الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿253﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا علمتَ وتأكّدتَ أنَّ المَكَانَة في الحياة لا تُوَرَّث وإنما تكون بالاجتهاد، أيْ بإحسان اتّخاذ أسبابها، لتكون قائداً لا مَقُودَاً مَتْبُوعَاً لا تابِعَاً تَقُود لكلّ خيرٍ فتَرْبَح وتَكسب وتسعد أنت والآخرين في الداريْن، وأهم الأسباب هي الفكرية والمادِّيَّة، فالفكرية كالعلم والتخطيط والابتكار والتنظيم والتّجَمُّع والتعاون ونحوه، والمادية كقوة الأجسام والأموال والمُعِدَّات والأدوات ونحوها، فإنْ أحسنتَ في كل ذلك وغيره فتأكّد أنَّ الله تعالي سيُعينك وسيُوَفّقك وسيزيدك ما دامت نواياك بعقلك كلها خير أثناءها، فهو يُعطي ملكه مَن يشاء ويَرْغب فيه ويجتهد في اتّخاذ أسبابه ويُحْسِن استخدام ما يُعْطَيَ في كل الخير فيشاء بعد ذلك سبحانه ويُحَقّق له ما يريده هذا الذي اجتهد وصَبَرَ وصَمَدَ فيُعطيه مِن وسْعه وبعلمه فهو الواسع العليم.. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِن المُتَحَاوِرِين مع مَن حولك لا المُتَقَاتِلين معهم، فبالحوار الهاديء الأخويّ الودود الهادِف الصادِق الذي يهدف بصدقٍ للوصول للحقّ وللخير وللعدل والمُؤَيَّد بالأدِلّة القوية الواضحة يَسعد الجميع، بينما بعكس ذلك تضيع الحقوق وتنتشر المُشاحنات والشرور ويَتعسون، ويزداد الأمر سوءا إذا لم يُسارعوا بتَدَارُك حالهم وانْزَلَقوا إلي القتال فيما بينهم وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح فحينئذ تَشتدّ تعاساتهم في الداريْن
هذا، ومعني "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿253﴾" أيْ هذه المجموعة من الرسل الكرام التي أرسلناها للناس ومعهم كتبنا التي فيها الإسلام بما يُناسب كلّ عَصْرٍ ليعملوا بها ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، هؤلاء الرسل زِدْنَا ومَيَّزْنَا بعضهم علي بعضٍ أيْ جعلنا كلَّ رسولٍ منهم مُمَيَّزَاً بميزَة تُناسِب عصره الذي هو فيه حتي يمكنه إقناع الناس بصِدْقه فيَثِقوا به فيؤمنوا، وكلهم متساوون في النّبُوَّة وكمال الخُلُق ولكنَّ التمييز في أنَّ بعضهم كان له مُعجزات تُناسب الزمن الذي هو فيه بما ليس للآخر والذي هو أيضا كان له من المُعجزات ما ليس عند غيره، فالكل كان له تفضيل أيْ زيادة في بعض الأمور لم تكن لغيره من الرسل وكان لغيره تفضيل عليه في بعض الأمور الأخري بما يُناسب أزمانهم، فمثلا تكون النار بَرْدَاً وسلاماً علي إبراهيم فلا تؤذيه ويَفهم سليمان لغة الطيور والدَّوابّ ويُسَخّر الرياح ويَشقّ موسي بعصاه البحر فينجو وقومه من عدوهم وغير ذلك من الأمثلة الكثير من أجل تحقيق الغاية السامية التي يريدها الله تعالي من إرسال الرسل وتأييدهم بمعجزاته وهي إيمان الناس أيْ تصديقهم به وعملهم بالإسلام الذي أرسله إليهم مع رسله لكي يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة لأنهم خَلْقه ولا يمكن أن يَتركهم يَضيعون ويَتعسون فيهما وهو الحكيم الرحيم الودود.. ثم في الآخرة لهم جميعا أعظم الدرجات في أعلي الجنات علي حسب ما بذلوه من جهود.. ".. مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.." أيْ هذه بعض أمثلةٍ وصُوَرٍ لإعطاءِ كلٍّ منهم في الدنيا بعض المُمَيِّزات والدرجات والمَكَانات علي حسب ما يحتاجه لأداء مهمّته في زمنه بدعوةِ مَن حوله لله وللإسلام، فمنهم مثلاً مَن قد كَلّمه الله مباشرة بدون واسِطَةِ مَلَكٍ كالرسول الكريم موسي ﷺ حين أوْحَيَ إليه التوراة عند جبل الطور بسيناء بأرض مصر، ومنهم مَن أعطاه الله المُلْك والسلطان والحُكْمَ والنفوذ كالرسل الكرام داود وسليمان ويوسف، ومنهم رسولنا الكريم محمد ﷺ الذي أوْحَيَ إليه القرآن العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ".. وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ.." أي وكذلك أعطينا رسولنا الكريم عيسي ابن مريم ﷺ الذي هو قَبْل الرسول الكريم محمد ﷺ خاتم النّبِيِّين البَيِّنَات وهي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي يَثِقوا فيه ويَتّبِعوا الإسلام الذي يُوصِيهم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي يديه والتي منها مثلا إحياء الموتي وإشفاء المرضي وخَلْقه من الطين كهيئة الطير فيَنفخ فيها فتكون طيراً وكل ذلك وغيره هو بأمر الله تعالي وقدْرته، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا الإنجيل بما فيه من إسلامٍ كان يُناسب عَصْره ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن.. ".. وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.." أيْ وقَوَّيْناه ونَصَرْناه بالروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ والمقصود به جبريل عليه السلام الذي كان يُجْرِي علي يدِ عيسي ﷺ مُعْجِزاته بأمر الله أو يُقْصَد به الإسم الأعظم لله تعالي الذي كان يَذْكُره عيسي عند إحياء الموتي وفِعْل المُعجزات.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ.." أيْ ولو شاء الله ألاّ يَقْتَتِلَ الذين جاؤا مِن بَعْدِ كلِّ رسولٍ مِن الرسُل وبعد أن جاءتهم البَيِّنَات بواسطة هؤلاء الرسل أيْ الدلالات الدالّة على الحقّ أيْ وَصَلَ إليهم الإسلام، لَفَعَلَ ذلك حتماً، ولكنه لم يَشَأ، لأنه خَلَقَ الناس مُخْتَارِين لا مُجْبَرِين فتَرَتَّبَ علي هذا أن اختلفوا ولم يَتّفِقوا علي الإيمان وَوَصَلَ الأمر بهم إلي أن يقتتلوا فيما بينهم فالمؤمنون يدافعون عن الحقّ وهو إيمانهم والكافرون عن الباطل وهو كفرهم رغم أنَّ هذه البينات الدامِغَات القاطِعَات كان من المُفْتَرَض أن تجمعهم عليها فيؤمنوا جميعا لكنهم منهم مَن آمَنَ أيْ صَدَّقَ بهذا الحقّ واتّبَعه وعمل به فسَعِدَ في الدرايْن لأنه أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ومنهم مَن كَفَرَ أيْ لم يُصَدِّق ولم يَعمل به فتَعِسَ فيهما لأنه لم يُحْسِن استخدامه حيث قد عَطّله بالأغشية وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه.. إنَّ مَن يَشاء من البَشَر الهداية للإيمان والتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، يَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكْمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَق، وأيضا لو شاء الله ما اقتتل المؤمنون مع الكافرين ولكنه أمرهم في الإسلام بقتالهم دفاعاً عن الخير ليَبْقَيَ ويَقْوَيَ ويَضعف الشرّ ويَنْزَوِي ويَنْقَرِض، وكذلك لو شاء الله عدم اقتتال الناس عموما لأىِّ سببٍ من الأسباب لَمَا اقتتلوا، أيْ لأيِّ سببٍ آخر غير أن يكون بين المؤمنين والكافرين من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ لأجل مثلاً المال أو المُلْك أو المَنْصِب أو غيره مِمَّا يَحدث كثيرا في واقع الحياة حتي بين المسلمين فيما بينهم أو الكافرين فيما بينهم.. ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿253﴾" أيْ ولكنَّ الله علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿254﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿254﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دوْماً من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم التي لا تُحْصَيَ في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ.." أيْ سارِعوا بالإنفاق وفِعْل الأعمال الصالحة قبل أن يَحْضِرَ يوم – وهو يوم القيامة – حيث لا بَيْع وتجارة فيه فيكون رِبْح تُقَدِّمون عن طريقه ما تَفْتَدُون به أنفسكم من العذاب لمَن يَستَحِقّه، وحيث لا صَدَاقَة مِن صديقٍ يُنجيكم، ولا شفاعة مِن شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنكم ويُنقذكم مِمَّا أنتم فيه، إلاَّ أن يأذن الله بالشفاعة تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً.. إنه حينها لا يُمكن أبداً لأيّ قريبٍ أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يُفيد ويَنفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع كما كانوا يفعلون في الدنيا، ولا يُمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدَفْع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم، لأنّ أحداً من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكلّ إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿254﴾" أيْ والكافرون – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم – بحقّ وبكل تأكيدٍ هم الظالمون لأنهم قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم قطعا فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن حيث أكْسَبُوها إثما وعَرَّضُوها لعقوبة الله بما يُناسب شرورها ومَفاسدها وأضرارها إذ في دنياهم سيَنالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد وأشدّ عذابا وتعاسة
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿255﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم.. وإذا كنتَ عابِدَاً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿255﴾" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْحَيُّ.." أيْ هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه.. ".. الْقَيُّومُ.." أيْ الذي يقوم دائما وتماما علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْنه علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه.. ".. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.." أيْ لا تُصيبه ولا تُدركه ولا تَمُرّ به مطلقا سِنَة وهي نُعاسٌ يَسْبِق النوم، ولا نومٌ حتما، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه تعالي لا يَسْهُو أبداً عن شئون الخَلْق والكوْن.. ".. لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ كل ما فيهما هو خَلْقه سبحانه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. ".. مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.." أيْ مَن هذا الذي يَجْرُؤ علي أن يشفع عنده أيْ يَتَوَسَّل أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، أيْ لا أحد مُطلقا مهما كان يمكنه الشفاعة إلاَّ أن يأذن تعالي بها تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه.. ".. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال صفاته الحُسْنَيَ، أيْ يعلم ما هو أمامهم أيْ حاضرهم ومستقبلهم وما خلفهم أيْ ورائهم أي ماضيهم، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، يعلم ما ينتظرهم في آخرتهم وما فعلوه خَلْفهم في دنياهم من خير وشرّ، وبالجملة يعلم بتمام العلم كل الأقوال والأفعال في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في الأذهان ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.." أيْ ولا يُدْرِكون ولا يَعلمون أيَّ شيءٍ مِن عِلْمه سبحانه إلا بالقَدْر الذى أرادَ أن يُعلمهم إيّاه على ألسنة رسله في كتبه التي أوحاها إليهم، فهم ليس لهم تَعَلّم وفهْم أيّ شيءٍ من أيِّ نوعٍ من أنواع العلوم إلاّ ما عَلّمهم تعالى وسَهَّله لعقولهم.. ".. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.." أيْ اتّسَعَ مُلْكُه وسُلْطانه ونفوذه وحُكْمه وتَدبيره وعِلْمه واقَتِدَاره ليَشمل كلّ السماوات والأرض وما فيهما مِن خَلْقٍ بما يُصلحهما علي أكمل وَجْهٍ دون أيِّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا.." أيْ ولا يَصْعُب عليه المُحافَظَة عليهما حتما.. ".. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿255﴾" أيْ وهو الأعْلَيَ والأعظم والأكبر من أيّ شيءٍ، وهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلْك والسلطان والنفوذ كله، قد غَلَبَ كلّ شيءٍ وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم وأعلي مِن أن يُخاطبهم مباشرة ولن يتحمّلوا ذلك، وهو العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كلّ صفات العَظَمَة.. فبالتالي وبَعدَ كل ما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل تدلّ علي تمام قُدْرته تعالي وكمال علمه وواسع رحمته وكرمه وفضله، فاعبدوه أيْ أطيعوه إذَن أيها الناس واسألوه واعتمدوا عليه وحده فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وأخلِصوا وأحسِنوا له هذه العبادة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وتمسَّكوا واعمَلوا بكلّ أخلاق دينه الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، واحمدوه علي كلّ نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾.. فإن فَعَلْتم ذلك وارتبطتم بالحيّ الذي لا إله إلا هو شعرتم واستمتعتم بالحياة الحقيقية تامّة السعادة في دنياكم قبل الحياة الأتمّ سعادة والأعظم والأخلد في أخراكم
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتمسّكين العامِلين بالرُّشْد، وهو الصواب، وهو الخير، وهو كل أخلاق الإسلام وأنظمته التي تُنَظّم كلّ شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فتسعدها.. وإذا كنتَ دوْمَاً من الذين يَلْفِظون ويَتركون الغَيّ ويَكرهونه أشدّ الكراهية ويُقاومونه، وهو الضلال والخطأ والشَّرّ، وهو كلّ نظامٍ يُخالِف الإسلام، لأنه يُفسد الحياة ويَتعسها
هذا، ومعني "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾" أيْ لا إجبار لأحدٍ على الدخول في الدين، في دين الإسلام، فليس فيه إكراه علي شيءٍ بل يختاره مَن أراده بكامل حرية إرادة عقله بل سيَسعيَ إليه كلّ عاقلٍ لَمَّا يَرَيَ ويَعلم أنه يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه، فلا حاجة لهذا الإكراه ولا يُمكن أن يُتَصَوَّر، لأنه قد تَبَيَّنَ أيْ تَوَضَّحَ وتَمَيَّزَ تماما بالدلالات الباهِرَات القاطِعَات الحاسِمَات في كلِّ شيءٍ في الكوْن والتي تدلّ كلها علي الله وفي وَصَاياه تعالي في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أرسلها مع رسله وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أحْسَنَ استخدام عقله وتَدَبَّرَ فيها واستجابَ لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) طريقَ الرُّشْدِ أيْ الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن وهو طريق الإسلام من طريق الغَيِّ وهو الضلال والضياع والخطأ والظلم والشرّ والفساد والتعاسة فيهما وهو كلّ طريقٍ مُخَالِفٍ له، فالأمر إذَن واضحٌ وضوح النهار من الليل.. فإيّاك إيّاك أيها المسلم أن تُكْرِهَ أيَّ أحدٍ غير مسلمٍ علي الدخول في الإسلام أو مسلمٍ علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام إذا كان لا يعمل به، لأنَّ الإكراه عكس حرية الاختيار التي مَيَّزَ بها الخالق سبحانه بني آدم عن غيرهم من مخلوقاته، كما أنه مُخَالِفٌ لأصلٍ من أصول الحياة وهو الثواب والعقاب والجنة والنار والذي وضعه الله تعالي فيها ليكون أساسا عادلا لحساب البَشَر والذي يَنْبَنِي أصلاً علي اختيارهم إنْ أحسنوا فلهم كلّ الخير في الداريْن وإنْ أساءوا فلهم كل الشرّ فيهما علي قَدْر إساءاتهم، أمّا المُكْرَه علي شيءٍ فإنه لا يمكن تَبَيُّن اختياره وبالتالي ليس من العدل حسابه! ثم الإكراه يُؤَدِّي إلي أضرارٍ عظيمةٍ أهمها تَحَوُّل المُكْرَه إلي منافقٍ جبانٍ يَخشي مَن يُكرهه ويُجبره لا ربه ولا يستشعر قيمة الإسلام، ثم الإكراه إهانة لهذا الدين المَتين وكأنه سلعة راكِدَة تبحث عن مَن يأخذها!! ثم أولا وأخيرا الخالق الكريم الودود لا يريد للناس أن يؤمنوا إجباراً فيَتعسوا بل يريدهم أن يؤمنوا اختياراً وحُباً وشَوْقَاً ليسعدوا لأنّ الإكراه مُتْعِس لأنه مُخَالِفٌ للفطرة بينما الاختيار مُسْعِد مُوَافِق لها ويُثبته الواقع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿213﴾ من سورة البقرة "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً.." ثم الآية ﴿256﴾ منها ".. فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ.." ثم الآية ﴿13﴾ من سورة السجدة " وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا.." ثم الآية ﴿8﴾ من سورة فاطر "..فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ.." ثم الآية ﴿8﴾ من سورة الشوري " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.." ثم الآية ﴿31﴾ من سورة الإنسان " يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ.." ثم الآية ﴿29﴾ من سورة الكهف "..فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.."﴾.. فما عليك أيها المسلم إلا أنْ تُحْسِنَ عَرْضَه علي مَن تَدعوه، بكلّ قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، دون أيّ إكراه، في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مُناسبٍ وبكل أسلوبٍ مُمكن مناسب، فقط بتَبْيِين الرُّشْد وسعاداته في الداريْن، وهو واضح بَيِّن، من الغَيِّ وتعاساته فيهما، وهو أيضا واضح بَيِّن، ليَسعد الجميع أتمّ السعادة كما سَعِدْتَ أنت في دنياهم وأخراهم.. ".. فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ.." أيْ فمَن يُكَذّب ولا يُصَدِّق بالطاغوت أيْ يَبتعد تماماً ويَمْتَنِع عن أن يَعبده أيْ يُطيعه والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، فمَن يَبتعد عن كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا.. ".. وَيُؤْمِن بِاللَّهِ.." أيْ ويُصَدِّق بوجوده وكتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويعمل بكل أخلاق إسلامه فتكون كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلَه تابَ منه سريعاً وأوَّلاً بأوَّل.. ".. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ.." أيْ فهذا بكل تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ قد تَمَسَّكَ وتَحَصَّنَ واعتصمَ بالحِصْن الحَصِين المَوْثُوق به الثابت الذي يَمنعه من أيّ انحرافٍ عن طريق تمام الخير والسعادة في الداريْن، لقد تَمَسَّكَ تَمَسُّكاً شديدا تامّا بالله وبالقرآن وبالإسلام.. لقد تمسّك بشدّة بالخالق الكريم القويّ المتين الرزّاق الوهاب القادر علي كل شيء وتمسّك بدينه.. لقد تمسَّكَ بالعُرْوَة الوُثْقَيَ – والوثقي مُؤَنّث الأَوْثَق – أيْ أحْكَمَ إدخال الزِّرّ في عُرْوَة الثوب وثبَّته ووَثّقه تثبيتاً وتوثيقاً شديداً بحيث لا يخرج ولا يتزحزح عنها مطلقا.. لقد أخذ بإيمانه ميثاقاً أيْ عهداً مُوَثّقا تمام التوثيق منه تعالي بأن يجعله دائما علي الطريق المستقيم المُسْعِد في دنياه المُؤَدِّي مُؤكَّدا إلي طريقِ أعلي درجات الجنات في أخراه.. ".. لَا انفِصَامَ لَهَا.." أيْ لا انْفِكَاكَ ولا انحلال ولا انقطاع لها – أيْ للعُرْوَة الوُثْقَيَ – أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾" أيْ وهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿257﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "للَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿257﴾" أيْ الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيّ أمر الذين آمنوا في كل شئون حياتهم – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بأخلاق إسلامهم – أيْ مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ فهو تعالي الذي برحماته وأفضاله وبسبب اختيارهم هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.." أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فنُصَرَاؤهم وحُلَفاؤهم ومُعِينوهم الطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا، فأمثال هؤلاء الأولياء يَأخذونهم ويُبعدونهم من نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿257﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿258﴾ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿259﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿260﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِن المُتَحَاوِرِين مع مَن حولك، فبالحوار الهاديء الأخويّ الودود الهادِف الصادِق الذي يهدف بصدقٍ للوصول للحقّ وللخير وللعدل والمُؤَيَّد بالأدِلّة القوية الواضحة يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بعكس ذلك تضيع الحقوق وتنتشر المُشاحنات والشرور ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿258﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن هذا الذي حاجَّ أيْ جادَلَ بغير حقٍّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره إبراهيمَ في شأن ربه ووجوده وكوْنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة – أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام – بسبب أنْ أعطاه الله المُلْكَ أيْ السلطانَ والحُكْمَ والنفوذ والمال والجَاهَ ونحوه فبَدَلاً أن يستخدمه في الخير استخدمه في الشرِّ وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي الله وخَلْقه وذلك حين قال إبراهيم ربي هو الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحيي مخلوقاتٍ ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ويُميت أخري بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسبابٍ ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم أيها الناس بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه أيْ أطيعوه إذَن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.." أيْ قال هذا المُكَذّب المُسْتَكْبِر المُعَانِد المُستهزيء المُرَاوِغ المُتَطَاوِل علي انفراد الله تعالي بالإحْياء والإمَاتَة مُدَّعِيَاً مشاركته له سبحانه في ذلك: أنا أيضا أحيي وأمِيتُ أيْ أقتل مَن أردتُ قَتْله وأسْتَبْقِي حَيَّاً مَن أردت!! وبالتالي فأنا مُسْتَحِقّ لأنْ أكون ربَّاً للناس وعليهم عبادتي!! مُتَوَهِّمَاً أنه بذلك يُحيي ويُميت مُتَجَاهِلاً مُتَنَاسِيَاً أنه لا أحد يملك أصلا أيَّ سببٍ من أسباب إنشاء أصْل الحياة من أرواحٍ ومخلوقاتٍ وموادّ وإمكاناتٍ لها كماءٍ وهواءٍ وضوءٍ وغيره إلاّ خالِق الخَلْق سبحانه!! ثم مَن الذي أماتَ مَن ماتَ بغير قَتْلٍ بأنْ سَحَبَ منه روحه؟!! إنه حتما خالِقه وحده الذي أعطاه إيّاها.. ".. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.." أيْ قال إبراهيم ليَقطع مُجَادَلَته دليلاً آخر لا يَقْدِر أيّ بَشَرٍ على الإتْيان بمثله حيث هو قاطِع حاسِم مُبْهِر يُحَيِّر ويُسْكِت ولو كان صادقاً في الوصول للحقّ لاستجاب فوراً: إذا كنتَ تَدَّعِي أنك إلهٌ تُحيي وتُميت فإنَّ الله الذي أعبده يأتى بالشمس من جهة الشرق فأحْضِرها أنت من جهة الغرب لكي تُظْهِر علامات قُدْرتك وعلمك وسلطانك وسيطرتك على هذا الكوْن كله.. ".. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.." أيْ فتَحَيَّرَ واضطربَ وسَكَتَ وأخْرِسَ لسانه وانْقَطَعَ جداله وغُلِبَ هذا الكافر من قوة الدليل الذي كَشَف زَيْفه.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿258﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿259﴾" أيْ هذا دليلٌ آخر إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية السابقة علي انفراد الله تعالي بالإحياء والإمَاتَة بتمام قُدْرته وكمال علمه.. أيْ هل رأيتَ شيئاً عجيباً كالذي حاجَّ إبراهيم في ربه أو كالذي مَرَّ علي قرية خالية سقطت جدران بيوتها علي عروشها أيْ سُقُوفِها فهي مُدَمَّرَة مُهَدَّمَة خَرِبَة فارغة مَهْجُورة قد هَلَك أهلها فقال كيف يُحيى الله أهل هذه القرية بعد موتهم؟! فكأنه اسْتَكْثَرَ عليه تعالي أن يُحييهم!! فأماته الله وأبقاه على موته لمدة مائة عام ثم بَعَثه – بصورة شبيهة لأهل الكهف – أي أرسله للحياة مرة أخري ليظهر له سهولة البَعْث يوم القيامة بالأجساد والأرواح ويزول استبعاده، ثم سُئِلَ كم من الوقت بقيتَ مَيِّتَاً؟ قال دون شعورٍ بطولِ المدة مُتَوَهِّمَاً أنه نائمٌ لا مَيِّت بَقِيتُ هكذا يوماً أو جزءاً من يوم، قيل له ليس الأمر كذلك ولكنك مَكَثْتَ على هذه الحالة مائة عام!!.. ".. فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ.." أيْ فإنْ كنتَ في شكّ مِن تمام قُدْرة الله تعالي علي كل شيءٍ وعلي البَعْث ومِن بقائك مَيِّتَاً مائة عام فانظر حولك إلي طعامك وشرابك لتشاهد دليلا آخر من دلائل قدرتنا فإنَّ هذا الطعام والشراب كما تَرَىَ لم يَتَسَنّه أيْ لم يَتَغَيَّر بمرور السنين عليه بل بقى على حالته دون أن يفسد وانظر في المُقَابِل إلى حمارك كيف تَفَتَّتَت عظامه بما يشهد بأنه قد مَرَّت عليه سنوات طويلة.. وذلك ليستشعر عِظَم الآية التي حَدَثت لأنه عندما يري أولا طعامه طبيعيا وهو الذي كان من المُفْتَرَض فساده يَتَوَهَّم ظاهرياً أنَّ ظنّه بأنه نام يوما أو أقل هو مؤكّد ثم لَمَّا ينظر إلي هلاك حماره يَحدث الانبهار لعقله بالآية العظيمة أنَّ الله قد أحياه بعد موته كل هذه الأعوام فيزداد يَقِينه بالبعث.. ".. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ.." أيْ وفَعَلْنَا ذلك لكي تَرَيَ بنفسك مظاهر قُدْرة الله ولكي نجعلك مُعجزة ودلالَة للناس تؤكّد صِدْق البعث للآخرة بالأرواح والأجساد.. ".. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا.." أيْ والْتَفِتْ ناظِرَاً مُتَدَبِّرَاً، وأنت يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، إلي العظام كيف نَرْفعها ونُرَكّب بعضها على بعضٍ ثم نُغَطّيها لحماً مِن عضلاتٍ بعد ذلك.. ".. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿259﴾" أيْ فلَمَّا تَوَضَّحَ له بالأدِلّة القاطِعَة وبالنظر والتّعَقّل والتّعَمُّق والتّدَبُّر تمام قُدْرة الله تعالي على الإحياء والإمَاتَة والبَعْث قال مُعْتَرِفَاً مُسْتَسْلِمَاً أَسْتَيْقِن وأصَدِّق وأتَأَكّد تماماً أنَّ الله على كلّ شىءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلْك والرحمة والفضل فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة.. وما دام الأمر كذلك، ما دام هناك بَعْث للحساب يوم القيامة، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿260﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكروا حين قال إبراهيم ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اجعلني أشاهِد بعيني كيف تُحيي الموتي، كيفية البَعْث ليوم القيامة وطريقة الإحياء كيف تَتِمّ هل هي بطُرُقٍ مُعَيَّنَةٍ أم بقُدْرتك تقول للشيء كُن فيكون، وهذا قطعا ليس إنكاراً منه ﷺ وهو رسول كريم من أصحاب العزائم لأنَّ سؤاله عن الكيفية لا عن أصل القضية وفيه شفاء لِنَهَمِ طَلَب العلم والوصول لأعماق الحقائق للاستفادة منها والسعادة بها وهو الأمر الذي يُوافِق العقل المَفْطُور أيْ المخلوق أصلا علي ذلك ليسعد في حياته والذي أحسنَ استخدامه سيدنا إبراهيم ﷺ.. فسأله الله تعالي – مع عِلْمه قطعا بكمال إيمانه ولكن لكي يُجيبه بما أجاب به ليعلم السامعون غَرَضَه وليَنتفعوا بما في ذلك مِن عِبَر – هل لم تُصَدِّق بتمام قُدْرتي علي إحياء الموتي قال ﷺ أصَدِّقُ حتماً بلا أيِّ شكّ أنك علي كل شيءٍ قدير ولكنى طَلَبْتُ ذلك ليَزداد تأكّدِي تأكّدَاً وعلمي علماً ولكي أسْكُن وأهْدَأ مِن التطلّع والتَّشَوُّق إلى الكيفيّة.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي النفي لإيمانه أيْ نعم أنا مؤمن.. إنَّ في قوله تعالي ".. أَوَلَمْ تُؤْمِن.." إرشادٌ ضِمْنِيّ إلى ما ينبغي للإنسان أن يُوقِف عقله عنده وما عليه أن يَكتفي به في مثل هذه الأمور الغَيْبِيَّة والتي هي أصلا مُوَافِقَة للعقل وللفطرة والتي عليه أن يعتمد فيها أساسا علي ما جاء في القرآن العظيم فلا يَتَعَدَّاه إلى ما ليس من شأنه ولا ينشغل بالبحث فيه لأنه تعالي قد انفرد به ولا يَليق به البحث عنه حيث لن يَصِلَ لشيءٍ لأنه خارج إمكاناته فليُوَفّر إذَن جهده لِمَا هو أنْفَع وأسْعَد له في الداريْن.. ".. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.." أيْ قال الله تعالى له إذا أردتَ رؤية ما طَلَبْتَ ومعرفة ما سألتَ عنه فخُذْ أربعة من الطيور الحَيَّة المُتنوِّعَة فاضْمُمْهُنَّ إليك لتَتَأَمَّلهنّ وتَعْرِف أشكالهنَّ جيداً حتي لا يَختلط عليك الأمر بعد إحيائهنَّ ثم اذْبَحْهُنَّ واخْلِطْهُنَّ معاً وجَزِّئْهُنَّ أجزاءاً ثم اجعل على كل مكانٍ مرتفعٍ من الأرض حولك مِن هذا الخليط جزءاً ثم نادِهنَّ وقل لهنّ تَعَالَيْنَ بإذْن الله يَحْضرنَ إليك مُسْرِعاتٍ فيهنَّ الحياة كما كُنَّ قبل الذبح بعد أن انْضَمَّ كلّ جزءٍ إلى أصله.. ".. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿260﴾" أيْ واعْرف وتَأكَّد وتَذكّر تماما ولا تَنْسَ مُطلقاً أنَّ الله عزيزٌ أيْ غالِب قاهر لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿261﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿262﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿263﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿264﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿265﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿266﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿267﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿268﴾ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿269﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿270﴾ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿271﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿272﴾ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿273﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿274﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. وإذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في كل إنفاقك وكل أقوالك وأفعالك لا تُريد سُمْعَة بين الناس ولا مَدْحَاً منهم ولا تَجَنّب ذَمّهم ولا غير ذلك بل تَطلب فقط ودائما وباستمرارٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياك أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراك حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿261﴾" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تشجيعٌ شديدٌ مُشَوِّقٌ على الإنفاق فى كلّ خير.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، أيْ يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، هؤلاء حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقتهم التي ينالون عليها ثواب الله المُضاعَف أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة كحَالِ وشَبَهِ مَن يَبذر حَبَّة في أرض طيِّبَة تُسْقَيَ بماءٍ طيِّبٍ فتنبت ساقاً يَتَشَعَّب إلي سَبْع شُعَب في كل شُعْبَة مائة حَبَّة – والسُّنْبُلة هي الجزء الأعلي من النبات الذي يتكوّن فيه الحَبّ – فالحَبَّة الواحدة أنتجت سبعمائة، وهذا تصويرٌ لكثرة ما يُعطيه الله من عطاءٍ عظيم لا يُوصَف على الإنفاق، فهو يُضَاعف لسبعمائة ضِعْف ولأكثر من ذلك لأنه منه الخالق العظيم الكريم الوهّاب الذي يَرزق بغير حسابٍ كما يُؤكّد ".. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالى يزيد الثواب والعطاء أضعافاً وزيادات كثيرة هائلة فَخْمَة لا يُمكن حَصْرها ولا تُوصَف ولا تُقَدَّر بمقدارٍ بما يُناسِب كَرَمه وعظمته سبحانه، لمَن يشاء من المسلمين، فيُعطِى بعضهم سبعمائة ضِعْف، ويُعطى بعضهم أكثر من ذلك، علي قَدْر جَوْدَة إنفاقهم وإتقانه والصدق فيه ومَنَافعه ودَوَامه ونحو هذا، ويكون عطاؤه لهم أولاً في دنياهم حيث يَنَالون كل خيرٍ وسعادة، ثم في أخراهم بنَيْلِهم أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فعطاؤه ليس له حدود ولذا يقول ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿261﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿262﴾" أي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُنْفِقين مِن فِعْل صِفَتَيْن سَيِّئَتَيْن تكونان في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِمان من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. أيْ الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله وأثناء إنفاقهم وبَعْده ودائماً لا يفعلون أبداً مَنّاً ولا أذًي، والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل، هؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿262﴾" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿263﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير الشديد من إتْباع الإنفاق بالأذي، أو أثناءه، وذلك لأضراره وتعاساته، الدنيوية حيث تنتشر المُشاحنات والصراعات، والأخروية حيث العقاب بما يُناسب الأضرار التي تَحْدُث.. أيْ كلامٌ طيِّبٌ دائماً بصورةٍ عامَّةٍ في كلّ خير، وللمُحتاج بصورةٍ خاصَّةٍ عند عدم إمكان عوْنه مِثْل قول الله يرزقنا وإيّاك أو نحو هذا مِمَّا يُخَفّف عنه ويُقَوِّيه ويُعِينه، ومَغفرة أيْ ومُسَامَحَة عَمَّا قد يَحدث أحيانا فيما بين الناس من أخطاء، وعَمَّا قد يَصْدُر من المُحتاج مِن إلحاحٍ في سؤاله للعوْن أو من بعض سوءِ خُلُقٍ قد يَمنع من مساعدته، أفضل حتما مِن إنفاقٍ بأيِّ نوعٍ من أنواع الإنفاق يَتْبَعه إيذاء بالقول أو الفعل، لأنَّ كلَّ طيِّبٍ هو مُسْعِد للنفس وللغير وله أجره من الله تعالي في الداريْن بينما كل أذي هو يُؤذي ويُتعس وله عقابه منه فيهما، فكلّ خيرٍ إذَن له قيمته حتي ولو كان بسيطا ككلمةٍ ولا يُسْتَصِغَر ولا يُسْتَهَان به وليس الإنفاق فقط والذي قد يكون أحيانا لا قيمة له بل عَدَمه أفضل إذا كان مَصْحُوبَاً ومَتْبُوعَاً بأذي وضرر وتعاسة في الدنيا والآخرة!!.. ".. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿263﴾" أيْ والله وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ وبَخلَ الناس جميعا بكل شيء! فهو لا يُشَجِّعهم على الإنفاق لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الإنفاق أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ بالتعاون فيما بينهم يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بعدم الإنفاق تَحدث الأحقاد والمنازعات فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿264﴾" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ من المَنِّ والأذي لتركهما والابتعاد عنهما تماما، والمَنّ هو تَذكرة المُنْفَق عليه بإحسانِ الذي أنفقَ بين الحين والآخر استعلاءً عليه وفخراً بما يَمْلك وإذلالاً وكَسْراً وتَسْخِيراً له، والأذي أعَمّ مِن ذلك حيث يشمل ما سَبَقَ إضافة لأيِّ صورةٍ من صور الإيذاء الأخري المختلفة بالقول أو بالفِعْل.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – انْتَبِهُوا واحْذَروا تماما عند إنفاقكم، لا تُبْطِلُوا أيْ لا تُضَيِّعُوا أجور وسعادات نفقاتكم في دنياكم وأخراكم بسبب المَنِّ والأذيَ فيكون مثلكم فى هذا الإبطال كمثل الذي لا يؤمن أيْ لا يُصَدِّق بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار الذى ينفق ماله فقط رئاء الناس أيْ رياءً للناس أي ليُريهم ذلك فيَمدحوه أو يمتنعوا عن ذمِّه ولا يريد به رضا الله وعوْنه وإسعاده له في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنه يكفر أيْ يُكَذّب بهما أصلا وبالتالي فهو ليس له أجر في الداريْن.. وفي هذا التشبيه أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن المَنِّ والأذيَ والرياء وما شابه هذا حتي لا يَتَشَبَّه بمثل ذلك الكافر الذي هذه من أبرز صفاته والذي لا سعادة له في دنياه وأخراه.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. ".. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا.." أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تَنْفِيرٌ شديدٌ مِن فِعْل ما سَبَقَ ذِكْرُه مِن سوء.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذي يُبْطِل نفقته بالمَنِّ والأذَيَ والرياء وما شابه هذا، أو هو لا يُؤمن بالله واليوم الآخر، حالُه وشَبَهُه وحالُ وشَبَهُ نفقته التي لا يَنال عليها خيراً وعطاءً من الله في دنياه وأخراه كحَالِ وشَبَهِ صفوان أيْ حَجَر أمْلَس لا يُنْبِت شيئاً ولكن عليه قليل من التراب الذي يُوهِم مَن يَنظر إليه أنه مِن المُمْكِن أن يُنْبِتَ نباتاً لو بُذِرَ فيه بُذور فنَزل مطر كثير فأزال ما عليه من تراب، فانكشفت حقيقته وتَبَيَّنَ للناظر إليه أنه حَجَر صَلْد أيْ صلْب أمْلَس لا يَصلح لإنبات أىّ شىءٍ منه، فكذلك حال أمثال هؤلاء ينكشفون سريعا وتظهر حقيقة أنهم لا يريدون خيرا حقيقيا كما يظهر أنَّ أعمالهم لا قيمة لها ولا ينفعهم الله بخيراتها الدنيوية والأخروية حيث تَزول بسبب مَنّهِم وإيذائهم ورِيائهم وكُفْر مَن كَفَرَ منهم كما يُزيل المطر التراب.. ".. لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا.." أيْ أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب مَنّهِم وإيذاهم وريائهم وكفر بعضهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. فتَجَنَّبوا ذلك تماما يا أيها الذين آمنوا لتسعدوا فيهما ولا تتعسوا.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلَ غير المسلمين خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿264﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المكذبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿265﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفى هذا التشبيه تشجيعٌ شديدٌ مُشَوِّقٌ على الإنفاق فى كلّ خير.. أيْ حالُ وشَبَهُ نَفَقَة الذين يُنفقون أموالهم وهم مُخْلِصُون مُحْسِنون لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرار رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكذلك يُنفقونها تَثْبِيتَاً من أنفسهم أيْ تثبيتاً لأنفسهم أيْ من أجل تَثبيت أنفسهم علي كل أخلاق الإسلام وعلي حِفْظ هذا العمل الصالح وعلي تَرْك ما يُفسده ويُبْطِله ويُضَيِّعه مِن المَنِّ والأذَيَ والرياء ونحوه، وتثبيتاً أيضا بمعني تحقيقاً لثواب الله وتصديقاً تامَّاً لوعْده، وتثبيتاً كذلك لمَكانتهم عنده تعالي في الدنيا والآخرة، فهم دائما ثابتون علي كلّ خيرٍ ويُثَبِّتُون ويُدَرِّبُون ذواتهم عليه دوْمَاً ويَطلبون من ربهم مزيداً من التثبيت لتستمرّ سعاداتهم الدنيوية والأخروية وتزداد وتَتِمّ وهم ثابتون مُتأكّدون مُتَحَقّقون تماماً أنَّ الله وعده صِدْق لا يُخْلَف مُطْلَقَاً فسيجزيهم أعظم الجزاء في الداريْن.. هؤلاء حالُهم وشَبَهُهم وحالُ وشَبَهُ نفقتهم – وكل أقوالهم وأفعالهم المُخْلِصَة الحَسَنَة الأخري أيضا – التي ينالون عليها ثواب الله المُضاعَف أضعافاً كثيرة في دنياهم وأخراهم كحَالِ وشَبَهِ جَنّة أيْ حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة الزرع لأنها برَبْوَة أيْ في مكانٍ مرتفعٍ قليلا عن الأرض مُتَمَيِّز الهواء والضوء خَصْب فبالتالي شجرها وزرعها يكون أحسن مَنْظَرَاً وأفضل ثمراً، نَزَلَ عليها وابِلٌ أيْ مطرٌ كثيرٌ مُفيدٌ فأعْطَت ثمرها مُضَاعَفَاً.. هذا، ولفظ "ضِعْفين" قد يعني مقدار انتاجها مرتين أو ضِعْفَاً بعد ضِعْفٍ فتكون التثنية للتكثير.. ".. فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ.." أي وحتي إنْ لم يَنْزِل عليها ماء كثير، فطلّ يَكْفِيها أيْ ماء قليل ونَدَيَ، لكي تُؤْتِي أيضا أكُلَها مُضَاعَفَاً!! فهي تُعطي خيراً كثيراً دائماً وعلي أيِّ حالٍ لجودة وطِيب أصل أرضها سواء كَثُر المطر النازل عليها أم قَلّ، والمقصود أنَّ نفقات وأعمال المسلمين المُخْلِصِين المُحْسِنِين لا تَضيع أبداً بل تُقبل عند الله تعالي وتُضَاعَف سواء قَلّت أم كثُرت، وأنهم لا يَمنعون مُطلقاً خيرهم في كل أحوالهم فهم دوْمَاً في كلّ وقتٍ يُقَدِّمون كلّ خيرٍ قَلّ أو كَثُر .. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿265﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَراكم ومُطّلِع على كل أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
