرْنا وأتْلَفْنا المُسْرِفين أيْ المُتَجاوِزين لحدود الله المُتَجَرِّئين علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّين علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرين المُبَالِغُين في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار.. لقد كانت دائماً العاقبة لرسلنا ولِمَن يؤمنون بهم ويَتّبِعونهم أيْ النتائج والنهايات الحَسَنة الطيِّبة المُسْعِدَة مِن نَصْرٍ وغَلَبٍ وفوزٍ ونجاح ونحوه في الدنيا والآخرة.. لقد حَقّقْنا لهم ما وعدناهم به من نصرٍ علي أعدائهم بنشر الإسلام والتمكين للمسلمين في الأرض يَنتفعون ويَسعدون بخيراتها وهزيمة المُكَذّبين وإفشالهم وإتعاسهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مُناسِباً لتحقيق أفضل النتائج لذلك، بفضلنا وتوفيقنا ورحمتنا ورزقنا وحكمتنا وعِلْمنا، فنحن لا نُخْلِف وَعْدَنا أبداً فهو حتماً دَوْمَاً وَعْدٌ صادقٌ مُؤَكّدٌ لا كاذب أو مُحْتَمَل.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)" أيْ لقد أنزلنا إليكم أيها الناس جميعا، من خلال ما أوحيناه لرسولنا الكريم محمد (ص)، برحمتنا وفضلنا وحِكْمتنا وعِلْمنا وقُدْرَتنا، كتاباً عظيمَ الشأن، هو القرآن العظيم، فيه ذِكْركم أيْ تَذْكيركم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم لتَفعلوه لتَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ لتَتركوه حتي لا تَتعسوا فيهما، كذلك فيه ذكْرٌ لكم أيْ صِيتٌ طيِّبٌ أيْ كلُّ شرفٍ وعِزَّةٍ وجَاهٍ ومَكَانَةٍ وسُمْعَةٍ طيِّبةٍ ونحو ذلك ممّا تَنتفعون وتَسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)" أيْ فهل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)" أيْ وكم مِن قريةٍ قَصَمْناها لأنها كانت ظالمة، أيْ وكثيراً قَصَمْنَا أيْ كَسَرْنا تَكْسِيرَاً شديداً والمقصود أهْلَكْنا أيْ أَفْنَيْنَا وأَبَدْنا وأَزَلْنا ودَمَّرْنا وأتْلَفْنا بَلْدَة كانت ظالمة أيْ كان أهلها ظالمين أيْ ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)" أيْ وأوْجَدْنا وخَلَقْنا بعد أهل هذه القرية التي كانت ظالمة والتي قَصَمْناها وقَصَمْناهم أناساً غيرهم، وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكانٍ أنه تعالي كما قَدَرَ على أن يهلك مَن كذّبوا قبلهم ويُنْشِيء مكانهم آخرين يَقْدِر قطعاً أن يفعل ذلك بهم.. ولو آمنَ هؤلاء الذين سيَخلفوهم سعدوا في الداريْن لكن إنْ كانوا مثل سابقيهم تعسوا وهلكوا أيضا مثلهم فيهما.. إنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابهم وإنهائهم من الحياة الدنيا في أيّ وقت، بقوّته سبحانه التي يَرَوْنها ويَعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدهم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتهم وذرِّيَّات غيرهم كما خلقهم هم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فلينتبهوا لهذا تماما إذَن هم وجميع الناس وليعبدوه وحده وليتوكّلوا عليه وحده وليتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ الله تعالي حتماً علي ذلك الذهاب بهم والإتيان بآخرين قدير أيْ كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد.. إنَّ في هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشيراً للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)" أيْ فعندما شَعُرَ هؤلاء الظالمون عذابنا الدنيويّ بَدَأ يَنْزِل بهم سارَعُوا يَرْكُضُون منها أيْ يَجْرُوُن مُسْرِعِين مِن قريتهم مُحَاوِلِين يائسين خائفين مُتَخَبِّطين مُتَحَسِّرين الهروب من العذاب والذي هو مُتَحَقّقٌ حتماً وليس له أيّ مَهْرَب منه
ومعني "لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)" أيْ يُقالُ لهم، مِن خَواطِر عقولهم أو مِمَّن رأوهم من المؤمنين الصالحين حولهم، استهزاءً بهم وذَمَّاً لهم وزيادة في حَسْرَتهم ونَدَمِهم وألَمِهم وخوفهم، لا تَجْرُوا مُسْرِعين هارِبين أيها الظالمون فلن يَمنعكم الآن مُطلقاً أيُّ مانِعٍ من عذاب الله تعالي حين يُعَذّبكم به، وعُودوا، إن استطعتم ولن تستطيعوا حتماً لأنه قد فاتَ الأوَان ونَزَلَ العذاب، إلي مَا أُتْرِفْتُم فيه أيْ إلي مَا كنتم مُتّعْتُم فيه من مُتَع الدنيا وكانت سَبَبَاً في ظُلْمِكم وإلي بيوتكم التى كنتم تسكنونها وتأمنون فيها وتتفاخرون بها – والمُتْرَفُون هم المُنْغَمِسون في كلّ تَرَفٍ أيْ في كلّ نعيمٍ زائدٍ يَغْلب عليه الفساد والشرّ والاستكبار الأمر الذي يكون كالأغشية علي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها بسبب حرصهم الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة – لعلكم تُسألون أيْ لكي يَسألكم غيركم المَعُونَة والمَشُورَة ونحوها فتُعْطونهم إيَّاها كما كنتم قبل نزول العذاب بكم أو يسألونكم عمَّا نَزَلَ بكم من عذابٍ فتُخْبِرونهم به عن علمٍ ومُشَاهَدَةٍ واقعية! والمقصود زيادة ذمِّهم وحَسْرَتهم ونَدَمِهم وألَمِهم وخوفهم والاستهزاء بهم حيث قد فَقَدُوا كلَّ شيءٍ ولن يستطيعوا العودة لِمَا كانوا عليه مِن تَرَفٍ وشَرَفٍ ومَكَانَة!!
ومعني "قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)" أيْ قالوا حينها بما يدلّ علي شِدَّة خوفهم واضطرابهم وحَسْرَتهم ونَدَمهم وألمهم وإهانتهم وتعاستهم يا هَلاَكنا نحن هَالِكون حقّاً بكل تأكيد، فقد كنا، لأننا كنا، ظالمين، أيْ ظلمنا أنفسنا ومَن حولنا بسبب أننا أتْعَسْناها وأتْعَسْناهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. لقد اعترفوا بظُلْمِهم وبأنهم مُسْتَحِقّون للعذاب ونَدِمُوا لكنْ في وقتٍ لن ينفع فيه الندم لأنَّ الوقت وقت الحساب وقد فات الأوَان للتصويب ونَزَلَ العذاب بالفِعْل بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)" أيْ واسْتَمَرَّتْ تلك الكلمات وهي "يا وَيْلَنا إنّا كنّا ظالمين" المَصْحُوبَة بالمَرَارَة والرُّعْب هي دعوتهم التي يَدْعُون بها علي أنفسهم حتي أيْ إلي أنْ جعلناهم أيْ صَيَّرْناهم بعذابنا حصيداً أيْ كالزرع المَحْصُود الذي حُصِدَ وقُطِعَ كله فلم يَتَبَقّ منه شيءٌ وأصبح حُطامَاً لانقطاع أسباب الحياة عنه، خامِدين أيْ هامِدين مَيِّتين كما تخمد النار أيْ تنطفيء وتنتهي.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16)" أيْ وما خَلَقْنا أيْ وما أوْجَدنا من عدمٍ علي غيرِ مثالٍ سابقٍ بقدْرتنا التامّة السماء والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ما خلقنا كلّ ذلك لاعبين أيْ عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة! وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي يَسير بالحقّ أيْ بالعدل أيْ بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا .. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لو أَرَدْنَا، علي سبيل الفَرْض الذي مِن المُسْتَحيل أنْ يَحْدث، أنْ نجعل لنا لهواً أيْ ما نَلْهُو به أيْ نَتَسَلّي ونلعب به عَبَثَاً أيْ بلا فائدةٍ ولا حِكْمَةٍ ويكون عَشْوائياً وفَوْضَوِيَّاً وطائشاً بلا تَعَقّلٍ ولا هَدَفٍ ومُشْغِلَاً عمَّا هو جادّ نافع مُفيد، لو شئنا هذا اللهو لَجَعلناه لَهْوَاً من عندنا ومِن جِهَة قُدْرَتنا يُناسِب عَظَمَتنا لأننا نَقْدِر علي كل شيءٍ لا مِن عندكم أهل الأرض لا يَلِيق بنا!! إنْ كنّا فاعِلِينَ ذلك، ولكنّنا يَسْتَحيل أبداً أنْ نفعله لأنه ليس من صِفاتنا لأنَّ لنا كل صِفات الكمال الحُسَنَيَ، والمقصود مَا كُنّا فاعِلين له مطلقاً.. فسبحان الحليم الذي يَحْلم أيْ يَصْبِر كثيراً علي بعض خَلْقِه من البَشَر الذين يَتَطاوَلون عليه بما لا يَلِيق ومع ذلك يرزقهم ويكرمهم ويرعاهم، ويرحمهم إذا عادوا إليه ويسعدهم في الداريْن، بل ويَتَنَزَّل في الحوار مع أصحاب العقول الخفيفة السفيهة ليُقْنِعَهم بكل وجوه الإقناع المُمْكِنَة لعلهم يستفيقون ويعودون له ولدينه الإسلام، للخير وللسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا أزاحوا ما علي عقولهم من غشاوات والتي وضعوها هم عليها بسبب حرصهم الشديد علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)" أيْ ليس مِن شَأننا ولا مِن صِفاتنا أنْ نَتّخِذ لَهْوَاً ولكن الذى مِن شأننا وحِكْمتنا وتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا نحن الذين لنا كل صفات الكَمال الحُسْنَيَ أنْ نَقْذِف – أيْ نَرْمي بقوة وبدِقّة كالقذيفة لإصابة الهدف – بقذائف الحقّ فنُصَوِّبها ونُوَجّهها دائماً علي الباطل فيَدْمَغه أيْ فيُؤَدِّي ذلك إلي أنْ يُصِيب الحَقّ الباطِلَ في دِماغِه أيْ في عظام جُمْجُمته ومُخّه فيُهَشّمه ويُحَطّمه ويُكَسِّره تَكْسِيرَاً شديداً بصُورَةٍ لا يُمكن بعدها أن يعود كما كان، أيْ يَقْهَره ويَهزمه ويهْلكه ويَمْحوه، فيُؤَدِّي ذلك إلي أنه هو زاهقٌ أيْ هالِكٌ ذاهِبٌ زائِلٌ بسرعة بصورةٍ فجائِيَّة أيْ فسُرْعان مَا تَزْهَق رُوُحُه أيْ يَلْفِظ أنفاسه الأخيرة أيْ يموت ويهلك وينتهي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (81) من سورة الإسراء "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. والحقّ هو القرآن الكريم بما فيه من إسلامٍ عظيمٍ يشتمل علي كلّ حقّ أيْ صوابٍ وصدقٍ وصلاحٍ وعدلٍ وخيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، والباطل هو عكس الحقّ وعكس الهُدي، فهو كلّ خطأ وكذبٍ وفسادٍ وظلم وشرٍّ وتعاسة وبالجملة هو كل ضياع فيهما.. وقَذْف الله هذا للحقّ علي كلّ باطلٍ والقضاء عليه سيَحدث لكلّ مَن يَبقيَ علي ما هو فيه من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء، فليَحذروا ذلك تمام الحَذَر وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل فوات الأوان.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديد لهم ولأمثالهم، وطَمْأَنَة لأهل الحقّ والخير أنهم لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)" أيْ ولكم الهلاك والعقاب والعذاب الشديد، أيها المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤن ومَن يَتَشَبَّه بكم، مِمَّا أيْ مِن الذي أيْ بسبب الذي تَصِفون الله تعالي به أيْ تقولون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً من صفاتٍ لا تَلِيق وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وبسبب كذلك السوء الذي تَصِفون به القرآن العظيم والرسول الكريم (ص) والإسلام والمسلمين.. والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم، ويكون في الداريْن إنْ لم يتوبوا بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب في دار الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الدار الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)"، "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، علي كمال مُلْكِه وقُدْرَته وإرادته سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ.. أيْ ولله تعالي وحده كلّ مَن في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتماً بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)" أيْ وجميع المخلوقات في الكوْن مِن ملائكةٍ وغيرها والتي هي كلها عنده في مُلكه وسلطانه وتحت تصرّفه وعلمه يرعاها ويُدير شئونها علي أكمل وأسعد وجْهٍ هي كلها لا تتعالي أبداً علي عبادته أيْ طاعته طوال الوقت ولا تَسْتَحْسِر أيْ لا تَتْعَب ولا تَملّ ولا تَتَراجَع ولا تتكاسَل ولا تضعف لحظة بل دائماً في تَوَاصُل مع ربها وطاعةٍ وذِكْر له وهي تَسْتَلِذّ وتَستمتع وتَسعد بذلك لأنها تؤدّي مهمّتها التي خَلَقها ربها من أجلها وهي نفع وإسعاد بني آدم.. وفي هذا تذكيرٌ وتحذيرٌ للذين يَستكبرون عن عبادة الله تعالي فلا يعبدونه أو يعبدون غيره أنهم هم وحدهم الذين يُخالِفون كل المخلوقات ونظام الكون وأنهم يعبدون ما هو عبد لله مَخْلوق أصلاً فأين عقولهم؟! لعلهم بهذا التذكير والتحذير يستفيقون ويعودون لعبادة ربهم وللعمل بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن بَدَلَاً من تعاستهم التامَّة فيهما.. "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)" أيْ وهي تُسَبِّحه أي تُنَزّهه وتُبعده عن كلّ صفةٍ لا تليق به كما قال تعالي "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء:44)، طول الليل والنهار أيْ دائماً في كلّ وقتٍ وحالٍ لا تَفْتُر مُطْلَقَاً أيْ لا تَضْعف ولا تَنْخِفض هِمَّتُها ولا تَسْكن بعد نشاط، وهي تَسْجُد له وحده بلا أيِّ شريكٍ أيْ تخضع وتستجيب وتستسلم لتوجيهاته وإرشاداته وتقوم بطاعتها وتطبيقها كلها بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، فهي مستديمة علي طاعته وذِكْره والسجود له.. فاجتهدوا أيها المسلمون في التشبُّه بملائكته وكلّ خَلْقه في تمام الطاعة والذكْر له وحُسن العمل لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. فالآية الكريمة والتي قبلها هي لتَحْفِيز كلّ بني آدم علي ذلك ولتذكيرهم أنَّ مَن يستكبر عن عبادة الله تعالي فإنه بالقطع لن يضرّه شيئا فهو مالِك المُلك الغنيّ عن كلّ شيء، ولا قيمة له ولا لتكذيبه، بل هو قطعا مَن يُضَرّ، مَن سيَتعس في الداريْن ببُعده عن ربه ودينه الإسلام
ومعني "أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)" أيْ هل جَعَلَ السفهاء غير العقلاء كالمشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم آلهة من الأرض غير الله تعالي أيْ مَعْبُودات منها يَعبدونها أيْ يُطيعونها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) هم يُنْشِرون أيْ يستطيعون خَلْق خَلْقٍ وجَعْل أرواحٍ وطاقاتٍ لهم يَنْتَشِرون ويَنْطَلِقون بها؟!!.. إنه تعالي وحده الذي يملك أصول الحياة وأرزاقها وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها.. إنَّ أحداً لم يستطع إدِّعاء هذا كما يُثْبِت الواقِع ذلك.. إنهم يعبدون غيره وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ!.. وهل يُقارَن الخالِق بمَا خَلَقَه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. إنَّ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول هم بَدَلَاً عن هي والتي هي صيغة غير العاقل لأنَّ الذين يعبدونها يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم، وكذلك لكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!
ومعني "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)" أيْ هذا بيانٌ عَقْلانِيٌّ مَنْطِقِيٌّ علي اسْتِحَالة أنْ يكون إلهٌ إلا الله تعالي وبالتالي إذَن وبعد هذا البيان الحكيم لا تجعل أيها الإنسان العاقل مع الله مَعْبُودَاً آخر في عبادتك أيْ طاعتك، أيْ لا تُشْرِك مع الله إلاهاً آخر غيره فتعبد صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. أيْ لو كان في السماوات والأرض مَعْبُودات غير الله تُدَبِّر شئونهما وشئون مَا فيهما وعليهما مِن خَلْقٍ لَفَسَدَتَا أيْ لَكَانَتَا خَرَبَتَا وهَلَكَتَا بالتأكيد وخَرَبَ وهَلَكَ كلّ مَن فيها وعليها بسبب اختلال نظامهما الدقيق المُحْكَم وحُدُوث الفَوْضَيَ والاضطراب (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (42) من سورة الإسراء "قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا"، والآية (91) من سورة "المؤمنون" "مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وسبب فسادهما أنَّ تَعَدُّد الآلهة يَتَطَلّب حتماً التّنازُع والتّصَارُع بينهم لأنَّ كل إلاهٍ سيَذْهَب بمَا خَلَقَ أيْ سيَنْفَرِد بخَلْقِه وسيَقوم بتنظيم الجزء من الكوْن الذي يَمْلكه ويَتَحَكّم فيه بما يشاء من أنظمةٍ وسيَعْلُو بعضهم علي بعض أيْ سيَتَصارَعون فيما بينهم ليحاول كل منهم أن يكون هو العالِي الغالِب فيكون هو الإله المُسَيْطِر وحده! وبالتالي لن يوجد نظام بل كلّ فَوْضَيَ وخَلَل! وبما أنَّ نظام الكوْن واحدٌ ودَقيقٌ ولا يوجد فيه أيّ اختلال أو فَوْضَيَ في كل نواحيه وكل لحظاته، كما هو واضحٌ لكل ذي عينين وذي عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، إذَن فبكل بَدَاهَةٍ وبالقطع وحتماً لا توجد آلهة مُتَعَدِّدَة أو أيّ شيءٍ مِن هذا السَّفَه والخَبَل والتخريف وإنما هو إلهٌ واحدٌ هو الله تعالي الخالِق القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة!! هكذا بكل عقلانِيَّة وبَسَاطَة وعُمْق!.. ".. فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)" أيْ فبالتالي سَبِّحوا الله صاحِب المُلْك الذي قد تَمَلّكَ المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، عمَّا يَصِفون أيْ عمَّا يَصِفونه به هؤلاء الذين يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويَستهزؤن أيْ عمَّا يقولون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً من صفاتٍ لا تَلِيق به، كاتّخاذ زوجةٍ أو ولدٍ أو وجود شريكٍ له في المُلْك أو وزيرٍ أو مُعِينٍ أو وجود آلهة معه تُعْبَد غيره أو نحو هذا من التخاريف والأكاذيب، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
ومعني "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا يُحاسَب الله تعالي من أيِّ مَخْلوقٍ عمَّا يفعل، في تدبير وتقدير وتنظيم ورعاية كل شئون كَوْنه وخَلْقه، وذلك لتمام كماله وحِكْمته وعِلْمه وقُدْرَته وعدله ورحمته وإحسانه فهو له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ فهو سبحانه مُنَزَّهٌ عن أيِّ خَطأٍ وهو خالقُ كلّ شيءٍ قادرٌ عليه عالمٌ به تماماً فمَنْ هذا الذي يُمكنه أنْ يَسأله وهو لا يُمكن أنْ يُقارَن به أصلا حيث علمه وقدرته كمخلوقٍ لا تَزِنُ شيئاً بالمُقارَنَة بعِلْم وقُدْرَة وحِكْمَة وإحسان وكمال الخالِق مالِك المُلْك سبحانه؟!! ولكن الذي هو مَنْطِقِيّ ويُوَافِق العقل أنهم هم أيْ كل المَخْلوقين مِن البَشَر الذين يُسْأَلون ويُحَاسَبُون بما يُناسِب في الداريْن عمَّا يفعلون ويقولون من خيرٍ أو شَرٍّ لأنهم خَلْقه ولأنه خَلَقهم مُعَرَّضِين للصواب وللخطأ ولهم عقولهم ولهم حرية اختيارهم وقد أرسل لهم رسله وكُتُبه بالإسلام الذي يُرْشِدهم للخير فإنْ اختاروا الخير فلهم كل الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم وإنْ اختاروا الشرَّ فلهم كل الشرِّ والتعاسة فيهما علي قَدْر مَا ارْتَكَبُوا من شرور ومَفاسد وأضرار
ومعني "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة والتي فيها بيان عَقْلانِيّ مَنْطِقِيّ علي اسْتِحَالة أنْ يكون إله إلا الله تعالي لكنَّ هذه الآية الكريمة تنفي وجود أيِّ آلهة غيره ولكنْ مِن طريقٍ آخر – لمزيدٍ من تحريك عقول الذين يعبدون غيره تعالي لعلهم يستفيقون – وهو أنَّ مع الرسول الكريم محمد (ص) والمسلمين دليلهم وهو هذا القرآن العظيم المُعْجِز الذي يُثْبِت أنَّ الله واحدٌ ولم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْله فليأتوا هم بأيِّ دليلٍ مِن كُتُبٍ سابقةٍ قيل فيها بتَعَدُّد الآلهة.. أيْ هل جَعَلَ السفهاء غير العقلاء كالمشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم آلهة غير الله تعالي أيْ مَعْبُودات يَعبدونها أيْ يُطيعونها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)؟!!.. إنهم يعبدون غيره وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ!.. وهل يُقارَن الخالِق بمَا خَلَقَه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. إنَّ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أَحْضِرُوا دليلكم على صِحَّة ما تدَّعون أنَّ هناك آلهة تَسْتَحِقّ العبادة غير الله تعالي، فإنْ لم تُحْضِروه فأنتم بالتالي حتماً كاذبون، وهم قطعاً ليس لهم أيّ بُرْهانٍ علي ذلك بل كلّ الأدِلّة ضِدَّ هذا الادِّعاء الكاذِب السَّفِيه.. ".. هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.." أيْ هذا مزيدٌ من إظهار عَجْزِهم وكَذِبهم ومزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد لهم والرفض التامّ لأفعالهم والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أي هذا القرآن الذي هو ذكرُ مَن معي أيْ تَذْكير أمّتِي يُذَكّرها بما يجب عليها حتي يوم القيامة مِن عبادة الله وحده واتّباع الإسلام ليسعدوا في الداريْن، وهذا ذكرُ مَن قَبْلِي أيْ وهذا الذي في كتب الأنبياء السابقين الذي يُذَكّر الأمم قبلى بهذا أيضا كالتوراة لموسي والإنجيل لعيسي وغيرها وتُذَكّر بمَن سَعِدَ منهم في الداريْن بالإيمان ليُقْتَدَيَ به وبمَن تَعِس وعُذّبَ وأُهْلِكَ فيهما بالكفر والشرك والعِصْيان حتي لا يُتَّبَع، هذا الذكر الذي في القرآن والذي في كل هذه الكتب قبله يقوم أساساً على توحيد الله، علي أنه لا إله إلا الله وحده بلا أيِّ شريك، فبالتالي إذَن مَا بُرْهانكم علي صِحَّة دَعْواكم الكاذبة بأنَّ هناك آلهة تُعْبَد غير الله تعالي، ومِن أين أتيتم إذَن بهذا التخريف الذي تَدَّعونه؟!!.. ".. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)" أيْ رغم كل هذا الوضوح في الأدِلّة لكنَّ كثيراً منهم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء، وهم كالجهلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! فأكثرهم لا يعقلون الحقّ أي الصدق والعدل والصواب والخير والأمن والسرور الذي في هذا الذكر وبالتالي وبسبب ذلك فهم مُعْرضِون عنه فلم يؤمنوا بربهم ويَتّبِعوا إسلامهم ليسعدوا في الداريْن أيْ يُعطونه ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء!! وذلك لأنهم قد وضعوا علي عقولهم أغشية وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا، ولفظ "أَكْثَرُهُمْ" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ومَا بَعثنا من قبلك سابقاً يا رسولنا الكريم لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم أيَّ رسولٍ أيْ مَبْعُوثٍ مِنّا لهم إلا نُوحِي إليه أيْ نُخْبِره ونُعْلِمه عن طريق الوَحْي من خلال المَلَك جبريل أنه لا إلاهَ إلا أنا أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ أنا وحدي بلا أيّ شريكٍ لي، فأنا الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معي شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبالتالي إذَن فاعبدوني أيْ أطيعوني وَحْدِي لتسعدوا في الداريْن، لأنه كما ذُكِرَ في الآيات السابقة قد اتّضَحَت بلا أيِّ شكّ الأدِلّة القاطِعَة الحاسِمَة علي ذلك لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)" أيْ وإضافة لأقوالهم السَّيِّئة السابقة، قال بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله الرحمن زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. هذا، وذكر لفظ الرحمان يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه.. ".. سُبْحَانَهُ.." أي فسَبِّحوه تعالي أيها الناس، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)" أيْ ليس الأمر كما يَفترون، لكنْ كلهم عباد له تعالي، مُكْرَمُون أيْ كلهم قد أكرمهم بإكرامه لهم بأنْ يَعْبُدوه حيث كل مَن يَعْبُده وحده هو حتماً مُكْرَم أيْ مُحْسَن إليه مُنْعَم عليه مِن كرمه سبحانه الذي لا يُحْصَيَ عزيز مُحْتَرَم مُشَرَّف مُفَضَّل مُمَيَّز مَرْفوع الشأن لا يذلّ لأيِّ أحدٍ أو يحتاج إليه لأنه سبحانه سيَكْفِيه وسيُسْعده تمام الكفاية والسعادة في دنياه ثم أخراه
ومعني "لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)" أيْ إنَّ الذين يجتهدون في إحسان عبادتهم لله تعالي، ومنهم الملائكة التي هي ليست كالبَشَر مُعَرَّضِين للصواب والخطأ ولكنها مُجَهَّزَة لتمام الطاعة للقيام بأوامر الله ومهامّها في تصريف شئون الكوْن بما يُسْعِد خَلْقه، كلّ هؤلاء يَتَأدَّبُون مع خالقهم ويعلمون تماماً قَدْرَه العظيم وكماله وعِلْمه وحِكْمته وإحسانه ورحمته وعدله سبحانه ولذا فهُم مِن حُسْن عبادتهم وخُلُقهم وكمال استسلامهم إليه ومَعْرِفتهم بكمال صفاته وهَيْبَتهم منه مع حبهم له وعِلْمهم بحبه ورعايته لهم لأنهم خَلْقه، لا يَسبقونه بالقَوْل أيْ لا يقولون قولاً يَسْبِق قوله أيْ قَبْل أنْ يُبَيِّن لهم في الإسلام ما هو الحقّ والصواب الذي عليهم أن يقولوه وما هو الباطل والخطأ والذي عليهم أن يتركوه، وهم بأمره يعملون أيْ يعملون بأمره وحده الذي أَمَرَهم ووَصَّاهم به في أوامره ووصاياه التي في الإسلام بتمام الاستسلام والاستجابة ولا يَعملون مُطْلَقَاً بأمرِ أيْ بنظامِ وشَرْعِ أيِّ أحدٍ أو نظامٍ غيره يُخالِفه مِمَّا لم يأمرهم به، لأنه الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، فهم بالخُلاصَة يقولون ويعملون ما يأمرهم به الله تعالي ولا يقولون ولا يعملون ما لم يأمرهم به.. وفي هذا مَدْحٌ لهم وتشجيعٌ أنْ يستمرّوا دائماً علي خَيْرهم هذا ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال صفاته الحُسْنَيَ، أيْ يعلم ما هو أمامهم أيْ أمام الذين لا يَسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون السابق ذِكْرهم وأمام جميع الناس – وكل خَلْقِه – أيْ حاضرهم ومستقبلهم وما خَلْفهم أيْ ورائهم أيْ ماضيهم، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظرهم في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خير وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى.." أيْ ولا يشفعون عنده يوم القيامة أيْ يَتَوَسَّلون أمامه لكي يُسْتَجَاب لتَوَسّلهم ولوَسَاطتهم عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، إلا لمَن رَضِيَ الله عنه ورَضِيَ أن يُشْفَع له مِن الشافعين، وإلاَّ أن يأذن تعالي بالشفاعة تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه، أي عند الله تعالي يوم القيامة لا يَنتفع أيّ أحدٍ بشفاعةِ – أيْ وَسَاطَةِ – أيّ أحدٍ لكي يَعفو الله عنه إلاّ إذا سَمَحَ الله لأحدٍ أنْ يَتَوَسَّط لآخر يكون راضياً عنه، كأنْ يَسْمَحَ للأنبياء والشهداء والصالحين أن يشفعوا لغيرهم تكريما لهم ولأنَّه يعلم أنَّ الذي سيَشفعون له يَستحقّ الشفاعة حيث كان مسلما لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا، أمّا الكافرون والمشركون فلن تَنفعهم بالقطع أيُّ شفاعةٍ عنده تعالي ولن يكون لهم أيّ أملٍ في أيّ شيءٍ منها لأنهم كانوا لا يُصَدِّقُون بوجود الله والآخرة أصلا! .. ".. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)" أيْ وهم مِن خَوْفه أيْ بسبب خوفهم منه أيْ خوف فقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وخوفهم مِن عذابه وإتعاسه لهم فيهما لو عَصوه – والخشْيَة هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهَيْبَته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – مُشْفِقون والإشفاق هو الخوف مع الحَذَر من المُخَالَفَة أيْ خائفون حَذِرُون دائماً من فقدان خيراته وأفضاله ورحماته بسبب عصيانه أو الوصول لمرحلة إغضابه وعقابه.. إنَّ هذا الخوف مع الحبّ والحَذَر يَدْفَعهم دَوْمَاً إلي أن يعملوا بكل أخلاق إسلامهم الذي في قرآنهم فيَسعدوا في الداريْن
ومعني "وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)" أيْ وهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها، أي الذين يَجتهدون في حُسْن العبادة، والملائكة، وأيّ مَخْلوق، لو فُرِضَ وادَّعَي أيُّ أحدٍ منهم كَذِبَاً وزُورَاً أنه إلاهٌ أيْ مَعْبُودٌ يُعْبَد من دونه أيْ غيره أيْ غير الله تعالي، فذلك الذي يقول هذا الادِّعاء الكاذب السَّفِيه، حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، ورغم كرامته ومَكَانته السابقة التي كانت له عنده سبحانه لكنه افتقدها بسبب انحرافه وخَبَله وسَفَهه بتعطيل عقله من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، سنَجْزيه جهنم أيْ سنُعْطيه في الآخرة جزاءً وعقاباً وعذاباً هو جهنم – وجهنّم اسمٌ من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف، بسبب قوله القبيح الفظيع السفيه هذا الذي قاله، وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي سيكون فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي سيَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ولن يُفيده بالقطع ما سَبَقَ له من طاعةٍ وتكريمٍ لأنه قد ارتكب إثماً فظيعاً يَزيد ويَثقل عن كل ميزان حسناته ويَغْلبها.. ".. كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)" أيْ هكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا للظالمين بما يُناسب ظلمهم.. أيْ كما جَزَيْنا هذا الذي قال إني إلاهٌ من دونه جهنم كذلك نجزي الظالمين جهنم أيضا.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إننا نُعاقِب كلّ ظالمٍ لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر ظُلْمه قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)"، "وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)"، "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)"، "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وهل لم يُشاهِد الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، أيْ لقد رَأوا وتأكّدوا، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض للذين يُكَذّبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح – وهل بَلَغَ العَمَىَ وإغلاق العقول بهم أنهم لم يَرَوْا ولم يعقلوا أنَّ السماوات والأرض كانتا رَتْقَاً ففَتَقْناهما أيْ مَسْدُودَتَيْن فشَقَقْناهما بقُدْرَتنا وعِلْمنا وحِكْمتنا ورَحْمتنا ورِزْقنا بمعني أنَّ السماوات أحياناً تكون مَسْدُودَة أيْ لا يَتَخَلّلها شيءٌ كسُحُبٍ وأمطارٍ ونحوها والأرض أحيانا تكون كذلك مَسْدودة ليس فيها زرعٌ ولا نباتٌ فنَشُقّ كُلّاً منهما فنُنزل من السماوات مطراً نافعاً ونُخْرِج من الأرض أكْلَاً طيِّباً.. كذلك من معاني كانتا رَتْقَاً ففَتَقْناهما أيْ مُلْتَصِقَتَيْن في بَدْء خَلْقِهما ففَصَلْناهما عن بعضهما بالهواء الذي يحتاجه الخَلْق وفصلنا كُلّاً منهما في ذاته فلم يَعُدْ طَبَقَة واحدة بل صارَ سَبْع طَبَقات في كلٍّ منها مخلوقات مُختلفة مُتَنَوِّعَة.. ".. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.." أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره من تمام قُدْرته وكمال عِلْمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. أيْ وخَلَقْنا بقُدْرَتنا وعِلْمنا من الماء كل مَخْلوقٍ فيه حياة ورُوُح ونُمُوّ كبَشَرٍ وحيوانات وطيور وأسماك وحشرات ونباتات ونحوها مِمَّا تعلمونه ولا تعلمونه فالماء هو أصل الحياة وبه تُحْفَظ وبدونه تَموت وتَنْتهي.. هذا، وعند بعض العلماء الماء يعني النُّطْفَة أي وجعلنا من الماء أيْ مِن النطفة أيْ مِن ماء الذكر أيْ المَنِيّ وماء الأنثي أي البويضة كلَّ نوعِ مَخْلوقٍ حيٍّ يَتَكَوَّن منهما.. وفي هذا تذكيرٌ للناس بعظيم خَلْق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُبْهِرَةٍ وبأهمية الماء ومُعْجِزَة خَلْق كل مخلوقٍ حيٍّ منه وأنه رغم كَوْنه شيئاً واحداً وأنَّ ظاهره أنه لا حياة فيه لكنه يُنْتِج من المَخلوقات المُتَنَوِّعَة المُختلفة مَا لا يُحْصَيَ وذلك ليَتَدَبَّروا أنه هو وحده سبحانه المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتّوَكّل عليه.. ".. أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)" أيْ فهل لا يصدّقون بذلك، ويقرّون بألوهِيَّة مَن فَعَلَ ذلك ويُفْرِدُونه بالعبادة؟! أيْ فهل بعد كل هذا يُعرضون فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا؟! أيْ فهل يُشاهدون بأعينهم ما يدلّ على وحدانية الله وقُدْرَته ومع ذلك لا يؤمنون به؟! إنَّ أمرهم هذا عجيب!! أيْ فما لهم هؤلاء الكافرون المُكذّبون الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم؟!! لماذا لا يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ويعملون بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم؟!.. هل لا يتوبون ويؤمنون لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عن الله والإسلام والتوبة وأهملوا كل ذلك أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن التدبّر في الخير، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التوبة واتّباع الإسلام رغم التأكّد مِن صِحَّة طريقه وإسعاده لهم وبُطْلان ما هم عليه وتعاسة نتائجه الدنيوية والأخروية!!.. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التّعِيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا لتشجيعهم علي التوبة والإيمان – حيث لفظ "أفَلَاَ" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن.. فلْيَتوبوا ولْيُؤمِنوا إذَن ولا يَنشغلوا عن التوبة والإيمان أو يُهملوهما لِيَتِمّ لهم ذلك.. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنه تعالي يَعْرِض عليهم وعلي الجميع التوبة والإيمان ويَجْذِبهم لذلك بكلّ لُطْفٍ ولِينٍ رغم أيّ سوءٍ فعلوه لأنه هو بلا أيّ شكّ الغفور الرحيم دائما بكل خَلْقه.. "وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره من تمام قُدْرته وكمال عِلْمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. أيْ وخَلَقْنا بقُدْرَتنا وعِلْمنا في الأرض رواسي أيْ ما يُبقيها راسِيَة ثابتة، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها، أنْ تَمِيدَ بهم أيْ حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة لتَتَمَكّنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش والتّمَتُّع فيها والانتفاع بخيراتها والسعادة بها، وخلقنا فيها كذلك فِجاجاً جَمْع فَجّ وهو الطريق الواسِع، سُبُلَاً جَمْع سَبيل وهو الطريق عموماً، ولفظ سُبُلَاً هو تفسيرٌ للفِجاج لأنَّ الفَجَّ قد لا يكون طريقاً نافِذَاً يمكن للناس أن يسيروا فيه وينتقلوا منه من مكانٍ لآخر وإنما فَجّ مَسْدُود، فاللفظ سُبُلا تأكيدٌ لوجود الطرق الواسعة النافِذَة التي تَسمح بسهولة التّحَرُّك والانتقال، وبذلك يَسْهل انتقالكم وانتفاعكم وسعادتكم بخيراتها التي لا تُحْصَيَ، فهي صالحة مُؤَهَّلَة للحياة المُمْتِعَة عليها وللاستقرار وللتَّنَقّل فيها ولو كانت غير ذلك لَمَا تَحَقَّق لكم هذا.. ".. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)" أيْ لكي يَهتديَ أيْ يَصِلَ بها الناس إلي مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، وكذلك لعلهم بكل هذه الآيات أي الدلائل وبكل هذه النِّعَم التي لا يُمْكِن حَصْرها يُحَرِّكون عقولهم فيَتّعِظون بها فيَهتدون أيْ يَصِلُون للهداية، لربهم ولدينهم الإسلام، للخير وللسعادة في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحْتِمَالِيَّة مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافِعَاً وتَشجيعاً للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره من تمام قُدْرته وكمال عِلْمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. أيْ وخَلَقْنا بقُدْرَتنا وعِلْمنا السماء وجعلناها سَقْفَاً للأرض مُحْكَماً مَتيناً بلا أيِّ خَلَلٍ حامِياً مُفيداً لها كحماية ونَفْع سَقْف البيت له فهي عظيمة عَجيبة مَتِينة مُبْهِرَة في كيفية بنائها وخَلْقها من عدمٍ وخَلْق ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ لا يعلم إعجازها إلا خالقها سبحانه وجَعْلها مُعَلَّقَة بدون أعمدة مَرْئِيَّة وتزيينها بالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك وإيجاد السحب فيها وإنزال الأمطار منها وتحريك الرياح والهواء بها وتَغيير الليل والنهار والصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان، وجعلنا هذا السقف بقُدْرَتنا وعِلْمنا وبجنودنا التي لا يعلمها إلا نحن مَحْفوظاً أيْ مَحْرُوسَاً مَصُونَاً مَحْمِيَّاً تماماً من سقوطه أو سقوط ما فيه علي الأرض فيُؤذي مَن عليها وفيها ومِن حُدُوث أيّ خَلَلٍ في مُكَوِّناته فلا يُنْتَفَع به بل يَضُرّ ومِن أيِّ عابثٍ أو مُخَرِّب يَظنّ مُتَوَهِّمَاً أنه يُمكنه العَبَثَ بأيّ ذرّة من السماء أو تخريبِ أيّ شيءٍ فيها سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يعلمها خالقها وحده.. ".. وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)" أيْ وهم أي الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم حالهم وواقعهم رَغْمَ ذلك كله مِن الأدِلّة القاطِعَة علي وجود الله تعالي أنهم هم عن معجزاتها مِن مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا هو سبحانه الخالق القادر علي كل شيء ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها والتي تَدُلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، هم مُعْرِضُون عنها أيْ مُبْتَعِدون تارِكون مُنْصَرِفون مُهْمِلُون مُتجاهِلون غير مُهْتَمِّين غير مُتَفَكّرين فيها غير مُتّعِظِين بها، فلهذا هم يُكَذّبون ولا يُؤمنون، وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره من تمام قُدْرته وكمال عِلْمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. أيْ والله تعالي وحده هو الذي أَوْجَدَ مِن عَدَمٍ وعلي غير مِثالٍ سابِقٍ بقُدْرَته وعِلْمه الليل والنهار والشمس والقمر وكلٌّ منهما في فَلَكٍ يَسْبَحون أيْ له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويَسِير ويَدُور فيه بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهذا من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لِنَهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. لقد سَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما، فالشمس بطاقاتها وحراراتها تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام، والله نَظّمَ وحَسَبَ للقمر بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل المنازِل أيْ الأماكن التي يَنْزِل فيها ويَتحَرَّك، أيْ يُغَيِّر مَوَاضعه وانعكاساته فيكون هلالا ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي معرفة وحساب الأيام والأسابيع والشهور والسنين والأعمار والمعاملات والتصرّفات.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. فاعبدوه إذَن وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في الداريْن
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)" أيْ وما جعلنا لأيِّ بَشَرٍ مِن قبلك يا رسولنا الكريم الخلود في الدنيا فلا يموت، فلابُدَّ لك مِن أن تموت كما مات مَن قبلك، فلا يَتَوَهَّمَ أحدٌ من المسلمين أو غيرهم أنك لابُدّ أن تبقي ليبقي الإسلام، فهل إنْ مِتَّ أنتَ وأنتَ أكرم خَلْقنا هل هم هؤلاء الكافرون الخالدون فيها بلا موتٍ دون غيرهم مِن البَشَر وهم أسوأ خلقنا؟! لا، حتما إنهم أيضا مَيِّتُون كالجميع!! إنَّ الكافرين والمشركين والمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين ومَن يَتَشَبَّه بهم يَتَمَنّون موت المسلمين مُتَوَهِّمِين أنَّ بموتهم يموت الإسلام فيَنتصر كُفْرُهم وشِرْكُهم!! فيَرُدّ عليهم تعالي أنهم أيضا يموتون ويموت معهم تكذيبهم ويَرْتاح المسلمون من سُوئهم وأنه قد مات الرسل مِن قبل وأتْباعهم من المسلمين لكنْ حَفِظَ الله تعالي الإسلام ويَستمرّ يَحفظه حتي يوم القيامة ليسعد الناس به في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه ونَصَرَه علي كُفْرهم ويَستمرّ يَنصره والمسلمين ويَهْزمهم وذلك من خلال حِفْظ المسلمين له وعملهم به ونَشْرهم له ودفاعهم عنه وعَوْنه منه تعالي علي ذلك ومِن خلال جنوده سبحانه التي لا يعلمها إلا هو كما يقول "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9) (برجاء مراجعتها لتكمتل المعاني).. إنهم إنْ كانوا يَنتظرون ويَتَمَنّون موت المسلمين وانقطاع دعوتهم للإسلام فالمسلمون أيضا معهم من المُنتظرين لانقطاع ولهزيمة كفرهم ولعذابهم في دنياهم وأخراهم، وسيَرون حتماً مع الوقت بكل تأكيدٍ مَن الذي سيكون له كل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الدنيا قبل الآخرة من فضل الخالق الكريم القويّ المتين مالِك المُلك، المسلمون أم الكافرون (برجاء أيضا مراجعة الآية (52) من سورة التوبة "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ الجميع سيَموت وسيَنتهي أجله في الحياة الدنيا في التوقيت المُحَدَّد له دون تقديمٍ أو تأخير بما فيهم الرسل وأفضل الصالحين، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنه مُخَلَّد فيها ولن يُحَاسَب علي ما فَعَل! ولا يَتَعَجَّل أحدٌ موت غيره لغيظه منه مثلا أو يطلب تأخيره لحبه!.. ثم الجميع سيرجع إليه سبحانه يوم القيامة، فيُخَاصِم – أي يَطلب من الله الحُكْم العادل فيما كانوا يتنازعون ويختلفون فيه ويتخاصَمون عليه – الصادقُ الكاذبَ والمظلومُ الظالمَ والمهدىُّ الضالَّ والضعيفُ المستكبرَ فيأخذ كلُّ صاحبِ حقٍّ حقَّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وهو تعالي عليمٌ خبيرٌ بهم جميعا وبما عملوه، وسيُخبرهم به بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة، فمَن عمل منهم خيرا فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشَه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بالعدل التامّ.. وفي هذا تمام الطّمْأَنَة لأهل الخير لِيَحيوا مُستبشرين دائما وتمام التهديد لأهل الشرّ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان.. وفي هذا أيضا تحفيزٌ علي حُسن الاستعداد للآخرة بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ مِن خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، قبل الموت الذي يأتي فجأة ولا يعلم أحدٌ متي سيكون فقد يكون بعد لحظة
ومعني "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ كلُّ إنسانٍ سيَذوق حتماً طَعْم الموت عند انتهاء مُدَّته التي حدَّدها الله له في حياته الدنيا، سيذوق طَعْمَاً طيّبا هانِئا مُمْتِعَاً مُفْرِحاً مُسْعِدَاً إذا كان من أهل الخير، وسيَذوق بالقطع طعماً خبيثاً مُرَّاً دَنِيئاً مُؤلِمَاً مُزْعِجَاً مُرْعِبَاً مُتْعِسَاً إنْ كان من أهل الشرّ.. ".. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.." أيْ ونختبركم أيها الناس أحياناً واستثناءً بالسَّيِّء المُضِرّ المُتْعِس مُتَمَثّلَاً في الخوف والتعْسِير والفقر والمرض والضرَر ونحوه، ونختبركم كذلك كثيراً وهو الأصل لا الاستثناء بالحَسَن المُفِيد المُسْعِد المُتَمَثّل في السلامة والأمن والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذرِّيَّات والمَالِيَّات والمُمْتَلَكات وما شابه هذا، لكي يكون هذا الاختبار بالشَّرِّ والخير فتنة أيْ اختباراً لكم، أيْ لكي يَتَمَيَّزَ الشاكر للخير والصابر على الشرّ مِن الذي لا يشكر الخير ولا يَصْبِر علي ما يُصِيبه مِن شَرّ، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فاصبروا عليه لتخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم الآية (155) من سورة البقرة "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة.. ثم مراجعة كيفية حُسْن خلافة الله تعالي في أرضه في الآية (30) من سورة البقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.."، ثم مراجعة تجربة وقِصَّة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وحِكْمَة سَمَاح الله تعالي بوجود الشرّ فيها في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف).. ".. وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)" أيْ وجميعكم أيها الناس حتماً ستُرْجَعُون إلينا لا إلي غيرنا في الآخرة يوم القيامة حين نبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، ونحن أعلم بكم تمام العلم، لنكون الحاكم بينكم بحُكْمِنا العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلْتُم فيكون للمُحسن الشاكر الصابر كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء غير الشاكر غير الصابر ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين الشاكرين الصابرين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً مُتَمَسِّكَاً عامِلَاً بذِكْر الرحمن، أيْ بكلِّ مَا يُذَكّرك به سبحانه (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، مِن تَدَبُّرٍ في كل مَخلوقاته في كَوْنه، فهذا سيزيدك حتماً يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْباً منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)، ومِن تَدَبُّرٍ في ذِكْره الحكيم أيْ قرآنه العظيم والتمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيه (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإيَّاك ثم إيَّاك أنْ تَتَشَبَّه بالكافرين وببعض مَن يُشْبِههم الذين يَستهزؤون بالرسول الكريم محمد (ص) وبسُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في الحياة بأخلاق إسلامه، أو يَستهزؤن ببعض آيات القرآن العظيم أو بعض أخلاقِيَّات الإسلام وأنظمته، أو ما شابه هذا، وإلا تَعِسْتَ مِثْل تعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)" أيْ هذا بيانٌ لبعض سُوءِ خُلُقِ وتَطَاوُلِ المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتكبرين علي الرسول الكريم محمد (ص) والإسلام والمسلمين مُحاوِلِين يائِسين مَنْع الناس من اتّباعهم.. أيْ وإذا شاهَدَك الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – لا يجعلونك إلا هُزُوَاً أيْ مَوْضِعَاً للاستهزاء والسُّخْرِيَة والاحتقار حيث يَسْخَرون منك ومِمَّا جِئتهم به من قرآن وإسلام ويَحتقرونك ويحتقرونه والمسلمين، وهم يعلمون تمام العلم صِدْقهم وحُسْن خُلُقهم وعِزّتهم وكَرَامتهم ورِفْعتهم وسعادتهم بالإيمان بربهم وبعملهم بكل أخلاق إسلامهم التي في قرآنهم الكريم ويَلْمَسُون ذلك تماماً واقِعِيَّاً عند التّعامُل معهم.. ".. أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ.." أيْ ويقولون مُتَسائِلين علي سبيل الاسْتِهزاء والتقليل من الشأن والانْتِقاص والتَّعَجُّب من حاله والرفْض له هل هذا هو الرجل مُدَّعِي النّبُوَّة الذي يَذْكُر آلهتكم بسوءٍ وهو أنها ليست آلهة تُعْبَد فهي لا تَعْقِل ولا تَنْفَع ولا تَضُرّ وأنه لا آلهة بل إلاه واحد؟!.. ".. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)" أيْ إنهم يقولون أهذا الذى يَذْكُر آلهتكم والحال والواقع أنهم هم كافرون أيْ لا يُصَدِّقون بذِكْر الرحمان أيْ بتَذْكِير الله تعالي لهم خالقهم المُنْعِم عليهم بما يَلِيق به ويَسْتَحِقّه مِن أنه لا إلاه إلا هو وحده بلا أيِّ شريكٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ومِن شُكْره وحده علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ومِن التصديق والعمل بذِكْره وحده أيْ بقرآنه العظيم وحده لا بغيره من الأخلاقيات والتشريعات والذى أنزله عليك يا رسولنا الكريم ليُسْعِد الناس تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عَمِلوا بكل أخلاقه.. إنهم يَتَأدَّبُون مع آلهتهم ويَسْتَعْظِمون ذِكْرهم بأيِّ سُوءٍ ويَتَقَبَّحُون مع خالقهم الرحمن سبحانه ولا يَستعظمون أيَّ شيءٍ مِن ذلك!!.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِسَ فيهما.. هذا، وذِكْر لفظ الرحمان يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم حيث بهذا يتحقّق الصواب دائماً ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)" أيْ هذا تذكيرٌ للإنسان بالتّأَنّي والتّثَبُّت وعدم التّعَجُّل والاندفاع في كل أقواله وأعماله بكل شئون حياته حيث بهذا يتحقّق الصواب دائماً ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويَسعدون في الداريْن.. أيْ خَلَقَ الله تعالي الإنسان مِنْ عَجَلٍ أيْ عَجُولَاً أيْ فيه تَعَجُّل كثير لدرجة أنه كأنه خُلِقَ منه بسبب كثرته، وهذا بيانٌ للسبب الذى يَجعل الإنسان يَستعجل ويَنْدفع في ما يقول ويفعل بلا تَأنّي وتَثَبُّتٍ من أجل التحذير من ذلك والتذكير بتَجَنّبه وعدم فِعْله أبداً من خلال التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام التي تدعو إلي تمام التّأَنّي والتّثَبُّت وعدم التّعَجُّل والاندفاع وحُسْن دراسة الأمور والاستفادة بخبرات الآخرين وتعاونهم والصبر والتدريب علي كل ذلك.. أيْ خَلَقَ الله تعالي الإنسان عَجُولَاً أيْ كثير العَجَلَة أيْ يَسْتَعْجِل أيْ يَتَسَرَّع كثيراً في الأمور كلها فلا يَتَأَنّيَ ويَتَعَقّل ويَتَدَبَّر فيها وفي نتائجها، في أقواله وأفعاله بكل شئون حياته، وفي الحُكْم علي تصرّفات الآخرين، وفي غير هذا مِمَّا يُعَرِّضه للخطأ الكثير في حقّ نفسه وغيره، فيتعس الجميع بذلك حتماً في الداريْن.. لقد خَلَقَ الله تعالي الإنسان بصفةٍ فيه من ضِمْن صفاته في فطرته أيْ خِلْقته وهي الاستعداد للتّعَجُّل، أيْ للإسراع نحو تحقيق ما يريد، وهي صفة خيرٍ مِن حيث الأصل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك لكي يُسارِع الإنسان لفِعْل كل خيرٍ مُسْعِدٍ له ولغيره في الداريْن من خلال العمل بأخلاق الإسلام، لكنْ إنْ أساء استخدام هذه الصفة الطيّبة بالإسراع نحو كل شرّ، أو بالتّعَجُّل دون التّأَنّيِ والتَّعَمُّق في الأمور، وخالَف بذلك إسلامه، فَلْيَتَحَمَّل إذَن نتائج مُخَالَفته السيّئة المُتْعِسَة في دنياه ثم أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من سورة النساء ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وبالتالي فكوْن الإنسان عجولاً لا يعني أنه سبحانه قد خَلَقه كذلك سيِّئا!! وهو الذي يقول "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين:4)، ولكنَّ الإنسان هو قطعاً الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ويَتَعَلّم التّثَبُّت ويَتَدَرّب عليه ويكتسبه تدريجياً مع الوقت كما يكتسب أيّ أخلاقٍ ومهاراتٍ أخري مُفيدة مُسْعِدَة يريدها، كما يَنصحه الإسلام بذلك.. ".. سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)" أيْ سَأُظْهِر لكم لِتُشَاهِدُوا حتماً بالتأكيد مُعْجِزاتي بعذابكم بما يُناسبكم أيها المُكَذّبون في دنياكم وأخراكم وبنَصْركم فيهما أيها المسلمون العامِلون بإسلامكم، فلا تستعجلون أيْ فبالتالي لا تستعجلوني بالإتيان بها ولا تستعجلون ذلك، لا أنتم أيها المسلمون الذين يستعجلون النصر والإهلاك للمُكْذّبين ليسعدوا بهذا، ولا أنتم أيها المُكَذّبون الذي يستعجلون مَجِيء العذاب تكذيباً بحُدُوثه واسْتِبْعادَاً له مُتَوَهِّمِين عدم إتيانه، فآياتي ستأتي حتماً في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مُناسِبَاً مُحَقّقَاً الأَسْعَد للمؤمنين والأَتْعَس للكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم.. إنَّ المُكَذّبين إنْ لم يتوبوا سيكون لهم درجة ما من درجات العذاب تُناسِب سُوءهم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (6) من سورة الرعد "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ"، ثم مراجعة الآيات (53)، (54)، (55) من سورة العنكبوت "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، "يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ"، "يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)" أيْ ودائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا!! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا! إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)" أيْ أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام، بل أنتم كاذبون!!.. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم في الدنيا، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذَن كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)" أيْ لو يعلم هؤلاء الذين كفروا بالله ومَن يَتَشَبَّه بهم حالهم السَّيِّء الفظيع يوم القيامة حين لا يستطيعون هم بأنفسهم أن يَكُفّوا أيْ يَمْنعوا ويَدْفعوا عن وجوههم عذاب النار الذي لا يُوصَف ولا عن ظهورهم أي عن كل أجسادهم حيث سيُحيطهم من كل جانبٍ ولا هم يُنْصَرون مِن أيِّ أحدٍ غيرهم ناصِرٍ لهم مهما كان يُمكنه أن يَمنعها ويَدْفعها عنهم – وكذلك لو يعلمون حين لا يَكُفّون عنهم عذاب النار في الدنيا الذي سيكون عندما ينزل بهم عذاب الله تعالي في دنياهم بشكلٍ من الأشكال فيكون كالنار ولا يجدون من يَنْصُرهم منه كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) – لَكَانُوا مَا قالوا هذا الذي يقولونه وما فَعَلوا هذا الذي يفعلونه، أيْ ما استعجلوا العذاب وكَذّبوه واسْتَبْعَدُوه واسْتَهْزؤا به وما أصَرُّوا علي كُفْرهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لكن عدم علمهم هو الذي جعلهم هكذا، والمقصود بعدم العلم أنهم لا يُدْركون كل هذا ولا يَعْقِلونه ولا يتدبّرون فيه بحيث يتأكّدون منه ويُصَدِّقونه تماما، فهُمْ كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء لا يُحْسِنون استخدام عقولهم، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مُفِيد وليس عندهم فهْم! والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)" أيْ أنَّ العقوبة الدنيويَّة ثم الأخْرَوِيَّة بعذابها الذي لا يُوصَف لا تأتيهم وهم يعلمون وقتها بحيث يُمكنهم الاستعداد لها بأنْ يَتّخِذوا أسباب أنْ يَكُفّوها عنهم لكنْ تأتيهم بَغْتَة أيْ تَجِيئهم وتَصِلهم وتَحْضر إليهم فجأة دون أن يَدْروا مِن أين جاءتهم ولا كيف بدأت بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ لها أو هروب منها فهي عقوبة مُفَاجِئة بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونها غير مُستعِدّين لها ليكون تأثيرها أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم، فتَبْهَتهم أيْ فتُؤَدِّي بالتالي هذه العقوبة بهذه الصورة المُفاجِئَة إلي أنْ تَبْهَتهم أيْ تُحَيِّرهم وتَجْعلهم يضطربون بحيث لا يستطيعون دَفْعها ومَنْعها عن أنفسهم، وكذلك هم لا يُنْظَرُون أيْ ولا يُتْرَكون أيْ ولا تُؤَخّر عنهم تلك العقوبة لأيِّ لحظةٍ لكي يَتوبوا أيْ يَرْجعوا عَمَّا قالوا وفعلوا لأنه قد جاء موعد العقاب حيث الوقت وقت حسابٍ وعقابٍ وعذابٍ لا وقت عملٍ وتصويبٍ فقد فات وقته
ومعني "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)" أيْ ولقد سَخِرَ الكفار كثيراً – ومَن يَتَشَبَّه بهم – برسلٍ كرامٍ مِن قبلك سابقين لك يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده، فكان نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة وبسببه أنْ عاقبناهم بأنْ حاقَ أيْ أحاطَ وحَلَّ ونَزَلَ بالساخرين المُستهزئين المُسْتَخِفّين منهم مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع، الذي كانوا يَستهزئون به في الدنيا أيْ يَسخرون منه ويُكَذّبونه ويَسْتَبْعِدون حُدُوثه ويَستعجلونه، وأحاط بهم استهزاؤهم أيْ جَزاء اسْتِهْزائهم أيْ جزاء وفي مُقابِل وبسبب ما كانوا به يستهزؤن أيْ بسبب استمرارهم علي استهزائهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وعدم اتّباعهم للإسلام عذاب في الدنيا بدرجةٍ مَا مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتماً ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة مِن بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وإنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ من الذاكرين الله تعالي كثيراً (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن يَرْعاكم ويَحفظكم ويَحْرسكم بالليل والنهار أيْ في كل وقتٍ سواء أوقات راحتكم أو أعمالكم وحَرَكاتكم غير الرحمان الرحيم الله الخالق الرازق الكريم القويّ سبحانه؟! لا أحد غيره حتماً حيث هو الحَيّ الذي لا ينام القائم دائماً علي مصالح خَلْقه والذي يَحميكم لحظياً بجنوده التي لا يعلمها إلا هو بأنْ يعطيكم القوة والصحة والعقل ومُكَوِّنات وأرزاق الحياة القوية السعيدة وأسباب الحماية من المُعَوِّقات والمُهْلِكات لها ونحو هذا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (11) من سورة الرعد "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان مُعْرِضَاً عن الله والإسلام ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. هذا، واستخدام لفظ الرحمان يُذَكّر الناس بأنهم سيَسعدون تمام السعادة لو عاشوا دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فعليهم بالتالي أن يكونوا حريصين دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدين في ألاّ يخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلوه فعليهم أن يعودوا سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. كذلك مِن المعاني مَن الذي يَحفظكم أيها الكافرون المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤن المُسْتَعْجِلون للعذاب المُسْتَبْعِدون له من عذاب الرحمان في الداريْن إنْ أراده بكم لأنكم تَسْتَحِقّونه بسبب إصراركم علي سُوئكم بلا توبة؟! لا أحد حتماً، إذَن بالتالي فلماذا لا تَتوبون وتُؤمنون فتسعدون وهو مِن رحمته يُمْهِلكم ولا يُهْمِلكم أيْ يُؤَخّره عنكم ليُعطيكم فرصة طويلة لعلكم تَستجيبون وتعودون للخير قبل فوات الأوان ونزول العذاب؟!.. هذا، وذِكْر لفظ الرحمان يُفيد أنَّ رحمته أوسع من أيّ ذنبٍ ودائماً تَسْبِق غضبه وهي تَسَع لكل شيءٍ ولمَن يعود إليه ولإسلامه ليسعد بذلك في دنياه وأخراه.. ".. بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)" أيْ الكافرون ومَن يَتَشَبَّه بهم مع أنَّ ربهم الرحمان وحده هو الذي يُنْعِم عليهم بأنْ يَكْلؤهم بالليل والنهار لا يَعترفون بذلك لكنْ هُمْ مُعْرِضُون عن ذِكْر ربهم أيْ يُعْطُون ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبتعدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاومون نَشْره ويُؤذون مَن يَتّبعه، والمقصود بِذِكْر ربهم أيْ قرآن ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – وسَمَّيَ الله تعالي القرآن ذِكْرَاً لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. كذلك ذِكْر ربهم يعني كل مَا يُذَكّرهم به من آياتٍ أيْ مُعْجِزاتٍ ودلالاتٍ في كوْنه في أيِّ مخلوقٍ من مَخلوقاته والتي تَدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجوده، ويعني أيضا ذِكْره في كل وقتٍ وحالٍ بطاعته وبذِكْر نِعَمِه وشُكْرها (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. والمقصود من هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة أنهم رغم كل تَذْكيرهم وتَحْذيرهم فهم لا يَعترفون بأنَّ الرحمن هو الذي يَكْلؤهم ولا يَستمعون لوَصَاياه وإرشاداته ويَنتفعون بها فيَعبدوه وحده ويشكروه ويتوكّلوا عليه وحده ليَسعدوا في الداريْن، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو سبحانه قادرٌ علي كل شيء، فهو الذي يُحَرِّك الأسباب والأمور كلها، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو تعالي، من أجل تحقيق مصالح وسعادات الخَلْق كله
هذا، ومعني "أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ آخر لأمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم الذين يكفرون أو يعبدون غير الله تعالي لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان مُعْرِضَاً عن الله والإسلام ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل لهم آلهة أيْ مَعْبُودات مِن دوننا أيْ غيرنا تَمْنعهم أيْ تَحفظهم بالليل والنهار كما ذُكِرَ في الآية السابقة أو تَمنعهم من عذابنا الدنيويّ ثم الأخرويّ إذا أرَدْنَا إنْزاله بهم لاسْتِحْقاقهم له بسبب إصرارهم علي سُوئهم؟! لا حتماً!! ليس الأمر كما يَدَّعُون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنها تَمنعهم!! لأنها كما يَرَوْنها واقِعِيَّاً لا تستطيع نَصْر أنفسها وعَوْنها إذا أصابها أحدٌ بضُرٍّ ولا نَفْعها بأيِّ نَفْعٍ فكيف تَنْصُر وتُعين وتَنْفَع بالتالي إذَن غيرها مِن عابديها أو تَضُرّهم؟! ولا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُون أيْ وكذلك هم لا يستطيع أيُّ أحدٍ مهما كان أنْ يأخذهم في صُحْبَتِه ليَمنعهم مِنّا أيْ مِن عذابنا وإهلاكنا عندما نريده بهم كما أنهم قطعاً لن يكونوا في صُحْبَتِنا بسبب سُوئهم حتي نَحفظهم منه ونَرْحمهم ونَرْعاهم ونُعاونهم.. إنَّ النافع والضارَّ بحَقّ هو الله تعالي وحده لا غيره القادر علي كل شيء (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. إنهم يعبدون غير الله تعالي وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ! وهل يُقارن الخالق بمَا خَلَقَه؟!! كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول لا يستطيعون بَدَلَاً عن لا تستطيع والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!
ومعني "بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)" أيْ رغم وجود كلمة التوحيد وهي كلمة لا إله إلا الله ووجود الإسلام في الأرض إلاّ أنَّ هناك مَن لم يؤمنوا وعَبَدوا آلهة أخري غيرنا كأصنامٍ وغيرها ومع ذلك لم نُعَجِّل لهم العقوبة وأجَّلْناها بل أيْ لكنْ مِن رحمتنا بهم لعلهم يَستفيقون ويعودون لنا ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن مَتَّعْنا هؤلاء كما كنا نُمَتِّع آباءهم أيْ تَمَتَّعوا منذ نشأتهم لفتراتٍ طويلة بكل أنواع مُتَع الحياة المختلفة ولم نمنعها عنهم فكان مِن المَفروض أن يشكروني ويعبدوني وحدي ولكنهم انشغلوا بهذه النِعَم عن عبادتي بل واغترّوا وانْخَدَعوا بهذا الإمهال والإنعام واستخدموه في مزيدٍ من الاستمرار علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم حتي طالَ عليهم العمر أيْ إلي أنْ طالَت أعمارهم وهم في هذه النِّعَم فانْخَدَعُوا بذلك وتَوَهَّمُوا أنهم سيَسْتَمِرُّون هكذا دائماً علي حال الخير هذا مهما طالَ عُمْرهم وأنهم في خيرٍ بسبب ما هم عليه مِن عبادة آلهتهم التي يعبدونها وليس مِن خَيْرنا فدَفَعَهم ذلك لمزيدٍ من الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء مُتَوَهِّمين وَهْمَاً كاذِبَاً أنهم لن يُعَذّبوا بعذابنا ويَفْقِدوا مُتَعِهم ويُهْلَكوا.. ".. أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.." أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فهل لا يُشاهِدون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظرون ويَتدَبَّرون ويَعلمون، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، أيْ لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل أننا نأتِي أيْ نَقْصِد الأرض ننقصها من أطرافها أيْ من نواحيها المختلفة والذي يعني نقصان سكانها بإهلاك بعضهم وهم المُكَذّبين الظالمين منهم، أو نقصان بَرَكَتها بنقصان خيراتها وأموالها، أو نقصان سلطانهم عليها وتمكين مسلمين صالحين فيها خَلَفَاً لهم ليُصْلِحوا ما أفسدوه فيها حينما يُحْسِنون اتّخاذ أسباب ذلك.. ألَاَ يَخافون أن نفعل بهم مِثْل هذا فيتعسوا في الداريْن؟! أليس هذا وما شابهه من قُدْرتنا وعذابنا للمُسِيئين كافياً لهم ليَستفيقوا وليُحْسِنوا استخدام عقولهم ويعودوا لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في دنياهم وأخراهم؟!.. ".. أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)" أيْ فإذا كان الله تعالي هو الذي ينْقص الأرض من أطرافها فهل بالتالي هم الغالبون أم المؤمنون بربهم العاملون بكل أخلاق إسلامهم الذين وَعَدَهم سبحانه بنَصْرهم وتأييدهم وتَمْكينهم؟! أيْ ليسوا هم الغالبين حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ بل الله تعالي والإسلام والمسلمون بالقطع مُؤَكَّدَاً هم الغالبون والمُكَذّبون هم المُنْهَزِمُون.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ ممن يُنْذَرُون بالوَحْي، أيْ بالقرآن العظيم، أيْ يَتّعِظون بما فيه ويَتَدَبَّرُونه ويعملون بكل أخلاقه، ويجعلونه دائماً – مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل – مَرْجِعهم في كل مَوَاقِف ولَحَظات حياتهم، فستجد بذلك البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لا أحَذّركم إلا فقط بالوَحْي الذي هو من الله تعالي خالقكم وربكم وليس مِنّي والذي أوحِيَ إليَّ منه وهو القرآن العظيم، وبالتالي فاحذروا أشدّ الحَذَر من عدم الاستجابة له لأنكم لن تُخالفوني أنا بهذا بل ستُخالِفونه هو وهو القويّ العزيز القادر علي كل شيء سواء عذابكم وإهلاكم وإتعاسكم في الداريْن أو إسعادكم فيهما، فأنا أحَذّركم أنَّ الذين لا يستجيبون للخير سيكون لهم حتماً كل تعاسة في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. هذا، وكما أنه (ص) مُنْذِرٌ بالوَحْي فهو أيضا مُبَشّرٌ به حيث كل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم.. ".. وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)" أيْ ولكن لا يسمع الصُّمُّ أيْ الذين لا يسمعون بآذانهم الدعاءَ أيْ مَا يُدْعَوْن ويُنَادَوْن إليه مِمَّن يَدْعوهم مِن دُعاة الخير أيْ لا يسمعون الدعوة لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، إذا ما يُنْذَرُون أيْ حينما يُحَذّرُون، والمقصود بالصُّمِّ المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكبرون المُسْتَهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بهم حيث هم كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا مَنَافِع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سماع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ وانتفاع واستفادة واستجابةٍ وعملٍ به في كل شئونهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا ذَمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ لهم ورَفْضٌ تامٌّ لأفعالهم وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لعله يستيقظ ويعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)" أيْ وإنْ لَمَسَتْهم، أيْ لَمَسَت هؤلاء الصُّمّ المُسيئين السابق ذِكْرهم، مُجَرَّد لَمْس لا إصابة شديدة، نَفْحَة أيْ مُجَرَّد دُفْعَة واحدة خفيفة يَسِيرَة جداً من عذاب ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل، ولا يَسِير لعذابه تعالي فأَيْسَره وأَخَفّه لا يُحْتَمَل، والذي يُنْذَرُون به وهُمْ يُكَذّبونه ويَستعجلونه ويَسْتَبْعِدون حُدُوثه ويَسْتَخِفّون ويَستهزؤن به، سواء أكان في الدنيا أولا بمُجَرَّد قَلَقٍ أو تَوَتُّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ مع الآخرين، أم في الآخرة بأيِّ عذابٍ مَبْدَئِيٍّ كمُجَرَّد انتظار الحساب مثلا قبل حُدُوث العذاب بالفِعْل في النار بما لا يُوصَف، سيَقولون حينها وهم يَصْرخون – واللام والنون لتأكيد قولهم ذلك – بما يدلّ علي شِدَّة خوفهم واضطرابهم وحَسْرَتهم ونَدَمهم وألمهم وإهانتهم وتعاستهم يا وَيْلَنا أيْ يا هَلاَكنا نحن هَالِكون حقّاً بكل تأكيد، فإنّنا قد كنّا، لأننا كنا، ظالمين، أيْ ظلمنا أنفسنا ومَن حولنا بسبب أننا أتْعَسْناها وأتْعَسْناهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. لقد اعترفوا بظُلْمِهم وبأنهم مُسْتَحِقّون للعذاب ونَدِمُوا لكنْ في وقتٍ لن ينفع فيه الندم لأنَّ الوقت وقت الحساب وقد فات الأوَان للتصويب ونَزَلَ العذاب بالفِعْل بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)" أيْ ونَنْصِب ونُقِيم ونُعِدّ الموازين التي تُحَقّق القِسْط أي العدل لأَجْلِ حساب الناس يوم القيامة، فبالتالي لا تُظْلَم نفسٌ شيئاً أيْ لا يَظلم الله تعالي أيَّ نفسٍ بأيِّ شيءٍ مِن أيِّ ظلم، بإنْقاص شيءٍ مِن حسناتها أو زيادة شيءٍ في سيِّئاتها، أيْ لم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يَنْتَقِص مثلاً مِن حقّ أهل الخير في كلّ خيرٍ وسعادةٍ وزيادةٍ منهما، أو بأنْ يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو ما شابه هذا، وإنما الجميع يُعْطَيَ علي قَدْر عمله من خيرٍ أو شَرّ.. وفي هذا طَمْأَنَةٌ وتبشيرٌ للمسلمين وتحذيرٌ لغيرهم ليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا.. ".. وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا.." أيْ هذا بيانٌ لتمام العدل والدِّقّة في الحساب.. أيْ وإذا كان هذا العمل الذي عملته النفس أيْ عمله الإنسان من خيرٍ أو شَرٍّ قليلاً جداً مِثقال أيْ وَزن ومِقدار حبَّة مِن خردل – والخردل حبوب صغيرة جدا أقلّ من السمسم وتُستخدم في توابل الأطعمة وبعض الأدوية، وهي رمز لمُنْتَهَيَ الصِّغَر – أتينا بها أيْ أحضرناها أيْ أحضرنا هذه الحَبَّة الصغيرة من العمل الخيريّ أو الشَّرِّيِّ ووَزَنّاها وحاسَبْنا عليها وأعطينا فاعلها ما يُناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)" أيْ ويَكفِي الخَلْق جميعاً كفاية تامّة ويُطَمْئِنُهم اطمِئْناناً كاملا، ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه، لأنهم بذلك سيُعَامَلون حتماً بكل عدلٍ وعِلْمٍ وقُدْرةٍ ورحمةٍ وكرم، أننا نحن بعَدْلنا وعِلْمِنا وقُدْرَتنا ورحمتنا وكرمنا وفضلنا وإحساننا سنكون الحاسِبين لأقوالهم وأعمالهم أي العادِّين المُحْصِين لها وبالتالي فلن تُظْلَم نفسٌ شيئاً حتماً إذ سنَحْفظ لهم كل حقوقهم لأننا نحن المُرَاقِب المُشاهِد الحافِظ العالِم الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه، فنُجازيهم علي خيرها بكل تأكيدٍ بما هو أعظم منها في جنات النعيم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بشر بعدما جازيناهم في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم حيث كانوا في تمام السعادة والخير والكفاية التامّة بالنصر والعوْن والرعاية والرضا والحب والأمن، ونُجَازِيهم بالقطع علي شَرِّها بما يستحِقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ في نار جهنم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بعدما جازيناهم في دنياهم كعقابٍ بسبب سُوئهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب كالقَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة بالألم والكآبة والتعاسة
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)" أيْ ولقد أعطينا رسولَيْنَا الكريمَيْن موسي وهارون الكتاب، وهو التوراة، الذي هو، وليكون، الفرقان أيْ الذي يُعين كل مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك.. ".. وَضِيَاءً.." أيْ وليكون كذلك ضياءً أي نوراً يُسْتَضَاء به ليُرَيَ كلّ خيرٍ وسعادةٍ مِن ظُلْمَةِ أيِّ شَرٍّ وتعاسة، أيْ ليكون سَبَبَاً للهداية، أيْ لإرشاد الناس لكلّ مَا يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين ما هو خير لهم وما هو شرّ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. لقد كانت التوراة بما فيها من إسلامٍ يُناسِب عصرها ضياءً للبَشَر من ظلامِ وتعاساتِ الكفر والفساد وهُدَيً أيْ إرْشاداً يَعصمهم أيْ يَحميهم ويَمنعهم من ذلك.. ".. وَذِكْرًا.." أيْ وكذلك ليكون ذِكْرَاً، وسَمَّيَ الله تعالي كتاب التوراة ذِكْرَاً، كما سَمَّيَ كل كتبه وآخرها القرآن العظيم ذَكْرَاً، لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. لِلْمُتَّقِينَ (48)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون به هم المُتّقون فقط أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. بينما الذين لا يَتّقون، بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا ينتفعون ولا يسعدون به حتماً ويعيشون قطعاً حياتهم وآخرتهم في تعاسةٍ علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام
ومعني "الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)" أيْ للمُتّقِين الذين مِن صفاتهم أنهم هم الذين يخافون ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، بالغَيْب أيْ في سِرِّهم حيث لا يراهم أحدٌ إلا هو تعالي – فإن الخَشْيَة في تلك الحالة تدلّ على صِدْق الطاعة لله بحيث لا يرجون مدح أحدٍ ولا يَخافون عقاب أحد – وهم كذلك يخافون مقامه سبحانه دون أن يروه بل هم يُصَدِّقون بوجوده وهو غائب عنهم وبكل ما جاءهم منه من تشريعات من خلال كتبه ورسله.. والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ولذلك فمِثْل هؤلاء يحيون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء التامّ في رحمته (برجاء مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. ".. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)" أيْ وهم مِن صفاتهم كذلك أنهم مِن الساعة – والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها – مُشفقون أيْ خائفون مع حَذَرٍ وحُسنِ استعدادٍ لها وبالقطع مع حبٍّ لله وتقديرٍ لهيبته وعظمته وأملٍ كاملٍ في رحماته وأفضاله وأرزاقه، والإشفاق هو الخوف مع الحَذَر من المُخَالَفَة، وسبب إشفاقهم هو حَرَجهم من قِلّة أعمالهم الخيرية – رغم كل ما يقدّمونه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير وخوفهم من بعض تقصيرهم أو عدم إكمال وإحسان كلّ قولٍ وعملٍ ما أمكن وحَذَرهم من الوقوع في أيّ خطأٍ مستقبليٍّ وبالجملة هم دائما مُتواصلون مع ربهم ودينهم وأحاسيسهم مُرْهَفَة تتحرّك وتَتفاعَل بما يناسب الصورة التي يَذكرون الساعة عليها فيستجيبون إمّا بمشاعر حبّ أو هيبة أو حرج أو خوفٍ أو حذرٍ أو مراجعةٍ للذات أو تَدَبّرٍ أو توبة أو أمل أو استبشار أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكلّ ذلك، وبهذا يحيون حياتهم في سعادة تامّة ويستبشرون بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم، وهم يفعلون كل ذلك لأنهم مُتَأكّدون وعلي علمٍ تام بلا أيّ شكّ من خلال تصديقهم لكتبهم ولرسلهم الكرام وما أبلغوهم به أنها صِدْق وآتية لا مَحَالَة ولذا فهم يُحسنون الاستعداد لها بحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وفي هذا مدحٌ للمؤمنين وتشجيع لهم من ربهم علي الاستمرار بما هم فيه ليسعدوا في الداريْن.. هذا، وقد تَمَّ تَخْصِيص الساعة بالذكْر مع أنها داخِلَة فى الإيمان بالغيب وذلك للتذكير بعظيم أهميتها لإحسان التجهيز لها وللردّ على مَن كذّبها واسْتَعْجَلَ قيامها اسْتِهْزاءً بها واسْتِبْعادً لحُدُوثها
ومعني "وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)" أيْ وهذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو ذِكْرٌ أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. هذا، وقد سَمَّيَ الله تعالي القرآنَ ذِكْرَاً لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أيْ الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل أنتم مُكَذّبون رافِضُون له غير مُعْتَرِفين غير مؤمنين به أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤن المُرَاوِغون بعد تأكّدكم بأنه ذِكْرٌ ومُبارَكٌ في الوقت الذي كان يجب الإيمان به من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! إنكم تعلمون وتتأكّدون من هذا تماما بفطرتكم داخل عقولكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)! والمقصود أنَّ الأمر في غاية الوضوح أنَّ القرآن الكريم ذِكْرٌ وأنه مُبارَكٌ وأنه مُعْجِزٌ بدليل أنهم لم يستطيعوا الإتيان بمِثْله وأنه مِثْل الذكْر أي كتاب التوراة الذي آتاه الله تعالي موسي وهارون مِن قَبْل والذي صَدَّق به اليهود والنصاري والذي اعترفوا أنه من عنده سبحانه لا من عند موسي فلماذا إذَن يُكَذّبون وغيرهم مِمَّن يَتَشَبَّه بهم بالقرآن ويَدَّعون أنه من عند محمدٍ (ص) وهو مِثْله بل هو مُتَمِّمٌ له لكي يَصْلُح حتي يوم القيامة؟!! هل مثل هذا الكلام الذي في القرآن يُنْكَر؟!! هل مِن العقل التكذيب به وتَرْكه فيكون المصير المَحْتُوم لمَن يفعل ذلك هو تمام التعاسة في دنياه وأخراه؟!! ثم كيف تُكَذّبونه ولم يستطع أيُّ أحدٍ مهما كان أنْ يأتي بمثله؟!! فلو كان من عند بَشَرٍ وليس من عند الله لاستطعتم أن تأتوا بمثله!!.. إنَّ هذا القرءان العظيم، قد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنَّ إنكاركم لكَوْنه مِن عنده تعالي بعد أنْ تَبَيَّن لكم صِدْقه وصِدْق الأدِلّة علي ذلك هو أعظم دليل علي أنكم مُجَرَّد مُعانِدون مُسْتَكْبرون لا أكثر وما كل ذلك إلا لأنكم قد عَطَّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود وإبراهيم والمؤمنون والعنكبوت وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)" أيْ ولقد أعطينا إبراهيم هُدَاه، برحمتنا وفضلنا وكرمنا وحِكْمتنا وعِلْمنا وقُدْرَتنا، أيْ هَدَيْناه، أيْ عَرَّفْناه الطريق وبَيَّنَّاه له وأرْشَدناه إليه ودَلَلْنَاه عليه، طريق الله، طريق الإسلام الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه، طريق الجنة، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، من خلال عقله الذي خَلَقناه به ليُعِينه علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة ويُعينه علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليه والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ، وأيضا هديناه من خلال فطرته التي فيه والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذا العقل السليم الصائب الذي عند إبراهيم (ص) هو مع كل إنسانٍ وسَيَصِل للرُّشْدِ حتماً كما وَصَلَ إبراهيم لو أحسن استخدامه ولو استجاب لِمَا بداخله من نداء الفطرة ولو لم يَضَع عليه أغشية تمنعه من حُسْن التفكير والتّعَقّل والتّدَبُّر وأهمها الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. مِنْ قَبْلُ.." أيْ مَن قبل اختيارنا له لنجعله رسولاً يُبَلّغ الناس ما نُوحِيه إليه مِن إسلامٍ ليعملوا به ليسعدوا بالداريْن.. إنَّ هذا يعني أنه قد وَصَلَ للإيمان بالله تعالي ولاتّباع الإسلام بفِطرته وحُسْن تفكير عقله فعَاوَنه سبحانه لَمَّا رَأَيَ منه ذلك أولا، فلا يقول أحدٌ أنه لا يعرف الله والإسلام أو لم يُفَكّر فيهما؟! وإلا ظلَّ في تعاسةٍ تامَّة في دنياه – ثم أتمّ وأعظم في أخراه – إذا لم يَعُدْ إليهما، لكنْ بمُجَرَّد أن يبدأ هو أولا في العودة سيُعاوِنه تعالي حتماً.. هذا، وعند بعض العلماء معني "مِن قَبْل" أيْ مِن قَبْل كثيرٍ من الرسل كموسي وعيسي ومحمد وغيرهم صلي الله عليهم وسلم جميعا، حيث هو من أوائل الرسل ويَسبقهم في الزمان وهو قُدْوَةٌ لجميعهم.. ".. وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)" أيْ وكنّا عالِمِين به، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه حيث لا يَخْفَيَ علينا شيءٌ في كوْننا، أنه يَسْتَحِقّ أنْ نؤتيه رُشْدَه ونَختاره ليكون رسولا، يَستحقّ أنْ نُيَسِّر له كل أسباب الهداية لكلّ خيرٍ وسعادةٍ ونُوَفّقه ونُسَدِّده لها ونُعينه عليها لأنه هو الذي اختارها أولا بكامل حرية إرادة عقله، وكذلك نَفْعَل مع كل مسلمٍ تَشَبَّه به واختارها نُسَهِّل له أسبابها كلها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)" أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قال إبراهيم لأبيه وقومه سائِلَاً إيَّاهم، علي سبيل الدعوة والإرشاد لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، عن هذه التماثيل أيْ الأصنام التي هم عاكفون لها أيْ مُقِيمون مُلازِمُون مُسْتَمِرُّون مُداوِمون مُواظِبون لعبادتها رغم أنهم هم الذين صَنَعوها بأيديهم؟! والسؤال للاستفسار ولفتح مجالٍ للحوار معهم ودعوتهم لخير الإسلام وسعادته في الداريْن، كما أنه سؤالٌ للإنكار عليهم أيْ لرفض ما يفعلونه، ويشمل تَعَجُّبَاً مِن حالهم وذَمَّاً ولَوْمَاً له
ومعني "قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)" أيْ أجابوا إجابة سَفِيهَة تَدُلّ علي تعطيلهم التّامّ لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، حيث قالوا وجدنا آباءنا وأجدادنا السابقين عابدين أيْ طائعين لها فاتّبَعْناهم في ذلك!! هكذا، بلا أيِّ تَدَبُّرٍ أو تَعَقّلٍ فيما يفعلون ولا أيِّ دليلٍ علي صِحَّته!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (170) من سورة البقرة "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)" أيْ قال إبراهيم لهم لعلّ قوله هذا يكون فيه المزيد من إيقاظهم: لقد كنتم أنتم بهذه العبادة وكان آباؤكم الذين وَجَدتموهم قبلكم لها عابدين جميعكم بسبب عبادتكم إيَّاها في ضياعٍ واضحٍ حيث تركتم عبادة الله تعالي وحده ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم سواء أكانت كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْراً للشرّ أم ما شابه هذا.. إنكم في ضلالٍ مُبينٍ لأنكم تعبدون غير الله تعالي وهو مَخْلوق مِثْلكم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ! وهل يُقارَن الخالق بمَا خَلَقَه؟!! كيف تعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلكم بل هو أضعف منكم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنكم قد عَطّلْتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الباطل لا يُمكن أبداً أنْ يَتَحَوَّل ليكون حقّاً بفِعْل الآباء أو أيّ أحدٍ مهما كان له!!
ومعني "قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)" أيْ قالوا لإبراهيم مُتَعَجِّبين مِن وَصْفِه لهم بأنهم في ضلالٍ مُبينٍ مُسْتَغْرِبين مُسْتَعْظِمِين ذلك مُتَوَهِّمِين في باديء الأمر أنَّ ما يقوله هو مزاح لا جَدّ وأنه لا يدري أبْعاد ما يقول فَهُم لم يسمعوا بهذا الكلام مِن قَبْل لأنه لا يُمكن لأحدٍ أن يُقَلّل من شأن آلهتهم وشأنهم بهذه الصورة ويكون جادَّاً في قوله خاصَّة إذا كان شابَّاً مِثْله لا يُساويهم في مَكَانتهم وجاههم ونفوذهم ومالهم، قالوا هل جِئتنا أيْ أتَيْتَنا بالحقِّ أيْ هل تتكلم بصورةٍ جِدِّيَّة بها الحقّ أي الصدق الذي علينا اتّباعه أم أنت من المَازِحِين معنا غير الجادِّين الذين يتكلّمون بقَصْد المِزاح فقط لا الجدّ؟!!
ومعني "قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)" أيْ قال إبراهيم لهم بكل ثِقَةٍ ووضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد لثقته بأنه قد جاءهم بالحقّ التَّامَ لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم: أنا لستُ من اللاعبين وليس ربكم هذه الأصنام لكنْ ربكم الذي أدعوكم لعبادته المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ هو ربُّ السماوات والأرض الذي فَطَرَهُنَّ – أيْ خَلَقَهُنَّ وأَوْجَدَهُنَّ مِن عدمٍ علي غير مِثالٍ سابِقٍ – أيْ هو مَالِكهنّ بكل مَن ومَا فيهنّ وعليهنّ وراعِيهنّ وحافِظهنّ ومُتَوَلّي ومُدَبِّر كل شئونهنّ وكل الخَلْق بهنّ.. ".. وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما يقوله لهم ويَدْعُوهم إليه.. أيْ وأنا علي ذلك كله الذي أقوله لكم شاهِدٌ مِن الشاهِدين على أنه ربّ السموات والأرض وأنه لا إله إلا هو وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة، أيْ أنا مِن الشهود علي كل هذا الثقات الأمناء العادِلين الذين يَثِقُون فى صِدْق ما يقولون ثقة الشاهِد على شىءٍ لا يَشُكّ مُطلقاً فى صِحَّته، العالِمِين به المُبَرْهِنِين المُدَلّلِين عليه لأنَّ الشاهد على الشيء هو مَن كان عالِمَاً به مُتَحَقّقاً منه مُبَرْهِنَاً مُدَلّلَاً عليه مُبَيِّنَاً له بأدِلّته الحاسِمَة، المُصَحِّحِين لكم فِكْركم ببيان الأَدِلّة القاطِعَة علي ذلك كالشاهِد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا، فلو تَدَبَّرْتُم بعقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ في أيِّ مَخْلوقٍ حولكم في الكوْن لَتَأَكّدتم أنه مُعْجِزَة لم يَدَّعِ أيُّ أحدٍ أنه قد قام بها ولَتَأكّدتم من وجود ربكم ولاسْتِحْقاقه لعبادتكم إيّاه سبحانه
ومعني "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)"، "فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)" أيْ هذا إثباتٌ عَمَلِيٌّ ودليلٌ قاطِعٌ لهم من إبراهيم (ص) لا يحتاجون بعده إنْ كانوا يعقلون لأيِّ دليلٍ آخر عن عَجْز آلهتهم التّامِّ وعدم صلاحيتها مُطْلَقَاً بالقطع لأنْ تكون آلهة فهي ليست لها أيّ صِفَةٍ من صفات الألوهِيَّة ككمال القُدْرَة والعلم والرزق وخَلْق الخَلْق والنفع والضرَر ونحو ذلك فهي لا تستطيع أن تنفع ذاتها بأيِّ نَفْعٍ ولا أنْ تَمْنَع عنها ضَرَرَاً مَا فكيف تنفعهم أو تَضُرّهم؟!! لعلهم بذلك يَستفيقون ويعودون لربهم النافع الضَّارّ وحده ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما لو اسْتَمَرُّوا مُصِرِّين علي حالهم هذا.. أيْ وَوَالله سَأَكِيد – واللام والنون للتأكيد – أصنامكم أيْ سَأفعل المَكَائِدَ بها بكل أشكالها أيْ سَأُدَبِّر ضِدَّها مَا يُوقِع بها الضرَر والهلاك، بعد أنْ تَنْصَرِفوا مُعْطِين أدْباركم أيْ ظهوركم لها أيْ مُبْتَعِدِين عنها.. "فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)" أيْ فوَلّوْا مُدْبِرِين عنها فبَعْدَها كَسَّرَهم وحَطّمهم تَكْسيراً وتَحْطِيمَاً شديداً فجعلهم فُتَاتَاً وقِطَعَاً صغيرة، من الجَذّ وهو القَطْع والكَسْر.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول جعلهم بَدَلَاً عن جعلها والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. ".. إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)" أيْ إلا صَنَمَاً كبيراً لهؤلاء الأصنام لم يَجْعله جُذاذاً لكي يَرْجِعوا إليه أيْ إلي هذا الصنم الكبير – أو إلي إبراهيم حتي يفتح معهم حواراً عَقْلانياً عن الله تعالي بالأدِلّة القاطِعَة بعد إثبات العَجْز التّامّ لآلهتهم – ليسألوه عمَّا حَدَثَ ولماذا لم يُدافع عن إخوانه الصغار من الآلهة؟!! فلعلهم يستفيقون حينها حينما يرونه لا يَدْرِي شيئاً عن أيِّ شيءٍ فكيف يكون إلاهاً يُعْبَد!!
ومعني "قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)" أيْ قالوا مُنْزَعِجِين مُتَأَلّمِين مُنْدَهِشِين مُتَسائِلين بغَضَبٍ وتَعَجُّبٍ ورَفْضٍ بعدما رأوا مَا حَدَثَ مَن الذي فَعَل هذا الفِعْل الفظيع القبيح بآلهتنا التي نعبدها والمُسْتَحِقّة للتعظيم لا للتحقير والإهانة؟!! إنه حتماً – واللام للتأكيد – مِن الظالمين لأنفسهم لأنه قد عَرَّضَ نفسه بسبب ذلك لعقابها المُؤَكّد!!
ومعني "قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)" أيْ قال بعضهم سمعنا شابَّاً يَذْكر الآلهة بسوءٍ وذَمٍّ ونَقْصٍ وعَيْبٍ يُسَمَّيَ إبراهيم، فمِن المُحْتَمَلِ بالتالي أنْ يكون هو الذى فَعَلَ هذا بهم، وهؤلاء هم الذين سَمِعُوه وهو يُقْسِم تالله لأكيدنّ أصنامكم
ومعني " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)" أيْ قال رؤساؤهم وقالوا بعضهم لبعضٍ إذا كان الأمر كذلك فجِيئوا بإبراهيم هذا أيْ أحضروه أمام أعين الناس لكي يُشاهِدوا حِسابه وعِقابه الذي يَسْتَحِقّه، ليكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَفْعَل مِثْله.. إنَّ في هذا الاجتماع خيراً كثيراً حيث هو فرصة لتأكيد إبراهيم لهم علي عَجْز آلهتهم وهو بيانٌ أمامهم لعظيم قُدْرَة الله تعالي في إنْقاذه من عذابهم ورعايته التّامَّة له لعلّهم بهذا يؤمنون فيسعدون في الداريْن
ومعني "قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)" أيْ قال الرؤساء والكُبَراء الذين يَسْتَجْوِبُونه ويُحَاكِمُونه مُهَدِّدِين ذَامِّين إيَّاه بعد أنْ أَتَوْا به علي أَعْيُن الناس هل أنت الذي فَعَلْتَ هذا التّحْطِيم والتّكْسِير بآلهتنا المُعَظّمَة التي نعبدها يا إبراهيم؟!
ومعني "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)" أيْ قال إبراهيم: الذي فَعَلَه هو كبير الآلهة هذا، وبالتالي فاسألوا آلهتكم عَمَّن فَعَلَ بهم ذلك فسَيُجِيبونكم علي سؤالكم إنْ كانوا يتكلّمون ويستطيعون سماعكم وإجابتكم!!.. إنه يحاول إفاقتهم مِن غَيْبُوبتهم بإقناعهم بالأدِلّة العَمَلِيَّة الواقِعِيَّة القاطِعَة بالعَجْز التّامِّ لآلهتهم حيث هي لا تستطيع أن تَنْفع ذاتها بأيِّ نَفْعٍ ولا أنْ تَمْنَع عنها ضَرَرَاً مَا فكيف تَنْفعهم أو تَضُرّهم؟!! لعلهم بذلك يَستفيقون ويعودون لربهم النافع الضَّارّ وحده ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما لو اسْتَمَرُّوا مُصِرِّين علي حالهم هذا.. لقد أجاب إبراهيم (ص) بصورةٍ فيها توفيق وتيسير كبير من الله تعالي للداعي له وللإسلام حينما يكون حريصاً أشدّ الحِرْص علي إفاقة مَن يَدْعوهم، فأشار علي الصَّنَمِ الأكبر الذي تَرَكَه دون تَكْسيرٍ بأنه هو الذي فَعَلَ هذا التكسير، وهذا ليس كذباً بل هو الصدْق لأنه يَقْصِد أنه بالفِعْل هو السبب فيما حَدَث لأنه هو كبيرهم ولم يستطع الدفاع عنهم ومَنْع الاعتداء عليهم حينما كانوا يُكْسَرُون!!.. فلعلّهم بذلك يستيقظون حينها حينما يرونه لا يَدْرِي شيئاً عن أيِّ شيءٍ فكيف يكون إلاهاً يُعْبَد!!
ومعني "فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)" أيْ هذا بيانٌ للأثر الطيّب المُؤَقّت في نفوس بعضهم الذي أَحْدَثه كلام إبراهيم (ص) لهم، فقد اهْتَزّوا وتَأَثّرُوا لفترةٍ بهذه الصدْمَة واستفاقوا قليلا.. أيْ فعادوا إلي عقولهم بسبب كلام إبراهيم يُفَكّرون فيما هم عليه من عبادة ما لا يَنْفع ولا يَضُرّ وقالوا بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون لأنفسكم لا أحد غيركم لأنكم عَبَدْتُم أمثال هذه الآلهة.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المعني أنهم لم يَتَأَثّروا بخيرٍ بكلام إبراهيم لكنهم عادوا إلي أنفسهم يَتَلاوَمُون فيما بينهم قائلين إنكم أنتم الظالمون لأنكم تَرَكْتُم آلهتكم بدون حراسة فحَدَثَ لها مَا حَدَث!!.. إنه لعلّ بعضهم قد تَأثّرَ بالخير فاسْتَفاق مُؤَقّتَاً وأحسنَ التفكير لبعض الوقت وبعضهم ظلّ مُصِرَّاً علي سُوئه يَلوم نفسه علي عدم الحراسة للآلهة والدفاع عنها!
ومعني "ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)" أيْ ثم بعد هذا، جميعهم انقلبوا علي رؤسهم سريعا، أيْ كأنَّ رؤوسهم أصبحت أسفل وأرجلهم أعلي، وهو تعبيرٌ في اللغة العربية يُفيد الانقلاب والعودة من الخير والتّعَقّل والتّدَبُّر وحُسن التفكير الذي عاشوه قليلاً بسبب التّأَثّر بكلام إبراهيم إلي ما كانوا يعيشونه سابقاً طوال حياتهم مِن سَفَهٍ وشَرٍّ وسُوءٍ وإصرارٍ علي التكذيب والعِناد والاسْتِكْبار بعبادة غير الله تعالي مِن أصنامٍ وغيرها لا تَنْفع ولا تَضُر، وقالوا لإبراهيم مُهَدِّدِين غاضِبين مُتَعَجِّبِين لقد علمتَ أنَّ هؤلاء الأصنام لا يَنْطِقون فكيف تَسْخر منّا وتطلب أنْ نسألهم؟! لقد اعترفوا بأنفسهم أنها لا تستحقّ أن تكون آلهة تُعْبَدَ وأظْهَرَ الله الحقّ بألسنتهم هم لا بغيرهم حيث لم يجدوا حُجَّة يقولونها إلا أنْ يقولوا له ذات الحُجَّة التي هي دليله (ص) ضِدَّهم وتُبَيِّن سَفَههم لَمَّا قال لهم عن أصنامهم "إنْ كانوا يَنْطِقون"!!