ومعني "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿266﴾" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ ومثالٌ وتشبيهٌ آخر ﴿إضافة لِمَا ذُكِرَ في الآية ﴿264﴾ والتي يُرْجَيَ مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ للتحذير من المَنِّ والأذَيَ والرياء وما شابه هذا لتَرْك كلّ ذلك والابتعاد عنه تماما، كما أنَّ فيه ضِمْنَاً تحذيراً من عمل الخير ثم عدم الاستمرار عليه حتي نهاية الحياة والانقطاع عنه وفِعْل الشرّ لفتراتٍ في نهاية العمر ومع كِبَر السِّنِّ، لأنَّ هذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من الحَسَناتِ وقد تَفوقها، فيَتَحَسَّر ويَتعس الذي يَفعل ذلك أشدَّ الحَسْرة والتعاسة علي خسارته وتعاسته الشديدة في دنياه وأخراه.. أي هل يُحِبّ أحدٌ منكم أيها المَنّانُون المُؤْذون المُرَاءُون الفاعِلون للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات أن تكون له حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة مُثْمِرَة من نخيلٍ وأعنابٍ وهما صِنْفان مُتَمَيِّزان نافعان مُرْبِحان لمَن يمتلكهما تطلّ علي الأنهار من المياه التي تجري خلالها فسَقْيها سَهْلٌ مَيْسُورٌ ومناظرها مُسْعِدَة وأرباحها وفيرة وله فيها من كل الثمرات التي يريدها والتي أثْمَرَتْها له من التمر والعنب وغيرهما وحاله أنه قد أصابه ونَزَلَ به الكِبَر في سِنّه والذى أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة وله إضافة لشيخوخته وعجزه ذرِّيَّة ضعفاء صغار لا يَقدرون على العمل وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة والتي هي مصدر مَعِيشته وأولاده يَنْزِل عليها إعصار أيْ ريح عاصف فيه نار فيَحرقها ويُدمّرها فيَفقدها فكيف يكون حاله وحسرته وألمه وتعاسته حينها؟! لا أحدَ عاقل يحب ذلك أبداً قطعاً!!.. إنكم إنْ فَعَلْتم المَنَّ والأذَيَ والرياء والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات والتي هي كالإعصار الذي فيه نار والذي أصاب الجنة التي هي أعمالكم من الخير كان مثلكم فى الحسرة والألم والتعاسة في الدنيا والآخرة كمثل هذا الشيخ الكبير الذى احترقت جنته أيْ ضاعت ثمار أعماله الخيرية وهو في أشدّ الحاجة إليها في مُقابِل كثرة أعماله الشَّرِّيَّة.. ".. كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿266﴾" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم الآيات في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه لكي تكونوا بذلك من المُتفكرين أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيستفيدون منها ويسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتفكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿267﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أنفقوا دائماً عندما تُنفقون أيّ نوعٍ مِن نَفَقَةٍ، مِن طَيِّبات، جَمْع طَيِّب، ما كسبتم بأعمالكم، والطيِّب هو كلّ جَيِّدٍ مُيَسَّرٍ مُعْتَدِلٍ مُتَوَسِّطٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وهو قطعاً حلال أيْ سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته ولم يُحْصَل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة.. وكذلك أنفقوا من طيِّبات ما أخرجناه لكم من الأرض وعاوَنَّاكم علي إخراجه بقُدْرتنا وعِلْمنا وفضلنا وكَرَمنا ورحمتنا مِن زروعٍ ومعادن وغيرها.. فهذا هو ما يَنشر السعادة بين الجميع في الداريْن.. ".. وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي إنفاق الطيّب.. أيْ ولا تَقْصِدُوا الرَّدِيء مِن كَسْبِكُم بكلّ أنواعه لكي تُنفقوه، والخبيث أيضا هو ما كان ضارَّاً لا نافعاً وتَسْتَقْذره النفس السليمة ولا تَستطيبه، وكذلك ما كان حراماً أيْ لم يَسمح به الله أيْ مَنَعه لضَرَره ولتعاسته وتَمَّ الحصول عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة.. ".. وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ.." أيْ ولن تأخذوا هذا الخَبيث وتَقبلوه لأنفسكم بسبب رَدَاءَته وضَرَره إلاّ أن تُغْلِقُوا أعينكم عَمَّا فيه مِن خبث وتَتَغاضوا عنه.. إنَّ هذا ولا شكّ مِمَّا يَنشر الكآبة والتعاسة بين الناس.. إنه إذا كان هذا حالكم فى قبول ما هو ردىء فكيف تُقَدِّمونه لغيركم؟ إنَّ مِن شأن المسلم الذي يعمل بكل أخلاق الإسلام ألاّ يَفعل لغيره ولا يُعطيه إلا ما يحب أن يفعله لنفسه ويُعطَيَ له، فهذا هو العدل وحُسْن الخُلُق المُسْعِد للجميع في الدنيا والآخرة.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿267﴾" أيْ واعْرَفوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنَّ الله هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ وبَخلَ الناس جميعا بكل شيء! فهو لا يُشَجِّعهم على الإنفاق لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الإنفاق أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ بالتعاون فيما بينهم يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بعدم الإنفاق تَحدث الأحقاد والمنازعات فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حميد أي محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
ومعني "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿268﴾" أيْ الشيطان وهو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. هذا الشيطان يُعْطِيكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً زائفاً كاذباً بالفقر أيْ الاحتياج – أيْ يُخَوِّفكم منه – بسبب ضياع الأموال والجهود والأوقات وغيرها مِمَّا تمتلكون إذا أنفقتموها في أيِّ خيرٍ لكي تَبْخَلوا ولا تُنفقوا، وهو أيضا يَطلب منكم الفحشاء ويَخدعكم بها أنها لمصلحتكم ولسعادتكم وهي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر، مِن كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، فلا تَسيروا أبداً خَلْف طُرُقاته التي تأخذكم حتما لهذا السوء في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين منه أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة.. ".. وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا.." أيْ والله تعالي خالقكم ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم في المُقابِل يُعطيكم بفضله وكرمه وطَمْأَنته لكم وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيء في مُقابِل عملكم بكل أخلاق إسلامكم والتي منها إنفاقكم في كل خير هو مغفرة لكلّ ذنوبكم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها وهي لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وَكذلك يعدكم فضلاً أيْ عطاءً واسعا عظيما هائلاً زائداً مُتَزَايِدَاً حيث سيُحَقِّق لكم تمام الخير والسعادة في دنياكم وأخراكم فتكونون بهذه المغفرة وبهذا الفضل أي الزيادة والتنمية والبركة مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فكونوا أيها المسلمون حريصين دوْما علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خير مُجتهدين في ألاّ تخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فعلتموه فعودوا سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿268﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿269﴾" أيْ يُعطي الله تعالي صِفَة الحِكْمَة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع ووَزْن كلّ أمرٍ بميزانه الصحيح ووَضْعه في مَوْضِعه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ عَبَث مع التخطيط والتدريب والتقييم والتعليم وتبادل الخبرات ونحو ذلك من صُوَر الحكمة والرَّزَانَة والتي هي بسبب العقل الرَّاجِح الرَّزِين والفهم والعلم والوعي والتدبّر والتّعَمُّق، يُعطيها لمَن يشاء من الناس، أي مَن يَشاء منهم الحكمة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، وسَعْيه واجتهاده في هذا، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابها، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واستعان بربه ثم بالحكماء الصالحين حوله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.." أيْ والذي يُعْطَيَ الحِكْمَة فهو حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد أُعْطِيَ خيراً كثيراً حيث بها يكون له تمام الأمن والرضا والاستقرار والسعادة في دنياه وأخراه، وهل هناك خير أكثر وأعظم من هذا؟!! مِن فضله وكرمه وَوُدِّه ورحمته سبحانه.. ".. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿269﴾" أيْ ولكنْ لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها
ومعني "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿270﴾" أيْ وما أعطيتم وصَرَفْتم من أيِّ عطاءٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. ".. أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ.. " أيْ أو وَعَدْتُم وألْزَمْتُم أنفسكم بإعطاء نَذْرٍ قليلٍ أو كثيرٍ مِن أيِّ نوعٍ مِن مالٍ أو جهدٍ أو فكرٍ أو غيره، والنذر هو وَعْدٌ مستقبليّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ يشترطه المسلم علي ذاته كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق يجتهد في أدائه في موعده ولا يُقَصِّر ولا يُخْلِف وَعْده مع ربه بعدم أدائه.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تفعلوا في دنياكم من أيِّ خيرٍ في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ فإنَّ الله تعالي يعلمه فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. هذا، وإنْ كان الإنفاق والنّذْر في الشرّ سواء في السِّرِّ أو في العَلَن فإنَّ الله حتماً أيضا يعلمه وسيُحاسبكم عليه بما يُناسب من شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿270﴾" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء : 7﴾، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿271﴾" أيْ إنْ تُظْهِروا النفقات التي تنفقونها أيها المسلمون بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي وبلا رياء – أيْ ليَرَاكم الناس فيَمدحوكم أو لا يذِمّوكم – فنِعْمَ مَا هِيَ هذه النفقات، فنِعْمَ شيئاً هي يستحقّ التقدير، فنِعْم تلك النفقة، أيْ ما أعظم وأطيب وأجمل أجرها منه سبحانه حيث يُعطيكم مقدارها ومقدار نتائجها وفوائدها للغير سعادة في دنياكم وأخراكم، لأنَّ في إظهارها بهذا الصدق قُدْوَة حَسَنة للآخرين وتشجيعاً لهم علي فِعْل ما يُشبهها وفي ذلك نَشْرٌ لكلّ ما هو خير مُسْعِد للناس في الداريْن، وإنْ تُسِرُّوا ولا تُعْلِنوا نفقاتكم إنْ أمْكَنَ إخفاؤها وتُعطوها للمحتاجين لها فهو أيضا خير لكم فيهما لأنَّ ذلك أبْعَد عن الرياء وأكثر راحة لكم من مقاومته إنْ حَدَثَ ومَنْعَاً لأيِّ إحراجٍ لهم أو لغيرهم مِمَّن لا يستطيعون الإنفاق مثلكم ونحو هذا من خيرٍ ومصلحةٍ وسعادة.. فكُلّاً مِن الأمريْن إذَن خير في الدنيا والآخرة، الإظهار بلا رياء والإخفاء، وبالتالي فعليكم أن تكونوا من الذين يُحسنون تَقْدير المَوَاقِف وتَنظرون أين أكثر الخير والمصلحة والسعادة في الداريْن عند إنفاقكم لأيِّ نوعٍ من أنواع النفقات فإمّا تُخفونها لعدم إيذاءِ أحدٍ أو للبُعْد عن طَلَب الشهرة والسُّمْعَة والمَنْصِب والجَاهِ والمدح الكاذب وغيره من صُوَر الرياء أو لنحو هذا من خيرٍ ومصلحةٍ وإمّا تُبْدُونها تَقصدون انتشارَ خيرٍ مَا.. ".. وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ وإضافة لعظيم أجركم الدنيويّ والأخرويّ فهو تعالي أيضا بسبب نفقاتكم المُخْلِصَة الحَسَنَة يُكَفّر عنكم بمقدارها وأكثر من سَيِّئاتكم أيْ ذنوبكم أيْ يَسترها ويَمحوها ويزيلها ولا يُحاسبكم ويُعاقبكم عليها لأنه كما وَعَدَ قائلاً ووَعْده صِدْق لا يُخْلَف مُطلقا ".. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.." ﴿هود:114﴾.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿271﴾" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿272﴾" أيْ ليس عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده ﷺ هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآيات من سورة البقرة ﴿75﴾ حتي ﴿78﴾ والآيات ﴿159﴾ حتي ﴿162﴾ عن كيفية نشر الدعوة، والآية ﴿251﴾ عن دَفْع الخير للشرّ، والآية ﴿218﴾ عن صور الجهاد وسعاداته، ثم الآية ﴿109﴾ عن مقابلة الإساءة بالحسنة، والآية ﴿136﴾، ﴿137﴾ عن الإيمان بجميع الرسل والذي يؤدي لإحسان معاملة كل إنسان من أجل إنسانيته، والآية ﴿139﴾ عن تَرْك الجدال، ثم الآية ﴿207﴾ عن بيع الذات لله وللإسلام، ثم النظر للآية ﴿63﴾ من سورة النساء عن كيفية دعوة المنافقين والمُعاندين، ثم أخيرا الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران﴾، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين﴾، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.." أيْ وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خيرٍ وسعادة لأنفسكم أولا ثم لكلّ مَن حولكم بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياتكم وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادكم في دوام ارتباطكم بربكم وتمسّككم بكلّ أخلاق إسلامكم ونَشْرها ليَسعد بخيرها الجميع، ثم في آخرتكم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ﴿لمزيد من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."﴾.. " .. وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.." أيْ وهذا إذا كنتم لا تَقْصِدون بالإنفاق إلا ابتغاء وَجْه الله أيْ وجوده وذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. وفي هذا توجيهٌ وإرشادٌ وتنبيهٌ وتذكيرٌ للمسلمين ألاّ يُنفقوا أبداً إلاّ وهم مُخْلِصُون مُحْسِنون أي لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. كما أنَّ الآية الكريمة أيضا تُفيد ضِمْنَاً أنَّ المُتَوَقّع دوْمَاً من المسلم الذي يعمل بأخلاق إسلامه أنه لا يُنفق إلا لابتغاء وجه الله لا لشيءٍ آخر ليكون من المنفقين الذين ينالون هذا الأجر العظيم، فتكون الآية تشجيعاً له علي هذا ومدحاً إذا فَعَله وعوْناً علي الاستمرار فيه.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿272﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً يُوَفّ إليكم أيْ ستَأخذون أجوركم عليه وافِيَة غير مَنْقوصَة ودون أيّ ظلمٍ من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ﴿سبأ:39﴾ أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته
ومعني "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿273﴾" أيْ عليكم أيها المسلمون أن تُحسنوا اختيار صورة الإنفاق الذي ستُنفقونه والمكان والوقت الذي ستُنفقون فيه والأوْلَوِيَّة لمَن تُنفقون ونحو هذا بحيث يمكنكم استحضار أكثر وأعظم نوايا خيرٍ مُمْكِنَةٍ بعقولكم وبحيث تُحقّقون أكبر نفعٍ مُمكنٍ وأكثر نشرٍ مُمكنٍ للخير وأعلي سعادةٍ مُمكنة، كأنْ تجعلوا بعض نفقاتكم مثلا لمَن أُحْصِرَ في سبيل الله أيْ مُنِعَ لله، أي انقطعَ له وللإسلام، فلا يستطيع ضَرْبَاً في الأرض أيْ سَيْرَاً وتَنَقّلاً فيها للعمل والكسب وغيره، كالذي يحمي حدود الوطن، أو ينقطع للعلم نفعا للناس، أو لا يجد عملا مناسبا أو لا يستطيعه فيضعف حاله ويكون من الفقراء أيْ المحتاجين لِكِبَرِ سِنٍّ أو مرضٍ أو نحوه، أو ما شابه هذا من صور الذين أُحْصِرُوا في سبيل الله، ففقرهم لم يكن بسبب تَكَاسُلٍ وإهمالٍ فى اتّخاذ أسباب الغِنَي وإنما كان لأسبابٍ خارجةٍ عن إرادتهم.. ".. يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا.." أيْ ومن صفاتهم أنهم يظنّهم الجاهل بهم الذي لا يعرف ظروفهم أغنياء من التّعَفّف أيْ بسبب التّجَنّب والامتناع والتّرَفّع التامّ الشديد عن سؤال الآخرين ومَدِّ اليَدِ لهم طَلَبَاً لعوْنهم رغم احتياجهم ولكنك تعرفهم أيها الناظر إليهم يا صاحب الخبرة والتّدَبّر القريب منهم بسيماهم أيْ بسِماتِ ومَلامِح وعلاماتِ وتعبيراتِ وجوههم ومَظهرهم وتصرّفاتهم حيث يظهر احتياجهم فهم مُتَعَفّفون تماماً لا يسألون الناس إلحاحَاً وإنْ سألوا فاضطراراً شديداً.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿273﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً عليم به فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا ومعني "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿274﴾" أيْ هذا أيضا مزيدٌ من التشجيع والمَدْح علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، أيْ الذين يعطون من أموالهم ومن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر في جميع الأوقات والأحوال سواء بالليل أو النهار سِرَّاً أو عَلَنَاً في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فهؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿274﴾" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿275﴾ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿276﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿277﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿278﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴿279﴾ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿280﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من المُرَابِين أي الذين يتعاملون بالربا وما شابهها من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿275﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين يَتعامَلون بالربا وهي طَلَب الزيادة على المال وأشهر صورها الإقراض لمدّةٍ زَمَنِيَّةٍ مُحَدَّدةٍ ثم السَّدَاد بزيادةٍ يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز المواعيد المُحَدَّدَة، فيأخذونها ويتصرّفون فيها بالأكل في بطونهم وبغيره من صور التّصَرُّف.. ".. لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.." أيْ لا يكونون في سَعْيِهِم وتَصَرِّفهم وكل أحوالهم في دنياهم إلا كالذي جعله الشيطان يَتَخَبَّط من الجنون أيْ يتصرَّف كالمجنون بعشوائية وفوضَي وحيرة وتَرَدُّد واضطراب وبلا عقلٍ ولا ضابط، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، فالذين يتعامَلون بالربا والمعاملات الخبيثة كثيراً ما تجدهم أيها المُتَعَامِل معهم والناظِر إليهم مَهْووسِين وكأنَّ عقولهم قد أصابتها لَوْثَة أو مَسَّهم جنون بسبب كثرة قلقهم وتوَتّرهم واضطرابهم وشدّة حرصهم علي أموالهم ورعبهم من انتقام مَن استغلّوهم لسوء معاملاتهم ولكثرة مشاحناتهم وصراعاتهم وبالتالي لا يستمتعون بها ولا يذوقون حلاوتها وسعاداتها وكثيرا ما ينفقونها في أمراضٍ وغيرها، وكذلك حالهم في أخراهم حيث لا يقومون من قبورهم للقاء الله تعالي لحسابهم إلا قياماً كقيام المُتَخَبِّط المَجنون وذلك لشدّة رُعْبِهم من عذابه بسبب أكلهم الربا الذى حَرَّمه سبحانه.. ".. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.." أيْ ذلك الحال السَّيِّء التّعِيس الذي يكونون فيه في دنياهم وأخراهم سببه أنهم قالوا كاذِبين مُزَوِّرِين خَالِطِين الحقَّ بالباطل إنَّ البيع والشراء والتجارة ونحو هذا مِمَّا أحَلّه الله يُشبه الربا الذى نتعامَل به فى أنَّ كلاًّ منهما يُؤدّي إلي زيادة المال!!.. ".. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.." أيْ هذا فَضْحٌ وكَشْفٌ لادَّعائهم الكاذب، أيْ ادَّعَوْا كذباً ما ادَّعُوُه مع عِلْمهم بتفريق الله بين هذا وذاك، فالحقّ والحال الصحيح أنَّ الله قد سَمَحَ بالبيع ومَنَعَ الربا، وما كان لهم أن يعترضوا على وَصَايا ربهم لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، والحِكْمة واضحة لكلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ البيع يُنْعِش العمل والإنتاج والتجارة والصناعة وغيرها فتَنْعَدِم البطالة ويَقْوَيَ الاقتصاد ويرتفع المستوي الاجتماعي والثقافي والعلمي والسياسي وغيره فيسعد الجميع في الدنيا والآخرة، بينما الربا مُحَرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله لأنها كَسْبٌ بغير عملٍ وإنتاجٍ فتنتشر البطالة ويَضعف الاقتصاد ثم هي تَنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيَفقد الجميع تَجَانُسَهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيَتعسون في الداريْن.. ".. فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ.." أيْ فمَن وَصَلَهُ تَذْكِرَةٌ وتَوْصِيَة مِن ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه – عن حُرْمَةِ الربا وعَلِمَ بها من خلال مَن يُيَسِّره الله له لِوَعْظِه فامتنعَ عن التعامُل بها فله ما سَلَف أيْ ما سَبَقَ من المعاملات الربوية قبل أن تَصِلَه الموعظة أيْ فله ما كان قد أكل وأخذ من الربا قبل معرفته وعِلْمه بالتحريم لا إثم عليه فيه ولا يُسْتَرَدّ منه، جزاءً لقبوله للنصيحة وتشجيعاً له علي التوبة حتي لا يَسْتَثقلها كما أنه من المُحْتَمَل أن يكون هذا المُرابِي قد رَتّبَ حياته ترتيباً على ما كان يأخذه من ربا قبل علمه بالتحريم فإذا كان الأمر كذلك فإنه تعالى يَعفو عَمَّا سَلَفَ برحمته ومراعاة لحاله رغم ما فَعَلَه ولأنَّ في حساب كلّ ما سَبَقَ أكله وإخراجه مَشَقّة شديدة عليه ثم هو سبحانه يُعَوِّض ويُرْضِي بكرمه وفضله في الداريْن الذين قد تَضَرَّروا مِمَّا أخذه منهم هذا المُرابِي من زياداتٍ علي ديونهم التي أقرضهم إيّاها، فالإسلام يَمحو السابق من أيِّ سوءٍ لمَن يَتوب وقانونه لا يُطَبَّق على الماضي قبله، لكن ليس للتائب أيّ حقّ رِبَوِيّ بعد علمه بالتحريم، وإنْ أكلَ الربا بعد التحريم فإنه لا تَمْحُوه توبة حتى يُعطِي المال لصاحبه، لأنه أكلٌ لمالِ الناس بغير حقّ، وقد أكَلَ بعد العلم بالتحريم، فإنْ لم يَعْرِف له صاحب فإنَّ عليه أنْ يَتَصَدَّقَ به في المصالح العامة للمسلمين كالطرق والمدارس والمستشفيات ونحو هذا، ولعلّ الله سبحانه وتعالى يقبل توبته وهو الغفور الرحيم.. ".. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.." أيْ وأمر تحريم الربا هو إلي الله لا إلي غيره، وكذلك أمر هذا المُرَابِي التائب بمجرّد عِلْمه بالتحريم مُفَوَّض مَتْرُوك إلى عَفْو الله تعالى فهو الذى يُعامله بما يناسب فضله وكرمه ورحمته، وأيضا أمره كله مَوْكُول إليه سبحانه، كلّ شئون حياته بعد توبته، فهو وَكِيله، فهو الذي سيَرحمه علي تَعَامُله بالربا قبل التوبة وهو الذي سيُثَبِّته علي تَوْبته وعلي أخلاق الإسلام بعدها فلا يَتراجَع وهو الذي سيُعَوِّضه أضعافاً كثيرة بالبركة في الحلال الذي سيَعمل فيه بدلاً عن الربا المُحَرَّمَة وسيَجعله يعيش في إطار هذه الرحمات والبركات والسعادات في دنياه ثم أخراه وهو الذي سيُرْضِي ويُعَوِّض في الداريْن الذين تَضَرَّروا من معاملاته، وبالجملة سيَجد حتما كلّ مَن يُوُكِلُ أمره إلي الله بعد توبته وعموما ودوْمَاً الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَنْ عَادَ.." أيْ ومَن عاد إلى تحليل الربا بعد علمه بحُرْمَتِها، فهو مُحَلّلٌ لِمَا حَرَّمَ الله مُكَذّبٌ به مُعانِدٌ له مُسْتَكْبِرٌ عليه وقد حَكَمَ تعالي أنه خالدٌ في النار ولا يُخَلّد فيها مؤمن ولذا فهو كافر، وهذا هو معني ".. فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿275﴾" أيْ فهؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفة السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ومَن عادَ مِن المسلمين للتعامُل بالربا وهو لا يُحَلّلها فقد ارتكبَ ذنباً كبيراً يُحاسَب علي قَدْره بما يُناسِب في الداريْن من الله تعالي لكنْ لا يُخَلّد بالقطع في النار، ويكون لفظ "خالدون" بالنسبة للمسلم يعني المُبَالَغَة في البقاء فيها لمدة طويلة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره لكن ليس بلا نهاية كالكافر
ومعني "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿276﴾" أيْ يزيل الله تدريجيا شيئا فشيئا الزيادة المأخوذة من الربا بأن يَنْزِع منها البركة أيْ لا يستمتع بها مَن يتعامَل بالربا استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدها بعضها أو كلها فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهي إذن قليلة دنيئة زائلة يوما ما، بل مِن كثرة شروره هو غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هو في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا، فبالجملة هو كما جاء في الآية ﴿275﴾ والتي يُرْجَيَ مراجعتها لتكتمل المعاني لا يَتَصَرَّف في حياته ".. إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..".. ثم في آخرته له حتماً ما يَنتظره من عذابٍ يُناسب ما فَعَلَ مِن شرور ومفاسد وأضرار.. ".. وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.." أيْ ويُرَبِّي أيْ يُنَمِّي ويُبارِك أيْ يزيد سبحانه في المُقابِل الصدقات وهي كل ما يُنفقه المُنفقون مِن أيِّ خيرٍ بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي في أيِّ وجهٍ مِن وجوهه، فيَجدون أثر هذا النماء لهم مِن كلّ خيرٍ في دنياهم أولا مُتَمَثّلاً في كل رعايةٍ وأمنٍ وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وفي هذا تبشيرٌ تامٌّ للمُنفقين المُبْتَعِدين عن التعامُل بالربا وتحذيرٌ شديدٌ للمُتعامِلِين بها لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العقاب لهم فيهما.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿276﴾" أيْ والله بالقطع لا يحب مُطلقا كل كفّار أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها الذي قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَستكبر ويَستهزيء ويُبالِغ في ذلك ويُصِرّ عليه ويَتَمَادَيَ فيه والذي هو أثيم أيْ كثير الفِعْل للآثام، أيْ للذنوب، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكلّ أنواعها، سواء أكانت كفرا أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب كفره وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿277﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ.." أيْ ووَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَآتَوُا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال.. ".. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿277﴾" أيْ هؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿277﴾" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿278﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوا الله وراقبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.." أيْ واتركوا طَلَبَ ما تَبَقّيَ لكم من زيادةٍ على رؤوس أموالكم التي لكم عند الآخرين الذين تَتَعامَلون معهم بالربا بعد عِلْمكم بتحريمها، فما أخذتم قبل العلم بذلك فهو يُعْفَيَ عنه (برجاء مراجعة معني ".. فَلَهُ مَا سَلَفَ.." في الآية ﴿275﴾ لتكتمل المعاني﴾، أمّا ما يُؤخَذ من بعد ذلك حتي ولو كان باتفاقٍ سابقٍ للعلم بالتحريم فإنه حرام فاتركوه.. ".. إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿278﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴿279﴾" أيْ فإنْ لم تفعلوا ما أمركم الله به من تَرْك الربا فاعْلَموا واسْتَيْقِنوا، أيْ كونوا علي علمٍ ويقينٍ بحربٍ قاسيةٍ واقِعَةٍ حتماً من الله ورسوله لعدم تنفيذكم أمره.. ومَن هو هذا المخلوق الذي لا شيء بالنسبة لخالِقه يُمكنه محاربته وهو القادر علي كل شيءٍ وعلي عذابه وإهلاكه بكل الأشكال؟!.. إنها حربٌ ستكون في دنياكم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراكم سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ..إنَّ حرب الله تعالي تكون بجنودٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه أمّا حرب رسول الله ﷺ فجنودها هم المسلمون الذين عليهم أنْ يَتَنَاصَحُوا فيما بينهم لمَنْع الربا بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مُتَاحَةٍ مُبَاحَة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء المُخَالِفِين، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴿279﴾" أيْ وإنْ تُبْتُم عن التَّعامُل بالربا أيْ رَجعتم إلى ربكم وإسلامكم وتركتموها فلكم أَخْذُ أصول أموالكم كاملة غير مَنْقُوصَة لكن بلا أيِّ زيادةٍ قَلّت أو كَثُرَت وبذلك لا تَظْلِمون أحدًا فتُعَاقَبُون في الداريْن بأن تأخذوا ما زاد على رؤوس أموالكم ولا تُظْلَمون من أحدٍ بأنْ يُنْقِصَكم ما أقرضتموه إيّاه عند رَدِّه إليكم أو يُمَاطِلكم في الرَّدِّ وهو قادر عليه حيث قد يفكر البعض في ذلك أو يفعله انتقاما مِمَّن أقرضهم بالربا واسْتَغَلَّ حاجتهم فيكون هو أيضا ظالماً يُعَاقَب علي فِعْله الظالم في دنياه وأخراه بما يُناسِب