ومعني "قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)"، "أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)" أيْ قال إبراهيم لهم حينها لَمَّا اعترفوا بذلك ونَصَرَ الله تعالي حُجَّته وهَزَمَ حُجَّتهم: فإذا كانت آلهتكم كما تَصِفونها أنتم هكذا فبالتالي إذَن فهل تعبدون أيْ تُطيعون غير الله مَعْبوداً كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكب أو غيره أو حتي بَشَرَاً ضعيفاً مثلكم يَضعف ويَفْتَقِر ويَمرض ويَموت (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا ينفعكم بأيِّ شيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله ولا يستطيع أن يضرّكم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره إذا تَرَكْتُموه ولم تَعْبُدوه، لأنَّ النّفْع والضّرّ من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المنافع أو المَضارّ هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنَّ آلهتهم لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والاستفهام والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. "أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)" أيْ أضافَ إبراهيم قائلاً لهم مَا يَدلّ علي مزيدٍ من غَضَبه منهم وذَمّه لهم لعلهم يستفيقون: قُبْحَاً لكم وللذي تعبدون غير الله مِن آلهة، وكلمة أفّ تدلّ علي اسْتِقْذار وقُبْح عقولهم وأفعالهم وأقوالهم وآلهتهم والغَضَب من ذلك والكُرْه له.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)" أيْ فهل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في سُوء ما أنتم عليه فتَتُوبون أيْ تَرْجِعون عنه إلى عبادة الله تعالي وحده؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا السؤال مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)" أيْ لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم إبراهيم (ص)، وبَدَلَاً أنْ يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة، فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولة أخيرة للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه! فقالوا بعضهم لبعضٍ أحْرِقوه بشِدَّة بالنار فإنها أشَدّ العقوبات لكي يُعَذّبَ بها قبل موته والتّخَلّص منه، وانصروا آلهتكم عليه بالانتقام لها ولنا منه بهذا العقاب الشديد حيث قد أهانها وحَطّمها وأهاننا، وفي هذا مزيدٌ من الاعتراف الضِّمْنِيّ منهم بضعف آلهتهم واحتياجها لمَن ينصرها!!.. ".. إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)" أيْ إنْ كنتم فاعلين للنصر لها مُرِيدِين بصِدْقٍ وبجِدِّيَّة أن تنصروها نَصْرَاً يُرْضيها
ومعني "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)" أيْ فلَمَّا أشْعَلُوا النار الشديدة وألْقُوه فيها حينها قلنا بسبب تمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا به ورعايتنا وحُبِّنا له وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا ونَصْرنا إيَّاه – وكذلك نُحِبّ ونَرْعَيَ ونُعين ونُقَوِّي ونَنْصُر ونَرْحَم كلَّ مؤمنٍ يَتَشَبَّه به – يا نار كُوُنِي بَرْدَاً أيْ بارِدَة لا حارَّة ذات نَسَائِم مُعْتَدِلَة لطيفة، وسلاماً أيْ أمَانَاً واستقراراً وراحة وخيراً وسروراً وسَلامَة من أيِّ سوءٍ وشقاءٍ وضَرَرٍ وأذيً ومَكْروهٍ، عَلَيَ إبراهيم، طوال تَوَاجُده فيها.. لقد تَدَخّلَتْ إرادة خالق النار سبحانه بإلغاء وظيفتها بالحَرْق حتي لا تُؤذيه بأيِّ شيء ،وهو أيضا الذي يَمنع وظيفة إحساس الجِلْد الذي خَلَقَه بأيِّ ألمٍ لمَن يريد له ذلك ليُخَفّف عنه فلا يَشعر بآلامه، وبهذا أنجاه منها ومن آلامها فخرج بلا أيِّ أذَيَ.. لقد أحسنَ إبراهيم التوكّل علي الله تعالي والاستعانة به ودعاءه والثقة التامَّة بنَصْره وصَبَرَ وظَلَّ عامِلاً بأخلاق إسلامه داعياً له بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ مُدَافِعَاً عنه مهما كانت الظروف والأحوال فأعانه سبحانه وخَفّف عنه ويَسَّرَ له حاله كله وأسعده في الداريْن، وكذلك يكون حال كل مَن يَتَشَبَّه به من المسلمين.. لقد كانت مُعْجِزَة له من الله تعالي تدلّ علي صِدْقه فيما يدعوهم إليه من عبادة الخالق وحده القادر علي كل شيء، فلْيَتّعِظ إذَن كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يريد الاتّعاظ، ولو كان مَن حول إبراهيم وغيرهم يعقلون لاتّعَظوا ولآمنوا بالله وعملوا بأخلاق دينه الإسلام ولسَعِدوا في الداريْن
ومعني "وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)" أيْ وأرادوا به كيْدا أي مَكْرَاً، أيْ شرَّاً وهَلَاكَا، عن طريق إحراقه بالنار، فجعلناهم بقدْرتنا التامّة التي لا يمنعها أيّ شيءٍ الأخسرين أيْ الأَخْسَر من غيرهم من الناس إذ قد خَسروا خُسْراناً شديداً فلا أحد أخْسَر منهم إذ لم يَرْبَحوا شيئاً مُطلقاً بل فَقَدوا مُتَأَلّمِين مُتَحَسِّرين جهودهم وأموالهم حيث أبْطَلنا كيْدهم وأفْقَدنا النار خَوَاصَّها وحَوَّلناها إلى بَرْدٍ وسلامٍ على إبراهيم فلم يُحَرِّقوه ولم يَنْصُروا آلهتهم كما كانوا يريدون أن يفعلوا لكنْ نَصَرْناه وأَعْلَيْنَاه ودينه الإسلام وهَزَمْناهم وأخْفَضْناهم ودينهم الذي هو عبادة الأصنام.. إنَّ هؤلاء حتماً هم الذين يَخْسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، بسبب بُعْدهم عن الله والإسلام، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وهكذا هي دائما رعاية الله تعالى تَرْعَيَ وتَحْرُس الصالحين، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)" أيْ وأنْقذناه ولوطا، وهو رسولنا الكريم وابن أخيه وقد آمَنَ به، مِن كَيْد الكائِدين لهما، بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا بهما ورعايتنا وحُبِّنا لهما وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا ونَصْرنا إيَّاهما، حيث أعَنَّاهما وسَتَرْناهما ويَسَّرْنا لهما الخروج من الأرض الظالم أهلها التي كانوا بها وهي ببلد العراق، فراراً بدينهما الإسلام للحفاظ عليه ونَشْره بين أناسٍ آخرين يتقبلونه، فاتّجَهَا مُهاجِرَيْن إلي الأرض التي بارَكْنا فيها للعالَمين أيْ لكلِّ الناس وكلّ الخَلْق وهي أرض الشام أيْ جعلنا فيها كل بَرَكَة أيْ كل زيادة دائمة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ من كل الأنواع، كل الخيرات والسعادات، وفيها عاشَ كثيرٌ من الرسل ونَزَلَ عليهم وَحْي الله بالإسلام في كُتُبه ليكون مَنَارَة لتعليم البَشَرِيَّة عبادة الله تعالي وحده والعمل بأخلاق إسلامها لإسعادها في دنياها وأخراها
ومعني "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)"، "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)" أيْ وعَوَّضه ربه الكريم الوهَّاب عن صَبْره وتَحَمُّله الأذي من أجله بسبب الإيمان به وتوصيله أمانته ودينه الإسلام للآخرين وثباته وصموده علي ذلك دون أيّ ترَاجُع، عَوَّضه تعالي في مُقابِل كل ذلك ما هو أعظم منه وبما يُناسِب كرمه وفضله سبحانه وبما يُنْسِيه كل أذيَ وأسيَ، فأعطاه ابنه اسحق – بعد إسماعيل – وأعطي اسحق يعقوب وجعل الأنبياء كلهم مِن هذه الذرِّيَّة الصالحة وأوْحَيَ إليهم كل الكتب التي تحمل الإسلام ليكونوا هم الهُداة لكل البَشَر لربهم ولدينهم، لكل خيرٍ وسعادة، ويكون لإبراهيم كلّ هذا الخير في ميزان حسناته يوم القيامة لأنه كان هو السبب فيه.. وليس ذلك التكريم المعنويّ حيث أرفع مَكَانَة لأيّ بَشَر علي وجه الأرض وفقط، بل أعطاه الله تعالي أيضا أجره في دنياه أي أعطاه كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذرية الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطاه تمام السعادة في الدنيا، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أي من الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر.. أيْ وأعطينا لإبراهيم إسحق ابناً ويعقوب حَفِيداً، إذ في رؤية الأحفاد الصالحين سعادة.. ".. وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً .." أيْ ورزقناه كذلك حَفِيده يعقوب إبن إسحاق نافلة أيْ زيادة علي مَا طَلَب حيث هو قد طلب ولداً فرزقناه إسحاق ثم رزقناه كذلك بعدها حفيده يعقوب هبة زائدة علي طَلَبه بل وأحفاداً كثيرين، وعند بعض العلماء وَهَبْنا له كُلَّاً مِن إسحق ويعقوب وأحفاده نافلة أيْ هِبَة وعَطِيَّة مِنَّا حيث كلهم عطاؤنا له.. ".. وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)" أيْ وجعلنا كُلَّاً مِن إبرهيم وإسحاق ويعقوب ولوطاً صالحين أيْ عاوَنَّاهم علي الصلاح ويَسَّرْنا لهم أسبابه لأنهم اختاروه هم أولا، والصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة.. لقد جعلناهم صالحين أيْ عابدين لله وحده بلا أيِّ شريكٍ مُتَمَسِّكِين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم يُصلِحون في الأرض ولا يُفسدون ويُسعدونها ومَن عليها بدين الإسلام في دنياهم وأخراهم ويَدْعُون له ويَنْشرونه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ويُدَافعون عنه ضِدَّ كلّ مَن يَعتدي عليه فهُمْ كامِلِي الصلاح والخير في كل نواياهم وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وكانوا رُسُلَاً أيْ مَبْعُوثين هادِين مُرْشِدين مُسْعِدين للناس قد تَمَّت لهم سعادتهم من ربهم لأنهم أصلحوا كل أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة حتماً مع الصالحين في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. إنَّ هذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون أيضاً قطعاً نصيب كل مسلمٍ يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم.. "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)" أيْ وجعلناهم بسبب صلاحهم أئمَّة – هم والصالحين من ذرِّيَّاتهم – أيْ عاوَنَّاهم ووَفّقْناهم ويَسَّرْنا لهم أسباب أنْ يكونوا أئمة أي يُؤْتَمَّ أيْ يُقْتَدَيَ بهم أيْ قادة ورؤساء يَهدون أيْ يرشدون الناس حولهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وكان ذلك بأمرنا أيْ بتَوْفيقنا وتَيْسيرنا وعَوْننا وبعِلْمنا الذي عَلّمناه لهم وبتَوْصِيتنا لهم بفِعْل هذا كواجبٍ عليهم ليَسعد الجميع في الداريْن، فنالوا بكل هذا المَكانَة العالية وسعدوا هم ومَن حولهم في دنياهم وسينالوا في أخراهم حتماً أعظم الثواب.. وكذلك بالقطع سيكون حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه بهم.. ".. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ.." أيْ وأَخْبَرْنَاهم عن طريق الوَحْي الذي أوْحَيْناه إليهم وهو الإسلام أنَّ عليهم فِعْل الخيرات – جَمْع خَيْر – أيْ كلّ خيرٍ أيْ نَفْعٍ مُسْعِدٍ مِن قولٍ وعملٍ للنفس وللغَيْر في الداريْن، وتَرْك قَطْعَاً بالتالي كلّ شَرٍّ مُتْعِسٍ لهم فيهما، وأنْ يَدْعو الناس لذلك بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ، وأوحينا إليهم كذلك إقام الصلاة أيْ ومن هذا الخير.. ".. وَإِقَامَ الصَّلَاةِ.." أيْ وأوْحَيْنا إليهم كذلك المُوَاظَبَة علي تأدية الصلوات المَفروضة عليهم في أوقاتها وتَأْدِيَتها دائماً علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ.." أيْ وأوْحَيْنا إليهم أيضاً إعطاء الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، وأنْ يكونوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقِيَّات والمُعامَلات.. هذا، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما مِن فِعْل الخَيْرات عموماً لكنْ تَمَّ تَخْصيصهما للتنبيه علي أهميتهما وآثارهما المُسْعِدَة للجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)" أيْ وكانوا لنا وحدنا لا لغيرنا مُطيعين من خلال اتّباع كل أخلاق الإسلام، ولا يُشركون معنا شيئاً آخر في العبادة، فنحن الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معنا شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معنا شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)" أيْ وآتَيْنَا أيْ وأعْطَيْنا لوطاً – كما آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَه مِثْلَما ذُكِرَ في الآية (51) وجعلناه وإسحاق ويعقوب أئمة – من رحمتنا وكرمنا وفضلنا العظيم، حُكْمَاً أيْ حِكمة ومُلْكَاً وسُلْطاناً وعقلاً راجِحَاً، وعِلْمَاً بحيث يُحْسِن التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع، إضافة لإعطائه النّبُوَّة وما فيها من تشريعاتِ الإسلام الذي يُناسب عصره، وكذلك نَجَّيْناه – كما أنْجَيْنَا إبراهيم من النار – أيْ أنْقذناه وخَلّصْناه وسَلّمْناه بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا به ورعايتنا وحُبِّنا له وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا ونَصْرنا إيَّاه، من عذابنا الذي أنزلناه علي أهل القرية أي البَلَد التي كانت تعمل الخبائث أيْ كان أهلها يعملون الأعمال الخبيثة أيْ السَّيِّئة الفاسِدَة الكريهة القبيحة القَذِرَة الشِّرِّيرة المُضِرَّة المُتْعِسَة للنفس وللغَيْر كالشرك بالله تعالى والشذود بجِماع الذكور في أدْبارهم لا الزوجات في فُرُوجِهِنَّ وقطع الطريق وارتكاب المُنْكَرات فى المجالس وما شابه هذا من جرائم.. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)" أيْ لأنهم كانوا قوم شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ مُسِيئين مُتْعِسين لكل مَن يَتعامَل معهم، فاسقين أيْ خارجين عن طاعة الله والإسلام
ومعني "وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)" أيْ وأيضا أنعمنا عليه بنعمةٍ من أعظم نِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ وهي أنْ جعلناه في رحمتنا، في أهل رحمتنا، فيمَن نَرَحمهم، برحمتنا الواسعة التي وسعت كل شيء والتي وَعَدْنا بها المؤمنين، في دنياه أولا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، لأنه من الصالحين، والصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة، أيْ لأنه من العابدين لله وحده بلا أيِّ شريكٍ المُتَمَسِّكِين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم الذين يُصلِحون في الأرض ولا يُفسدون ويُسعدونها ومَن عليها بدين الإسلام في دنياهم وأخراهم ويَدْعُون له ويَنْشرونه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ويُدَافعون عنه ضِدَّ كلّ مَن يَعتدي عليه فهُو كامِل الصلاح والخير في كل نواياه وأقواله وأفعاله وأحواله وكان رَسُولَاً أيْ مَبْعُوثا هادِيا مُرْشِدا مُسْعِدا للناس قد تَمَّت له سعادته من ربه لأنه أصلح كل أحواله فسعد في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكون في الآخرة حتماً مع الصالحين في أعلي درجات الجنات بنعيمها الذي لا يُوصَف.. إنَّ هذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون أيضاً قطعاً نصيب كل مسلمٍ يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم
ومعني "وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)"، "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسولنا الكريم نوحاً حين نادَيَ أيْ دَعَانا وطَلَبَ مِنّا مِن قَبْل زمان إبراهيم ومَن جاء بَعْده مِن الرسل أنْ نَنْصره على قومه المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين لم يَستجيبوا له ويُسْلِموا رغم بقائه بينهم ألف سنة إلا خمسين عاما يَدعوهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة وصَبْرٍ تامٍّ علي أذاهم.. إنه بعدما أوْحَيَ الله تعالي إليه في قوله "وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ.." (هود:36) وتَأَكَّدَ أنهم لن يؤمنوا باستثناء القِلّة القليلة التي أسلمت معه، رغم حُسن دعوته لهم وتنويع أساليبها أثناء كل هذه الفترات الطويلة، وَاصَلَ دعاءه عليهم قائلا يا ربّ لا تَذَرْ أيْ لا تَتْرُك علي الأرض من الكافرين ديَّارَاً أيْ إنساناً ساكِنَاً في ديارٍ فيها ويَدُور ويتحرّك عليها ذهابا وعودة، أيْ أهلكهم جميعا واستأصلهم تماما من الحياة ولا تترك منهم أيَّ أحد (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. ".. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائه وتَوَسّله الصادق أنْ أَجَبْنا له دعاءه برحمتنا وكرمنا وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ نجَّيْناه أيْ أنْقذناه وخَلّصْناه وسَلّمْناه هو وأهله، أي وأهل دينه الإسلام، أي والمؤمنين معه من عائلته ومن غيرهم، حيث ركبوا في السفينة التي سارَت بهم إلي برّ الأمان، فنجيناه ونجّيناهم من الكرب العظيم أيْ من الحزن الشديد والمَشقّة العظيمة وهي الطوفان المائيّ الذي أغرقنا به كل المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين جميعا، وذلك بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا بهم ورعايتنا وحُبِّنا لهم وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا ونَصْرنا إيَّاهم.. إنه تعالي برحمته وكرمه يستجيب لكل مَن يدعوه بخير، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له ولغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وحَمَيْناه من كَيْد الأناس الذين لم يُصَدِّقوا بآياتنا – سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسولهم لتأكيد صِدْقه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار – وأَيَّدْناه وأعَنَّاه وجَعلناه ينتصر أيْ يفوز عليهم حيث أهلكناهم ومَكَّنَّا له وللمؤمنين معه في الأرض أيْ جَعلناهم يَتَمَكّنون من إدارتها بأخلاق دينهم الإسلام ليَنتفعوا ويَسعدوا بخيراتها.. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)" أيْ لأنهم كانوا قوم شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ مُسِيئين مُتْعِسين لكل مَن يَتعامَل معهم، فبالتالي أغرقناهم بالطوفان كلهم جميعاً فلم نَتْرِك منهم أيِّ أحد
ومعني "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسولَيْنَا الكريمَيْن داود وابنه سليمان حين كانا يَحْكُمان في الزرع حين انْتَشَرَتْ فيه غنم القوم من غير أصحابه وأكلته، فحَكَمَ داود – كما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنه – بأنْ تكون الغنم لصاحب الزرع يأخذ عَدَدَاً منها بما يُقابِل ثَمَنَ مَا أكلته فأتْلَفته، وكنّا لحُكْمِهم أيْ لحُكْم الحاكِمَيْن وهما داود وسليمان والمُتَحَاكِمِين إليهما شاهِدِين أيْ حاضِرين بعِلْمنا مُشَاهِدِين عالِمِين بكل ما حَدَث لا يَخْفَىَ علينا شيء
ومعني "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)" أيْ وعَلّمْنا وألْهَمْنا وبَيَّنَّا وعَرَّفنا هذه القضية سليمان، والمقصود أنَّ أباه داود (ص) قد حَكَمَ بحُكْمٍ صَوابٍ لكنْ وَفّقَ الله تعالي ابنه سليمان لحُكْمٍ أكثر صَوَاباً منه حيث سيكون أكثر نَفْعَاً وأقلّ ضَرَرَاً لأنه سيَنْتَفِع الطرفان مع المحافظة علي العدل كما في حُكْم داود ولكنْ لا يَخْسَر صاحب الغَنَم شيئاً من غَنَمه، فقد حَكَمَ عليه – كما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنه – بزَرْع الزَّرْع التالِف في فترةٍ يَستفيد فيها صاحب الزرع بمنافع الغَنَم مِن لبنٍ وصوفٍ ونحوهما ثم تعود الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه، وذلك لمُساواة قيمة ما تَلَف من الزرع لقيمة مَنافِع الغَنَم.. ".. وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.." أيْ وآتَيْنَا أيْ وأعْطَيْنا كُلَاُّ من داود وسليمان من رحمتنا وكرمنا وفضلنا العظيم، حُكْمَاً أيْ حِكمة ومُلْكَاً وسُلْطاناً وعقلاً راجِحَاً، وعِلْمَاً بحيث يُحْسِن كلٌّ منهما التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع، إضافة لإعطائهما النّبُوَّة وما فيها من تشريعاتِ الإسلام الذي يُناسِب عَصْرهما، وهذا المَدْح لِكِلَيْهِما يَمْنَع ما قد يَخْطر علي فِكْر البعض أنَّ النبي الكريم داود (ص) لم يكن صائِبَاً فى حُكْمه أو أنه أقلّ من ولده سليمان في الحِكْمة والعِلْم!.. ".. وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)" أيْ ومِن أمثلة أفضالنا الزائدة الكثيرة التي نُعطيها للصالحين، تسخير أيْ تذليل وتَسْهيل وتَيْسير وتَطْويع كل ما في الكوْن وتَنَاسُقه وتَجَاوُبه معهم لنفعهم ولسعادتهم، فالجبال علي سبيل المثال لا الحصر تُسَبِّح مع تسبيح داود عليه السلام وتسبيح مَن يسبح أي تُرَدِّدُ وتُرَجِّعُ صَدَيَ صوت مَن يتكلم، وهو دليلٌ منها علي تَجَاوُبها مع مَن يريد الانتفاع بما فيها مِن خيراتٍ كالمعادن النفيسة وخامات الصناعة وغيرها، والطيور كذلك مُسَخَّرَة لكي تُغَرِّد وتُسْعِد وتَنفع مَن أراد الانتفاع بها، وكلها مُطيعٌ لمصالح الإنسان ومنافعه وسعاداته بأمر الله تعالي لها، وهي أيضا تُسَبِّح له سبحانه كالجبال وككلّ المخلوقات بطريقتها الخاصَّة التي خَلَقها خالقها عليها، وهكذا الكوْن كله مُتَجَانِس مُتَوَافِق مُتَنَاغِم مُتَجَاوِب مُيَسَّر مع الإنسان المسلم إذا كان دوْما مع خالقه سبحانه ومع دينه الإسلام فيحيا بذلك في تمام الأمن والسَّلاسَة والخير والسعادة في دنياه قبل أخراه.. إنَّ كلّ مخلوقٍ هو طائعٌ لله تعالي راجعٌ إليه مُرْتَبِطٌ به دائما، ليُفيد ذلك أنّ المُلك كله له فاعبدوه وحده لا غيره إذَن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في الداريْن.. ".. وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)" أيْ هذا تأكيدٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكنّا فاعلين ذلك قادِرين عليه حتماً بقُدْرتنا التي لا يَمنعها شيءٌ فلا تَسْتَبْعِدُوه ولا تَتَعَجَّبُوا منه فنحن قادرون علي كل شيءٍ نقول للشيءِ كُنْ فيكون كما نريد، فَضْلَاً منّا وكَرَمَاً وإحساناً ورحمة وحُبَّاً وإسعاداً لخَلْقِنا
ومعني "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من نِعَم الله تعالي وأفضاله ورحماته التي لا تُحْصَيَ.. أيْ وعَلّمنا داوود أيْ أَلْهَمْناه ويَسَّرْنا له أسباب صِناعة مَلْبُوسٍ لكم لِتَلْبِسُوه، والعرب يُطْلِقون لفظ لَبُوس علي المَلْبُوس أيْ كل مَا يُلْبَس في الحروب خصوصاً كالدروع وغيرها، لتُحْصِنكم من بأسكم أيْ لكي تَحْميكم مِن حَرْبكم أيْ مِن جِراحات قتالكم حينما تُقاتِلون عَدُوّكم الذي اعتدي عليكم بالقتال.. وفي هذا إرشادٌ لكلِّ مسلمٍ أنه لابُدَّ أنْ يكون له عمل وصَنْعَة مَا ينفع بها ذاته وغيره وسيُعاونه ربه إذا اجتهد فيها وأتْقَنها بحُسْن تَعَلّمها والتّطَوُّر فيها، وإرشادٌ كذلك للمسلمين لامتلاك ما يُمكنهم من أسلحةٍ مُتَطوِّرَة من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة ضِدَّ مَن يَعتَدِي.. ".. فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)" أيْ فهل أنتم شاكرون لله تعالي علي نِعَمِه عليكم التي لا تُحْصَيَ؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد هذا التوضيح لهذه النِّعَم هل أنتم شاكرون لها أم لا؟! أيْ اشكروا بالتالي إذَن، فلا يَمْلِك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول أشكرك يا ربّ ويكون شكره تامّاً سريعاً مُسْتَمِرَّاً بلا أيّ تراجُعٍ عنه فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما، والشكر يكون بالعقل باستشعار قيمة النِّعَم وباللسان بحمده تعالي وبالعمل باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسَيَجِدها الشاكر بذلك دائماً باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)
ومعني "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي كما أنْعَمَ بنِعَم كثيرةٍ لا تُحْصَيَ علي داود (ص) فكذلك أنْعَمَ علي ابنه سليمان (ص).. أيْ ولسليمان الريح سَخّرْناها أيْ ذلّلْناها وسَهّلْناها ويَسَّرْناها وطَوَّعْناها لتكون عاصفة أيْ سريعة قوِيَّة لكنْ رغم سرعتها وقوّتها فهي بإذننا وأمْرنا جعلناها تَسِير وتَتَحَرَّك بأمره وإذنه هو إلي الأرض التي بارَكْنا فيها لكلِّ مَن عليها مِن الناس والخَلْق – وهي أرض الشام – أيْ جعلنا فيها كل بَرَكَة أيْ كل زيادة دائمة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ ورزقٍ من كل الأنواع، كل الخيرات والسعادات، وفيها عاشَ كثيرٌ من رسلنا ونَزَلَ عليهم وَحْينا بالإسلام في كُتُبنا ليكون مَنَارَة لتعليم البَشَرِيَّة عبادتنا وحدنا والعمل بأخلاق ديننا الإسلام لإسعادها في دنياها وأخراها.. إنَّ الريح تَتَوَجَّه بأمره حيثما يريد لسَقْي الأراضي من أمطارها ولتحريك السفن وما شابه هذا من خيرات ومنافع وسعادات لعموم الناس.. ".. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)" أيْ وكنّا وما زِلْنا وسَنَظَلّ حتماً عالِمِين بكل شيء، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه حيث لا يَخْفَيَ علينا شيءٌ في كوْننا، عالِمِين بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فنُوَفّقه ونُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فنزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا نزيده، حُكَماء في كل تصرفاتنا نضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث.. إنَّ كلّ أحداث الكَوْن تَتِمّ بعِلْمنا وبإذننا.. إنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه وبالتالي فلْيَتوكّلوا عليه وحده سبحانه ولْيَعبدوه وحده بلا أيِّ شريكٍ ولْيَشكروه ويَتّقوه ويَخافوه ويُراقبوه وحده ويَفعلوا كل خير ويَتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من نِعَم الله تعالي وأفضاله ورحماته التي لا تُحْصَيَ.. أيْ وأيضا سَخَّرْنا لسليمان أيْ ذلّلْنا وسَهّلْنا ويَسَّرْنا وطَوَّعْنا له مِن الشياطين شياطين يَغوصون أيْ يَنْزِلون تحت الماء له أيْ لأَجْلِه أيْ لكي يَسْتَخْرِجوا له الجَوَاهِر النفيسة الكريمة كاللؤلؤ والمرجان ونحو هذا من الخيرات والكنوز المختلفة المُفِيدَة المُسْعِدَة، والمقصود أنَّ الله تعالي قد جَمَعَ لسليمان جنوداً كثيرين مُتَنَوِّعين يَعملون تحت أوامره لا يُخالفونها أبداً بحيث يُحَقّقون مصالح الناس ومنافعهم وسعاداتهم ومنهم جُنْدٌ من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو سبحانه هي عبارة عن مخلوقات جِنِّيَّة ليست أعْيُن البَشَر مُؤَهَّلَة لرؤيتها يُطْلَق عليها شياطين، والجنّ في لغة العرب هي كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين، وعند بعض العلماء المقصود بالشياطين أُناس بَشَر مَرَدَة أيْ مَهَرَة أشِدَّاء اختارهم سليمان بعناية لهذه المهامّ الصعبة، ويُتَعَارَف في بعض البلدان إطلاق اسم شيطان علي مَن يقوم بمثل هذه الأعمال الخارِقة غير المُعْتَادَة مِن بني آدم.. ".. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ.." أيْ وأيضا يعملون له عملاً كثيراً صعباً غير ذلك الغَوْص يطلبه منهم لنَفْع وإسعاد عموم الناس والخَلْق جميعا كبناء المساكن والمَرَافق والمنافع والمصانع والمَخازن والمُدُن والطرُق والحُصُون ونحو هذا من خدمات.. ".. وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)" أيْ وكنا بقُدْرَتنا وعِلْمنا ورحمتنا وفضلنا حامِين حارِسِين لهم من أيِّ سُوءٍ حيث حفظناهم وأيَّدْناهم وأعَنَّاهم بقوّتنا لكي يُحسنوا خدمته، كذلك كنا حافظين لهم بمعني مُرَاقِبين لهم ولأعمالهم بحيث لا يَتَخَلّف منهم أحدٌ أو يُسِيء بل يكون الجميع مُنْظَبِطَاً مُحْسِنَاً تحت قيادته وإدارته وسُلْطانه في مُلْكِه
ومعني "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)"، "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسولنا الكريم أيوب حين نادَيَ ربه أيْ دَعَاه وطَلَبَ منه مُتَوَسِّلَاً قائلاً أنّي مَسَّنِي الضرُّ أيْ أصابني مَا يَضُرُّني ويُسِيء إليَّ وهو المرض، وأنت أرحم الراحمين، يَقْصِد ضِمْنَاً فاكْشِفه عَنّي برحمتك الواسعة، أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة.. إنه مِن تَأَدُّبِه مع الله تعالي لم يَزِدْ علي أنْ عَرَضَ حاله وشَكْوَاه بصورةٍ مُخْتَصَرَةٍ لخالقه العليم به كله وعَرَضَه بأدبٍ وتَلَطّفٍ حيث قال مَسَّنِي والمَسّ يُفيد اللّمْس لا الإصابة الشديدة ولم يَقترح حَلَّاً مُعَيَّنَاً وإنما تَرَكه لأرحم الراحمين القويّ الكريم الرحيم العالِم بكلّ شيءٍ ليَختار له أفضل الحلول وأنسبها وأسعدها وتوقيت حُدُوثها بما يُحَقّق له ما يُسعده في دنياه وأخراه.. إنه (ص) يُضْرَب به المَثَل في الصبر الجميل أيْ الصبر الذي فيه اسْتِسْلام لأمره تعالي وليس فيه أيّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخطٍ داخليّ أو شكويَ لأحدٍ مع كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه وحده ودعائه.. إنَّ علي كل مسلمٍ يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام أن يَقْتَدِيَ به (ص) بحيث إذا أصابه اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا فعليه أن يَصْبِر صَبْرَاً جميلاً حتي يخرج منه مُستفيداً استفاداتٍ كثيرة وأن يستعين بربه ويدعوه ويتوكّل عليه وسيَكْشِف عنه حتماً ما هو فيه بأفضل توقيتٍ وأسلوبٍ يُحَقّق له كلَّ خيرٍ وسعادة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائه وتَوَسّله الصادق أنْ أَجَبْنا له دعاءه برحمتنا وكرمنا وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ كشفنا أيْ أَزَلْنا وأَزَحْنا وأذْهَبْنا ورَفَعْنا مَا به مِن ضَرَرٍ فتَعَافَيَ.. إنه تعالي برحمته وكرمه يستجيب لكل مَن يدعوه بخير، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له ولغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.." أيْ ولم نَكْتَفِ فقط بعلاجه بل أيضا بعد شفائه أعطيناه وأَعَدْنَا له أقاربه ومعهم مِثْلهم كثيرون مِن مُحِبِّين مِن عموم الناس لِيَزُورُوه ولِيَتَوَادُّوا ولِيَتَعَامَلُوا معه مِن جديدٍ بعدما انقطعوا عنه فترة مرضه مِن باب اتِّخاذ أسباب مَنْع العدوي.. ".. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)" أيْ فَعَلْنا ذلك لكي يكون رحمة ونِعْمَة به من فضلنا وكرمنا ونِعَمِنا ورحماتنا، ولكي يكون ذكري للعابدين أيْ مِن أجْلِ أنْ يَتَذَكَّر ويَعْتَبِر بهذا العابدون أيْ المُطيعون لنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ العامِلون بكل أخلاق إسلامهم أنَّه إذا أصابهم اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما فلْيَصبروا عليه حتي يَخرجوا منه مُستفيدين منافع كثيرة ولْيَستعينوا بربهم ولْيَدعوه وسيكشف حتما ما هم فيه بأفضل توقيتٍ وأسلوبٍ يُحَقّق لهم كلّ خيرٍ وسعادة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة)
ومعني "وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)"، "وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسلنا الكرام إسماعيل (برجاء مراجعة الآية (54) من سورة مريم، للشرح والتفصيل عنه)، وإدريس (برجاء مراجعة الآية (56) من سورة مريم، للشرح والتفصيل عنه)، وذا الكفل أيْ صاحب الكَفَالَة، وهو أحد علماء أو أنبياء بني إسرائيل وقد تَكَفّل بإرشادهم لربهم ولدينهم الإسلام أيْ للخير وللسعادة في الدارين، كلُّ واحدٍ منهم من عبادنا الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَفعلون كل خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. فتَشَبَّهوا بهم أيها المسلمون لتنالوا مِثْلَما نالوا خَيْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. "وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)" أيْ وأيضا أنعمنا عليهم بنعمةٍ من أعظم نِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ وهي أنْ جعلناهم في رحمتنا، في أهل رحمتنا، فيمَن نَرَحمهم، برحمتنا الواسعة التي وسعت كل شيء والتي وَعَدْنا بها المؤمنين، في دنياهم أولا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، لأنهم من الصالحين، والصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة، أيْ لأنهم من العابدين لله وحده بلا أيِّ شريكٍ المُتَمَسِّكِين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم الذين يُصلِحون في الأرض ولا يُفسدون ويُسعدونها ومَن عليها بدين الإسلام في دنياهم وأخراهم ويَدْعُون له ويَنْشرونه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ويُدَافعون عنه ضِدَّ كلّ مَن يَعتدي عليه فهُمْ كامِلِي الصلاح والخير في كل نواياهم وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وكانوا رُسُلَاً أيْ مَبْعُوثين هادِين مُرْشِدين مُسْعِدين للناس قد تَمَّت لهم سعادتهم من ربهم لأنهم أصلحوا كل أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة حتماً مع الصالحين في أعلي درجات الجنات بنعيمها الذي لا يُوصَف.. إنَّ هذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون أيضاً قطعاً نصيب كل مسلمٍ يجتهد في أن يَتَشَبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم
ومعني "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسولنا الكريم ذا النون، أيْ صاحِب الحُوت، والنون من أسماء الحوت، أيْ يونس (ص)، وقد سُمِّيَ بذلك لابْتِلاع الحوت له، حين ذهَبَ أي ابْتَعَدَ عن قومه تارِكَاً لهم لدعوة غيرهم لعلهم يَستجيبون، مُغَاضِبَاً أيْ مُتَبَادِلَاً الغَضَب معهم أيْ غاضِبَاً عليهم لأَجْل الله تعالي لأنهم مُصِرُّون علي ألاّ يَستجيبوا له ويُؤمنوا وهم غاضِبُون عليه لأنه يَدْعوهم لربهم ولدينه الإسلام (للتعرف علي قصة يونس (ص) كاملة برجاء مراجعة الآية (98) من سورة يونس، والآيات (139) حتي (148) من سورة الصَّافّات، والآيات (48) حتي (50) من سورة القَلَم).. ".. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.." أيْ وتَوَهَّمَ أنَّنا لن نُضَيِّق عليه في الخروج تاركاً قومه ولا في المُغَاضَبَة لهم أيْ لن نَمْنعه مِن ذلك – إذ التّقْدِير يعني التّضْيِيق مثل مَن قُدِرَ عليه رزقه أيْ ضُيِّقَ كما أنه يعني التقدير بحُكْمٍ وقضاءٍ مَا – حيث الأرض واسعة والبلاد كثيرة والناس كثيرون وما دام قومه مُصِرِّين علي عدم الاستجابة له بالإيمان فعليه بالتالي إذَن أنْ يَخرج ويَتركهم ويَتَوَجَّه لدعوة غيرهم في أرضٍ أخري وسيُوافِقه الله تعالي قطعاً ولن يُضَيِّق عليه الأمر لأنه مَا فَعَلَه إلا غَضَبَاً وإرضاءً له وطَلَبَاً لثوابه.. كذلك من المعاني: وتَوَهَّمَ أننا لن نَقْدِر عليه أيْ لن نُضَيِّق عليه أيْ أنَّ الدعوة لله وللإسلام لا يكون فيها أحيانا اختبارات ببعض التّضْيِيق والمُضايَقَات! فأراد الله تعالي أنْ يُرْشِدَه إلي حَتْمِيَّة وجود مِثَل هذه الاختبارات وأنَّ الداعي إلي الله والإسلام لابُدَّ أنْ يكون عظيم الصبر ولا يَصِل به أبداً الغضب لله ولإسلامه أنْ يَتْرُك مَن يَدْعوهم، وهل يُعْقَل أن يترك الطبيب مريضه حتي يهلك؟! فالمَدْعُو مريض والداعي هو طبيبه والدواء هو الإسلام، ولو تَرَكهم فمِن المَنْطِقِيّ أنْ يزدادوا مَرَضَاً أيْ بُعْدَاً عن ربهم وإسلامهم!!.. إنَّ الله تعالي أرادَ به خيراً في الداريْن، أراد به خِبْرَة وصلابة في الدنيا وأجراً عظيما في الآخرة، أراد أنْ يُعَلّمه أعلي درجات الصبر، فأخذه إلي دَوْرَةٍ تدريبيةٍ لفترة – هي بِضْع ساعات عند بعض العلماء وعند بعضهم أيام أو أسابيع – إلي داخل بَطْنِ حوتٍ في البحر!! إذ حينما تَرَكَ قومه رَكِبَ مَرْكِبَاً مع مجموعةٍ من الناس وكادَت أنْ تَغْرِق وطَلَبُوا أن ينزل أحدهم إلي الماء مَنْعَاً لغَرَقها، وكان ذلك من خلال عمل قرْعَةٍ فوَقَعت عليه فنَزَل الماء فالْتَقَمه الحوت، فسارَعَ بالتالي باللجوء إلي ربه القويّ المَتين الله الواحد الذي ليس معه شريك مُجيب المُضطرين والمُسْتَغِيثين أرحم الراحمين يُناديه أيْ يَدعوه ويَطلب منه ويَتَوَسَّل إليه ويَسْتَغِيث به وهو في ظُلُمات بَطْن الحوت وأعماق البحر وظلمات الشّدَّة والوحدة، وهذا هو معني ".. فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ.." قائلا ".. أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)" أيْ قائلا بأنْ لا إلاهَ إلا أنت أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ أنت وحدك بلا أيّ شريكٍ لك، فأنت الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، سبحانك أيْ أُنَزّهك أيْ أُبْعِدك يا ربَّ عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، فأنت القادر علي كلِّ شيءٍ ولا يُعْجِزك شيء، وأعْتَرِف إني كنت من الظالمين لنفسي بعدم اكتمال صَبْرِي علي دعوتي لقومي وللناس، فاغفر لي وارحمني فأنت الغفور الرحيم أرحم الراحمين
ومعني "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائه وتَوَسّله الصادق أنْ أَجَبْنا له دعاءه برحمتنا وكرمنا وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ نجَّيْناه أيْ أنْقذناه وخَلّصْناه وسَلّمْناه من الغَمِّ أيْ الحزن الشديد والضيق الذي هو فيه، وذلك بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا به ورعايتنا وحُبِّنا له وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا إيَّاه.. إنه تعالي برحمته وكرمه يستجيب لكل مَن يدعوه بخير، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له ولغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهذا هو معني ".. وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)" أيْ وكما نَجَّيْنا يونس حين اسْتَغاثَ بنا ولَجَأ إلينا ودَعانا كذلك نُنْجِي المؤمنين حتماً إذا استغاثوا بنا ولجأوا إلينا ودعونا، وهكذا دائماً، بمِثْل هذا الإنْجاء، نُنْجِي قطعاً المؤمنين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ من كل سوءٍ ونُحْيِيهم في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، تَفَضُّلاً مِنّا وكَرَمَاً وإحساناً ورحمة، نُنْجِي كلَّ مؤمنٍ كان في حالٍ يُشْبِه حالَ يونس (ص) وصَوَّبَ ذاته وصَبَرَ واعْتَصَمَ بربه ودعاه وتَوَسَّل إليه واسْتَغَاثَ به وتَوَكّل عليه بصِدْق.. فلْيَسْتَبْشِر بالتالي إذَن المسلمون ولْيَطْمَئِنّوا بذلك الوَعْد الصادق من ربهم الكريم الرحيم الذي لا يُخْلِف بالقطع وَعْدَه مُطلَقَا
ومعني "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر رسولنا الكريم زكريا حين نادَيَ ربه أيْ دَعَاه وطَلَبَ منه مُتَوَسِّلَاً قائلاً يا ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – لا تُتْرِكني مُنْفَرِدَاً وَحِيدَاً بلا ذُرِّيَّة صالِحَة تَرِثني في النّبُوَّة والعلم والحِكْمَة وحُسْن الخُلُق، أيْ تكون أهْلَاً وكُفْأ ليَنْتَقِل إليها وتَأخُذ وتَحْمِل ميراثي وهو الإسلام فتُحْسِن العمل به ودعوة الآخرين له ليسعدوا جميعا في الداريْن.. وفي هذا تأكيدٌ علي حِرْصِه أن يكون مُجْتَمِعَاً فيه كل صفات الخير يتعلّمها منه ومن أجداده الرسل الكرام.. ".. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)" أيْ هذا تذكيرٌ بأنَّ وِرَاثة الله تعالي هي أعلي درجات الوراثة وأبقاها فهو (ص) لا يجعل قطعاً وراثة الذرِّيَّة الصالحة مُساوِيَة أو أفضل من وراثته سبحانه، كذلك هو تذكيرٌ بأنَّ أمرَ التوريث لذرِّيَّةٍ صالحةٍ وكلّ أمرٍ هو بيده تعالي يَفعل فيه الخير دائماً بحِكْمته وعلمه.. أيْ وأنا أعلم أنك أنت خير الوارثين أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! فأنت خيرُ حَىٍّ باقٍ وخيرُ مَن يَرِثُون غيرهم بعد موتهم وخير مَن يَرِثني ويَخْلُفني بخيرٍ بعد موتي، وبالتالي فحتماً لن تُضَيِّع دينك الإسلام فأنت الوارِث الحافِظ الناشِر له سواء بوجود وريث لي أم لا، وستَختار بحِكْمتك وعِلْمك لنَشْره والدفاع عنه مَن تَراه أهْلَاً لذلك حتي يظلّ باقياً ليوم القيامة يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، فأنت أرحم بهم مِنّي ومِن أيِّ أحدٍ ولكنْ لكي أعيش مُطمَئِنّاً فترة حياتي إلي مَمَاتي ولقائك أنَّ هناك مَن يحمل دينك لهم ويكون عمله في ميزان حسناتي يوم القيامة لأني أنا الذي عَلّمته
ومعني "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لدعائه وتَوَسّله الصادق أنْ أَجَبْنا له دعاءه برحمتنا وكرمنا وكانت نتيجة هذه الإجابة لدعائه أنْ وهبنا له أي أعطينا له ورزقناه ابنه يحي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (2) حتي (15) من سورة مريم، للشرح والتفصيل)، وذلك بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا وعظيم رحمتنا به ورعايتنا وحُبِّنا له وعَوْننا وتوفيقنا وتَقْوِيتنا إيَّاه.. إنه تعالي برحمته وكرمه يستجيب لكل مَن يدعوه بخير، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له ولغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ.." أيْ وكذلك برحمتنا وكرمنا جعلنا زوجته صالحة أيْ وَفّقْناها ويَسَّرْنا لها أن تكون عامِلَة بأخلاق الإسلام وجعلناها صالحة أيضا للإنْجاب بعد أن كانت عاقِرَاً أيْ لا تُنْجِب، ليَسْعَد وتَسْعد بكل ذلك.. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)" أيْ هذا مدحٌ من الله تعالي لجميع رسله الكرام لكي يَتّخِذهم المسلمون قُدْوَة لهم في كل شئون حياتهم ولكي يَعلموا ويتأكّدوا أنه سبحانه حتماً سيُكْرمهم ويَنْصرهم ويُعْلِيهم ويعِزّهم كما فَعَلَ مع رسله، فلْيَصْبِروا إذَن ولْيَتَمَسَّكوا ويَعملوا بكل أخلاق إسلامهم مِثْلهم ولْيَطْمَئِنّوا ولْيَسْتَبْشِروا ولْيَسْعَدوا.. أيْ أكرمنا أنبياءنا السابق ذِكْرهم وغيرهم بنِعَمِنا ورحماتنا التي لا تُحْصَيَ ونالوا خَيْرَيّ الدنيا والآخرة لأنهم كانوا دائماً يُسابِقون في عمل الخَيْرات المُسْعِدَات فيهما للنفس وللغير مِن خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، ويُسارعون حتماً في المقابل بالبُعْد عن أيِّ سَيِّئاتٍ مُتْعِسَاتٍ لهم.. هذا، ولفظ "يُسارعون" يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي المُسَارَعَة لِفِعْل كلِّ خيرٍ حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يَحْرِصُون فيه مُتعاوِنين مُتَحَابِّين علي أن يَسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بعمل الخير لينال الجوائز العظيمة الموعود بها مِن سعادتيّ الداريْن.. وكانوا يَدْعُوننا أيْ يَعبدوننا ويسألوننا دائماً في دعائهم رَغَبَاً أيْ وهُمْ في حالة رَغْبَة أيْ طَمَع وإرادة وحبّ وتَمَنّي أيْ راغِبين مُرِيدِين طامِعين مُحِبِّين مُتَمَنّين ومن أجل الرغبة في رحماتنا وخيراتنا وأفضالنا وإسعاداتنا في دنياهم وأخراهم، في عَفْونا ومغفرتنا ورحماتنا ورضانا وحُبّنا وأمْننا وعوْننا وتوفيقنا وأرزاقنا وإسعاداتنا في الداريْن، ويَدْعُوننا كذلك رَهَبَاً أيْ وهُمْ في ذات الوقت في حالة رَهْبَة أيْ خَوْف أي خائفين ومن أجل الخوف من فقدان كل ذلك ومن العقاب لو فَعَلُوا شَرَّاً مَا ولم يتوبوا منه فيُسارعون بالتوبة أيْ العودة عنه، فهُمْ يعيشون حياتهم علي الدوام مُتَوَازِنين بين الرجاء والخوف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني يَدْعوننا في حالة الرَّغَب أي السَّعَة أي الرخاء وفي حالة الرَّهَب أيْ الخوف مع الاضطراب والانزعاج أي الشّدَّة فهُمْ دائمي التّوَاصُل مع الله تعالي ولا يَدْعونه في حال شِدَّتهم فقط ثم يَنْسون شكره أو حتي يفعلون السوء في حال رخائهم كما يَحْدُث من بعض البَعيدين عن ربهم وإسلامهم بل هم يَدْعونه في الرخاء للشكر وللازدياد منه وفي الشّدَّة للعفو وللنجاة منها.. ".. وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)" أيْ وكذلك كانوا خاشِعين لنا وحدنا لا لغيرنا أيْ خائفين مِنّا مُراقِبين مُحِبِّين لنا مُسْتَشْعِرين عَظَمتنا وهَيْبتنا خاضِعين مُسْتَسْلِمِين لوَصَايانا وإرشاداتنا التي أوْصَيْنا بها في الإسلام وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر التي حَفِظَت فَرْجَها وصَانَتْه عن الزنا بما يدلّ علي كمال عِفّتها وطهارتها وبُعْدها عن كل فاحشة – والمقصود مريم ابنة عمران أم عيسي (ص) – فبقُدْرتنا التي لا يمنعها شيء أدْخَلْنا فيها أيْ في جَوْفِها روحَاً بأمرنا وإذننا والتي لا يعلم سِرَّها إلاّ نحن لجَنِين يَتَخَلَّق في رَحِمها لتُحَرِّكه وتُعطيه الحياة ليكون إنسانا يَتَكَوَّن بصورةٍ خارِقَة للعادة وبغير الأسباب المُعْتَادَة من أبٍ وأمٍ هو عيسي ابن مريم يكون رسولا مِنَّا للناس يهديهم للإسلام ليَسعدوا في الداريْن، وبالتالي جعلناها وابنها – والذي كان هو الآخر (ص) له مُعْجِزاته بإذن الله والتي منها أنه كَلّم الناس في المَهْد وأشْفَيَ المَرْضَيَ وأحيا المَوْتَيَ – آية أيْ مُعجزة للعالمين أيْ لكل الناس جميعا دالّة علي تمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا ووجوب عبادتنا والتوكّل علينا وحدنا لتَتَحَقّق لهم السعادة في دنياهم وأخراهم
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)"، "وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)" أيْ هذا بيانٌ للهدف الأصلِيّ مِن ذِكْر قصص الأنبياء وهو التذكير باجتماع جميع الخَلْق علي عبادة الله تعالي وحده.. أيْ أيها الناس إنَّ هذه جماعتكم جماعة واحدة مُجْتَمِعَة علي الإسلام وأنا ربكم أيْ خالِقكم ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دين الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وبالتالي فاعبدون أيْ فأطيعوني، والمقصود تَذْكِرتهم جميعاً باتّحادهم علي عبادته سبحانه وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع دينه الإسلام وحده بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ يُخالِفه وعدم تَفَرّقهم بعبادة غيره واتّباع غير أخلاق إسلامهم وذلك ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (213) من سورة البقرة "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.."، ثم الآية (19) من سورة آل عمران "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني إنَّ هذه شريعتكم الإسلامية شريعة واحدة غير مختلفة عند الأنبياء وغير مختلفة في أخلاقها وأحكامها بل هي وحدة مُتَكَامِلَة مُتَجَانِسَة وهي التي عليكم اتّباعها فاتّبعوها وأنا ربكم فاعبدون، وذلك علي اعتبار أنَّ معني أمّة هو شريعة كما في قوله تعالي في الآية (23) من سورة الزخرف ".. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ.." أي علي شريعةٍ تُؤّمّ وتُقْصَد.. والمَعْنَيان مُتَقَارِبان ويُؤَدِّيان لذات النتيجة وهي عبادة الله وحده حيث أنتم أيها الناس خَلْقٌ واحدٌ فلا تكونوا إلا على دينٍ واحدٍ وهو الإسلام.. "وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)" أيْ ورغم هذا الإرشاد الواضِح المُسْعِد، وبَدَلَاً أنْ يحرص الناس تمام الحِرْص علي هذا الأصل الذي ذُكِرَ في الآية السابقة ليسعدوا في الداريْن، تَقَطّعوا أيْ تَفَرَّقوا في أمرِ وشأنِ دينهم فيما بينهم، والمقصود جعلوا أنفسهم قِطَعَاً أيْ فِرَقَاً فمنهم مَن التزم به تماماً فآمَن بربه وعمل بكل أخلاق إسلامه ومنهم من كفرَ فكَذّب بوجوده وفَعَلَ الشرور ومنهم مَن أشركَ فعَبَدَ معه غيره ومنهم مَن نافَقَ فأظْهَرَ خيراً وأخْفَيَ شَرَّاً ومنهم مَن أسْلَمَ لكنه تَرَكَ بعض أو حتي كلَّ العمل بأخلاق الإسلام ومنهم مَن فَسَدَ في ذاته أو أفْسَدَ كذلك غيره بنَشْر الشَّرِّ وهكذا، وما كل ذلك إلا لأنَّ أمثال هؤلاء قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)" أي كلُّ فريقٍ منهم عائدون إلينا وحدنا لا إلي غيرنا في الآخرة يوم القيامة يوم الحساب لينالوا ما يَستحِقّونه من جزاءٍ على حسب أعمالهم، فمَن عمل منهم خيراً فسيكون له في نَعِيم جناتٍ لا يُوصَف كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ومَن عمل منهم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره في نار جهنم وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كان فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائنا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)" أيْ وإذا كانوا كلهم إلينا راجعون فإنّا نُجازِي المُحْسِن علي حَسَناته والمُسِيء علي سَيِّئاته، فمَن يعمل من الأعمال الصالحات، بأيّ نوع من أنواع الخير، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهذا لا كُفْران لِسَعْيه حتماً أيْ لا نُكْرَان لعمله مُطْلَقَاً أيْ لا تَضْييع أو نَفْي له وعدم اعترافٍ به وشُكْرٍ لِفِعْله، والمقصود أنه بالقطع يُجْزَىَ به أحسن الجزاء وافِيَاً بلا أيّ نُقصان، أيْ يُعْطَيَ أجره كامِلَاً علي قَدْر إحسانه لأعماله بل ويُنَمِّيه الله تعالي ويزيده أضعافاً مُضَاعَفَة بلا حسابٍ من فضله وكرمه ورحمته وحُبِّه وشُكْره له، ولفظ "سَعْيه" يُفيد أنه يتحرّك دَوْمَاً بلا تَوَقّفٍ تَحَرُّكَاً مُسْرِعَاً لكل الصالحات بكل هِمَّةٍ وقوّةٍ وعَزْمٍ ونشاط.. ".. وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)" أيْ ونحن مُسَجِّلُون مُوَثّقُون حافِظون بالتأكيد له أيْ لسَعْيه في صحيفة عمله بكلّ تفاصيله بتمام الدِّقّة والعدل بواسطة الملائكة المُوَكّلَة بذلك، بما يُفيد مَزيدَاً من التأكيد علي عدم ضياع أيِّ شيءٍ منه، ويكفي تأكيداً وطمأنة واستبشاراً أنه سبحانه هو الكاتِب وهو مَنْ يَعِد ووَعْده لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف أبداً.. إنَّ أمثال هؤلاء تُضَاعَف لهم أجورهم أضعافاً كثيرة علي قدْر تأثير أعمالهم وأقوالهم وإتقانها ونَفْعها وحُسْن النوايا بالعقل أثناء فِعْلها ونحو ذلك، وهم يدخلون الجنة في الآخرة حيث جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، ومَن يعمل خيراً مَا وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلْك كله!
ومعني "وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية قبل السابقة أنَّ كلّ الناس مُحْسِنهم ومُسِيئهم إلينا راجِعون.. أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَمْنُوعٌ على أهل أيِّ قريةٍ أهلكناهم بسبب إصرارهم علي تَكْذيبهم وعِصْيانهم أنهم لا يرجعون إلينا يوم القيامة للحساب، والمقصود أنه لابُدّ مِن رُجوعهم وحِسابهم على سُوء أعمالهم في دنياهم، فلا يُكْتَفَيَ بعذاب إهلاكهم في الدنيا فهُمْ يَسْتَحِقّون عذابها قبل عذاب الآخرة الذي لا يُوصَف لكي يُناسِب ويُقابِل كل مَا فَعَلُوه مِن شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات أتْعَسَت أنفسهم والناس والمَخْلوقات حولهم
ومعني "حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)" أيْ ويَسْتَمِرُّون أمثال هؤلاء المُسِيئين السابق ذِكْرهم والمُتَشَبِّهين بهم في كل زمانٍ ومكانٍ يَستمرّون مُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ عن ذلك حتي إذا فَتَحَ الله يأجوج ومأجوج أيْ أَذِنَ لهم بالتَّحَرُّك لإهلاك أمثالهم المُصِرِّين علي سُوئهم – ويأجوج ومأجوج من العلامات الكبري لقيام يوم القيامة وهما أمَّتان كبيرتان كانتا في التاريخ مُشْتَهِرَتان بالفساد في الأرض فصَارَتَا رَمْزَاً لكلّ مَن يَنْشُر في أيِّ عصرٍ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصُوَرها ودرجاتها ورمزاً للاعتداء وللإهلاك وللتدمير للحَرْث والنَّسْل والبناء وللقتل ولنَهْب الثروات – وهم في آخر الزمان ونهاية الحياة الدنيا حالهم يكونون مِن كلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون أيْ من كل مكانٍ مُرْتَفِعٍ يَأْتُون مُسْرِعِين بمَا يُفيد أنهم مُخِيفُون أشِدَّاء يَسْحَقُون كل مَن يُحاوِل التّصَدِّي لهم، حينها فقط حينما تُفْتَح يأجوج ومأجوج بإذنٍ مِن الله تعالي وقتها يَتَأكّد المُصِرُّون علي سُوئهم مِن صِدْق وَعْد الله تعالي ورسله وكتبه والمسلمين وحينها فقط يَنْدَمُون ويَتُوبون في وقتٍ لن يَنْفَع فيه الندَم ولا التوبة حيث قد بَدَأت القيامة وبدأ الحساب والعذاب.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يَسْتَفِيقون ولا يُصِرّون علي مَا هم فيه مِن سُوءٍ ويَعودون لربهم ولإسلامهم قبل فَوَات الأوَان، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ إذَن حتي لا يكون مَصِيره مِثْلهم.. هذا، وقد يعني فَتْح يأجوج ومأجوج إذْن الله تعالي وتَسْليطه لظالمين أمثالهم علي أمثال هؤلاء المُصِرِّين في أيِّ زمانٍ ومكانٍ ليُعَذّبوهم وليهلكوهم في الدنيا قبل عذابهم الذي لا يُوصَف في الآخرة دون أن يكون ذلك من علامات قيام الساعة بل كلّ حينٍ وحينٍ يُسَلّط سبحانه علي الظالمين ظالمين آخرين مِثْل يأجوج ومأجوج لكي يُعَذّبوهم ويهلكوهم
ومعني "وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)" أيْ هذا تَنْبِيهٌ وتَذْكِيرٌ للناس أنْ يُحْسِنوا الاستعداد لحسابهم يوم القيامة، بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبحُسْن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. أيْ وقَرُبَ جداً الوَعْد الصدْق الذي لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف مُطْلَقَاً لأنه من الله تعالي الخالِق القادِر علي كلِّ شيءٍ الذي لا يُخْلِف وَعْده أبداً وهو يوم البعث والقيامة والحساب.. إنه وقت حساب الناس جميعا علي كل أقوالهم وأعمالهم، خَيْرها وشَرّها، لقد اقتربَ منهم وسيأتيهم بلا أيِّ شكّ فعليهم بالتالي إذَن أنْ يُحْسِنوا الاستعداد له بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، إمَّا بالموت الذي يُنْهِي آجالهم في حياتهم الدنيا والذي يأتي فجأة، وهو قريبٌ جداً إذ قد يَحْدُث بعد لحظةٍ كما يُثْبِت الواقع ذلك ولا يمكن لأحدٍ أن يُكَذّب هذا، ثم يبدأ حسابهم المَبْدَئِيّ عند دخولهم قبورهم إلي أن يأتي الحساب الختاميّ الأخرويّ، وإمَّا باقتراب يوم القيامة.. هذا، ولفظ "اقتربَ" يُفيد قُرْب المَجِيء وصِدْقه وتأكيده وهو فِعْلٌ ماضٍ يعني المستقبل المُحَقّق الوقوع أيْ سيأتي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، وهو للإشعار بتَحَقّق هذا الإتْيان حتى لكأنَّ ما سيَقع في المستقبل قريبا قد صار فى حُكْم الواقع فعلاً، وذلك لأنَّ الله تعالي هو الذي يقوله ويَعِدُ به وهو القادر علي كل شيءٍ وهو الذي قد أتَيَ فِعْلَاً في عِلْمه المستقبليّ ما سيَحدث مِمَّا لا يعلمه أحدٌ غيره ولا يعلمه خَلْقه حيث لا أحد يعلم المستقبل إلا هو سبحانه.. ".. فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)" أيْ فيُفَاجَأ الذين كفروا بأبصارهم شاخِصَة أيْ ثابِتَة أيْ تَظَلّ أعينهم مفتوحة دون أن تُغْمِض جفونهم، بما يدلّ علي شدّة الرُّعْب وانتظار كل شرٍّ من فظاعَة العذاب الذي تَراه يومها، ويقولون حينها بما يدلّ علي شِدَّة خوفهم واضطرابهم وحَسْرَتهم ونَدَمهم وألمهم وتعاستهم يا وَيْلَنا أيْ يا هَلاَكنا نحن هَالِكون حقّاً بكل تأكيد، فإننا في دنيانا قد كنّا في غَفْلَةٍ تامَّةٍ مِن هذا اليوم العظيم الأهوال الذى أُحْضِرْنا فيه للحساب وعن الإعداد له ولم نُصَدِّق بحُدُوثه وأنه صِدْق أيْ كنّا في نسيانٍ وإهمالٍ وانشغالٍ وعدم انتباهٍ وإدْراكٍ وتَعَقّلٍ لهذا الحساب الشديد فقد كنّا غافِلِين عن هَوْله أيْ تائِهين ناسِين ضائعين لاهِين مُنْشَغِلِين غير مُنْتَبِهِين لا نَدْرِي مَا يُصْلِحنا ويُسعدنا تعِيسين في دنيانا بسبب بُعْدِنا عن ربنا وإسلامنا وعدم حُسْن استعدادنا لحسابنا وسَنَتْعَس أكثر وأشدّ في أخرانا لأننا لم نَسْتَفِق ولم نَعُدْ لهما، لقد كنّا مُعْرِضِين عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وعمَّا يُذَكّرنا بذلك ويَدْعُونا إليه أيْ أعْطيناه ظَهْرَنا والْتَفَتْنَا وانْصَرَفنا وابْتَعدنا عنه وتَرَكناه وأهْمَلْناه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلنا لعقولنا بسبب الأغشية التي وضعناها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)" أيْ لم نَكُنْ فى الحقيقة فى غفلةٍ من هذا اليوم وأهواله لأنَّ رسلنا والمسلمين قد أخْبَرونا به وحَذّرونا منه لكنْ كنّا ظالمين أيْ ظلمنا أنفسنا ومَن حولنا بسبب أننا أتْعَسْناها وأتْعَسْناهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. لقد اعترفوا بظُلْمِهم وبأنهم مُسْتَحِقّون للعذاب ونَدِمُوا لكنْ في وقتٍ لن ينفع فيه الندم لأنَّ الوقت وقت الحساب وقد فات الأوَان للتصويب ونَزَلَ العذاب بالفِعْل بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)" أيْ هذا ذَمٌّ وتَيْئِيسٌ من أيِّ نجاةٍ من عذاب جهنم لمَن يَعْبُد غير الله تعالي لأنهم قد يَتَوَهَّمُون أنَّ آلهتهم التي كانوا يعبدونها في دنياهم قد تنفعهم إذا رأوها ولجأوا إليها ولكنهم يُصْدَمُون بأنها معهم في عذابهم فلم تستطع إنقاذ ذاتها فكيف بهم؟!!.. أي يُقال يوم القيامة لمَن يَعْبُد غيره سبحانه لمزيدٍ من إشعاره بالألم والحَسْرَة والندَم والتخويف والعذاب النفسيّ مع العذاب الجسديّ وانقطاع الأمل في النجاة: إنكم وما كنتم في دنياكم تَعبدون غير الله من آلهةٍ كأصنامٍ ونحوها حَصَبُ جهنم أيْ وقودها، والحَصَب هو كل ما تُحْصَب به النار أىْ يُرْمَيَ ويُلْقَىَ فيها من وقودٍ لتزداد به اشتعالاً كالحَطَب والخَشَب والحَصَيَ وغيره، وجهنّم اسمٌ من أسماء النار وهي دار العذاب الذي لا يُوصَف في الآخرة.. ".. أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)" أيْ هذا تأكيدٌ لدخولهم جهنم.. أيْ أنتم داخلون فيها حتماً للعذاب بعذابها بلا أيِّ مَفَرٍّ لكم منها
ومعني "لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من إشعارهم بالألم والحَسْرَة والندَم والتخويف والعذاب النفسيّ مع العذاب الجسديّ وانقطاع الأمل في النجاة.. أيْ لو كان هؤلاء الذين عَبَدْتموهم غير الله تعالي في دنياكم آلهة بحقّ تَسْتَحِقّ أنْ تُعْبَد كما كنتم تَدَّعُون كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً مَا كانوا وَرَدُوها أيْ دَخَلوها معكم لكنْ كانوا دَافَعُوا عن أنفسهم وعنكم بل كان لا يستطيع أيّ أحدٍ تعذيبهم مِن الأَصْل بل كانوا هم أصْلَاً الذي يُعَذّبون ويُثِيبون ويَرْزُقون لو كان لهم صفات الألوهِيَّة ككَمَال القُدْرَة والعلم وغير ذلك!! وإذا كانت هي لم تستطع إنقاذ ذاتها فكيف تنقذكم وكيف تكون آلهة؟!! فالإله هو الذي يَقْدِر علي كلِّ شيءٍ ولا يُقدَر عليه بأيِّ شيءٍ لكنْ مَن كان مَقْدُورَاً عليه فلا يمكن بالتالي إذَن بأيِّ حالٍ أن يكون إلاهاً!!.. ".. وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)" أيْ وهذا مزيدٌ مِن التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكلُّ واحدٍ مِن الآلهة ومِن العابدين لها أيْ وكلّكم خالدون فيها أيْ ماكِثون مُستمرّون في عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم
ومعني "لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)" أيْ لهؤلاء المُعَذّبين، في النار، تَنَفُّسٌ من لهيبها وهوائها الحارّ كصورةٍ من صور شِدَّة عذابهم وضيقهم حيث يكون لهم زفيرٌ أيْ إخراجٌ لأنفاسهم ساخِنَة حارِقَة من صدورهم بصعوبةٍ وضيقٍ بعد شهيقٍ أيْ استنشاقٍ لها أيْ إدخالها داخل الصدور، والمقصود بيان عظيم شقاواتهم وعذاباتهم وتعاساتهم حيث النار تَكْوِي جلودهم وتدخل إلى صدورهم وأحشائهم يُعَذّبون بها خارجيا وداخليا.. ".. وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)" أيْ وهذا مزيدٌ مِن البَيَان لشِدَّة عذابهم.. أيْ وهم فيها لا يسمعون أيَّ شيءٍ يَسُرّهم ولكنْ كلَّ شيءٍ يَسُوؤهم بما يُفيد العذاب الشديد الذي هم فيه حيث لا يَستمعون إلا فقط لأصوات النيران وغَلَيَانها وصَرَخات وآهَات التعذيب والألم والكآبة والتعاسة واليأس للمُعَذَّبِين وأصوات لَعْنهم وذَمّهم مِن بعضهم لبعضٍ ومِن ملائكة العذاب
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)"، "لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)"، "لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين سَبَقَتْ لهم مِنّا أيْ مِن تَوْفيقنا وتَيْسيرنا وعَوْننا وفضلنا وكَرَمنا ورحمتنا، الحُسْنَيَ أيْ السعادة والجنة، أيْ إنَّ الذين جاء في عِلْمنا سابقاً قبل خَلْق الخَلْق وسَجَّلْناه مَكْتُوبَاً في اللوح المحفوظ وتَحَتّمَ حُدُوثه أنَّ السعادة والجنة لهم بناءً علي وبسبب أنهم أثناء دنياهم اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الإيمان بربهم والعمل بأخلاق إسلامهم فوَفّقْناهم وعاوَنّاهم بعدما اختاروا ذلك هم أوَّلَاً وكَتَبْنَا وسَجَّلنا مَا اختاروه وفعلوه هم في حياتهم الدنيا فسعدوا فيها ثم في آخرتهم، أولئك عن جهنم بعذابها مُبْعَدُون تمام الإبْعاد حتماً لأنهم سيكونون بالقطع في نعيم جناتٍ لا تُوصَف برحمتنا وكرمنا وفضلنا وعَدْلنا.. "لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)" أيْ هذا تأكيدٌ لبُعْدِهم التامّ عن جهنّم وعذابها.. أيْ هم عنها مُبْعَدُون بحيث لا يسمعون حسيسها، والحَسِيس هو الصوت المُنْخَفِض الخَفِيّ الذي يَصِل للحِسّ أي الذي يُسْمَع نتيجة لحركةٍ مَحْسُوسَةٍ لشيءٍ قريبٍ لا يُرَيَ، والمقصود أنهم لا يسمعون أيَّ صوتٍ ولو خفيف لحركةِ وغَلَيَانِ وزفيرِ النار لأنهم قطعا في مكانٍ آخر بعيدٍ تماماً عنها، وهو الجنة.. ".. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)" أيْ وهم حالهم أنهم في ما رَغبت أنفسهم فيه من كل أنواع النعيم والمَلاذّ والمُشْتَهَيَات وكلّ ما يَطلبون مِن مَطَالِب وما يَتَمَنّون من أُمْنِيَّاتٍ حتي قبل أنْ يَطلبوها، من تمام أفضال الله عليهم ورحماته ونِعَمه، خالدون أيْ مُقِيمون ماكِثون مُسْتَمِرُّون دائمون بلا زَوَالٍ ولا انقطاعٍ ولا أيِّ نهايةٍ ولا أيِّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ أو تَرْكٍ في نَعِيم الجنة الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر لا يَطلبون ولا يُريدون حِوَلَاً أيْ تَحَوُّلَاً عنها وانتقالاً منها، مِن عِظَمِ وتمام نِعَمها وسعاداتها حيث لا يجدون حتماً أطيب منها مُطْلَقَاً حتى تَشتاق أنفسهم له، بما يُفيد ويُؤَكّد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره أو تَرْكه فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. "لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)" أيْ هذا بيانٌ لطَمَأْنِينَتِهم وسعادتهم التامَّة يوم القيامة والذي يَمُرّ سريعاً سعيداً عليهم لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد، بينما يَمرّ طويلاً تَعِيسَاً بسبب أهواله التي لا تُوصَف علي المُسِيئين حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم.. أيْ وهم أيضاً حتماً لا يَجْعلهم الفزع الأكبر أيْ الخوف الأعظم يَحْزَنُون – والمقصود أهوال يوم القيامة الشديدة التي تُخِيف المُسِيئين خوفاً كبيراً – أيْ يَشْعُرون بأيِّ نوعٍ من أنواع الحُزْن أي الغَمّ والهَمّ والألم والنَّكَد وكلّ ما هو عكس السرور، وذلك بسبب إيمانهم أيْ تصديقهم بوجود ربهم وبما أخْبَرَهم ووَعَدَهم به في كتبه من خلال رُسُله عن حَتْمِيَّة حُدُوث هذا اليوم والأمْن لِمَن أحْسَنَ الاستعداد له فأحْسَنُوا بالتالي استعدادهم التامّ له ليَأمنوا أهواله ويَسعدوا بمَجيئه لينالوا أجورهم بأنْ عملوا بما أرْشَدهم إليه سبحانه وهو أخلاق الإسلام فسَعِدوا في الداريْن ولم يَحْزَنوا ويَتْعَسوا فيهما كالذين تَرَكوها ولم يعملوا بها.. ".. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)" أيْ وأيضا، ومن أسباب عدم حُزْنهم بالفزع الأكبر، وكمزيدٍ من تأكيدِ الأمْنِ لهم، أنه تَسْتَقبلهم الملائكة عند خروجهم من قبورهم وعلي أبواب الجنة بكل طَمْأَنةٍ وتَهْنِئةٍ وتَكْريمٍ وتَشْريفٍ وإسْعادٍ وتَحِيَّاتِ سلامٍ قائلة مُهَنّئة مُفْرِحَة مُبَشّرَة لهم هذا يومكم الذي كنتم تُوعَدُون به في دنياكم من ربكم خالقكم الكريم الرحيم الودود الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَاً في كُتُبِكم من خلال رُسُلِكم وتُبَشّرُون بأنْ يكون لكم فيه النعيم التامّ الخالد المُسْعِد الذي لا يُوصَف في مُقابِل إيمانكم وحُسْن عملكم، فهَنِيئاً لكم كل هذه السعادات التّامَّات
ومعني "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم نطوي أيْ نَلِفّ السماء لَفّاً كَلَفِّ السِّجِلِّ أيْ الوَرَق الذي يُسَجَّل فيه أيْ يُكْتَب فيه ".. لِلْكُتُبِ.." أيْ لِمَا كُتِبَ فيه أيْ للكِتابات التي فيه أيْ علي مَا هو مَكْتُوبٌ فيه، بما يَدلّ علي كمال قُدْرَة الله تعالي علي كل شيءٍ بكل سهولة وعلي أهْوال وأوْصَاف يوم القيامة، فأَحْسِنوا أيها الناس الاستعداد له بالعمل بأخلاق إسلامكم لتسعدوا في الداريْن.. ".. كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من التذكير للناس بيوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح لهم من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة بسعاداتها الخالدة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار بعذاباتها التي لا تُوصَف لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ كما أننا نحن وحدنا لا غيرنا الذين بَدَأنا أوّلَ خَلْقٍ خَلَقْناه كبَشَرٍ – ومخلوقات غيرهم – مِن عَدَمٍ أولا في الدنيا نعيده إلينا بإعادة خَلْقه بجسده وروحه مرّة ثانية في الآخرة لحسابه، بلا أيِّ جهْدٍ مِنّا فنحن قادرون علي كل شيءٍ فبمُجَرَّد أن نقول له كن فيكون كما نريد لا يُعْجِزنا شيء.. فاعبدوني وحدي بالتالي إذَن بلا أيِّ شرك.. إنَّ مِمَّا يَسْتَغْرِبه ويَتَعَجَّب منه أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه كيف يُكَذّب مَن يُكَذّب بوجود الله تعالي، وبصلاحية شرعه الذي أرسله للبَشَر وهو الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم، وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة؟! ألم ينظر هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يبدأ خَلْقا ما في كل لحظة سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده الخالق!! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. ".. وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)" أيْ هذا تأكيدٌ لإعادة الخَلْق يوم القيامة لحسابهم.. أيْ وَعَدْنا بالإعادة وَعْدَاً صِدْقَاً علينا الوفاء به بتنفيذه فلا بُدَّ أنْ يَتَحَقّق يوماً مَا، إنّا كنّا فاعِلين ذلك بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي حَتْمِيَّة فِعْل وَعْد الإعادة، أيْ مُحَقّقِين مُنَفّذِين دائماً لِمَا نَعِدُ به لا يُمْكِن لنا أنْ نُخْلِفه أبداً ولماذا نُخْلِفه ولا نُنَفّذه ونحن القادرون علي كل شيءٍ بتمام القُدْرَة وكمال العلم؟! فنحن الخالِق لسنا كمَخْلُوقينا من البَشَر مِن المُمْكِن أنْ يُخْلِفوا وعودهم لعدم استطاعتهم أو لمُرَاوَغَتهم أو لِمَا شابه هذا من أسباب! وبما أنه وَعْدٌ أكيدٌ فاسْتَعِدّوا له جيداً أيها الناس بأنْ تُحْسِنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتماً سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين الصالحين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ووَعْدٌ منه سبحانه لا يُمْكِن أنْ يُخْلَفَ أبداً قطعاً أنْ يُمَكّن لهم في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ولقد سَجَّلْنا في الكتاب، والزبُور في اللغة يعني المَزْبُور أيْ المَكْتُوب أيْ الكتاب المَكْتُوب الذي قد زُبِرَ أيْ كُتِبَ فيه نصائحنا ووصايانا أيْ الإسلام الذي يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، والمقصود بالزبُور كلّ كتابٍ أَوْحَاه الله تعالي لرسله ليُبَلّغوه للبَشَر منذ آدم وآخِرهم الرسول الكريم محمد (ص) وآخِر هذه الكتب هو القرآن العظيم.. ".. مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ.." أيْ مِن بعد أنْ كَتَبْنَا ذلك في الذكْر أيْ في اللوح المحفوظ، وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ عِلْم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الوَعْد الذي سيَأتي ذِكْره.. هذا، وعند بعض العلماء الزبُور هو الكتاب الذي أُوحِيَ لرسوله داوود (ص) وفيه الإسلام الذي يُناسِب عَصْره، والذكْر هو كتاب التوراة الذي أُوحِيَ لموسي (ص) قَبْله.. ".. أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)" أيْ كَتَبْنَا أنَّ الأرض في الحياة الدنيا، وكذلك الأرض في الحياة الآخرة يوم القيامة حيث نعيم جناتٍ فيها ما لا عينٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، يَأخذها ويَمْتلكها كما يَمْتَلِك الوارِث مِيراثه ويكون حقّه كاملا، عبادي الصالحون أيْ العابدون لي وحدي بلا أيِّ شريكٍ المُتَمَسِّكِون العامِلون بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم الذين يُصلِحون في الأرض ولا يُفْسِدون ويُسْعِدونها ومَن عليها بدين الإسلام في دنياهم وأخراهم ويَدْعُون له ويَنْشرونه بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ويُدَافعون عنه ضِدَّ كلّ مَن يَعتدي عليه فهُم كامِلي الصلاح والخير في كل نواياهم وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم هادِيِن مُرْشِدِين مُسْعِدِين للناس قد تَمَّت لهم سعادتهم من ربهم لأنهم أصلحوا كل أحوالهم فسعدوا في الدنيا ثم الآخرة بسبب ذلك، وهذا التوريث لأرض الدنيا من الله تعالي لعباده الصالحين يكون في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسباً مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم، وبالتالي وبكل تأكيد فإنَّ العاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً لهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (51) من سورة غافر "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، ثم الآية (128) من سورة الأعراف ".. اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"، ثم الآية (74) من سورة الزمر "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)" أيْ إنَّ في هذا القرآن العظيم بكلِّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – بلاغاً أيْ تَبْلِيغَاً وإعلاماً وبَيَانَاً وإخباراً كافياً وتوضيحاً للناس كامِلاً شامِلاً ووُصُوُلَاً مُكْتَمِلَاً بهم لكل أصول وقواعد تنظيم الحياة وإسعادها تمام السعادة، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة – وذلك لو تَدَبَّرُوا فيه وعملوا بكل أخلاقه – وبما فيه من نصائح وتحذيراتٍ بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض أخلاقه أو كلها أو يُكذّب به أو يُعانِده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور حيث ستكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره وبما يُناسبها بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم.. إنَّ هذا القرآن العظيم فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة فيه السعادة كلها في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. ".. لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)" أيْ لكنَّ الانتفاع والإسعاد به هو فقط لأُنَاسٍ عابدين أيْ مُطِيعين لله تعالي وحده لا لغيره من خلال اتّباع كل أخلاق الإسلام ولا يُشركون معه شيئاً آخر في العبادة فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. إنهم يَنتفعون ويَسعدون به لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتماً به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)" أيْ هذا تذكيرٌ للمؤمنين بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة القرآن والإسلام الذي أرسله إليهم بوحيه لرسوله الكريم محمد (ص) ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. أمَّا غير المؤمنين فلا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وما بَعَثْناك يا رسولنا الكريم محمد بالإسلام الذي يُصْلِح كلّ مَن يَعمل بكلّ أخلاقه ويُكْمِله ويُسْعِده تمام السعادة في دنياه وأخراه إلا لتكون رحمة للعالَمِين أيْ للناس جميعا – ولكلّ الخَلْق – أيْ سعادة تامَّة لهم في الدنيا والآخرة تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ بك وبالقرآن الذي أوحِيَ إليك وبه الإسلام وبَلّغْته لهم وعمل بكل أخلاقه لأنهم بذلك حتماً سيعيشون دائماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. أمّا مَن لم يُؤمِن به ولم يَعمل بأخلاقه فهو قطعاً في كلّ شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعْده عنه.. هذا، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا، ولذا فهو رحمة حتي بكلّ المَخْلوقات غير الإنسان لأنه بالإسلام يُحْسِن الناس التّعامُل معها ونَفْعها وإسعادها والانتفاع والسعادة بمنافعها وبأجر ذلك في الداريْن وبالإساءة إليها لا ينتفعون بها بل ويأثمون ويتعسون فيهما بإساءتهم لها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (156) من سورة الأعراف ".. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ"، ثم الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، ثم الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، ثم الآية (44) من سورة فُصِّلَت ".. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)" أيْ قل يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده يَتّبِعه فيما أُوحِيَ إليه – لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما يُوحَيَ إليَّ من الله تعالي لكي أُبَلّغكم إيَّاه إلا أنّما أيْ إلا أنه مَا إلاهكم أيْ مَعْبُودكم أيها الناس إلا إلاهٌ واحدٌ أيْ مَعْبُودٌ واحدٌ، لا مَعْبُود أيْ مُطَاع إلا هو، أيْ هو الله وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. والخُلاصَة قل إنَّ الذي يُوحَىَ إلىَّ هو أنه لا إله لكم إلا إله واحد وهو الله تعالى لا غيره.. ".. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)" أيْ وبناءً علي ذلك، وما دام الأمر كما ذُكِرَ لكم، فهل أنتم أيها الناس غير المسلمين أو المسلمون لكنْ بعيدين عن إسلامهم بدرجةٍ من الدرجات مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ مُتمسّكون عامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم ثابتون دائما عليها مُخْلِصون مُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتكم حتي وفاتكم وأنتم علي هذا فتكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فتسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام، وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد كلّ هذا التوضيح لكلّ هذه الدلالات القاطعات علي صِدْق القرآن العظيم وما فيه من إسلامٍ يُسْعِد مَن يعمل به كله في الدنيا والآخرة هل أنتم مسلمون أم لا؟! أسْلِمُوا، فلا يملك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول أسلمت يا رب ويكون إسلامه تامّاً سريعاً وعن تمام اقتناعٍ فيَحْدُث التمسّك والعمل بأخلاقه كلها والحرص عليها والاستمرار فيها بلا أيّ تراجُعٍ عنها فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)" أيْ فإن استجاب الناس بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فاستمرّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك ودعوتك له ودفاعك عنه ولا تَتَأَثّر بهم ولا تَيْأَس منهم بل قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم آذَنْتُكم علي سواءٍ أيْ أعْلَمْتُكم جميعاً بمَا أوْحاه الله تعالي إليَّ وبما أمَرَنِى به أنْ أُبَلّغُكم إيّاه وبذلك أصبحنا علي سواءٍ أيْ علي اسْتِواءٍ في العلم به أيْ مُسْتَوِين في العلم به أيْ جميعنا أنا وأنتم والجميع قد عَلِمَ به وليس عندي عِلْم لم أُبَلّغكم به وكَتَمْته عنكم أو أبْلَغته لأحدٍ دون أحدٍ بل الجميع قد عَلِمَ بمَا أُبَشّركم وأنْذِركم به فلا يَدَّعِي أحدٌ أنه لم يُبَلّغ.. ".. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)" أيْ ولا أعلم بعد أنْ آذَنْتُكم علي سواءٍ هل قريب أم بعيد ما تُوعَدُون به من عذابٍ دنيويّ ثم أخرويّ عند قيام يوم القيامة والبَعْث والحساب، بسبب تَوَلّيكم، فالعلم عند الله تعالي وحده وما أنا إلا مُبَلّغ عنه فقط، فاستفيقوا وتُوبُوا أيْ عُودوا إليه لتَسعدوا في الداريْن قبل فَوَات الأوان ونزول العذاب فتتسعوا فيهما
ومعني "إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)" أيْ إنَّ الله تعالي يَعْلم بتمام العِلْم الذي ليس بعده أيّ عِلْمٍ أكثر منه العَلَنَيّ الظاهِر من القول الذي تقولونه أيها الناس ويعلم ما تُخْفُونه بدَوَاخِلكم، أيْ وسواء كَتَمْتُم وأَخْفَيْتُم وأسْرَرْتم أقوالكم وأفعالكم أو أعلنتموها وأظهرتموها فالله تعالي حتماً يعلمها في الحالتين بالتَّسَاوِي، لأنه عليم بما بداخل العقول مِمَّا لم يُقَلْ أو يُفْعَلْ أصلا فكيف إذا قُلْتُمُوه أو فَعَلْتُمُوه؟! فهو مِن تمام قُدْرته وعلمه يعلم كل شيءٍ ظاهِرٍ أو خَفِيٍّ عن كل مخلوقاته في كل كوْنه في أيِّ زمانٍ ومكانٍ وأيضا وحتما يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفونه بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما، وما تُظهرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه، وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الرسول (ص) هو فقط مُبَلّغٌ عن الله تعالي وأنه وحده سبحانه الذي يعلم هل قريبٌ أم بعيدٌ ما يُوعَدُون به من عذابٍ دنيويّ ثم أخرويّ بسبب إصرارهم علي تَوَلّيهم وإعْراضهم عن الإيمان بالله واتّباع الإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. أيْ وأيضا لا أعلم لعلّه أيْ لعلّ تأخير العذاب عنكم رغم اسْتِحْقاقكم له هو فتنةٌ لكم أي اختبارٌ بإعطائكم فُرْصَة من رحمته سبحانه لكي تَتوبوا ولا تَستمرّوا في سُوئكم فلا يُعَذّبكم في الداريْن بل يُسعدكم فيهما بأنْ يكون لكم متاعٌ بمُتَعِ الحياة الدنيا الحلال إلي حين تَنتهي آجالكم التي حَدَّدها لكم فيها حسبما تَقْتَضِيه حِكْمته، أو فتنة لكم بمعني شَرٌّ لكم أيْ لكي تَقَعُوا في مزيدٍ من الشرِّ بتَمَتّعكم بمزيدٍ من مُتَعِ الحياة الدنيا المُحَرَّمَة إلي حين يأتيكم العذاب فيكون عذابكم بسبب ذلك أشدّ في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (178) من سورة آل عمران "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)" أيْ قال الرسول الكريم محمد (ص) بعد أنْ بَلّغ الإسلام للناس وأَدَّيَ هذه الأمانة كاملة كما أوْحاها إليه الله تعالي في القرآن العظيم، كما قال كل الرسل الكرام قَبْله، وكما علي كل مسلم أنْ يَقْتَدِيَ بهم ويقول مِثْلهم، مُفَوِّضَاً أمره لربه مُتَوَكّلَاً عليه تمام التّوَكّل داعِيَاً مُتَوَسِّلَاً إيّاه مُسْتَبْشِرَاً بقُرْب نَصْره: يا رب – أيْ يا مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – احْكُمْ بحُكْمِك الحقّ أيْ بحُكْمِك الذي حتماً ودَوْمَاً هو الحقّ كله أي الصدْق والعدْل كله وهو الذي يُظْهِر الحقّ والعدل كله، بيننا وبين المُكَذّبين المُعَانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين بأنْ تُجَازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وأمنٍ ونَصْرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يَسْتَحِقّونه من كل شرٍّ وخوفٍ وانهزامٍ وتعاسة فيهما فأنت خير الحاكمين أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه تعالي يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك.. ".. وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الاستعانة بالله تعالي وحده.. أيْ وربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – الله الرحمان هو الذي يُسْتعان به دائما في كل الأحوال لكي يُيَسِّرها ويُسْعِدها خاصَّة علي الشدائد وعلي الصبر علي ما تَصِفون وتَذْكُرون لنا من تكذيبٍ وعِنادٍ واسْتِكْبارٍ واسْتِهْزاءٍ واعتداءٍ بكلِّ سُوءٍ مِن قولٍ أو فِعْلٍ علي الله ورسله وكتبه والإسلام والمسلمين، فهو نِعْمَ المُعِين والنَّصِير الرحمان الرحيم القادر علي كل شيء.. هذا، واختيار اسم الرحمان من أسماء الله تعالي الحُسني لأنه يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعاد المؤمنين المُحْسِنين المُتّقين منهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. كذلك اختياره هو لبيان شِدَّة وفَظَاعَة وقَبَاحَة تكذيب المُكَذّبين لأنّ الله تعالي الشديد الرحمة بخَلْقه كان من المُفْتَرَض أن تُقابَل رحمته هذه مِن أيِّ عاقلٍ بحُسْن عبادته أيْ طاعته لا بالكفر به وعصيانه، إضافة لتَذْكِرتهم برحمته سبحانه التي لم يعملوا لنَيْلِها من خلال طاعته لعلهم يَتْرُكون تكذيبهم ويُطيعونه فيسعدون في الداريْن بَدَلَاً أنْ يتعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)" أيْ هذا نداءٌ من الله تعالي لخَلْقِه من الناس جميعاً لكي يَتَخَلّقوا بخُلُق التقوي ليَسعدوا في الداريْن ولا يَتْرُكوه أبداً حتي لا يَتْعَسوا فيهما.. أيْ يا جميع البَشَر، خافوا ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وراقِبُوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنّبين لكل شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وإيّاكم أن تَصِلوا أبداً لمرحلة إغضابه بل سارعوا لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)" أيْ لأنَّ تَحَرُّك واضطراب وتَزَلْزُل وتَرَجْرُج الساعة أيْ زَلْزَلَة الكوْن التي تَحْدُث عند قيام الساعة وهي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار – وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها – والذى لا يُشْبِهه أيّ زلزالٍ آخر فى شدّته وعُنْفِه وفَظَاعَته وإرْهابه حيث تَتَزَلْزَل وتَرْتَجِف وتَتَشَقّق وتَتَفَتّت الأرض والسماوات ويَخْتَلّ نظامها وتَتَنَاثَر ووتَتَسَاقَط الكواكب والنجوم وتَنْهار الجبال وتَتَفَجَّر المياه والبراكين وتَتَبَعْثَر القبور وتَحْدُث الأهْوال والأحداث المُخِيفَة التي لا يَعلمها إلا الله تعالي في يوم القيامة والذي يَمُرّ طويلاً تَعِيسَاً علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعاً سعيداً علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد، هي شيءٌ عظيمٌ أيْ أمرٌ شديدٌ خطيرٌ فظيعٌ عنيفٌ هائلٌ مُزْعِجٌ مُخِيفٌ لا يُوصَف ولا يَعْلَم قَدْرَه وكَيْفِيَّته إلا هو سبحانه
ومعني "يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)" أيْ هذا بيانٌ لبعض تفاصيل وصُوَر أهوال ومَشَاهِد يوم القيامة لمزيدٍ مِن دَفْع كل عاقلٍ لأنْ يُحْسِن الاستعداد له بالعمل بكل أخلاق الإسلام في حياته الدنيا ليَنْجو ويَأمَن منها ويكون مع السعداء الآمنين في النعيم الخالِد لجناتِ ربه التي لا تُوصَف.. أيْ يوم تشاهدون زَلْزَلَة الساعة أيها الناس حينها وقت رؤيتكم لها تَذْهَل أيْ تَنْشَغِل وتَنْسَىَ وتَتْرُك مع دهشةٍ وحَيْرَةٍ وخوفٍ وكأنها لا تَرَيَ ولا تحسّ كلُّ امرأةٍ معها طفل رضيع تُرْضِعه عن الذى أرْضَعَته وهو طفلها مع أنه أحب الناس إليها وهي أرحمهم به فهي تَنْساه وتَنْسَيَ إرضاعه وتُوقِف هذا الإرْضاع إنْ كانت تُرْضِعه وتَتْركه وتَنْشَغِل عنه رغم أنه قطعة منها فكأنها تَنْسَيَ نفسها فهي تَنْسَيَ مَا لا يُمْكِن تَصَوُّر نسيانه أبداً بالفطرة بما يُفيد شِدَّة انْشغالها وانْدهاشها وحَيْرَتها ورُعْبها بالذي يَحْدُث من أهوالٍ ومَخَاوِف لا يُمكن وَصْفها.. وكذلك مِن عظيم الخوف تَلِد وتُلْقِي كلُّ صاحبةِ حَمْلٍ أيْ كلّ امرأةٍ حامِلٍ حَمْلها أيْ ما تَحْمله ببطنها أيْ مولودها وتُسْقِطه حتي قبل اكتمال نموه.. وأيضا تُشاهِد أيها المُشَاهِد الناس تَظنّهم كأنهم سُكَارَيَ، جَمْع سَكْران، أيْ سَكَرانِين يَتَرَنّحُون ويَتَمَايَلُون ويَتَخَبَّطُون ويَفْقِدون تَوَازنهم كشَارِبِي الخمر حين يَسْكَرُون وتَغِيب عقولهم، وهم ليسوا سُكارَيَ حقيقة بالقطع، لأنهم لم يشربوا ما يُسْكِرهم من خمرٍ أو غيره، ولكنَّ السبب أنَّ عذاب الله شديد للذين يَسْتَحِقّونه وهم الذين عَصوه وقد ظَهَرَت علامَاته وبَوَادِره فيما رَأوه مِن زلزلة الساعة فسبب خَوْفهم من كل هذا الحال المُخِيف ظهروا كأنهم سُكارَيَ فاقِدين لإدْراكهم واتّزانهم
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)" أيْ هذا ذمٌ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، فلا يَتَشَبَّه به مسلم وإلاّ تَعِس مِثْله فيهما.. أيْ ورغم هذا التذْكِير والتحْذير الشديد من أهوال زَلْزَلَة الساعة لكي يُحْسَن الاستعداد لها بالعمل بالإسلام، ومع كل هذا الوضوح لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من خلال مُعْجِزَاته ودلالاته سبحانه في كل مخلوقاته في كل كوْنه علي أنه تعالي هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومع وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلَ به الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، رغم كل هذا، إلا أنَّ هناك بعض الناس الذي يُجادِل في الله أيْ في وجود الله وفي أنه واحدٌ وقادرٌ علي كل شيءٍ عليمٌ به، وفي صلاحية شَرْعه الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد كل البشريَّة إلي يوم القيامة، وفي البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار!! والجدال هو صورةٌ سَيِّئةٌ مِن صُوَر الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويزداد الجدال سُوءَاً إذا كان بغير علم، أيْ بجَهْلٍ، أيْ كان المُجَادِل جاهِلَاً لا يتكلّم كلاماً مَنْطِقِيَّاً يَقْبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع، ولا لأيّ كتابٍ منيرٍ أي وَحْي من الله مُضِيء واضِح يُنير له طريق الحقّ كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يُصِبْه تحريف، فهذا هو أصْدَق مَرْجِع، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين، وهي غير مقبولة حتماً من أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا من الفطرة المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وما كل ذلك الجدال بغير علمٍ إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)" أيْ وهو لا يُجادل بعلمٍ وعقلٍ ومَنْطِقٍ ودليل، فذلك مَقْبُول بل ويَطلبه الإسلام لكي يَصِلَ الإنسان للحقّ، ولكنَّ حاله وواقعه يُبَيِّن أنَّ السبب في ذلك أنه يَتّبِع أثناء جداله هذا بل وفي كل أقواله وأفعاله بكل شئون حياته، أيْ يَسِير خَلْف ويُطِيع ويُنَفّذ، وَسَاوِس – جَمْع وَسْوَسَة والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب، والوَسَاوِس عموما هي خواطر الشرّ التي تأتي في التفكير العقليّ – أيَّ شيطانٍ مَرِيدٍ أيْ شديدِ التّمَرُّد مُتَجَاوِزٍ لكلّ الحدود مُتَجَرِّدٍ من أيّ خيرٍ مُستمرٍّ علي كلّ شرّ، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيٍّ يخطر بالعقل، فهو يَتّبِع التفكير الشرّيّ بعقله، ويَتّبِع كلَّ شَرٍّ وأشرارٍ وكلَّ فسادٍ ومُفسدين، بلا أيِّ تفكيرٍ أو وَعْيٍ أو إدْراكٍ أو سؤالٍ للمُتَخَصِّصِين الثقات، من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)" أيْ حَكَمَ الله تعالي علي هذا الشيطان المَرِيد حُكْمَاً حَتْمِيَّاً لابُدَّ أنْ يَحْدُث، كَتَبَه في اللوح المحفوظ، وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ عِلْم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما، وهذا الحُكْم المَكْتُوب هو أنه مَن تَوَلّاه أيْ أيّ إنسانٍ تَوَلَّيَ هذا الشيطان أيْ جَعَلَه وَلِيَّاً لأمره يَتَوَلّيَ أموره يُديرها له ويُوَجِّهه إليها ويَتّبعه فيها، من دون الله أيْ غير الله أيْ لا يَجعل الله وَلِيَّاً ولا يَتّبعه ولا يُطيعه، فإنه أيْ الشيطان يُضِلّه أيْ يُضيعه بإبعاده عن طريق الله، طريق الحقّ والعدل والاستقامة، طريق الإسلام، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وبأَخْذِه في طريق الشرّ والفساد والتعاسة فيهما، ويَهْدِيه بذلك بالتالي أيْ يَدلّه ويرْشِده ويُوَجّهه ويَسُوقه ويَقوده إلي عذاب السَّعِير أيْ عذاب النار المُسَعَّرَة أىْ المُشْتَعِلَة اشتعالاً شديداً التي لا تُوصَف ولا تُحْتَمَل فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فمَا أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمَصير الذي يَصِير إليه، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصُّوَر بما يُناسب أفعاله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وعند بعض العلماء لفظ "عليه" في الآية الكريمة مِن المُمْكِن أن يعود أيضا علي مَن يجادل في الله بغير علمٍ مِن الناس وبالتالي يكون معناها عندهم: كُتِبَ أيْ حُكِمَ على مَن يُجادِل أنه مَن تَوَلّىَ الشيطان أضَلّه عن الجنة وهَدَاه إلى النار.. إنّه مَن يَتَوَلّيَ الشيطان فقد خَسِرَ خُسْراناً واضحاً حتماً ليس بعده خُسارة أشدّ منه حيث يأخذه لكل شرٍّ في كل شئونه فيَخسر ويَفْقِد دنياه فيَتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة علي قَدْر بُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسر حتماً أخراه يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. بينما لو اتّخَذَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمره وناصراً ومُعِينَاً له في كل شئون حياته، فهنيئاً له نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر له الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. فلْيَحْذَر إذَن كل عاقلٍ أن يَتّخِذَ الشيطان وَلِيَّاً من دون الله ولْيَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه ليسعد تمام السعادة في الداريْن ولا يَخْسَر ويَتعس فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. كذلك ستَسعد كثيراً إذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)" أيْ هذا بيانٌ لدَلِيلَيْن قاطِعَيْن لكل مَن كان عاقِلَاً مُنْصِفَاً عادِلَاً علي صِدْق حُدُوث بَعْث الإنسان مِن قَبْره بعد موته وإعادته كما كان بجَسَده ورُوحه يوم القيامة ليُحاسَب، بتمام قُدْرَة الله تعالي وكمال عِلْمه وحِكْمته فهو القادر علي كل شيء، وهما خَلْق الجنين وكيفية تكوينه إلي أنْ يُولَد والذي يُرَيَ واقِعِيَّاً في كل وقت، وإخراج النبات من الأرض التي تَظْهر كأنها ميتة بمجرّد نزول قطراتٍ من الماء عليها والذي يُرَيَ أيضاً واقعياً في كل وقت.. أيْ هذا نداءٌ من الله تعالي لخَلْقِه من الناس جميعاً لكي يَتَدَبَّرُوا ويَتَعَمَّقوا ويَتَعَقّلوا جيداً فيما سَيُذْكَر لهم لينتفعوا وليسعدوا به في الداريْن، أيْ يا أيها الناس، خاصَّة الذين لا يُصَدِّقون بالبَعْث للحساب ويَتَشَكّكُون فيه، لأنَّ المؤمنين يُؤمنون يَقيناً بحَتْمِيَّة حُدُوثه وما سَيُقال هو لتأكيد يَقِينهم، إنْ كنتم في رَيْبٍ مِن البَعْث أيْ في شَكّ وحَيْرَةٍ منه، وتُجادِلون فيه وفي قُدْرَتنا عليه بغير علم، وهو الإحياء لكم مرة أخري بقُدْرَتنا وعِلْمنا من قبوركم بعد موتكم وكَوْنكم تراباً بأجسادكم وأرواحكم عند حُدُوث يوم القيامة لحسابكم الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم في حياتكم الدنيا بكل خيرٍ وسعادةٍ في نعيمِ جنّاتٍ لا تُوصَف لمَن قال وعمل خيراً وبكل شَرٍّ وتعاسةٍ في عذاب نيران لا يُوصَف لمَن قال وعمل شَرَّاً علي قَدْر سُوئه بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. ".. فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.." أيْ فإليكم الدليل الواضِح المُشَاهَد الحاسِم القاطِع الذي يَقْطع شَكّكم وحَيْرَتكم ويُعِينكم علي التصْدِيق لو تَدَبَّرتم فيه: نحن أوْجَدناكم مِن ترابٍ أيْ فانْظُروا وتَفَكّرُوا في أصْل خَلْقِكم فتَفَكّرُكم سيُزيل رَيْبِكم فإنّا خَلَقْنا أصْلَكم أباكم آدم من ترابٍ، من طِينٍ أيْ من ترابٍ وماء، وبالتالي حينما تَتَحَوَّلون إلي ترابٍ في قبوركم بعد موتكم ودفنكم فيه فنحن سنَخْلُقكم مرّة أخري مِثْلَما خَلَقْناكم في المرة الأولي، فمَن خَلَقَكم أول مرة سبحانه قادرٌ وأهْوَن عليه أن يعيدكم مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا، لأنَّ كلَّ شيءٍ هو يَسِيرٌ علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته يوم القيامة!.. ".. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ.." أيْ ثم تَنَاسَلَت ذرِّيَّته من نطفةٍ أيْ من قطرةِ ماءٍ صغيرةٍ والمقصود من حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مهينٍ موجودٍ في المَنِيِّ الذي يَقْذِفه الرجل في رَحِم المرأة التي تَحْمِل بُوَيْضَة، ثم من عَلَقَةٍ تَتَكَوَّن بقُدْرَة وعِلْم الله تعالي وحده حينما يَجتمع الحيوان المَنَوَيّ مع البويضة وهي عبَارَة عن مجموعة خلايا دقيقة تَتَعَلّق بالجدار الداخليّ للرحم.. ".. ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.." أيْ ثم تَزداد العَلَقَة في الحَجْم تدريجياً حتي تصبح مِثْل حَجْمِ قطعةِ لحمٍ صغيرةٍ قَدْر مَا يَمْضغ الماضِغ مُخَلّقَةٍ بعضها أيْ تَتّصِف بأنها يبدأ فيها خَلْق الأعضاء وظهورها كالرأس واليدين وغيرها وتستمرّ في التّخَلّق والتّشَكّل والنّمُوّ والتّطَوّر حتي تُنْفَخ فيها الرّوُح مِن رُوُحِ خالِقها سبحانه وتَكْتَمِل لتكون طفلاً يُولَد بمشيئته ورعايته وحِفْظه وغير مُخَلّقَةٍ بعضها الآخر أيْ لم تَظْهَر فيها الأعضاء بَعْد وستَظْهَر تدريجياً مع نُمُوِّها أو قد لا يشاء تعالي اكتمالها فتَسْقط من الرَّحِم.. ".. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ.." أيْ نَفْعل ذلك ونَخْلقكم هكذا لكي نُوَضِّح لكم بهذا التدريج في التّخْلِيق المُبْهِر المُعْجِز كيف تُخْلَقون ومراحل تكوينكم ونموّكم لتُوقِنوا بقُدْرَة ربكم علي كل شيءٍ وعلي بَعْثكم مرة أخري حيث مَن قَدَرَ على تَخْليقكم أولاً قَدَرَ على ذلك ثانياً إذ كان من المُمكن أن نَخْلقكم في لحظةٍ بقول كُنْ فتكونون، أليس الله تعالي وحده لا غيره الذي يفعل كل هذا؟! هل استطاع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويَدَّعي أنه هو الذي يفعله؟! أليس الذي يخلق ما يشاء هكذا من كل أسباب القوة والضعف وكل شيءٍ في الحياة وهو العليم تمام العلم بكل شيء والقادر عليه بتمام القدرة أليس يُمكنه إعادة خلقكم مرة أخري يوم البعث يوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ ليُجازيكم علي الخير بكل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ بما يُناسبه وتَستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة؟! إنه تعالي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ قادرٌ عليمٌ حكيمٌ رحيمٌ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وهو حتماً المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فاعبدوه أيْ أطيعوه بالتالي إذَن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.." أيْ ونُثَبِّتُ ونُبْقِي مُسْتَقِرَّاً في الأرحام للأمهات ما نشاء استقراره وثباته فيها من الأَجِنَّة إلى وقتٍ مُحَدَّدٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ عندنا وهو وقت الولادة بعد انتهاء مُدَّة الحَمْل، وما لم نشأ استقراره من حَمْلٍ نَجعل الأرحام تُسْقِطه لأنَّ كل شىءٍ هو بمشيئتنا وحدنا لا بمشيئة غيرنا أيْ بإرادتنا وقُدْرَتنا وعِلْمنا وأمرنا وإذننا وتَيْسيرنا.. ".. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.." أيْ ثم نُخْرِجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذى حَدَّدْناه كلّ واحدٍ منكم طفلاً صغيراً لا يعلم ولا يستطيع أيَّ شيءٍ ثم نُسَخّر لكم برحمتنا ورعايتنا أمهاتكم لتُرْضِعكم لَبَنها وآباءكم ليقوم الاثنان وغيرهم برعايتكم لتكبروا شيئاً فشيئاً لكي تَبْلُغوا أشُدَّكم أيْ لتَصِلُوا تمام القوة العقلية والجسدية حيث ستَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها.. ".. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.." أيْ ومنكم بالقطع مَن نَتَوَفّاه أيْ نُمِيته ونَقْبِض ونَسْتَرِدّ رُوحه عند انتهاء أَجَلِه في دنياه في أيِّ وقتٍ قبل بلوغه أَشُدّه أو عنده أو بعده، رضيعاً أو طفلاً أو صغيراً أو شابَّاً أو كبيراً، قبل أن يَصِلَ إلي أَرْذَل العُمُر، ومنكم أيْ وبعضكم مَن يُرَدّ إلي أَرْذَلِ العُمُر أيْ مَن يَصِل ويَصِير ويُرْجَع إلي أضْعف العمر وأرْدَئِه كما كان طفلا حيث الضعف وعدم إدراك الأمور إدراكاً تامَّاً وصحيحاً والاحتياج للغير والمقصود طول العمر وحُدُوث الشيخوخة حيث تضعف القُدْرات الجسدية والعقلية، وذلك بحِكْمته وعِلْمه ورحمته تعالي في طول الآجال وقصرها والقوة والضعف والصحة والمرض والغني والفقر ونحو ذلك من أجل منافع الناس وتَوَازُن الكَوْن ليَتَحَقّق الهدف من خَلْق الحياة ومخلوقاتها وهو سعادة الخَلْق في دنياهم وأخراهم، فلْيُحْسِن الإنسان بالتالي إذَن طوال عمره باتّباع أخلاق الإسلام حتي يُعينه ربه ويَحفظه ويُقَوِّيه ويُيَسِّر له حاله في مِثْل هذه الأحوال.. ".. لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا.." أيْ لكي تكون نتيجة ذلك أنْ لا يستطيع أن يعلم مِنْ بعد علمٍ عَلِمَه سابقاً شيئاً مِن أيِّ علمٍ زائدٍ عمَّا كان يَعْلمه وأيضا يَنْسَيَ ما كان يَعْلمه بعضه أو كله فيَصير لا يَعلم شيئاً، لكن يُرَاعَيَ أنَّ الأمر يختلف من فردٍ لآخر علي حسب محافظته علي صحته وعقله وتنشيطهما وتقويتهما والاهتمام بهما بالوسائل العلمية المُمْكِنَة المُتَاحَة وعدم إضرارهما بأطعمةٍ فاسِدَةٍ أو مُضِرَّةٍ أو مُسْكِرَةٍ أو نحوها كما يُثْبِت الواقع ذلك.. ".. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)" أيْ هذا بيانٌ للدليل القاطِع الثاني لإثبات تمام قُدْرَته تعالي علي البَعْث كما يُحْيِي الأرض الميتة أيْ التي لا نبات فيها بإنزال الماء عليها فتَحْيَا أيْ تُنْبِت.. أيْ وتُشاهِد بعَيْنَيْك واقِعِيَّاً أمامك أيها المُشاهِد العاقِل المُنْصِف العادِل، الأرضَ هامِدَة أيْ يابِسَة جافّة مَيتة ليس فيها أيّ نبات، ثمّ بمُجَرَّد أنه إذا نحن أنزلنا عليها الماء ليَرْويها، من الأمطار أو الأنهار أو العيون أو نحوها، برحمتنا وفضلنا وكرمنا ورزقنا وحِكْمتنا وعِلْمنا وقُدْرَتنا، تَرَاها اهْتَزّت أيْ تَحَرَّكَتْ تُرْبَتُها ورَبَتْ أيْ وكَبُرَتْ وازدادتْ وانْتَفَخَتْ بالماء وببَدْء نُمُوّ بذور النباتات بداخلها وأَنْبَتَتْ أيْ وأخْرَجَتْ نباتاتٍ بعد ذلك من كلّ زوجٍ أيْ صنفٍ بَهِيجٍ أيْ جميلٍ حَسَنٍ يُبْهِج ويُسْعِد مِن جماله وحُسْنه كلَّ مَن يَنظر إليه ويَنتفع به من الخَلْق.. إنَّ القادر علي إحيائها بعد موتها هكذا قادرٌ حتماً علي إحياء الموتي من قبورهم بعد موتهم ليوم القيامة