ومعني "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿280﴾" أيْ وإنْ كان الذي عليه الدَّيْن لكم صاحب عُسْرَة أيْ شدّة وضائقة مالية لا يستطيع سداد رؤوس أموالكم فانتظارٌ وتأجيلٌ منكم هو الواجب عليكم إلي حين مَيْسَرَة أيْ يُسْر أيْ تَيَسُّر الحال بحيث يمكنه أداء ما عليه بيُسْرٍ وسهولةٍ دون مَشَقّة.. ".. وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ.." أيْ وإنْ تَتَصَدَّقوا علي المُعْسِر بأنْ تَتَنَازَلوا له عن بعض أو كلّ ما لكم من دَيْنٍ عليه حسب حاله وحالكم فهو حتماً خير لكم في الأجر الدنيويّ والأخرويّ من أجر الانتظار والتأجيل حتي يُسَدِّده حيث ستَأخذون أجوركم العظيمة التي لا تُوصَف من خالقكم الكريم العادل ذي الفضل العظيم الذي لا يَظلم مثقال ذرّة، في دنياكم أولا حيث حُبّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده وتَعْويضه عنه بأكثر كثيراً مِمَّا أنفقتم مِن كلّ خيرٍ بغير حسابٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدْق " .. وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ﴿سبأ:39﴾ أيْ فهو يُعَوِّضه بما هو أعظم وبما يُناسب عظمته وكرمه وفضله تعالي لأنه هو خير الرازقين، ثم في أخراكم حيث لكم أعلي درجات جناته.. وفي هذا تشجيعٌ علي أخلاق التكافل والتسامح والتراحُم والإخاء والحب بين أفراد المجتمع كله التي يُوصِي بها الإسلام حيث القادر يُعين العاجز وبذلك يَقْوُون ويَنْمُون ويَتَطوّرون ويسعدون ويَقْوَيَ ويَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بغير هذه الأخلاقيات الطيبة يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿280﴾" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿281﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿281﴾" أيْ وخافوا يوماً شديداً واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن هو يوم الحساب يوم القيامة الذي تعودون فيه إلي الله خالقكم حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً حيث تُوَفّيَ أيْ تُعْطَيَ حتما كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿282﴾ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿283﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يَحفظون الحقوق، لذاتك وللآخرين، في كل المعاملات، لا تَظْلِم ولا تُظْلَم، فأنت دوْمَاً عادل في كل أقوالك وأفعالك، لأنه بالعدل يُحْفَظ لكل صاحب حقّ حقّه ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.." أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا دَايَنَ بعضكم بعضا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ إلى أجلٍ مُحَدَّدٍ معلومٍ فاكتبوا هذا الدَّيْن حِفْظَاً لحقوق الجميع ومَنْعاً للنزاع بينهم، فيُكْتَب ويُسَجَّل تفاصيله ونوعيته وكيفية أدائه وتوقيته ومكانه ونحو ذلك، إلا إذا كان شيئاً بسيطاً تَعَارَفَ واعتادَ الناس علي عدم كتابته فلا يُكْتَب للتَّيْسِير عليهم.. ".. وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.." أيْ ولْيَقُمْ بالكتابة فيما بينكم وبحضور الأطراف كلها كاتبٌ خبيرٌ مُتَخَصِّصٌ تَقِيٌّ عادلٌ مُتَوَافَق عليه منهم يَكتب بالعدل والحقّ والصدْق ولا يُخْفِي شيئاً ولا يَظْلِم أحداً ولا يزيد ولا ينقص ولا يَغِشّ ولا يَحْتال ولا يَتَلاَعَب ونحو هذا من صور مُخَالَفَة العدل.. ".. وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.." أيْ ولا يَمتنع ويَرفض كاتبٌ ما دام كان قادراً علي الكتابة خبيراً بها ودُعِيَ إليها مِن أنْ يكتب الدَّيْن بين المُتَدَايِنِيِن، فَلْيَكْتُب كتابة مِثْلَمَا عَلّمه الله إيّاها بمعنى أن تكون بطريقةٍ يلتزم فيها الحقّ والعدل ولا يُخالِف أخلاق الإسلام وقوانينه، وأيضا لأنه كما عَلّمه الله إيّاها ويَسَّرَها له ونَفَعه بها وجعله مُتَخَصِّصَاً فيها فعليه ألاّ يَمتنع أن ينفع كذلك ما استطاع غيره بها ليكون ذلك شكراً له سبحانه علي هذا العلم وحُسْنَاً لاستخدامه في الخير كما طَلَبَ منه، ولفظ "فَلْيَكْتُب" يُفيد مزيداً من التأكيد عليه ألاّ يَأْبَيَ الكتابة..".. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.." أيْ ولْيَقُمْ الذي عليه الدَّيْن بإملاء دَيْنه للكاتب الذي سيَكتب، ولْيَخَف الله ربَّه ويُراقِبه ويُطيعه ويجعل بينه وبين عذابه وقاية فلا ينقص من الدَّيْن أيَّ شيء – وكذلك الكاتب بالقطع – ليكون هذا الإملاء بنفسه اعترافاً منه وإقراراً بالذي عليه وتكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره فلا يُظْلَم بشيءٍ لأنَّ موقفه غالبا هو الأضعف فيُقَوِّيه الله تعالي بهذا حتي لا يَظلمه الدَّائِن وقد يَضعف عن الشكوي كما قد يحدث أحيانا، وهو أيضا لا يَظلم الدائن له بأن يَتّقِي الله ولا يَبْخَسه شيئا.. هذا، والله تعالي يُذَكّر كلّاً من الدَّائِن والمَدِين بأنه ربّه أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وذلك لإلهاب مشاعره ليكون أسرع استجابة لِمَا يُوصِيه به.. ".. فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.." أيْ فإنْ كان الذي عليه الدَّيْن سفيها أي ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور، أو ضعيفاً أيْ صغيراً أو مريضاً أو مُسِنَّاً أو نحو هذا، أو لا يستطيع أنْ يُمِلَّ هو بنفسه لعدم خبرته بمِثْل هذه الأمور أو لأنه أخْرَس لا يتكلم أو به مرض يمنع الكلام أو ما شابه هذا، فحينها فلْيَقُم بالإملاء وليّ أمره الذي يتولّيَ شئونه لعَجْزه أو وكيل عنه يَرْضاه أو مَن يهمّه شأنه ولا يَرْضَىَ له أن يضيع حقه علي أن يلتزم قطعا بالعدل بلا ظلمٍ لأيّ طرف.. ".. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ.." أيْ واطلبوا شاهِدَيْن عادِلَيْن من رجالكم المسلمين ليشهدوا على ما يكون بينكم من مُعاملاتٍ مُؤَجَّلَة، فهذا بعد كتابتها يُعطيها مزيداً من التوثيق والتأكيد فيزداد حفظ الحقوق ومَنْع الصراع.. والتعاسة..".. فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ.." أيْ فإنْ لم يَتَيَسَّر وجود رجلين فاطلبوا شهادة رجل وامرأتين مسلمتين – وكل الشهود لا بُدّ أن يكونوا مِمَّن ترضون شهادتهم أيْ من الذين تعلمون وتتأكدون أنهم عادلون موثوقون مُحْسِنون لضبط الأحداث وتَذَكّرها لا ينسونها ولا يخافون قول الحقّ أتقياء حُكَماء مُتّزنون يَتَرَاضَيَ ويَتَوَافَق عليهم الأطراف كلها – بحيث إنْ ضَلّت أيْ نَسِيَتْ أو أخطأت إحداهما بسبب تغليبِ عاطفةٍ أو خوفٍ أو غيره كما يحدث أحيانا مع النساء ذكَّرتها الأخرى، وذلك إذا حَدَثَ خلافٌ وطُلِبَ منهما الشهادة علي ما شَهِدَا عليه.. ".. وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا.." أيْ ولا يَرفض ويَمتنع الشهود إذا طُلِبُوا للشهادة علي المُعامَلات المُؤَجَّلَة وغيرها من أنواع الشهادات المختلفة في كل شئون الحياة ما داموا يستطيعون وليس هناك عذر مَقبول يَمنعهم من أدائها لأنَّ الامتناع عنها قد يُؤَدِّي إلي ضياع الحقوق وغياب العدالة وانتشار الظلم فيَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن.. ".. وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ.." أيْ ولا تَمَلُّوا وتَتَضَايَقُوا أن تكتبوا الدَّيْن قليلاً أو كثيراً إلى وقته المُحَدَّد المَعلوم حتي إذا تَكَرَّر ذلك لأنَّ الصغير عند الفقير يكون كبيراً والكبير عند الغَنِيّ يكون صغيراً ولأنَّ الاعتياد علي التَّهَاوُن فيما هو صغير قد يُؤدّي إلي ضياع ما هو كبير، إلا إذا كان شيئا بسيطاً تَعَارَف واعتادَ الناس علي عدم كتابته فلا يُكْتَب للتيسير عليهم.. ".. ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا.." أيْ ذلك كله الذي نُوصِيكم به هو أعدل عند الله في شَرْعه أيْ الإسلام، وأكثر استقامة للشهادة أيْ أثْبَت لها وأَعْوَن علي إقامتها وأدائها عند طَلَبها فتكون سليمة مستقيمة دون اعْوِجاجٍ وأقوي للدلالة علي صِحَّتها لأنَّ الكتابة لا تُنْسَيَ بينما الشهادة الشفويَّة قد تُنْسَيَ أو يَغيب الشَّاهِد أو يُمْنَع أو يموت أو نحو هذا، وأدني أيْ وأقْرَب أن لا تَشُكّوا فيما بينكم بأيِّ صورةٍ من صور الشَّكِّ بخلاف الشهادة بدون كتابة، فإذا كُتِبَ نوع الدَّيْن ومقداره ومدّته وغير ذلك مِمَّا يُحْتَاج إليه لم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيُّ شَكّ.. إنه بهذه الوَصَايَا يُحْفَظ لكلِّ صاحبِ حقّ حقّه ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا.." أيْ إذا تَدَايَنْتُم فتَكَاتَبُوا وأشْهِدُوا لكن إذا كان هناك تجارة السلعة فيها حاضِرَة مع البائع والثمن مع المشتري تَتَعَاطُونها وتُكْثِرون إدارتها والتّعامُل فيها وتُدَار فيما بينكم بأنْ يَتِمَّ التسليم والتّسَلّم فورياً بلا دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فليس عليكم حَرَج ألاّ تكتبوها لأنه لا ديون أصلا.. ".. وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.." أيْ ويُفَضَّل وجود شهودٍ ونصوص عقودٍ مُفَصَّلَة مَا أمكن إذا بِعْتُم واشْتَرَيْتُم لمَنْع أيّ خِلافٍ مستقبليّ خاصة في السلع الكبيرة والمُعَمِّرَة كالعقارات والأراضي ونحوها، لكن ليس فيما هو بسيط ويحدث يوميا وسريع الاستهلاك كالطعام والشراب ونحوه، وكل ذلك منعاً للمَشَقّة علي الناس وتيسيراً لحياتهم مع حفظ حقوقهم وإسعادهم في الداريْن.. ".. وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.." أيْ ولا يُضَرّ مُطلقاً مَن يَكتب ويُسَجِّل الديون والعقود وكذلك مَن يَشهد عليها، بواسطة صاحب حقّ أو مَن عليه حقّ، مِن خلال تهديدٍ مثلا أو دفع رشوةٍ أو ما شابه هذا من أجل تغيير الحقائق وأكل الحقوق بغير الحقّ، أو حتي إضرارهم بمجرد حجزهم لأوقاتٍ طويلة أو أخذهم لمسافاتٍ بعيدة أو وقت انشغالهم من أجل الكتابة أو الشهادة أو نحو ذلك من أشكال الإضرار صغرت أم كبرت.. والعكس أيضا صحيح، أي لا يُضَرّ مُطلقاً مَن له أو عليه حقّ بواسطة كاتبٍ أو شهيدٍ بزيادةٍ أو نقصانٍ أو تَلاعُبٍ أو غيره من صور عدم العدل والظلم.. ".. وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.." أيْ وإنْ تفعلوا ذلك الإضرار وما يُخالِف أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام فإنه خروجٌ بكم عن طاعة الله ولاَحِقٌ بكم عقابه في الداريْن بما يُناسب.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.." أيْ والله تعالي يُعَلّمكم كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فاستجيبوا له إذَن واعملوا بكل أخلاق إسلامكم ليَتحقّق لكم ذلك.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿282﴾" أيْ والله تعالي عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿283﴾" أيْ وإذا كنتم في سفرٍ ولم تجدوا مَن يَكتب لكم الدَّيْن، أيْ إنْ تَعَذّرَت كتابة الدَّيْن المُؤَجَّل لوقتٍ ما لسببٍ من الأسباب كسفرٍ أو غيره، فليكن ضَمَان الدَّيْن رهناً يَقبضه أيْ يأخذه الدَّائِن من المَدِين، أيْ فلْيُقَدِّم الذي عليه الدَّيْن شيئا مقبولا للدائن قد يُقَارِب دَيْنَه يُسَمَّيَ رَهْنَاً – والجمع رِهَان – يَرهنه أيْ يَحبسه ويُبقيه عنده ضماناً لحقّه حتي يَرُدَّ له ما عليه مِن ديْن، وذلك عند عدم الكتابة للدَّيْن سواء كنتم مسافرين أم مُقِيمين في بلادكم.. ".. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ.." أيْ هذا تذكيرٌ بالأمانة والوفاء والتقوي وتشجيعٌ علي العمل بها وبكل أخلاق الإسلام في كل شئون الحياة ليسعد الجميع بذلك في الداريْن.. أيْ فإنْ اطْمَأَنَّ بعضكم لبعضٍ ووَثَقَ به، فلا حَرَجَ في تَرْك الكتابة والإشهاد والرَّهْن، ويَبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المَدِين، وعليه أن يكون عند حُسْن ظنِّ الدائِن وهو الذي أعطاه بلا شروطٍ حيث لا يتوقع منه شرّاً وخيانة فيُعامله بإحسانٍ مُمَاثِلٍ فيُؤَدِّي هذا الذي اؤْتُمِنَ أيْ المَدِين ما اؤْتُمِنَ عليه من أمانةٍ عنده وهو الديْنٍ فى الموعد المُحَدَّد بلا تأجيلٍ دون عذرٍ مقبولٍ أو مُمَاطَلَة أو نحو هذا بل مع شكره علي حُسْن ظنّه به وعوْنه، وعليه أثناء ذلك ومِمَّا يُعينه علي الوفاء الحَسَن أنْ يَتّقِى الله ربّه فى رعاية حقوق غيره أيْ يَخافه ويُراقِبه ويُطيعه ويجعل بينه وبين عذابه وقاية فلا يَخون الأمانة التي عنده ويُنْكرها ويَتَلاَعَب بها وما شابه ذلك من صور الخيانة.. هذا، والله تعالي يُذَكّر المَدِين – وكلّ إنسانٍ قطعا – بأنه ربّه أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وذلك لإلهاب مشاعره ليكون أسرع استجابة لِمَا يُوصِيه به.. ".. وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ.." أيْ ولا تُخْفوا الشهادة مُطلقاً عند طَلَبها منكم، في أيِّ شأنٍ شاهَدْتموه، فقوموا بأدائها علي أكمل وجهٍ كما شاهدتم تماماً بكل عدلٍ وصدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا.. فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما، ولذلك ".. وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.." أيْ ومَن يُخْفِيها فإنه حتماً يأثم عقله وهو آثمٌ فاجِرٌ شُعُورُه، أيْ يَرْتَكِب إثماً فظيعاً أيْ شَرَّاً شَنِيعَاً يُتعسه في دنياه وأخراه مِن أثر ما فَعَل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْرُه مِن عدم كتمانها وإلا حَدَثَ الضرر والإثم الشديد الذي يُوجِب العقاب لكاتِمها بما يُناسب في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿283﴾" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله بكل تأكيد عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿284﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُحَوِّلون ما يَدور في عقولهم أحيانا من أفكارٍ في الشرّ إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئة شَرِّيَّة علي أرض الواقع، بل يُقاومونها ويَتناسونها ويَفعلون عكسها، أيْ يقولون كلّ خيرٍ ويعملون كل خير، فحينئذ يكون لهم أعظم الثواب والسعادة في الداريْن علي مقاومتهم وفِعْلهم الخير، وما يَمُرّ بالعقل وقتها من خواطر سيئة فهي يُعْفَيَ عنها بكل تأكيدٍ كما يقول الرسول ﷺ مؤكّداً ذلك " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" ﴿أخرجه البخاري ومسلم﴾.. لكنْ مَن يستمرّ في التفكير الشَّرِّيِّ بعقله ويُخَطّط ويُدَبِّر للشرّ استعداداً لتنفيذه، فهذا ولا شكّ قد دَخَلَ في أوُلَيَ مراحل فِعْل الشَّرِّ وعليه إثمه ويحاسبه ربه عليه سواء نَفّذَ تفكيره السَّيِّء هذا واقعيا وفِعْلِيَّاً أم لا، فإنْ نَفّذه زادَ ذنبه واشتدّ حسابه علي قَدْر جريمته وما حَقّقت من أضرار وتعاسات.. وهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه بداخل خَلْقه فهو له ما في السماوات وما في الأرض وهو علي كل شيءٍ قدير.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾
هذا، ومعني "للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿284﴾" أيْ له سبحانه كل ما فيهما فهو خَلْقه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. ".. وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ.." أيْ وبالتالي إنْ تُظْهِروا ما بداخل عقولكم من فكرٍ في الخير أو الشرّ أو لا تُظهروه فهو بكل تأكيدٍ عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم (برجاء لاكتمال المعاني ومعرفة كيفية الحساب علي الخَواطِر بالعقل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة﴾.. ".. فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ.." أيْ وبناءً عليه فهو يغفرُ للذي يَتُوب من ذنوبه أيْ يُسقطها عنه ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر : 53﴾، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ.." أيْ وأمَّا مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. " .. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿284﴾" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿285﴾ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿286﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿285﴾" أيْ صَدَّقَ الرسول الكريم محمد ﷺ تصديقاً تامَّاً بلا أيِّ شكّ أو تَرَدّد بما أوحي إليه من ربه وهو القرآن العظيم، وكذلك المؤمنون أيْ المُصَدِّقون، كلٌّ من الرسول والمؤمنون صَدَّقَ بوجود الله وبأنه الرَّبّ والإله، والربّ هو خالِق جميع الخَلْق ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال قرآنه وما به من أخلاق إسلامه، والإله هو المَعْبُود أيْ هو وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، وذِكْر إيمان المؤمنين مع إيمان الرسول ﷺ يُفيد عظيم التشريف والتكريم والرِّفْعَة لهم والطّمْأَنَة إلي أنهم ما داموا صادقين في إيمانهم مستمرّين عليه من خلال تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم كانت منزلتهم عند الله تعالى في دنياهم وأخراهم قريبة من منازل الرسل الكرام.. وكذلك كلٌّ منهم آمَنَ بوجود ملائكته جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه غير مَرْئِيّ خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه وهي لا تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كلّ ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير.. وآمَنوا أيضا بكتب الله كلها وآخرها القرآن الكريم والتى أنزلها مُرْشِدَة ومُوَجِّهَة للخير وللسعادة لكلّ البَشَر منذ خلقهم بما تحتويه من أخلاق الإسلام التي تُناسب كل عصرٍ من أجل إصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في الداريْن، وآمنوا بكل رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ الذين أرسلهم مُوحِيَاً إليهم هذه الكتب ليُبَلّغوا ويُعَلّموا ما فيها للناس وهم بَشَر مثلهم من بينهم يتّصِفون بكمال أخلاقهم ليَثقوا فيهم فيَتّبعوهم.. ".. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة كذلك أنهم لا يُفَرِّقون ولا يُمَيِّزون بين أحدٍ من هؤلاء الرسل الكرام فيُكَذّبون ببعضهم ويصدقون بالبعض الآخر، فهم حريصون كل الحرص ألاّ يَنْحَرِفوا فيَتعسوا في الداريْن بأنْ يَتَشَبَّهوا ببعض المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين الذين آمنوا ببعض الرسل كموسي ﷺ وكتابه التوراة وعيسي ﷺ وكتابه الإنجيل وكَذّبوا بغيرهم وببعض ما في كتبهم مثلما حَدَث وكَذّبوا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبالقرآن الذي أُوحِيَ إليه كله أو بعضه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم لأنَّ الكتب كلها التي حَمَلَها كلّ الرسل أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد والإيمان بذلك – وبالملائكة – هو استكمالٌ للإيمان بالله تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَد ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة كذلك ومن مظاهر وعلامات صَدْقِ إيمانهم تأكيدهم علي ما استقرّ في عقولهم ومشاعرهم من الإيمان بتطبيقهم العمليّ له في واقع حياتهم باتّباعهم لكل أخلاق إسلامهم قائلين سمعنا قولك يا ربنا في قرآنك الكريم وأطعنا كل ما فيه واستجبنا له وعملنا به، سمعنا أخلاقيَّاته وتشريعاته وأنظمته سَمَاعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالنا وأعمالنا في كلّ شئون حياتنا لنَصْلُح ونَكْمُل ونَسْعَد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. ".. غُفْرَانَكَ رَبَّنَا.." أيْ ومن صفاتهم الحَسَنة أيضا أنهم مُحِبِّين دَوْماً لمغفرة الله تعالي دائِمي التواصُل معه والدعاء له والاستعانة به والطلب للغفران منه قائلين اغفر لنا تقصيرنا بفضلك وكرمك ورحمتك فأنت ربنا أيْ خالِقنا ومُرَبِّينا وراعِينا ورازقنا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة العالِم تمام العلم بنا وبأحوالنا وضعفنا، وأنت الغفور أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، وأنت الرحيم أيْ كثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. ".. وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿285﴾" أيْ ومن صفاتهم الحسنة أيضا تأكّدهم بلا أيِّ شكّ ببَعْث الله لهم في الآخرة بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا لحسابهم.. أيْ ومصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليك وحدك لا إلي غيرك، وأنت أعلم بهم تمام العلم، فتُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه إليك وحدك لا إلي غيرك المصير أيْ المَرْجِع في الدنيا فأنت سبحانك الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاتك وأنظمتك وأخلاقياتك التي بَيَّنْتَها وفَصَّلْتَها للبَشَر في الإسلام الذي أرسلته إليهم عن طريق رسلك
ومعني "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿286﴾" أيْ الله تعالى العادل الكريم الرحيم الودود العالم بتمام العلم بكلّ شيءٍ في كوْنه وعن خَلْقه لا يُكَلِّف نفساً أيْ لا يُوصِي ويُلْزِم أحداً من الناس في الإسلام إلا بما في وُسْعه، والوُسْع هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقاته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."﴾.. ".. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.." أيْ ولذلك فلها ثواب وجزاء وعطاء ما كسَبَت من حسناتٍ بسبب أعمالها الصالحة في الدنيا تناله بما يُناسبها من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياها ثم أخراها، وعليها أيضا فيهما عقاب ما اكتسبت من سيئاتٍ بسبب أعمالها السَّيِّئة فيها بما يناسبها من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.." أيْ فادعوا ربكم إذَن دائما لتنالوا الرحمة والخير والسعادة أيها المسلمون مُتَوَسِّلِين قائلين ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تُعاقِبنا إنْ نَسِينا شيئاً مِمَّا وَصَّيْتنا به في الإسلام فلم نعمل به أو أخطأنا بفِعْل شيءٍ مَنَعْتَنا عن فِعْله فيه.. إننا يا ربنا نُعَظّمك ونُقَدّرك حقّ التعظيم والتقدير ولا نَجْرُؤ على عصيانك عَمْداً وإنْ عصينا فإنما يكون العِصْيان نسياناً أوْ خطأ، فاغفر لنا برحمتك وكرمك وفضلك الأسباب التي فَعَلْناها وأَدَّت لهما كالتفريط وعدم المُبَالاة والانشغال وما شابه هذا.. ".. رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا.." أيْ وندعوك أيضا يا ربنا أن لا تُلْقِي وتَضَع علينا وتُحَمِّلنا إصْرَاً – والإصْر هو الشيء والعِبْء الثقيل الذي يثقل على الإنسان ويُتْعبه ويجعله في شقاءٍ وتعاسة – كما ألقيته علي أممٍ سابقة وحَمَّلْتهم إيَّاه، والمقصود أن تُعيننا دائما علي كلّ خيرٍ وألاّ نَقَعَ في شَرٍّ ونستمرّ ونُصِرّ عليه دون توبةٍ ورجوعٍ إليك وإلي إسلامنا فيُصيبنا بسبب أفعالنا وكنتائج لها عقابا منك مناسبا لها شاقاً تَعيسَاً علينا في دنيانا وأخرانا كما أوقعت مثل ذلك العقاب الشاقّ المُتْعِس علي فاعِلِي الشرور والمَفاسد والأضرار من السابقين قبلنا المُخالِفين لدينك الإسلام.. ".. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التّوَسُّل لعدم التّحْمِيل بالإصْر مع إضافة وتعميم أيّ مصائب واختبارات أخري سواء أكانت بسبب ذنوب الناس أم من الله تعالي لاختبارهم ليخرجوا منها مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، بحيث لا تكون فوق طاقتهم وإمكاناتهم فلا يستطيعون الصبر عليها فيقعون في الشرور فيتعسون في دنياهم وأخراهم، وكأنهم يقولون وندعوك أيضا يا ربنا أن لا تُحَمِّلنا ما فوق طاقتنا ونحن على استعدادٍ بعَوْنك لما هو قَدْر الطاقة – وقَدْر الطاقة يعني أن يستهلك الإنسان ما أمكنه من قُدْرة بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل بينما الوُسْع والذي هو الأصل كما قال تعالي " لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاّ وُسْعَهَا.." هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقته بعده الشيء الكثير – وهذا يدلّ علي استعدادهم التامّ للعمل بكل أخلاق الإسلام حتي وإنْ حَدَثَ أحيانا بعض مَشَاقّ تستهلك معظم طاقتهم، والله تعالي برحمته وفضله وكرمه حتماً لن يُحَمِّل أحداً ولن يختبره إلا بما يستطيعه وبما في وُسْعه كما وَعَد، وهو ما يختلف من شخصٍ لآخر، ليستفيق وليستفيد من هذا الاختبار في حياته ولينال أجره العظيم في آخرته.. ".. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.." أيْ وندعوك أيضا يا ربنا أنْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وأحْيِنَا دائما في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ".. أَنْتَ مَوْلانَا.." أيْ أنت وحدك مُتَوَلّي أمورنا في كل شئون حياتنا ومُدَبِّرها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لنا، أيْ مُحِبّنا وراعينا وناصرنا ومُعِيننا وحَلِيفنا وحافظنا ومانِعنا من الضرَر ومُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينك الإسلام، ومَن كنتَ يا الله الخالق الرازق الكريم الرحيم الودود المالِك للمُلك كله القادر علي كل شيءٍ مَوْلاهم فهنيئاً لهم هذا، حيث ستُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿286﴾" أيْ فإنَّ مِن شأن المَوْلَىَ أنْ يَنصر مَوَالِيه على أعدائهم، فنحن نطلب عوْنك ونتوكّل عليك وحدك، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين أيْ الذين كذّبوا بوجودك وكتبك ورسلك وآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فانصرنا عليهم واهزمهم بعَوْننا علي نشر إسلامك والدفاع عنه ضدّهم بكل الوسائل ليَسُوُدَ الأرض كلها ويعمل بأخلاقه جميع الناس ليسعدوا كما سعدنا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم وأخراهم
الم ﴿1﴾
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم
هذا، ومعني "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿2﴾" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْحَيُّ.." أيْ هو وحده سبحانه الذي له كلّ صفات الكمال الحُسنيَ والتي منها أنه هو المُنْفَرِد بالحياة الدائمة الباقية ولا يستمدّ حياته من أحدٍ بل هو الذي يُعطي الحياة لمخلوقاته الحيّة كلها، فهو له كل صفات الحياة بما يليق بكماله تعالي من قوةٍ وإرادةٍ وإحاطَةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ ونحوه.. ".. الْقَيُّومُ.." أيْ الذي يقوم دائما وتماما علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْنه علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقه
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿3﴾ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿4﴾ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿5﴾ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿6﴾ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿7﴾ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿3﴾"، "مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿4﴾" أيْ أنَّ الله تعالي الذى لا إله إلا هو والذى هو الحىّ القَيُّوم هو الذى نَزَّلَ عليك أيها الرسول الكريم محمد ﷺ الكتاب الذي فيه الإسلام لتُبَلّغه للناس وهو القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ وهو الذى جَعَلَ هذا الكتاب المُنَزَّل عليك مُصَدِّقا لما بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد ﷺ فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿3﴾" أيْ وكذلك أنزلَ التوراة علي موسي ﷺ والإنجيل علي عيسي ﷺ وغيرهما من الكتب علي رسلٍ كرامٍ قبل هذا القرآن وكلها أيضا فيها الإسلام بما يُناسب كل عصر.. "مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿4﴾" أيْ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل القرآن لهداية الناس في تلك العصور لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ".. وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ.." أيْ وأنزل الفرقان في كل كُتُبِه التي أنزلها والتي آخرها القرآن العظيم، والفرقان هو كلّ ما يُعين مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك.. ".. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.." أيْ إنَّ الذين لا يُصَدِّقون بها ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، أمثال هؤلاء حتما لهم عذاب شديد عظيم مؤلم لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿4﴾" أيْ فإنَّ الله المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال بكل تأكيدٍ عزيزٌ صاحبُ انتقامٍ من الذين كفروا ومِن كلّ مُكذبٍ مُعانِدٍ مُستكبر مُستهزيء أيْ غالِب لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ وينتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم.. فلْيَحذر إذن مثل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان، وليَطمئنّ أهل الخير ولا يخافوا شيئا وليَستبشروا وليَصبروا وليَنتظروا كلّ الخير والسعادة في دنياهم قبل أخراهم
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿5﴾" أيْ إنَّ الله تعالي بكل تأكيدٍ حتماً عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، لأنه هو الخالق، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿6﴾" أيْ ومِن دلالات كمال عِلْمه وتمام قُدْرته أنه هو وحده الذي يَخلقكم بعقولكم وأجسادكم وأنتم أجِنَّة تتكوّن مِن مَنِيِّ الرجل وبُوَيْضَة المرأة تتطوَّر في الأرحام لأمهاتكم بصورٍ مختلفةٍ كما يريد من ذكرٍ وأنثي وأبيض وأسود وطويلٍ وقصيرٍ وبصمات أصابع وأشكال وجوهٍ لا يشبه بعضها بعضا علي أحسن وأنفع وأنسب صورة مَضبوطة مُتَنَاسِقَة تُعينكم علي تمام الانتفاع والسعادة بكلّ الخيرات حولكم والتي هي كلها أرزاق منه لكم.. ".. لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.." أيْ وبالتالي إذَن فلا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿6﴾" أيْ هو الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم في كلّ أموره الذي يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿7﴾" أيْ الله الذى لا إله إلا هو الحَىّ القَيُّوم، والذى نَزّلَ الكتب السماوية بالحقّ وفيها الإسلام لهداية الناس لكل ما يُسعدهم في الداريْن وبرحمته لم يتركهم بغير إرشادٍ فيتعسوا فيهما، والذى صَوَّرهم فى الأرحام كيف يشاء، هو أيضا مِن دلالات تمام عِلْمه وقُدْرته واتّصافه بصفات الكمال وأنه القَيُّوم أنزلَ عليك وأوْحَيَ إليك أيها الرسول الكريم محمد ﷺ الكتاب لتُبَلّغه للناس وهو القرآن العظيم وجعل بحكمته منه أيْ بعضه آيات تُتْلَيَ عليهم مُحْكَمَات – من الإحكام والدِّقّة والوضوح، وكل آياته حتماً كذلك – والمقصود أنها التي لا تَحْتَمِل إلا معنيً واحداً وهي الآيات التي يأتي فيها صراحة ذِكْر الحلال والحرام كقوله تعالي مثلا ".. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.." ﴿البقرة:275﴾ وهذه الآيات هي أمّ الكتاب أيْ أصله التي يُرْجَع إليها عند إرادة معرفة الرأي والتفسير لبقية الآيات الأخري والتي تُسَمَّيَ مُتَشَابِهَات أيْ التي كلها يُشبه بعضها بعضاً في الصدق والحِكْمَة وقوة الأدِلّة والبراهين والتوازُن والحُسْن والبلاغة والفصاحة والائتلاف وعدم الاختلاف والصواب والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ والمقصود أنها التي تَحتمل أكثر من معني ورأيٍ بحيث يأخذ كل فرد ما يُناسبه من الآراء في تفسيرها وفهمها وفِقْقها بما يُيَسِّر حاله ويُسعده هو ومَن حوله مِن رحمة الله وكرمه وتيسيره وإسعاده للبَشَر ما دام هذا الرأي الذي يأخذه لا يخرج عن إطار الحلال والحرام الذي جاء في الآيات المُحْكَمَات الأمّهات وفي إطار أقوال العلماء المُتَخَصِّصِين الثّقَات الذين يقومون بتفسيرها.. هذا، وقد يأخذ مسلمٌ برأيٍ مَا مِن آراء العلماء ويأخذ غيره برأيٍ آخرٍ يُناسبه ويُيَسِّر حاله ويُسعده ويأخذ ثالثٌ برأيٍ ثالثٍ مُناسبٍ مُسْعِد، وهكذا.. وهذا هو سِرّ صلاحية القرآن العظيم والإسلام الذي فيه لكلّ زمانٍ ومكانٍ ولكلّ الناس رغم اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم حيث يضع القواعد والأصول المُسْعِدَة ويترك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكانٍ وَضْعَ تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه الأصول كما يُفْهَم من قول الرسول ﷺ " أنتم أعلم بأمور دنياكم" ﴿رواه مسلم﴾.. ".. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.." أيْ فانْقَسَمَ الناس عند التعامُل مع القرآن الكريم، فأمّا الذين في عقولهم زَوَغَانٌ ومَيْلٌ وانحرافٌ وابتعادٌ عن الحقّ مع علمهم به وإصرارٌ واستمرارٌ علي تَرْك وإهمال أخلاقه وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا لها، فهؤلاء يَتَتَبَّعون ويَسِيرون خَلْفَ ما يَتَشَابَهَ من القرآن ابتغاءَ الفتنة أيْ طَلَبَاً وقَصْدَاً باجتهادٍ وحرصٍ لنَشْر الشرّ بين الناس والتشكيك في الإسلام حتي لا يَتَّبعوه بأنَّ فيه تَنَاقضاً وتَعَارُضَاً وتَضَارُبَاً فيما بينه وبين بعضه وأيضا ابتغاءَ تأويله أيْ طلباً لتفسيره وتوضيحه بصورةٍ مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة تُخَالِف ما أراده الله تعالي لإصلاح ولإسعاد خَلْقه من أجل إضلالهم ولتَبْرير شرِّهم وفسادهم مُسْتَغِلّين أنَّ الكثير من الآيات مُتَشَابِهٌ يَحتمل أكثر من معني دون أن يَرجعوا إلي الآيات المُحْكَمَات التي هُنَّ أمّ الكتاب والتي من المُفْتَرَض الرجوع إليها لمعرفة التأويل الصحيح للمُتَشابِه، وكلّ ذلك يفعلونه بكامل حرية إرادة اختيار عقولهم بلا أيِّ إجبارٍ عليه من أيِّ أحدٍ لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.." أيْ ولا يعلم حقيقة معاني وتفسير القرآن العظيم بصورةٍ تامَّةٍ كاملةٍ إلا الله تعالي وحده حتماً حيث هو كلامه وشَرْعه سبحانه، لكنَّ بعض آياته تفسيرها لا يصعب علي أحد، وبعضها تفسيرها يُفْهَم من المعرفة باللغة العربية، وبعضها يَعْلَمه الراسخون في العلم أيْ الثابتون المُتَمَكّنون منه في مجال علم التفسير ونحوه بتوفيقه وتيسيره لهم فيسألهم الناس فيه وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم به في معرفتهم بتأويله، وبعضها لا يَعلمه إلا هو سبحانه وحده لا غيره مثل حقائق صفاته وكيفيتها وحقائق أوصاف ما يكون يوم القيامة وموعده وحقيقة الروح ونحو ذلك، فهذه لا يُحَاوَل البحث فيها لأنه تَعَرُّضٌ لِمَا لا يمكن معرفته لأنَّ العالِم بها تعالي لم يُعَرِّف تفاصيلها لخَلْقِه فيكون التّعَمُّق فيها خارج قُدْرات عقولهم وتضييع لأوقاتهم وجهودهم ولو كان فيها مصلحة وإسعاد لهم لعَرَّفهم بها قطعا ولكنْ لكي يتبين المُصَدِّق مِن المُكَذّب منهم، فالإيمان بذلك هو استكمالٌ للإيمان به تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَدٌ ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا.." أيْ وهؤلاء الثابتون المُتَمَكّنون في العلم الذين لا يَتَزَحْزَحُون أبداً عن الحقّ والصواب – وهذا هو القسم الثاني من الناس الذي يُحسن التعامُل مع القرآن الكريم ولا يَتَشَبَّه مطلقا بالذين في قلوبهم زَيْغ – يقولون بما يُفيد قوة إيمانهم وصِدْق تأكّدهم بلا أيِّ شكّ عندما يَقرءون ما تَشَابَه من آيات القرآن آمَنّا أيْ صَدَّقنا بهذا القرآن العظيم كله واستسلمنا له وأطعناه فنحن لا نشكّ مطلقا فى أيِّ حرفٍ منه فكلٌّ من الآيات المُتشابهات والآيات المُحْكَمَات هي من عند ربنا وحده – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – فهو الذى أنزلها على رسولنا الكريم محمد ﷺ بحكمته وإرادته وأمره وعلمه وفضله وكرمه ورحمته، وما كان من عنده فلا يمكن أن يكون فيه أبداً أيّ تَعَارُض أو تَنَاقُض بل كله مُتَّفِقٌ يُصَدِّقُ بعضه بعضا.. ".. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿7﴾" أيْ ولكنْ لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها.. وفي هذا مدحٌ وتكريمٌ للراسخين في العلم وتشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه والمزيد منه
ومعني "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿8﴾" أيْ ندعوك نحن الذين آمنوا ونسألك يا ربنا ونتوسَّل إليك لا تمِيل وتحْرِف وتبْعِد عقولنا عن الحقّ بعد إذ أرشدتنا لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنيانا وأخرانا من خلال دينك الإسلام، وذلك بأن نُعَطّل عقولنا ونختار الشرّ بكامل حرية إرادة عقولنا لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا الرخيصة فتَتْركنا ولا تُذَكّرنا ولا تُعِيننا علي الامتناع والابتعاد عنه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿5﴾ من سورة الصفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.."﴾، وأعْطِ وامْنَح لنا من عندك ومن جهتك رحمة واسعة تَتَمَثّل في أن تُيَسِّر لنا أسباب الثبات علي إسلامنا والعَوْن علي مقاومة أيّ زَيْغٍ عنه لنحيا بذلك في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فإنك أنت وحدك لا غيرك الوَهَّاب أي الكثير العطايا والمِنَح والهِبَات لكل خَلْقك مالِك المُلك كله تُعطي بلا حسابٍ ولا حدود
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿9﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴿10﴾ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿11﴾ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿12﴾ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿9﴾" أيْ يا ربنا، أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، إننا متأكّدون تماما أنك ستَجمع الناس جميعا إلي يومٍ لا شَكَّ فيه، هو يوم القيامة، حيث ستَبعثهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم لتُحاسبهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلذلك نحن نعمل كل خيرٍ ونترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام فندعوك ونسألك ونتوسّل إليك يا ربنا أن تُدخلنا يومها أعلي درجات جناتك وتُنْجينا برحمتك وغفرانك نيرانك.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿9﴾" أي إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴿10﴾" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، يوم يريد الله تعالي أن ينزل بهم أيّ عذابٍ بأيّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، سواء في الدنيا أو الآخرة، حينها لن تنفعهم حتما وتمنع عنهم أموالهم بكل أنواعها ولا أولادهم بكل إمكاناتهم ولا أيّ ناصرٍ مُعين لهم من عذاب الله أيّ شيء، فكل هذه الإمكانات وغيرها ليست لها أيّ قيمة أمام عذابه تعالي، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كلّ أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴿10﴾" أيْ وهؤلاء حتما في الآخرة هم بأجسامهم بلحومهم وعظامهم وقود اشتعال النار الشديدة الفظيعة غير المُتَصَوَّرَة التي لا يعلم شدّتها وفظاعتها وعذابها إلا خالقها سبحانه، فهي ليست مِثْل نَارِ الدنيا حيث وقود اشتعالها من لحوم وعظام الناس الذين يستحِقّونها ومن الحجارة المُلتهبة الشديدة السخونة والاشتعال ومن غير ذلك مِمَّا لا يعلمه إلا الله تعالي، وهي لا تَنْطَفِيء لأنَّ لها وقوداً يُلْقَىَ فيها يزيدها اشتعالا أوَّلاً بأَوَّل علي الدوام
ومعني "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿11﴾" أيْ حال ومصير الحالِيِّين من الذين كفروا في تكذيبهم واستحقاقهم للعذاب كحالِ قومِ فرعون والكافرين مِن قبلهم السابقين لهم من أهل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، الذين دَأَبُوا أيْ اعتادوا علي الكفر واستمرّوا واجتهدوا فيه، حيث قد كذّبوا بآياتنا أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة العادِلة لذلك أن أخذهم الله أيْ عذّبهم وأهلكهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من كفرٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وكان عذابهم بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجاته في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، فالله تعالي حتماً شديد العقاب في الداريْن لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿12﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ستُهْزَمون في الدنيا، ولن تَنفعكم أموالكم وأولادكم وقوَّاتكم، بإذن الله وبقوّته وبعَوْنه للمؤمنين، بلا أيّ شكّ، فإنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ.." أيْ وتُجْمَعون وتُسَاقون وتُدْفَعون في الآخرة يوم القيامة إلى نار جهنم لتنالوا فيها ما تستحِقّونه من عذابٍ مُؤلمٍ مُهينٍ لا يُوصَف.. ".. وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿12﴾" أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي تَفترشونه وتَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب!
ومعني "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿13﴾" أيْ هذا مثالٌ عَمَلِيٌّ واقِعِيٌّ حَدَثَ بالفِعْل ويَحدث وسيَحدث علي مَرّ العصور يُثْبِت ويُؤَكّد أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم.. أيْ لقد كان لكم أيها الناس جميعاً من المسلمين وغيرهم دلالة وعَبْرَةٌ واضحة عظيمة في مجموعتين تَقَابَلَتَا في قتالٍ يوم غزوة بدرٍ المعروفة أيام الرسول الكريم محمد ﷺ، مجموعة تُقاتِل في سبيل الله – وهم المسلمون وكانوا أقلّ عَدَدَاً وعُدَّة – أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره، ومجموعة أخري كافرة غير مسلمة أكثر عَدَدَاً وعُدَّة تُقاتِل في سبيل الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.." أيْ فكان من تأييد الله وآياته للمسلمين أنْ جَعَل الكافرين يَرَوْنَ المسلمين ضِعْف عددهم وعتادهم الحقيقى رأي تَحَقّق وتأكُّد ومُشَاهَدَة ومُعَايَنَة بأعينهم وليس تقديراً أو تَخَيُّلاً فوَقَع الرعب فيهم فانهزموا، أو جَعَلَ المسلمين يَرَوْنَ الكافرين ضِعْفهم فقط وقد كانوا واقعيا ثلاثة أمثالهم فقَلّلهم الله في أعين المسلمين ليَقْوُوا ولا يَضعفوا وقد كانوا أُعْلِمُوا أنَّ المائة منهم تَغْلِب المائتين من الكُفّار كما في الآية ﴿66﴾ من سورة الأنفال "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾.. وخلاصة القول أنَّ الله تعالي في بعض الأحوال قد يُرِي المسلمين عدوهم قليلا ليكون ذلك تشجيعا لهم علي الإقدام والقضاء عليهم وقد يُريهم إيّاهم أحيانا كثيراً ليزدادوا إعداداً وحَمَاسَة، وقد يُرِي عدوهم أنهم قليل ضعفاء فيَتَوَهَّم أنه يَسهل القضاء عليهم فيُفَاجَيء بكثرتهم فيَرْتَبِك ويَنهزم وقد يَتَوَهَّم كثرتهم وهم قليلٌ فيَنْزَعِج ويَخاف ويَنهزم، وهكذا، وكل ذلك بتدبيره وعلمه وقُدْرته ومن آياته المُعْجِزَة سبحانه بما يُحَقّق النصر للمسلمين علي أيِّ حال.. وفي هذا تثبيتٌ لهم في كل زمانٍ ومكانٍ وتشجيعٌ وتبشيرٌ حتى يُقْدِمُوا على الدفاع عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ضِدّ المُعْتَدِين ولا يَتَرَاجَعُوا، ولهم أجرهم العظيم في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ.." أيْ والله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ حتماً يُقَوِّي بعَوْنه مَن يريد أن ينصره من خلال جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، والذي يَنصره هو المسلم الذي أحسنَ اتّخاذ أسباب النصر بما يُناسب في كل شأنٍ من شئون الحياة يريد أن يَنتصر فيه وتَوَكَّل عليه تعالي وحده لا غيره ونَصَرَ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ولم يَخْذلهم ويَتركهم، فهو وحده سبحانه قطعا القادر على أن يجعل القليل كثيراً والضعيف قوياً فيَنهزم مَن يَتَوَهَّمَ النصر لقُوَّته من حيث لا يَدري، ولا يُمكن بالقطع لأيِّ أحدٍ أن يَرُدّ إرادته أو يُغَيِّرها أو يَعترض عليها لأنه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. وفي هذا طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿13﴾" أيْ إنَّ في ذلك الحديث الذي ذَكَرْناه بكل تأكيدٍ عِظَة عظيمة ودروس مُسْتَفَادَة كثيرة لأصحاب الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أيْ إدراك العقل أيْ الذين يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون بعقولهم، فهؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَهتدون ويَسعدون به تمام السعادة في الداريْن، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره فهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿15﴾ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿16﴾ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ استخدام عقلك فاستمتعتَ بنِعَم ربنا علينا في الحياة الدنيا والتي فَطَرَ عقول الناس وبَرْمَجَهم عليها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ليَشْتَهُوها ويَرْغَبوا فيها ويحبوها وليسعدوا بها أتمّ السعادة هم ومَن حولهم حين يستخدمونها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ نافعٍ لهم وللخَلْق جميعا وللكوْن كله.. وإذا أحسنتَ استحضار كل نوايا الخير المُمْكِنَة عند التعامُل بين الرجال والنساء والأبناء والأقارب والجميع وعند المعاملات المالية المختلفة في كل المجالات الاقتصادية والصناعية والزراعية والاجتماعية والفكرية والفنية والرياضية والجهادية وغيرها.. فإنْ فعلتَ هذا فقد حقّقتَ هدف الحياة وخَلْق الخَلْق وهو أن ينتفعوا وينعموا ويسعدوا بزينتها، وقد فُزْتَ في دنياك ثم لك في أخراك عند ربك ما هو أعظم وأتمّ وأخلد عندما تَؤُوب أيْ تَرْجع إليه حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وحيث الرضا والأمان كله.. وإيّاك إياك أن تُعَطّل عقلك فتُسِيء استخدام هذه النّعَم فتستخدمها فيما هو شرّ مُضِرّ مُتْعِس لك ولمَن حولك، فحينئذٍ تكون قد وقعتَ في المحظور، وتكون الزينة لك نِقْمَة أيْ شَرّ لا نِعْمَة، كما يفعل الظالمون والفاسدون والكافرون ومَن يَتَشَبَّه بهم، وستَتحمَّل أضرار وتعاسات ذلك في الدنيا وأشدّ في الحياة الآخرة
هذا، ومعني "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾" أيْ هذا تنبيهٌ وإرشادٌ للناس أن يُحْسِنُوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة ما كُتِبَ سابقاً تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، ثم مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ حُسِّنَ للناس، أيْ حَسَّنَ الله تعالي خالِقهم لهم في فِطْرَتِهم، حبّ الشهوات جَمْع شَهْوَة وهي ما يُشْتَهَيَ فِطْرِيَّاً أيْ يُرْغَب فيه ويُتَمَنَّيَ ويُطْلَب ويُحْرَص عليه ويُحَبّ، مُتَمَثّلَة في النساء – وقد خُصَّت هذه الأمور المَذْكُورَة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تابِع لها – حيث جَعَلَ سبحانه الحُبّ والتعاطُف وحُسْن التّعامُل فيما بينهنّ والرجال مُتَبَادَلاً (برجاء مراجعة الآية ﴿187﴾ من سورة البقرة ".. هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ.."، والآية ﴿21﴾ من سورة الروم "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وكذلك حب الأبناء من الذكور والإناث فهم ثمرة الحب الأول الذي أدَّيَ للتزاوُج بين الرجال والنساء وإنجابهم وحُسْن تربيتهم والانتفاع والسعادة بهم، وحب القناطير المُقنطرة من الذهب والفضة أيْ الكثير من كل أنواع الأموال والأملاك والتي بها من المُمكن امتلاك كثيرٍ من مُتَع الدنيا والقَناطِير جمع قِنْطار وهو مال كثير والمُقَنْطَرَة أي المُتَكَاثَرَة المُتَضَاعَفَة المَجموعَة بعضها فوق بعض قنطاراً بعد قنطار، وحب الخيل المُسَوَّمَة أيْ ذات السِّمات والعَلامات الحِسَان أي المُعَلّمة المُتَّصِفَة بالصفات الحَسَنة من الشكل والقوة والنشاط حيث مُتعة ركوبها والتّنَقّل والتجارة بها وكذلك كلّ وسيلةٍ تُسْتَحْدَث وتُمْتَلَك وتُحَقّق من الأغراض والمُتَع ما تُحَقّقه الخيول، وحب الأنعام وهى الإبل والبقر والغنم لمنافعها الكثيرة كأكل لحومها وشرب ألبانها واستخدام جلودها مع التجارة فيها والربح منها، وحب الحَرْث وهو الزرع بكل أنواعه المختلفة والذي يُتَّخَذ منه المَطْعم والمَلْبَس والزينة والدواء وبعض التجارة والصناعة وما شابه هذا من منافع وخيرات.. ".. ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ كل ذلك الذي ذُكِرَ سابقا وما يَتَفَرَّعَ عنه ويُشْبِهه ما هو إلاّ مُجَرَّد متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس والذي هو زائل حتما غير دائم حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة والذي هو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد المُتَنَوِّع المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر والمُجَهَّز للمُحسنين في دنياهم العاملين بأخلاق إسلامهم.. ".. وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾" أيْ والله تعالي بالقطع يوجد عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه المآب الحَسَن أيْ المَرْجِع والثواب والعطاء الطيِّب الجميل وهو الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف.. فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم لتكونوا بذلك قد أحسنتم طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فتسعدوا تمام السعادة فيهما
ومعني "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿15﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تُحبون وتُريدون أن أخبركم بما هو أعظم وأكثر خيراً من كلّ ذلك الذي ذُكِرَ سابقا من الخيرات الدنيوية الزائلة؟ والسؤال يُفيد التنبيه والاهتمام والتشويق والتّطَلّع للإجابة للتشجيع علي التّدَبُّر فيها والعمل بها، والجواب هو أنه للذين خافوا الله وراقَبُوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء لهم حتما عند ربهم في الآخرة مُجَهَّز لهم في أمانه ورعايته وحبه عطاء كبير مُتَضَاعِف مُتَزَايِد – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم بسبب تقواهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم – هو جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها.. ".. وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ.." أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ لا يُمكن وَصْفه، لهم في الجنة كذلك مُتعة وسعادة الحياة الزوجية بكل ما فيها من مُتَع الحب والعاطفة والألفة والأمن والجنس ونحو هذا بلا أيِّ مشكلاتٍ مثلما كان أحيانا في الدنيا حيث أهل الجنة جمعيهم من الرجال والنساء في حالة طهارةٍ تامّةٍ أيْ نظافة من كل أشكال السوء المَعْنَوِيّ كسوء الخُلُق بكل صوره والحِسِّي كالبول والعرق وغيره، فهم في أجمل وأكمل وأسعد صورة.. هذا، والأزواج جَمْع زوج ذكراً كان أو أنثى فهي كلمة تُطلق على المرأة المتزوجة كما تطلق على الرجل المتزوج ولذا فهذا النعيم هو لهما معا أيْ تكون المرأة مُتعة زوجها ويكون هو متعتها.. ".. وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ.." أيْ ولهم أعظم من كل ذلك، جزاء معنويّ هو أكبر من أيِّ جزاءٍ مادِّيٍّ ومُكَمِّل ومُتَمِّم له، رضا من الله يستشعرون في إطاره بأعظمِ نعيمٍ حيث تمام وكمال الرعاية والأمن والاطمئنان والاستقرار والحب والسعادة.. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿15﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَرَيَ الناس جميعا ومُطّلِع على كل أعمالهم وأقوالهم من خيرٍ وشَرٍّ ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. فلْيُحْسِنُوا إذَن العمل دائما ولْيَفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا فيهما ولا يتعسوا
ومعني "الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿16﴾"، "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴿17﴾" أيْ هذه بعض أوصاف الذين اسْتَحَقّوا الجزاء العظيم في الداريْن الذي ذُكِرَ في الآية السابقة والتي يَمتدحهم عليها خالقهم حتي يجتهد كل مسلم في الاتّصاف بها ليَنال جزاءها.. أي هم الذين امْتَلَؤُا وتَشَبَّعُوا بالإيمان بربهم فظَهَرَ ذلك علي ألسنتهم وفي تَصَرُّفاتهم بدَوَام تَوَاصُلِهم معه سبحانه والتوكّل عليه ودعائه قائلين مُتَوَسِّلِين إليه بإيمانهم يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إننا قد آمَنّا أيْ صَدَّقنا بوجودك وبرسلك وبكتبك وبحسابك وعقابك وجنتك ونارك وعملنا بكل أخلاق إسلامك فكانت كل أقوالنا وأعمالنا ما استطعنا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلْناه تُبْنا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فلذلك فاغْفِر لنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تكن وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وقِنَا عذاب النار أيْ ونَجِّنا برحمتك يوم القيامة من عذابها المُؤْلِم المُهِين بأنْ تُعِيننا علي ما نقوم به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ تَشْمَلَنا بعَفْوك وبمغفرتك لِمَا قد نَقَع فيه من ذنوبٍ وتُيَسِّر لنا التوبة منها أوَّلاً بأوّل فإنك أنت الغفور الرحيم.. هذا، والوقاية من عذاب النار نِعْمَة عظيمة مُسْتَقِلّة بذاتها قبل نعمة دخول الجنة والاستقرار الخالد فيها، من عظيم فضله وكرمه ورحمته سبحانه، ولذا تَمَّ التركيز عليها رغم أنها من ضِمْن سؤال المغفرة قطعا، كما أنَّ دخول الجنة قد يكون بعد عذابٍ مَا مُسْتَحَقّ فكان التصريح في الدعاء بطَلَب الوقاية من النار.. إنهم مِن كمال تَقْواهم ما استطاعوا تَكْبُر في نَظَرِهم أخطاؤهم حتي ولو كانت بسيطة بالنسبة لغيرهم وتَصْغُر حسناتهم حتي لو كانت كبيرة للآخرين بما يَدْفعهم للاستزداة دائما من الاستغفار وفِعْل كلّ خير.. "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴿17﴾" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ بها أنهم من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ويصبرون خصوصا في البَأْساء أيْ في حالة البُؤْس بسبب فقرٍ وغيره والضَّرَّاء أيْ عند الضرَر كمرضٍ ونحوه وحين البأس أيْ عند القتال في سبيل الله أيْ دفاعا عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. وَالصَّادِقِينَ" أي الذين يُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق إسلامهم ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. ".. وَالْقَانِتِينَ.." أي الذين يُوَاظِبون علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبَه منهم في وصاياه في الإسلام باختيارهم وبرضاهم وبكلّ حبٍّ له ولطاعته الآمنين الساكنين المُطْمَئِنّين برعايته لهم وأنه معهم علي الدوام بعِلْمه وقُدْرته.. ".. وَالْمُنْفِقِينَ.." أي الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴿17﴾" أيْ الذين هم دائمي الحرص والاجتهاد علي التواصُل مع ربهم ونَيْل خيره وعطائه الفيَّاض وسعادته الغامِرة طوال يومهم وحياتهم، فهم مِن شِدَّة حرصهم واجتهادهم لا يُفَوِّتون فُرْصَة وعَرْضَاً منه سبحانه بمزيدٍ من الخير والعطاء الدنيويّ والثواب الأخرويّ إلا سارَعوا واجتهدوا للسعي له والحصول عليه، ومن هذه العروض أوقات الأسحار جَمْع سَحَر وهو وقت الثلث الأخير من الليل قبل طلوع الفجر والذي يحتاج إلي همةٍ وقوةِ إرادةٍ للوصول إليه والذي هو تدريب لهم علي أن يكونوا دوْما أصحاب هِمَمٍ عالية وإراداتٍ قوية في كل شئون حياتهم فيسعدوا بذلك تمام السعادة في الداريْن، حيث وَعَدَهم سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا في حديث رسوله الكريم ﷺ "يَنْزِل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول : " مَن يدعوني فأستجيبَ له ؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له ؟ مَن يسألني فأعْطِيَه؟" ﴿رواه البخاري ومسلم﴾، وذلك حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم فيَطلبون منه ما يُريدون ويَستغفرون مِمَّا قد يكون حَدَث منهم من تقصيرٍ أثناء يومهم ويَدعون من أجل التجهيز لليوم التالي وحُسْن الاستعداد له وطَلَب التيسير والتوفيق والرعاية والأمن والرزق والسعادة فيه فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾" أيْ أخْبَرَ وأَعْلَمَ الله تعالي الناس وبَيَّنَ وقالَ لهم – كما يُقال شَهِدَ فُلَانٌ عند القاضى إذا بَيَّنَ له وأعْلَمه وأخْبَره أين الحقّ – من خلال آياته القاطِعَة والتي لا يَرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سواء أكانت آيات أي دلالات ومعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزات علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، أنه لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويَكْفِي المسلمون كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبدا لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشاهِد الذي يشهد أنه لا إله إلا هو فشهادته حتما هي الكاملة الصادقة العادلة لأنه هو الكامل الذي له كل الصفات الحُسْنَيَ، ثم لو فُرِضَ وكان هناك إله غيره تعالي لعَارَضَه وكذّبه فيما يقول وبما أنه لا تُوجَد – ولن تكون – أيّ مُعَارَضَة فهذا هو الصِّدْق حتما!! سبحانه وتعالي عَمَّا يقوله عليه السفهاء عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَالْمَلَائِكَةُ.." أيْ وشَهِدَت الملائكة أيضا بذلك أيْ أقَرَّت واعْتَرَفَت بأنه لا إله إلا الله فعَبَدَتْه أيْ أطاعته فلم تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أوامره وفَعَلَت كل ما يأمرها به سبحانه في كل كوْنه لنفع ولخدمة ولسعادة خَلْقه بلا أيِّ تَرَدُّدٍ أو تأخيرٍ أو تغيير.. ".. وَأُولُو الْعِلْمِ.." أيْ وشَهِدَ كذلك بهذا أصحاب العلم الثابتون فيه المُتَمَكّنون منه بأن عَبَدوه تعالي أيْ أطاعوه وحده وصَدَّقوا بكتبه وآخرها القرآن العظيم وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم ودَعوا غيرهم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم به وبملائكته في الإخبار والتّبْيِين أنه لا إله إلا هو سبحانه حيث هم الذين أحسنوا استخدام عقولهم فتَدَبَّروا وتَعَمَّقوا في الأمور حولهم فوَصَلوا لهذا الذي يَقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق فطرتهم التي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنَّ أمر أنه لا إله إلا الله قد ثَبَتَ وتَقَرَّرَ بشهادة أكمل وأعظم الشهود وهو الخالق سبحانه ثم بشهادة كل المُعْتَبَرِين المُنْصِفِين العقلاء من خَلْقه فلا مجال إذَن لأنْ يَختلف أو يَشكّ الناس فيه وأنَّ الذي يُشَكّك به ويُخالِفه هو حتماً مَن كان سفيهاً جاهلاً قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قَائِمًا بِالْقِسْطِ.." أيْ هذا بَيَانٌ لكماله سبحانه فى أفعاله بعد بيانِ أنه لا إله إلا هو، أيْ وشَهِدَ وشَهِدُوا أيضا كوْنه قائماً بالقِسْط أيْ بالعدل أيْ مُقِيماً للعدل في كل شأنٍ من شئونه وفى تدبير أمور كوْنِه وخَلْقه علي أعدل وأكمل وأسعد وجهٍ وفيما يُشَرِّعه للناس في الإسلام مِمَّا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتقرير علي أنه لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، ومزيدٌ من التوجيه والإرشاد للبحث في أدِلّة ذلك في الكوْن والخَلْق المُعْجِز وفي القرآن العظيم.. ".. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾" أيْ هو الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وفي كلّ أموره هو الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿19﴾" أيْ إنَّ الدين الحقّ المَرْضِيّ المُعْتَرَف به عند الله والذي ارتضاه ووافَقَ عليه ووَضَعَه وشَرَعَه لخَلْقه وأحبه لهم وأرسل به رسله الكرام إليهم منذ بدء الخَلْق وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ في كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم ولا يَقْبَل غيره فلا يَجْزِي بالخير في الداريْن إلا عليه هو الإسلام لأنه هو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿85﴾ من سورة آل عمران "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.." أيْ فآمَنَ الناس أيْ صَدَّقوا بالإسلام الذي في الكتاب الهادِي المُنَزَّل في زمنه واتّخذوه حَكَمَاً ومَرْجِعَاً لهم ولكن ما اختلف فيه وهو الذي مِن المُفْتَرَض أن يكون سَبَبَاً لإزالة الخلاف ويُؤْمِن به الجميع – والاختلاف فيه يعني أن يُصَدِّقه البعض ولا يُصَدِّقه البعض الآخر أو يُصَدِّقوا ببعض آياته لا بكُلّها أو يكَتَمُوها أو يُفَسِّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الاختلاف علي الحقّ والابتعاد عنه – إلا البعض منهم الذين أوتوه أيْ أعطوه أيْ عقلوه وعلموه وفهموا تفاصيله، كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أوحي للرسول الكريم موسي ﷺ وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي ﷺ الذين لم يَتّبعوا القرآن ويُسْلِموا ومَن تَشَبَّه بهم، ولم يكن اختلافهم لالتباسٍ عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما جاءهم العلم أي جاءتهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بهذا الكتاب أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ حيث فُصِّلَ لهم فيها كلَّ الحلال والحرام والنافع والضارّ والحَسَن والقبيح والخطأ والصواب والحقّ والباطل والمُسْعِد والمُتْعِس، فصاروا بذلك على علمٍ تامٍّ بشريعتهم بحيث لا يَخْفَىَ عليهم أيّ شيءٍ مِمَّا اشتملت عليه، أيْ أنه تعالى قد أعطاهم شريعة سهلة واضحة لا غموض فيها ولا التباس ولا انحراف بحيث يعلمها الجميع مهما تَعَدَّدَت إدراكاتهم ولا يمكن أن يَختلف أيّ أحدٍ عليها لوضوحها التامّ والعلم الكامل للجميع بها، فهم بالتالي إذَن لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع في أيِّ شَرٍّ للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض، وهذا هو معني ".. بَغْيًا بَيْنَهُمْ .." أيْ وما دَفَعَهم إلي هذا الاختلاف إلا البَغْي الذي حَدَث بينهم أيْ الظلم والفساد ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿19﴾" أيْ ومَن يَكفر بآياتِ الله المُنَزّلَة في كُتُبِه وآخرها القرآن العظيم فلا يُصَدِّق بأنها من عنده أو يُحَرِّف فيها أو يَكْتُم شيئا منها أو يستهزيء بها أو يَستكبر عليها، أو بآياتٍ في الكوْن تَدُلّ علي وجوده سبحانه، أو بمُعجِزاتٍ تُؤَيِّد صِدْق رسله الذين أُوُحِيَ إليهم هذه الكتب، أو بما شابه هذا من صور الكفر، فإنَّ الله حتما سريع الحساب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿20﴾" أيْ فإنْ جَادَلوكَ في الله يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، أي في دين الله، في الإسلام، بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، كأنْ يُجادلوك مثلا في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحداً بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحُدُوث البَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال الذي يُريدون به التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، فقُل لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن لقد أسلمتُ وجهي لله، وكذلك فَعَلَ مَن اتّبَعَنِي من المسلمين، أيْ سَلّمنا أنفسنا بالكامل بوجوهنا أيْ بكُلّنا أي بعقولنا وأفكارنا وأقوالنا وأفعالنا لرعاية الله وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده باتّباع نظامه الذي أرْشَدنا إليه وأوْصانا به وهو الإسلام الذي يُنَظّم لنا كل شئون حياتنا علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرتنا تمام السعادة.. كذلك من معاني أن يُسْلِم المسلم وجهه لله أيْ يُخْلِص له سبحانه فلا يقول قولاً ولا يَفعل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. وأيضا يكون مع إسلام وجهه لله وإخلاصه له مُحْسِنَاً، أيْ يُحْسِن كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. ".. وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.." أيْ وقل كذلك للذين أُعْطُوا الكتاب أيْ عَقلوه وعَلموه وفَهموا تفاصيله كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أُوُحِيَ للرسول الكريم موسي ﷺ وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي ﷺ وكذلك قل للأُمِّيِّين وهم الجَهَلَة الذين يَجهلون القراءة والكتابة أو لا يَعرفون شيئا عن الكُتُب التي أنزلناها للناس مع رسلنا وفيها الإسلام فهُم لا دين لهم، وقل لكل الذين لم يَتّبعوا القرآن العظيم ولم يُسْلِموا، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، قل لهم أأسلمتهم أيْ هل أسلمتم كما أسلمنا بعدما وَضَحَت الدلائل والبراهين التي لا يُرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أم أنتم مستمرّون علي عدم إسلامكم بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره؟!.. إنَّ مثل هذا النوع من الاستفهام يُفيد التشجيع علي الإسلام لمَن كان صادقاً في الوصول للحقّ ويُفيد أيضا الذمّ لمَن لا يَصْدُق في ذلك.. ".. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا.." أيْ فإن أسلموا وجوههم لله فقد وَجَدوا الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ.." أيْ وأمّا إنْ أعْرَضوا أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدوا عن الإسلام وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، فاعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنما عليك البلاغ أيْ ليس عليك ولا علي المسلمين إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران﴾، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ مَا (برجاء مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين﴾، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿20﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَرَيَ الناس جميعا ومُطّلِع على كل أعمالهم وأقوالهم من خيرٍ وشَرٍّ ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. فلْيُحْسِنُوا إذَن العمل دائما ولْيَفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا فيهما ولا يتعسوا
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿21﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿22﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن من القَتَلَة الظلَمَة الفَسَدَة الذين يُحاولون واهِمِين القضاء علي الحقّ والعدل والخير والسعادة، وعلي الدعاة لذلك، ولن يَتمكّنوا حتما ما دام أهل الخير يَدْفَعون شَرَّهم حتي يَنْزَوِيَ ويَتَلاَشَيَ وربهم ناصرهم قطعا ما داموا يُحسنون اتّخاذ أسباب النصر ما استطاعوا (برجاء مراجعة الآية ﴿251﴾ من سورة البقرة ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿21﴾" أيْ إنَّ الذين لا يُصَدِّقون بآيات الله ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون النّبِيِّين الذين أرسلهم الله تعالي لِيُنَبِّؤُهم أيْ يُخْبِروهم بالإسلام الذي يُسعدهم في الداريْن بغير حقٍّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقٍّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فعلوا ما فعلوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. ".. وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.." أي ولم يَكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون الذين يأمرون بالعدل من الناس ويَنشرون بينهم أخلاق الإسلام التي حَمَلوها وعملوا بها بعد رُسُلِهم بالقُدْوة والحِكْمة والموعظة الحَسَنة ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم، فهم يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي ذِكْر الدعاة من الناس للإسلام مع النّبِيِّين تشريفٌ عظيمٌ لهم إذ قَرَنَهم بهم سبحانه في حُسن دعوتهم لمَن حولهم وصبرهم علي أذاهم وتنبيهٌ أنهم سيُؤْجَرُون في الداريْن بما يُقارِب أجرهم.. ".. فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿21﴾" أيْ فإذا كان حالهم هكذا كما ذُكِرَ سابقا فأخبرهم إذَن في مُقابِل ذلك بصورةٍ مناسبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنَّ لهم عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وفي لفظ "فبَشّرْهم" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿22﴾" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. ".. وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿22﴾" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿23﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿23﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين تَتِمّ دعوتهم من خلال المسلمين إلي القرآن الكريم ليَحْكُم بينهم أيْ ليَحْتَكِمُوا إليه ويَرْجِعُوا له أيْ ليَعملوا بحُكْمِ الله الذي فيه أيْ حُكْم ونظام وأخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياهم وأخراهم، ثم حينها وبعدها يَتَوَلّي فريقٌ منهم أيْ بعضهم وليس كلهم – حيث البعض يُؤمن عند عِلمه به وتَدَبُّره فيه فيَحْتَكِم إليه – وهم مُعْرِضُون أيْ يُعْطُون ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبتعدون عن أخلاق الإسلام ويتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاومون نَشْرها ويُؤذون مَن يَتّبعها.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾" أيْ ذلك التَّوَلّي والإعْراض بسبب أنهم قالوا ويقولون مُكَذّبين مُفْتَرِين مُخَرِّفِين مُتَمَنّين وَاهِمِين مُسْتَخِفّين بعذاب الله أنه لن تَلْمسنا النار في الآخرة مهما فعلنا من شرور ومَفاسد وأضرار إلا أياما قليلة يُمكن عَدَّها ويُمكننا تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها!!.. ".. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾" أيْ وخَدَعَهم ما كانوا يَفترونه في دينهم أيْ يقولونه كذباً فيه من تحريفٍ وتخريفٍ وليس من الدين في شيءٍ مِثْل أنَّ النار لن تَمَسَّهم إلا أياماً معدودات وما شابه ذلك من افتراءات وأكاذيب وتخاريف حيث سَهَّلَ عليهم هذا الافتراء مُخَالَفَة الدين بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار إذ العقاب خفيف بسيط يمكن تَحَمُّله وتَجَاوُزه!! فانخدعوا بذلك واستمرّوا عليه دون عودةٍ لربهم ولدينهم الإسلام.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء في استهانتهم بعذاب الله تعالي واستصغارهم له سواء أكان دنيوياً أم أخروياً فتَتْرُكون مِثْلهم دينكم كله أو بعضه وإلا تعستم مثل تعاساتهم في دنياكم وأخراكم علي قَدْر ما تَتْرُكون منه
ومعني "فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿25﴾" أيْ فكيف يكون حال أمثال هؤلاء إذا جمعناهم والناس جميعا إلي يومٍ لا شَكَّ فيه، هو يوم القيامة، وبعثناهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم، وأُعْطِيَت حينها حتما كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه.. لا شكّ أنّ حالهم سيكون أسوأ وأقبح حال!! إذ ليس لهم إلا العذاب الذي لا يُوصَف بما يُناسب ما فعلوه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا أحسنتَ اتّخاذ أسباب العِزَّة والقوّة والقيادة والرئاسة ونواياك بعقلك أن تقود الناس جميعا لكل خيرٍ وسعادةٍ مثلك في دنياهم وأخراهم.. فسيُعطيك حينئذٍ مالِك المُلك سبحانه جزءاً من مُلْكِه وعِزَّاً مِن عِزّهِ علي قَدْر أسبابك المُتْقَنَة ما أمكن التي اتّخذتها، فتحيا بفضل ربك وبأخلاق إسلامك عزيزاً كريماً في الداريْن، فهو تعالي بيده الخير كله، وهو علي كل شيءٍ قدير.. إنها أسباب سَهْلَة مَيْسُورَة لكل مَن وضعها هدفاً له وصَمَّمَ بإرادته علي الوصول إليها مُستعيناً بربه ثم بالصالحين المُخلصين المُتَخَصِّصِين حوله، كالعلم والعمل والإنجاز والفكر والتخطيط والتطوير والابتكار وحُسن الإدارة والعلاقات والمُعاملات مع الآخرين وما شابه ذلك.. هذا، وعكس ما سَبَق هو صحيح تماما، فمَن أساء وقَصَّرَ وتَرَكَ أخلاق الإسلام ونَسِيَ ربه أو خَالَفَه عاش ذليلاً مهيناً ونُزِعَ مِمَّا يَملكه البركة فلا تَمَتُّع ولا سَعادة به بل القلق والتَّوَتُّر والصراع وقد يَفقده بالفِعْل بسرقةٍ أو غَصْبٍ أو إنفاقٍ علي مرضٍ أو غيره، عاجلاً أو آجلاً، فهو تعيس في دنياه ثم أشدّ تعاسة في أخراه
هذا، ومعني "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُتَوَسِّلاً داعياً إلى الله مُقِرَّاً مُعْتَرِفَاً بسلطانه وعظمته وقُدْرته وعلمه عابداً أيْ طائعاً له وحده شاكراً له مُتَوَكّلاً عليه وحده قل يا الله يا مالك المُلك الذي يَملك هذا المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعْجِزَة الذي له وحده كل ما فيه ومالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادة، ليس معك أيّ شريكٍ ولا يمنعك أيّ مانع مِمّا تريد ولذا فأنت وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ومَن يَفعل ذلك يَسعد في دنياه وأخراه.. ".. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ.." أيْ أنت وحدك تُعْطِي وتَمْنَح المُلك والمال والتمْكِين والحُكْم والسلطان والنفوذ والتّصَرُّف في الأرض مَن تشاء مِن خَلْقك إذا أحسنَ اتّخاذ أسبابه واستخدمه في كل خيرٍ وسعادةٍ فتُوَفّقه له وتُعِينه وتُسَهِّله عليه، وتأخذه وتَسْلبه وتَقْتَلعه بقوّة مِمَّن تشاء منهم الذي استخدمه في شرٍّ وتعاسة، في توقيتٍ وبأسلوبٍ حسبما تقتضيه حِكْمتك لمصلحتهم ولنفعهم، فما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا تُمَلّكه أنت لهم ولك أن تأخذه منهم في أيّ وقتٍ تشاء.. ".. وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ.." أيْ وكذلك أنت وحدك تُعْطِي العِزَّة أيْ العَظَمَة والكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة والغَلَبَة والنّصْرَة في الداريْن كاملة لا ناقصة حقيقية لا وَهْمِيَّة مستمرّة لا مُتَقَطّعة لمَن تَشاء مِن خَلْقك، الذي يَستحِقّها قطعا واتّخذ أسباب الحصول عليها وهي العمل بكل أخلاق الإسلام، وهم رسلك الكرام، والذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بك وبهم وبكتبك وآخرتك وحسابك وعقابك وجنتك ونارك ما داموا متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم، وتُذِلّ مَن تَشاء مِمَّن لا يَستحِقّ العِزّة مطلقا كالمنافقين مثلا ومَن يَتَشَبَّهَ بهم من المسلمين وغيرهم الذين هم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم وإظهارهم الخير وإخفائهم الشرّ أذِلّة أخِسَّاء مُتَلَوِّنين مُنْحَطّين وَضيعين كذوبين تابعين قَلِقين متوتّرين مضطربين مُهْتَزين مُرتعشين خائفين مَرْعُوبين مُنْزَعِجين مُتشكِّكين في كل ما حولهم مُتَوَقّعين أنه سيُهلكهم وبالجملة هم مَرْضَيَ مُعَذّبين تَعساء في دنياهم ثم أخراهم حيث العقاب المُناسب لكل ذلك بالقطع.. وفي هذا الدعاء الذي يُوصِي الإسلامُ به المسلمين أنْ يدعوه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾" أيْ أنت وحدك لا غيرك الذى تَمْلك الخير كله في الدنيا والآخرة وتَتَصَرَّف فيه كَيْفَما تُريد تُعطيه مَن تشاء وتَمنعه عَمَّن تشاء لأنك حتما علي ذلك وعلى كل شىءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن تقول لشيءٍ كن فيكون كما تريد لا يمنعك مانِع ولا يصعب عليك شيء.. فأعْطِنا يا كريم يا وَهَّاب يا وَدُود يا رحيم كما عَوَّدْتنا من خيرك العظيم الوفير الذي لا يُحْصَيَ