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)" أيْ ذلك الاقْتِدار والإعْجاز كله المَذْكُور سابقاً بسبب أنَّ الله تعالي هو الحقّ، أيْ وجوده هو صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصْدَق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدْق كله حيث هو الإلاه الحقّ أيْ المَعْبُود الحقّ الواحد الأحد بلا أيِّ شريكٍ الذي لا يُمْكِن أبداً أنْ يُعْبَد غيره، والإيمان به هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بكلّ خيرٍ وأمنٍ ونَصْرٍ وسعادةٍ للمؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبعث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضَيَاعٍ وشَرٍّ وخوفٍ وانْهِزامٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)" أيْ وبسبب أنه وحده لا غيره الذي يُحْيِي الموتي عند بَعْثهم كما بدأ خَلْقهم أول مرَّةٍ بتمام قُدْرَته وكمال علمه فيُعيدهم من قبورهم بعد كوْنهم تراباً كما كانوا في دنياهم بأجسادهم وأرواحهم لأنه هو وحده الذي خَلَقَهم ابتداءً فإعادتهم أسهل عليه، وبسبب أنه وحده لا غيره الذي حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. هذا، وقد تَمَّ تَخْصِيص إحياء الموتي بالذكْر رغم أنه مِن كلِّ شيءٍ يُقْدَر عليه قطعاً لأنَّ سياق الحديث عنه
ومعني "وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)" أيْ هذا حَسْمٌ لأمر البَعْث للحساب حيث هو مُؤَكّد بلا أيِّ شَكّ.. أيْ واعْلَمُوا وتَأَكّدوا – وكما عَلِمَ العقلاء وتَأكّدوا أنَّ الله وحده هو الحقّ وأنه يحيي الموتي وأنه علي كل شيء قدير – أنَّ الساعة وهي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار وأَخْذ كل صاحب حقّ حقّه وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها، آتِيَةٌ أيْ قادِمَة حتماً لا رَيْبَ فيها أيْ لا شَكّ فيها أبداً فهي واقِعَة حادِثَة يوماً مَا بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، وأنَّ الله وحده يُحْيِي كلّ مَن في القبور مِن الموتي ببَعْثهم أحياء لحسابهم يوم الساعة أيْ يوم القيامة، فهذا هو وَعْده الذي لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف مُطلقاً.. هذا، ولكلّ إنسانٍ ساعة آتية بالتأكيد قبل ساعة يوم القيامة لا ينكرها أحدٌ لأنه يراها ويسمع بها يوميا وهي وقت موته ونهاية أجله في الدنيا حيث دخول قبره وبَدْء حسابه المَبْدَئيّ.. فليَتَّعِظ بالتالي إذَن العاقل الذي يريد الاتّعاظ ويُحْسِن الاستعداد بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)" أيْ هذا ذمٌ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، فلا يَتَشَبَّه به مسلم وإلاّ تَعِس مِثْله فيهما.. أيْ ورغم هذا التذْكِير والتحْذير الشديد من أهوال زَلْزَلَة الساعة لكي يُحْسَن الاستعداد لها بالعمل بالإسلام، ومع كل هذا الوضوح لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من خلال مُعْجِزَاته ودلالاته سبحانه في كل مخلوقاته في كل كوْنه علي أنه تعالي هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومع وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلَ به الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، رغم كل هذا، إلا أنَّ هناك بعض الناس الذي يُجادِل في الله أيْ في وجود الله وفي أنه واحدٌ وقادرٌ علي كل شيءٍ عليمٌ به، وفي صلاحية شَرْعه الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد كل البشريَّة إلي يوم القيامة، وفي البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار!! والجدال هو صورةٌ سَيِّئةٌ مِن صُوَر الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويزداد الجدال سُوءَاً إذا كان بغير علم، أيْ بجَهْلٍ، أيْ كان المُجَادِل جاهِلَاً لا يتكلّم كلاماً مَنْطِقِيَّاً يَقْبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، وكان لا يستند لأيّ هُدَي أيْ دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع، ولا لأيّ كتابٍ مُنيرٍ أيْ وَحْيٍ من الله مُضِيء واضِح يُنير له طريق الحقّ كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يُصِبْه تحريف، فهذا هو أصْدَق مَرْجِع، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين، وهي غير مقبولة حتماً من أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا من الفطرة المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وما كل ذلك الجدال بغير علمٍ إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ في الجزء الأول من هذه الآية الكريمة كما في الجزء الأول من الآية (3) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. وعند بعض العلماء الآية (3) تُرَكّز أكثر علي مَن يُقَلّد بغير تفكيرٍ وهذه الآية (8) تُرَكّز أكثر علي قادة السوء والتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة الذين يُقَلّدهم ويَتّبِعهم غيرهم، وعند بعضهم الآخر الآية (3) فيها التركيز علي التحذير من اتّباع الشيطان والآية (8) فيها التركيز علي التحذير من كلامٍ غير عقلانِيٍّ غير مَنْطِقِيٍّ بلا دليلٍ صحيحٍ مُؤَكّدٍ له، فكلّ آيةٍ تُضيف معاني من زوايا أخري لِتَكْتَمِل المعاني ولِتَزْداد الاسْتِفادات والسعادات لمَن يَتَدَبَّرها ويَعمل بها
ومعني "ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)" أيْ وحال هذا المُجادِل بغير علم، ورغم جَهْلِه وخَبَلِه وسَفَهِه، يكون ثانيَ عِطْفِه أيْ لاوِيَاً عُنُقه وجانِبه والمقصود أنه يَتّصِف بالإعراض والتّعَالِي عَمَّن يَدْعوه لله وللإسلام أيْ يَعطيهما جانبه وظَهْره ويَلْتَفِت ويَنْصَرِف ويَبْتَعِد عنهما ويَتركهما ويهملهما ويَتْرُك أخلاق الإسلام بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ وهو يُجادِل لكي، وجِدَاله يُؤَدِّي إلي أنه، يُضِلّ أيْ يُبْعِد نفسه وغيره عن سبيل الله أيْ عن طريق الله أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ويأَخْذ نفسه وغيره إلي الضلال أيْ إلي الضَّيَاع أيْ إلي طريق الشرّ والفساد والتعاسة فيهما، وهو مَا يَفعل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)" أيْ له حتماً عذابٌ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شروره ومَفاسده وأضراره، فله في الدنيا خِزْيٌ أيْ ذِلّة وانْحِطاط وعار وفضيحة، يَتَمَثّل في درجةٍ مَا من درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم سنُذيقه يوم القيامة عذاب الحَرِيق أيْ سنَجْعله يَسْتَشْعِر ألم ويَذوق عَمَلِيَّاً مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة، بسبب وفي مُقابِل سُوئِه وإصراره عليه حتي موته بلا توبة
ومعني "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)" أيْ ويُقالُ له يوم القيامة، من ملائكة العذاب، بما يُفيد تمام الغضب عليه وكمزيدٍ من العذاب النفسيّ والتأنيب والذّمّ والتهديد والإهانة والتّيْئِيس من النجاة له، ذلك أيْ هذا العذاب الأخرويّ الذي لا يُوصَف، بعد العذاب الدنيويّ الذي كنتَ فيه، بسبب أقوالك وأفعالك السيئة الفاسدة الضارّة المُتْعِسة لك ولغيرك بل وأحيانا للكوْن كله، والأمر المُؤَكّد أنَّ الله ليس بظلّام للعبيد، أيْ ولم يكن الله أبداً، الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره.. لكنهم هو وأمثاله كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه علي قَدْر ما قَدّم في حياته.. وفي هذا تذكيرٌ لكلِّ عاقلٍ أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)" أيْ هذا ذمٌ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، فلا يَتَشَبَّه به مسلم وإلاّ تَعِس مِثْله فيهما.. أيْ ورغم هذا التذْكِير والتحْذير الشديد من أهوال زَلْزَلَة الساعة لكي يُحْسَن الاستعداد لها بالعمل بالإسلام، ومع كل هذا الوضوح لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من خلال مُعْجِزَاته ودلالاته سبحانه في كل مخلوقاته في كل كوْنه علي أنه تعالي هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومع وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلَ به الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، رغم كل هذا، إلا أنَّ هناك بعض الناس الذي يَعْبد الله علي حَرْفٍ أيْ علي طَرْفٍ من العبادة، أيْ لا ثَبَات له فيها، أيْ بغير استقرارٍ واستمرار، أيْ مع شَكّ وتَرَدُّدٍ وعدم اقتناعٍ تامّ، أيْ هو مُعَرَّض للانحراف والابتعاد عنها وعن أخلاق الإسلام وتَرْكها في أيِّ وقتٍ ومع أيِّ تَغَيُّرَاتٍ تَحْدُث، فهو كَمَن يَقِف علي طَرْف جَبَلٍ لا يَتَمَاسَك في وَقْفَته ومن المُمْكِن أنْ يَسْقط في كلّ لحظة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (143) من سورة النساء "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ من أسباب العبادة علي حَرْف، عدم الاقتناع أو عدم العلم والجهل بصلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها تمام السعادة حتي يوم القيامة، أو من أجل مُجَاراة الآخرين حتي لا يُخالِفهم فيَخْسَر صُحْبتهم وفوائدها، أو لكوْنها عادة من العادات وتقليداً من التقاليد المَوْرُوثَة عن الآباء والأجداد والأوطان، أو تكون نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرِّ (برجاء مراجعة مزيدٍ من الشرح والتفصيل عن تعاسات النفاق في الداريْن في الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة)، وكل ذلك يكون خوفاً من شيءٍ مَا أو تحقيقاً لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وما شابه ذلك من أسباب عدم الاستقرار والاستمرار علي الإيمان بالله تعالي والعمل بأخلاق الإسلام.. ".. فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.." أيْ فهذا الذي يَعْبُد الله علي حَرْفٍ يَرْبط عبادته له سبحانه واتّباعه للإسلام بمصالحه الدنيوية فهي التي تَتَحَكّم في إيمانه!! فإنْ جاءه خيرٌ دنيويٌّ مِن أرزاقٍ مالِيَّة وصِحِّيَّةٍ واجتماعيةٍ وغيرها اطمأنَّ به أيْ اسْتَقَرّ وسَكَنَ وهَدَأَ بهذا الخير واستقرّ بالإسلام واسْتَمَرّ عليه، وإنْ جاءته مَضَرَّة ومُصِيبة ومَشَقّة وشَرٌّ مَا في دنياه انْقَلَبَ علي وَجْهِه أيْ رَجَعَ علي وجهه الذي كان عليه من الكفر وكان كمَن يَنْقَلِب ويَقَع على وجهه ويَصِير قَدَمَاه أعلي بعد أن كان واقِفَاً بصورةٍ سيئةٍ مهينةٍ والمقصود أنه رَجَعَ وارْتَدَّ عن استقامة ونور وسعادة عبادة الله تعالي واتّباع الإسلام إلي اعْوِجَاج وانْحِراف وظلام وتعاسة الكفر به.. ".. خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.." أيْ فخَسِرَ بسبب ذلك أيْ لم يَرْبَح حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثله، حيث في الدنيا سيكون له درجة مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون له كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعاله السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون له حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنه بالقطع سيُحْرَم بسبب كفره السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَم أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلَ كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظره.. ".. ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)" أيْ ذلك الخُسْران فيهما المُزْدَوَج المُرَكّب الذي جَمَعَه علي نفسه بسبب سُوئه هو حتماً الخُسْران المُبِين أيْ المُبَيِّن للناس أنه خُسْران بأقلّ تَدَبُّر والمقصود أنه خُسْرانٌ شديدٌ واضِحٌ لا يَخْفَيَ علي أيِّ عاقل وليس بَعْده خُسارَة أشَدّ منه
ومعني "يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)"، "يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)" أيْ هذا بيانٌ لمَظاهر خُسْران وقُبْح أحوال وتعاسة هذا الذي يَعْبُد الله علي حَرْفٍ وانْقَلَبَ علي وجهه عندما أصابته فِتْنة، وفيه ذَمّ ولَوْم شديد ورفض تامّ وتَعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ يَعْبُد أيْ يُطيع هذا الخاسِر المُرْتَدّ من دون الله أيْ غير الله مَا لا يَضُرّه أيْ إلاهاً أيْ مَعْبُوداً لا يَضُرّه ومَا لا يَنْفَعه أيْ وإلاهاً لا يَنفعه كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثله يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وكل هذه الآلهة لا تستطيع أن تَضرّه وأمثاله بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعهم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)" أيْ ذلك الفِعْل القبيح السَّفِيه منه هو حتماً الضياع الكبير الشديد حيث هو بعيد كلّ البُعْد عن الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله، لأنه لم يَعْبُد أيْ لم يُطِع الله تعالي ربه أي مُرَبِّيه وخالِقه ورازِقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام.. وهو كذلك حتماً الضلال البعيد لأنه يفعل كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه يَتَوَهَّم أنْ لا حساب! وبالتالي ستجده دائماً وحتماً في دنياه في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ يَعْبُد أيْ يُطيع هذا الخاسِر المُرْتَدّ غير الله تعالي إلاهاً أيْ مَعْبُودَاً ضَرَره أقْرَبُ مِن نَفْعه بالتأكيد – واللام للتأكيد – أيْ أَسْبَقُ إليه وهو أكبر وأكثر وأسرع له مِمَّا قد يأتيه منه مِن نَفْعٍ مَا.. والمقصود في هذه الآية الكريمة عند بعض العلماء مَن يَعْبُد بَشَرَاً لأنَّ لفظ مَن في اللغة العربية يكون للعاقل أمَّا الآية السابقة فهي للآلهة التي لا تعقل حيث اسْتَخْدَمَتْ لفظ ما وهو يكون لغير العاقل، لأنَّ الآلهة من الأصنام وغيرها من غير العقلاء لا تَنْفَع ولا تَضُرّ بأيِّ شيء كما يُثْبِت الواقع ذلك – إلا مثلا بعض النفع مِن ثَمَنِ بيعها للجهلاء – أمَّا الآلهة مَن البَشَر فهي قد تَنْفَع وتَضُرّ ببعض النفع والضرر لكنَّ نفعهم يكون أحيانا أو غالبا أو دائما مَصْحُوبَاً ويُتْبَع بفِقْدان الكرامة والذّلّة من أجل القليل الفُتات والسَّفه العقليّ والعَمَلِيّ حيث لا يقول عابدهم وكثيراً لا يفعل إلا فقط ما يريده إلاهه حتي ولو كان غير عقليٍّ غير مَنْطِقِيٍّ ويكون العيش بالحياة في كلِّ قَلَقٍ وتَوَتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ واقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً ثم هذا البَشَر المَعْبُود يُصِيبه ما يُصِيب أيّ بَشَرٍ مِن مرضٍ وضعفٍ وفقرٍ وموتٍ فيَفْقِد عابده مَنْفَعته القليلة هذه كما هو مُشاهَد واقِعِيَّاً.. هذا، وعند بعضٍ آخر من العلماء مقصود هذه الآية هو في الآخرة أيْ يعبد مِن الآلهة مَن ضَرَره المُحَقّق المُؤَكّد يوم القيامة حيث الخلود في النار أقرب وأسرع إليه مِن نَفْعِه الوَهْمِيّ إذ يَتَوَهَّم أنه ينفعه بأنْ يَدْفع عنه العذاب ويُدْخِله الجنة!!.. ".. لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الذمّ الشديد له بسبب سَفَهِه وخَبَلِه وتَعطيله لعقله، وبَيَانٌ لسوء مَصيره بسبب عبادته لغير الله تعالي حيث كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه وأخراه.. أيْ مَا أَسْوَأ بكل تأكيد – واللام للتأكيد – هذا المَوْلَيَ أيْ المَعْبُود الذي جَعَله مَوْلَيَ له أيْ وَلِيَّاً لأمره يَتَوَلّيَ أموره يُديرها له ويُوَجِّهه إليها ويَتّبعه فيها، فيأخذه بالتالي حتماً مُؤَكّدَاً لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وكُفْر وشِرْك، يأخذه لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياه وأخراه، وما أسوأ هذا العَشِير أيْ المُعَاشِر أيْ الذي يُعَاشِر ويُعاشَر أيْ يُعَايَش ويُخَالَط ويُعامَل ويُصادَق ويُصاحَب في الحياة، حيث يَأخذه أيضا لكلِّ سوءٍ كما يأخذه المَوْلَيَ السَّيِّء
ومعني "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الله الخالق الكريم الودود الغفور الرحيم يوم القيامة يُدْخِل الذين صَدَّقوا بوجوده وتمسّكوا بأخلاق إسلامهم جنّاتٍ أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فهذا هو وَعْده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)" أيْ يُدْخِلهم جنّاته لأنَّ الله علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم، ومِن ذلك إثابة المُحْسِن ومُعاقَبَة المُسِيء بكلّ عدل.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتماً سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين الصالحين المُسْتَحِقّين للنصر بإحسان اتّخاذ أسبابه أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ووَعْدٌ منه سبحانه لا يُمْكِن أنْ يُخْلَفَ أبداً قطعاً أنْ يُمَكّن لهم في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ مَن كان يَتَوَهَّم مِن المُكَذّبين والمُعانِدين والمُسْتَكْبِرين والمُسْتَهْزِئين والمُرَاوِغِين، سواء أكانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم ظالمين أم فاسدين أم مَن شابههم، ومَن كان يَتَوَهَّم حتي مِن بعض المسلمين الذين قد يَسْتَأْخِرون حُدُوث نَصْر ربهم لهم، أنْ لنْ يَنْصُرَ الله رسوله (ص) وقرآنه ودينه الإسلام وكلّ مسلمٍ مُتَمَسِّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُسْتَحِقّ للنصر بإحسان اتّخاذ أسبابه، في الدنيا بإعلائه ودينه وإسعاده وهزيمة عَدُوّه وإتعاسه، والآخرة بإدخاله أعلي درجات جناته بنعيمها الذي لا يُوصَف وبتعذيب أعدائه بناره التي لا تُوصَف، فلْيَمْدُدْ بسببٍ إلي السماء أيْ فَعَلَيَ هذا الظانّ المُتَوَهِّم بالتالي أنْ يَمدّ أيْ يقوم بتَمْدِيد أيْ ببَسْط سَبَبٍ أيْ حَبْلٍ من مكانه الذي هو فيه إلي السماء فيَرْبطه فيها، إنْ استطاع ذلك! ثم عليه بعدها أنْ يَقْطَع أيْ يَمْنَع النصر النّازِل عليه مِن عندنا مِن السماء إنْ استطاع هذا!! أو يَقطع الحَبْل وهو مُتَعَلّقٌ به فيَسقط من السماء علي الأرض فيموت أو يَقطع تَنَفّسَه بمَنْع دخول الهواء بعد لَفّ الحبل حول عُنُقِه بشِدَّة لِيَخْتَنِق ويموت.. ".. فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)" أيْ فبالتالي علي هذا الظانّ المُتَوَهِّم أنْ يَنْظُر أيْ يَتَفَكّر فى أمره هل يُذْهِب أي يُزيل ويُبْعِد – والنون للتأكيد – كَيْده أيْ فِعْله هذا مَا يَغيظ أيْ ما يَغيظه أيْ ما امتلأت به نفسه من غيظٍ بسبب نزول نَصْر الله تعالي لرسوله (ص) وقرآنه ودينه الإسلام وكل مسلم يَسْتَحِقّ نَصْره؟! كلا بالقطع!! لأنَّه مَهْمَا فَعَلَ مَا يَفْعله مِن مَكائِد ضِدَّ الإسلام والمسلمين ومَهْمَا فَعَلَ مَا يَفعله بنفسه من الاختناق والغَيْظ لن يُغَيِّر شيئاً من حُدُوث النصر حينما يريد الله إنزاله، وبالتالي فلن يستطيع أبداً مَنْعَه ولن يستطيع مُطلقاً شفاء غَيْظه بما يعمله من الأسباب والمَكائد، فَلْيَمُت بالتالي إذَن هذا الظانّ المُتَوَهِّم بغَيْظِه وكَيْدِه!! أي فليستمرّ علي غيظه حتي موته، أيْ أنه ما دام مستمرّاً علي شَرِّه وكَيْده للإسلام والمسلمين وغَيْظه منهم بلا توبة وعودة لله وله ليسعد فسيستمرّ حتماً علي غَيْظِه حتي الموت وسيُعذّب في الداريْن لأنَّ سبب هذا الغَيْظ عنده مستمرٌّ ومُتَزَايِدٌ وهو انتشار الإسلام وتَزَايُد الحبّ والعَوْن بين المسلمين والعِزّ والنصر والخير والسعادة لهم إضافة إلي أنه يري أنَّ كراهيته ومكائده له ولهم لا فائدة منها حيث لم تنقص من قوّتهم وعُلُوّ كلمتهم بتأييد الله ونصره لهم وما ازداد هو إلا غَيْظاً وألَمَاً وخسارة وتعاسة.. وفي هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه مزيدٌ من التحذير الشديد للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. إنَّ خُلاصَة المقصود من هذه الآية الكريمة بيان اسْتِحَالة عدم نزول وحُدُوث نَصْر الله بالتوقيت والأسلوب الذي يريده، وقَطْع أمل وتَيْئِيس وتَعْجِيز مَن يَتَوَهَّم استطاعته مَنْعه والاسْتِهَانَة به ودَفْعه للاستسلام مهما كانت إمْكاناته وأفعاله ومَكائده، مع بيان اسْتِدَامَة غَيْظ أعداء الإسلام حيث النصْر واقع بلا أيِّ شكّ عاجِلَاً أم آجِلَاً
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)" أيْ وكما أنزلنا إلى الرسل الكرام قبلك نصائح تُصْلِح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن، كذلك أوْحَيْنا إليك هذا القرآن العظيم ليكون آياتٍ بيناتٍ أيْ دلالاتٍ واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْقك وأنك مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، لأنه يُنَظّم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم نَعِيمَ جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)" أيْ ولأنَّ الله يَهْدِي به مَن يريد هِدايته أنْزَلَه كذلك آياتٍ بَيِّنَاتٍ، أو وكذلك أنَّ الله يهدي بآياته مَن يريد هدايته، أو والأمْرُ أنَّ الله يهدي به مَن يريد أنْ يهديه.. إنَّ الله تعالي هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" ، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 )"، ثم الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، ثم مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسَبَبها)
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)" أيْ هذا دعوةٌ وتشجيعٌ لكلّ أصحاب الأديان الأخري غير الإسلام أن يُسْلِموا حتي يسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة، لأنَّ الله تعالي العليم بكل شيءٍ الشهيد عليه سيُحاسِبهم يوم القيامة فلْيُحْسِنوا بالتالي إذَن الاستعداد للحساب.. أيْ "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ المسلمون، الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد (ص) وبالقرآن العظيم الذي أوحِيَ إليه من الله تعالي وعملوا بأخلاق الإسلام التي فيه.. ".. وَالَّذِينَ هَادُوا.." أيْ واليهود الذين أسلموا واتّبعوا الإسلام الذي في التوراة التي جاءهم بها رسولهم موسي (ص) وَحْيَاً من عند الله تعالي والذي كان مناسباً لعصرهم.. ".. وَالصَّابِئِينَ.." أيْ والذين لا دين لهم أو لم يَصِلْهم دين الإسلام، جمع صَابِيء وهو تارِك الدين.. ".. وَالنَّصَارَىٰ.." أيْ والمَسِيِحِيِّين الذين اتّبعوا المسيح عيسي ابن مريم (ص) وما معه من إسلامٍ مناسبٍ لعصرهم في الإنجيل الذي جاءهم به وَحْيَاً منه سبحانه.. ".. وَالْمَجُوسَ.." أيْ والذين يَعبدون النار.. ".. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.." أيْ والذين يُشْرِكون في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري يعبدونها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها.. ".. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ إنَّ هؤلاء جميعاً، وجميع الناس، الله وحده لا غيره حتماً سيَحْكُم بينهم يوم القيامة، في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم، بحُكْمِه الفاصِل أيْ الذي يَفْصِل أيْ يُمَيِّز بين الحقِّ والباطِل، العادل أيْ الذي ليس فيه أيّ ذرّة ظلم، بإظهار مَن الذي كان علي الحقّ منهم ومَن الذي كان علي الباطل وفَصْل هذا عن ذاك أيْ تَمْيِيز بعضهم عن بعض بمُجَازاة المُحِقّ المُحْسِن بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في نعيمِ جناتٍ لا يُوصَف والمُبْطِل المُسِيء بكلّ شَرٍّ وتعاسةٍ في عذاب نيران لا تُوصَف.. فأحسِنوا بالتالي أيها الناس الاستعداد لذلك بأنْ تكونوا مع الذين آمنوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن ولا تكونوا مع غيرهم المُخَالِفين للإيمان ولأخلاق الإسلام وإلا تَعِسْتُم فيهما علي قَدْر مُخَالَفاتكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)" أيْ إنَّ الله يَفْصِل بينهم لأنَّ الله علي كل شيءٍ شهيدٌ أيْ كثيرُ الشهُودِ أيْ شاهِدٌ علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالهم وأفعالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله، وسيُحاسبهم عليه بالخير خيراً وسعادة ويَزيد، وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو، فانْتَبِهُوا جميعاً لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله يَسْجُد له أيْ يَسْتَسْلِم ويَنْقاد ويَخْضَع لإرادته تعالي وحده لا لإرادة غيره كلّ مَن في السماوات وكلّ مَن في الأرض من أيِّ نوعٍ مِن أنواع المخلوقات، وكذلك بالقطع الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوابّ وهي كل ما دبَّ على الأرض مِن أيِّ دابَّة ومَشَىَ على ظهرها من أيِّ مخلوق، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة البَشَر، وكذلك الملائكة حتما فهي مِمَّا في الكوْن، جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه غير مَرْئِيّ خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه وهي لا تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كلّ ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير، فكلّ شيءٍ في كوْنه سبحانه هو مُنْقَادٌ خاضِعٌ مُسْتَسْلِمٌ له، سواء أكان بَشَرَاً أم غيره، عاقِلَاً أم غير عاقل، فيه روح أم لا، كبيراً أم صغيراً، قوياً أم ضعيفاً، حتي ظلال الأشياء كما في آيات أخري، من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. هذا، وتخصيص هذه المخلوقات بالذكر رغم أنها مِمَّا في السماوات والأرض لشهرتها حيث يعلمها الجميع ولِتَذْكِرَة بعض السفهاء الذين قد يعبدون بعضها لقوّتها وقُدْرَتها أنها من مخلوقات الله التي هي أيضا تسجد له أيْ تَعبده فلا تُعْبَد إذَن!.. ".. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.." أيْ وكذلك يَسجد له كثيرٌ من الناس طاعة واختياراً وهم المسلمون أيْ المُسْتَسْلِمون لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ المُتمسّكون العامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبالٍ وانشراحٍ وسرورٍ الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك، لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ومِن ضِمْن اسْتِسْلامهم وعملهم بإسلامهم أنهم يَسْجُدون له مُتَوَاضِعين خاشِعين ساكِنين علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، ويَكْتَسِبون من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا يَسْتَعْلُون عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.." أيْ وكذلك كثيرٌ من الناس وَجَبَ وثَبَتَ عليه العذاب في دنياه وأخراه لأنه يَسْتَحِقّه وهُم الذين أصَرُّوا بلا توبةٍ حتي مَوْتهم علي الاسْتِكْبار علي السجود أيْ الاسْتِسْلام له سبحانه بأنْ تَرَكُوا الإسلام كله أو بعضه وفَعَلُوا الشرور والمَفاسِد والأضرار فيُعَذّبون علي قَدْرِها في الداريْن سواء أكانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم ظالمين أم فاسِدين مُفْسدين لغيرهم أم مَن شابههم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الرعد "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"، والآيتين (48)، (49) من سورة النحل "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ"، "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)" أيْ وأيّ إنسانٍ يُذِلّه الله تعالي ويَحُطّ من شأنه ويُحَقّره ويَجعله مُسْتَخَفَّاً مُسْتَهْزَءَاً به مِن غيره في عارٍ وفضيحةٍ ووَضَاعَةٍ وإهانةٍ بالإساءة إليه بالأقوال والأفعال مِمَّن حوله وبالجملة مُعَذّبَاً تَعِيسَاً في الداريْن، بسبب سُوئه فلم يَظلمه سبحانه حتماً حيث هو الذي وَضَعَ نفسه في هذا المَوْضِع الحَقير بسبب تَرْكِه للإسلام كله أو بعضه وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار التي تُذِلّ نفسه وتُهينه وتَجعله حقيراً مَفْضُوحَاً مَضْحُوكَاً عليه ضعيفاً خفيفاً سَفِيهَاً تَعِيسَاً بين الناس، فمِثْل هذا الإنسان ليس له أيّ مُكْرِم أيْ أحد يُكْرمه أيْ يُعِزّه ويَرْفع شأنه ويُقَدِّره ويُوَقّره ويَحْتَرِمه ويُشَرِّفه ويُحْسِن إليه وبالجملة يَدْفَع عنه عذابه ويُسْعِده، ما دام الله تعالي القويّ العزيز لم يُرِدْ أنْ يُكْرِمه وإنما يريد أنْ يُهينه، لأنَّ الله يَفعل ما يشاء، أيْ لأنَّه علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم، ومِن ذلك إثابة المُحْسِن ومُعاقَبَة المُسِيء بكلّ عدل.. إنَّ علي المسلم أنْ يتأكّد تماماً بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)"، "يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)"، "وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)"، "كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)"، "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)"، "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)"، "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)" أيْ هذا بيانٌ لحال السعداء في دنياهم وأخراهم في مقابل حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذان خَصْمان أيْ فريقان مُتَنَازِعان مُخْتَلِفان مُتَجَادِلان مُتَضَادَّان مِن الناس، وهما فريق المؤمنين وفريق الكافرين والمُتَشَبِّهين بهم، اخْتَصَمُوا أيْ تَنَازَعُوا واخْتَلفوا وتَجَادَلوا في ربهم أيْ في أمر وشأن ربهم أيْ في وجوده تعالي وفي أنه واحدٌ وقادرٌ علي كل شيءٍ عليمٌ به، وفي صلاحية شَرْعه الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد كل البشريَّة إلي يوم القيامة، وفي البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار، فالمؤمنون يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بكل هذا بينما الكافرون وأشْباههم يُكَذّبونه، والفريق المؤمن يُخاصِم الفريق الكافر في كل زمانٍ ومكانٍ أيْ يَختلف معه ويُحاوِره ويأتيه بالأدِلّة والحُجَج ويَدْعوه لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، بينما الفريق المُكَذّب لا حُجَّة له ولا دليل ويَسْتَكْبِر ويُرَاوِغ ويُقاوِم ويُؤذِي معنوياً ومادِّيَّاً فريق المؤمنين، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويَفْعل ذلك رغم كل هذا التذْكِير والتحْذير الشديد من أهوال زَلْزَلَة الساعة لكي يُحْسَن الاستعداد لها بالعمل بالإسلام، ومع كل هذا الوضوح لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من خلال مُعْجِزَاته ودلالاته سبحانه في كل مخلوقاته في كل كوْنه علي أنه تعالي هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومع وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلَ به الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة.. ".. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)" أيْ هذا تفصيلٌ لِمَا أَجْمَله تعالي بقوله في الآية (17) ".. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." وبيانٌ لحَالِ كلِّ خِصْمٍ مِن الخِصْمَيْن وحُكْمه سبحانه فيه، فالذين كفروا – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – قُطّعَتْ أيْ فُصِّلَتْ لهم ثيابٌ من نارٍ علي قَدْر أجسامهم والمقصود أنَّ النار تُحيط بهم من كل جانِبٍ ومُلْتَصِقة بأجسادهم كالثياب المُفَصَّلَة علي مَقاسِهم بما يُفيد شِدَّة عذابهم واستمراره ويأس نجاتهم منه، ولزيادة تعذيبهم وإهانتهم وإذلالهم يُصَبُّ أيْ يُسْكَبُ ويُنْزَلُ ويُفاضُ ويُلْقَيَ عن طريق ملائكة العذاب علي رؤوسهم الحَميم وهو الماء المَغْلِيّ الذي وَصَلَ أقصي درجات الحرارة.. "يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من عذابهم وألَمِهم وتفصيلٌ لبعضه ولبعض آثاره.. أيْ يُذاب بهذا الحميم ما في بطونهم من أمعاء وغيرها والجلود كذلك يُذيبها، وذلك لشِدَّة وقَسْوَة حرارته.. "وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)" أيْ وأُعِدَّتْ لهم مَضَارِبُ مَصْنُوعَة من حديدٍ تَضربهم بها ملائكة العذاب، لزيادة عذابهم وألمهم وإذلالهم وإهانتهم.. "كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)" أيْ كلّما أرادوا الهَمَّ بمُحاوَلَة أن يَخرجوا من النار بسبب ما يَنالهم فيها مِن غَمٍّ شديدٍ أيْ حُزْنٍ وألمٍ وتعاسة، أيْ بمُجرّد محاولتهم الهروب من أماكن عذابهم وغَمّهم وحُزْنهم وألمهم وتعاستهم أُعِيدُوا فيها أيْ أُرْجِعُوا إليها مرّة أخري ويُقالُ لهم من ملائكة العذاب علي سبيل مزيدٍ من العذاب النفسيّ القوليّ – إضافة للجَسَديّ – والإهانة والإذلال وقطع أيّ أملٍ لهم في الخروج منه: اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عَمَلِيَّاً مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. وذلك قطعا بعد نار وحريق وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم – وهم الخَصْم الكافر من الخَصْمَيْن الذين اخْتَصَمُوا في ربهم – يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما، وهم الخَصْم المؤمن – ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الله الخالق الكريم الودود الغفور الرحيم يوم القيامة يُدْخِل الذين صَدَّقوا بوجوده وتمسّكوا بأخلاق إسلامهم جنّاتٍ أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فهذا هو وَعْده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)" أيْ يَتَزَيَّنون فيها بكل ما يُسعدهم كأساور الذهب واللؤلؤ ونحوها – جَمْع سِوار وهو حِلْيَةٌ مستديرة كالحلقة تُلْبَس في اليد – والملابس الحريرية وما شابه هذا ممّا لا يُوصَف.. "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)" أيْ وأُرْشِدُوا من الله تعالي خالِقهم وهادِيهم لكل خيرٍ وسعادةٍ إلي الطيِّب كله أي الحَسَن الجميل كله من القوْل كله في كل وقتٍ وأرْشِدُوا كذلك إلي صراط الحميد أيْ إلي صراط الله الذي من صفاته أنه الحميد أيْ إلي طريق الله أيْ إلي طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ إلي طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والحميد هو المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون، وهو أيضا الكثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهذا الإرشاد إلي الطيِّب من القول وإلي صراط الحميد يكون في كلٍّ مِن دنياهم وأخراهم، أمَّا في دنياهم فقد اختاروا هم أولا بكامل حرية إرادة عقولهم الإيمان واتّباع الإسلام حيث أحْسَنُوا استخدام هذه العقول واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فأرْشَدهم سبحانه بسبب ذلك بعد هذا الاختيار الطيِّب إلي القول الطيِّب وإلي صراطه المستقيم أيْ وَفّقهم ويَسَّرَ لهم أسبابه كما يقول تعالي "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، والقول الطيِّب هو كلمة الإسلام أيْ كلمة التوحيد أيْ كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أيْ كل كلمات القرآن الكريم أيْ كلّ وَصَايا الإسلام وما يَتْبَعَها مِن كلِّ ذِكْرٍ لله ومن كلّ كلمةِ خيرٍ وحقّ وعدلٍ وحُسْنٍ وجمالٍ وطِيِبَةٍ وكل عملٍ صالحٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ للجميع وهذا العمل الصالح المُسْعِد هو صراط الحميد الذي هُدُوا إليه مع هِدايتهم للطيِّب من القول.. وأمَّا في أخراهم فقد هُدُوا من الله تعالي إلي صراط الحميد أيْ إلي طريق الله وهو الجنة وهُدُوا وهم فيها يَتَنَعَّمُون بنَعِيمها إلي القول الطيِّب وهو الحمد والتسبيح والتكبير علي حُسْن الخَاتِمَة حيث نَعِيمه سبحانه الذي لا يُوصَف في جنّاته وإلي القول الحَسَن الجميل فيما بين المؤمنين بداخلها والذي كله سلام وأمن وحبّ وخير وسعادة وما يَتْبَعه مِن حُسْن تَعَامُلٍ فيما بينهم (برجاء لاكتمال المعاني عن بعض تفاصيل ما يُرْشَدُون إليه من القول الطيِّب يوم القيامة في الجنة مراجعة الآية (74) من سورة الزمر "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)"، والآية (34)، (35) من سورة فاطر "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)"، "الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)"، والآية (43) من سورة الأعراف ".. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.."، والآية (10) من سورة يونس "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ").. "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا يَصُدُّون عن سبيل الله أيْ يَمْنَعُون غيرهم عن طريق الله أيْ يَمنعونهم عن الدخول في دين الله الإسلام ويُؤذونهم ويُحاولون رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، يَمنعونهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يَمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.." أيْ وكذلك يَصُدُّون المؤمنين عن دخول المسجد الحرام بمَكّة المُكَرَّمَة للحجّ وللعُمْرَة وللطواف وللصلاة وللذكْر وللعلم ولكل عملٍ مُفيدٍ نافعٍ في الداريْن حيث هو قِبْلتهم ومكان تَجَمّعهم بل هو بيت الله الحرام في أرضه الذي جعله رَمْزاً لأنْ يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعاً فيكون هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (125) من سورة البقرة "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا.."، والآية (96) من سورة آل عمران "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.." أيْ ويَصُدُّون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس الذين آمنوا، جميعا علي العموم، سواءً، أي جعلناه يَسْتَوِي في حقّ الطواف والصلاة والذكر والحجّ والعمرة والأمان به والاجتماع فيه وتبادُل الآراء والخبرات والمنافع، كلٌّ مِن العاكِف فيه أيْ المُقيم في منْطَقته بمكة المُكَرَّمَة والبادِي أي القادِم إليه من البادِيَة وهي المكان المُتّسِع الصحراويّ البعيد عن المدينة والمقصود القادم إليه الزائر له لفترةٍ مِن أيِّ مكانٍ في الأرض، حيث هو ليس ملْكَاً لأحدٍ ولا يَتَمَيَّز فيه أحدٌ عن غيره بل كلّ المسلمين فيه سواء أيْ يَتَساوون.. ".. وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)" أيْ وأيّ إنسانٍ يُريد في هذا المسجد الحرام إرادةً بإلحادٍ أيْ بمَيْلٍ عن الحقّ يكون بظلمٍ أيْ بسبب ظلمٍ يرتكبه أيْ عِصْيَانٍ لله وللإسلام يَفعله، سنُذيقه أيْ سنَجْعله يَسْتَشْعِر ألم ويَذوق عَمَلِيَّاً مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذابٍ يكون من عذابٍ أليمٍ أيْ مُوجِعٍ مُهينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف، علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره، وفيه كذلك تعظيمٌ كبيرٌ لحُرْمَة بيت الله المسجد الحرام
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حاجَّاً أو مُعْتَمِرَاً.. فكلٌّ من الحجّ والعُمْرَة هو مؤتمر سنويّ أو دوريّ يجتمع فيه المسلمون من كل مكانٍ يتحاوَرون فيه في مناخٍ ربَّانِيٍّ أخَوَيٍّ وُدِّيٍّ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهو دورة تدريبية لفترةٍ لتقويةِ إرادة العقل فيمتنع بعدها عن فِعْل أيِّ شَرٍّ ويَنطَلِق بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير.. وهو زادٌ مُكَثّفٌ مُرَكّزٌ يَستزيده المخلوق بتواصُلِه المستمرّ مع خالقه دون انشغالٍ فيعود بعدها لحياته اليومية بطاقاتٍ خيريةٍ تُفَجِّر كل خيرٍ فيه ومَن حوله فينطلقون يكتشفون حياتهم ويُطَوِّرونها ويَنتفعون ويَسعدون بكل خيراتها ولحظاتها.. وهو تدريبٌ علي تمام الالتزام بكل أخلاق الإسلام صغرت أم كبرت وسواء أكانت شعائر تُحَرِّك المَشاعِر الإنسانية بالعقول أم معاملات تَرْقَيَ بالحياة وتُصلحها وتُكملها وتُسعدها.. وهو تعليمٌ وممارسة للحوار الأخَوَيّ الصادق الهاديء الهادف البَنَّاء الذي يبتغي بحقّ الوصول لكل خير وإصلاح وإسعاد بعيدا عن أيِّ جدالٍ والذي هو عكس ذلك.. وهو مُمَارَسَة عملية للتواضع إذ الجميع متساوون، وللنظام والانضباط رغم الأعداد الهائلة، ولتبادل المنافع والعلوم والتجارات وغيرها بكل صدق وأمانة وإتقان
هذا، ومعني "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين بَوَّأْنا أيْ هَيَّأْنا وجَهَّزْنا وأعْدَدْنا وبَيَّنّا وأرْشَدنا ومَكّنَّا لإبراهيم مكان البيت الحرام لِيَبْنِيه بعَوْننا وإرْشادنا وتَوْفِيقنا وتَيْسِيرنا ورحمتنا ليكون قِبْلَة للناس جميعاً ومَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ لهم كلهم فيكون هو أصل وحدتهم وتقارُبهم وتلاقيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (125) من سورة البقرة "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا.."، والآية (96) من سورة آل عمران "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا.." أيْ ووَصَّيْنَاه وقلنا له ليُبَلّغه لكلِّ أحدٍ مِن الناس أنْ لا تُشْرِك بي شيئاً من الشرْك أبداً في العبادة أي الطاعة فلا تُشْرِك أيها الإنسان معي آلهة أخري غيري تَعْبُدها كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها فأنا الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معي شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معي شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)" أيْ ووَصّيْناه كذلك أن يقوم بتنظيف وصِيانة بيتي مِن كل مَا لا يليق به من أقذارٍ سواء أكانت معنوية كالشرور والمَفاسد والأضرار أم حِسِّيَّة كالقاذورات ونحوها ليكون مُهَيَّئاً علي أكمل وجهٍ للطائفين أيْ لكل مَن أراد أن يطوف به والقائمين أيْ لكل من أراد أنْ يُقيم فيه لذِكْرٍ أو دعاءٍ أو علمٍ أو نفعٍ مَا والرّكّع السجود أيْ المُصَلّين فيه حيث الرّكّع جَمْع راكِع والسُّجود جَمْع ساجِد.. هذا، وقد أضاف سبحانه البيت إليه لمزيدٍ من تكريمه وتشريفه وتعظيمه وحبه والاهتمام به من المسلمين لكوْنه بيت الله خالقهم ورازقهم وراعيهم الكريم الرحيم.. وهكذا يجب أن يكون التعامُل مع كل مساجد الله تعالي في الأرض في كل مكانٍ وزمان
ومعني "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)" أيْ ونادِي وأعْلِن وأعْلِم في الناس بفريضة الحجّ، يا رسولنا الكريم إبراهيم ويا رسولنا الكريم محمد مِن بَعْدِه، يحضروا إليك، أيْ إلي بَيْتِي، علي اختلاف أحوالهم قَدْر استطاعتهم، فيكونون رِجَالَاً أيْ رَاجِلِين أيْ سائرين علي أرْجُلِهم لِمَنْ كان قريباً منه مُستطيعاً للسَّيْر ويكونون كذلك راكِبين علي كلِّ ضامرٍ أيْ مُتْعَبٍ والمقصود علي كلِّ مَرْكُوبات يَأتِين أيْ يَصِلْنَ للبيت مُتْعَبَاتٍ بسبب بُعْدِ المسافة التي أَتَيْنَ منها لشِدَّة حِرْصِ راكبيها علي الحُضُور حيث حَضَرت من كل فجٍّ عميقٍ أيْ طريقٍ بعيد
ومعني "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)" أيْ يَأْتُون لِبَيْتي المُحَرَّم المُكَرَّم المُعَظّم يَحِجُّون ويَعْتَمِرُون لكي يَحْضُروا ويَروا ويُعَايِنُوا ويَنْتَفِعوا مَنافع لهم وسعاداتٍ في دنياهم وأخراهم، ففي الدنيا أولا كلٌّ من الحجّ والعُمْرَة هو مؤتمرٌ سنويّ أو دوريّ يجتمع فيه المسلمون من كل مكانٍ يتحاوَرون فيه في مناخٍ ربَّانِيٍّ أخَوَيٍّ وُدِّيٍّ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وهو دورة تدريبية لفترةٍ لتقويةِ إرادة العقل فيمتنع بعدها عن فِعْل أيِّ شَرٍّ ويَنطَلِق بهِمَّةٍ لفِعْل كلّ خير.. وهو زادٌ مُكَثّفٌ مُرَكّزٌ يَستزيده المخلوق بتواصُلِه المستمرّ مع خالقه دون انشغالٍ فيعود بعدها لحياته اليومية بطاقاتٍ خيريةٍ تُفَجِّر كل خيرٍ فيه ومَن حوله فينطلقون يكتشفون حياتهم ويُطَوِّرونها ويَنتفعون ويَسعدون بكل خيراتها ولحظاتها.. وهو تدريبٌ علي تمام الالتزام بكل أخلاق الإسلام صغرت أم كبرت وسواء أكانت شعائر تُحَرِّك المَشاعِر الإنسانية بالعقول أم معاملات تَرْقَيَ بالحياة وتُصلحها وتُكملها وتُسعدها.. وهو تعليمٌ وممارسة للحوار الأخَوَيّ الصادق الهاديء الهادف البَنَّاء الذي يبتغي بحقّ الوصول لكل خير وإصلاح وإسعاد بعيدا عن أيِّ جدالٍ والذي هو عكس ذلك.. وهو مُمَارَسَة عملية للتواضع إذ الجميع متساوون، وللنظام والانضباط رغم الأعداد الهائلة، ولتبادل المنافع والعلوم والتجارات وغيرها بكل صدق وأمانة وإتقان.. ثم في الآخرة لهم بالقطع عظيم ثواب وسعادات كل هذا الذي سَبَقَ ذِكْره مع مَغْفِرة كل ذنوبهم السابقة كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطْلَقَاً في قول رسوله الكريم محمد (ص) "مَن حَجَّ فلم يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّه" (أخرجه البخاري والمسلم)، وقوله " العُمْرَة إلى العمرةِ كفّارَة ما بينهما، والحجُّ المَبْرُور ليس له جزاء إلا الجنة" (أخرجه البخاري ومسلم)، فيدخلون بذلك أعلي درجاتِ جنّاتٍ فيها مَا لا عينٌ رَأَتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.." أيْ ولكي يَذكروا اسم الله كثيراً بالتلبية والتهليل والدعاء بعقولٍ ومشاعر بداخلها حاضِرَة مُتَدَبِّرَة لأنَّ الذكْر فى تلك الأماكن المُقَدَّسَة والأوقات الفاضلة يُحَرِّك المَشَاعِر فتنطلق لفِعْل كلّ خيرٍ مُسْعِدٍ في الدنيا والآخرة في الحجّ ويُدَرِّب علي الاستمرار علي ذلك في كل شئون الحياة بعد العودة منه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (152) من سورة البقرة، والآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. ".. فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ.." أيْ في أيامٍ مَعْروفاتٍ قليلاتٍ يُمكن عَدَّها لا كثيرات، هي أيام الحجّ، فاغْتَنِمُوا هذه الفُرْصَة ولا تَدَعُوها تَفوتكم، لِتَعْتَادُوا بذلك علي دَوَام الذكْر بعد عودتكم.. ".. عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.." أيْ وهذا أيضاً من بعض المنافع، أيْ ويذكروا اسم الله كثيراً شكراً له علي ما أعطاهم من كل أنواع الأرزاق التي لا تُحْصَيَ والتي منها بَهِيمة أيْ حيوان الأنعام، جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي حيوانات الإبل والبقر والغنم، كما يَذْكروه بالقطع علي ذَبْح مَا رزقهم منها عند ذَبْحها لأكلها أو للتّصَدُّق بها بعضها أو كلها وذلك بقول بسم الله عند الذبح.. ".. فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)" أيْ فإذا ذَبَحْتموها كلوا منها وتَمَتّعوا واسْعَدُوا وأطْعِمُوا معكم منها أيضاً ومَتّعوا وأَسْعِدوا الإنسان البائس الفقير أيْ الذي أصابه بُؤسٌ أيْ شِدَّةٌ بصورةٍ مَا بجانِبِ فقره أيْ احتياجه، ليسعد الجميع بذلك في الداريْن، وذِكْر الفقير بعد البائس هو لمزيدٍ من التوضيح والتأكيد وإلهاب وزيادة مَشَاعِر العطف والاهتمام بكل أمثال هؤلاء ومَن يُشْبِههم
ومعني "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)" أيْ ثم بعد إتمام الحجّ عليهم أنْ يَقضوا تَفَثهم أيْ يَفْصِلُوا قاذوراتهم وأوْساخهم أيْ يُزيلوها عنهم ويَتَنَظّفوا منها وهي التي حَدَثَت أثناء فترة الإحرام فيَقوموا بحَلْق شَعْر الرأس وتَهْذيبه ونَتْف شَعْر الإبِط وقصّ الأظافر ولبس الثياب المُعْتَادَة والتّعَطّر بالعُطور ونحو ذلك، وأيضا عليهم أنْ يُوفوا نُذورهم أيْ مَن كان نَذَرَ نَذْرَاً مَا فعليه القيام بالوفاء به أيْ بالالتزام بأدائه وتنفيذه وافِيَاً أيْ كاملاً بلا أيِّ نُقْصانٍ أو إخْلافٍ أو تقصيرٍ بغير عُذْر، والنذر هو وَعْدٌ مستقبليٌّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ من مالٍ أو جهدٍ أو فكرٍ أو غيره يشترطه المسلم علي نفسه كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق والعطاء ولِنَيْل أجره في الداريْن.. ".. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)" أيْ وعليهم كذلك أنْ يَخْتِموا زيارتهم وأعمال حجّهم بأنْ يَطُوفوا حَوْل – والشّدَّة في "ولْيَطّوَّفوا" تُفيد تشديد أهمية الطواف والالتزام به – البيت العتيق أيْ القديم حيث هو أول مسجد وُضِعَ للناس في الأرض ليكون أعظم المساجد وأشرفها ولِيَتّجِه إليه الجميع في أيِّ مكان، كما أنَّ عتيق تعني مَعْتُوق أيْ مُحَرَّر مِن أيِّ ملْكِيَّةٍ لأيِّ أحدٍ له ومن إمكانية اعتداءِ أو سَيْطَرَةِ أيّ مُعْتَدِي عليه لأنه بيت الله المُحَرَّم المُعَظّم المَحْفوظ منه تعالي القادر علي كل شيءٍ ولذا فهو آمِنٌ مُسْعِدٌ تمام الأمن والسعادة لكل مَن دخله.. هذا، وتنتهي أعمال الحجّ بهذا الطواف لكي يَتْرُكَ أثَرَاً طيّبَاً في عقولهم كلما تَذَكّروه وليَشتاقوا للعودة إليه كلما استطاعوا فتزداد انتفاعاتهم وسعاداتهم
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)" أيْ ذلك الذي ذُكِرَ لكم سابقاً هو مِمَّا أوْصاكم الله به وفَرَضَه عليكم في الإسلام لتسعدوا بالداريْن فعَظّمُوه – أيْ قَدِّسُوه واعْلُوا مِن شأنه واحْتَرِمُوه وقَدِّرُوه وشَرِّفُوه واسْتَشْعِرُوا قِيمته وأَحِبُّوه وتَذَكَّرُوه وتَعَلّموه واعْمَلُوا به بكلِّ هِمَّةٍ لا بغيره وادعو غيركم له – ومَن يُعَظّم حُرُمَات الله أيْ مَعَاصِيه وهي كلّ مَا حَرَّمَه أيْ مَنَعَه من قولٍ أو فِعْلٍ لِضَرَرِه وتعاسته علي النفس والغَيْر في الداريْن وذلك بعدم الاقتراب منها غاية مَا أَمْكَن وتَرْك أيّ سببٍ يُؤَدّي إليها وعدم فِعْلها بسببِ أضرارها وتعاساتها في الدنيا والآخرة، فهو خيرٌ له عند ربه أيْ فهذا التعظيم بهذا الأسلوب هو خيرٌ له حتماً لأنه سيُؤَدِّي إلي أنْ يَأجره تعالي أعظم الأجْر بكلِّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه، عند ربه أيْ مُجَهَّز مُعَدّ له عنده أيْ عند أمانِه ورعايته وحبِّه وفي ضَمَانه وكَفَالَته ووَعْده الذي لا يُمكن أن يُخْلَف مُطْلَقَاً من عظيم أجرٍ وعطاءٍ، بسبب تعظيمه لحُرُماته، حيث في الدنيا أولا يكون له كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ، ثم في الآخرة سيكون له ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة في نَعيمِ جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.." أيْ وأحَلَّ الله لكم الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – فهي كلها حلال أكلها، فانتفعوا واسعدوا بها، إلا ما يُقرأ عليكم ويُذْكَر لكم في القرآن الكريم وفي سُنَّة رسوله (ص) مِمَّا حُرِّمَ لضَرَرِه (مِثْل ما ذُكِرَ علي سبيل المِثال لا علي سبيل الحَصْر في سورة البقرة الآية (173)، وفي سورة المائدة الآيات (3)، (96)، (103)، وفي سورة الأنعام الآيات (138)، (139)، (143)، (144)، فبرجاء مراجعتها للشرح والتفصيل).. ".. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)" أيْ وما دام الأمر كما ذُكِرَ لكم من وُجُوب تعظيم حُرُمات الله بعدم الاقتراب منها وفِعْلها وأنَّ هذا هو الخير والسعادة بالداريْن فبالتالي إذَن اجتنبوا الرجْسَ من الأوثان أيها الناس والتي هي أعظم المُحَرَّمات وأشدَّها ضَرَرَاً وتعاسة عليكم في دنياكم وأخراكم، أيْ اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، والرجس هو الأمر المُسْتَقْذَر أيْ الشرّ والفساد والضرَر الذي يَتْبَعه تعاسات في الدنيا والآخرة والذي يَرْفضه كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، والأوثان هي الأصنام والمقصود أيّ آلهةٍ تُعْبَد غير الله تعالي، أيْ اجتنبوا أيْ اتركوا هذا الرجس وهو عبادة غيره سبحانه وابتعدوا وامتنعوا عنه تماماً ولا تقربوه أبداً ولا تقربوا مطلقاً أيّ سببٍ يُؤَدّي إليه لضمان الأمن من الوقوع فيه، اجتنبوه كما تَجْتَنِبوا النجاسات أيْ القاذورات، وفي هذا غاية المُبَالَغة في المَنْع عنها والتّنْفِير منها لأنَّ عبادتها قَذَارَة عقلية ونفسية مُضِرَّة مُتْعِسَة لا تَليق بالإنسان إذا كان عاقلا، فهي قطعاً نجاسَة مَعْنَوِيَّة لا حِسِّيَّة لأنَّ مَن يعبدها فقد تَلَوَّث عقله حتماً حيث أوْقَع نفسه بيديه في تمام تعاستيّ دنياه وأخراه! واجتنبوا كذلك قول الزور، فهو أيضا من أعظم الرجْس، والزور هو المَيْل والاعْوِجَاج والانْحراف، أيْ اجتنبوا قول المَيْل عن الحق والصدق والعدل والخير والسعادة، أيْ قول الكذب الشديد المُخَالِف تماماً للحقيقة، علي الله ورسله وكتبه وقرآنه وإسلامه والمسلمين والناس جميعا
ومعني "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من وُجُوب تعظيم حُرُمات الله.. أيْ اجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور بأنْ تكونوا حنفاء لله أيْ مائلين لدين الله الحقّ وهو دين الإسلام عن كلِّ دينٍ باطِلٍ فتكونوا عابدين له وحده مُستقيمين مُقْبِلِين حريصين ثابتين علي دينه مُخْلِصين مُحِبِّين له غير مائلين مُنْحَرِفين عنه، وتكونوا كذلك غير مُشْرِكين به – وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي أن يكونوا حنفاء – أيْ غير عابدين معه أيّ إلاهٍ غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه لأنه هو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال الحُنَفاء لله الغَيْر المُشْركين به السُّعَداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار بعبادة الله تعالي وحده وباتّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ كونوا حُنَفاء لله غير مُشركين به لأنه مَن يُشْرِك بالله فحَاله ومَثَله في خُسْرانه وتَعاسته وهَلاكه التامّ المُؤَكّد في دنياه وأخراه كأنما سَقَطَ من السماء بعدما رُفِعَ إليها فماتَ وهَلَكَ وتَمَزَّقَ جَسَده فتَخْطَفه الطير فلا تُبْقِي له أثراً أو تَرْمِي به الريح بعد تَمَزّقه وتَفَتّته في مكانٍ بعيدٍ فلا يُعْثَر عليه أبداً، والمقصود أنه بسبب شِرْكه قد عَرَّضَ نفسه لأفظع صُوَر الهلاك حيث قد سَقَطَ مِن حِصْن الإيمان ورِفْعَته وعِزّته وكرامته وأنواره وسعاداته في الداريْن إلي ضَيَاع الكفر وانْحِطاطاته ومَذَلّاته وإهاناته وظلُماته وتَعاساته فيهما إذ قد اخْتَطَفته ومَزَّقته وأتْعَسَته الشرور والمَفاسد والأضرار، وفي هذا بيانٌ أنَّ الشّرْك يُؤَدِّى إلى الهلاك المُؤَكّد الذى لا نجاة معه بأيِّ حالٍ إلا بالتوبة والعودة لله وللإسلام لأنَّ مَن يَسْقط مِن السماء فيَتَمَزَّق وتَتَخَطفه الطير أو تلْقِى به الريح فى مكانٍ بعيدٍ لا يُطْمَعُ له فى أيِّ نجاةٍ بل هو هالِكٌ بكل تأكيد، وفي هذا إرشادٌ لوجوب اجْتناب الشرك تماما
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُعَظّمين لشعائر الله تعالي أيْ المُحافظين عليها المُتمسّكين العامِلين بها المُسْتَزِيدين منها، فإنْ فَعَلْتَ هذا كان علامة علي حبك لربك ولدينك وسيشكره لك سبحانه وشكره سيكون مُتَمَثّلاً في كل الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)" أيْ ذلك الذي ذُكِرَ لكم سابقاً هو مِمَّا أوْصاكم الله به وفَرَضَه عليكم في الإسلام لتسعدوا بالداريْن فعَظّمُوه – أيْ قَدِّسُوه واعْلُوا مِن شأنه واحْتَرِمُوه وقَدِّرُوه وشَرِّفُوه واسْتَشْعِرُوا قِيمته وأَحِبُّوه وتَذَكَّرُوه وتَعَلّموه واعْمَلُوا به بكلِّ هِمَّةٍ لا بغيره وادعو غيركم له – ومَن يُعَظّم شعائر الله أيْ مَعَالِم دين الله الإسلام، والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. ".. فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)" أيْ فإنَّ تَعْظيمها أىْ الشعائر ناشِيءٌ من تقوى القلوب ودليل علي وجود هذه التقوي، أي تعظيمها هو من أفعال أصحاب تقوي القلوب أيْ العقول المُتَّصِفَة بتقوي الله أيْ أنَّ المُعَظّم لها يُبَرْهِن على تَقْواه أيْ أنَّ تَعْظِيمه إيّاها يكون علامَة ودلالة مُؤَكّدة علي أنه مِن المُتّقين أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. إنَّ هذا التعظيم لشعائر الله تعالي هو علامَة أكيدة علي حبّ المتقين لربهم ولدينهم وسيَشكره لهم سبحانه وشُكْره سيكون مُتَمَثّلاً في كل الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في دنياهم وأخراهم
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)" أيْ هذا تذكيرٌ ببعض نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ لشكرها لكي يُدِيمها ويزيدها لِمَن شَكَرها.. أيْ لكم أيها المؤمنون في الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – منافع أيْ تَنْتَفِعون وتَسْعَدون بما سَخّره لكم من منافعها كركوبها واستخدام ألبانها وأصوافها ونحو ذلك إلي أجلٍ مُسَمَّي أيْ إلي وقتٍ مُحَدَّدٍ وهو وقت ذبحها للانتفاع بها، وإذا نَوَيْتُم إهدائها لله تعالي أيْ للمُحتاجين ولمَن تهادونهم بها في أيِّ وقتٍ أو في أوقات الحجّ والعمرة فلكم أيضا بعد هذه النية الانتفاع بها بما لا يَضُرّها كركوبها وشرب لبنها ونحو هذا إذا احْتَجْتُم لذلك حتي يأتي أجلها المُسَمَّي بذبحها ثم مَحِلّها أيْ مكان ذَبْحها والذي هو في وقت الحجّ يجب أنْ يَنْتَهي إلي البيت العتيق أيْ يكون عند منطقة الكعبة ومنطقة الحرم كله، لكي تنالوا بذلك عليها من الله تعالي أجوركم بما يُناسِب من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. هذا، وعند بعض العلماء معني لكم فيها أيْ في شعائر الله أثناء الحجّ منافع بالتجارة والأسواق (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من السورة "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) إلي أجلٍ مُسَمَّي أيْ إلي وقت انتهاء الحجّ ثم مَحِلّ هذه الشعائر أيْ مكان نهايتها بتَحَلّل الحُجّاج من إحرامهم يَنتهي إلي البيت العتيق للقيام بطواف الإفاضة به
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)" أيْ ولكلّ مجموعةٍ مِن الناس السابقين لكم أيها المسلمون الحالّيُّون جعلنا مَنْسَكَاً أيْ عبادة أيْ طاعة أيْ تشريعات وأخلاقِيَّات وأنظمة هي الإسلام لكنْ بما يُناسِب كلّ عصرٍ ليُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم، ومِن هذه المَناسِك أي الطاعات ذبح الذبائح وتقديمها للمُحتاجين تَقَرُّبَاً لله كما هو الحال في الإسلام الآن.. وفي هذا دلالة قاطعة علي أنَّ الإله أيْ المَعْبُود وهو الله تعالي واحدٌ لأنَّ التشريع واحدٌ ولو كانت الآلهة مُتَعَدِّدَة لكانت تَعَدَّدَت التشريعات!.. وفي هذا أيضا دلالة قاطعة علي عظيم رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم فهو لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة، وإنما يُرْسِل إليهم منذ آدم وحتي نهاية الحياة الدنيا وحُدُوث الحياة الآخرة رسله كلّ فترةٍ وآخرهم رسوله الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وفيها الإسلام الذي يُناسِب عصرهم وآخرها القرآن العظيم المُناسِب لهم بكل مُتَغَيِّراتهم ومُتَغَيِّرات حياتهم حتي يوم القيامة، لكي يَطْمَئِنّوا ويَسْتَبْشِرُوا ويَسْعَدوا ويَتَسابقوا في العمل بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن كما تَسَابَق المؤمنون من الأمم السابقة فسعدوا فيهما.. ثم بناءً علي كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره فبالتالي علي المسلمين أن يُحْسِنوا دعوة الآخرين علي اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم ويَصْبِرُوا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) وسيَسْتَجِيبون لو أحسنوا استخدام عقولهم لأنهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وها هو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويُضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.." أيْ وذلك لكي يَذكروا اسم الله كثيراً بالتلبية والتهليل والدعاء بعقولٍ ومشاعر بداخلها حاضِرَة مُتَدَبِّرَة لأنَّ الذكْر يُحَرِّك المَشَاعِر التي تَدْفع المسلم للفِعْل الدائم لكلّ خيرٍ مُسْعِدٍ له وللجميع في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (152) من سورة البقرة، والآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة).. ".. عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.." أيْ ليذكروا اسم الله كثيراً شكراً له علي ما أعطاهم من كل أنواع الأرزاق التي لا تُحْصَيَ بفضله وكرمه ورحمته ليُدِيمها ويزيدها لهم والتي منها بَهِيمة أيْ حيوان الأنعام، جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي حيوانات الإبل والبقر والغنم، كما يَذْكروه بالقطع علي ذَبْح مَا رزقهم منها عند ذَبْحها لأكلها أو للتّصَدُّق بها بعضها أو كلها وذلك بقول باسم الله عند الذبح.. ".. فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.." أيْ فبالتالي وبِمَا أنَّ التشريع واحدٌ لكل الناس في كل زمانٍ ومكانٍ إذَن فإلاهُكُم أيها الناس إلاهٌ واحدٌ أيْ مَعْبُودكم مَعْبُودٌ واحدٌ لا شريك له في العبادة أي الطاعة ولا يَسْتَحِقّها غيره مطلقاً لأنه لو كانت الآلهة مُتَعَدِّدَة لكانت تَعَدَّدَت التشريعات! فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. فَلَهُ أَسْلِمُوا.." أيْ فبالتالي إذَن له وحده لا لغيره أسْلِمُوا أيْ اسْتَسْلِمُوا لوَصَياه وتشريعاته أيْ تَمَسَّكُوا واعْمَلُوا بكل ما أَوْصاكم به من أخلاق إسلامكم في كل شئون حياتكم واثْبُتُوا دائماً عليها وأَخْلِصُوا أثناءها لتسعدوا بذلك فيها ثم في آخرتكم.. ".. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائماً المُخْبِتين – أيْ المُطْمَئِنّين المُسْتَقِرِّين في كل حياتهم بتَوَاصُلهم الدائم مع ربهم ودينهم الراضِين بهما المُجْتَهِدين في طاعتهما المُتَوَاضِعين المُسْتَسْلِمين الخاشِعين المُخْلِصِين لهما العادِلين في كل أقوالهم وأفعالهم العائدين إليهما بالتوبة سريعاً من أيِّ خطأ اللّيِّنِين أصحاب المَشاعِر الرقيقة – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم مِن ربهم أجراً كبيراً علي هذا أيْ عطاءً هائلاً عظيماً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً لا يعلم وَصْفه إلا وَاهِبه الكريم الرحيم سبحانه، في دنياهم حيث تمام الخير والسعادة، ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في نعيم جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المُخْبِتُون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
ومعني "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)" أيْ هذا مدحٌ لمَن يَتّصِف من المسلمين بهذه الصفات العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنه تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم.. أيْ وبَشّر المُخْبِتين الذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة، والتي علي كل مؤمنٍ أن يَقْتَدِيَ بها ويَجتهد في الوصول إليها والعمل بها، أنهم هم الذين إذا ذُكِرَ الله تعالي أمامهم أو تَذَكّرُوه هم اهْتَزَّتْ وتَحَرَّكَت وارْتَعَشَت وأشْفَقَت مَشاعِر عقولهم وأجسادهم لأيِّ شيءٍ يُذَكّرهم به سواء أكان آية من آياته أيْ معجزاته في أيِّ مخلوقٍ في كل كوْنه أم كان آية من آيات القرآن العظيم أم صفة من صفاته الكاملة الحُسْنَيَ ككمال علمه وتمام قُدْرته وعظيم مُلْكه ومُرَاقبته ونِعَمه ورحماته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وذلك الوَجَل سببه الحبّ له، والهَيْبَة منه، والشعور بعظمته وقُدْرَته وكماله، والتّحَرُّج من قِلّة أعمالهم الخَيْرِيَّة – رغم كل ما يُقَدِّمونه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمَقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير، والخوف من بعض تقصيرهم أو عدم إكمالِ وإحسانِ كلّ قولٍ وعملٍ مَا أمْكَن، والحَذَر من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليّ، وبالجملة فعقولهم دائما مُتَوَاصِلَة مع ربهم ودينهم الإسلام حَسَّاسَة مُرْهَفَة تَتَحَرَّك وتَتَفاعَل بما يُناسِب الصورة التي ذَكَرُوا الله عليها فيَستجيبون إمّا بمشاعر حبٍّ أو هَيْبَةٍ أو حَرَجٍ أو خوفٍ أو حَذَرٍ أو مُرَاجَعَةٍ للذات أو تَدَبُّرٍ أو توبةٍ أو أملٍ أو استبشارٍ أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكل ذلك، وبهذا يَحْيَوْن حياتهم في سعادةٍ تامَّةٍ ويستبشرون بما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم.. ".. وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ.." أيْ والذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك أنهم دَوْمَاً من الصابرين عموماً أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ ومن الصابرين خصوصاً علي ما أصابهم في حالة إنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صَبَرُوا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ.." أيْ والذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك أنهم يُواظِبُون علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة ويُؤدونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المَخْلُوق وخالِقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)" أيْ والذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك أنهم يُنفقون مِمَّا رزقناهم أيْ أعطيناهم من خيرٍ لا يُحْصَيَ، بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، ويشمل الإنفاق قطعا إعطاء الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُعَظّمون شعائر الله تعالي (برجاء مراجعة الآية (32) من هذه السورة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يُعَظّمون كلّ حُرُمات الله تعالي فيُحَرِّمونها ولا يَقتربون منها أبداً (برجاء مراجعة الآية (30)، (31) من هذه السورة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الشاكرين لله علي كل نِعَمه التي لا تُحْصَيَ (برجاء مراجعة الآية (33) من هذه السورة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره من التّوْصِيَة بذِكْر اسم الله كثيراً شكراً له علي ما أعطانا من كل أنواع الأرزاق التي لا تُحْصَيَ بفضله وكرمه ورحمته ليُدِيمها ويزيدها لنا والتي منها البُدْن، وهي الإبل والبقر، جَمْع بَدَنَة، وسُمِّيَت كذلك لبَدَانتها أيْ لِسِمْنَتها وضَخَامتها، كما نَذْكُره بالقطع علي ذَبْح مَا رَزَقَنا منها عند ذَبْحها لأكلها أو للتّصَدُّق بها بعضها أو كلها وذلك بقول باسم الله عند الذبح.. أيْ وجعلنا لكم ذَبْح البُدَنَ من بعض شعائر الله أيْ مَعَالِم دين الله الإسلام، والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. فَذَبْح البُدْن جعلناها من شعائرنا لتَتَقَرَّبُوا بها إلينا من خلال الأكل منها وإعطائها للمحتاجين ولمَن تُهادونهم بها لكي تنالوا بذلك عليها منّا أجوركم بما يُناسِب من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ".. لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ.." أيْ لكم في البُدْن خيرٌ كثيرٌ في الداريْن حيث في دنياكم تنتفعون وتسعدون بخيراتها كأكل لحومها وشرب ألبانها واستخدام جلودها مع التجارة فيها والربح منها وذبحها لإهدائها للمُحْتاجين ثم في أخراكم تسعدون بخير أجوركم علي قَدْر نوايا الخير بعقولكم عند انتفاعكم بها.. إنه لكم فيها خيرٌ حتماً لأنَّ حُسْن الانتفاع بها سيُؤَدِّي إلي أنْ يَأجركم تعالي أعظم الأجْر بقدر نواياكم بكلِّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، حيث في الدنيا أولا يكون لكم كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ، ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة في نَعيمِ جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ.." أيْ فإذا جَهَّزْتُمُوها لذَبْحها اذكروا اسم الله عليها بقول باسم الله عندما تكون صَوَافَّ أيْ مُصْطَفّة مُعَدَّة للذبح.. ".. فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ.." أيْ فإذا وَقَعَتْ جَوانِب أجسامها علي الأرض بسبب ذبحها أيْ فإذا ذَبَحْتموها كلوا منها وتَمَتّعوا واسْعَدُوا وأطْعِمُوا معكم منها أيضاً ومَتّعوا وأَسْعِدوا الإنسان القانع وهو الفقير المُقْتَنِع بحاله أيْ الراضِي به العفيف الذي لا يسأل وكذلك الإنسان المُعْتَرّ وهو الفقير الذي يَكْشِف ويُعَرِّي فَقْرَه ولا يَسْتُره لكي يُعْطَيَ وهو يَعْتَرِى الأغنياء أىْ يَذْهب إليهم ويَلْحَق بهم سائلاً عطاءهم أو يَتَعَرَّض لهم ليَروا الفقر الذي هو فيه فيُعطوه، فأعطوا كُلّاً منهما فهو فقير له حقّ فيها، ليسعد الجميع بذلك في الداريْن.. ".. كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)" أيْ هكذا ذَلّلْنَا ويَسَّرْنا وسَهَّلْنا البُدْنَ لكم، وكما سَخَّرْنا لكم الكوْن كله بكلِّ خيراته لإسعادكم كذلك سَخَّرْنَاها لكم، ولولا تَسْخِيرنا لَمَا أمكنكم أبداً الانتفاع والسعادة بأيِّ شيء، لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (177) من سورة البقرة "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير للمسلمين بأهمية التقوي والإخلاص في كل قولٍ وعمل، ومزيدٌ من التذكير لهم بأن يُحسنوا ترتيب الأوْلَوِيَّات في حياتهم، فلا يهتمّون بالشكل عن المَضْمُون، وإنْ كان كلاهما مطلوب، أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ، أو بما يُمكن تأجيله عن العاجِل الذي لابُدَّ تعجيله بلا تأخير، أو بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف، ونحو ذلك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (177) من سورة البقرة "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وكذلك مزيدٌ من التذكير لهم بأنه سبحانه مَا شَرَعَ الشعائر – والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ – إلا لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالتقوي والإخلاص والصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. أيْ لن يَنالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها أيْ لن يَصِلَ الله أيْ لله أيُّ شيءٍ بالقطع من هذه اللحوم وغيرها من المنافع فهي لكم أنتم وهو سبحانه الغنيّ الذي لا يحتاج لشيءٍ ولكنْ يَصِله أيْ الذي يَصِل إليه حتماً منكم هو التقوي أيْ تقواكم وإخلاصكم بمعني أنَّ ذلك هو الذي يَقْبله منكم ويُسَجِّله ويَحْفظه لكم عنده في سِجِّل حسناتكم ويَشكركم عليه بأنْ يَجزيكم خير الجزاء في دنياكم حيث كل الخير والسعادة ثم في أخراكم حيث ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، أمّا اللحوم والدماء فكيف تَصِل إلي الله تعالي!! فالمقصود إذَن ليس الذبح لذاته أو هو وفقط وإنما المقصود مَا يُصاحِبه ويَنْتُج عنه من تقوي وإخلاصٍ وقُرْبٍ من الله وتَوَاصُلٍ دائمٍ معه طوال الحياة لتَتَحَقّق السعادة، والتقوي هي خوف الله تعالي ومُراقبته وطاعته وجَعْل بين المُتّقِي وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، ويكون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعده ولو للحظة عن حب ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِل أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارع لفِعْل كل خيرٍ يُسعده ومَن حوله.. إنَّ خلاصة الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أنَّ هَدَف الذبح وأيّ شَعِيرَةٍ هو الدفْع والعَوْن للتمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وأنَّ أيّ قولٍ أو عملٍ بلا إخلاصٍ لله تعالي أيْ كان يَقْصِد قائله أو فاعله رياءً للناس أيْ لِيُريهم ذلك فيَمدحوه أو يَمْتَنِعُوا عن ذمِّه ولا يريد به رضا الله وعوْنه وإسعاده له في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة فهو غير مَقْبُولٍ ولا أجر له بل قد يكون عليه عقاب بالداريْن لو أدَّي لضَرَرٍ مَا كالتّعَالِي علي الغَيْر أو الكذب أو نحو هذا (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء).. ".. كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ.." أيْ هكذا ذَلّلَ ويَسَّرَ وسَهَّلَ الله الأنعام لكم، وكما سَخَّرَّ لكم الكوْن كله بكلِّ خيراته لإسعادكم كذلك سَخَّرَها لكم، ولولا تَسْخِيره لَمَا أمكنكم أبداً الانتفاع والسعادة بأيِّ شيء.. هذا، واستخدام ذات اللفظ الذي يُفيد التَّسْخِير كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ.." أيْ سَخَّرَها لكم لكي تُكَبِّروا الله أيْ لتُعَظّموه أيْ لِتَعْلَموا المَقام الأكبر الأعظم الذي لا يُقارَن لله تعالي مِمَّا ترونه حولكم من مُعْجِزاتٍ ونِعَمٍ في كل مخلوقاته في كَوْنه ومِمَّا شَرَعَه لكم في الإسلام من تشريعاتٍ وأخلاقِيَّاتٍ وأنظمةٍ مُسْعِدَةٍ للبَشَريّة كلها وبالتالي تَعبدوه وتَذكروه وتَشكروه وتتوكّلوا عليه وحده لِتَسْعَدُوا لأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فهو الإله المَعْبُود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومن معاني "لِتُكَبِّرُوا الله" قول الله أكبر عند ذَبْح الذبائح ومَنَاسِك الحجّ وحصول الخير وما شابه ذلك من أحوال.. ".. عَلَى مَا هَدَاكُمْ.." أيْ بسبب ومُقابِل الذي أَرْشَدكم وأَوْصَلكم ووَفّقكم إليه برحمته من الإيمان به واتّباع دينه الإسلام من خلال قرآنه العظيم ورسوله الكريم (ص) الذي يُصْلِحكم ويُكْمِلكم ويُسْعِدكم تماماً في الداريْن لو عملتم بكل أخلاقه.. ".. وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائماً المُحسنين – أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم مِن ربهم أجراً كبيراً علي هذا أيْ عطاءً هائلاً عظيماً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً لا يعلم وَصْفه إلا وَاهِبه الكريم الرحيم سبحانه، في دنياهم حيث تمام الخير والسعادة، ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في نعيم جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المُحْسِنُون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
بعض الأخلاقيَّات التي تُسْتَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ مُتَأَكّدَاً بلا أيِّ شكّ أنَّ الله تعالي يُدافِع عن الذين آمنوا وأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتماً سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين الصالحين المُسْتَحِقّين للنصر بإحسان اتّخاذ أسبابه أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ووَعْدٌ منه سبحانه لا يُمْكِن أنْ يُخْلَفَ أبداً قطعاً أنْ يُمَكّن لهم في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. إنَّ هذا تشجيعٌ قويٌّ مُطَمْئِنٌ للذين آمنوا للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ وأمَلٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنه تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم.. أيْ إنَّ الله يُدافِع حتماً ودائماً بقُدْرَته وعِلْمه ورحمته عن الذين آمنوا – أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – بأنْ يَدْفَع أيْ يَمْنَع عنهم السوء ويَحْميهم من أعدائهم ويُبْعِد عنهم أذاهم وعُدْوانهم ومَكَائدهم وشرورهم ويَرْعاهم ويَنْصرهم ويُعْلِيهم ودينهم الإسلام ويُسْعِدهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مسعدا لهم، بسبب إيمانهم وعملهم بإسلامهم وبأنهم أولياؤه وأحباؤه.. هذا، ولفظ يُدافع يُفيد المُبَالَغَة أيْ يَدْفَع عنهم بقوّة وكَثْرَة واستمراريّة.. إنَّ الذين آمنوا لو تَمَسَّكُوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فلن يتمكّن أحدٌ من الإضرار بهم، وذلك لأنهم ما داموا دائمي التَّوَاصُل مع ربهم دائمي الاستعانة به ودعائه، وما داموا دائمي التواصُل مع الآخرين بحُسْن العلاقات معهم، وما داموا حُكَماء مُتّزِنين مِقْدَامِين مُنَظّمِين مُنْضَبِطين صالحين مُثَقّفين مُتَعَلّمين مُسْتَقِرِّين هادئين صادقين أُمَناء أقوياء وبالجملة فيهم كل صفات الإسلام التي تُعينهم علي حياةٍ صحيحةٍ صالحةٍ مُتَطَوِّرَةٍ سَلِسَةٍ سعيدة، فهم حينئذٍ قد أحْسَنُوا تَحْصِين أنفسهم من الإصابة بأيِّ ضَرَر، وإنْ أصابهم اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا فسيُحسنون قطعاً التعامُل معه والخروج منه بأسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وبأكثر خبراتٍ مُتَاحَةٍ وأقلّ خسارات مُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وذلك لأنهم تَحَصَّنُوا بالله تعالي أولا مالِك المُلْك القويّ المَتين ثم بالصحبة الصالحة حولهم من كل أهل الخير إضافة لقُدْرات وإمكانات أنفسهم وأخلاقهم المَتِينَة، فكيف لِمَن تَحَصَّنَ بهؤلاء أنْ يتأثّر بضَرَرٍ مَا؟! إنه ولا شكّ هو الأقوي والأعلي وما قد يُصيبه مِمَّن يَكْرَهه أو يُعادِيه لن يَزِنَ عنده إلا كجناح بعوضة أو حتي أقل! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنه إذا كان المسلمون بهذه الصفات، وهم كذلك بإذن الله لو تَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، فلن يقف حتماً أمامهم أيُّ عَدُوٍّ يريد الاعتداء عليهم بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء حتي ولو بالقتال، إنهم حتماً مُنْتَصِرون بنَصْر ربهم لهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ثم بقوة إرادتهم وحُسْن إعدادهم، وحتماً عدوهم سَيَفِرّ مُنْهَزِمَاً.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا لأنَّه بالتأكيد يُحِبّهم لا يحبّ مُطْلَقاً كلّ خَوَّانٍ كفور، والخَوَّان هو كثير الخيانة، فهو يَخُون نفسه بفِعْله الشرور والمَفاسد والأضرار واستمراره علي ذلك بلا توبة حيث قد غَدَرَ بها أيْ لم يُوفِ بوعده معها بأَخْذها للخير لأنَّ النفس أيْ الفطرة هي مسلمة أصلا تحبّ أنْ تعمل بالإسلام لتَسعد به في دنياها وأخراها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنه بعقله اختار بكامل حرية إرادته مُخَالَفَة الله ورسوله وخان الأمانة التي أعطاه إيّاها وهي الإسلام فلم يحافظ عليها ويعمل بها بل خالَفها فأخذ نفسه لِمَا يضرّها ويتعسها في الداريْن، كما أنه يَخُون غيره بعدم حِفْظ ما يُؤْتَمَن عليه من أماناتٍ عنده لهم وعدم تأديته لها إليهم ومُخَالَفاته لعهوده ووُعُوده ومواعيده معهم.. والكفور هو كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها وشكرها وحُسْن استخدامها بل قد يكفر به أصلاً أيْ لا يُصَدِّق بل يُكَذّب بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره.. إنّه مَن لا يُحِبّه تعالي ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب خيانته وكفره، بينما مَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للذين آمنوا
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة ).. وإذا كنتَ من المُهاجرين المُجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، للشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد وصورهما وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)
هذا، ومعني "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة أنَّ الله يُدافِع عن الذين آمنوا حيث إباحَة القتال لهم ضِدَّ المُعْتَدِين عليهم بالقتال وعَوْنهم ونَصْرهم هو مِمَّا يُدافِع به عنهم.. أيْ سُمِحَ وأُبِيحَ من الله تعالي للذين يقاتَلُون من المسلمين مِن أعداءٍ لهم يُقاتِلُونهم ويَعتدون عليهم أنْ يُقاتِلوهم كما قاتَلُوهم ويَرُدّوا اعتداءهم بسبب أنهم ظُلِمُوا بهذا الاعتداء بالقتال ولذا أَذِنَ سبحانه لهم لكي يَمنعوا هذا الظلم بأضراره وشروره ومَفاسده وتعاساته عن أنفسهم والإسلام والمسلمين وعن عموم الناس وعن كلّ مَظْلومٍ وعن أيِّ حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)" أيْ وهذا – إضافة للآية السابقة – مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين الصالحين المُسْتَحِقّين للنصر بإحسان اتّخاذ أسبابه أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ووَعْدٌ منه سبحانه لا يُمْكِن أنْ يُخْلَفَ أبداً قطعاً أنْ يُمَكّن لهم في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. إنَّ هذا تشجيعٌ قويٌّ مُطَمْئِنٌ للذين آمنوا للانطلاق في قتال المُعْتَدِين عليهم بالقتال بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ وأمَلٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنه تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم.. أيْ وبالتأكيد إنَّ الله علي نَصْرهم أيْ الذين آمنوا علي أعدائهم وإعزازهم وإسعادهم وإذلال وإتعاس عدوهم قديرٌ أيْ قادرٌ علي نصرهم بكل تأكيد بلا أيِّ شَكّ – واللام للتأكيد – بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه فهو وحده لا غيره الذي حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قديرٌ بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء، فهو حتماً سيَنْصُر أهل الحقّ والخير في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وسَيَهْزِم أهل الباطل والشرّ يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عنده تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. فاطْلُبُوا نَصْرَه إذَن أيها المسلمون واسألوه عوْنه إيَّاكم علي حُسْن طَلَبه بحُسْن الاستعداد له بكل ما تستطيعون من أنواع القوي المختلفة الإيمانية والمالية والسياسية والعسكرية وغيرها لكي يُحَقّقه لكم
ومعني "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الأسباب والحِكَم التى من أجلها شَرَعَ الله تعالي الجهاد فى سبيله بالقتال.. أىْ إنَّ الله لَقديرٌ على نَصْر المؤمنين الذين أخرجهم الظالمون المُعْتَدُون عليهم بالقتال مِن ديارهم بغير حقّ أيْ بغير عدلٍ أيْ بظلمٍ أيْ باعتداءٍ أيْ بغير أىِّ سببٍ من الأسباب أو مُبَرِّرٍ أو ذنبٍ يَسْتَنِدُون إليه لكي يَسْتَحِقّوا به عقابهم بأنْ يُخرجوهم إلاّ بسبب أن يقولوا ربنا الله وحده أيْ لن نعبد أبداً إلاهاً غيره فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وهذا حقّ وليس إجراماً يَستدعي إخراجهم من ديارهم وأوطانهم وممتلكاتهم وأحبائهم! فهم لم يرتكبوا ذَنْبَاً إلا هذا الذنب وهو أنهم مؤمنون مُوَحِّدون بالله مُتمسّكون عامِلون بأخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم!! إنهم لا يَعيبون عليهم ويرفضون منهم إلا خيراً عظيماً بل ويَنتقمون منهم بسببه! إنَّ ما يعتبرونه ذَمَّاً لهم وعَيْبَاً فيهم وإجرامَاً منهم يَسْتَحِقّون العقاب الشديد عليه هو علي العكس تماما فَخْرٌ لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!! إنهم يَقلبون الحقائق والمَوازين الصحيحة! لكنْ ما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض الأسباب والحِكَم التى من أجلها شَرَعَ الله تعالي الجهاد فى سبيله بالقتال، وكذلك حثٌّ وتشجيعٌ للمسلمين عليه عند الاحتياج إليه حينما يَعْتَدِي المُعْتَدُون عليهم بالقتال لكي يُحَقّقوا أهدافه وحِكَمه وفوائده وسعاداته في دنياهم ولينالوا عظيم الأجر في أخراهم وهذه الأهداف والحِكَم هي المحافظة علي استمرار الحقّ والعدل والخير والأمن والاستقرار وبالتالي استمرار السعادة بالكوْن كله.. أيْ ولوْلَا دَفْع أيْ تَحْريك الله بعضَ الناس وهم أهل الخير ضِدّ بعضٍ آخر وهم أهل الشرِّ لَكَانَ هُدِّمَت أيْ كُسِّرَت وحُطّمَت وخُرِّبَت أماكن التَّجَمُّع للصلاة ولِتَعَلّم الإسلام وتَبادُل المنافع في كل زمانٍ ومكانٍ – وإذا تَهَدَّمَت هذه الأماكن الخَيْرِيَّة والتي تَمْنَع عن طريق نَشْر خيرها انتشار الشرور والمَفاسِد والأضرار، انتشر تلقائياً وبسهولة بلا عوائق الشرّ والشقاء في كل الأرض، فالمقصود إذَن تَهَدُّم الخير وسعاداته في الداريْن وانتشار الشرّ بتعاساته في المُقابِل فيهما – كالصوامع جَمْع صَوْمَعَة وهي مَعْبَدٌ صغيرٌ لصلاة الرهْبان والبِيَع جَمْع بِيعَة وهي كَنِيسَة للصلاة زَمَن النصاري والصلوات جَمْع صلاة وهي مكانٌ للصلاة زمن اليهود والمساجد وهي للصلاة زمن المسلمين حتي يوم القيامة، وكل أماكن الصلاة هذه التي ذُكِرَت يُذْكَر فيها اسم الله كثيراً بكل أشكال الذكْر المختلفة (برجاء مراجعة الآية (152) من سورة البقرة، والآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، أيْ امْتَنَعَ هذا الهَدْم وهذا الفساد في الأرض بسبب وجود دَفْع الناس بعضهم ببعض، أيْ ولولا أنَّ أهل الخير – ومعهم الله دافِعَاً ومُعِينَاً وناصِرَاً – يَدْفعون الشرَّ أيْ يَمْنَعونه ويُبْعِدُونه ويُزيحونه عن حياتهم لأنه يُفسدها ويُتعسها، لَحَدَثَ حتماً هذا الهَدْم ولَفَسَدَت الأرض كلها بل الكوْن كله لانقراض الخير وانزوائه وضياعه وانتهائه ولانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار في المُقابِل وبالتالي يَتعس الجميع في دنياهم وأخراهم، فهم يَدْفعونه بالتمسّك بالخير من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام وتَرْك أيّ أنظمةٍ مُخَالِفةٍ له ونشره بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي سواء أكان اعتداء فِكْرِيَّاً أم اقتصادياً أم سياسياً أم عسكرياً أم غيره.. إنهم يَنْشرونه في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ وبكل أسلوبٍ مُمكن مناسبٍ ومع كل فردٍ مُمكن مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء وزملاء العمل والمجتمع كله، بحيث يَنْزَوِي الشرّ ولا يَجِد له مكاناً أبداً تدريجيا بين أهل الخير وعلي وجه الأرض ما أمكن (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وقد يَدْفعونه بالقتال إذا اعتدي أهل الشرّ به من باب المُعامَلَة بالمِثْل، وهكذا، مِمَّا سَمَحَ به الإسلام حفاظاً علي أمن عموم الناس – والخَلْق – ورحمة بهم علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وبيئاتهم ليسعد الجميع خاصّة المتمسّكون العامِلون بأخلاق الإسلام منهم والذين ستكون سعادتهم تامّة في الداريْن (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات وحِكَم تشريع القتال والجهاد في الإسلام كصورةٍ من صور دَفْع الشرّ بالخير عند الاحتياج إليه، برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) ثم الآية (218) من سورة البقرة).. وبدَفْع الله هذا للشرِّ بنشر الخير من خلال الناس أيْ من خلال أهل الخير ضِدّ أهل الشرّ ستَنتشر حتماً الحِكْمة وينتشر العلم ويزداد الناس خيراً علي خيرٍ وسعادة علي سعادة في دنياهم وأخراهم، وبدون ذلك سيَفسد ويَتعس الجميع حتما فيهما.. وفي الآية الكريمة دعوة لكل أهل الخير لأنْ يقوموا بهذا الدَّفْع لمصلحتهم ولسعادتهم في الداريْن.. هذا، وقد يُنْصَر الخير أحيانا ببعض أهل الشرّ من فضل الله ومعجزاته في كوْنه حينما يختلفون فيما بينهم هم لتَعَارُض مصالحهم فيقف بعضهم في صَفِّ الخير دَفْعَاً لشَرٍّ مَا لمصلحةٍ مَا تتحقّق لهم!! ولذا فلفظ "الناس" يشمل أهل الخير وأهل الشرّ معاً.. ".. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.." أيْ وبالتأكيد وحتماً وبلا أيِّ شَكّ – واللام والنون للتأكيد – وبوَعْدٍ لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف أبداً، يَنْصر الله بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه كلَّ مَن يَنْصره أيْ يَنصر دينه، الإسلام، بالتمسّك والعمل به كله وتَرْك أيِّ أنظمةٍ مُخالِفَة له، فهذا نَصْرٌ للإسلام عليها، وبنَشْره بكل قدوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حَسَنة، وبالدفاع عنه ضدّ كل مَن يعتدي عليه سواء أكان اعتداءً فكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم عسكريا أم غيره، وقبل كل ذلك وبعده نَصْر الله بعبادته هو وحده بلا أيّ شريك، وهذا نَصْرٌ علي كل ما قد يَدَّعِيه البعض ظلما وزورا آلهة غيره، تعالي عن ذلك علوا كبيرا، فإنْ فَعَلْتم هذا سيَنصركم الله حتما بكل تأكيدٍ في كل شئون حياتكم أيْ سيُؤَيِّدكم وسيُعينكم بحيث يَجعلكم تُحَقّقون كل نجاحٍ وفوزٍ ونصر وخير وأمن وسعادة، وسيُثَبِّت أقدامكم أيْ وسيُعينكم ويُوَفّقكم ويُيَسِّر لكم أن تستمرّوا علي ذلك بكلّ هِمَّة وعزمٍ بلا أيّ تغيير، ثم يوم القيامة يَنصركم حتما بما هو أعظم وأروع نَصْرَاً حيث دخول الجنة ويُثَبِّت أقدامكم عند الحساب وأثناء المرور علي الصراط أيْ الطريق إليها فيكون الأمر في غاية اليُسْر والبِشْر والسرور فتدخلوها علي حسب درجات أعمالكم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)" أيْ لأنَّ الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ – واللام للتأكيد – قويٌّ عزيزٌ أيْ له كل صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه قويّ أيْ قادرٌ علي كلِّ شيءٍ وعلي كل ما يريد فِعْله عظيم كامل القوة والتي لا تُقارنها أيّ قوة وما من قوة لأحدٍ أو لشيءٍ إلا مِن قوّته تعالي، كما أنه عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهِرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر، وهو حتماً يُعِزّ أهل الخير الذين يَنْصرونه بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم
ومعني "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)" أيْ هذا بيانٌ لصِفات مَن وَعَدهم الله تعالي بأنْ يَنْصرهم، وهي صفاتُ الذين يَنْصُرونه فيَسْتَحِقّون بالتالي نَصْره في المُقابِل، والتي علي كل المسلمين الاجتهاد في الاتّصاف بها ليكونوا مِمَّن يَنصرون الله فيَنصرهم، كما أنَّ الآية الكريمة تأكيدٌ لهذا الوَعْد ومَدْحٌ ضِمْنِيٌّ لمَن يَتّصِف منهم بهذه الصفات العظيمة لتشجيعهم علي الاتّصَاف بها والمحافظة عليها ولدَفْعهم للانطلاق في الحياة بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة ولا يتأثروا مُطلقاً بما قد يُصيبهم من مَتَاعِب أحيانا فمعهم ربهم الكريم الرحيم مالِك المُلْك القويّ المتين بعِلْمه وقُدْرته يَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُقَوّيهم وينصرهم، كما أنها تسلية وتخفيف عنهم مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم، وكذلك هي أخذٌ للعهد عليهم من الله تعالي أنه حين يُمَكّن لهم في الأرض فعليهم الشكر والوفاء بفِعْل الذي سَبَقَ ذِكْره ما استطاعوا علي قَدْر تَمكينهم لكي يستمرّ ويزداد نَصْره وتمكينه وإسعاده سبحانه لهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ وَلَيَنْصُرَنَّ الله هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حقّ والذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة أنهم هم الذين إذا مَكّنّاهم في الأرض أيْ جعلنا لهم مَكانا ومُلكا ومَكَانَة ونفوذا وسلطانا يديرون به أرضا يعيشون عليها، يديرونها بشرع الله، أي بنظام الإسلام وبأخلاقياته (برجاء مراجعة الآيات (60) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها)، فينشرون كلّ خيرٍ وحقّ وعدل وسعادة لكل الأرض، ونَصَرْناهم علي أعدائهم، وأعطيناهم أسباب القوة والبقاء ما يَتَمَكّنُون بها من أنواع التّصَرُّف فيها مِن كل أنواع القُوَيَ الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها وما يُحَقّق لهم تمام الانتفاع والسعادة بها، فهي ملك لهم ومُسَخَّرَة، وهم مُتَمَكّنُون منها ومِمَّا فيها، ووَفّرنا وجَهَّزنا لهم فيها كل أسباب المَعِيشَة السَّهْلَة المُيَسَّرَة المُمْتِعَة المُسْعِدَة.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ هذا التمكين للمسلمين يَستمرّ ويزداد ما داموا مُستمرّين علي الإيمان بربهم والتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم، فإن ابتعدوا عنهما فلا شيء لهم من ذلك قطعا بل سيتعسون وسيهلكون في الداريْن تماما كأيّ ظالمٍ مُفْسِد!.. ".. أَقَامُوا الصَّلَاةَ.." أيْ الذين إنْ مَكّنّاهم في الأرض شَكَرُوا الله تعالي كثيراً علي هذا التمكين وأطاعوه ووَفّوا بعهدهم معه بأن ينصروه وتَمَثّلَ شُكْرهم وطاعتهم ووفاؤهم بنَصْر دينه الإسلام وإدارتهم أرضه بأنظمته وأخلاقه لا بغيرها في أنْ أقاموا الصلاة أيْ وَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أَحْسَنُوها وأَتْقَنُوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المَخْلُوق وخالِقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، والمقصود من إقامة الصلاة هو إقامة شعائر الله كلها أيْ مَعَالِم دين الله الإسلام، والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالإنفاق في الخير والصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. ".. وَآَتَوُا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، وكانوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.." أيْ وهم لا يَكتفون بإصلاح وإكمال وإسعاد أنفسهم فقط بل ويأمرون بالمعروف أي يطلبون من غيرهم بَعْدَ ذواتهم ويُوصُون دَوْمَاً بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف، أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة والذي هو بالجملة كلّ أخلاق الإسلام، وأيضا ينهون عن المنكر أيْ يمنعون أنفسهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن، وبهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينتشر الخير والسرور ويَنْقَرِض ويَنْزَوِي الشرّ والشقاء فيَسعد الجميع فيهما.. ".. وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)" أيْ ولله وحده لا لغيره مَصِير الأمور كلها، فهو في الدنيا أولا يُمَكّن لِمَن يشاء وهو الذي يَستحِقّ التمْكِين واتّخَذ أسباب الحصول عليه وهي العمل بكل أخلاق الإسلام، ويُذِلّ مَن يشاء وهو الذي لا يَسْتَحِقّه ولم يَتّخِذ أسبابه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا، علي حسب حِكْمَته وعِلْمه وتدبيره وتقديره بما يُصْلِح الخَلْق ويُسعدهم، فحتماً العاقبة أيْ النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا سيَجعلها تعالي بالقطع للذين آمنوا الذين يَسْتَحِقّون نَصْره وتَمْكِينه لأنهم ينصرونه، وفي هذا طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز قطعاً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم، ثم لله عاقبة الأمور في الآخرة حتماً بعد الدنيا بمعني أنَّ مَصِير أمور الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود وإبراهيم والمؤمنون والعنكبوت وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)"، "وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)"، "وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)" أيْ وإنْ يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤون، أيْ لم يُصَدِّقوا أنك يا محمد رسولنا للناس لعبادتنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ وأنك قد أوحي إليك القرآن العظيم ولم يعملوا بما فيه من أخلاق الإسلام، فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، فهذا ليس بالأمر الجديد، فقد كَذّبَت قبلهم قومُ رسولنا الكريم نوحٍ وعادٌ وهم قوم رسولنا الكريم هود وثمود وهم قوم رسولنا الكريم صالح وقوم رسولنا الكريم إبراهيم وقوم رسولنا الكريم لوط وأصحاب مَدْيَن وهم قوم رسولنا الكريم شعيب وكَذّب فرعون وقومه رسولنا الكريم موسي، فكلّ السابقين أمثالهم قد فَعَلوا ذلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فأمْلَيْتُ أيْ وقد تَرَكْتُ للكافرين – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – فتراتٍ طويلة كافية، دون إهمالٍ حتماً، بأنْ أَطَلْتُ في أعمارهم وهَيَّأتُ لهم أسباب نعيمهم في حياتهم الدنيا ولم أُسارِع بعقوبتهم بما يستحِقّونه علي فِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشفقة عليهم، فإنْ عادوا كان هذا الإملاء خيراً ورحمة لهم من ربهم الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليهم طويلا بلا تعجيلٍ بالعقوبة لهم حيث سيَسعدون في الداريْن، وإنْ لم يستفيقوا فحتماً كل الشرّ والتعاسة لهم فيهما إذ كلّما تأخّروا يوما كلما اكتسبوا إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياتهم تَكْثُر ذنوبهم وبالتالي عذابهم عليها.. ".. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)" أيْ ثم عَاقَبْتُهم بأَشَدِّ أنواع العقاب لأنهم ظلّوا مُصِرِّين تمام الإصرار علي تكذيبهم وعِنادهم وسُوئهم بلا أيِّ توبة، فبالتالي إذَن انظروا أيها العقلاء وشاهِدوا وتَدَبَّرُوا وتَذَكّروا كيف كان إنكاري الشديد العجيب عليهم أيْ رفضي وغضبي لهذا المُنْكَر الذي فَعلوه وهو الكفر والسوء بإصرارٍ بأنْ عاقبتهم وعذّبتهم وأهلكتهم بسببه بصُوَر العذاب المختلفة الشديدة المُخِيفَة المُهْلِكَة التي لا تُوصَف كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها، ولم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم التي كانوا يمتلكونها (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ مِن الحياة)، فإذا كان هذا قد حَدَثَ لهؤلاء الأقوياء فما بالُكُم بمَن هم أضعف منهم الآن!! إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما!! فليَحذروا ذلك إذَن وليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا قبل فوات الأَوَان.. وفي هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل )