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿27﴾" أيْ ومِن بعض مُعجزاتك سبحانك ومن الآيات والنِعَم التي علينا أن نتذكّرها ونشكرها ومن تمام قدْرتك علي كلّ شيءٍ أنك وحدك الذي تُولِج الليل في النهار أي تُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا وتزيد أحيانا في أحدهما ما تنقصه من الآخر والعكس، وهكذا.. وأنت الخالق سبحانك القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِك إذا أحسنوا استخدامه، فأنت تخلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِن ما هو ميت بلا روح كماء الشرب، وتخلق بيضا مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وهكذا إعجاز في كل مخلوق مهما صغر، ولذا فأنت وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة، ومَن يعبدك ويتوكّل عليك وحدك فقد سَعِد السعادة التامّة في دنياه وأخراه.. ثم القادر مثلك علي كل ذلك هو قادر قطعا علي بَعْث البَشَر بعد موتهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لما فعلوه فيُجازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وقادر كذلك علي أن يُؤْتِي الملك مَن يشاء ويَنْزِعه مِمَّن يشاء ويُعِزّ مَن يشاء ويُذِلّ مَن يشاء.. ".. وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿27﴾" أيْ وكما أنك أنت وحدك الخالِق للكوْن وللخَلْق فأنت أيضا وحدك الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، إنك تُعِين بكل العَوْن مَن يستعين بك، وتُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقك يُعينوه علي ما يريد تحقيقه، إنك تعالي تَبْسط الرزق أي تُوَسِّعه وتكثره لِمَن تشاء، وتَقْدِر أي تُضَيِّق وتُقَلّل لمَن تشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات، فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم حيث هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد، لمزيد من الشرح والتفصيل)، فالرزق ليس مالا فقط، وإنما إضافة للمال الصحة والعافية والأمن والأمان وراحة البال والمَأكل والمَشرب والمَلْبَس والمَرْكَب والمَسْكَن الطيِّب الهنيء والأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء الأمناء الصالحين الخَيِّرِين وبالجملة كل ما يُسْعِد الإنسان ومَن حوله في الداريْن.. ".. بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿27﴾" أيْ هذه الأرزاق، في الدنيا، وفي الآخرة بما لا يُوصَف ولا يُقَارَن لمَن يؤمنون بها، تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا أنت الذي أعطيتها سبحانك الكريم الوَهَّاب، فأنت تُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبك أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكك فأنت مالك المُلك كله
لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾" أيْ لا يَجْعَل أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن يَتّخِذ، المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – وهم المُتَأَكّدون تماما كما في الآية السابقة أنَّ الله هو مالِك المُلك كله وبيده الخير كله، الكافرين – أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء – أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأمورهم وليس المؤمنين يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم فيها ويتحابّون ويَتناصرون فيما بينهم ويُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لهم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونهم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أمورهم ويَقودنهم ويُوَجِّهونهم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.." أيْ ومَن يَفعل ذلك الاتّخاذ للكافرين من دون المؤمنين فليس مِن ولاية الله في شيء، لأنه لا تَجتمع حتماً ولاية الله مع ولاية الكافرين والمُتَشَبِّهِين بهم، وليس مِن الصِّلَة بالله أبداً في أيِّ شيء، أيْ تَبَرَّأَ الله منه، فهو ليس مُطلقاً من حزبه ومن أوليائه في شيء، فقد ابْتَعَدَ عنه تماما، أيْ قَطَعَ كلَّ صِلَةٍ بينه وبين الله والإسلام والمسلمين، فلا حُبّ ولا تَوَاصُل ولا رعاية ولا أمن ولا عوْن ولا توفيق ولا سداد ولا رزق ولا بركة ولا تيسير ولا قوة ولا نصر وبالجملة لا سعادة بل كل كآبة وتعاسة في دنياه وأخراه.. إنَّ علي المؤمنين أن يَتّخذ بعضهم بعضاً أولياء ليَقْوُوا ويَرْقُوا ويَسعدوا في الداريْن.. ".. إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً.." أيْ إلا في حالة أن تَتَجَنّبوا منهم ضَرَرَاً يجب الاتّقاء منه، أيْ إلا أن تخافوا منهم مَخَافَةً مَا، والتقاة هي الخشية والخوف، أيْ إلا في حالات الضعف الشديد وأن يَغْلِب علي ظنّ الصالحين حُدُوث ضَرَرٍ شديد، سواء بالنسبة للأفراد المسلمين أو للمجموعات والدول المسلمة، فحينذٍ وبسبب هذه الضرورة القُصْوَيَ يُمكن مُوالاتهم اتقاءً لهذا الضرر الشديد وتكون في أضيق الحدود وظاهريا باللسان لا بالعمل ما أمكن وفي أقل الأوقات المُمْكِنَة وبكراهية ذلك بالعقل كراهية شديدة وبالعزم الأكيد بالنوايا به علي سرعة التخلّص من هذا الوضع في أقرب وقتٍ مُمْكِنٍ من خلال زيادة قوة المسلم والمسلمين ودولهم تدريجيا بكل أنواع القوي الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية والاجتماعية وغيرها ليَعْتَدِل الوضع ويعود لطبيعته الأصلية وهي أن تقود أخلاق الإسلام ويقود المسلمين بعدلهم وتَقَدّمهم البشرية كلها نحو الخير والسعادة في دنياها وأخراها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿106﴾ من سورة النحل "مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"﴾.. ".. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾" أيْ ويُخَوِّفكم الله لكي تكونوا حَذِرِين يَقِظِين فلا تَقَعُوا في مخالفةٍ للإسلام، يُحَذّركم نفسه أيْ مِن نفسه أيْ مِن عقابه بما يُناسب في الدنيا والآخرة إذا خَالَفتم، وأنتم متأكّدون تماما أنه إلي الله المصير أيْ مصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه إليه وحده لا إلي غيره المصير أيْ المَرْجِع في الدنيا فهو سبحانه الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنها وفَصَّلَها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله إليهم عن طريق رسله.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ حيث يُحَذّر سبحانه من ذاته العَلِيَّة وعذابه وغضبه فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار
قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُحَوِّلون ما يَدور في عقولهم أحيانا من أفكارٍ في الشرّ إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئة شَرِّيَّة علي أرض الواقع، بل يُقاومونها ويَتناسونها ويَفعلون عكسها، أيْ يقولون كلّ خيرٍ ويعملون كل خير، فحينئذ يكون لهم أعظم الثواب والسعادة في الداريْن علي مقاومتهم وفِعْلهم الخير، وما يَمُرّ بالعقل وقتها من خواطر سيئة فهي يُعْفَيَ عنها بكل تأكيدٍ كما يقول الرسول ﷺ مؤكّداً ذلك " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" ﴿أخرجه البخاري ومسلم﴾.. لكنْ مَن يستمرّ في التفكير الشَّرِّيِّ بعقله ويُخَطّط ويُدَبِّر للشرّ استعداداً لتنفيذه، فهذا ولا شكّ قد دَخَلَ في أوُلَيَ مراحل فِعْل الشَّرِّ وعليه إثمه ويحاسبه ربه عليه سواء نَفّذَ تفكيره السَّيِّء هذا واقعيا وفِعْلِيَّاً أم لا، فإنْ نَفّذه زادَ ذنبه واشتدّ حسابه علي قَدْر جريمته وما حَقّقت من أضرار وتعاسات.. وهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه بداخل خَلْقه فهو له ما في السماوات وما في الأرض ويعلم كل ما فيهما وهو علي كل شيءٍ قدير.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾
هذا، ومعني "قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿29﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ لم تُظْهِروا ما بداخل عقولكم من فكرٍ في الخير أو الشرّ أو تُظهروه يعلمه الله بكل تأكيدٍ فهو عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم (برجاء لاكتمال المعاني ومعرفة كيفية الحساب علي الخَواطِر بالعقل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة﴾.. ".. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ وقطعاً لا يَخْفَىَ عليه أيّ شيءٍ من أحوال كل مخلوقاته فيهما بل هو بكلّ شيءٍ في كوْنه عليم تمام العلم.. ".. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿29﴾" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿30﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم تجد فيه كل نفسٍ إنسانيةٍ ما عملت في دنياها مِن خيرٍ قَلّ أو كَثُر حاضراً معها ظاهراً ثابتاً واضحاً كأنه قد أٌحْضِرَ من الدنيا إلى الآخرة فتراه بعينها مُسَجَّلاً في كتابها وسِجِلّها المُسَجَّل فيه كل أقوالها وأفعالها الخيرية والشَّرِّيَّة لحظة بلحظةٍ صغيرها وكبيرها سِرَّها وعلانيتها بكل دِقّةٍ وعدلٍ دون أيِّ ذرّة خطأٍ أو ظلمٍ حيث ستُعْطَيَ أجرها العظيم في مقابل الخير بكل خيرٍ وسعادةٍ خالدةٍ في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وأمّا ما عملته وقالته من سوءٍ أيّ شَرٍّ فإنها يومها حينها تتمنّي وتحب بشدّة لو كان بينها وبينه زمنا طويلا ومسافة بعيدة خوفا مِمَّا يَتَرَتّب عليه من فَضْحٍ وعقابٍ وعذابٍ لا يُوصَف، ولكن لن يتحقق لها حتماً هذا التّمَنّي بل ستَندم علي عملها لهذا السوء في وقتٍ لا ينفع فيه الندم حيث يومها يوم حسابها لا يوم عملٍ وتصويب لأخطائها.. ".. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.." أيْ ويُخَوِّفكم الله لكي تكونوا حَذِرِين يَقِظِين فلا تَقَعُوا في مخالفةٍ للإسلام، يُحَذّركم نفسه أيْ مِن نفسه أيْ مِن عقابه بما يُناسب في الدنيا والآخرة إذا خَالَفتم، فهو أعلم بكم تمام العلم، فيُجَازِي يومها كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ حيث يُحَذّر سبحانه من ذاته العَلِيَّة وعذابه وغضبه فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولْيَفْعَل كلّ خيرٍ ولْيَتْرُك كلّ شَرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ في تحذير الله تعالي من نفسه كما في الآية ﴿28﴾ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿30﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ رؤوف رحيم بالناس جميعا وبالخَلْق كله فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾، فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾ (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو مِن رأفته بهم حَذّرهم نفسه ليَنتبهوا وليُحْسِنوا كلّ قولٍ وعملٍ ليَسعدوا ولا يَتعسوا في الداريْن
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا جعلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك الكريم ﷺ وإسلامك هي علاقة حُبّ، إضافة بالتأكيد لعلاقة الاستبشار والتّشَوُّق لأفضل جزاءٍ لأعلي جِنان الآخرة علي فِعْل كلّ خيرٍ وعلاقة الحَذَر والابتعاد عن النيران بتَرْك كلّ شَرّ.. إنَّ علاقة الحُبّ الصادق الصافي بين المُحِبّ ومَحْبُوبِه تجعلهما دائمي التواصُل حَرِيصَيْن علي عدم الافتراق أبدا، فتَصَوَّر مَدَيَ مشاعر السعادة والارتياح والرضا والأمان التي ستَغْمُرك عقلاً وجسداً وأنت علي هذا الحال، إنها ستَدْفَعك حتماً أشدّ الدَّفْع للحرص عليها دائما بعدما ذُقْتَ حلاوتها بفِعْل كلّ الخير والبُعْد عن أيِّ شَرٍّ يفقدك سعادتها ومُتعتها.. ولله تعالي المثل الأعلي.. وستَسعد كذلك إذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كنتم تُحِبّون الله بحقٍّ كما تقولون، فلا يَكفي القول فقط وإنما لا بُدَّ من العمل الذي يُصَدِّقه ويَتَوَافَقَ معه لإثبات ذلك، بأنْ تتّبعوني، أيْ تَتّبعوا كل أخلاق الإسلام التي في القرآن العظيم في كل شئون حياتكم.. إنَّ الحب يُعين علي الاتّباع ويُسَهِّله ويُمَهِّد له الطريق.. إنه بالتأكيد كل مَن يحب الله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوَصَاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المُحِبّ له فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالحب إلْهَابٌ لمَشاعِرهم للعَوْن علي سرعة الاستجابة.. إنَّ المسلم المُحِبّ لربه لو فَارَقَه للحظة، لشَرٍّ مَا فَعَلَه، فإنه يعود فوراً تائباً له لتعود له سعادة مُلاَزَمَتِه الغامِرَة بعدما ذاقَ تعاسة ومرارة الشَّرّ بالقَدْر الذي فَعَلَه.. ".. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.." أيْ فإنْ اتّبَعْتُموني فإنَّ ذلك حتماً سيُؤَدِّي إلي أنْ يُحِبَّكم الله، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وحَبَّبَ خَلْقَه فيه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، كما وَعَدَ سبحانه في أحاديث الرسول ﷺ المعروفة، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما لكم.. ".. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾" أيْ وكذلك يؤدي إلي أن يُسامحكم فلا يُعاقبكم علي ذنوبكم ويزيلها كأن لم تكن ويَمْحُو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن ويَسْترها ويُخْفيها فلا يُعَذّبكم بفَضْحكم بها فيهما، ويُنجيكم برحمته يوم القيامة من عذاب النار المُؤْلِم المُهِين بأنْ يُعينكم علي ما تقومون به من تَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار وبأنْ يشملكم بعفوه وبمغفرته لِمَا قد تقعون فيه من ذنوبٍ ويُيَسِّر لكم التوبة منها أوَّلاً بأوّل، فإنه غفور رحيم أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباع الرسول ﷺ كما جاء في الآية السابقة، أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أطيعوا أي استجيبوا ونَفِّذوا أيها الناس ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾" أيْ فإن استجابوا فلهم كل الخير والسعادة فيهما وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم ﷺ والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فإنَّ الله حتما لا يُحِبّ مُطلقاً الكافرين أي المُكَذّبين بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول ﷺ وللإسلام كما في الآية السابقة، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب كفره وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد ﷺ قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك.. وإذا وَرَّثْتَ ذُرِّيَّتك من الأبناء والأحفاد والأقارب وغيرهم مِثْل ذلك، فهذا هو الضمان لاستمرار البَشَرِيَّة علي الخير والسعادة فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾" أيْ إنَّ الله قد اصطفي أفضل البَشَر هؤلاء علي جميعهم في زَمَنِهم وبَعْده حتي قيام الساعة، أي اختارهم، لحُسْن أخلاقهم وكمالهم، واصطفي لهم الدين، الإسلام، ليُنَظّم لهم كل شئون حياتهم ليُسعدها، وقد خَصَّهم تعالي بالذكْر لأنَّ كلّ الرسل مِن نَسْلِهم، فاقتدوا بهم وافعلوا مثلهم أيها الناس، فإنْ اقْتَدَيْتَ بهم أيها المسلم، قَارَبْتَ أن تَصِلَ إلي الكمال مثلهم، كما يُشَجِّعنا علي ذلك الرسول ﷺ بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." ﴿جزء من حديث رواه البخاري ومسلم﴾، وسيَختارك ربك مِثْلما اختارهم، لتكون داعيا له وللإسلام هاديا لخَلْقه مُنيراً لهم طريقهم في حياتهم قائداً لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وسيُعطيك مثلما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن.. لقد ذَكَرَ آدم عليه السلام لأنه أول إنسانٍ خَلَقه بيده تعالي وبقية الإنسانية من نَسْلِه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعَلّمه أسماء كل شيء في الحياة ليتعلّموا منه كلهم بعده جيلا بعد جيل أصولها وكيفية ضبطها بأخلاق الإسلام، وذَكَرَ نوحا ﷺ لأنه أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لَمَّا ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم ليُعيدهم إليه ونَصَرَه علي مَن عادوه بأنْ أغرقهم جميعا بالطوفان وأنجاه والمسلمين معه في السفينة، وذَكَرَ آل إبراهيم أيْ هو وأهله وهم إسماعيل وإسحاق والرسل من أولادهما لأنه خليله أيْ حبيبه وأنجاه من النار حينما ألقاه فيها أعداؤه وجعل في ذِرِّيَّته كلّ الرسل والكتب وخاتمهم سيد الخَلْق الرسول الكريم محمد ﷺ الذي أُوحيَ إليه آخر كتبه وهو القرآن العظيم، وذَكَرَ آل عمران أيْ هو وأهله وهو إمّا عمران أبو موسي ﷺ لأنه الذي كَلّمه الله وأنجاه وقومه من فرعون بأنْ شَقَّ له البحر وهو ما لم يَحدث لأحدٍ من العالمين أو عمران أبو مريم التي وَلَدت عيسى ﷺ بغير أبٍ وهي المعجزة التي لم ولن تَحدث مثلها.. إنَّ الله تعالي يُبَيِّن ضِمْنَاً في هذه الآية الكريمة أنه لا يَترك الناس يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويَفْسَدون فيَتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل هو معهم دائما حتما بعِلْمه وبقُدْرته منذ خلق آدم وحتي يوم القيامة بسبب عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وذلك بأن يعطيهم هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وهو دين الإسلام
ومعني "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾" أيْ أولئك المُصْطَفين الأخْيار بعضهم أبناء من بعض، فنوح من ذُرِّيَّة آدم وآل إبراهيم من ذرية نوح وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهم مُتَّصِلُون في النّسَب وأيضا في كمال الأخلاق والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وحُسن الدعوة له حيث هم متساوون في ذلك يَتَوَارَثونه فيما بينهم ويُحافظون تماما عليه بعوْن الله وتيسيره لهم بتوكّلهم الدائم عليه وشكرهم له.. إنَّ الله تعالي يُوصي المسلمين ضِمْنَاً في هذه الآية الكريمة أن يُوَرِّثُوا ذُرِّيَّتهم من الأبناء والأحفاد والأقارب وغيرهم ذُكُورَاً وإناثاً مِثْل ذلك، فهذا هو الضمان لاستمرار البَشَرِيَّة علي الخير والسعادة علي الأرض وفي الكوْن، فلولا أنَّ الرسل والصالحين والدعاة السابقين قد قاموا بتوصيل هذه الأمانة من ربهم، أي الإسلام، علي أكمل وجهٍ، لَمَاَ وَصَلَتْ للمسلمين الحالِيِّين وسَعِدُوا بها، وإذا لم يقوموا هم وذُرِّيَّاتهم بتوصيلها لمَن بعدهم لَحُرِمُوا سعادتها وأَثِمُوا علي هذا إنْ لم يكن لهم عذر مقبول، وإنْ قاموا بها فلهم أجرهم العظيم في الداريْن كما وَعَدَ الرسول ﷺ ووعده الصدق بقوله " إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. فأحْسِنوا اتّخاذ أسباب كل ذلك أيها المسلمون وأتْقِنُوه ما أمكن، وأبْشِروا، فالله سميع عليم أيْ فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
تفسير الآية ﴿35﴾
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ حياتك مُحَرَّرَاً، أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاق أخري مُخَاِلَفة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها.. إنك إنْ خَالَطْتها بما يُخَالِفها عِشْتَ مُتَقَلّبَاً بين الخير والشرّ مُضطرباً قَلِقَاً مُتَوَتّراً كئيباً تَعيسا.. بينما لو خَلّصْتَها من هذه الشوائب والشرور والمَفاسد والأضرار عِشْتَ مُخْلصاً نَقِيَّاً صادِقَاً شَفّافَاً ساكناً مُطمئناً آمِنَا، وبالجملة سعيدا.. فانْذر نَذْرَاً أن تعيش دَوْمَاً مُحَرَّرَاً واجتهد ما استطعت في الوفاء به لتسعد في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿35﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قالت امرأة عمران والدة مريم أم عيسي ﷺ عندما حَمَلت بها – وعمران هو أبوها وليس عمران أبو موسي ﷺ – داعية سائلة الله تعالي ربّ إني قد نَذَرْتُ من أجلك ما في بطني من جنينٍ سيُولَد مُحَرَّرَاً أيْ خالصاً لك وللإسلام، أي وَعَدْتُ وأَلْزَمْتُ نفسي بذلك – والنذر هو وَعْدٌ مستقبليّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ يشترطه المسلم علي ذاته كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق يجتهد في أدائه في موعده ولا يُقَصِّر ولا يُخْلِف وَعْده مع ربه بعدم أدائه – فاقْبَل مِنّي أيْ أعطني عليه من عطائك الذي لا يُحْصَيَ خيراً وسعادة في دنياي وأخراي فإنك أنت السميع العليم أيْ فأنت وحدك بالتأكيد الذي لك كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنك السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وأنت العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقك، وبالتالي ستُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنَّ الآية الكريمة تُفِيد ضِمْنَاً أن يعيش المسلم دائما حياته مُحَرَّرَاً، أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتَّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاق أخري مُخَالِفَة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها، فهو إنْ خالَطَها بما يُخَالِفها عاش مُتَقَلّبَاً بين الخير والشرّ مُضطرباً قَلِقَاً مُتَوَتّرَاً كئيباً تعيسا علي قَدْر ما فَعَلَ مِن شَرّ، بينما لو خَلّصها وحَرَّرها من هذه الشوائب والشرور والمَفاسد والأضرار عاش مُخلصَاً نَقِيَّاً صادقا شَفّافاً ساكناً مُطمئناً آمِنَاً وبالجملة سعيدا.. كذلك تُوصِي الآية الكريمة المسلم لكي يسعد أن يكون دائم السؤال والدعاء لربه أنْ يُثَبِّته علي هذا التحرير، أيْ علي هذا الإخلاص، لِتَثْبُت وتستمرّ سعادته، ولا بُدَّ حتماً سيَستجيب سبحانه كما وَعَدَ ووَعْده الصدق " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.." ﴿البقرة:186﴾ والإجابة من معانيها التّقَبّل، فسيَتَقَبَّل منه مؤكّداً لأنه أخلصَ وأحسنَ أقواله وأعماله له وحده أيْ يَفعل ما يَفعل مِن خيرٍ ويَقول ما يَقوله منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، النظر لتفسير الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء ﴾، فهو سبحانه السميع لكلّ شيءٍ العليم بكلّ شيء
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماماً بلا أيِّ شكّ أنَّ تقدير وتدبير الله تعالي هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا ما دُمْتَ كنتَ مُتَمَسِّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهر أمرٍ مَا بعض مَا لم تكن تريده لفترةٍ مَا فستَجد فيه كل الخير مع الوقت تدريجيا إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه (برجاء مراجعة الآية ﴿216﴾ من سورة البقرة ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36﴾" أيْ فلمَّا وَلَدَت مَوْلودتها، قالت ربّ إنّي وَلَدْتُ أنثي، والله حتما أعلم بما وَلَدَت لأنها خَلْقه هو الذي خلقها ويعلم كل ذرّة فيها والمستقبل العظيم لحياتها!!.. ".. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ.." أي هذا إمّا من كلام الله تعالي أو كلامها، أيْ ليس الذكر كالأنثي في قوة التّحَمُّل والحماية في مُقابِل الحنان والعاطفة لديها، لأنها كانت تَتَمَنّيَ ذكراً يحمل الإسلام ويدافع عنه وهو ما لم يتوفر للأنثي من وجهة نظرها ولذا قالت لَمَّا وَضَعَتْها إني وَضَعْتُها أنثي كأنها تتحدّث بحبٍّ لخالقها مُعْتَذِرَة إليه أنَّ المولود ليس ذكراً يمكنه القيام بما كانت تتمنّاه وهي مع هذا راضية حتما بإرادته الخالق الحكيم الكريم لتأكّدها التامّ أنه لا يَصْدُر عنه إلا كلّ خيرٍ ومصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه جميعا، وبالفِعْل كان مع الوقت لمولودتها هذه شأن عظيم وصِلَة تامّة بالله تعالي إلي الحَدّ الذي كَرَّمها وشَرَّفها بمعجزةٍ لم ولن تحدث قبلها ولا بعدها وهي أن تَلِدَ الرسول الكريم عيسي ﷺ بغير أبٍ بقُدْرته تعالي وتنشر معه الإسلام وتدافع عنه وتصبر علي الأذي من أجله بما يجعل كلّ عاقلٍ يتأكّد تماما أنَّ الخير حتما دائما في تقدير وتدبير الله حتي وإنْ ظهر أحيانا غير ذلك لفترةٍ مَا وأنَّ لكلٍّ من الذكر والأنثي دوره الدعويّ لله وللإسلام حسب إمكاناته واستطاعاته وظروفه وأحواله بل وأنَّ كثيرا من الإناث قد يَكُنَّ خيراً مِن كثيرٍ مِن رجالٍ ضعفاء أو سفهاء أو ظَلَمَة أو فَسَدَة أو كَفَرَة أو نحوهم.. هذا، والرجال والنساء في الأصل متساوون، فهذا يجعل الزوج لا يَتَعَالَيَ علي زوجته أو ينتقص من شأنها – وكذلك القريب مع قريبته والزميل في العمل مع زميلته ونحو هذا – وما يَتْبَع ذلك حتماً من صراعاتٍ ظاهرة وخَفِيَّة وتعاسات، فكلٍّ من الرجل والمرأة هم مِن خَلْق الله، وكلاهما فيه نفخة من روح ربه تعالي، وكلاهما له ذات العقل، وكلاهما مطلوب منه الإعمار والعلم والعمل والإنتاج والإنجاز والكسب والربح والتخطيط والفكر ونحو ذلك من شئون الحياة، وكلاهما له ذات الحساب العادل يوم القيامة علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة، وكلاهما له ذات الدرجات في الجنات إنْ أحسن وذات الدرَكَات في النيران إنْ أساء، وهذا هو المعروف الذي عَرَّفه لنا ربنا ورسولنا الأمين الكريم ﷺ، لكنَّ الله تعالي بعلمه وحكمته وتمام عدله جعل للرجل درجة زائدة عن المرأة في مقابل درجة زائدة لها عليه، ليُكْمِل أحدهما الآخر ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه إذ قد أصبح جزءاً منه، وذلك عند زواجهما، لينطلقا في الحياة بكل اكتمالٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وهذه الدرجة للرجل هي قوة التَّحَمُّل والصبر ليُوَفّر لها الحماية والرعاية والأمن ويقوم علي خدمتها وأبنائهما وإدارة شئونهم، والدرجة التي للمرأة هي العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه له ولأسرتها بل وللكوْن كله، كما يقول تعالي عن هذا التّسَاوِي ".. بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهَمْ عَلَيَ بَعْضٍ.." ﴿النساء:34﴾ ولم يَقُل مثلا "بما فَضَّلَهم عليهنّ"!! إذ لو كان الكوْن يَصْلُح بالرجال فقط لَخَلَقه خالِقه كذلك! لكنه سيكون كوْنَاً غير مُتَوَازِن قد يَغْلِب عليه الصَّلاَبَة والقَسَاوَة!! ولو كان الكوْن يَصلح بالنساء فقط لَخَلَقه خالقه كذلك! لكنه سيكون أيضا كوْنَاً غير مُتوازن قد يغلب عليه العاطفة والطراوة!! لكنه سبحانه أراده كوْنَاً مُتوازناً مُسْعِدَاً فوَضَع هذا التّنَوّع المحدود العادل بينهما، إضافة بالقطع إلي الاختلافات الجسدية المعروفة، ليُكْمِل بعضهم بعضا فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ.." أيْ وقد رَضِيتُ يا ربّ قطعاً بما رَزَقْتَنِي وسَمّيتها مريم، وهي تعني بلغتهم وقتها عابِدَة لله، ليكون اسمها تذكيراً دائما لها لأنْ تكون كذلك.. ".. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36﴾" أيْ وإني أسألك وأدعوك طالِبَة أن أُحَصِّنها وأحْمِيها هي وأبناءها وأحفادها بقُدْرتك وبكَفَالتك لهم من الشيطان المُوَسْوِس بالشرّ الرجيم أي المطرود من رحمتك إلي يوم القيامة أي المَرْجُوم أي الذي يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوء، والرجيم كذلك هو الراجِم لأنه يَرْجم ويَقْذِف الناس بالوساوس والشرور، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، فاحْفظهم يا خير مُجِيب بأنْ تجعلهم يعملون بإسلامهم ليَنجوا من وساوسه ومن كل شرٍّ ليسعدوا في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ تربية أبنائك علي كل أخلاق الإسلام ليسعدوا بها هم أيضا في الداريْن كما سَعِدْتَ أنت، ولِيَكون مجتمعك الصغير في أسرتك حولك سعيداً فيعود ذلك عليك، ثم لتَنْشروا هذه السعادة بنشر دعوة الإسلام بكلّ قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة لمَن حولكم الأقْرَب ثم الأبْعَد من الأقارب والجيران والمَعَارِف والأصدقاء والزملاء، فتنتشر السعادة تدريجيا وتَنْزَوِي وتَزول التعاسة بالتدريج في المُقابِل ولا يوجد لها مكان، فيَسعد الجميع في دنياه وأخراه.. إنَّ التربية علي الإسلام سَهْلَة مَيْسُورَة، لأنها كالنّبْتِ لا بُدَّ أن يَنْبت ويَنمو! لكنْ مع حُسن الرعاية والاعتناء! لأنَّ فِطْرة العقل مَفْطُورَة ومُبَرْمَجَة من الخالق الكريم علي تَقَبُّل هذه الأخلاق الإسلامية والسَّيْر والتّطَوّر معها لأنها تُوافِقها بينما غيرها من الأخلاق تُعارِضها فتَتَصَارَع معها وتَرفضها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما علي المُرَبِّي إلا أن يُنَمِّيَ بذور الأخلاق الحَسَنة هذه التي في الفطرة من خلال الحب والحوار والتفاهم والتعاون والتسامح والتدريب التدريجيّ والارتباط بالله تعالي والرسول ﷺ والإسلام وبالقُدْوَة الحَسَنة في الأقوال والأفعال وما شابه هذا من وسائل التربية الصالحة، والتي لا بُدَّ حتماً سيُعين الله عليها ويُيَسِّرها لمَن يسألها منه سبحانه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويَجزيه أجره في الدنيا سعادة وفي الآخرة سعادة أتمّ وأخْلَد.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيراً إذا عَلِمْتَ أنَّ الله يرزقك وأبناءك وأهلك والناس والخَلْق جميعا بكل أنواع الرزق، علي قَدْر ما تُقَدِّمون من أسبابٍ مُتْقَنَة ما أمْكَن، من مالٍ وصحةٍ وعافيةٍ وأمنٍ وراحةِ بَالٍ ومَأْكَلٍ ومَشْرَبٍ ومَلْبَسٍ ومَرْكَبٍ ومَسْكَنٍ طيِّبٍ هَنِيء، وأسرة وأقارب وجيران وزملاء وأصدقاء أمناء صالحين خَيِّرِيِن، وحُسن علاقاتٍ مع الله والآخرين، ونوايا حَسَنة بالعقل أثناء كل ذلك، وبالجملة كل ما يُسعدكم في دنياكم وأخراكم.. إنه رزق الله الذي لا حدود له، ولا يُحاسِب سبحانه أحداً عليه فيَدفع ثمنه! ولا يُحاسِبه أحدٌ عليه.. إنه رزق الرَّزّاق بلا حِساب
هذا، ومعني "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لصِدْقها وإخلاصها وإحسانها ودعائها أن استجاب لها ربها فتَقَبَّلَ منها وليدتها مريم قَبُولاً حسناً جميلاً بأعلي درجات القبول أيْ قَبِلَ ورضِيَ منها عملها الصالح هذا وهو أن تكون مريم مُحَرَّرَة أيْ خالصة لله وللإسلام لا تَتّبِع غيرهما وقد ظَهَرَ هذا القبول في أنه تعالي ربَّاها في خَيْره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حَسَنة شاملة للعقل وللجسد علي كل أخلاق الإسلام في بيئة من الصالحين وأعطاها من عطائه الذي لا يُحْصَيَ أعظم الخير والسعادة في دنياها وأخراها ..وهذا هو ما يفعله دائما سبحانه مع كل من يَصْدُق في أن يكون مُحَرَّرَاً أيْ خالِصَاً لله وللإسلام، أيْ مُتَّبِعَاً لنظام الإسلام وحده ولأخلاق الإسلام وحدها دون خَلْطها وإشراكها مع أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة لها بل مُتَحَرِّرَاً مُتَخَلّصَاً منها كلها ومن كل تعاساتها، حيث يُيَسِّر له كل أسباب ذلك فيَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا.." أيْ وجعلها في كفالة الرسول الكريم زكريا ﷺ أيْ كافِلاً لها يَتَكَفّل بكل شئون حياتها علي أكمل وأسعد وجهٍ وتتعلم منه كل أخلاق الإسلام، وقد كان زوج خالتها.. ".. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾" أيْ وكان زكريا ﷺ كلَّما دخل عليها في أيَّ وقتٍ المكان الذي تُصَلّي فيه لله تعالي وَجَدَ عندها رزقًاً هنيئاً مُتَنَوِّعَاً مُجَهَّزَاً فيقول لها مُتَعَجِّبَاً يا مريم كيف ومِن أين لكِ هذا الرزق الطيب؟! قالت بما يستشعره كلّ مؤمنٍ هو رزق من عند الله، يُيَسِّره لخَلْقِه كيفما ووقتما ومع مَن شاء، إنَّ الله يرزق مَن يشاء بغير حسابٍ أي بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِساب كل أرزاقه وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا الذي أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب، فهو يُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبه أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكه فهو مالك المُلك كله
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿38﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿40﴾ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿41﴾ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿45﴾ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿46﴾ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿48﴾ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿51﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يَصْعب عليه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. كذلك ستسعد إذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد ﷺ قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿38﴾" أيْ عند ذلك الوقت والمكان الطاهر الذى كان يلتقى فيه زكريا ﷺ بمريم ويَرَيَ صلاحها وخيرها تَحَرَّكَت فى نفسه عاطفة الأبُوَّة وهو الشيخ الكبير فدعاه سبحانه مُتَوَسِّلاً مُتَأَمِّلاً في رحمته وكرمه ورزقه وقُدْرته وعِلْمه أن يستجيب له لأنه يزرق مَن يشاء بما شاء بغير حسابٍ فهو علي كل شيءٍ قدير لا يمنعه أيّ مانعٍ قائلاً يا ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اعْطِ لي من عندك، أيْ السبب يكون منك لا مِنّي لأنَّ الأسباب عندي قد زالت وانقطعت لِكِبَر سِنّي ولم يَعُد إلا سبب منك، ذُرِّيَّة تكون حَسَنة صالحة من أبناء وأحفاد تُصْلِح في الأرض ولا تُفْسِد فتُسعدها ومَن عليها بدينك الإسلام في دنياهم وأخراهم، فإنك سميع الدعاء لمَن يدعوك الذي يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، فأنت قريب الإجابة لمَن يدعوك، فلا يأس مُطلقا ما دُمْتَ معنا بعلمك وبقدرتك فأنت القادر علي كل شيء، فإنْ أجَبْتَ لى سؤالى رغم كِبَر سِنّي فبفضلك ورحمتك وإنْ لم تُجِبْه فلِحِكْمَةٍ ولمَصلحةٍ لنا ولغيرنا تعلمها ولا نعلمها نحن (برجاء مراجعة الآية ﴿186﴾ من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه﴾
ومعني "فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لصِدْقه وإخلاصه وإحسانه ودعائه أن استجاب الله له فكَلّمته الملائكة وهو واقف يُصَلّي في المكان الذي يُصَلّي فيه لله تعالي قائلة أنَّ الله يُخْبِرك بخَبَرٍ يَسُرُّك وهو أنك ستُرْزَق بولدٍ اسمه يحيى.. ".. مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ.." أيْ سيكون مؤمنا مُصَدِّقاً تمام التصديق بعيسي ﷺ حيث يُسَمَّي كلمة من الله لأنه كان بكلمةِ كُنْ منه سبحانه فكانَ مِن غيرِ أبٍ، وكذلك يُصَدِّق بكلمةٍ من الله أيْ بكتابه الذي فيه كلمته وكلامه للناس وهو الإنجيل الذي أوحِيَ لعيسي ﷺ والذي فيه الإسلام الذي يُناسب عصرهم حيث كان يَحْيَ في زمنه مؤمنا به وعلي دينه، وهو في الأصل قريبٌ له لأنَّ أمه زوجة زكريا هي أخت أمّ مريم أمّ عيسي.. ".. وَسَيِّدًا.." أيْ وله مَكَانته ومَنْزِلته العالية بين الناس قائداً مَرْجِعَاً لهم يقودهم نحو كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم بأخلاق وتشريعات الإسلام وبإمكاناته وقُدْراته وعوْن الله وتوفيقه وتيسيره له.. ".. وَحَصُورًا.." أيْ وهو كثير شديد الحَصْر لذاته أيْ الحَبْس والمَنْع لها عن كلّ سوءٍ وشرّ.. ".. وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾" أيْ وسيكون من الأنبياء وهم الذين لا يختارهم الله إلا من الصالحين الذين وصلوا أعلي درجات الصلاح لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به في الدرايْن، أيْ سيَصِل إلي أعلي درجات التكريم فيهما، وهذا مزيدٌ من التبشير والإسعاد لزكريا ﷺ بأنَّ ابنه المُنْتَظَر سيكون بهذه الصفات الطيبة وأيضا نَبِيَّاً كامل الصلاح.. هذا، وعلي كل مسلم أن يجتهد ما استطاع في التَّشَبُّه بمِثْل صفاته الكريمة هذه وغيرها من أخلاق الإسلام لهؤلاء الرسل الكرام ليقترب من مَكَانتهم في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿40﴾" أيْ ولمَّا بَشّرَته الملائكة بتلك البُشْرَيَ السعيدة اتّجه إلى ربه مُسْتَفْهِمَاً مُتَشَوِّقاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها هذا الغلام مع عدم توافر الأسباب العادية لِكَبَر سِنّه وعُقْم زوجه ومُقَدِّرَاً ومُعَظّمَاً لقُدْرته علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَاً ومُتَأَكّدَاً منها ومُحِبَّاً فيها ومَسْرُوراً بها ومُنْتَظِرَاً لها، وليس حتماً مُسْتَبْعِدَاً مُنْكِرَاً لها مُتَشَكّكَاً فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا بنَبِيٍّ كريم!!.. أىْ قال يا ربّ كيف يكون لي غلام وحالي أننى قد أدركنى الكِبَر الكامل الذى أضعفنى وفوق ذلك امرأتى عاقر أىْ عقيم لا تَلِد؟!.. ".. قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿40﴾" أيْ رَدَّ الله تعالي عليه لتوضيح الأمر له ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَفعل الله ما يشاء أن يَفعله مِن الأفعال الخارِقَة للعادة فحينما يريد أمراً مَا يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿41﴾" أيْ قال زكريا ﷺ داعِيَاً سائلاً الله تعالي معرفة وقت بدء هذه البُشْرَيَ السعيدة يا رب اجعل لي علامة ودلالة أسْتَدِلّ بها علي حدوثها وحصول الحمل ووجود الولد، قال له علامتك ألا تستطيع تكليم الناس لمدة ثلاثة أيام إلا إشارة إليهم بيديك ورأسك رغم عدم وجود مرض بك يمنعك من كلامهم فيما عدا ذِكْرك لي فإنك ستستطيعه وهذا من علامات قُدْرتي علي كلّ شيءٍ حيث لا يمكنك الكلام إلا بالذكر.. ".. وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا.." أيْ واذكر كثيرا مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، أثناء هذه الفترة وعلي الدوام.. هذا، والذكر يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿41﴾" أيْ وسبح ربك أيْ نَزّهْهُ وابْعِدْهُ عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ، بالعشي والإبكار أيْ في آخر النهار وأوله، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم، أي اذكره وصَلّي له واعبده أي أطِعْه وافْعَل كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتك، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت، لتَسعد تمام السعادة بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة
ومعني "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قالت الملائكة لمريم يا مريم إنَّ الله قد اختارك بسبب حُسْن خُلُقك وكمالك واصطفي لكِ الدين، الإسلام، ليُنَظّم لكِ كل شئون حياتك ليُسعدها، واختارك لتكوني داعية له وللإسلام هادية لخَلْقه مُنيرة لهم طريقهم في حياتهم مُرْشِدَة لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وأعطاك مثلما أعطي رسله من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر والسعادة كلها في الداريْن.. هذا ومَن تَشَبَّه بأخلاقها من المسلمين نالَ حتماً ما يُقارِب مَكَانتها فيهما.. ".. وَطَهَّرَكِ.." أيْ وعاوَنَكِ علي ما تقومين به من التّطَهُّر والتّعَفّف بالامتناع عن فِعْل أيِّ خُلُقٍ سَيِّءٍ ويَسَّرَ لكِ ذلك.. ".. وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾" أيْ وكذلك اختارَكِ وفَضَّلكِ وكَرَّمَكِ علي كل النساء بأنْ أحْدَثَ لكِ مُعْجِزَة لم ولن تَحدث وهي أن تَلِدِي مولوداً بغير أبٍ وزادَك تكريماً وتشريفاً بأنْ جَعَله رسولا كريما وهو عيسي ﷺ تشتركين معه في إرشاد الناس لكل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾" أيْ وقالت لها الملائكة أيضا يا مريم في مُقابِل كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ اشْكُرِي الله بأنْ تكوني دَوْمَاً من القانِتِين لربك أيْ الذين يُوَاظِبون علي طاعته تعالي في كل ما طَلَبَه منهم في وصاياه في الإسلام باختيارهم وبرضاهم وبكلّ حبٍّ له ولطاعته الآمنين الساكنين المُطْمَئِنّين برعايته لهم وأنه معهم علي الدوام بعِلْمه وقُدْرته.. ".. وَاسْجُدِي.." أيْ واخْضَعِي لخالقك ورازقك ولتوجيهاته وإرشاداته واستجيبي واستسلمي لها وقُوُمِي بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتك بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا اسجدي لله مُتَوَاضِعَة خاشِعَة ساكِنَة علي جبهتك في صلاتك أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، واكتسبي من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا تَسْتَعْلي عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد بعد السجود والاستسلام لله علي طاعة الله تعالي تمام الطاعة عموماً وبصورةٍ شاملةٍ في كل الأمور وليس في بعضها دون بعض أو بالسجود والصلاة فقط والإخلاص له وحده تمام الإخلاص والإحسان وعدم الإشراك معه في عبادته أيْ طاعته أيَّ شيءٍ آخر (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، حيث الركوع مثل السجود يُفيد كذلك الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو الركوع له بتواضُعٍ وخشوع وسكون في الصلاة.. أيْ واعبدي الله تعالي مع العابدين أيْ وأطيعيه مع الطائعين واتّبِعي كل أخلاق الإسلام مع المُتَّبِعين ويُعين بعضكم بعضاً علي ذلك.. إنَّ مِن معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أيضا التوجيه لكل المسلمين أن صَلّوا مع المُصَلّين لتنالوا ثواب الصلاة وثواب الجماعة الذي هو أضعاف صلاة المُنْفَرِد وحده لِمَا في التّجَمُّع من منافع وسعادات
ومعني "ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾" أيْ ذلك الذي قَصَّه القرآن العظيم عليك من قصص السابقين الذين اصطفاهم الله ومن القصص الحكيم عموما هو من أخبار الغيب الذي نُوحِيه إليك عن طريق المَلَك جبريل والذي لم يكن يعلمه أحد غيرنا وقد أخبرناك به ليكون دليلا على صِدْقك فيما تُبَلّغه عنا وليكون عِبْرة لمَن أراد الاعتبار والعمل به ليسعد في دنياه وأخراه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. والغيب هو كلّ ما غابَ عن الناس من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث لهم فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾" أيْ وأيضا مِمَّا يُؤَكّد صِدْقك وأنَّ هذا القصص وهذا القرآن هو وَحْي من عند الله لا مِن عندك أنك تُخبر بأخبار لم تَحضر زمنها فأنت ما كنت قطعا عندهم حاضراً معهم حين كانوا يَقذفون أقلامهم كوسيلةٍ من وسائل الاقتراع لبيان أيُّهُم سيقوم بكفالة مريم وهو الذي سيفوز بالقُرْعة وبالتالي تُتْرَك المسألة لتقدير الله تعالي وما كنت عندهم ومعهم حينما كانوا يُخَاصِم بعضهم بعضا لكي ينال هذا الشرف والتكريم والخير والرخاء والسرور في الدنيا ثم أعظم الثواب والسعادة في الآخرة لأنه سيقوم بتربية وليدة يتيمة هي مريم ابنة عمران بعد وفاته وهو كان إمامهم في الصلاح وأعلمهم بالإسلام ويُرشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. ولقد فاز بالقرعة الرسول الكريم زكريا ﷺ زوج خالتها فكانت في كفالته بتقدير الله تعالي وفضله لتتعلّم منه كل أخلاق الإسلام وتَتَرَبّي عليها عنده.. هذا، والآية الكريمة تُفيد ضِمْنَاً أنه علي المسلم أن يجتهد في أن يكون دَوْمَاً من المُسارِعِين للخير المُتَهَافِتِين المُتنافسين علي فِعْله، كما فَعَل أهل الخير عند تسابقهم لكفالة مريم حتي وَصَلَ الأمر للاقتراع علي ذلك، فهذا ينشر كلّ خيرٍ ويزيده بين الناس ويزيح الشرَّ ويجعله مُنْزَوِيَاً حتي يَنْقَرِضَ تدريجيا فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿45﴾" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قالت الملائكة لمريم يا مريم إنَّ الله يُخْبِركِ بخَبَرٍ يَسُرُّكِ وهو أنك ستُرْزَقين بولدٍ خَلَقَه بكلمةٍ منه أيْ بقولِ كُنْ فيكون كما يريد مِن غيرِ أبٍ كما هي الطريقة المعتادة في التَّوَالُد فهو مُعجزة بقُدْرته وعلمه خارجة عن الأسباب الدنيوية المعروفة لتحقيق النتائج اسمه المسيح عيسي ابن مريم – والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي ﷺ سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة – من صفاته الطيّبة كَوْنه وجيهاً في الدنيا والآخرة أيْ له جاه عظيم فيهما أيْ قَدْر وشرف كبير ومَكانَة عالية بين الناس بسبب ما اتّخذَ من أسبابٍ حَسَنَةٍ لذلك من حُسْن خُلُقٍ في كل أقواله وأفعاله ينشره بينهم ويدعوهم إليه وبسبب رعاية ربه وعوْنه وتوفيقه وسداده له، وأيضا من المُقَرَّبين له تعالي فيهما حيث في دنياه هو دائم التّوَاصُل معه والاستعانة به قريب المَكَانَة منه – كما للناس – مُحَبَّب إليه دائم الأمن والسعادة بذلك وفي أخراه هو قريب منه حتما في أعلي درجات جناته.. إنَّ هذا بالقطع سيكون حال كلّ مسلمٍ يَتَشَبَّه بالرسل الكرام ما استطاع في تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم حيث يكون له من الله تعالى جاه عظيم ويعيش في كل رضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن وخير وسعادة، في دنياه وأخراه
ومعني "وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿46﴾" أيْ وسيُعطيه الله تعالي بقُدْرته مُعجزة خارِقَة للعادة وهي أن يُكَلّم الناس وهو رضيع في المَهْد أيْ الفراش الذي يُمَهَّد أيْ يُجَهَّز ليَنام فيه الرضيع، وكذلك وهو كَهْل أي في سِنٍّ بين الشباب والشيخوخة، فهو سيتكلم بكلام الله تعالي وهَدْيِه الذي يُوحِيهِ إليه فيَهتدي به الناس ويَقتدون بأخلاقه حيث سيكون رسولا كريما من الله داعيا له وللإسلام يتكلم بكلام الرسل الكرام سواء أكان صغير السِّنِّ أم كبيرا، وسيكون من الصالحين أيْ مِن أصحاب الخُلُق الحَسَن الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون في الأرض ولا يُفسدون ويُتعسون فيها الذين يَصْلُحون لحَمْل الإسلام وتبليغه للناس، والصالح لا يكون كذلك إلا إذا كان مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل أقواله وأفعاله في كل شئون حياته، فيَسعد بذلك في الداريْن.. وهذا من أعظم البِشَارات لمريم
ومعني "قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾" أيْ ولمَّا بَشّرَتها الملائكة بتلك البُشْرَيَات اتّجهت إلى ربها مُسْتَفْهِمَة عن الكيفية التي يكون بها هذا الولد مع عدم توافر الأسباب العادية وهي الجماع بين الرجل والمرأة ومُقَدِّرَة ومُعَظّمَة لقُدْرته علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَة ومُتَأَكّدَة منها، وليست حتماً مُسْتَبْعِدَة مُنْكِرَة لها مُتَشَكّكَة فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا بالطاهرة مريم أم الرسول الكريم عيسي ﷺ!!.. أىْ قالت يا ربّ كيف يكون لي ولد وحالي أننى لم يُجَامِعْنِي زوج لي فأنا لست متزوجة ولست بفاسدة؟!!.. ".. قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾" أيْ رَدَّ الله تعالي عليها لتوضيح الأمر لها ولكل الناس قال هكذا دائما بمِثْل هذا الفِعْل المُعْجِز يَخْلق الله ما يشاء أن يَخلقه ويَفعل مِن الأفعال الخارِقَة للعادة ما يشاء أن يَفعله فحينما يَقْضِي أمراً مَا أيْ يُريده يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة بمجرّد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿48﴾" أيْ وسيُعَلّمه الكتاب الذي سيُرْشِده لاتّباعه بأنْ يُبَيِّن له معانيه وأخلاقياته وكيفية تطبيقها في حياته هو والناس حوله الذين سيَدعوهم للإسلام الذي فيه ليسعدوا به في الداريْن، ويُعَلّمه أيضا الكتاب بمعني الكتابة والخط حيث سيكون في بيئة مُتَعَلّمة فيكون أعلمهم، ويُعَلّمه كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب الذي سيُعَلّمه إيّاه، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ثم يُحَدِّد تعالي الكتاب الذي سيُرْشِده لاتّباعه وهو التوراة التي أنزلت علي موسي ﷺ قبله ومعها يُعَلّمه الإنجيل الذي سيُوحِيه إليه بعدها وفيه من الإسلام ما يُناسب عصره
ومعني "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾" أيْ وسيُكرمه ويُشَرِّفه ويُعْلِيه بأن يجعله رسولا أيْ مبعوثاً منه إلي بني إسرائيل أيْ اليهود والناس حولهم ليُعلّمهم الإسلام قائلاً لهم أني قد أحضرت لكم آية من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسول منه، وهي أني أصنع وأُصَوِّر لكم من الطين مثل شكل الطير فأنفخ فيه فتَحِلّ به الحياة فيكون طيراً حقيقياً مُتَحَرِّكَاً بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ وأيضا أَشْفِي مَن وُلِد أعمى، ومِن باب أولي مَن كان مُبْصِرَاً وفَقَدَ بصره فذلك أخفّ، ومَن به بَرَص، وهو مرض جلديّ مُزْمِن مُنَفّر يَصعب شفاؤه، وأُحيي مَن كان ميتاً، كل ذلك حتماً بإذن الله.. ".. وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.." أيْ وكذلك أخبركم بالشيء الذى تأكلونه وبالشىء الذى تقومون بتخزينه فى بيوتكم لوقت حاجتكم إليه، بإعلام الله تعالي لي.. ".. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾" أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ من مُعجزاتٍ بكل تأكيدٍ دلالة عظيمة لكم تدلّ علي صِدْقي أني رسول الله إليكم، لو كنتم مؤمنين بحقٍّ يا بني إسرائيل أي يا يهود كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فآمنوا بي إذَن كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله وصَدَّقَ بموسي ﷺ في زمنه وهم اليهود فإنه حتما سيُؤْمِن بعيسي ﷺ إنْ كان حاضراً زَمَنه وبما جاء به من إنجيلٍ وسيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. إنَّ هذه المعجزات وغيرها تدلّ دلالة قاطعة كلَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنَّ الله تعالي يَخْلق ما يشاء أن يَخلقه ويَفعل مِن الأفعال الخارِقَة للعادة ما يشاء أن يَفعله فحينما يَقْضِي أمراً مَا أيْ يُريده يُوجِد له أسبابه أو يَخْلقه بغير الأسباب المعروفة بمجرّد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد لأنه هو خالق الأسباب والمُسَبِّبَات ولا يَصعب عليه أيّ شيءٍ فى هذا الكوْن مهما كان وبقُدْرته بالقطع أن يُغَيِّر ما جَرَت به العادات بين البَشَر والخَلْق كله فإنه كما تَتَطَلّب حكمته سَيْر الأمور بأسبابها المعتادة فإنه أحيانا ولِحِكَمٍ ولِمَنافع ولِسعاداتٍ للخَلْق تَظهر تدريجيا لهم فإنه قد يَخرق ذلك فلا يَلْتَزِم به لأنه الفَعَّال لِمَا يريد.. إنَّ علي المسلم أن يتأكّد تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ الله يَفعل ما يشاء فهذا سيُعطيه دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في دنياه وحُسن الاستعداد لأخراه لتحقيق السعادة التامّة الخالدة حيث هو مُسْتَعِينٌ دائما بمالِك المُلك كله القويّ المَتين
ومعني "وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾" أيْ وأرسلني الله إليكم مُصَدِّقا لما بين يَدَيّ أيْ لِمَا قَبْلِي نَزَلَ سابقاً لي من التوراة التي أُنْزِلَت علي موسي ﷺ وتؤمنون بها، أيْ مُوَافِقا ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق ما جئتكم به وهو الإنجيل إذ لو كنت كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله تعالي وكليهما يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يَرْفض الخير إذا جاءه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بما جئت به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم.. ".. وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.." أي وأرسلني أيضا إليكم لكي أُبِيحَ لكم بأمرٍ ووَحْيٍ منه في الانجيل بعض الذي حَرَّمه عليكم بعض علمائكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة ولم يُحَرِّمه تعالي في التوراة، أو بعض ما كنتم تختلفون في كوْنه حلالاً أم حراماً فحَرَّمه بعضكم علي نفسه خطأ منهم، لتعودوا لأصلها الأول الرَّبَّانِيّ الحلال لتَنْعَموا وتَسعدوا بها.. ".. وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ.." أيْ وقد أحضرتُ لكم آية من ربكم أيْ دلالَة ومُعجزة علي صِدْقي أني رسول منه، والمقصود كل الآيات السابق ذِكْرها.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في بداية الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾" أيْ ونَفِّذوا أيها الناس ما أوصيكم به مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فإن طاعة رسول الله هي طاعة له تعالي
ومعني "إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿51﴾" أيْ إنَّ الله تعالي الذي أدعوكم إليه هو وحده لا غيره حتما ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. هذا، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا.. ".. هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿51﴾" أي هذا الذي أدعوكم إليه هو حتما طريقٌ مُعْتَدِل صحيح صواب مُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن.. إنه طريق الله والإسلام
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿53﴾ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿56﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُدَاوِمَاً مُدَاوَمَة تامَّة ومُوَاظِبَاً ومستمرَّاً وثابتاً على أن تكون من أنصار الله تعالي في كل حالٍ ووقتٍ وزمانٍ ومكانٍ – وهو القويّ العزيز الغَنِيّ عن العالمين – أيْ تَنصر دين الله ورسوله بالتمسّك والعمل التامّ بكل أخلاقه وبنشره بالدعوة له بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ وبالدفاع عنه بكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ ضدّ مَن يعتدي عليه حتي بالقتال وبذل الدماء إذا كان الاعتداء عسكريا (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن صور الهجرة والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
هذا، ومعني "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾" أيْ فلمَّا اسْتَشْعَرَ وعَلِمَ ووَجَدَ وتَأكَّدَ بلا أيِّ شكّ عيسي منهم أيْ مِن بني إسرائيل أيْ اليهود وغيرهم مِمَّن كان يدعوهم تصميمهم علي الكفر أيْ عدم التصديق بسبب ما كانوا يُظهرونه مِن أقوالٍ وأفعالٍ تدلّ علي ذلك رغم أنه قد جاءهم بالآيات أيْ المُعجزات القاطِعَات التي سَبَقَ ذِكْرها، نادَيَ الذين آمنوا به أيْ صَدَّقوه وما معه مِن إسلامٍ قائلاً مَنْ أَنصاري إلى اللَّه أيْ مَن أنصاري مع الله ناصِري؟ ومَن يكون معي إلي جانب نَصْر الله لي؟ أيْ مَن يقوم منكم بنصري وإعانتي فيما يُقرِّب إلى الله؟ أيْ مَن الناصرون المُخلصون الذين أعْتَمِد عليهم بعد الله تعالى ويُنصرونني ونحن مُتَّجِهِين إلي الله لعبادته أيْ طاعته والدعوة إليه وإلي دينه الإسلام ونصرته والدفاع عنه؟ والسؤال هو للحَثَّ والتهييج من أجل الاستجابة، فسَارَع الحوارِيُّون – والحواريون هم أصحاب وأنصار ومُؤَيِّدُوا بكل إخلاصٍ وصفاءٍ الرسل الكرام – لإجابته بقولهم ".. نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ.." أيْ نحن أنصار دين الله ونحن الذين بكل تأكيدٍ على استعداد تامٍّ أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته ونصر دينه الإسلام.. ".. آمَنَّا بِاللَّهِ.." أيْ قد صَدَّقنا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكنا وعملنا بكل أخلاق إسلامه.. ".. وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾" أيْ ونريدك أن تشهد لنا يوم القيامة عند الله تعالي بأننا كنا في الدنيا مسلمين أيْ مستسلمين لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامنا في كل شئون حياتنا ثابتين دائما عليها، لنَضْمَن أن ننال بشهادتك هذه أعلي درجات جناته.. كما أنَّ في طَلَبهم هذا من عيسي ﷺ مزيداً من التأكيد والتبشير له أنهم مسلمون ينصرونه وإسلامهم طوال حياتهم الدنيا بكل ما يَملكون
ومعني "رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿53﴾" أيْ يا ربنا أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، صَدَّقنا بما أنزلتَ من إسلامٍ في الإنجيل وفي كل كتبك السابقة مع كل رسلك السابقين، وسِرْنا خَلْف وأطعنا الرسول الكريم عيسي ﷺ في كل ما جاء به من الإسلام، فلذلك نَتَوَسَّل إليك ونرجو منك طامِعين في كرمك وفضلك وعطائك ورحمتك أن تكتبنا مع الشاهدين أيْ تجعلنا وتُيَسِّر لنا أسباب أن نكون في أعلي الدرجات في الداريْن من خلال أن نكون دائما طوال حياتنا مع الشاهدين أيْ من الشاهدين بأنه لا إله إلا أنت وأنك وحدك المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة العاملين بكل أخلاق إسلامك المُسْتَحِقّين لأعلي درجات جناتك وأيضا من الشاهدين بمعني شهداء علي الناس أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة نكون شهداء على الأمم الأخري نَشهد أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرتنا به يا ربنا في كتبك ويُزَكّينا رسولنا عندك أننا صادقون في شهادتنا عليهم لا نحكم إلا بالعدل التامّ.. كذلك من معاني الشاهدين أن يَصِلُوا إلي درجةٍ من التّوَاصُل مع ربهم كأنهم يشاهدونه بأعينهم فيُحسنون بالتالي كل أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة.. وفي هذا دعاء منهم لله تعالي طَلَبَاً لعظيم التكريم والتشريف والأجر منه لهم في دنياهم وأخراهم.. فليجتهد كل مسلم في أن يَتَشَبَّه بهم ليَنال ما نالوه
ومعني "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾" أيْ ودَبَّرُوا المَكَائِد في الخَفَاء وخادَعُوا، وهم كُفّار اليهود الذين أحَسَّ عيسي منهم الكفر، من أجل إيقاع الشرّ به ومحاولة قتله، ودَبَّرَ الله تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."﴾.. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!
ومعني "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر قُدْرته وعلمه تعالي ورعايته ورحمته وتكريمه لرسوله الكريم عيسي ﷺ وللمسلمين معه ونصره ونصرهم علي أعدائهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من عِظاتٍ – اذكروا حين قال الله مُطَمْئِنَاً له وللمسلمين يا عيسي إني مُسْتَوْفٍ أجَلَك ناهِيَاً إيَّاه علي الأرض ورافِعك إليَّ بجسدك وروحك لتكون في جنات السماء حيث مكان كرامتي التامّة لك وإنعامي الكامل عليك ومُخَلّصُك من الذين كفروا أيْ كذّبوا بك ومُنَجِّيكَ من أعدائك الذين يريدون قتلك وأيضا مُبَرِّؤك مِمَّا أشاعوه عنك وعن أمك من أكاذيب، مثل أنها ولدتك من زنا أو أنك ابن الله أو أنك ادَّعَيْتَ أنكما إلاهَيْن من دونه تعالي أو ما شابه هذا من تخاريف.. إنَّ هذه هي معجزة أخري لعيسي ﷺ يَتّعِظ بها كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُعينه علي أن يُصَدِّق بوجود خالقٍ يَرْعَيَ خَلْقه، أن تكون نهاية حياته علي الأرض هكذا، فبدايتها معجزة حيث خُلِقَ من غير أبٍ وأثناءها معجزات متتابعات ونهايتها معجزة رفعه بالجسد والروح.. ".. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ هذا وَعْدٌ من الله تعالي ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا للذين يَتّبعون الرسل وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم أنْ يجعلهم دائما في حياتهم الدنيا فوق الذين كذّبوا بالإسلام ولم يَتّبعوا أخلاقه وذلك إلي نهاية الحياة وقيام يوم القيامة، وهذه الفَوْقِيَّة هي معنويّة ومادِّيَّة، فأمّا المعنويّة فهي أنَّ المسلمين بحُسن أخلاقهم وتمامها وكمالها ما أمكن وسعادتهم التامّة بذلك هم فوق غيرهم قطعا الذين لا أخلاق لهم مُطلقا أو يعملون ببعضها دون بعض والذين هم بالقطع تُعَساء أشقياء بقَدْر ما يتركون منها، وأمّا الماديّة فهي أن يكونوا قادة لا مَقُودِين رؤساء لا مَرْؤوسين سادَة لا مَسُودِين يَرْجِع الناس دائما إليهم ليعلموا الخير كله فيسعد الجميع في الداريْن، لكنْ إنْ أحسنوا اتّخاذ أسباب ذلك، فذلك هو قانون الحياة، قانون الأسباب والنتائج، مَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان غير مسلمٍ ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما قال تعالي موضحا هذا "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾"، فهذا هو تمام العدل، عدل الله العادل، الذي يُوَفّي لكلٍّ حقّه كاملاً دون أيّ ظلم.. إنَّ المسلمين أهل الحقّ والخير هم حتما فوق غير المسلمين لأنهم علي تَوَاصُلٍ دائمٍ بربهم يَطلبون منه حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسَدَاده ورزقه وقوَّته ونصره، وغيرهم ليسوا كذلك، ولأنهم يَطلبون دوْماً أعلي وأغلي شيءٍ وهو أعلي درجات الجنة بينما هم قد لا يعرفونها أصلا وكلّ أهدافهم في حياتهم أثمان دنيوية رخيصة دنيئة زائلة يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولأنَّ معهم كلّ الحقّ والعدل والحِكْمَة والهُدَيَ في القرآن والإسلام وهم يَفتقدون كلّ هذا، وفوقَ كلّ ذلك وقبله وبعده فإنّ الله خالِق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك كله القاهِر الناصر الذي يقول للشيء كن فيكون، معهم بعوْنه وتأييده وتوفيقه وتيسيره ونصره، ومَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في نهاية الأمر حتي ولو حَدَثَ له أحيانا واستثنائيَّاً بعضُ هزيمةٍ بسبب ترْك بعض أسباب النصر فسَيَسْتَدْركها سريعا بعوْن الله، ثم هو تعالي لن ينقصهم شيئا ولا ذرَّة أو أقلّ من أجور أعمالهم وما يستحِقّونه من خيرٍ في مُقابِلها لا في دنياهم ولا في أخراهم بل سيُضاعفها لهم أضعافا كثيرة لينالوا تمام الخير والنصر والسعادة فيهما.. إنهم بكلّ ذلك بحقٍّ الأعلون الأسْعَد في دنياهم وأخراهم وهم بحقٍّ الأَدْنَوْن الأتْعَس فيهما.. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره من حوافز يَدْفَع المسلمين بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ للانطلاق في الحياة بكلّ قوّة وعِزَّة لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. ".. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم كلكم سيَرْجِع إليَّ لا إلي غيري يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وأنا وحدي الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سأَحْكُم أيْ سأَقْضِي وأفْصِل بينكم جميعا يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فأبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، وأُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿56﴾"، "َوَأَمَّاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لحُكْم الله تعالي بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فأعذّبهم عذاباً شديداً علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿56﴾" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة.. "وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – فيُعطيهم خالقهم سبحانه أجورهم علي ذلك والتي وعدهم بها وافية أي كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾، وذلك في الدنيا قبل الآخرة، حيث يتمّ لهم كل الخير والسعادة فيهما، وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ، وهذا هو تمام العدل، وهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله فلا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾" أيْ والله حتما لا يُحِبّ مُطلقاً الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فحُبّه سبحانه لا يكون أبداً إلا لمَن يُحِبّه ويُثْبِت ذلك عمليا باتّباعه للرسول ﷺ وللإسلام، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ظُلْمه.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿58﴾" أيْ ذلك القصص الحكيم الذي ذَكَرْناه وذلك القرآن العظيم كله الذي نتلوه عليك أيْ نَقُصّه ونَذْكُره لك ونُخبرك ونُذَكّرك به ونُرشدك إليه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل إنسانٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، هو من الآيات أي الدلائل من الله تعالي التي تدلّ علي وجوده – إضافة لمُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه – وعلى صِدْقك فيما تُبَلّغه عنه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبارٍ لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها، وهو أيضا من الذكر الحكيم، والذكر يعني أنَّ فيه كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة، والحكيم يعني الذي كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّةٍ دون أيّ عَبَث، والذي هو مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين العامِلين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل، والذي هو الحاكِم أي المَرْجِع الشامل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿59﴾" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ إنَّ حالَ وشَبَهَ خَلْق عيسي من غير أبٍ العجيب لكم هو عند الله أي في تقديره وحُكْمه وعِلْمه وفِعْله كحَالِ وشَبَهِ خَلْق آدم العجيب أيضا حيث خُلِقَ من غير أبٍ ولا أم!! فقد خَلَقه أيْ أوْجَده علي غير مثالٍ سابقٍ من ترابٍ ثم قال له كُنْ فكان بَشَرَاً إنساناً بجسدٍ وروحٍ كما أراد بمجرّد أن قال له ذلك، فهو القادر علي كلّ شيء.. إنَّ في هذا التشبيه رَدَّاً عقلياً مَنْطِقِيَّاً حَكيماً يُخْرِس ألْسِنَة كلّ مَن قال أنَّ عيسي ابن الله أو إلاه، لأنه إذا كان خَلْقه من غير أبٍ يَدْفع غير العاقل لاعتباره إلاهاً أو ابن إلاهٍ فأوْلَىَ بذلك آدم لأنه خُلِقَ من غير أبٍ ولا أمٍ فهو أشدَّ مُعجزة منه!! وما دام لم يَتَجَرَّأ أحدٌ علي ادِّعاء أنَّ آدمَ إلاهٌ لهذا السبب فثَبَت بالتالي إذَن تخريف مَن قال إنَّ عيسي إلاهٌ لانهيار الأساس الذى قام عليه قوله هذا وهو خَلْقه من غير أب! ولأنه إذا كان الله تعالى قادراً على أنْ يَخْلق إنساناً بدون أبٍ ولا أمٍ ومن مادَّةٍ لا يُتَصَوَّر عقلاً أن تُنْتِج بَشَرَاً وهي التراب فأوْلَىَ أن يكون قادراً على خَلْق إنسانٍ من غير أبٍ فقط ومن أمٍ هي إنسان مثله – وليست تراباً – مُجَهَّزَة لأنْ تَلِد!