ومعني "فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)" أيْ وكم مِن قريةٍ، أيْ وكثيرٍ منها، بما فيها مِن أهلها وممتلكاتهم، من قُرَي ومُدُن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين مِن السابقين أمثال أقوام الأنبياء نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم، وكانت أشدّ قوة في الأموال والأعْوَان والنفوذ والسلطان ونحو هذا مِن المُكَذّبين المُعاصِرين لكم الآن، أهلكناها أيْ عاقبناها بأنْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم بزلازل وصواعق وفيضانات وأوْبِئَة وأمراض وحروب وغيرها، وهي ظالمة أيْ وحالها أنها، وبسبب أنها، ظالمة، أيْ أهلها ظالمون مُصِرُّون علي ظلمهم بلا أيِّ توبة، أيْ مُسْتَمِرُّون ظالمون لأنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وبالتالي فإنّا لم نظلمهم حتماً بل عاقبناهم بما يَستحِقّون من عذابٍ يُناسب ظلمهم فقد حَذّرناهم كثيراً ولفتراتٍ طويلةٍ من خلال رسلنا والدعاة للإسلام مِن بعدهم وصَبَرنا عليهم وتَرَكناهم كثيراً بلا عقابٍ ولكنهم كانوا مُصِرِّين علي ما هم فيه من سوء.. ".. فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)" أيْ فهي بعد إهلاكها أصبحتْ خاوية علي عروشها أيْ خالِيَة ساقِطَة قد سَقَطَت جُدْران وأعمدة بيوتها علي عروشها أيْ سُقُوفِها فهي مُدَمَّرَة مُهَدَّمَة خَرِبَة فارغة مَهْجُورة قد هَلَك أهلها وأصبحت بئر مياهها التي كانوا يشربون منها مُتَوَقّفَة مَتْرُوكَة، وأصبح كذلك كلّ قَصْرٍ مَشِيدٍ أيْ مُرْتَفِعٍ مُحَصَّنٍ مُحْكَمٍ مُزَخْرَفٍ فَخْمٍ، أصبح مُعَطّلاً مُهَدَّمَاً مُدَمَّرَاً مُخَرَّبَاً مُهْلَكَاً مَن فيه لم يستطع حماية أيّ أحدٍ بداخله مِن عذابنا وإهلاكنا
ومعني "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ أغَفَلَ أو عَمِيَ هؤلاء الظالمون السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم فلم يسيروا في الأرض فيَتّعِظوا؟! أيْ هل لم يَتَنَقّلوا في كل جوانِبها ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا السؤال توسيعٌ لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه، وفيه كذلك إرشادٌ للناس جميعا أن يأخذوا دائما الدروس من التاريخ السابق وينتفعوا بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلوا مثله بما يُناسبهم وازدادوا منه وطوَّروه وسَعِدَوا به، وما فيه من شرٍّ تجنّبوه تماما فلا يتعسون به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروساً وعظات وخبرات هائلة يمكنهم تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة، وكذلك في هذا السؤال إرشادٌ لهم لأنْ يكونوا دوماً من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدهم حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. إنَّ في الآية الكريمة تهديداً وتحذيراً شديداً لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.." أيْ فيَتَسَبَّب عن سَيْرهم أنْ تكون لهم قلوبٌ أيْ عقولٌ واعِيَة يعقلون بها ما رأوه بأبصارهم مِن مُعْجِزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم ويعقلون بها ما حَدَثَ للمُكَذّبين من عذابٍ وإهلاكٍ يَرَوْنَ بعض آثاره فيَعْتَبِروا ويَتّعِظوا بكلّ هذا فيؤمنوا بالله وحده بلا أيِّ شريك، أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها وصايا الخير والإسعاد بالداريْن التي نُوصِيهم بها في الإسلام من خلال كتابنا ورسولنا ويسمعون بها تحذيرات التّشَبُّه بالظالمين المُهْلَكِين سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ بها.. ".. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)" أيْ فإنَّ الأبصار لا تَعْمَيَ، أيْ فإنَّ الحالة أنه لا تَعْمَيَ الأبصار، ولكنْ تَعْمَيَ القلوب أيْ العقول التي في الصدور أيْ في الدوَاخِل للأجسام، أيْ ليس العَمَىَ هو عَمَىَ البَصَر وإنما العَمَىَ هو عَمَىَ العقل، أيْ إنه حَقّاً، ومُجْمَل القول وخُلاصَته، ليس العَمَيَ أيْ عدم الرؤية في العيون، فهي تَرَيَ، ولكنَّ العَمَيَ الحقيقيّ هو عَمَيَ العقول التي لا تَرَيَ وتَعْقِل آيات الله تعالي في أيٍّ من مخلوقاته ولا تَتَدَبَّر آياته في قرآنه العظيم فتؤمن وتعمل بكل أخلاقه لتَسْعد في الداريْن، فالمقصود أنَّ لأمثال هؤلاء المُكَذّبين عقولاً لكن لا يَعقلون ولا يَتَدَبَّرون ولا يُدْركون ولا يَفهمون ولا يَعلمون بها الحقّ والخير، ولهم عُيون تَرَىَ ولكنْ بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات القرآن الكريم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، والمقصود أنهم قد عَطّلوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بدرجةٍ من الدرجات بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم الإسلام
ومعني "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي شِدَّة عَمَيَ وانْغِلاق عقول أمثال هؤلاء المُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم وبيانٌ لبعض أشكاله.. أيْ ويَطلبون منك يا رسولنا الكريم – ومِن المسلمين مِن بَعدك – بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي تَعِدهم به إنْ كنتَ صادقاً فإنْ لم ينزل فأنت إذَن كاذب والمسلمون كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامكم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِكم!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِك بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. ولوْلا أنَّ الله تعالي قد حَدَّدَ بحِكمته بكل دِقَّة دون أيّ عَبَثٍ أجلا مُسَمَّاً أيْ موعدا مُحَدَّدا لكلّ حَدَثٍ، بما يُحَقّق المصلحة لخَلْقه علي أكمل وأسعد وَجْهٍ، ومنه تحديد موعد العذاب الدنيويّ لمَن يستحِقّه وعذابه في قبره بعد موته وموعد الحساب الختاميّ في يوم القيامة، لَكَانَ أنزله بهم فورا لأنهم يستحقّونه تماما بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم لذواتهم ولمَن حولهم بل وأحيانا للكوْن كله، ولكنه تعالي حليم رحيم بهم رغم أنهم يُسيئون التعامُل مع هذا الحِلْم وهذه الرحمة، فهو يُعطِي لهم الفُرْصَة بعد الأخري ويتركهم لفتراتٍ أو يُوقظهم ببعض عقوباتٍ خفيفةٍ لعلهم يَستفيقون – هم أو مِن ذُرِّيَّاتهم – ويعودون للخير وللسعادة في الداريْن.. ".. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.." أيْ والحال والواقِع أنه حَتْمَاً وبكلِّ تأكيدٍ وحَسْمٍ وبلا أيِّ شكّ لن ينْقض الله وَعْدَه الذي يَعِد به أبداً، أيْ لن يُخالِفه مُطلقاً بالقطع فلا يُوفي ولا يَلْتَزِم به تمام الوفاء والالتزام أيْ يُؤَدّيه تمام الأداء وافِيَاً كاملاً تماماً بلا أيِّ نقصٍ أو تَغْييرٍ أو تأجيلٍ عن مَوْعده المُحَدِّد، فعذابه لمَن يَسْتَحِقّه آتٍ قطعاً، وكلّ مَا هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، لكنْ سيكون في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه تعالي مُناسِبَاً مُسْعِدَاً مُحَقّقَاً لأفضل النتائج لأهل الخير ومَن حولهم، لأنَّ كلّ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وَعْدَه فما بالنا بأعظم الأعْظَمِين الخالِق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِكُ كل شيء وقادرٌ تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذَن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما.. ".. وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)" أيْ إنهم يستعجلونك بالعذاب والحال والواقِع إنَّ يوماً من العذاب الذي لا يُوصَف عند ربك في الآخرة كألف سنةٍ من سنين الدنيا التي تَعُدُّونها أيْ تَحْسِبُونها – أيها المُكَذّبون وأيها الناس – فيها عذابٌ وخوفٌ وشِدَّة، فكيف يستعجلونه؟! ألَاَ يَعقلون؟!.. هذا، وقِياسَاً علي ذلك، يكون يوم النعيم الذي لا يُوصَف عنده تعالي في جناته كألف سنةٍ من سنين الدنيا فيها أعظم نعيم.. هذا، وقد ذُكِرَ في آية أخري أنَّ هذا اليوم مقداره خمسين ألف سنةٍ بما يُفيد أنَّ يوم القيامة يختلف طوله علي المُكَذّبين بحسب اختلاف شَدَّته حيث هو يعادل أحيانا ألف سنةٍ من سنوات الدنيا وأحيانا أخري خمسين ألف سنةٍ حينما تزداد أهواله عليهم، وكذلك يختلف إحساس كل مُكَذّب بطوله علي حسب شروره ومفاسده وأضراره التي فعلها في دنياه.. إنه يومٌ طويلٌ جداً شاقّ بما فيه علي المُكَذّبين به، خفيفٌ يَسِيرٌ علي المُصَدِّقين به المُسْتَعِدِّين له بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم حيث يَمرّ عليهم كوقتِ صلاةٍ مِن الصلوات كما أخبر بذلك الرسول الكريم (ص).. كذلك من معاني الآية الكريمة عند بعض العلماء إنَّ يوما عنده وألف سنة في الإمْهال أيْ الترْك بلا عذابٍ لهم لفترةٍ يَسْتَوِيان، لأنه قادرٌ علي عذابهم حينما يشاء، لا يَغْفل أو يَعْجز عنه بسبب تأخيره، فهو سبحانه يَسْتَوِي في قُدْرَته وقوع ما يستعجلون به من العذاب أو تأخيره، وبعبارة أخري أنَّ الله تعالي ليس عنده أزْمِنَة وأَمْكِنَة كالبَشَر، وإنما هذا لهم لتسيير حياتهم، ولذا ففي دنياهم يَستوي عنده اليوم والشهر والسنة والألف سنة والخمسين ألف سنة والأكثر من ذلك والأقل، فالزمن عنده لا يُعَدّ، وبالتالي فالمقصود أنَّ العذاب لمُسْتَحِقّيه سيأتي في أيِّ وقت، فقد يكون بعد لحظةٍ أو ساعةٍ أو يومٍ أو سنةٍ أو مائةِ سنةٍ أو مائتين أو ألف أو ألفين أو أكثر أو أقل، المهِمّ أنه آتٍ لابُدّ آتٍ، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، فلا يُمْكِن لأحدٍ أنْ يُقَدِّرَ زَمَنَاً لِمَا يَعِد به سبحانه فلا يقال مائة أو مائتان أو أكثر أو أقل ولكنْ هو مَحْكُومٌ بإرادته وتقديره وحِكْمته تعالي من أجل مَصْلَحَة خَلْقِه، أمّا في أخراهم فإنهم من شِدَّة وطول عذابهم يستشعرون أنَّ اليوم الواحد من العذاب كأنه ألف سنة.. كذلك من معاني الآية الكريمة عند بعض العلماء أنها بيانٌ لكمال حِلْمه وصَبْره علي الظالمين وتَأَنّيه وعدم تَعَجُّلِه بعذابهم ورحمته لعلهم يَتوبون لِكَوْنِ المُدَّة القصيرة عنده، أيْ اليوم، كالمُدَّة الطويلة عندهم، أيْ الألف سنة، فإنه تعالي يُمْهِل مُدَدَاً طويلة لكنْ لا يُهْمِل
ومعني "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ إمهاله تعالي للظالمين أيْ تَرْكِهم بلا عقابٍ لفتراتٍ مهما طالَت مِن حِلْمه ورحمته لعلهم يتوبون لابُدَّ حتماً سيَتْبَعه عذابٌ أليمٌ مُناسبٌ لظلمهم إنْ لم يتوبوا فهو يُمْهِل لكنْ لا يُهْمِل.. أيْ وكم مِن قريةٍ، أيْ وكثيرٍ منها، بما فيها مِن أهلها وممتلكاتهم، من قُرَي ومُدُن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين مِن السابقين، أمْلَيْتُ لها أيْ تَرَكْتها فتراتٍ طويلة كافية، دون إهمالٍ حتماً، بأنْ أَطَلْتُ في أعمارهم وهَيَّأتُ لهم أسباب نعيمهم في حياتهم الدنيا ولم أُسارِع بعقوبتهم بما يستحِقّونه علي فِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشفقة عليهم، فإنْ عادوا كان هذا الإملاء خيراً ورحمة لهم من ربهم الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليهم طويلا بلا تعجيلٍ بالعقوبة لهم حيث سيَسعدون في الداريْن، وإنْ لم يستفيقوا فحتماً كل الشرّ والتعاسة لهم فيهما إذ كلّما تأخّروا يوما كلما اكتسبوا إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياتهم تَكْثُر ذنوبهم وبالتالي عذابهم عليها.. ".. وَهِيَ ظَالِمَةٌ.." أي أمْلَيْتُ لها مع ظلمها، أيْ وحالها أنها ظالمة، أيْ أهلها ظالمون مُصِرُّون علي ظلمهم بلا أيِّ توبة، أيْ مُسْتَمِرُّون ظالمون لأنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. ثُمَّ أَخَذْتُهَا.." أيْ ثم بعد أنْ أَمْلَيْتُ لها عاقبتها، عَاقَبْتُهم بالعذاب الشديد المُؤْلِم المُناسِب لظلمهم لأنهم ظلّوا مُصِرِّين تمام الإصرار علي تكذيبهم وعِنادهم ولم يتوبوا، في التوقيت وبالأسلوب الذي رأيناه مُناسِبَاً لتحقيق مَصالِح الخَلْق.. ".. وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)" أيْ وإليَّ وَحْدِي لا إلي غيري المَصير أيْ المَرْجِع لجميع الناس يوم القيامة، وأنا أعلم بهم تمام العلم، فأجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة وما عَذّبناهم به في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. وبالتالي إذَن فلا تَنْخَدِعوا وتطمئنوا أيها الظالمون بتأخير العذاب عنكم أو تكونوا سفهاء فتَستعجلوه ولكن كونوا عقلاء فاحذروه واستيقظوا وعودوا سريعاً لربكم وإسلامكم لتَسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب الأليم فيهما
ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما أنا إلا فقط نذير مُبين لكم، أيْ ليس أبداً مهمّتي إنزال العذاب بالظالمين منكم أو تحديد موعده أو تعجيله أو تأجيله أو مَنْعه، فالحساب والثواب والعقاب في الداريْن يَخُصّ خالقكم وحده سبحانه، وإنما مهمّتي فقط ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌّ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني "فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)"، "وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)" أيْ وبَعْد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إذا عَلِمْتُم أيها الناس أني إنما أنا لكم نذيرٌ مُبينٌ، فمَن استجاب فله حتماً كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومَن لم يستجب فله قطعاً كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما علي قَدْر عدم استجابته، أيْ فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، هؤلاء حتماً لهم مغفرة لذنوبهم من ربهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم كذلك أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب كمال إيمانهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)" أيْ وأمَّا الذين مَشَوْا وجَدُّوا واجْتَهدوا ونَشطوا في الكَيْد لإبْطال ومُحارَبَة وتَكْذيب وعدم قبول وسَبّ آياتنا في القرآن العظيم وإبْعاد الناس عنها وهي التي تَدْعُوهم وتُوصِيهم بالإيمان بنا وعبادتنا وحدنا واتّباع ديننا الإسلام ليسعدوا تماما في الداريْن وحالهم أنهم يكونون مُعاجِزين أيْ مُخَالِفِين مُعانِدِين لها ولله جاعِلِين إيَّاها عاجِزَة عن تحقيق أهدافها وهي الإيمان والعمل بها لإسعاد الخَلْق مُتَوَهِّمِين أنهم بذلك يُحَقّقون ما يريدون مِن تَشْويه صورة الإسلام والمسلمين وجَعْلِهم عاجِزين عن نَشْره ومُعَجِّزِين غيرهم عن اتّباعه ولن يستطيعوا قطعاً وهم واهِمون في كلّ ذلك ومُحاولاتهم يائسة لأنها حتماً فاشِلَة لأنَّ الله تعالي يَحْمِي دينه ويَنْصره ويَنْشره بعَوْن وتوفيق المسلمين علي حمايته ونَشْره وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وبعبارة أخري مُعَاجِزين أيْ مُحَاوِلين سِبَاق المؤمنين والفوز عليهم – لأنَّ من معاني المُعاجِز هو المُسَابِق المُغَالِب لغيره الذي يحاول أنْ يُعْجِزه أيْ يَمنعه من الفوز عليه في السباق ويُظْهِر عَجْزَه عن ذلك – وإظهار عَجْزهم بأن يكونوا مُمَانِعين لهم عن اتّباع الإسلام والتمسّك به والدعوة له ونَشْره ليَسعد به الجميع في الداريْن ومُحَاوِلين إظهار عدم إعجاز آيات الله في كوْنه وقرآنه من خلال الجدال والتشويه والكيْد بكلّ أنواعه أو يُحاولون حتي إثبات عَجْزه تعالي وضعفه عن حماية دينه وعقابهم وهو الخالق لهم القادر عليهم وعلي كل شيءٍ بقول كن فيكون!!.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، هم بالقطع أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل، أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)" أيْ هذا بيانٌ لتمام حِفْظ الله تعالي للإسلام منذ خلق آدم وحتي يوم القيامة لأنه المَصْدَر الأساسي لإرْشاد الناس لإسعادهم تماماً في الداريْن وبغيره وبغيابه يتعسون فيهما، وحِفْظه يكون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبالمسلمين الذين يعملون بكل أخلاقه ويُحسنون الدعوة له بكل قُدْوَة وحكمة وموعظة حسنة ويُدافِعون عنه ضِدّ كلّ مَن يَعْتَدِي عليه، كما أنَّ في الآية الكريمة مزيداً من التَسْلِيَة والتخفيف والطَمْأَنَة والتثبيت والتَبْشِير والحب والعوْن والرعاية للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة مِن بَعْده لكي لا يَحزنوا من تكذيبِ المُكَذّبين لهم ولا يَسْتَثْقلوا ذلك حيث الأمر ليس جديداً فكل الرسل السابقين والمسلمين حولهم قد حَدَثَ لهم مِثْل هذا ثم نَصَرَهم سبحانه فعليهم أنْ يَصبروا مِثْلهم لِيَنْصَرهم ولِيَنالوا أجريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة.. أيْ وما بعثنا من قبلك سابقا يا رسولنا الكريم محمد أيَّ رسولٍ ولا أيَّ نَبِيٍّ – والرسول هو الذي يُرْسَل إلي الناس بكتابٍ أُوُحِيَ إليه من خالقهم فيه وصاياه وأخلاقيّاته وأنظمته أيْ الإسلام ليعملوا به ليسعدوا بذلك في الداريْن، أمّا النبي فهو ليس معه كتاب وإنما يُنَبّئهم بما يُوحَيَ إليه من الله فيُذَكّرهم بتعاليم في كتبٍ سابقة ولأنبياء ورسل سابقين – إلا إذا أيْ مَا تَمَنَّيَ أيْ أحبَّ وأرادَ في نفسه تَحَقّق وتَحْصِيل أمرٍ مَا وهو إسلام جميع الناس ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فيَنال أجر ذلك فيهما أَلْقَيَ الشيطان أيْ إلاّ وَسْوَس الشيطان في أُمْنِيَّته هذه حتي لا تَتَحَقّق بمعني أنه يحاول أنْ يَمنع الناس عنها أيْ عن اتّباع الإسلام بأنْ يوسوس لهم مُوهِمَاً مُخَادِعَاً إيّاهم بأنَّ هذا الرسول أو النبيّ – أو الداعي إلي الله مِن بَعْده – ما هو إلا ساحر أو شاعر أو كذّاب أو مجنون أو أنَّ الكتاب الذي أوحِيَ إليه ليس من الله تعالي وإنما هو مِن قولِ بَشَرٍ عَلّمه إيّاه أو كَتَبَه هو بيده أو هو أساطير الأوَّلِين أيْ قصص السابقين الخُرافِيَّة غير الحقيقية أو لا إله للكوْن يُعْبَد أو هناك آلهة تُعْبَد غيره سبحانه كأصنام وكواكب وغيرها أو ما شابه هذا من وساوس، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يَخطر بالعقل، فالشياطين أيْ الأفكار الشَّرِّيَّة تُوَسْوِس إلي شياطين الإنْس أيْ الناس أيْ السَّيِّئِين منهم كالشياطين والذين بدَوْرِهم يُوَسْوِسُون إلي أوليائهم أيْ أتْباعِهم ومُطِيعِيهم وأعوانهم ونُصَرائهم وأصدقائهم ونحو هؤلاء مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب – لكي يمنعوا الآخرين عن الإيمان بربهم واتّباع دينهم الإسلام مُحَاوِلِين يائِسين إثبات عدم صلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. كذلك من معاني الآية الكريمة عند بعض العلماء أنَّ لفظ تَمَنّيَ يعني قَرَأ حيث بعض العرب يستخدمونه بهذا المعني وبالتالي فالآية عندهم تعني أنه إذا تَمَنَّيَ الرسول والنبي والداعي لله وللإسلام مِن بَعْده أيْ قرأ كتاب الله وسوس الشيطان في قراءته بمعني أنَّ بعض الناس الذين لا يُحْسِنون استخدام عقولهم أثناء استماع هذه القراءة يأتيهم تفكيرهم الشَّرِّيِّ فيُسِيء إلي معاني ومفاهيم مَا يستمعونه من خيرٍ ويُشَكّك فيها – إضافة كذلك لإساءات شياطين الإنس أمثالهم حولهم لها – فيفهمونه بطريقة خاطئة فيَكْرَهونه ويَنْفرون ويَبتعدون عنه ويَمنعون غيرهم مِمَّن يُشبههم منه وبالتالي لا يعملون بالخير الذي فيه.. ".. فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ.." أيْ ولكنَّ الله تعالي يُبْطِل كَيْد الشياطين فيَنْسَخ أيْ فيُزيل ويُذْهِب الله برحمته وقُدْرَته وعِلْمه وحِكْمته ما يُلْقِي الشيطان أيْ ما يُوَسْوِس الشيطان به في العقول، يُزيله عن الذين يُحْسِنون استخدام عقولهم فيَستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فيَعبدونه وحده بلا أيِّ شريكٍ ويَتّبِعون دينه الإسلام وحده بلا أيِّ نظامٍ آخر مُخَالِف له، وعندما يَستجيبون هكذا ويَستعينون ويَستعيذون به من وَساوِس الشيطان فإنه يُعينهم علي مقاومته ورَفْضه وهزيمته ويُوَفّقهم ويُزيل عنهم ما يُلْقِي الشيطان سواء مِن فِكْرهم الشَّرِّيِّ بداخل عقولهم أو من شياطين الإنس حولهم، فيَزدادون بذلك عَمَلَاً بأخلاق دينهم الإسلام حتي يعملوا بها كلها فيَسعدون تمام السعادة في الداريْن.. إنَّ نَسْخه تعالي لِمَا يُلْقِي الشيطان يكون من خلال ما يُوصِي به من إسلامٍ في كتبه وآخرها القرآن العظيم، وهذا من حِفْظه تعالي للإسلام كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطْلَقَاً بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فمَن يعمل بإسلامه يَنْسَخَ الله عنه ما يُلْقيه الشيطان له من وَساوِس.. ".. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ.." أيْ ثم بمعني وأعظم من ذلك يُحْكِم أيْ يَحْفَظ ويُثَبِّت الله آياته في كتبه وآخرها القرآن العظيم ويجعلها دائما حتي يوم القيامة تَبْقَيَ وتَظَلّ كما أُنْزِلَتْ مُحْكَمَة أيْ شديدة الإحكام مُحصنة لا يُمكن لأيِّ باطلٍ أنْ يَنْفِذ إليها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الحِجْر "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، والآية (1) من سورة هود "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)"، والآية (42) من سورة فُصِّلَت "لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، أي ثم بعد أنْ يَنْسَخ الله ما يُلْقَي الشيطان وأعظم من ذلك يَحْفَظ ويُثَبِّت شريعته ويُبْقِيها كما أُنْزِلَت مُحْكَمَة ويَنْشرها ويَنْصر رسله والإسلام والمسلمين المُسْتَحِقّين للنصر والحقّ والعدل والخير، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً مُحَقّقاً لمصالح خَلْقه مُسْعِدَاً لهم، والمعني المقصود في هذا الجزء من الآية الكريمة يُشابِه ذات المعني في قوله تعالي ".. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.." (الرعد:17) أيْ فأمَّا الزبد وهو الباطل فيذهب جُفاءً أيْ مَقْذُوفَاً مَرْمِيَّاً بعيداً مُتَخَلّصَاً منه بلا قيمةٍ لأنه لا خير فيه ولا نفع منه، وأمَّا ما ينفع الناس، وهو الحقّ، أيْ القرآن والإسلام، فيَبْقَيَ في الأرض مستمرّاً دائماً، ينتفعون ويسعدون بخيره.. فالزبَد والخَبَث حتماً يذهب مع الوقت مُهَانَاً مَهْزُومَاً، بينما الماء والذهب حتماً يبقيَ مُكَرَّمَاً مَنْصُورَاً.. وهكذا الإسلام، باقي ومُستمرّ ومُنْتَشِر ونافع ومُفيد ومُسْعِد للداريْن تمام السعادة لمَن يعمل بكل أخلاقه، بينما غيره من الأنظمة المُخالِفَة له الباطلة هي وَهْمٌ مُنْتَفِخٌ ظاهريَّاً فقط لكنها لا حقيقة لها فهي كالرغاوي والفقّاعات سريعة الزوال والانكشاف وهي ضارَّة كالشوائب والنفايات ونحوها، وهي مُتْعِسَة في الداريْن، وعلي المسلمين سرعة التَّخَلّص منها لضَرَرَها حتي لا تنتشر وذلك بنشر الدعوة للإسلام بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث.. إنه سبحانه حتماً عليمٌ بما يُوحِيه وبرسله وبالمؤمنين وبكل خَلْقه وكَوْنه وبمَكائد الكائدين حكيمٌ في التعامُل مع كل ذلك
ومعني "لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)"، "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)" أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَم وأسباب سماح الله تعالي للشياطين بإلقاء وَسَاوِس الشرور والمَفاسد والأضرار، ليكون ذلك الإلقاء فتنة أيْ امتحاناً للناس، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم، فيَسعد الجميع بكل هذا في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام).. أيْ سَمَحَ الله بأنْ يُلْقِي الشيطان وساوِسه ليَجعل ما يُلْقِي الشيطان من وساوِس فتنة للذين في قلوبهم مرض أيْ في عقولهم مرضٌ مَا كنفاقٍ مثلاً أيْ إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو كشكّ في وجود الله أو تَرَدُّدٍ بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم عَمَلٍ بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كرياءٍ أيْ ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحِبّون أن يَراهم الناس فيَمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، أو ما شابه هذا من تفكيرٍ مَرَضِيٍّ غير سَوِيّ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وكذلك فتنة يُفْتَن بها القاسية قلوبهم وهم الذين تَصَلّبَت واشْتَدَّت عقولهم ومشاعرهم وأفكارهم بداخلها ولم تكن مَرِنَة رَقِيقَة لَيِّنَة ويُقْصَد بهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن الذين لا تتأثّر ولا تَلِين ولا تَستجيب عقولهم لأوامر الله ووصاياه وتشريعاته وأخلاقِيَّاته في الإسلام والتي ما هي كلها إلا لتُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ومعني جَعْل مَا يُلْقِي الشيطان فتنة بالنسبة لأمثال هؤلاء المُسِيئين أيْ ضَلالَة ومَضَرَّة وشَرَّاً وتعاسة لهم في الداريْن لأنها ستكون سَبَبَاً لاستمرارهم في ضلالهم وسُوئهم وإصرارهم عليه فيَسْتَحِقّون بالتالي حتماً مَا يُناسبهم مِن عقابٍ بعذابٍ فيهما بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من سُوءٍ بلا أيِّ توبة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (178) من سورة آل عمران "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وما كل ذلك إلا بسبب إغلاقهم لعقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في أول الآية الكريمة.. أيْ والحال والواقع إنَّ الظالمين أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، هؤلاء بالتأكيد – واللام للتأكيد – في شقاقٍ أيْ في شِقّ أيْ جانبٍ والله ورسوله في شِقّ مُقَابِل أيْ خالَفوهما وعانَدوهما وتكبَّروا عليهما وآذوهما وعادوهما وحاربوهما والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، إنهم في شقاقٍ بعيدٍ أيْ شديدٍ بعيدٍ كلّ البُعْد عن الصواب والسعادة.. كذلك من المعاني أنهم في شقاقٍ بعيدٍ أيْ خلافٍ شديدٍ فيما بينهم بما يُضْعِفهم حيث كلٌّ يَدَّعِي أنه هو الذي علي الصواب وغيره علي الخطأ.. "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)" أيْ وأيضاً سَمَحَ الله بأنْ يُلْقِي الشيطان وساوِسه مع نَسْخِ مَا يُلْقِيه وإحْكام آياته سبحانه (برجاء مراجعة معني النسْخ والإحْكام في الآية (52)) لكي يعلم الذين أوتُوا العلم – وهم أصحاب العقول السليمة المُنْصِفَة العادِلَة القابِلَة لتحصيل العلم الصحيح المُفيد المُسْعِد، هم أهل العلم بالله وبعبادته تعالي وحده وبدينه الإسلام أيْ المؤمنون بالله العاملون بالإسلام الذين قد أُعْطُوا العلم أيْ قد أتتهم كُتب الله فيها علومه وتشريعاته وأخلاقيّاته عن طريق رسله فآمَنوا أي صَدَّقوا بها وتمسّكوا وعملوا بما فيها من إسلامٍ فسعدوا تمام السعادة في دنياهم ثم أخراهم – مِن خلال تَدَبُّر وتَعَقّل هذا الإلقاء والنسْخ والإحْكام ومن خلال ما أُعْطُوا ووُفّقوا ووَصَلُوا إليه من علمٍ مع حُسْن استخدام عقولهم واستجابتهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أنه الحقّ من ربك أيْ أنَّ مَا أنزله مِن كُتُبٍ أوْحاها لرسله فيها تشريع الإسلام وآخرها القرآن العظيم هو الحقّ أيْ الصدْق التام الصادِر المُنَزّل من ربك بلا أيِّ شكّ ولا أيِّ تَدَخُّلٍ للشيطان فيه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، فيُؤمنوا به أيْ فيكون ذلك سَبَبَاً بالتالي أنْ يؤمنوا به بمعني أنْ يَثْبُتُوا علي الإيمان به والعمل بأخلاقه لأنهم مؤمنون أصلاً أيْ يستمرّوا علي التصديق التامِّ به والتأكّد الكامل بصلاحيته التامَّة لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عند عَمَلهم به كله، فيكون ذلك الإيمان به سَبَبَاً بالتالي أنْ تُخْبَت له قلوبهم أيْ تطمئنّ له عقولهم وتستقرّ في كل شئون حياتها بتَوَاصُلها الدائم مع ربها ودينها وتَرْضَيَ بهما وتَجتهد في طاعتهما وتَتَوَاضَع وتَسْتَسْلِم وتَنْقَاد وتَخْشَع وتُخْلِص لهما وتَعْدِل في كل أقوالها وأفعالها وتعود إليهما سريعاً مِن أيِّ خطأٍ وتكون لَيِّنَة صاحِبَة مَشاعِر رقيقة في كل مواقِفها مع كل الخَلْق.. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)" أيْ وإنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – مُرْشِد ومُوصِل الذين آمنوا أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل وثَبَتُوا دائماً عليها وأخْلَصُوا وأحْسَنُوا أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم وهم علي هذا، إلي صراطٍ مستقيمٍ أيْ إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الإرشاد للصراط المستقيم بسبب أنهم قد اختاروا هم أولا الإيمان بالله والعمل بأخلاق الإسلام من خلال إحسان استخدام عقولهم واستجابتهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا فاختار الله لهم بعد هذا الهداية له وللإسلام أيْ فيَسَّر لهم أسبابها ووَفّقهم لها وسَدَّد خُطاهم نحوها وثَبَّتَهم عليها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وفي هذا بيانٌ لعظيم رعاية الله تعالي وحِفْظه للمؤمنين وعَوْنه لهم علي مقاومة الشياطين ورحمته بهم وحبّه لهم ولإسعادهم في دنياهم وأخراهم وطمْأَنَة لهم أنه الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم في الدنيا والآخرة فهذه هي دائما سُنَّته أي طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً موجود بِعَوْنه وتوفيقه وتيسيره وتَثْبيته مع كل مؤمنٍ مُخلصٍ مُحسنٍ أيْ مُتْقِنٍ مُجِيدٍ متمسّك بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في دنياه وأخراه
ومعني "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)" أيْ وسيَظَلّ وسيَسْتَمِرّ الذين كفروا، وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، في مِرْيَةٍ أيْ في شكّ وجِدالٍ بغير حقّ، منه أيْ مِن القرآن العظيم وما فيه مِن شَرْع الإسلام الحنيف، في أنه وَحْيٌ مِن الله أم مِن كلام بَشَرٍ وفي صلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد الناس جميعا بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وذلك الاستمرار علي الشكّ والجِدال هو بسبب تكذيبهم وعِنادهم وإغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وسيَسْتَمِرُّون علي ذلك الحال التعِيس في الدنيا ثم الآخرة ما داموا مُسْتَمِرِّين مُصِرِّين علي هذا الإغلاق للعقول والتكْذيب والعِناد بلا توبةٍ وعودةٍ للحقّ الذي يَقبله أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله الفطرة بداخل هذه العقول والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) حتي أيْ إلي أنْ تأتيهم أيْ تَحضرهم وتَصِل إليهم الساعة بَغْتَة أيْ فجأة وهم علي تكذيبهم غير مُسْتَعِدِّين لها بالإيمان والعمل الصالح والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار وأَخْذ كل صاحب حقّ حقّه وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. هذا، ولكلّ إنسانٍ ساعة آتية بالتأكيد قبل ساعة يوم القيامة لا ينكرها أحدٌ لأنه يراها ويسمع بها يوميا وهي وقت موته ونهاية أجله في الدنيا حيث دخول قبره وبَدْء حسابه المَبْدَئيّ.. فليَتَّعِظ بالتالي إذَن العاقل الذي يريد الاتّعاظ ويُحْسِن الاستعداد بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)" أيْ أو يَصِلَهم عذابُ يومٍ لا مَثيل له فى هَوْله وشِدَّة عذابه هو عذاب يوم القيامة وقد سُمِّيَ بيومٍ عقيمٍ لأنه لا يوم بَعْده حيث كل يومٍ يُولَد مَا بعده من الأيام إلا هذا اليوم فإنه لا يوم بعده كالمرأة العقيم التي لا تَلِد، وقد ذُكِرَ إتْيان اليوم العقيم بعد إتْيان الساعة علي اعتبار أنها تعني مُقَدِّماته ولمزيدٍ مِن التهويل والتأكيد علي مَا يَنتظرهم يومها من عذابٍ شديدٍ لا يُوصَف.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ عذاب يومٍ عقيمٍ يُقْصَد به عذاب يومٍ شديدٍ في الدنيا عقيمٍ أيْ ممنوعٍ من الخير والرحمة لهم بل كل شرّ وشِدَّة لأنَّ ذِكْر الساعة قبله يعني عذاب يوم القيامة في الآخرة فتكتمل بذلك المعاني وحتي لا يكون هناك تكرار، كما حَدَثَ بالفِعْل يوم غزوة بَدْرٍ حيث عُذّبَ الذين كفروا بعذابٍ شديدٍ بقتلٍ وأسْرٍ وسيَحْدُث مثل ذلك العذاب مع الكفار في كل عصرٍ وسيُحاسبهم ويُعاقبهم الله تعالي علي شرورهم كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)"، "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)" أيْ السلطان القاهِر الغالِب الذي لا يُغْلَب والتّصَرُّف والحُكْم المُطْلَق التامّ كَيْفَمَا شاء في كل الكَوْن والخَلْق يومئذٍ أيْ يومَ إذ أيْ يوم حين يأتي يوم القيامة أيْ يومها لله وحده لا لغيره بلا أيِّ شريكٍ فلا أحد يَمْلِك أيَّ شيءٍ مِمَّا كان مَلّكه إيّاه الله تعالي في دنياه فالمُلْك كله الثابت الذي لا يَزول ولا يَتَغَيَّر لمالِك المُلْك سبحانه وحده، وهو وحده لا غيره الذي يَحْكُم بينهم فيه بحُكْمه العادل تمام العدل أيْ بين الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم.. ".. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)" أيْ هذا بيانٌ وتفسيرٌ وتفصيلٌ لِمَا سيَحْكُم به تعالي بينهم حيث سيُعْطِي كلّ إنسانٍ ما يَستحِقّه من خيرٍ وسعادةٍ أو شرٍّ وتعاسةٍ علي حسب عمله في دنياه بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم.. أيْ فالذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، هؤلاء حتماً بسبب إيمانهم وعملهم الصالحات في جنات النعيم التي يَتَنَعَّمون ويَسعدون فيها بتمام النعيم في بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فهؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لهم عذابٌ مُهِينٌ أيْ مُذِلٌّ مُحِطٌّ من شأنهم مُحَقّرٌ لهم في مُقابِل ضلالهم واستهزائهم بالله ورسله وكتبه وإسلامه وذلك بعد العذاب المُهِين الذي سيُعَذّبون به قطعاً في دنياهم بدرجة من الدرجات بسبب سُوئهم حيث سيُصابون في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. إنَّ في هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين والمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجِرين المُجاهِدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)"، للشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد وصورهما وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)"، "لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)" أيْ هذا حثّ وتشجيعٌ علي الهجرة عند الاحتياج إليها لِمَا فيها مِن خَيْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. أيْ والذين فارَقوا وتَرَكُوا مكان إقامتهم ووَطَنهم ومُجْتَمعهم وأحبابهم ومُمتلكاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم، في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الحِفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها ونَشْرها والدفاع عنها ونُصْرَتها ضِدَّ مَن يُحاولون مَنْعها ليَسعد الناس جميعا بها، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا.." أيْ وبعد أنْ هاجَروا في سبيل الله قُتِلُوا بأيدي أعدائهم وهم يُجاهِدون يُدافِعون عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة أو ماتوا بلا قتالٍ بصورةٍ طبيعِيَّةٍ علي فِراشهم وهم كذلك لم يَتَغَيَّروا.. ".. لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – سيَرْزُقهم الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، واللام للقَسَم والنون للتأكيد، أيْ سيُعطيهم رزقاً أيْ عطاءً حَسَنَاً أيْ طيِّبَاً جميلاً جيداً مُسْعِدَاً مَحْبُوبَاً واسِعَاً عظيماً هائلاً من فضله تعالي ورحمته وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ، سيُعطيهم، هؤلاء وهؤلاء، من كل أنواع الأرزاق الحَسَنَة، من كل الخير والسعادة، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً لهم، في دنياهم أولا حيث كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم في أخراهم حيث ما هو أحْسَن وأتَمّ وأخْلَد خيراً وأمْنَاً ورزقاً وسعادة في نعيمِ جناتٍ بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. إنهم لهم أجرهم العظيم سواء قتلوا أو ماتوا، مع مراعاة زيادة فضل وأجْر مَن اسْتُشْهِد بالقطع بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ نقصانٍ مِن فضل وأجر الذي يموت علي فراشه ونواياه جاهِزَة للاستشهاد أيضا، وفضْلُ الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود واسِعٌ للجميع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (100) من سورة النساء "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"، والآية (169) من سورة آل عمران "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وإنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – هو خير الرازقين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمَخْلُوق؟! فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا وهو خالِق رزقه من عدمٍ ويَمْلكه كله ويَملك أسبابه وأصوله وخاماته كالماء والهواء والطاقات والخلايا ونحوها وخزائنه لا تنتهي مُطلقا، أمّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزقه فهو خالقهم وخالق كل شيءٍ ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورِزْقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مَرْزُوقون به منه قد مَلّكهم إيّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأَعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا.. وفي هذا تذكيرٌ بأنْ يَطلب الخَلْق من خالقهم وحده سبحانه الرزق، وأنْ يُحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما يستطيعون، وسيُيَسِّره لهم حتماً، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لهم ويُعينهم عليه مِن خَلْقه.. "لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، ومزيدٌ مِن بَيَان حُبِّهم وتَشجيعهم للاستمرار علي خَيْرهم والاسْتِزَادَة منه والتبْشير لهم بكلّ خيرٍ دنيويٍّ وأخرويّ.. أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك الخير العظيم الذي يفعلونه – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – سيُدْخلهم الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، واللام للقَسَم والنون للتأكيد، مُدْخَلَاً يَرْضَوْنَه أيْ يُحِبُّونه ويَسعدون به ويَرْضَوْن عنه تمام الرضا أيْ يَقبلونه تمام القبول ويَجعلهم في تمام الارتياح والاطمئنان والاستقرار والأمن وعدم الطلب لأكثر منه حيث هو الأعلي والأعظم، والمقصود من هذا المُدْخَل الذي يَرْضَوْنَه أنه سبحانه سيُدْخِلهم في دنياهم أولا إلي كلّ خيرٍ حيث كل رضا وحب وسعادة إذ ستُفْتَح لهم الأماكن وتَتّسِع بيوتهم وأملاكهم وأعمالهم وأموالهم وكل أنواع أرزاقهم، وسيشعرون دائما أثناء ذلك وفي كل ما يَدْخُلُون فيه ويُقْدِمُون عليه ويَبدأونه من أقوالٍ وأفعالٍ وفي كل لحظات حياتهم بكل رضاً وكرمٍ وتكريمٍ وأمنٍ واستقرارٍ وهدوءٍ واطمئنانٍ ورعايةٍ وحبٍّ وتوفيقٍ وسَدَادٍ وقوّةٍ ونصرٍ وبالجملة يستشعرون تمام السعادة، ثم في أخراهم سيُدْخِلهم حتماً أعظم مدْخَل أيْ أسعد مكانٍ وأكثره رضاً وأمْنَاً وكَرَمَاً وتكريماً وتشريفاً ورزقاً وسعادة، إنه الجنة، بنعيمها الذي لا يُوصَف، حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)" أيْ وإنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – وإنَّ واللام للتأكيد – له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، وهو حليم أيْ كثير الحِلْم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنه تعالي عليمٌ بما يُرْضِي هؤلاء الذين هاجروا في سبيله ثم قُتِلُوا أو ماتوا، عليمٌ بالنوايا، بمَن خَرَجَ في سبيله وبمَن خَرَجَ في سبيلٍ آخر، عليمٌ بأحوال الجميع، حليمٌ لا يُسارِع بالعقوبة ويَتَجاوَز عن الذنوب بالتوبة منها
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَوَازِنَاً بين الحِرْص علي أخْذ حقّك مِمَّن ظلمك واعتدي عليك والاهتمام بعقابه – من خلال القضاء أو لجانِ تحكيمٍ أو نحو هذا – وبين الحرص علي العفو عنه ونَشْر التسامح، وذلك حسبما تقتضيه الظروف والأحوال وبما يُحَقّق الحقّ والعدل والخير والسعادة لك ولمَن ظَلَمك ولمَن حولكم وللناس جميعا.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)" أيْ ذلك الذي ذُكِرَ لكم سابقاً اذْكُرُوه ولا تَنْسُوه والتزموا وتَمَسَّكوا واعْمَلُوا به كله لتسعدوا في الداريْن وأضيفوا إليه واعلموا أنه مَنْ عاقَبَ – أيْ جَازَيَ بسُوءٍ في مُقابِل فِعْلٍ سَيِّءٍ – مَنْ ظَلَمَه واعْتَدَيَ عليه بمِثْل مَا فُعِلَ به منه، أيْ جازَىَ الظالِم بمِثْل مَا ظَلَمَه، ولم يَزِدْ على ذلك لأنَّ أيَّ زيادة ستكون ظلماً منه له يُعاقَب هو عليه بما يُناسب في الداريْن، فلا لَوْم ولا ذنب ولا عقاب دنيويّ أو أخرويّ عليه لو فَعَلَ هذا لأنه مِن حَقّه، فهذا العدل يُصَفّيِ ما في العقول من غِلٍّ وانتقامٍ فتهدأ الأمور وتَنْحَصِر الأضرار وتعود الأوضاع لِمَا كانت عليه ويَأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفوضي وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (194) من سورة البقرة "فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ.."، والآية (126) من سورة النحل "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ"، والآية (40) من سورة الشوري "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ.." أيْ ثم اعْتُدِيَ عليه وظُلِمَ بعد ذلك مِن هذا الذي عاقَبَه.. ".. لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكنْ لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يُبْغَيَ عليه بعد عقابه لمَن ظَلَمَه بمِثْل ما ظُلِمَ به – سيَنْصُره الله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، واللام للقَسَم والنون للتأكيد، لأنه مَظلومٌ وهو تعالي بقُدْرَته وعِلْمه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو يَنصر دائماً أيَّ مَظلومٍ علي أيِّ ظالِم، وذلك بتيسير أسباب النصر علي مَن ظَلَمَه وأخْذ الحقّ منه يوماً مَا بالأسلوب وبالتوقيت الذي يَراه سبحانه مُناسِبَاً مُسْعِدَاً له وسيُيَسِّر له قطعاً مَن يُعينه علي ذلك.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)" أيْ إنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – وإنَّ واللام للتأكيد – له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عَفُوّ أيْ كثير العفو عن كل السيئات أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها عندما يتوب منها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وهو غفور أيْ كثير المغفرة يعفو أيضا عن الذنوب، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العفو، وذلك لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، فهو الرحيم كثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ من الله تعالي بصفةٍ هامّةٍ مِن صِفاته وهي العَفْو والمَغْفِرَة ليَتَشَبَّه بها المؤمنون به المتمسّكون العامِلون بكل أخلاق إسلامهم في مِثْل هذه المَوَاقِف ليَسعدوا في الداريْن، وذلك لِقَطْع ومَنْع سِلْسَلة العنف هذه المُتَمَثّلَة في العقاب، ثم يَنْتَقِم المُعاقَب ثم العودة للعقاب يَتبعها العودة للانتقام وهكذا، ولإنهاء الأمر والعودة للأصل، للأمن وللاستقرار وللعلاقات الإسلامية الطيِّبَة المُسْعِدَة وللخير وللسعادة
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)" أيْ ذلك المَذْكُور سابقاً مِن أنَّ المُلْك كله له وحده وأنه الحاكِم وحده بين خَلْقه وأنه الذي يُدْخِل الصالحين المُدْخَل الذي يَرْضَوْنه ويُعَذّب الذين كفروا العذاب المُهين وأنه الذي يَنْصُر مَن بُغِيَ عليه ويَنصر المؤمنين المُسْتَحِقّين للنصر ونحو هذا من عظيم وكمال قُدْرَاته، كل ذلك بأنَّ أيْ لأنَّ أيْ بسبب أنَّ الله قادرٌ على كلّ شيءٍ ومن أدِلّة هذه القُدْرَة التامَّة العظيمة الواضِحَة الواقِعِيَّة أمامكم علي سبيل المِثال لا علي سبيل الحَصْر بالقطع والتي لا يُنْكِرها أيُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه وحده الذي يُولِج الليل في النهار ويُولج النهار في الليل أيْ يُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا ويزيد أحيانا في أحدهما ما ينقصه من الآخر والعكس، وهكذا، لكي يُحَقّق مصالح وسعادات خَلْقِه، وهذا الوُلُوج من الآيات والنِعَم التي عليهم دائما أنْ يَتذكّروها ويَشكروها.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)" أيْ وأيضا ذلك المَذْكُور سابقاً بأنَّ أيْ ولأنَّ أيْ وبسبب أنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وصفات القُدْرَة التامَّة والعِلْم الكامِل والتي منها أنه سميعٌ لكلِّ قولٍ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ بكلِّ فِعْلٍ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، فلا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كلِّ كَوْنه ومِن كلِّ خَلْقِه.. إنه بالتالي سيُجازي حتماً في الداريْن بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)" أيْ ذلك الاقْتِدار والإعْجاز كله المَذْكُور سابقاً بسبب أنَّ الله هو الحقّ، أيْ وجوده تعالي هو صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصْدَق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدْق كله حيث هو الإلاه الحقّ أيْ المَعْبُود الحقّ الواحد الأحد بلا أيِّ شريكٍ الذي لا يُمْكِن أبداً أنْ يُعْبَد غيره، والإيمان به هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بكلّ خيرٍ وأمنٍ ونَصْرٍ وسعادةٍ للمؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبعث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق،.. بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضَيَاعٍ وشَرٍّ وخوفٍ وانْهِزامٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة، وهذا هو معني ".. وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ .." أيْ وأنَّ الذي يعبدون غيره مِن آلهةٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها والتي يعبدها المُشْرِكون بالله في العبادة هو الباطل.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)" أي وأيضا ذلك الاقتدار والإعجاز كله هو بسبب أنَّ الله هو الأعلي والأعظم والأكبر من أيّ شيءٍ، فهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والملك والسلطان والنفوذ كله، قد غَلَبَ كلّ شيءٍ وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم وأعلي مِن أن يُخاطبهم مباشرة ولن يتحمّلوا ذلك، وهو الكبير أيْ العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كلّ صفات العَظَمَة، فهو وحده الذي صِفاته وقُدْرَته وعِلْمه وحِكْمته وسلطانه سبحانه أعلي وأكبر وأعظم وأرْفَع وأسْمَيَ وأقْوَيَ من صِفَة أيِّ أحدٍ أو أيِّ شيءٍ حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وهل يُقارَن الخالِق بالمَخْلوق؟!! فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده إذَن لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)"، "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)"، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)"، "وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله وحده لا غيره بقُدْرته وعِلْمه وإرادته وحِكْمته ورحمته يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات فتُصْبِح أيْ فتَصير مع الوقت بسببه الأرض مُخْضَرَّة بخُضْرَةِ ما ينبت فيها من النباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المُتَنَوِّعَة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة، وذلك بعد أن كانت مَلْسَاء هامِدَة لا نبات فيها.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)" أيْ لأنَّ الله لطيفٌ أيْ كثير اللّطْف أيْ يُوصل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير – بل ولكلّ خَلْقه – بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سهلا، وهو لطيف أي ليس ثقيلا وإنما يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق.. إنه أيضا خَبِيرٌ أيْ عليمٌ بكلّ خِبْرةٍ عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخَفايا العقول وأحوال كل الخَلْق وما يحتاجونه ويُصْلِحهم ويَنفعهم ويُسعدهم فيُجَهِّزه ويُيَسِّر لهم أسبابه بقُدْرَته وعِلْمه ورحمته وكرمه وفضله.. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كل خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)" أيْ لأنَّ له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وإنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – هو الغَنِيّ أيْ هو وحده الكامل الغِنَيَ الذي لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ الناس جميعا! فهو يُشَجِّعهم على الإيمان لا لحاجته سبحانه لذلك حتما ولكنْ لاحتياجهم الشديد هم له ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن وإلا لو كفروا لتعسوا تماما فيهما حيث الجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم كلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حميد أيْ محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله وحده لا غيره بقُدْرته وعِلْمه وإرادته وحِكْمته ورحمته ورزقه وفضله وكرمه قد سَخَّرَ لكم أيْ ذَلّلَ وأعَدَّ وجَهَّزَ كل ما في الأرض من مخلوقاتٍ كالهواء والليل والنهار والمياه والطاقات والنباتات والحيوانات والطيور وغيرها ممّا لا يُمكن حَصره من أجل أن تنتفعوا وتسعدوا بها تمام الانتفاع والسعادة؟! وكذلك مِن تمام قدْرته وعِلْمه ورحمته ورزقه ذَلّل ويَسَّرَ لكم السفن التي تَتَحَرَّك وتَسِير وتَجْرِي في البحر بأمره أيْ بإذْنه وتَسْخِيره ومَشيئته وإرادته وتقديره وذلك من خلال خواصِّه الفيزيائية التي خَلَقها في مياهه وخواصّ الهواء الذي يُحرّكها ونحو هذا وبواسطة توفيقه وتيسيره لعقولكم والتي هو خالقها لصناعة هذه الفلك بكل أنواعها، وذلك لتُحقّقوا بها احتياجاتكم التي تَنفعكم وتُسعدكم كنقل البضائع والسفر والسياحة وما شابه هذا.. ".. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.." أيْ وكذلك مِن تمام قدْرته وعِلْمه ورحمته يَمْنَع السماء مِن أن تقع علي الأرض فتُدَمِّركم إلا بإذنه بذلك أيْ بأمره وإرادته ومَشيئته وتقديره.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)" أيْ لأنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – بالناس جميعاً وبالخَلْق كلهم رءوفٌ رحيمٌ أيْ كثير عظيم الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وإذا كان هذا هو الحال مع عموم الناس مؤمنهم وكافرهم فكيف يكون الحال بالمؤمنين به سبحانه العامِلين بدينه الإسلام في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم؟! إنه بهم بالقطع يكون أعظم رأفة ورحمة تَتَمَثّل في دَوَام كلِّ رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. "وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي كل ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من البيان لبعض مُعجزاته ودلالاته تعالي التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وهو الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ الذي أحياكم وخَلَقكم وأنشأكم في بطون أمهاتكم وهو يُنْشِيء الحياة أمام أعينكم إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً في المواليد التي تُولَد لكم كلّ لحظة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم كذلك يُميتكم عند نهاية آجالكم في دنياكم دون اختياركم كما ترون أمواتا منكم يَقبض أرواحهم أيضا في كل لحظة، ثم يُحْيِيكم مرة ثانية بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا يوم القيامة حيث الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم؟! فأحسنوا بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنَّ هذا الإحْياء بعد الموت والإمَاتَة بعد الإحياء هو من أدلة وجوده سبحانه!.. أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن يُحييكم مرة أخرى وقد قَدَرَ تعالي على الأمور الأولى فهل لا يَقْدِر على الأخيرة؟!.. إنه لا عَجَب إذَن في أن يُحيي الناس ويَجمعهم إلى يوم القيامة لحسابهم ولا سبب يدعو إلى الشكّ في هذا الأمر مُطلقا لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي تشهدون مثله لحظيا! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك!!.. فمَن خَلَقهم أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدهم مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك! حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادّها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عَدَم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. إنَّ أحداً لم يَتَجَرَّأ أنْ يَدَّعِيَ أنه يفعل ذلك!! إذَن فهو وحده سبحانه الذي يفعله حيث لم يُعَارِضه أحدٌ فيما يقول!!.. ".. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)" أيْ إنَّ الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كان مسلما، وكذلك المُشرك بالله الذي يعبد غيره كأصنامٍ ونحوها، ومَن يَتَشَبَّه به، كفورٌ أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها وشكرها وحُسْن استخدامها بل قد يكفر به أصلاً أيْ لا يُصَدِّق بل يُكَذّب بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره.. فَلْيَحْذَر إذَن كل مسلم مِثْل هذا ولا يَتَشَبَّه بهم حتي لا يتعس مثلهم في الداريْن بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)" أيْ لكلّ مجموعةٍ مِن الناس السابقين لكم أيها المسلمون الحالّيُّون جعلنا مَنْسَكَاً هم ناسِكُوه أيْ عبادة هم عابِدُوها عامِلُوها أيْ طاعة أيْ تشريعات وأخلاقِيَّات وأنظمة هي الإسلام لكنْ بما يُناسِب كلّ عصرٍ ليُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (48) من سورة المائدة ".. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا دلالة قاطعة علي أنَّ الإله أيْ المَعْبُود وهو الله تعالي واحدٌ لأنَّ التشريع واحدٌ ولو كانت الآلهة مُتَعَدِّدَة لكانت تَعَدَّدَت التشريعات!.. وفي هذا أيضا دلالة قاطعة علي عظيم رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم فهو لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة، وإنما يُرْسِل إليهم منذ آدم وحتي نهاية الحياة الدنيا وحُدُوث الحياة الآخرة رسله كلّ فترةٍ وآخرهم رسوله الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وفيها الإسلام الذي يُناسِب عصرهم وآخرها القرآن العظيم المُناسِب لهم بكل مُتَغَيِّراتهم ومُتَغَيِّرات حياتهم حتي يوم القيامة، لكي يَطْمَئِنّوا ويَسْتَبْشِرُوا ويَسْعَدوا ويَتَسابقوا في العمل بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن كما تَسَابَق المؤمنون من الأمم السابقة فسعدوا فيهما.. ثم بناءً علي كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره فبالتالي علي المسلمين أن يُحْسِنوا دعوة الآخرين علي اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم ويَصْبِرُوا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) وسيَسْتَجِيبون لو أحسنوا استخدام عقولهم لأنهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وها هو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويُضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك، فبالتالي إذَن لا يجوز لهم أنْ يُنازِعوك أيْ يُجادِلوك ويُخاصِموك – والنون للتأكيد – هؤلاء الأمم السابقة التي جعلنا لهم مَنَاسِك سابقة قَبْلك وكذلك المُكَذّبون لك، في الأمر أيْ في أمر هذا القرآن العظيم وما فيه من دين الإسلام ويُكَذّبوك بل يجب عليهم الإيمان والعمل به والانتهاء عن مُنازِعتهم إيَّاك إنْ كانوا عقلاء، فهذا تخويفٌ وتهديدٌ وتحذيرٌ لهم أنهم سيُعاقَبُون بما يُناسب في الداريْن، وكذلك لا يجوز لك أنت أيضا يا رسولنا الكريم وأنتم أيها المسلمون أن تُمَكّنوهم مِن أنْ يُنازعوكم في الأمر فتَصِلُوا إلي مرحلة أن تتأثّروا بمُنازَعَتهم فيُبْعِدوكم عنه، وذلك بأنْ تَستمرّوا في التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام التي فيه وفي الدعوة له والدفاع عنه وبالتالي لا تتأثّرون بهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (87) من سورة القصص "وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والإرشاد بعدم المُنازَعَة هو بسبب أنَّ القرآن العظيم هو أقوي وأعلي من أن يُجادِل فيه أحدٌ لأنَّ الحقّ الذي به واضحٌ شديدُ الوضوح لا يُؤَثّر فيه مُطلقاً أيّ جَدَلٍ ولا يُكَذّب به إلا كل سفيه مُعانِد وذلك لشموله لكل ما جاءهم من كتب سابقة حيث هو مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام وهو مُهَيْمِن عليها أيْ حاكم مراقب علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسِب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. إنَّ هذا القرآن العظيم هو الكتاب الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. فبالتالي إذَن لا تلتفتوا أيها المسلمون لمُنازِعتهم لكم أيْ صِراعهم معكم وجِدالهم ومقاومتهم إيّاكم ولا تتأثّروا بها، واعلموا أنهم لا ينازعونكم إلا لأنهم مُكَذّبون مُعانِدُون مُسْتَكْبِرون حيث يعلمون بداخلهم بفطرتهم أنكم صادقون وأنَّ القرآن هو الحقّ وأنه مُهَيْمِن علي ما جاءهم من كتب سابقة ولكنهم يفعلون ذلك ولا يؤمنون بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي ثمن من أثمان الدنيا رخيص دنيء زائل يوما ما كمنصب أو جاه أو مال أو غيره.. فاسْتَمِرُّوا في تَمَسُّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، وفي دعوتكم له بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، وفي دفاعكم عنه ضِدَّ كلّ مَن يَعْتَدِي عليه، وهذا هو معني ".. وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)" أيْ واسْتَمِرّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده في الدعوة إلي عبادة ربك وحده بلا أيِّ شريكٍ وإلي اتّباع دينك الإسلام بلا أيِّ نظامٍ آخر يُخالِفه ولا تَلْتَفِت أبداً إلي مُنازَعاتهم ومَكائدهم ومُعَوِّقاتهم ولا تَتأثّر بها وتَتَوَقّف عن دعوتك بسببها، فالمسلم حتماً هو المُنتصِر في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم، فاستَمِرّ في دعوتك لغيرهم، ولهم أيضا بما يُناسبهم، فإنك حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – إنَّ واللام للتأكيد – علي هُدَيً مستقيم أيْ دينٍ أيْ طريقٍ لا اعوجاج فيه وهو الإسلام أيْ تَسير علي طريق الهُدَيَ المُنير الواضح الصائب المستقيم الذي ليس فيه أيّ اعوجاجٍ أو انحرافٍ أو ضلالٍ والذي سيُوصلك وكلّ مَن يَسير فيه لتمام الخير والسعادة في دنياك وأخراك، بينما المُكَذّبون هم الذين علي ضلالٍ شديدٍ التعساء فيهما المُنْهَزِمُون مُؤَكّدَاً، فأنت على ثِقَةٍ من دينك وذلك يُوجِب لك الصَّلابَة والإصرار علي ما أنت عليه من إسلامٍ والدعوة له والدفاع عنه ولستَ على أمرٍ مَشكوكٍ فيه فيَمنعك منه مُنازَعَةُ المُنازِعِين.. وفي هذا تسلية وتخفيف عن المسلمين مِمَّا قد يُصَابون به وتثبيت وطَمْأَنَة وتبشير وإسعاد لهم
ومعني "وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)" أيْ وإنْ جادلوك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، رغم كل هذا الوضوح لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من خلال مُعْجِزَات الله تعالي ودلالاته سبحانه في كل مخلوقاته في كل كوْنه علي أنه تعالي هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ورغم وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلتَ به وكل الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، رغم كل هذا، جادلوك أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين ومَن يَتَشَبَّه بهم، أيْ أصَرُّوا علي الاستمرار في جِدالك بالباطل أيْ بغير حقّ فيما تدعوهم إليه، استكبارَاً وعِنادَاً واسْتِهْزاءً ومُرَاوَغَة، والجدال هو صورةٌ سَيِّئةٌ مِن صُوَر الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ويزداد الجدال سُوءَاً إذا كان بغير علم، أيْ بجَهْلٍ، أيْ كان المُجَادِل جاهِلَاً لا يتكلّم كلاماً مَنْطِقِيَّاً يَقْبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، وكان لا يستند لأيّ هُدَي أيْ دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع، ولا لأيّ كتابٍ مُنيرٍ أيْ وَحْيٍ من الله مُضِيء واضِح يُنير له طريق الحقّ كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يُصِبْه تحريف، فهذا هو أصْدَق مَرْجِع، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين، وهي غير مقبولة حتماً من أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا من الفطرة المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وما كل ذلك الجدال بغير علمٍ إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)" أيْ فلا تُجادِلهم ما داموا مُستمِرِّين علي هذه الحالة (برجاء لاكتمال المعاني ولمعرفة كيفية التعامُل مع أمثال هؤلاء مراجعة الآية (63) من سورة النساء "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ولكنْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهؤلاء الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم الله أعلم بما تعملون من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ومِن شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات ومُحاسِبكم ومُجازيكم علي كل أعمالكم وأقوالكم بما يُناسبها من عذابٍ شديدٍ عظيمٍ مُؤْلِمٍ لا يُوصَف علي قَدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، فالأمور كلها مَوْكُولَة له تعالي العالِم بتمام العلم بحالنا وحالكم وجميع الخَلْق وهو وحده الذي يَتَوَلّي الحُكْم بيننا وبينكم بحُكْمه العادل في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (8) من سورة الأحقاف ".. هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، والآية (41) من سورة يونس "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مَصيرهم
ومعني "اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثال هؤلاء لمزيدٍ من إيقاظهم، كما أنه تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين.. أي الله تعالي وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم وأقوالنا وأفعالنا الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا هو الذي سيَحكم أيْ سيَقْضِي وسيَفْصِل بينكم وبيننا جميعا في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع النزاع والخلاف الذي كنتم تختلفون فيه معنا في الدنيا أثناء حياتكم بشأن أمر اتّباع الإسلام فيُبَيِّن لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به وهو نحن المسلمون ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير وهو أنتم غير المسلمين، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم فيُجازينا بكل خيرٍ وسعادة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ويُعاقبكم بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب سُوئكم في عذاب النار الذي لا يُوصَف.. فأحسِنوا إنْ كنتم عقلاء الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)" أيْ هذا بيانٌ لكمال عِلْمه تعالي لتأكيد مَا سَبَقَ ذِكْره مِن أنه سبحانه أعلم بما يعملون ويقولون جميعا وأنه يَحْكُم بينهم فيما فيه يختلفون بتمام العلم إذ لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كَوْنِه وخَلْقِه.. أيْ هل لم تَعلم وتَتَأكّد أيها المسلم، والاستفهام والسؤال للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك، أيْ قد عَلِمتَ وتَأكّدتَ، أنَّ الله وحده هو الذي يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السماء والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه من خيرٍ أو شَرٍّ سواء أكان عَلَنِيَّاً أم سِرِّيَّاً.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين العاملين بإسلامهم حيث سيُعطيهم سبحانه كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم في مُقابِل ذلك، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكَذّبين والعاصِين حيث لهم كل شَرٍّ وتعاسةٍ فيهما بما يُناسِب سُوئهم، لعلّ ذلك يُوقِظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أنْ يَتعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام.. ".. إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من إحاطة ودِقّة علمه تعالي بكل شيء.. أيْ إنَّ ذلك كله يعلمه سبحانه علماً تامَّاً شامِلاً وهو مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة.. وبالتالي إذَن فكيف يَجْهَل أو يَنْسَىَ سبحانه شيئاً وكلّ شيءٍ مُسَجَّلٌ مَحْفُوظٌ بتمامه بلا أيِّ زيادةٍ أو نُقصانٍ أو تغيير؟! وكيف يُمْكِن لأيِّ أحدٍ إنكار أيِّ شيءٍ مِمَّا سيُواجَه به يوم القيامة مِمَّا قاله وفَعَلَه وكله مُسَجَّل عليه لحظة بلحظة؟! بل كلّ أحدٍ سيَنال مَا يَسْتَحِقّه بتمام العلم والعدل.. إنه لمَّا كان الإنسان يَنْسَيَ ولا يَحفظ الأمور إلا بكتابتها في كتابٍ حتي لا يَنْساها خاطَبَه سبحانه علي قَدْر عقله بما يَعْرفه ويَفْهمه ليُقَرِّب الأمر لذِهْنه فبَيَّنَ له أنَّ كل الأمور مُسَجَّلَة مَحْفُوظَة في كتابٍ عنده هو اللوح المحفوظ.. إنَّ مَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)" أيْ لأنَّ ذلك كله، أيْ الخَلْق وإحاطة عِلْمه بكل ما في السماء والأرض وبكل خَلْقه وأقوالهم وأفعالهم وأرزاقهم وأحوالهم وبكتابة هذا العلم وإثباته وحِفْظه في كتابٍ والحُكْم بينهم وكتابة التقديرات وأنظمة الحياة ونحوها، يَسِير علي الله كل اليُسْر أيْ سَهْلٌ مَيْسُورٌ تماماً عليه تعالي لتمام علمه وقُدْرته فهو القادر علي كل شيءٍ الذي يقول له كن فيكون كما يريد
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)" أيْ ويَعْبُد المشركون أيْ يُطيعون غير الله آلهة أيْ مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها – أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون – ليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرة والعلم والرزق ونحو ذلك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.." أيْ ويُشْرِكون في العبادة مع الله شيئاً لم يُنَزّل الله بإشراكه دليلا، أيْ ويعبدون من دون الله ما لم يُنَزّل بجَوَاز عبادته دليلا، أيْ يجعلونه ويتّخذونه إلاهاً من عند أنفسهم دون أن يكون معهم أيّ دليل أو حجّة أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالهم وأفعالهم، فالله تعالي ما أخبر عنه بأنه إلاهٌ بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذا الإلاه المَزْعُوم أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنه إلاهاً بحَقٍّ ويَسْتَحِقّ العبادة كوَحْيٍ مَثَلَاً أو كتابٍ أنزله مع رسله إليهم، ولا يوجد عندهم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيته، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادته لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يَقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.." أيْ والذي أيضا ليس لهم بشأنه أيْ بجَوَاز عبادته أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد له دليل علميّ عقليّ مَنْطِقِيّ يَقبله العقل السليم مَوْثوق يَسْتَنِدون إليه يدلّ على جواز ذلك بوجْهٍ مِن الوجوه، بل إنَّ الدليل العقليّ يُؤَدِّي إلى عكسه لأنه لا يَسمع ولا يُبْصِر والقانون العقليّ يُوجِب أن يكون المَعْبُود أعظم من العابِد فكيف يعبدون جماداً وهم أحياء وهو لا يعقل وهم يعقلون؟! كيف يَقبل العاقل أن يكون العابد أقوي من إلاهه الذي يَعْبده؟! والمقصود أنهم يعبدون آلهتهم غير الله تعالي عن جَهْلٍ تامٍّ وإغلاقٍ لعقولهم وتَقْليدٍ أعْمَيَ بلا أيِّ تَعَقّلٍ ولا تَدَبُّر لآبائهم الذين وَرَّثُوهم ذلك فاتّبعوهم وقلّدوهم في ضلالهم وقُبْحِهم وفِعْل الشرور والمَفَاسِد مِثْلهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ نَصِير أيْ مُعِين في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يَتَمَثّل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)" أيْ وحينما تُقْرَأ عليهم وتُذْكَر أمام هؤلاء الذين يَعبدون مِن دون الله ما لم يُنَزّل به سلطاناً وما ليس لهم به علم ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين آياتنا بَيِّنات أيْ دلالاتنا واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْق رسولنا الكريم وأنه مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده ليَثِقوا به ويَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولهم يُرْشِدهم إليها ليَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبه وآخرها القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، تَعْرِف في وجوه الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – المُنْكَرَ أيْ تَعْلَم وتَتَبَيَّن وتَلْحَظ وتَرَيَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل مُشاهِد عاقِل في وجوههم الإنكارَ أيْ علامات الإنكار لها أيْ الرفض والتكذيب لها والغضب منها ومن قارئها ومُذَكّرهم بها والكراهية والعبوس والضيق والغيظ عند سماعها.. ".. يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.." أيْ يُقارِبُون مِن شِدَّة كراهيتهم وغَيْظهم وضيقهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وعَدائهم أن يَسْطوا أيْ يَعتدوا ويَتَهَجَّمُوا علي الذين يتلون عليهم آياتنا بسَبٍّ أو ضربٍ أو إيذاءٍ شديدٍ أو حتي قتل.. ".. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ وذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حتي لا يستمرّوا علي سُوئهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم، مُحَذّرَاً ومُذَكّرَاً، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إذا كنتم يُعْرَفُ في وجوهكم المُنْكَر عندما تُتْلَيَ عليكم آيات الله تعالي وتَكادون تَسْطون بالذين يَتلون عليكم آياته فهل أخبركم بما هو أشدّ شَرّاً من ذلكم أيْ بما هو أكثر كُرْهَاً إليكم مِن هؤلاء الذين تَكرهون قراءتهم الآيات عليكم وبما هو أشدّ شَرَّاً وألَمَاً وتعاسة لكم من الغيظ الذي يحرقكم بداخلكم وبما هو أشدّ شَرَّاً مِن الشَّرِّ الذي يَناله منكم مَن يَتلو الآيات عليكم، أيْ أفأنَبِّئكم بشَرٍّ مِن ذلكم كله، إنه هو النار التي وَعَدَها الله الذين كفروا أمثالكم يوم القيامة أيْ وَعَدَهم بدخولها والعذاب بعذابها الذي لا يُوصَف أيْ ما كان يَعِدهم به سبحانه وكَذّبوه في كتبه وآخرها القرآن العظيم وعن طريق رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ومن خلال المسلمين الدعاة مِن بَعْده أيْ جَعَلَها بعَدْلِه وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيء في مُقابِل سُوئهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار في دنياهم، وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، وفي لفظ "وَعَدَها" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُوعَدون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع الوعد ولكنه كل شرّ وتعاسة!!.. ".. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)" أيْ وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يَصِيرون إليه، وهو النار
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، مع بيان أنَّ أيَّ آلهة تُعْبَد غيره تعالي هى باطلة وهى أعجز مِن أنْ تنفع ذاتها أو تمنع الضرّ عنها فكيف بغيرها حيث هي شديدة الضعف والخِسَّة والحَقارَة وأنَّ كلَّ عابِدٍ لها هو جاهِل سَفيه مَخْبُول مُعانِد مُكَذّب مُكَابِر ظالِم قد أغْلَق عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ هذا نداءٌ من الله تعالي لخَلْقِه من الناس جميعاً لكي يَستمعوا لهذا المَثَل لِيَتّعِظوا به ليسعدوا في الداريْن، أيْ يا جميع البَشَر، ضُرِبَ مَثَلٌ أيْ ذُكِرَ وبُيِّنَ مَثَلٌ من الله تعالي خالقكم أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها في القرآن الكريم لكم مِن أجل تقريب المعاني لأذهانكم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فتتدبَّروا فيها فتنتفعوا بالعمل بها فتسعدوا في دنياكم وأخراكم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. ".. فَاسْتَمِعُوا لَهُ.." أيْ فاستمعوا له اسْتِمَاعَ قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به لتسعدوا في الداريْن.. ".. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.." أيْ هذا بيانٌ لهذا المَثَل.. أيْ إنَّ الذين تعبدون غير الله أيها المشركون وتُسَمُّونها كذباً وزُورَاً آلهة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة) لن تَخْلق ذباباً أبداً رغم صِغَره – وهو الحَشَرَة الضعيفة الحَقِيرة المعروفة – حتي ولو اجتمعت جميعها له أيْ لِخَلْقه واشْتَرَكَت وتَعاوَنت عليه فكيف إذا لم تجتمع وكانت مُنْفَرِدَة فهي أعْجَز بالتأكيد وكيف بخَلْق ما هو أكبر وأعظم منه من مَخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرَاتٍ يراها الجميع واقِعِيَّاً في الكوْن كله ولم يستطع أيّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فالله تعالي هو وحده الخالق!!.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول يَخْلُقوا بَدَلَاً عن تَخْلق والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!.. ".. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من بيان العَجْز التامّ لهذه الآلهة المَزْعُومَة.. أيْ وأكثر من ذلك إنْ يأخذ منهم الذباب شيئاً من الأشياء لا يَسْتَرِدُّوه وينْقذوه منه رغم تَفاهَة مِقْداره لعَجْزِها تماماً عن هذا لأنها جمادات لا تتحرَّك ولا تَعْقِل، فهل بعد ذلك مِن عَجْز؟! وهل يُعْقَل أن تكون آلهة وهي ليس لها أيّ صِفَةٍ من صفات الألوهِيَّة كالخَلْق والقُدْرَة والعلم ونحو هذا بل هي تامّة الضعْف بحيث حتي لا تستطيع الدفاع عن ذاتها أمام أضعف وأحْقَر المخلوقات كالذباب فكيف يُمكنها إذَن أن تَنْفع غيرها أو تَضُرّه؟!!.. ".. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)" أيْ كلاهما ضعيفٌ حيث ضَعُفَ الإلاه المَعْبُود غير الله تعالي الذي هو الطالِب لِمَا سَلَبَه الذباب منه وضَعُف المَطلوب الذي هو الذباب، كذلك يَحْتَمِل المعني العكس أيْ الطالِب هو الذباب يريد أنْ يَسْلب شيئاً من هذا الإلاه الذي هو المَطلوب، وأيضا يحتمل المعني أنْ ضَعُفَ العابِد الطالِب لعبادة غير الله تعالي وضَعُف المَطلوب الذي هو المَعْبُود الذي يَعْبُده هذا العابِد، فكيف تُعْبَد بالتالي إذَن هذه الآلهة وهي بهذا الهَوَان؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنَّ عابديها قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)" أيْ هؤلاء المُشركون الذين يعبدون غير الله تعالي، المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، ومَن يَتَشَبَّه بهم، ما عَظّموا الله حقّ تعظيمه، حين عَبَدوا غيره، حين عَبَدُوا الذين لن يَخْلُقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإنْ يَسْلُبهم الذباب شيئاً لا يَسْتَنْقِذوه منه، وحين ساووا بينه وهو الخالِق الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وبين المَخْلوق الذي خَلَقه والذي لا يُمكن أنْ يُقارَن به بأيِّ حال، وحين كانوا إذا تُتْلَيَ عليهم آياته بَيِّنات يُعرَف في وجوههم المُنْكَر ويَكادُون يَسْطون بالذين يَتْلُونها عليهم، وما أعطوه ما يَستحِقّه ويُناسبه تعالي من التقدير والتعظيم والقيمة والطاعة والتنزيه عمّا لا يَليق به، وما قَدَّرُوا حِكْمته ورحمته وحبّه لخَلْقه وإرادته السعادة التامّة لهم في دنياهم وأخراهم وعدم تَرْكِهم يَتيهون ويَتعسون في حياتهم بلا توجيهٍ وإرشادٍ حقّ التقدير، وبَعدوا عن الحقّ والعدل والخير والصواب والسعادة بُعْدَاً شديداً حين كذّبوا إرسال الرسل وإنزال الكتب من الله تعالي وقالوا ما أنزل الله علي بَشَرٍ أيَّ شيءٍ من وحيٍ وكتابٍ فيه تشريع منه ونظام للحياة بما يدلّ علي الإساءة للخالق الكريم أنه يَترك خَلْقه بلا هدايةٍ للخير وللسعادة وعلي عدم شكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وأعظمها تشريعاته التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تماماً في الداريْن وبما يدلّ علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والإصرار علي عدم اتّباع الإسلام قاصِدين بذلك القول الذي يقولونه تكذيب الرسل وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) والتكذيب بالكتب وآخرها القرآن العظيم وعدم اتّباعه حتي يفعلوا ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار، وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)" أيْ ما قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِه، رغم إنَّ الله، لأنَّ الله، وهو، حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ – إنَّ واللام للتأكيد – قويٌّ عزيزٌ أيْ له كل صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه قويّ أيْ قادرٌ علي كلِّ شيءٍ وعلي كل ما يريد فِعْله عظيم كامل القوة والتي لا تُقارنها أيّ قوة وما مِن قوة لأحدٍ أو لشيءٍ إلا مِن قوّته تعالي، كما أنه عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهِرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر، وهو حتماً يُعِزّ أهل الخير الذين يَنْصرونه بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك.. إنَّ الله قد اصطفي أفضل البَشَر هؤلاء علي جميعهم في زَمَنِهم وبَعْده حتي قيام الساعة، أي اختارهم، لحُسْن أخلاقهم وكمالهم، واصطفي لهم الدين، الإسلام، ليُنَظّم لهم كل شئون حياتهم ليُسعدها، فاقتدوا بهم وافعلوا مِثْلهم أيها الناس، فإنْ اقْتَدَيْتَ بهم أيها المسلم، قَارَبْتَ أن تَصِلَ إلي الكمال مثلهم، كما يُشَجِّعنا علي ذلك الرسول (ص) بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، وسيَختارك ربك مِثْلما اختارهم، لتكون داعيا له وللإسلام هاديا لخَلْقه مُنيراً لهم طريقهم في حياتهم قائداً لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وسيُعطيك مثلما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن
هذا، ومعني "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)" أيْ بعد أنْ بَيَّنَ تعالي أنه لا إله غيره يُبَيِّن أنه سبحانه له كامل التّصَرُّف فى اختيار رسله لأنه وحده بكمال عِلْمه وحِكْمته هو الذي يعلم كمال صفاتهم وأخلاقهم وصلاحيتهم لمهامّهم، وفي هذا البيان تكذيبٌ للمُكَذّبين المُشَكّكين في إرسال رسل من الملائكة يحملون وَحْيه سبحانه بالإسلام لرسلٍ من البَشَرَ ليُبَلّغوه للناس ليعملوا به ليسعدوا في الداريْن والذين يَدَّعُون كذباً وزُورَاً أنَّ الرسل كاذبون لا يُوحَيَ إليهم من الله شيءٌ ليُشَكّكوا الناس في الإسلام الذي يَدْعُونهم إليه فلا يَتّبِعوه ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، والذين يَعْتَرِضُون علي بعض الرسل مُدَّعِين أنهم لو تَغَيَّروا برُسُلٍ منهم هم سيَتّبِعوهم، أو يَدَّعُون أنَّ الرسول لابُدَّ أن يكون مَلَكَاً من الملائكة، أو ما شابه هذا من صُوَرِ المُرَاوَغَة والاعتراض والتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (124) من سورة الأنعام "وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ الله وحده لا غيره تعالي هو الذي يَصْطَفِي أيْ يَخْتار مِن بين الملائكة رُسُلَاً أيْ مَبْعُوثِين يُرْسِلهم لتبليغ وَحْيه بالإسلام إلي أنبيائه كما اختار المَلَك جبريل عليه السلام لهذه المُهِمَّة، وكما اختار غيره من الملائكة لمَهامّ أخري بالكَوْن لمَنافِع ولسعادات الإنسان ولِحِفْظه ولتسجيل أقواله وأفعاله ولِقَبْض الأرواح عند الموت ولإنزال العذاب بمَن يَسْتَحِقّونه ونحو هذا من مَهامّ، والملائكة جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، وهو الذى كذلك يَختار من بين الناس أيْ البَشَر أيْ بني آدم رُسُلَاً كما اختار الرسل الكرام (ص) نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً وغيرهم لمُهِمَّة تبليغ الإسلام لهم، فهو سبحانه أعلم حيث يَجْعل رسالته وبما يُصْلِح خَلْقه ويُكْمِلهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)" أيْ لأنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وصفات القُدْرَة التامَّة والعِلْم الكامِل والتي منها أنه سميعٌ لكلِّ قولٍ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ بكلِّ فِعْلٍ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، فلا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كلِّ كَوْنه ومِن كلِّ خَلْقِه.. إنه بالتالي سيُجازي حتماً في الداريْن بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال صفاته الحُسْنَيَ، أيْ يعلم ما هو أمامهم أيْ أمام الناس – وكل خَلْقِه – أيْ حاضرهم ومستقبلهم وما خَلْفهم أيْ ورائهم أيْ ماضيهم، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظرهم في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خير وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده لا غيره في تدبيرها وإدارتها، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم، وهو وحده الذي له الحُكْم، أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة – وهو أعلم بهم تمام العلم – ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه وعمله بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنها تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اركعوا واسجدوا أيْ أقيموا الصلاة أيْ واظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليكم في أوقاتها وأَدُّوها دائماً علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحْسِنوها وأتْقِنُوها لأننا ما أوْصَيْنا بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، كذلك من معاني "اركعوا واسجدوا" إقامة الشعائر عموماً إذ هي تُحَرِّك مَشاعِر الحبّ والشّوْق والرَّغْبَة والرَّهْبَة والأمن والرضا وقوة الإرادة ونحوها بداخل العقل فتدفعه لحُسْن التعامُل مع الآخرين في كل وقتٍ وفي أيِّ مجالٍ فيَسعد بذلك وهي تشمل – مع الصلاة المَفْروضَة والنافِلَة – الذكر والاستغفار وقراءة القرآن والعمرة والحج للمستطيع ونحو ذلك (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وبالجملة فإنَّ من معاني "اركعوا واسجدوا" أنْ كونوا دَوْمَاً طائعين لله تعالي مُتَّبِعِين لكل أخلاق الإسلام حيث الركوع والسجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور لتتحقّق السعادة التامَّة بها.. ".. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التذكير بالعبادة عموماً بعد التذكير بصورةٍ هامَّةٍ منها وهي الصلاة.. أيْ وأطيعوا ربكم، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم، أطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ ربكم الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وكُونوا دَوْمَاً مُخْلِصِين مُحْسِنِين في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ.." أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكونوا دَوْمَاً فاعِلِين الخير بكل أشكاله أيْ النافِع المُفِيد الحَسَن الفاضِل الصالح المُسْعِد بالداريْن للنفس وللغَيْر طوال حياتكم من خلال اسْتِصْحاب نوايا خيرٍ بعقولكم عند كلِّ قولٍ وعملٍ وذلك مع كل الناس وكل المخلوقات.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الراكعين الساجدين العابدين لربهم الفاعلين الخير دائما
ومعني "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" أيْ هذا تذكيرٌ وتَوْصِيَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بالعمل بخُلُقٍ عظيمٍ من أخلاق الإسلام يَحْمِي ما سَبَقَ ذِكْره من عبادة الله تعالي والعمل بأخلاق الإسلام وفِعْل الخير ونَشْره والدفاع عنه وهو خُلُق الجهاد في سبيل الله حيث به يعِزّ دين الإسلام ويَنتشر ويَعُمّ العالَمين برحماته وسعاداته ويَرْتَدِع كلّ مَن يُفَكّر في أن يعتدي عليه وعلي الحقّ والعدل والخير وأهله وبدونه يَحْدُث شَرٌّ أيْ ضَرَرٌ عظيمٌ وهو القضاء عليه ومَنْع انتشاره وإهانة المسلمين وانتهاك حُرُماتهم وأعراضهم وذِلّتهم وإتعاسهم ومَنْع الخير والسعادة عن الناس في الداريْن ونَشْر الشَّرِّ والتعاسة بينهم فيهما.. أيْ وجاهدوا أيها الذين آمنوا أيْ وابْذلوا كل أنواع الجهود واجْتَهِدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. فِي اللَّهِ.." أيْ في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. حَقَّ جِهَادِهِ.." أيْ حقّ جهادكم فيه تعالي أيْ الجهاد الحقّ أيْ الجهاد الذي يجب ويَسْتَحِقّ أن يكون في الله أيْ مِن أجله مِن حيث بَذْل الجهد المُسْتَحَقّ المَطْلوب لكلِّ حَدَثٍ قَدْر الاستطاعة سواء بالفكر أو الوقت أو الدعوة أو النفس أو المال أو غيره حسب الاحتياج فيكون جهاداً كاملاً جادَّاً بلا تَقْصِيرٍ ولا تَرَدُّدٍ ولا تَرَاجُعٍ ولا خوفِ لَوْمَة لائمٍ خالصاً تماماً له سبحانه لا رياءً للناس أيْ ليَروا هذا الجهاد فيَمدحوه ولكنْ لِنَيْل أجْرَيّ الدنيا والآخرة منه تعالي بفِعْله.. ".. هُوَ اجْتَبَاكُمْ.." أيْ لأنه سبحانه هو الذى اجتباكم أيْ اختاركم لنشر دينه الإسلام والدفاع عنه وعَلَيَ مَن اختاره لهذه المَكانَة العظيمة ذات الأجر العظيم في الداريْن أن يجتهد في شكرها شكراً قَوْلِيَّاً وفِعْلِيَّاً بأن يكون أهْلَاً لهذا الاختيار بتمام طاعته سبحانه فيما يُوصِي به، وفي هذا أعظم التكريم للمؤمنين والتشجيع لهم للاستمرار علي ما هم فيه من خيرٍ وللزيادة منه وذلك بسبب وفي مُقابِل اختيارهم هم أولا للإيمان بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم فوَفّقهم سبحانه ويَسَّر لهم بعد ذلك كل أسباب العمل بكل أخلاق الإسلام واختارهم لهذا المَقام العالِي حيث أعلي الأجر في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (110) من سورة آل عمران "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّه تعالي قد اختار أفضل البَشَر وهم الرسل الكرام ليكونوا مَبْعُوثِيه للناس لِيُبَلّغُوهم الإسلام ولِيَنْشروه ولِيُدافِعُوا عنه، وذلك لحُسْن أخلاقهم وكمالهم، فاقتدوا بهم وافعلوا مِثْلهم أيها الذين آمنوا، فإنْ اقْتَدَيْتم بهم قَارَبْتم أن تَصِلوا إلي الكمال مثلهم، كما يُشَجِّع علي ذلك الرسول (ص) بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، وسيَختاركم ربكم مِثْلما اختارهم، لتكونوا دُعاة له وللإسلام هُدَاة لخَلْقه مُنيرين لهم طريقهم في حياتهم قادَة لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وسيُعطيكم مثلما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن.. ".. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.." أيْ وما جَعَلَ تعالي عليكم في الإسلام أبداً بالتأكيد أيَّ ضِيقٍ أو شِدَّةٍ أو عُسْر، ولا يَلِيق ولا يُعْقَل ولا يُتَصَوَّر به ذلك مُطْلقاً.. إنه سبحانه جَعَلَ دوْمَاً كل ما شَرَعَ لكم من شَرْعٍ في الدين سَهْلَاً مُيَسَّرَاً عليكم لا صَعْبَاً مُعَسَّرَاً.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم (ص) حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله (ص) "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. إنَّ كل تشريعاته تعالي تُؤَدِّي حتماً إلي أنْ تُطَهِّركم أيْ تُنَظّفكم تماما أيها المسلمون – وأيها الناس جميعا – مِن كلّ شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ وما يَتْبَعه مِن تعاساتٍ لكم في دنياكم وأخراكم بسببه، بلا أيّ مُخَاَلَطَة منه لو عملتم بكلّ أخلاق الإسلام، وتَجعلكم من المُتَطَهِّرين أيْ الكثيري التَّطَهُّر أيْ الذين هم دوْمَاً يَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك.. وهذا من فضله سبحانه ورحمته وكرمه وحبه لكم وحرصه علي إسعادكم في الداريْن.. إنه بتشريعاته يُكمل نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ وذلك بإرشادكم لكل أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِه هذه عليكم أن تشكروه عليها، فإنَّ مَن شَكَرَه زاده مِن خيره وعطائه، أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."، ثم الآية (286) منها "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.." أيْ واتّبِعوا دين أبيكم إبراهيم في أصوله والذي هو الإسلام.. وفي هذا أعظم تكريمٍ للرسول الكريم إبراهيم (ص) حيث يُكَرَّم بأنْ يَتَّبِع مِلّته سيّد الخَلْق محمد (ص) والمسلمون جميعا إلي يوم القيامة بما يدل علي كمال خُلُقه وعظيم مَكَانته وصِحَّة توحيده وتمام دينه، وفي هذا أيضا دلالة قاطعة علي عظيم رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم فهو لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة، وإنما يُرْسِل إليهم منذ آدم وحتي نهاية الحياة الدنيا وحُدُوث الحياة الآخرة رسله كلّ فترةٍ وآخرهم رسوله الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وفيها الإسلام الذي يُناسِب عصرهم وآخرها القرآن العظيم المُناسِب لهم بكل مُتَغَيِّراتهم ومُتَغَيِّرات حياتهم حتي يوم القيامة، لكي يَطْمَئِنّوا ويَسْتَبْشِرُوا ويَسْعَدوا ويَتَسابقوا في العمل بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن كما تَسَابَق المؤمنون من الأمم السابقة فسعدوا فيهما.. هذا، ولفظ "أبيكم" يُذَكّر بعلاقة الأُبُوَّة بين الرسل والناس لمزيدٍ من التذكير بدَوَام الارتباط والاقتداء بهم في حُسْن إسلامهم وحبهم والصلاة عليهم فهم كالآباء المُحِبِّين المُرْشِدين لهم لكل خيرٍ وسعادةٍ الحريصين تماماً علي إسعادهم في الداريْن.. ".. هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا.." أيْ الله تعالي هو الذى سَمَّاكم المسلمين أيها الذين آمنوا مِن قبل نزول القرآن، وفي هذا القرآن سَمَّاكم أيضا المسلمين – وعند بعض العلماء لفظ "هو" يعني إبراهيم (ص) لأنه قال ودَعَيَ كما جاء في الآية (128) من سورة البقرة "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.." – فكونوا أهْلَاً لهذا الإسم، والمقصود دَوَام تَذْكِرَتهم بأعظم نِعْمَةٍ وتكريمٍ وهي أنهم مسلمين لدَوَام تشجيعهم علي أن يكونوا مسلمين فِعْلَاً واقِعِيَّاً بالعمل بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم ليسعدوا بذلك تمام السعادة في الداريْن.. ".. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.." أيْ لكي تكونوا بذلك كله الذي سَبَقَ ذِكْره في هذه الآية الكريمة والتي قَبْلها مُؤَهَّلِين أن تصبحوا شهداء علي الناس أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – وليكون بذلك أيضا حتما الرسول الكريم محمد (ص) هو الشاهد الأول الأعظم عليكم الذي يُصَحِّح لكم ويَقودكم ويُعَلّمكم ويُوَجّهكم ويُرْشِدكم جميعا لذلك في الدنيا، ثم في الآخرة لتكونوا شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وليكون الرسول حينها كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه وأنكم صَدَّقتم به ويُزَكّيكم عندنا أنكم صادقون في شهادتكم عليهم لا تَحكمون إلا بالعدل التامّ، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. ".. فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" أيْ فبالتالي إذَن في مُقابِل هذا التكريم والتشريف قابِلُوه بشُكْرٍ قوليٍّ وعَمَلِيٍّ بأنْ تعملوا بكل أخلاق الإسلام لنزيدكم بالشكر ثَبَاتَاً عليها وسعادة بها في الداريْن والتي منها أنْ أقيموا الصلاة أيْ وَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أَحْسَنُوها وأَتْقَنُوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المَخْلُوق وخالِقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، والمقصود من إقامة الصلاة هو إقامة شعائر الله كلها أيْ مَعَالِم دين الله الإسلام، والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالإنفاق في الخير والصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. ".. وَآَتُوا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال، وكونوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمُعاملات.. ".. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ.." أيْ ودائماً في كل أموركم تَحَصَّنوا بالله والْجَأوا إليه وتوكّلوا أيْ اعْتَمِدُوا عليه وحده (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، واعْتَصِمُوا برسوله الكريم (ص)، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدَوَام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظار باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله (ص) يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. هُوَ مَوْلَاكُمْ.." أيْ فإنه، أيْ لأنه، تعالي، هو مولاكم أيْ هو وحده مُتَوَلّي أموركم في كل شئون حياتكم ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لكم، أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم وحافظكم ومانِعكم من الضرَر ومُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام، ومَن كان الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" أيْ وما دام هو مولاكم فبالتالي ما أعظم وأفضل المَوْلَيَ، وما أعظم وأفضل النصير، حيث هو لا مَثيل له في وِلايته ونَصْره، أيْ الذي يَنصركم ويعزّكم ويَرفعكم ويُعينكم ويَمنع الضرر ويُدافع عنكم في دنياكم وأخراكم، فهل تحتاجون شيئا بعد ذلك؟!! فاطمئنوا اطمئنانا كاملاً واستبشروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ فيهما