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿60﴾" أي هذا الذي ذَكَرْناه في شأن عيسي ﷺ، وفي غيره من كل شئون الحياة، وكل دين الإسلام الذي أنت عليه أيها المسلم هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد ﷺ، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿61﴾ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿62﴾ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿63﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ومِمَّن يعرفون بدِقّةٍ متي قد يتوقّفون عنها أحيانا، أو متي قد يستخدمون المُناظَرات والمُبَارَزات المعنوية أحيانا أخري بما يحقّق استجابة المَدْعُو، حسبما يراه ويُقَدِّره الداعي بالنسبة لمَن يدعوه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿61﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام وهو يدعو غيره لهما بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مِن كثرة جدال المَدْعُو له بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، وعندما يَغْلِب علي ظنه أنه لا يريد التّوَصُّل إلي الحقّ والخير بل لإضاعة الأوقات وتشتيت الجهود ونحو ذلك، وحين يستشعر أنه لم يَعُدْ للحوار أيّ فائدة، قد يَصِل به الحال أحيانا إلي المُبَاهَلَة، أي الابتهال، أي الدعاء والتّوَسُّل لله تعالي أن يصيب الذي علي الباطل باللعنة والضرر والهلاك ونحوه، لأنه يعلم تماما بلا أيّ شكّ أين الحقّ والعدل والخير والصواب ولا يَتّبعه رغم توضيح كل الأمور له بكل الوسائل المُمْكِنَة حيث قد أغْلَق عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ فمَن جادَلَك في الحقّ أيْ الصدق الذي ذُكِرَ في الآية السابقة يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم أيْ في شأن عيسي ﷺ أنه إلاهٌ أو ابن إلاهٍ أو ما شابه هذا من تخاريف، أو في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحداً بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحُدُوث البَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال مِمَّن يريدون التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم، مِن بعد ما وَصَلَكَ من العلم الحقّ الصدق الثابت الذي ليس فيه أيّ شكّ عن كلّ هذا من خلال القرآن العظيم، فحينها لا تُبادلهم الحوار لأنهم مُعانِدون لا يُقنعهم الدليل مهما كان واضحاً قاطعاً حاسماً ولكن قل لهم تعالوا نُحْضِر أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ونجتمع جميعا في مكانٍ ما، ثم نجتهد في الدعاء والتّوَسُّل لله أن يُنزل عاجلاً أو آجِلاً عقوبته ولعنته أيْ عذابه وعدم رحمته على الكاذبين في أقوالهم المُصِرِّين علي كذبهم وعنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم.. إنَّ أصحاب الحقّ دوْمَاً علي ثقةٍ وتأكّدٍ تامٍّ بأنهم سيَنتصرون، ولذا فهم لا يَتَخوَّفون من حضورهم بأنفسهم ومن إحضار معهم أحب الناس إليهم كالأبناء والزوجات والأخوات والقريبات والمسلمين عموما من باب التعاون علي البرِّ والتقوي لتأكّدهم أنهم لن يهلكهم خالقهم لأنهم علي الحقّ وهو الذي أوْصاهم بهذه المُبَاهَلَة عند الاحتياج إليها، أمّا أهل الباطل فهم في الغالب لا يَستجيبون ولا يَحضرون خوفا مِمَّا قد يصيبهم، وهذا في ذاته سيكون أكبر دليلٍ علي أنهم كاذبون وأنهم قد أعلنوا هزيمتهم وانتصار دعاة الخير والحقّ والصدق.. إنهم دوْمَاً لا يَثِقون في باطلهم!!
ومعني "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿62﴾" أيْ إنَّ هذا القرآن العظيم بما فيه من قصصٍ تُقَصّ عليكم وتُذْكَر لكم لتَتّعِظوا بها وأخلاقِيَّاتٍ وتشريعاتٍ ونُظُمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ القصص الصِّدْق الذي ليس فيه ذرّة شكّ لأنه من الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ.. " أيْ وليس في الكوْن إله أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلا الله وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿62﴾" أيْ وإنَّ الله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ هو وحده لا غيره العزيز أيْ الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره الحكيم أيْ الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿63﴾" أيْ فإن استجابَ هؤلاء المُجادِلون المُعَانِدون المُكَذّبون المُستكبرون المُستهزؤن الذين سَبَقَ ذِكْرهم بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم ﷺ والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فإنَّ الله حتما عليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بالمفسدين، بكل أقوالهم وأفعالهم ومَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم بكلّ صورها المختلفة، الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم لأنهم فاسدون في أنفسهم مُتْعِسُون لها مُفْسِدون مُتعسون لغيرهم، وبالتالي سيُجازِيهم في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر فسادهم.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿64﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون التّوَافُق والتحاوُر مع الآخرين، علي اختلاف ثقافاتهم وعلومهم ودياناتهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، والوصول إلي كلمةٍ سواءٍ فيما بينكم، أي كلمة تتساوون عندها، أي يتّفق عليها الجميع ويشتركون فيها ويلتقون حولها، إنها المساحة المشتركة التي تجمعكم جميعا بعد إبعاد التَّعَصُّب والأغراض الرخيصة الدنيئة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إنها كلمة الحقّ والعدل والإنصاف والتّوَسُّط والاعتدال، إنها الكلمة التي تُوَافِق فطرة العقل التي فطرها أيْ خَلَقَها وبَرْمَجها عليها خالقها لتعرف الحقّ والخير والصواب فتسير دائما عليه لتسعد والتي هي موجودة في كل عقول البَشَر علي السواء وبالتساوي ويشترك فيها الجميع ويتّفقون عليها.. وهذا يكون في كل مجالات الحياة المختلفة العلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. إنك إنْ فعلتَ ذلك وأحسنته وأتقنته، لم يكن لك عدوّ غالبا! بل الجميع لك أصدقاء ومُحِبُّون ومُعاوِنون بدرجةٍ من الدرجات! وعِشْتَ بذلك آمِنَاً سعيداً في حياتك، ثم بنوايا الخير بعقلك المُصَاحِبَة لكل هذا سيكون لك أتمّ وأعظم وأخلد الأمن والسعادة في آخرتك.. وإنْ فَعَل غيرك مثل فِعْلك، سَعِدُوا هم أيضا علي قَدْر ما قَدَّموا، وإنْ لم يفعلوا وتَرَكوا أخلاق إسلامهم فقد خسروا وتَعِسُوا في الداريْن.. فاسْتَمِرّ أنت علي كل أخلاق إسلامك فأنت الفائز السعيد حتما فيهما
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿64﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم تعالوا وأَقْبِلُوا إلي كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم أيْ كلمةٍ مُسْتَوِيَةٍ لا الْتِواءَ ولا اعْوِجَاج فيها مستقيمة عادلة مُنْصِفَة ليس فيها أيّ مَيْلٍ أو انحرافٍ عن الحقّ والعدل والخير والسعادة يَقبلها كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا تَرفضها الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ونَتَسَاوَىَ عندها جميعا وفيها إنْصاف لنا ولكم ونلتقي فيها معكم وتلتقون عندها معنا ونتّفق عليها ونشترك فيها وهي المساحة المشتركة التي تجمعنا جميعا بعد إبعاد التَّعَصُّب والأغراض الرخيصة الدنيئة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهذه الكلمة السواء هي ".. أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ.." أي هذه هي أعلي وأعظم كلمةٍ سواءٍ في الوجود كله والتي يَتَفَرَّع عنها كل الكلمات السَّوَاء الأخري وهي كلمة السعادة في الداريْن، كلمة لا إلاه إلا الله ولا نعبد إلاّ إيّاه أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلا الله وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه لا إلهَ إلا الله ومزيدٌ من التفصيل والتوضيح لمعناها، أيْ ولا نُشَارِك معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو بَشَرٍ ضعيفٍ مثلنا نطلب منه رزقاً أو صحة أو قوة أو غيره بل ونَتَذلّل له ونُطيعه حيث سَار وإنْ كان شرَّاً وكأنه إلاهٌ لنا!!.. ".. وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي أنه لا إله إلا الله وزيادةٌ في التفصيل والتوضيح لمعناها، أيْ ولا يُطيع بعضنا بعضا فيما يُخالف وَصَايَا الله في الإسلام ولا نَتّبِع أحداً في تحليل شيءٍ أو تحريمه إلا فيما أحَلّه أو حَرَّمه سبحانه، أيْ ولا يجعل مُطلقا أحدٌ مِنّا أحداً آخر من البَشَر رَبَّاً له غير الله تعالي – وجَمْع رَبّ أرباب – فمَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿64﴾" أيْ فإن استجابوا بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم ﷺ والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فلا تُحاوروهم بعدها وأوقفوا الحوار معهم لأنهم مُعانِدون يعلمون الحقّ ولا يَتّبعونه من أجل أثمان الدنيا الرخيصة وقولوا اشهدوا بأنا مسلمون أيْ اعترفوا بأننا علي الصواب وأنكم علي الخطأ حيث لم تأتوا للكلمة السواء ولم تستطيعوا مُقَابَلَة الحوار والدليل الحاسم بحوارٍ ودليلٍ قاطعٍ مثله مُقَابِلٍ وهذا وحده دليل كاف علي انتصارنا وهزيمتكم بما أظْهَرَ للناس أين الحقّ والعدل والخير والسعادة وأين الباطل والظلم والشرّ والتعاسة، ثم اعترافكم بأنا مسلمون يعني ضِمْنَاً اعترافكم علي أنفسكم أمام الجميع بأنكم كافرون! وأننا لم نُوقِف الحوار معكم لعدم قُدْرتنا علي إقناعكم أو لأنكم علي صوابٍ وإنما لأنه لم يَعُدْ له فائدة وأنه أصبح مَضْيَعَة للأوقات والجهود حيث قد وَضَحَ الحقّ بكل صور الوضوح، كذلك في طَلَبنا منكم الشهادة بأنا مسلمون إثبات تامّ أننا ثابتون تماما علي الإسلام والدعوة له والدفاع عنه بكل ما نملك طوال حياتنا شاكرون لله علي ذلك ولا نُخفيه بل نُعْلِنه للجميع وهو أيضا تَيْئِيس لكل من يحاول إبعادنا عنه من أمثالكم ولإشعارهم بصورةٍ غير مباشرةٍ أنهم كافرون فلعلهم بهذا وبإيقاف الحوار معهم وإهمالهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الدارين بدلا أن يتعسوا فيهما
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿65﴾ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿66﴾ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿67﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات وفي كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ صاحب حجّة، أيْ لا تقول قولاً ولا تفعل فِعْلاً إلاّ بناءً علي علمٍ ودليل، فذلك – وبعد توفيق الله وتيسيره لك وطَلَب عوْنه وسَداده – يجعلك دائما علي صوابٍ، علي خيرٍ، لا تبتعد عنه، ويزيد ثقة مَن حولك بك، ويُحسنون ويُكثرون تعاملاتهم معك، فتَربح وتَسعد، في دنياك وأخراك.. وإيّاك إياك أن تتكلم كلاماً أو تعمل عملاً بغير علمٍ أو دليل، فإنّ ذلك يُفْقِدك ثقة الآخرين ويَسْتَقِلّونك ويَبتعدون عنك، فتَخسر وتَتعس فيهما
هذا، ومعني " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿65﴾" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لأهل الكتاب ومَن يَتَشَبَّه بهم وتَعَجُّبٌ من سوء حالهم وفِكْرهم حيث يتكلمون كلاماً سفيهاً يدعو للسخرية لا يَقبله أيّ عقلٍ ولا مَنْطِق! أيْ يا أهل الكتاب أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ، لماذا تُجادلون بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره في شأن دين الرسول الكريم إبراهيم ﷺ فيَدَّعِى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية ويَدَّعِى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية ولم تنزل التوراة والإنجيل أصلاً إلا مِن بعده بأزمان طويلة؟!! فكيف يكون إذَن يهودياً يدين بالتوراة أو نصرانياً يدين بالإنجيل؟!!.. إنهم يقولون ذلك حتي يظلّوا علي ضلالهم مُتَهَرِّبين من دعوة الرسول الكريم محمد ﷺ التي تَدعوهم لدين إبراهيم وهو الإسلام فيَدَّعُون كذباً وزُوُرَاً مَفْضُوحاً أنهم هم أيضا علي دينه فلماذا إذَن يُغَيِّرون دينهم بل المسلمون هم الذين ليسوا علي دينه لأنّ القرآن أضاف لصُحُفِ إبراهيم ما يُناسب الأزمنة حتي يوم القيامة وعليهم أن يكونوا مثلهم من اليهود أو النصاري الأقْرَب لهذه الصحف؟!.. إنه نوعٌ من أنواع الجدال الذي يريدون به التشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿65﴾" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك وتَتَجَنَّبونه تماما وتعودون لربكم ولإسلامكم وتفعلون كل خيرٍ وتَتركون كل شرٍّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!
ومعني "هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿66﴾" أيْ أنتم يا هؤلاء – ولفظ "ها" في اللغة العربية يستخدم للتنبيه لِمَا سيُقال – من أهل الكتاب ومِمَّن يَتَشَبَّه بكم قد جادلتم الرسول الكريم محمد ﷺ والمسلمين لكي تُعاندوهم وتُكذّبوهم وتُرَاوِغوهم حتي لا تُسلموا ولا يُسلم غيركم في أمورٍ من المُمْكِنِ أن تُجادلوا وتُحاوروا فيها لأنَّ لكم بها علم أو بعض علمٍ لأنها في كتبكم مِثْل أنَّ الرسول محمد سيُبْعَث وعليكم أن تؤمنوا به وبالقرآن الذي سيُوحَيَ إليه ومِثْل بعض التشريعات فيه التي صَحَّحَت ما حاولتم تحريفه في دينكم وما شابه هذا، وبَقِيتم علي عنادكم وتكذيبكم، لكن لماذا تُجادلون في أمورٍ ليس لكم بها أيّ علمٍ أصلاً والتي منها أنّ إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ونحو ذلك؟! إنَّ السَّفَه والجهل لا يُمكن أنْ يَصِلَ بكم إلي مثل هذا الحَدّ!! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وفي هذا توجيهٌ لكلّ مسلمٍ أن يكون صاحب حجّة، أيْ لا يقول قولاً ولا يفعل فِعْلاً إلاّ بناءً علي علمٍ ودليل، فذلك – وبعد توفيق الله وتيسيره له وطَلَب عوْنه وسَداده – يجعله دائما علي صوابٍ، علي خيرٍ، لا يبتعد عنه، ويزيد ثقة مَن حوله به، ويُحسنون ويُكثرون تعاملاتهم معه، فيَربح ويَسعد، في دنياه وأخراه، أمَّا لو تكلّم كلاماً أو عمل عملاً بغير علمٍ أو دليل، فإنّ ذلك يُفْقِده ثقة الآخرين ويَسْتَقِلّونه ويَبتعدون عنه، فيَخسر ويَتعس فيهما.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿66﴾" أيْ والله يعلم حال إبراهيم ودينه، ويعلم ما تجادلون فيه بعلمٍ وبغير علمٍ، بالعَلَن وبالسِّرّ، وما بدَوَاخِل الأفكار والعقول، ومَن هم أهل الخير وأهل الشرّ وسيُجازي كُلّاً بما يستحِقّه في الداريْن، ويعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في هذا الكوْن، وبالجملة يعلم ما غاب عنكم من مصالحكم يا هؤلاء ويا أيها الناس وما هو خير أو شرّ لكم حاليا ومستقبلا وأنتم لا تعلمون كل ذلك ونتائج الأمور في المستقبل فسَارِعوا بالتالي إذَن إلي الاستجابة لكل ما فُرِضَ عليكم وتَمّ توصيتكم به من أخلاق الإسلام لتسعدوا في الدنيا والآخرة لأنه تعالي لا يأمركم إلا بما هو خير أيْ مُفيد مُسْعِد لكم فيهما ولا يمنعكم إلا عمَّا هو شرّ أيْ مُضِرّ مُتْعِس لكم فيهما وهو أرحم بكم وأحرص علي مصلحتكم وسعادتكم وأقْدَر عليها من أنفسكم
ومعني "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿67﴾" أيْ ما كان إبراهيم ﷺ مُطلقاً يوماً مَا يهودياً علي دين اليهود كما ادَّعَيَ بعضهم كذباً وزُورَاً ولا نصرانياً علي دين النصاري كما ادَّعَيَ أيضا بعضهم بالكذب والزُّوُر لأنه بالعقل والمَنْطِق لم تكن اليهودية ولا النصرانية إلا مِن بَعْده بأزمنة طويلة، ولكنه كان حتماً حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام، وكان مسلماً أيْ مستسلما لوصايا وتشريعات الله تعالي متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته ثابتا دائما عليها حتي مَمَاته، وما كان أبداً من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. وفي هذا تلميحٌ بكذبهم وافترائهم لعلهم يستفيقون ويعودون لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿68﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات وفي كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة، لأنه هو الحَيّ القَيُّوم.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد ﷺ وخليل الرحمن إبراهيم قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿68﴾" أي ليس مُطلقا اليهود والنصاري الذين حَرَّفوا في دينهم عن الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والذي يُحبه كل أهل الأديان من بعده لمَكَانَته العالية بين الرسل في الداريْن لِمَا قَدَّمَ لله وللإسلام، ليس مُطلقا أمثال هؤلاء أقْرَب لدين إبراهيم، وإنما أوْلَيَ الناس به وبدينه أيْ أقربهم منه ومن صفاته ومن دينه وأشدّهم وَلَاءً له واختصاصاً وصِلَة به وحباً ونصرة له وللإسلام وأحقّهم وأجدرهم بالانتساب إليه وبأن يقولوا أننا علي دينه وبأن يَعْتَزّوا بهذا ويُمْتَدَحُوا به وبمُوَافَقَته في أقواله وأفعاله وبمُقَارَبَته في مَكَانته الدنيوية والأخروية هم فقط بالتأكيد الذين اتّبعوه أيْ سارُوا خَلْف ما جاء به مِن إسلامٍ في زمنه وبعد مَمَاته، وأيضا حتما هذا الرسول الكريم محمد ﷺ خاتم الرسل وإمامهم حيث القرآن العظيم الذي أُوُحِيَ إليه والصالح لإكمال ولإسعاد البشرية حتي يوم القيامة هو مُطَابِق ومُكَمِّل لِمَا جاء به إبراهيم من إسلامٍ والذي كان مناسباً لزمنه، وكذلك بالقطع الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا به ﷺ واتّبعوا كل أخلاق الإسلام الذي جاءهم به.. ".. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿68﴾" أيْ والله خالق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك الذي له كل صفات الكمال الحُسني هو وليُّ المؤمنين أيْ وَلِيّ أمرهم يديره لهم علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويرعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم.. إنَّ في الآية الكريمة توجيهاً ضِمْنِيَّاً للمسلمين بأن يُوَالِي أيْ يُحِبّ ويَنصر ويَرْعَيَ ويُعين ويُقَوِّي بعضهم بعضاً مهما تَبَاعَدَت بيوتهم وأوطانهم والأزمان بينهم حتي يَتَوَلّاهم الله تعالي فينالوا تمام سعادة الداريْن، وكذلك فيها طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿69﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿70﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿71﴾ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿72﴾ وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿73﴾ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿74﴾ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿75﴾ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿76﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿69﴾" أيْ هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ أحَبَّت وتَمَنَّت مجموعة من أهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ، ومَن تَشَبَّهَ بهم، لو تَمَكّنوا بكل ما يستطيعون من وسائل أن يُضِلّوكم أيْ يُضيعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها.. وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها إذ هم لم يُؤْمَرُوا بذلك حتماً فى كتبهم بل هي تَمنعهم من هذا الخُلُق القَبِيح.. والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد ﷺ والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿69﴾" أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم ﴿ برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية ﴿54﴾ من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿69﴾" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿70﴾" أيْ يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – لماذا تُكَذّبون بآيات الله سواء أكانت آياتٍ أيْ معجزات في كل مخلوقات الكوْن حولكم أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وتعانِدون وتستكبرون وتستهزؤن وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، وأنتم تشهدون أيْ تعلمون تماما بداخل عقولكم علماً مُؤَكّداً كعلم المُشاهَدَة بالعين أنها الصدق فهي يَقْبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)؟! بل أنتم تَشهدون بصِدْقِها فيما بينكم ويُسِرّ بذلك بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات ولكنكم تُخْفون ذلك!!.. إنَّ هذا العلم المُؤَكّد بأنَّ هذه الآيات هي الحقّ من المُفْتَرَض أنْ يَقود أيّ عاقلٍ لأنْ يُسارِع بأنْ يؤمن بها لا أن يكفر!! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بدلا أن يتعس فيهما
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿71﴾" أيْ وبعد أنْ ذمَّهم وحَذّرَهم تعالي علي كفرهم بآيات بالله ذمّهم وحَذّرهم أن يعملوا لإضلال غيرهم.. أيْ يا أهل الكتاب لماذا تَخْلِطون الحقّ الذي هو في القرآن والإسلام المُنَزّل من عند الله تعالي بالكذب الذي تَدَّعُونه من تحريفٍ وتزييفٍ للحقائق فتقولون بعض الحقيقة ليست كاملة وتخلطونها بكثير من الأكاذيب كأنْ تَدَّعُوا مثلا كذباً وزُورَاً أنَّ بعض آيات القرآن ليست من عند الله أو أنَّ الرسول محمد ﷺ ليس صادقاً في كل ما يقول أو خَالَف بعض ما في التوراة والإنجيل أو ما شابه هذا من تخاريف لا يقبلها العقل المُنْصِف العادل.. وكذلك لماذا تكتمون الصدق فتُخفونه تماما وليس مجرّد خَلْطه بكذب.. فالسؤال الأول هو عن التغيير والخَلْط، والسؤال الثانى عن الكِتْمان والإخفاء.. ".. وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿71﴾" أيْ وأنتم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث أنتم تعلمون تمام العلم أنكم كاذبون مُدَّعُون تقومون بتلبيس الحقّ بالباطل أو بكتمانه، وكذلك تعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب إضلالهم وإبعادهم عن الإسلام وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلكم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابكم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموما تحذيرا شديدا من خَلْط الصدق بالكذب والخير بالشرّ أو كتمانه رغم وضوحه والعلم به في كل شأنٍ من شئون الحياة المختلفة لأنه من أهم أسباب تعاسة البَشَر حيث تختلط الأمور ولا يُعْلَم أين الصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة فتضيع الحقوق وتنتشر المظالم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
ومعني "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿72﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض الوسائل الخَبيثة يَفْضَحها ويَكشفها الله تعالي في هذه الآية الكريمة ليَتَنَبَّه إليها المسلمون والتي يقوم بها أهل الكتاب وغيرهم ومَن تَشَبَّه بهم لمحاولة الإساءة للإسلام والمسلمين، وهي أنَّ بعضهم كان يُظْهِر الإيمان لفترةٍ من الزمن ليُحْسِنَ الظنّ بهم ويَثِق فيهم مَن ليس خبيراً بأساليب خِدَاعهم حتى إذا اطمأنّ الناس إليهم أظهروا كفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه ليُوهِمُوا بذلك الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم أنهم لم يرجعوا عن الإسلام إلا بعد أن دَخلوه وبَحثوا بكل أمانةٍ عن الحقيقة فوجدوه واقعياً عملياً وليس نظرياً عن بُعْدٍ لا يَصْلُح – في ادِّعائهم – أن يكون دِينَاً يُلْتَزَم بأخلاقه ويُدير كل شئون الحياة ليُسعدها فعادوا لدينهم الصحيح!! إنهم يريدون بذلك التشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. أيْ وقالت مجموعة من أهل الكتاب فيما بينهم أظْهِرُوا تصديقكم بالقرآن والإسلام الذي أُنْزِلَ علي الذين صَدَّقُوا به وأَعْلِنُوا اتّباعكم له أول النهار لفترةٍ ثم كَذّبوا به في آخره لعلهم يَتَشَكّكون في إسلامهم فيَرْجِعُون عنه إلي ديننا أو إلي غير دينٍ لأنه لو كان صحيحاً لَمَا خرجنا منه ونحن أهل كتابٍ وعلمٍ وثِقَة!!.. هذا، وقولهم "لعَلّهم" يُفيد تَشَكّكهم هم في إمكان أنْ يترك مسلمٌ إسلامه، حتي ولو ابتعد عن بعض أخلاقه أحيانا، لأنَّ مَن ذاقَ طَعْم الحقّ واطمأنّ وسَعِدَ به تمام الاطمئنان والسعادة الحقيقية من الصعب والنادر أن يُفَرَّط فيه ويتركه للتعاسة، وسيُعينه ربه علي ذلك حتما، إلا إذا فَقَدَ عقله!!
ومعني "وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ وأيضا يقول بعضهم لبعض ويَتَوَاصون فيما بينهم لا تُصَدِّقوا أحداً وتَستجيبوا له وتُطيعوه وتَتّبعوه علي دينه إلا مَن كان اتّبَعَ ووَافَقَ دينكم مِن اليهود، وهذا محاولة منهم لإبعاد أنفسهم وغيرهم عن الإسلام وقبوله واتّباعه، أيْ لا تُصَدِّقوا المسلمين فيما يقولونه لكم داعِين إيّاكم لله وللإسلام.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنْ لا تَعترفوا بأيِّ حقّ يُوجَد في الإسلام إلا سِرَّاً فيما بينكم لمَن اتّبَع دينكم، ولا تؤمنوا إيماناً بحَقّ وبصِدْقٍ وبجدٍّ وعن تصديقِ عقلٍ إلا لأهل دينكم لكنَّ محمداً والمسلمين الذين لم يَتّبِعوا دينكم فلا تُؤمنوا لهم وتَتّبعوا إسلامهم، ولا تُصَدِّقوا أحداً وتَأْمَنُوه وتَكْشِفوا له سِرَّ خدْعَتنا – التي ذُكِرَت في الآية السابقة من الإيمان وَجْه النهار والكفر آخره – إلا لمَن هو مِثْلكم.. ".. قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إنَّ الإرشاد الحقيقي الذي ليس بعده أيّ إرشادٍ أكمل وأعظم وأفضل وأصْوَب وأصْلَح منه حيث يُرْشِد لكل ما يُصلح ويُكمل ويُسعد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وكلَّ مَن يَعمل به كله سيُحَقّق قطعاً ذلك، هو حتما بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ إرشاد الله في دينه الإسلام، وليس ما يَدَّعِيه أمثال هؤلاء المُكَذّبين من تعاليم مَكْذُوبَة مُحَرَّفَة مُخَالِفَة لهُدَيَ الله تعالي يَسترشدون بها هي الهُدَيَ بالقطع بل هي الهَوَيَ المُؤَكّد أيْ الشرّ والفساد والضرَر والتعاسة في الداريْن!!.. ".. أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.." أيْ ولا تُؤمنوا إلا لمَن تَبِعَ دينكم ولا تُؤمنوا أيْ لا تُصَدِّقوا أيها اليهود أن يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أُعْطِيتم من العلم والكتاب وهو التوراة والحِكْمة والمُعجزات كشَقّ البحر ونجاتكم من فرعون وغرقه وجنوده فيه وغير ذلك من تكريم الله لكم، ولا تُصَدِّقوا أيضا أنَّ المسلمين بإمكانهم أنْ يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم عند ربكم في الآخرة – ولا في الدنيا – علي أنكم كنتم خاطئين فيَغلبوكم، لأنكم أصَحّ وأفضل ديناً منهم!!.. وكذلك من المعاني ولا تُؤمنوا إلا لمَن تَبِع دينكم فلا تُصَدِّقوا المسلمين وتَعترفوا بأنهم علي حقّ أنْ يُؤْتَيَ وتعني حتي لا يُؤْتَيَ أيْ لا يُعْطَيَ أحدٌ من الناس – أيْ المسلمين – مثلما أُعْطِيتم من العلم لأنه باعترافكم هذا قد خسرتم مكانتكم أنكم أعلم وأعلي منهم ومنافعكم بسببها وكذلك سيُمْكِنهم أن يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم فيَغلبوكم عند ربكم يوم القيامة وفي الدنيا حتماً أمام الناس فيُسْلِمون لأنكم اعترفتم بأنهم هم الذين علي الحقّ.. وفي هذا استعلاءٌ لهم علي المسلمين وأنَّ دين اليهودية رغم تحريفاتهم وتخريفاتهم فيه أفضل من الإسلام فلا تَتركوه أيها اليهود وتُسلموا بل استمرّوا وأَصِرُّوا علي ما أنتم عليه فأنتم الأعلي في الداريْن!!.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ الهُدَيَ هُدَيَ الله فلا تُنْكِروا أيها اليهود أنْ يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أُعْطِيتُم فقد أُعْطِيتُم التوراة التي كانت فيها إسلام يُناسب عصرها ثم أُعْطِي المسلمون الإسلام المناسب لِمَا بعدها مِن أزمنةٍ حتي يوم القيامة في القرآن فأسْلِموا إذَن.. وأيضا من المعاني أنْ قل لهم كذلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم على سبيل الذمّ والتّسْفِيه لعقولهم هل الخوف من أن يُؤْتَىَ أحدٌ مثل ما أوتيتم من الكتاب أو أن يُحاوركم المسلمون عند ربكم يوم القيامة فيَغلبوكم حيث آمنوا بالحقّ وأنتم كفرتم به يَدْفعكم لأنْ تقولوا هذه الأقوال السيئة وتفعلوا هذه الأفعال الخبيثة؟!.. إنَّ هذا لن يحميكم بالقطع من عذابه تعالي في الداريْن!! لا شَكّ أنَّ الذي دَفَعكم لهذا هو أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وكذلك من المعاني قل إنَّ الهُدي هُدي الله ولن يُعْطَيَ أحدٌ مثل ما أعطيتم أيها المسلمون من القرآن العظيم وما فيه من دينِ الإسلام الذي يُناسب كلّ عصرٍ حتي نهاية الحياة لِمَا فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حيث ينظمها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وكذلك ما أُعْطِيَ أحدٌ غيركم مثل ما أعطيتم يا مسلمين من الدين والحجّة حتى يُمكنهم أنْ يُحاجّوكم أيْ يُجادلوكم ويَغلبوكم عند ربكم يوم القيامة – ولا في الدنيا حتما – أنكم لستم علي صوابٍ في كل شئون حياتكم لأنكم علي أَصَحّ وأكملِ دين، دين الإسلام.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة من المُمْكِن أن يكون خاصَّاً بأهل الكتاب أو للمسلمين تثبيتاً وتشجيعاً لهم علي إسلامهم أو لهما معا.. ".. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ كل الفضل من خيرٍ وعطاءٍ بيَدِ الله يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعطي نِعَمه مَن يشاؤها ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها.. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ والله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿74﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد للآية السابقة.. أي هو وحده سبحانه يَختصّ برحمته أيْ يَخصّ بصفةٍ خاصَّةٍ وعلي وجه الخصوص دون الآخرين ويُعطِي ويُفْرِد ويُقْصِر خيره بكل أنواعه علي مَن يشاء مِن خَلْقه وليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أىّ تأثيرٍ فى ذلك، فهو لا يَقدر علي مَنْع أيّ شيءٍ أراد إعطاءه لخَلْقه وله ولغيره ولا علي إعطاء أيّ شيءٍ أراد مَنْعه، وكل خيرٍ وعطاءٍ بيده يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعْطِي نِعَمه مَن يشاؤها مِن خَلْقه ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها.. ".. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿74﴾" أيْ وهذا الذي يَتَفَضَّل به علي خَلْقه هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم أي العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك.. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ علي خلقه من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل).. وفي الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿75﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض الصفات السَّيِّئة لبعض أهل الكتاب – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة – لكي يَحْذرها المسلمون عند التعامُل معهم في شئون حياتهم.. أيْ وأيضا مِن أهل الكتاب فريقٌ إنْ تَأتمنه على قنطارٍ أيْ كثيرٍ مِن مالٍ أو غيره أيْ وَضَعته عنده كأمَانَةٍ في أمَانِهِ ليَحفظه ولا يُضيعه يَرُدّه ويُعطيه إليك عند طَلَبه كاملاً وافِيَاً غير منقوصٍ بلا خِيانةٍ فهو في غاية الأمانة، ومنهم فريق آخر في غاية الخيانة إنْ تأتمنه على قليلٍ وحقيرٍ من مالٍ أو أيِّ شيءٍ لا يُعطيك إيَّاه إلا إذا دَاوَمْتَ على القيام بالمُطالَبَة به واستعملتَ كل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة للحصول عليه.. إنّ في الآية الكريمة تذكرة للمسلمين بأداء الأمانات إلي أصحابها، صغرت أم كبرت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات .. إنه بانتشار الوفاء بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة أيْ عدم الوفاء والغَدْر في أيِّ شيءٍ مادِّيٍّ أو مَعْنَوِيٍّ يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.." أيْ ذلك الامتناع عن أداء الأمانات من الفريق الخائن منهم سببه أنهم يقولون كذباً وزُورَاً أنه في ديننا الذي أوْصانا الله به ليس علينا في الأُمِّيِّين سبيل أيْ لا لَوْم وعِتَاب وتَبِعَة وذنب علينا في اسْتِحْلال ونَهْب حقوق وخيانة الأمّيين ويَقصدون بهم كل مَن ليس علي دينهم حيث يعتبرونه أمِّيَّاً جاهلاً مُتَخَلّفاً ليس له حقّ مثل حقوقهم تَعَالِيَاً وتَكَبُّرَاً علي الناس وظلماً لهم.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين بخُلُق التّوَاضُع بأن يحترموا الآخرين ولا يَتَعَالوا عليهم ويعلموا أنَّ لهم من العقول والمشاعر والخبرات ما هو مثلهم أو يفوقهم، فهذا سيجعلهم يستمعون لهم ويستفيدون بخبراتهم ويُؤَدّون حقوقهم إليهم، وبانتشار التواضع والاحترام المُتَبَادَل سيَرْبَح الجميع ويَسعدون في الداريْن بينما بغيابه سيخسرون ويتعسون فيهما حيث ستنتشر بينهم بكل تأكيد الأحقاد والمُشاحَنات والخلافات والانتقامات وغيرها.. ".. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.." أيْ ويَدَّعُون علي الله الكذب أنه هو الذي أوْصَاهم في كُتبهم بوَحْيٍ منه بأنه ليس عليهم في الأُمِّيِّين سبيل!!.. إنه كذبٌ صريحٌ لأنه مخالفٌ لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حيث الله تعالي حتماً لا يَأمر مُطلقا في كتبه بخيانةٍ أو ظلمٍ وإنما بأخلاق الإسلام التي تُصْلِح الناس وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها.. ".. وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿75﴾" أيْ وهم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث هم يعلمون تمام العلم أنهم كاذبون مُدَّعُون يقولون علي الله تعالي الكذب، وكذلك يعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب عدم أداء الأمانات وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فهم مِن ذوى العلم ليسوا جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلهم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلهم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابهم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموما تحذيراً شديداً من خيانة الأمانة حيث تضيع الحقوق وتنتشر المَظالِم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
ومعني "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿76﴾" أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما يَدَّعِي أمثال هؤلاء كذباً وزُورَاً أنه ليس عليهم في الأُمِّيِّين سبيل، بل عليهم فيهم سبيل، وأنهم مُعَذّبون بسبب عدم إسلامهم واسْتِحْلالهم لممتلكات غيرهم بغير حقّ، وأنّه مَن أوْفَيَ بعهده واتّقَيَ فإنَّ الله يحبّ المُتّقين أيْ مَن التزم بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فنَفّذها تامَّة ولم يُخْلفها، مع الله ومع رسله الكرام وآخرهم محمد ﷺ بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم – وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما – واتَّقَيَ أيْ وخافَ الله ورَاقَبَه وأطاعه وجَعَلَ بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دَوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، فإنَّ الله حتماً يحب هؤلاء المتقين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس والخَلْق، فقد اسْتَحَقّوا بوفائهم وبتقواهم حُبَّه، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُتّقين
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿78﴾ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿79﴾ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿80﴾ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴿81﴾ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴿82﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾" أيْ إنَّ الذين يَتركون ويَبيعون عَهْد الله وأيْمَانهم ليأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فالذين يَفعلون ذلك هم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. والمقصود بأنهم يَبيعون عهد الله أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. والمقصود بكلمة ".. وَأَيْمَانِهِمْ.." أيْ ويَتركون ويَبيعون أيْمَانهم التي أقسموا بها على الوفاء بما وَعَدُوا به فلا يُوفون بهذه الأيْمَان بل وأحيانا يَحْلِفون كذباً ليُؤَكّدوا ما يريدون تأكيده من أقوالٍ أو أفعال.. ".. أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين ليس لهم في الآخرة أيّ خَلَاق أيْ نصيب في الجنة ونعيمها الذي لا يُوصَف.. إضافة قطعا إلي ما لهم من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِهم عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ.." أيْ ويُهْمِلهم فلا يُكَلّمهم بأيِّ كلامٍ يوم القيامة بما يدلّ علي شدّة غضبه تعالي عليهم، أو لا يُكَلّمهم كلاماً مُطَمْئِنَاً مُسْعِدَاً بل يُكَلّمهم بما يُخِيفهم ويُهِينهم ويتعسهم.. ".. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ وكذلك لا ينظر إليهم يومها نظرة رحمةٍ وعطفٍ ورعايةٍ وإحسانٍ وإنعامٍ بل يُعْرِض عنهم فلا يَلْتَفِت إليهم غَضَبَاً عليهم وإهانة لهم.. ".. وَلا يُزَكِّيهِمْ.." أيْ ومن شدة غضبه عليهم أيضا أنه لا يُطَهِّرهم من ذنوبهم بمغفرتها، فهو لا يَرحمهم.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾" أيْ وسيكون لهم في انتظارهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿78﴾" أيْ وإنَّ مِن هؤلاء المَذكورين المَوْصُوفين بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم فريقاً يُحَرِّفون بألسنتهم في الكتاب، في كلام الله، أيْ يُغَيِّرون ويَتَلاَعَبون في ألفاظه ومعانيه وتفسيره وتطبيقه مِن بعد ما عَقَلوه أيْ فَهِموه وعَلِموه تماما فهم لم يُحَرِّفوه لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُحَرِّفونه عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم وهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ كتبه المُنَزَّلَة لا يجوز تغيير أيّ حرفٍ منها وأنه حافظها بحِفْظه وبالمؤمنين المتمسّكين العامِلين بها وأنهم مُحَرِّفون مُجْرِمُون كاذِبون مُزَوِّرُون وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم؟!.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَتَشَبَّه بهم حتما أحدٌ من المسلمين.. ".. لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ.." أيْ لتَتَوَهَّمُوا أيها السامعون أنَّ هذا اللّيّ والتحريف في المعاني هو من الكتاب المُنَزَّل إليكم وما هو منه في شيءٍ فهو ليس مُطلقاً من كلامه سبحانه وما يُريده.. ".. وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.." أيْ ولا يَكتفون بهذا التحريف بل وَصَلُوا إلي درجةٍ من الجرأة علي الله تعالي والسوء والوَقاحَة أنهم يقولون ويَدَّعُون أنَّ هذا المُحَرَّف هو نَزَلَ من عند الله هكذا لم نَزِد فيه أو ننْقص منه حرفاً واحداً، والحقّ أنه ليس من عند الله أبداً ولكنهم يقولون على الله الكذب التامّ الصريح الواضح المَفْضُوح.. ".. وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿78﴾" أيْ وهم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث هم يعلمون تمام العلم أنهم كاذبون مُدَّعُون يقولون علي الله تعالي الكذب، وكذلك يعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب هذا الفِعْل الشنيع وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فهم مِن ذوى العلم ليسوا جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فِعْلهم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالِمٍ مثلهم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابهم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموماً تحذيراً شديداً من مِثْل ذلك وإلا تَعِسُوا في الدنيا والآخرة
ومعني "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿79﴾" أيْ هذا رَدٌّ على بعض الجُهَلاء الذين يَدَّعُون جَهْلاً وسَفَهَاً أو كذباً وزُورَاً أنَّ بعض النَّبِيِّين قد طَلَبَ من الناس أن يعبدوه هو من غير الله تعالي كما ادَّعَيَ البعض علي عيسي ﷺ!!.. أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لإنسانٍ أن يُعْطيه الله ويُوحِي إليه الكتاب الذي فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسِبَة لعَصْرِه لكي تُصلح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه، ويُعطيه أيضا الحُكْم أيْ المُلْك والفقه والفهم والعلم للأحكام حتى يتمكّن من القضاء العادل الصائب بين الناس وإدارة كل شئونهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ويُعطيه كذلك النّبُوَّة ويُكرمه بها بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إليهم لينال شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو كونوا عباداً لي من دون الله!!.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مؤمنٍ لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا السَّفَه والتخريف فهل من المُمْكِن أن يقوله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. ".. وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ.." أيْ ولكنْ الذى يُعْقَل أن يَطْلب منهم ويقول لهم كونوا ربَّانِيِّين أيْ مُنْتَسِبين لربكم مُرْتَبِطِين به متمسّكين عامِلِين بكل ما وَصَّاكم به من أخلاق إسلامكم مُرَبِّين لذواتكم ولغيركم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك لتسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿79﴾" أيْ بسبب أنكم كنتم تُعَلّمون غيركم الكتاب الذي بَلّغه رسلكم إليكم وبسبب أنكم كنتم تَدْرُسُون إيَّاه وتَتَعَلّمونه وتعملون بأخلاقه كلها، أيْ بهذا تكونوا ربَّانِيِّين
ومعني "وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿80﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، أيْ ولا يُمكن أبداً أن يقول لكم كونوا عباداً لي من دون الله وأيضا لا يُمكن مُطلقا أن يأمركم ويطلب منكم أن تجعلوا الملائكة والنبيين وغيرهم أربابا – جَمْع ربّ – تعبدونهم غير الله تعالي أيْ تطيعونهم فيما يُخالِف وَصَايَاه في الإسلام أو أن تَتّبعوا أحداً في تحليل شيءٍ أو تحريمه إلا فيما أحَلّه أو حَرَّمه سبحانه، لأنه مَن أطاع غيره في كل ما يأمر به دون أيِّ تمييزٍ منه بعقله بين ما هو حلال أيْ خَيْرِيّ مُفيد مُسْعِد له وللآخرين وبين ما هو حرام أيْ شرّ مُضِرّ مُتْعِس للجميع فقد اتّخذه رَبَّاً له من دون الله تعالي وتَعِسَ في دنياه وأخراه مُقابِل ما يفعله من شرور ومَفاسد وأضرار، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿80﴾" أيْ هل يُعْقَل أو يُتَصَوَّر أن يأمركم بالكفر أيْ بالتكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبالعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، وذلك بعد أنْ صِرْتُم مسلمين أيْ مُسْتَسْلِمِين لوَصَايَا الله وتشريعاته أيْ متمسّكين عاملين بكلّ أخلاق إسلامكم في كل شئون حياتكم ثابتين دائما عليها؟!!.. إنَّ أيَّ بَشَرٍ مؤمنٍ لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا السَّفَه والتخريف فهل من المُمْكِن أن يقوله نَبِيٌّ لم يَخْتَرْه تعالي إلا لكمال عقله وخُلُقه؟!!.. والاستفهام هو لنَفْي ذلك نَفْيَاً قطعيَّاً بأيِّ صورةٍ من الصور ولتأكيد استحالة حدوثه
ومعني "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴿81﴾" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذ الله ميثاق النبيين الذين أرسلهم للناس وأوْحَيَ إليهم كتبه التي فيها الإسلام ليُعَلّموه لهم، أيْ أخذ منهم عَهْدهم ووَعْدهم المُؤَكَّد، أنه مَهْمَا أعطيتكم وأوْحَيْت إليكم من كتابٍ فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسِبَة لعَصْرِكم لكي تُصلح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها كلها، ومهما أعطيتكم أيضا مِن حِكْمَةٍ أيْ إصابةٍ في الأمور كلها وعلمٍ نافعٍ مصحوبٍ بعملٍ علي أرض الواقع وحِكَمٍ مُسْعِدَةٍ تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، ثم حَضَر إليكم أثناء حياتكم – وحتي بعد مَمَاتكم فأوْصُوا بذلك المسلمين المُتّبِعين لكم – رسولٌ من عندي مُصَدِّقٌ لِمَا معكم من كتبكم أيْ مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرها واحد وهو الله تعالي وكلها تدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فعليكم حتما أيها الأنبياء ومَن اتّبَعكم مِن المسلمين أن تؤمنوا به أيْ تُصَدِّقوه وأن تنصروه بعوْنه علي نشر دعوته بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبالدفاع عنه وعنها بكل ما تملكون.. وفي هذا إرشادٌ للرسل في كل زمنٍ أن يؤمن بعضهم ببعضٍ وينصره سواء أدركه في عصره أم لم يدركه وأن يُوصُوا بذلك أتْبَاعهم المسلمين الذين أسلموا معهم بأن يؤمنوا بكل رسولٍ يأتيهم من عند الله وأن يستمرّوا علي ذلك ويُسَلّم بعضهم بعضاً هذا الميثاق العظيم إلي أنْ يُؤمنوا بخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ويُسْلِمُوا معه حتي نهاية الحياة وبذلك لا يَتيهون ويَتعسون في الداريْن بل يسعدون فيهما تمام السعادة، فإنْ لم يؤمنوا، كاليهود والنصاري مثلا الذين حَضَروا الرسول ﷺ ولم يُسلموا، فقد تَعِسُوا فيهما.. إنَّ الله تعالي يُبَيِّن ضِمْنَاً في هذا الجزء من الآية الكريمة أنه لا يَترك الناس يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويَفْسَدون فيَتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل هو معهم دائما حتما بعِلْمه وبقُدْرته منذ خلق آدم وحتي يوم القيامة بسبب عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وذلك بأن يعطيهم هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وهو دين الإسلام.. ".. قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ.." أيْ قال لهم الله تعالي هل وافقتم علي ذلك وقَرَّرتم بتصميمٍ وإصرارٍ الالتزام به وتنفيذه؟!.. ".. وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي.." أي وهل قَبِلْتم إصْرِي أيْ عَهْدِي ووَعْدِي الشديد العظيم الهامّ بيني وبينكم علي كل ذلك الذي ذُكِرَ لكم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للتأكيد عليهم.. ".. قَالُوا أَقْرَرْنَا.." أيْ قالوا وافَقْنا علي ذلك وقَبِلْنا ورضينا والتزمنا وأطعنا ياربنا, فالأمر لسعادتنا.. ".. قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴿81﴾" أيْ قال لهم الله تعالي فَلْيَشْهَد إذَن بعضكم على بعض بهذا الإقرار، وأنا معكم من الشاهدين المُشاهِدِين الحاضرين بعلمي وقُدْرتي على إقراركم وإشهاد بعضكم على بعض.. وأيّ شهادةٍ وحضورٍ أعظم وأوْثَق وأصْدَق من شهادة الخالق العظيم الرحيم الحكيم العليم سبحانه؟!!.. وفي هذا مزيدٌ من التوكيد والتوثيق التامّ عليهم والتحذير الشديد من الإخلاف وعدم الوفاء والتنفيذ ومزيدٌ من التنبيه علي عِظَم الأمر للاهتمام بهذه الأمانة، بهذه النعمة العظيمة، بهذا الإسلام، وحفظها وتسليمها جيلاً بعد جِيلٍ حتي قيام الساعة وأنْ يشهد بعضهم علي بعض بتَسَلّمها ويُقِرّ ويَعترف بهذا، وذلك للسعادة بها في الداريْن، وعدم التفريط فيها، والا كانت التعاسة للجميع فيهما بدونها
ومعني "فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴿82﴾" أيْ فمَن تَوَلّيَ عن طاعة الله بعد ذلك الميثاق المُؤَكَّد أيْ العهد والوعد المُوَثّق بأشدّ التوثيق والشهود أيْ أعْرَضَ أيْ أعطيَ ظهره والتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ عن أخلاق الإسلام وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوم نشرها وآذَيَ مَن يَتّبعها، فهؤلاء المُتَوَلّوُن حتما هم الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. فكونوا إذَن جميعا أيها الناس من المُهْتَدِين الصالحين المتمسّكين بالميثاق لا من الضالّين الفاسقين المُخَالِفين له المُفَرِّطِين فيه لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿83﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿83﴾" أيْ هل يُريدون ويَطلبون هؤلاء الفاسقون دِينَاً غير دين الله وهو الإسلام والذي هو أحسن نظامٍ يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد الناس جميعا علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وفكرهم وبيئاتهم بكل مُتَغَيِّراتهم إلي يوم القيامة تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه؟!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن بدلا أن يتعس فيهما.. ".. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿83﴾" أيْ مع أنَّ جميع مَن في الكوْن قد اسْتَسْلَمَ وانْقادَ وخَضَعَ لإرادة الله تعالي وحده لا لغيره في مُلْكِه سواء أكان راضياً أم كارها، وكل المخلوقات راضية بأن يكون الله سبحانه الذي هو خالقها ومُرَبِّيها ورازقها ومُعِينها وراعيها ومُرْشدها لكلّ خيرٍ ونفعٍ الغفور الرحيم الودود الكريم المُجيب هو المَلَك عليها يُدير شئونها علي أكمل وجه، إلا فقط وحدهم الكافرون والمشركون ومَن شابههم، يَكرهون ذلك ويَسيرون مُتَخَبِّطِين مُتْعَبِين تُعَسَاء عَكْسه، لأنهم يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ومع ذلك فهم أيضا في كثير من أمورهم مسلمون كَرْهَاً أيْ مُسْتَسْلِمُون مُنْقادون خاضِعون لحُكْمه ولأمره رغم أنوفهم!! في طول الأجل أو قِصَره وفي نوعيتهم وذُرِّيَّاتهم كذكرٍ أو أنثي وفي قانون الأسباب والنتائج حيث قد يتّخذون أحيانا أسبابا ويمنع خالقهم عنهم نتائجها وفي أسباب الرزق من مطرٍ وضوءٍ وهواء وإخراجٍ لزروعٍ وثمارٍ وغيرها وفي حركة الأرض وتناوُب الليل والنهار والشتاء والصيف ونمو خلايا أجسامهم ودَوَابّهم وصحتهم ومرضهم وموت أحبابهم وما شابه هذا من شئون الحياة المختلفة.. لقد رضي المسلمون بربهم وبإسلامهم وتمسّكوا بكل أخلاقه لتأكّدهم التامّ بأنَّ كل هذا هو مصدر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم وهم قد اختاروا هذا طَوْعَاً أيْ اختيارياً بلا أيِّ إكراهٍ أيْ راضِين بكامل حرية إرادة عقولهم وقد شاء الله لهم هذا الاختيار الحرّ حين خلقهم، وبالتالي فالكارهون لله وللإسلام ولا يتّبعونه من الكافرين والمشركين وأشباههم، هم أيضا بصورةٍ غير مباشرةٍ رغم أنفهم تحت مشيئة الله وإرادته في مُلْكِه والتي شاءت أن يكون الإنسان بعقله حُرَّاً في اختيار ما يريد وشاءت أن تكون فطرته بداخل عقله مسلمة!! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنْ اختار الخير فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإنْ اختار الشرّ فله كل الشرّ والتعاسة فيهما ﴿للمزيد من الشرح والتفصيل عن علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام، برجاء مراجعة الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران﴾.. وكذلك هو حال المنافق حيث يُظْهِر أنه أسْلَمَ له سبحانه رغم عدم رغبته في الإسلام وكفره به فهذا مِمَّن أسلمَ كرْهَاً أيْ وهو كارِه لكي يتمكّن من التعامُل مع المسلمين أو العيش بينهم فينتفع بخيراتهم أو يحاول الكَيْد لهم لإضعافهم.. هذا، ومن معاني " طَوْعَاً وكَرْهَاً" أيضا أنَّ فيها تَنْبيهاً ضِمْنِيَّاً من الله تعالي للبَشَر، حتي المسلمين منهم، أنهم سَتَمُرّ عليهم أحيانا مواقف يكرهونها ولا يُحبونها فعليهم أن يُحسنوا التعامُل معها كما عَلّمهم إسلامهم ليَخرجوا مُستفيدين من خبراتها، أمّا غير المسلم فسيكون غالبا في غَفْلة ولا يُحسن التّصَرُّف والاستفادة!.. ".. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿83﴾" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره يكون المسلمون دائما في كل أحوالهم في كل شئون حياتهم راجِعين إليه أيْ يجعلون دوْما مَرْجِعِيَّتهم هي الله ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويكونون دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل عنهم سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتهم بتعاسة هذا الخطأ.. ثم جميع الناس سيُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يبعثهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم، وهو أعلم بهم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنَّ اتّباعكم للإسلام طَوْعَاً أيْ اختياريَّاً سيجعلكم تحيون حياتكم بكل سَلاسَة وسعادة لأنها ستكون مُتَوَافِقَة مُنْسَجِمَة مع فطرتكم بداخل عقولكم والتي هي مسلمة أصلا ومع كل الكوْن حولكم والذي هو أيضا مسلم أيْ مُسْتَسْلِم لنظام الله والذي لا يمكن الانتفاع والسعادة به إلا بنظام الله الذي هو الإسلام بينما إذا لم تَختروه واخترتم نُظُمَاً أخري مُخَالِفَة له اصطدمتم بفطرتكم وأُصِبْتُم بالقلق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع واصطدمتم مع الكوْن وأسأتم التعامُل معه ولم تَنتفعوا به وستَسِير عليكم قوانينه رَغْمَاً عنكم مُكْرَهِين فتتعسون بكل ذلك في دنياكم ثم أخراكم
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿84﴾ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴿85﴾ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿86﴾ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿87﴾ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿88﴾ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿89﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ ﴿90﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿91﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿84﴾" أيْ اعْمَلُوا أيها المسلمون بخُلُقٍ هامٍّ من أخلاق الإسلام وهو خُلُقِ الإنصاف والعدل بحيث أنه عندما يُحاوِركم أهل الكتاب وهم اليهود والنصاري أو غيرهم من غير المسلمين عموماً ويَذكرون لكم ما يُوافِق الإسلام فاقبلوه وما ينحرف عنه فارفضوه، وقولوا لهم وذَكّروهم علي سبيل الدعوة والإرشاد لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن أنكم تؤمنون أيْ تُصَدِّقون بالله وحده خالِق الخَلْق كله وبكل ما أُنْزِلَ إليكم في القرآن العظيم وبكل ما في الكتب السماوية التي أُنْزِلَت قبله مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد مثل ما أُوحِيَ إلى الرسل الكرام إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم الأحفاد ليعقوب – جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – والتوراة غير المُحَرَّفة التي آتاها أيْ أعطاها الله موسى ﷺ بوَحْيِها إليه والإنجيل غير المُحَرَّف الذي آتاه عيسي ﷺ، وما أُعْطِيَ جميع الرسل من ربهم، لا تُفَرِّقون بين أحدٍ منهم فتُكَذّبون ببعضهم وتُصَدِّقون بالبعض الآخر كما يفعلون هم حيث كَذّبوا بالرسول الكريم محمد ﷺ والقرآن الذي أُوحِيَ إليه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة، وأنكم له مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمُون لربكم ولنظام الإسلام والذي هو من عنده، لأنَّ ذلك هو مصدر سعادتكم، ولقد كان من المُفْتَرَض أن يكونوا هم أيضا كذلك فيؤمنوا بالله وبرسوله ﷺ وبالقرآن لأنَّ أهل الكتاب يعلمون بوجود الله ويعلمون الرسل والكتب السماوية ولا يُشركون مع الله آلهة أخري فيَعبدون مثلا حَجَراً أو صَنَمَاً أو نِجْمَاً أو غيره، وحتي ما يقوله البعض عن أنَّ المسيح ابن الله أو حتي هو الله يُمكِن تصحيحه لأصحاب العقول المُنْصفة العادِلَة! وقد عادَ بالفعل كثيرون منهم عن ذلك بالمناقشة بالتي هي أحسن وأسْلَموا كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا، فلماذا إذَن لا يُؤمن كثير منهم بالرسول محمد ﷺ وهو الذي قد نَبَّأَت به كُتُبهم وبالقرآن وبالإسلام ليَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟! وعلي ماذا الخلاف إذَن؟!! ولماذا لا يؤمن غير المسلمين عموماً سواء أكانوا أهل كتابٍ أم لا بالقرآن والإسلام الذي يقبله كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا؟! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم إنْ يَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، للحقّ وللخير وللسعادة، سيَسعدوا تمام السعادة في الداريْن، وإن استمرّوا علي ماهم فيه تعِسوا تمام التعاسة فيهما
ومعني "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴿85﴾" أيْ وكل مَن يَطلب ويَتّبِع في حياته دِينَاً – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون – غير دين الإسلام أيْ مُخَالِف لأخلاقه وتشريعاته وأنظمته ففَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات له ولغيره، فحتماً لن يَرْضَيَ الله منه ذلك أيْ لن يُعطيه من عطائه العظيم الذي لا يُحْصَيَ خيراً وسعادة في دنياه وأخراه لأنه لا يُعْطِي هذا إلا لمَن كان مسلماً أيْ اسْتَسْلِم لوَصَايَاه وتشريعاته تعالي أيْ تَمَسَّك وعمل بكلّ أخلاق إسلامه في كل شئون حياته وثَبَتَ دائما عليها فسَعِدَ وأسْعَدَ مَن حوله والكوَن كله كما يريد سبحانه لخَلْقه الذين ما خَلَقهم إلا ليسعدهم ولن يسعدوا تمام السعادة في الداريْن إلا بالإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم.. ثم هو في الآخرة من الخاسرين قطعاً بسبب ما فَعَلَه خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة بالقطع إلي خسران وفقدان دنياه فيتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة بسبب وعلي قَدْر بُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين
ومعني "كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿86﴾" أيْ كيف يُمْكِن – بل يُسْتَبْعَد – أن يُعين ويُوَفّق ويُيَسِّر ويُرْشِد الله للهداية له وللإسلام أُنَاسَاً كذّبوا بعد تصديقهم؟! كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، وذلك بعد أن شهدوا أيْ اعترفوا أنَّ الرسول وما جاءهم به من الإسلام في زمنهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وكتابه الذي أُوُحِيَ إليه وآخر هذه الكتب وهو القرآن العظيم هو صِدْق من عند الله، أي ارتَدّوا عن الإسلام بعد إيمانهم به وعملهم بأخلاقه بعدما ذاقوا سعاداته، أو شهدوا واعترفوا بداخل عقولهم بأنه حقّ لأنه يوافق فطرتهم المسلمة أصلا ولكنهم لم يسلموا كبعض اليهود والنصاري ومَن لا دين لهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، وأيضا كفروا بعد إيمانهم أو لم يؤمنوا بعد أن جاءهم البَيِّنات أيْ وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بهذا الكتاب أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يكفروا بعد إيمانهم أو لم يؤمنوا أصلا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يكفرون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوا الإسلام ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية، بما يدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه تعالي لا يُمْكِن ويُسْتَبْعَد أن يهديهم وهم مستمرّين علي هذه الحالة، فهو لا يهديهم إلا إذا استفاقوا وبدأوا بالعودة لعقولهم ولفطرتهم فحينها سيَهديهم، وذلك لأنَّ الحال والواقع أنه سبحانه ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿86﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿87﴾" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم عقابهم أنَّ عليهم حتما لعنة الله أيْ طَرْد وإبْعاد الله لهم من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ومِن شِدَّة غضب الله عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، يجعل الله اللعنة مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيّ مكانٍ إذ تلعنهم الملائكة والتي ستقوم في الآخرة بلَعْنِهم أيضا وبتعذيبهم في النار، ويلعنهم الناس بل الخَلْق جميعا وذلك كلما أصابهم ضَرَرٌ مَا بسبب سوئهم، أيْ يَدْعُون عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله في الداريْن، فاجتمعت عليهم لعنات الخالِق وكل خَلْقه
ومعني "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿88﴾" أيْ ماكِثين مُستمرّين في هذه اللعنة ثم في عذاب نار جهنم الشديدة التي لا تُوصَف بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منها أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. ".. وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿88﴾" أيْ وحين يَحلّ وقت العذاب الدنيويّ ثم الأخرويّ لا يُمْهَلون أيْ لا يُتْرَكون ولو للحظة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يشبههم لكي يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوَانِ ونزول العذاب.. وفيه أيضا – إذا ماتوا مُصِرِّين علي ما هم عليه – قطعٌ لهم لأيِّ أملٍ في تخفيفِ العذاب أو حتي بقاءه كما هو بغير زيادةٍ في مقداره أو تغييرٍ في نوعه، وهذا من علامات شِدّة غضب الله تعالي علي أمثالهم
ومعني "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿89﴾" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم مِن بعد ذلك الظلم الذي فعلوه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وأصلحوا أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿89﴾" أيْ فإنَّ الله بذلك يَقْبَل توبتهم ويعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيسْتُرهم ويُعِينهم ويُسعدهم، لأنَّ الله حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ ﴿90﴾" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بعد تصديقهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، وذلك بعد إيمانهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، ثم لم يكتفوا بذلك بل ازدادوا كفرا بهذه الرِّدَّة والرجوع عن الإسلام والتّحَلّل من أخلاقه تَمَثّلَ في مزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفساد والمُعاداة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والمقاومة لمَنْع نَشْره والإيذاء لمَن يَتّبعه والتشجيع له علي الارتداد عنه وما شابه هذا من علامات ازدياد سُوُئِهم.. ".. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.." أيْ لن يَقْبَلَ الله توبتهم حتماً وذلك إذا كانت التوبة غير صادقة أيْ كلاماً باللسان فقط لا يُصَدِّقها عَمَلٌ بأخلاق الإسلام أو كانت عند موتهم وخروج روحهم حيث قد ماتوا مُصِرِّين علي كفرهم، وما دامت غير مقبولة فهم بالتالي لن يُرْحَمُوا بل يُعَذّبوا ويُخَلّدوا في النار بما يُناسب شرورهم.. أمّا إنْ تابوا توبة صادقة وأَصْلَحوا أثناء حياتهم فإنها تكون مَقْبُولَة بالقطع كما ذُكِرَ في الآية السابقة.. ".. وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ ﴿90﴾" أيْ وهؤلاء حتما هم الضَّالّون أيْ المُنْغَمِسُون الغارِقون فى الضلال أي الضائعون البالِغون أعلي درجات الضياع السائرون في طريق التعاسة المُسْتَحِقّون لعذاب الله في الداريْن، لأنهم ابتعدوا عن طريق الإسلام فتعسوا تمام التعاسة فيهما بسبب اختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الطريق الذي هم فيه لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿91﴾" أيْ إنَّ المُصِرِّين علي كُفرهم من الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يتوبوا ويعودوا لربهم ويُسْلِموا واستمرّوا علي ذلك حتي ماتوا وهم كُفّار، فهؤلاء حتماً لن يَرْضَيَ ويَقْبَل ويَأخذ الله تعالي من أيِّ أحدٍ منهم يوم القيامة فِدْيَة ولو افْتَدَىَ بما يَملأ الأرض ذهباً، والفِدْيَة هي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما، فحتي ولو فُرِضَ واستطاع أحدهم يومها بالفِعْل أن يأتي بمِثْل هذا الفداء الهائل ليَفتدي به نفسه من عذاب الله فلن يُقْبَل منه، ولن يستطيع قطعاً لأنه لا مالَ وقتها، وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم في النجاة مِمَّا هم فيه.. ".. أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.." أيْ هؤلاء بالقطع سيكون لهم في انتظارهم حينها عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بالتأكيد بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿91﴾" أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا العذاب أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿92﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿92﴾" أيْ لا يُمكِن مُطلقا أيها المسلمون أن تَحصلوا علي البرّ أيْ الخير والسعادة من الله تعالي في الدنيا والآخرة، ولن تَحصلوا كذلك علي البرّ بمعني حُسن الخُلُق كما قال ﷺ "البِرّ حُسن الخُلُق.." ﴿جزء من حديث رواه مسلم﴾ – والإنفاق جزء من الأخلاق الحَسَنَة – وتكونوا أبراراً أيْ صالحين أصحاب أخلاقٍ حسنة، إلا إذا أنفقتم أيْ أعطيتم مِمَّا تحبّون، أيْ مع حُبّكم لهذا الذي تنفقونه وحاجتكم إليه ومع حبكم لله تعالي تريدون حبه وعَوْنه وتوفيقه وإسعاده لكم في الداريْن، مِمَّا رزقكم الله إياه، بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ، علي ذاتكم ومَن حولكم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق، مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقكم به عليكم من النِعَم، في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما تستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولكم بما يُسعد كل لحظات حياتكم أنتم ومَن حولكم وبما يجعل لكم أعظم الأجر في آخرتكم.. هذا، والإنفاق يكون بعضاً مِن مَا تُحِبّون وليس كله لأنه لفظ "مِن" يُفيد التبْعِيض أيْ البعض منه لا الكلّ، لأنَّ فطرة العقل فَطَرَها أيْ خَلَقَها خالِقها سبحانه علي حبّ كلّ نِعَم الحياة الحلال النافعة المُسْعِدَة من أموالٍ وأزواجٍ وبنين وعلومٍ وأعمالٍ وأطعمةٍ وأشْرِبَةٍ وألْبِسَةٍ وغيرها، فأيّ شيءٍ تنفقونه هو مِمَّا تُحِبُّون (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وكلّما ازددتم إنفاقاً كلما ازداد خيركم وخُلُقكم الحَسَن وكلما ازداد تعويض الله لكم بأعظم مِمَّا انفقتم وكلما أفاض عليكم نعيماً وخيراً وسعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿92﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ في كل وقت، وكذلك إزالة للوَهْم الذي قد يَتَوَهَّمه أحدٌ مُخْطِئَاً يائِسَاً أنَّ الإنفاق لا بُدَّ أن يكون شيئا مَحْبُوبَاً نَفِيسَاً قد لا يستطيعه.. أيْ وما تُعطوا مِن أيِّ شيءٍ من أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر سِرَّاً أو عَلَنَاً مُحَبَّبَاً للنفس أم لا في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي فإنّه حتماً عليم به فهو بكل شيءٍ عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه وسيعطيكم عليه أعظم العطاء علي حسب نواياكم ومنافعه حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عنده بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا