الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿93﴾" أيْ ليس السبيل مطلقاً علي السابق ذِكْرهم أصحاب الأعذار الصادقة الحقيقية المَقْبُولة عند الله تعالي إنما السبيل أيْ الطريق إلي المُؤَاخَذَة والعِتاب والعِقاب و الضيق والإحراج والشعور بارتكاب ذنبٍ في الدنيا والإثم في الآخرة يكون علي الذين يَطلبون الإذْن بالتّخَلّف عن الجهاد في سبيل الله بغير عُذْرٍ مَقْبُولٍ، جُبْنَاً وحِرْصَاً علي أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم ونسيانا لأجر الدنيا والآخرة، وهم أغنياء أيْ يملكون كل وسائل الجهاد من مالٍ وقوةٍ وعُدَّةٍ وقادِرون عليه ولا عُذْر لهم مالياً أو جسدياً أو غيره في القعود عنه.. ".. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ.." أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من ذَمِّهم وتَحقيرهم.. أيْ لأنهم قَبِلُوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف أيْ الخَالِفين أيْ المُتَخَلّفين بغير عُذْرٍ الجُبَناء الأذِلّاء المنافقين المُخَالِفين للإسلام الذين اعتادوا القعود والتّخَلّف دائما، ولا يَرْضى بهذا حتماً إلا مَن هانَت كرامته واعتاد الذلّة والإهانة!.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية ﴿87﴾ من هذه السورة الكريمة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿93﴾" أيْ وبسبب نفاقهم حيث يُظْهِرُون الخير ويُخْفُون الشرَّ وبعضهم يُظْهِر الإسلام ويخْفي الكفر، وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ، كانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهذا أنْ طَبَعَ الله علي قلوبهم فصاروا لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم.. إنهم قد اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم ما هم فيه وأصرّوا تماما عليه حتي وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة نفاقهم وعِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُدْ حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! فهو لا يفقه ما فى الإسلام والجهاد من الخير والسعادة والعِزّة في الداريْن وما فى النفاق والجُبْن عن الجهاد من الشرّ والتعاسة والذلّة فيهما.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وفي هذا تنبيهٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
ومعني "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94﴾" أيْ يعتذرون إليكم دائما أيها المسلمون في تَخَلّفهم عن الجهاد هؤلاء المنافقون المُتَخَلّفون عنه رغم قُدْرتهم عليه، ومَن يَتَشَبَّه بهم، إذا عُدْتم إليهم بعد جهادكم للأعداء، بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ لكي تُسَامِحُوهم وتَعفوا عنهم ولا تُعاقبوهم بما يُناسبهم.. ".. قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.." أيْ قل لهم ولأمثالهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لا تُقَدِّموا مثل هذه الأعذار الكاذبة لأننا لن نُصَدِّقكم لأنَّ الله تعالي قد أخبرنا بعضاً من أخباركم مِمَّا هو بدواخلكم من خلال وَحْيه لرسوله ﷺ بما يُفيد كذبكم ونفاقكم وفسادكم وهو النبأ المُؤَكّد الصادق الذي يُكَذّبكم وبالتالي فليس لاعتذاركم أيّ فائدةٍ فوَفّرُوا جهودكم فلن يُقْبَل منكم.. ".. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ.." أيْ هذا تهديدٌ لهم على نفاقهم وكذبهم وفسادهم.. إنه تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب، كما أنه تشجيعٌ لهم علي التوبة وإعطاؤهم فرصة ليتوبوا.. أيْ وسيَرَيَ الله ورسوله عملكم الذي سيكون منكم بعد ذلك هل تتوبون مِمَّا أنتم فيه أم تُصِرُّون عليه فيُعَذّبكم بما يُناسبكم ويُظْهِر نفاقكم لتُعَاقَبوا وذلك من خلال فَلَتَات أقوالكم وأفعالكم السيئة المُتَكَرِّرة؟!.. هذا في دنياكم.. ".. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94﴾" أيْ ثم في أخراكم تُرْجَعون وتُعَادُون وتُبْعَثون بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً إلي الله تعالي خالقكم الذي هو وحده سبحانه العالم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه.. إنه بالتالي وقطعا هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿95﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من تأكيدهم أعذارهم الكاذبة بأيْمانٍ كاذبة.. أيْ سيُقْسِمون بالله لكم أيها المسلمون إذا رَجَعْتم إليهم بعد جهادكم لأعدائكم كاذِبين مُعْتَذِرين بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ لكي تُعْرِضوا عنهم أيْ تَبْتَعِدُوا عنهم فلا تُعاتِبوهم ولا تَلُوموهم ولا تُؤَاخِذوهم ولا تذمّوهم ولا تُسائلوهم ولا تُعاقبوهم بما يُناسبهم وتُسَامِحُوهم وتَعفوا عنهم.. ".. فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ.." أيْ فابتعدوا عنهم كما يريدون، ليس لتحقيق إرادتهم وإرضائهم والعفو عنهم ومُسَامَحَتهم، ولكنْ لإهمالهم وتَرْكهم واحتقارهم، لأنهم رِجْسٌ أيْ نَجَسٌ أيْ أصحابُ نجاسةٍ أيْ قَذَارَةٍ أيْ هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يَفْعَل مِثْلهم؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسونه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. هذا في دنياهم.. وفي أخراهم ".. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه، إضافة إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمن لا للعذاب والشقاء والخوف!.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. ".. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿95﴾" أيْ جزيناهم جزاءً شديداً كهذا بسبب وبمِقْدار ما كانوا يعملون من سوءٍ في حياتهم، إضافة بالقطع إلي ما كانوا فيه من عذابٍ في دنياهم، بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، بصورةٍ ما من صور العذاب، بما يُناسب أفعالهم، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو حتي اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا أيضا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿96﴾" أيْ يُقْسِمون بالله دائما لكم أيها المسلمون هؤلاء المنافقون كاذبين مُعْتَذِرين بأعذارٍ كاذبةٍ سَفِيهَةٍ ساقِطَةٍ غير مقبولةٍ ليس فقط لتُعْرِضُوا عنهم فلا تُعاتِبوهم ولا تُعاقِبوهم وإنما أيضا لتَرْضَوْا عنهم أيْ لكي تَقبلوا أعذارهم الكاذبة وتُسامحوهم وتَطمَئنّوا لهم وتستمرّوا في الثقة فيهم بحلفهم هذا، فهُمْ يَحلفون إتّقاءً لكم ومحاولة منهم لتَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينكم ينتفعون بحُسْن معاملتكم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينكم والكَيْد لكم.. فاحذروهم بالتالي حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿96﴾" أيْ فإنْ ترضوا عنهم أيها المسلمون – على سبيل الفَرْض لأنَّ الرضا عمَّن لا يَرْضَىَ عنه الله تعالى مِمَّا لا يمكن أن يَحْدُث من مسلمٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه – فإنَّ رضاكم عنهم أنتم وحدكم لن ينفعهم حتماً بأيِّ شيءٍ ولن يمنع عنهم أيَّ عذابٍ لأنَّ الله لا يَرْضَىَ أبداً عن الأناس الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعته والإسلام من أمثال هؤلاء وغيرهم مِمَّن يُصِرُّون ويَستمرّون علي فِسْقِهم، ومَن لا يرضي الله عنه لا يحبه ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب فساده.. وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. والمقصود التأكيد علي مَنْع المسلمين من الرضا عن أمثال هؤلاء وعن الانخداع بأعْذارهم وأيْمانهم الكاذبة بعد التوجيه للإعراض عنهم في الآية السابقة حيث لا يَصِحّ ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يرضوا عن مَن لم يَرْض اللّه عنه بل عليهم أن يَرضوا ويُحِبّوا ما يرضاه ويحبه الله تعالي ولا يقبلوا ويكرهوا مطلقاً ما لا يرضاه ويكره.. إنَّ أمثال هؤلاء وغيرهم من الفاسقين لو أرادوا الرضا فلْيَطلبوا رضا الله تعالى لا رضا المؤمنين وحدهم بأن يَتركوا فِسْقهم ويعودوا لأخلاق إسلامهم
ومعني "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾" أيْ هذا بيانٌ وإرشادٌ لصنفٍ من المنافقين غير السابق ذِكْرهم الذين يعيشون في المُدُن ولهم إمكانات فكرية وعلمية ومالية وغيرها أمَّا هذا الصنف فيعيش في الصحراء ويَغْلِب عليه الجهل والعُزْلَة والخُشونة من تأثير البيئة عليه ولذلك يحتاج من المسلمين لمزيدٍ من الحذر من نفاقهم وكفرهم ومزيدٍ من الاهتمام بدعوتهم لله وللإسلام وتثقيفهم وتعليمهم وتطوير بيئتهم لأنهم لو أسلموا لكانوا قوة ونفعاً للإسلام وللمسلمين لِمَا فيهم من شجاعةٍ وإقدامٍ وشِدَّةٍ وصلابةٍ وتَحَمُّلٍ وصَبْر.. أيْ الأعراب وهم البدو الذين يعيشون في الصحراء قليلي العلم والخبرة والتّطَوُّر أكثر من كفار ومنافقي المُدُن شَدَّة في الكفر وهو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وأكثر شِدَّة في النفاق وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر أو إظهار الخير وإخفاء الشرّ مع أنهم مسلمون لا كفار، وذلك بسبب بيئتهم الشديدة والتي تُؤَثّر فيهم فتجعلهم غالباً في عُزْلَةٍ وبُعْدٍ عن العلم والعلماء وجَهْلٍ وغِلْظَةٍ وخُشُونَةٍ وقِلّةِ تَطَوُّرٍ وكثرةِ ارْتِحَالٍ وعدمِ استقرارٍ وقُدْرَةٍ علي التآلُف مع الآخرين، وذلك بخلاف سُكّان المُدُن والقُرَيَ.. ".. وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.." أيْ وهم لذلك بالتالي أيضا أحقّ أنْ لا يَعْرِفوا واجبات ووَصَايا وتشريعات وأخلاقيات ونُظُم ما أنزله الله علي رسوله ﷺ في الإسلام الذي بالقرآن العظيم.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾" أيْ وبعضٌ من منافقي الأعراب مَن يَعْتَبِر ما ينفق في سبيل الله مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير، يَعْتَبِره مَغْرَمَاً أيْ غَرَامَة وخُسارة عليهم بلا مُقَابِل لأنهم لا يُنفقون ما يُنفقونه طَلَبَاً لثوابٍ أو خوفاً من عقابٍ وإنما ينفقونه رياءً للناس أي لِيُرُوُهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بإنفاقهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنَّ بعضهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله واليوم الآخر أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن وبعضهم مسلمون لكنْ منافقون يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرَّ ويُنفقون مُكْرَهِين إتّقاءً للمسلمين ومحاولة منهم ليَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بين المسلمين ينتفعون بحُسْن معاملتهم معهم وفي ذات الوقت يُمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينهم والكَيْد لهم.. هذا، ولفظ "ومِن" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها ليسعد في الداريْن لأنَّه ليس كلهم يفعلون ذلك.. ".. وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ.." أيْ وكذلك من عداوتهم وكراهيتهم لكم ينتظر ويَتَرَقّب ويَتَمَنّي بكم المصائب والحوادث والآفات والأوبئة ونحوها تدور وتَلفّ عليكم وتحدث لكم كما تُحيط الدائرة بما في داخلها والتى تُغَيِّر حالكم من الخير للشرّ ومن النصر للهزيمة ومن الأمن للخوف ومن السعادة للتعاسة، وذلك حتي يَتخلّص منكم ومن الإنفاق بل ومن نظام الإسلام ذاته!.. ".. عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ.." أيْ لكنْ عليهم هم لا عليكم أنتم أيها المسلمون ستَدُور دائرة السوء أيْ التي تُسِيء إليهم ولا تَسُرُّهم والتى يَتَبَدَّل بها حالهم إلى كل سوءٍ وتعاسةٍ في الداريْن أمَّا أنتم فلكم دائرة الحُسْن حيث كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما ما دُمْتُم عامِلين بأخلاق إسلامكم.. إنَّ من معاني هذا الجزء من الآية الكريمة أيضا أنها دعاء عليهم بمِثْل وبسبب ما يَتَرَبَّصون به بالمسلمين.. إنَّ أمثال هؤلاء ومَن يشبههم، وفي مُقابِل سوئهم الشديد هذا، يُقابلهم الله بما يُناسبه مِن عذابٍ سَيِّءٍ في دنياهم قبل أخراهم، ففي الدنيا تُحيط بهم دائرةٌ مِن العذاب السَّيِّء الشَّرِّيِّ المُهْلِك – مِثل الدائرة الهندسية – بحيث لا يُمكنهم أبدا الإفلات منه، وكل ما يفعلونه مِن سوءٍ يَدور ويَلِفّ ويَعود عليهم هم ويُحيط بهم مع الوقت مِن سوءِ تصرّفاتهم، وهذا العذاب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراهم لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة، فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال والنوايا لجميع خَلْقه، في العَلَن أو في السِّرّ، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿99﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. وفي هذا أيضا مزيدٌ من تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم وهي الصفات التي علي كل مسلم العمل بها ليسعد في الداريْن لأنَّه ليس كل الأعراب مُسِيئين كالذين سَبَقَ ذِكْرهم.. أيْ ومن البدو الذين يَسْكنون الصحراء من يُصَدِّق بوجود الله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر حيث حسابه وعقابه وجنته وناره ويعمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ.." أيْ ويَعْتَبِر كل ما ينفق في سبيل الله مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون، يَعْتَبِره قُرُباتٍ أيْ طاعاتٍ وتَقَرُّباتٍ أيْ وسائل مُقَرِّباتٍ إلي ما عند الله من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ووسائل لنَيْل دعوات واستغفارات الرسول ﷺ .. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ لأنْ يدعو المسلمون بالخير لفاعِلِي الخير كتشجيعٍ لهم علي مزيدٍ منه ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ.." أيْ إنَّ ذلك حاصلٌ لهم حتماً.. أيْ هذه النفقات وكلّ مثل هذه الأعمال والأقوال الصادقة بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ طاعة لهم، عظيمة مَقْبُولة قبولاً مُؤَكّدَاً وصارَت قُرْبَة لهم عنده تعالي تُوصلهم إلى ما يريدون من سعادتيّ الدنيا والآخرة.. وهذه شهادة لهم منه سبحانه بصِدْق إيمانهم ونواياهم وقبول أعمالهم وتحقيق طَلَبهم بمُجازاتهم عليها قطعاً بما يَسْتَحِقّون بكل كرمٍ وفضلٍ ورحمة.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.." أيْ هذا وَعْدٌ وتَبْشِيرٌ مُؤَكّد لهم.. أيْ حتماً بالتأكيد أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم سيُدْخِلهم وسيَغْمُرهم الله بسبب ذلك في جملةِ مَن يَرْحمه مِن الصالحين في تمام رحمته في دنياهم حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿99﴾" أيْ لأنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾" أيْ هذا بيانٌ للمَكَانَة العظيمة في الدنيا والآخرة التي وَصَلَ إليها المسلمون الأوائل الذين سَبَقوا إلي الإسلام في عصر الرسول الكريم ﷺ من الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار وذلك لكي يَقْتَدِيَ بهم كل مسلمٍ لِيَصِلَ إلي ما وصلوا إليه من سعادة الداريْن وذلك من خلال أن يكون دوْمَاً مُبَادِرَاً أيْ مِن السابقين الأوَّلِين أيْ سَبَّاقَاً سريعاً مِثْلهم أول مَن يَصِل إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ قَدْر استطاعته وبالجملة إلي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه التي تُنَظّم له كل شئون حياته علي أكمل وَجْهٍ فيسعد في كل لحظاتها ثم في آخرته.. أيْ والمسلمون الأوائل الذين سَبَقوا إلى الإسلام أولا قبل غيرهم، من المهاجرين وهم الذين فارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها مع رسول الله ﷺ في هجرته من مكة إلي المدينة من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها، ومن الأنصار وهم الذين كانوا بالمدينة فأحسنوا استقبال المهاجرين إليهم بأن نصروهم وعاوَنوهم وتَقَاسَمُوا معهم أموالهم وأرزاقهم وتآخوا وتآلفوا وتَحابّوا وتَلاَحَمُوا جميعا وتعامَلوا بالإسلام فيما بينهم ونشروه لغيرهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ ودافعوا عنه ضدّ مِن اعتدي فسعدوا في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ.." أيْ والذين اتّبعوا وساروا خَلْف ذات طريق السابقين فى الإسلام من المهاجرين والأنصار، وهم المسلمون في كل زمانٍ ومكانٍ إلي يوم القيامة، اتّبعوهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادة، أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنَّ هذا هو الطريق لسعادتهم التامَّة مِثْلهم في الداريْن، اتّبعوهم فى عملهم بكل أخلاق إسلامهم ونَشْرهم إيَّاه ودفاعهم عنه ونَصْرهم له وللمسلمين وللحقّ والعدل والخير.. ".. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.." أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لجميع أمثال هؤلاء لتشجيع ولدَفْع كلّ بني آدم ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أيْ بكلِّ تأكيدٍ لقد أحبهم الله وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن.. ".. وَرَضُوا عَنْهُ.." أيْ وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم الذي يرضيهم به في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة من السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.." أيْ وكذلك جَهَّزَ وهَيَّأ لهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾" أيْ ذلك العطاء الذي لا يُوصَف هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿101﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالمنافقين المُحيطين بالمسلمين وبصنفٍ منهم علي درجةٍ عاليةٍ من إتقان النفاق ليَحذروهم أشدّ الحَذَر عند التعامُل معهم حيث بعضهم يَظْهَر نفاقه أحيانا من فَلَتَات أقواله وأفعاله السَّيِّئة المُتَكَرِّرَة لكنْ بعضهم يُجيد ويُتْقِن إخفاء سُوئه فلا يَظْهَر عليه، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، وأيضا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وبعضٌ من الذين حولكم وحول مُدُنِكم خارجها التي تسكنون فيها، من الأعراب وهم البدو الذين يسكنون الصحراء ويَغْلِب عليهم الجهل والعُزْلَة والخُشونة من تأثير البيئة عليه ولذلك يحتاج منكم لمزيدٍ من الحذر من نفاقهم وكفرهم ومزيدٍ من الاهتمام بدعوتهم لله وللإسلام وتثقيفهم وتعليمهم وتطوير بيئتهم لأنهم لو أسلموا لكانوا قوة ونفعاً للإسلام وللمسلمين لِمَا فيهم من شجاعةٍ وإقدامٍ وشِدَّةٍ وصلابةٍ وتَحَمُّلٍ وصَبْر، بعضهم منافقون، أيْ يُظْهِرون الإسلام ويُخْفون الكفر أو يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ مع أنهم مسلمون لا كفار، وكذلك بعضٌ من سُكَّان مُدُنِكم ذاتها بداخلها أيضا منافقون.. ".. مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.." أي وكُلّ هؤلاء سواء بالداخل أم بالخارج مُتْقِنُون للنفاق فكونوا أكثر حَذَرَاً منهم لأنهم ليسوا كسابقيهم من المنافقين الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة والذين لهم زَلّات كثيرة في أقوالهم وأفعالهم تُظْهِر نفاقهم ولكنْ هؤلاء مَرَدُوا علي النفاق أيْ تَمَرَّنوا عليه وأجادوا فنونه واستمرّوا بفِعْله وازدادوا منه حتى بلغوا فيه الغاية من المَهَارَة والاحتراف بحيث لا تعلمهم أيها المسلم لكنَّ الله تعالي العليم الخبير وحده يعلمهم بكمال علمه الذي يُحيط بكل شيءٍ وسيُفْشِل عداواتهم ومَكائدهم ويُؤَيِّدكم فتَهزموهم.. ".. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿101﴾" أيْ سنُعَذّبهم بالتأكيد كثيرا، مَرَّة بعد مَرّة، فهذا أحيانا هو الذي يُقْصَد بلفظ مَرَّتَيْن في اللغة العربية كما قال تعالي " ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ.." ﴿الملك:4﴾ أي ثم أعِدْ النظر كثيراً وليس مرّتيْن فقط، وقال "رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ.." ﴿الأحزاب:68﴾ أيْ عذاباً مُضَاعَفاً.. أيْ سنُعَذّبهم عذاباً مُؤْلِمَاً مُوجِعَاً شديداً مُهِينَاً، كثيراً مُتَكَرِّرَاً، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسِب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم يُرْجَعون في الآخرة إلي ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿102﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يعترفون بذنوبهم فيتوبون عنها سريعاً فتكون بذلك دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿102﴾" أيْ هذا تشجيعٌ كبيرٌ لكلّ المسلمين أنْ لا يُصِرُّوا أبداً علي سُوئهم بل يعترفوا به ويتوبوا عنه مُسْرِعين ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما علي قَدْره.. أيْ وآخرون – غير السابق ذِكْرهم الذين يُسيئون ويُصِرُّون علي إساءاتهم بلا أيَّ توبة – لم يُصِرُّوا علي ذنوبهم بل اعترفوا أيْ أقَرُّوا بها حيث قد جَمَعوا عملاً صالحاً أيْ خَيْرِيَّاً مُفيداً مُسعداً لهم ولغيرهم في دنياهم وأخراهم بعملٍ آخر سيئاً أيْ شَرِّيَّاً ضارَّاً مُتْعِسَاً فيهما فتابوا منها سريعاً أوَّلاً بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين راجِين مُتَمَنّين بتوبتهم هذه أن يتوب الله عليهم.. ".. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ هؤلاء المذكورون لعلّ الله بسبب ذلك أنْ يغفر لهم ذنوبهم ويتجاوَز عنها ويُسامِحهم فلا يُعاقِبهم عليها ويُزِيل عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل تنبيههم علي أهمية التوبة السريعة والتي بدونها لن ينالوا وعده سبحانه..".. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿102﴾" أيْ لأنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿104﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾" ايْ اقْبَلْ يا رسولنا الكريم ويا كل مسئول مِن بَعْدِه بعضاً مِن أموال المسلمين صدقة مُحَدَّدَة وهي الزكاة المفروضة عليهم إنْ كانوا من أصحاب الأموال والتي يُثابُ فاعلها ويَأثم تاركها، وصدقة غير مُحَدَّدَة كصدقة التّطَوُّع في أيِّ وَجْهٍ من وجوه الخير المُتَنَوَّعَة حسبما يستطيعون والتي يَتَطوَّعون بها والمُسْتَحَبّ فِعْلها لأجرها وخيرها المُسْعِد في الداريْن ولا يأثم مَن لم يفعلها، والتي بها يَتَطَهَّرون أيْ يَتَخَلّصون من ذنوبهم التي فعلوها حيث تُكَفّرها بحسناتها ويَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل بأنْ تَشْغَل فِكْرهم ووقتهم بكلّ خُلُقٍ خَيِّرٍ، وبها يَتَزَكُّون أيْ يَرْقُون ويَنْمُون ويَسْمُون في الأخلاقيَّات والمعاملات والأموال والأعمال الصالحة والأفكار الخَيْرِيَّة الرَّاقِيَة فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيَسعدون وتَرْفع درجاتهم عند الله فيُجازيهم بما يُناسبهم من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. ".. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.." أيْ وادْعُ لهم يا مَن تأخذ صدقاتهم، عموماً وخاصة عند أخْذ الصدقة منهم، بالمغفرة والرحمة والمزيد من التوفيق والتيسير لفِعْل كلّ خيرٍ وبالخير والبركة والأمن والسعادة في الداريْن، لأنَّ دعاءك سَكَنٌ لهم أيْ استقرارٌ وأمنٌ وطمأنينة وهدوءٌ وتَبْشيرٌ وتنشيط لهم للمزيد وشعورٌ بالتآلف والتراحُم والتحابّ والتعاون والتكامُل بين الجميع وبالجملة سعادة لهم ولمَن حولهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾" أيْ والله تعالي سميع بكل قولٍ عليم بكل فِعْلٍ ينصر المظلوم وينتقم من الظالم ويُعطي لكلٍّ حقه وثوابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة، فهو وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال والنوايا لجميع خَلْقه، في العَلَن أو في السِّرّ، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿104﴾" أيْ هذا تشجيعٌ كبيرٌ لكلّ المسلمين ولكلّ الناس أنْ لا يُصِرُّوا أبداً علي سُوئهم بل يعترفوا به ويتوبوا عنه مُسْرِعين ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما علي قَدْره.. أيْ هل لم يعلموا ويتأكّدوا هؤلاء التابئون من ذنوبهم وغيرهم من جميع البَشَر، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فأعْلِمُوهم – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِموا وتَأكّدوا، أنَّ الله هو وحده الذي يَقْبَل أيْ يُوافِق علي ويَرْضَيَ التوبة الصادقة مُتَجَاوِزاً عن سيِّئات عباده الصادقين في توبتهم ويُعْطِهم عليها أعظم الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم وذلك مهما كان ذنبهم كبيراً كثيراً بل هو ينتظر كلَّ تائبٍ ويَفرح بعودته للخير ليَسعد ولا يُعَذّبه في دنياه وأخراه لأنه خَلْقه وصَنْعته وكلّ صانِعٍ يحب لصنعته الخير.. هذا، وصِدْق التوبة يكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ.." أيْ وهذا تشجيع علي الإنفاق علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. أيْ وهل لم يعلموا أيضا أنه هو وحده الذي يقبل الصدقات الطيِّبات الصادِقات سواء أكانت مُحَدَّدَة وهي الزكاة المفروضة عليهم إنْ كانوا من أصحاب الأموال والتي يُثابُ فاعلها ويَأثم تاركها أم غير مُحَدَّدَة كصدقة التّطَوُّع في أيِّ وَجْهٍ من وجوه الخير المُتَنَوَّعَة حسبما يستطيعون والتي يَتَطوَّعون بها والمُسْتَحَبّ فِعْلها لأجرها وخيرها المُسْعِد في الداريْن ولا يأثم مَن لم يفعلها؟!.. وقبوله تعالي لها يعني رضاه عنهم وإعطائهم عليها أعظم الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم وذلك مهما كانت قليلة.. وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا إذ يأخذ منه بذاته العَلِيَّة ما يُنفقه هو له سبحانه وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضاله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿104﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد والتشجيع علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وألم يعلموا كذلك أنَّ الله هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تابَ إليه أيْ رَجَع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب﴾.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من العاملين بكل خيرٍ التاركِين لكل شَرٍّ من خلال تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك في كل شئون حياتك طوال عُمْرك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنه بانتشار عمل الخير والصواب والحقّ والعدل بين عموم الناس في كل مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والسياسية والإدارية والقانونية والاجتماعية والإعلامية والعسكرية والتجارية والزراعية والهندسية والطبية والفلكية والإلكترونية والعلمية والفنية والرياضية وغيرها، يسعد الجميع في دنياهم، ثم في أخراهم حينما يعودون إلي خالقهم حيث يجازيهم السعادة التامّة الخالدة في جناته التي لا يُوصَف نعيمها.. والعكس صحيح بالتأكيد، فبانتشار الشرّ يتعسون في الداريْن
هذا، ومعني "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُشَجِّعَاً علي عمل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ، اعملوا الخير لتسعدوا في الداريْن واتركوا الشرَّ حتي لا تتعسوا فيهما، اعملوا خيراً ولا يَمنعكم مُطْلَقَاً ذنبٌ أذنبتموه من عمله بل توبوا منه سريعاً أوَّلاً بأوَّلٍ وسارِعوا بعمل خيرٍ بعده يَمْحُوه ويزيد ثوابه علي سُوئه.. كذلك من المعاني أن اعملوا ما شِئْتُم، فلكم الاختيار بكامل حرية إرادة عقولكم، فإنْ عملتم خيراً سَعِدْتُم به في دنياكم وأخراكم وإنْ عملتم شرَّاً تَعِسْتُم به فيهما.. ".. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ.." أيْ فإنَّ الله خالقكم الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ حتماً يَرَيَ ويَسمع ويَعلم كل أعمالكم وأقوالكم ما ظَهَرَ منها وما خَفي لا يَخْفَىَ عليه شيءٌ من عملكم خيراً كان أو شراً.. وفي هذا مزيدٌ من التشجيع للمُحْسِنين علي فِعْل الخير حيث يَطّلِع عليه كله سبحانه ويُجازي في مُقَابِله كل خيرٍ وسعادةٍ بالدنيا والآخرة، كما أنه تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُسيئين حيث يُجازيهم بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهما.. ".. وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.." أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التشجيع لكلّ مُحْسِنٍ ليَزداد حُسْنَاً ومزيدٌ ومزيدٌ من التهديد والتحذير لكل مُسِيءٍ لعله يمتنع عن سُوئه، حيث الرسول الكريم ﷺ في زمنه وكل مسئولٍ مِن بَعْده وعموم المسلمين سيَرَوْن وسيَعلمون بالتأكيد أعمالكم وأقوالكم الظاهرة لهم الخَيْرِيَّة والشَّرِّيَّة منها وسيكون تعاملهم معكم علي أساسها فما كان منكم من خيرٍ شَكَرُوكم عليه وعاوَنوكم علي المزيد منه ودعوا لكم بكل خيرٍ وسعادةٍ وسَعِدْتُم جميعا بحُسْن التعامُل في دنياكم وشَهِدوا لكم به يوم القيامة حيث تمام السعادة بنعيم جناتٍ لا يُوصَف وما كان منكم من شَرٍّ نَصحوكم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ فإنْ استجبتم سَعِدَ الجميع وإنْ لم تستجيبوا تَعِسْتم حيث تُعاقَبون بما يُناسِب شروركم في دنياكم وأخراكم.. وذلك لأنَّ المسلمين شهداء الله في الأرض والرسول ﷺ شهيد علي الجميع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.."﴾.. ".. وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾" أيْ وهذا كذلك مزيدٌ من التشجيع لكلّ مُحْسِنٍ ليَزداد حُسْنَاً ومزيدٌ من التهديد والتحذير لكل مُسِيءٍ لعله يمتنع عن سُوئه.. أيْ وفي أخراكم ستُرْجَعون وتُعَادُون وتُبْعَثون بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم بعد كوْنكم تراباً إلي الله تعالي خالقكم الذي هو وحده سبحانه العالم بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه.. إنه بالتالي وقطعا هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿106﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُرْجِئون التوبة، أيْ لا يُؤَخّرونها ويُؤَجِّلونها، فإنك لا تضمن انتهاء الأجل ومَجِيء الموت متي يكون (برجاء مراجعة الآية ﴿102﴾ من هذه السورة، للشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات التوبة من الذنوب والاعتذار عن الأخطاء، في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿106﴾" أيْ وهناك ناس آخرون وقعوا في الذنوب ولم يتوبوا منها، غير الآخرين الذين اعترفوا بذنوبهم في الآية ﴿102﴾ وتابوا منها فتاب الله عليهم، مُرْجَوْنَ أيْ مُرْجَئون أيْ مُؤَجّلون انتظاراً لكي يَظهر أمر الله في شأنهم، وذلك لعدم توبتهم بَعْد، إمَّا يُعَذّبهم في الداريْن بما يُناسب شرورهم إذا أصَرُّوا واستمرّوا علي سُوئهم وإمَّا يتوب عليهم إذا تابوا أيْ رَجَعوا إليه وعملوا بأخلاق إسلامهم بأنْ استغفروا بلسانهم علي ما فَعَلوه مِن شرورٍ ونَدموا بداخل عقولهم وعَزموا بداخله علي عدم العودة للشرّ ورَدُّوا الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وفي هذا تشجيعٌ ودَفْعٌ ضِمْنِيٌّ لكلّ مُسِيءٍ أن يُسارِع بالتوبة ليَضْمَن المغفرة لأنه لا يعلم متي أجله وإلا إذا لم يَتُبْ قبل موته فأمره غير مَضْمونٍ حيث هو لله تعالي وحده إمّا يُعَذّبه وإمّا يتوب عليه، ورحمة الله واسعة وهي تَسبق غضبه.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿106﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿107﴾ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴿108﴾ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿109﴾ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿110﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُؤَسِّسُون مراكز الخير والنفع لعموم الناس وينشرونها ويدعمونها ويَتَجَمَّعون حولها ويجتذبون الآخرين لخيرها ونفعها، سواء أكانت أماكن التَّجَمُّع هذه هي مساجد أو مُؤَسَّسات خيريّة أو مراكز بَحْثِيَّة دراسيّة أو مُنْتَدَيات فكريّة ثقافيّة أو ما شابه هذا.. وإذا لم تكن من الذين يُؤَسِّسون مراكز الشرّ والضرَر والفساد.. إنَّ نَشْر الخير والنفع والصلاح وأخلاق الإسلام بين جميع البَشَر والعمل علي وحدتهم وتآلفهم وتعاونهم، يُسْعِد في الدنيا والآخرة، بينما نشر الشرور والمَفاسد والأضرار بينهم، والكفر والشرك والنفاق والظلم، والفُرْقَة والخِلاف والتّباغُض والتّقاطُع والفِتَن والضعف، يُتْعِس فيهما
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿107﴾" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض أصنافٍ من المنافقين شديدي الضرر والخَطَر ليَحذرهم المسلمون أشدّ الحَذَر فيُحْسِنوا التعامُل معهم ليسعد الجميع.. أيْ ومنهم الذين جعلوا مسجداً – بل مساجد ومراكز ونوادي ونحوها – لكي يكون إضراراً أيْ إيذاءً وإيقاعاً للشرّ للمؤمنين بكل أنواع الضرر والإيذاء وليس طاعة لله، وتَقْوِيَة وتعزيزاً ونَشْرَاً للكفر الذي يُخفونه أيْ للتكذيب بالله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وليكون تفريقاً بينهم وإشاعة للخِلاف والتّباغُض والتّقاطُع والفِتَن لمَنْع تَآخِيهم وتَحَابّهم وتَآلُفهم وتَفاهُمهم وتَمَاسُكهم وتَعاوُنهم فيضعفون، وكذلك ليكون إرصاداً لكل مَن حارب الله ورسوله أيْ انتظاراً وتَرَقّبَاً ورَصْدَاً وإعداداً لهم أيْ مكاناً ووَكْرَاً وحِصْنَاً ومَلْجَأ لالتقاء المُحاربين لدين الله ورسوله ﷺ أيْ المُعَادِين الكَائِدين للإسلام والمسلمين بكل صور العَداء والحرب والكَيْد والتّآمُر.. ".. مِنْ قَبْلُ.." أيْ هذا مزيدٌ من ذَمِّهم.. أيْ مِن قبل بناء مسجداً ضِراراً، بما يُفيد أنَّ لهم سَوَابِق كثيرة متنوّعة في مُحَارَبَة الله ورسوله ﷺ .. ".. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى.." أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من ذَمِّهم علي صفةٍ من صفاتهم الدنيئة الخَسِيسَة والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مِثْلهم فيهما، وهي صفة الجُبْن والعَجْز عن مواجَهَة ومُصَارَحة المسلمين بالحقائق والاعتذار بأعذارٍ كاذبةٍ والحلف بالله كذبا.. أيْ وكعادتهم حينما ينكشف أمرهم فإنهم بالتأكيد سيَحلفون بالكذب ما كُنَّا نريد إلا الفِعْلَة والحالة الحُسْنَي أيْ العمل والواقع الحَسَن أيْ الخير للإسلام والمسلمين!!.. إنهم يَحلفون إتّقاءً للمسلمين ومحاولة منهم ليَثِقُوا بهم وسَتْرَاً لأنفسهم حتي لا ينكشف أمرهم أنهم منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ فيُعاقَبون ويُعامَلون بما يُناسبهم بل يَظلّوا دائما بينهم ينتفعون بحُسْن معاملتهم معهم وفي ذات الوقت يمكنهم الاستمرار في الوقيعة بينهم والكَيْد لهم.. فاحذروهم بالتالي أيها المسلمون حَذَرَاً شديداً عند التعامُل معهم واعلموا أنَّ نفاقهم أصلاً غالباً مكشوفٌ لكل صاحبِ عقلٍ متمسّكٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه مُرْتَبِطٍ بربه حيث يَظهر من فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم السيئة المُتَكَرِّرَة.. ".. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿107﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من الذّمّ والتّحْقِير لهم.. أيْ والله حتماً يعلم أنهم لا يقولون الحقيقة بكل تأكيدٍ في أقوالهم وأيْمانهم وشهاداتهم والتي تُخالف تماماً ما يخفونه داخل عقولهم والذي يعلمه بتمام العلم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخفي منه ولا يغيب عنه شيء، وكفَيَ به سبحانه شاهدا فشهادته حتما هي الكاملة الصادقة العادلة، وسيُحاسبهم ويُعاقبهم علي كل ذلك بما يُناسب في دنياهم وأخراهم.. فلْيَحْذَر إذَن أمثال هؤلاء وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات
ومعني "لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴿108﴾" أيْ لا تَقُمْ للصلاة في ذلك المسجد الذي بُنِيَ ضِرَارَاً أبداً في أيِّ وقتٍ من الأوقات يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا في أيِّ مكانٍ يُشْبِهه، لأنه تَأَسَّسَ من الأصل علي الإضرار والإفساد فهو للشرِّ لا للخير، وغيره كثيرٌ مِمَّا أنِشِيء لطاعة الله ونَفْع وإسعاد الإسلام والمسلمين والناس جميعا، فمَسْجِدٌ ومكانٌ أُسِّسَ أيْ بُنِيَ وَوُضِعَ أساسه مِن أوّل يومٍ ابتدأ تأسيسه وبناؤه علي التقوي أيْ علي الطاعة لله والإخلاص له والتقوية للإسلام والمسلمين أيْ علي الخير والنفع والإسعاد واتّقاء كلّ ضَرَرٍ مُتْعِسٍ أيْ اتّقاء كلّ شرٍّ يُبْعِد ولو للحظة عن حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة، بكل تأكيدٍ أحقّ أيْ أوْلَي وأكثر استحقاقا أن تقوم فيه للصلاة وللذكر ولفِعْل كلّ خيرٍ وأن تَتَوَاجَد وتَرْتَبِط به فهو مكانٌ فاضلٌ يعود عليك قطعاً بخَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الداريْن.. ".. فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لأحَقّيَّة القيام في أمثال هذه المساجد ومزيدٌ من المَدْح والتكريم والتشريف لها وللمسلمين الذين يعمرونها ليَدْفعهم ذلك للمزيد من إنشائها وتعميرها لينالوا عظيم الأجر في دنياهم وأخراهم من خلال مشاركتهم في بنائها وصيانتها ونظافتها وحمايتها والصلاة والذكر فيها وتَعَلّم العلوم المُتنوِّعَة وتقديم الخدمات المُتَعَدِّدَة للآخرين بما يُسْتَطَاع ونحو ذلك من أنشطةِ خيرٍ مُسْعِدَةٍ للجميع في الداريْن ومن خلال جَعْلها وهي بيوت الله تعالي في أرضه المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين لتكون من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم.. أيْ أحقّ أن تقوم فيه لأنه أُسِّسَ علي التقوي ولأنَّ فيه رجال يُحِبّون دائماً أن يَتَطَهَّرُوا أي يَتَنَزَّهوا ويَبتعدوا عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُوا أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك، فهو بالجملة مكانٌ مملوءٌ علي الدوام بالطهارة والطاهرين والخير والخَيِّرين والسعادة والسعيدين يُحبه الله تعالي وبالتالي يُعظم الأجر فيه.. ".. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴿108﴾" أيْ والله حتماً يحبّ المُتَطَهِّرين، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُطّهرين
ومعني "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿109﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان لأحَقّيَّة القيام في أمثال هذه المساجد ومزيدٌ من المَدْح والتكريم والتشريف لها وللمسلمين الذين يعمرونها ليَدْفعهم ذلك للمزيد من إنشائها وتعميرها لينالوا عظيم الأجر في دنياهم وأخراهم، مع التحذير والتهديد الشديد من إقامة مساجد ومراكز ضِرار تُتْعِس فيهما.. أيْ هل البناء كمسجدٍ وغيره الذي أسَّسَ بُنْيانه أيْ جُدْرانه وأعْمِدَته وتفاصيله، أو هل الإنسان الذي أسَّسَ بُنيانه أيْ بناء دينه الذي يَدين به أيْ نظام حياته الذي يعمل به، علي أساسٍ متينٍ مُحْكَمٍ قوَيٍّ هو الحقّ الذي هو التقوى أيْ الخوف من الله وطلب رضوانه بطاعته، خيرٌ أيْ نَفْعٌ وحُسْنٌ وصلاحٌ وسعادةٌ في الداريْن، أم البناء والدين الذي تمَّ تأسيسه علي أساسٍ هو أضعف الأُسُس وأقلّها بقاءً وأسرعها انهياراً وزَوَالاً وهو الباطل والكفر والنفاق والشرّ والفساد والضرر ونحوه والذي هو علي شفا جُرُفٍ هَارٍ أيْ علي حافّة رملٍ مَجْرُوف أيْ تَمَّ جَرْفه أيْ كَسْحه وإذهابه بالمِجْرَفَة هارٍ أيْ ساقِطٍ يَنْهَار من أعلي لأسفل وذلك بسبب قِلّة ثباته وتَمَاسُكه؟! إنه كبيتٍ من رَمْلٍ بُنِيَ علي حافة بعضِ رملٍ تَمَّ جَرْفه ببعضِ ماءٍ أو هواءٍ بما يعني أنه قابلٌ للانهيار مع أيِّ ريحٍ حتي ولو كانت خفيفة!!.. كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! فالأول حتماً ثابتٌ قويٌّ دائمٌ مُسْتَمِرٌّ مُفيدٌ مُسْعِدٌ للجميع في الدنيا والآخرة بينما الثاني قطعاً مُنْهارٌ هَزيلٌ زائلٌ مُؤَقّتٌ مُضِرٌّ مُتْعِسٌ لهم فيهما.. ".. فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.." أيْ فأدَّى به ذلك حتماً إلى الانهيار والسقوط في عذاب نار جهنم يوم القيامة والذي لا يُوصَف بما يُناسب شروره، وذلك بعد ما يَحْدُث له بالقطع في الدنيا من عذابٍ حيث الانهيار التامّ النفسيّ والفكريّ والماديّ لأهل الشرِّ والباطل، وما يَتْبَعه من تعاساتٍ ومرارات، كما يُثبت الواقع هذا كثيراً، لأنه لا أساس صلب متين له، والانتصار التامّ المُسْعِد في المُقابِل في كل مجالات الحياة لأهل الخير والحقّ، وذلك يَحدث بقوة الله وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وبعونه وتوفيقه ثم بيقظة المسلمين ونَشْرِهم لإسلامهم ودفاعهم عنه وكَشْفِهم لأمثال هؤلاء السفهاء والتحذير منهم.. إنَّ المقصود من هذا المَثَل الذي يَضربه تعالي بيان ثبات الحقّ الذى هو دين الإسلام وقوّته ودَوَامه وسعادة أهله به، وبيان اهتزار الباطل الذي هو كل ما يُخالِف أخلاق الإسلام وضعفه وعدم استمراره وتعاسة فاعِلِيه.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿109﴾" أيْ والله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما من الظالمين ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وفي هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ للظالمين لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
ومعني "لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿110﴾" أيْ هذا بيانٌ لحال أمثال هؤلاء المُسيئين السابق ذِكْرهم حيث هم فى كل زمانٍ ومكانٍ يعيشون طوال حياتهم فى ريبة أيْ في شكّ أيْ في قَلَقٍ وتَوَتّرٍ واضطرابٍ وتعاسةٍ بسبب الخوف الدائم من أن ينكشف سُوؤهم ومَكْرهم وخِداعهم وغَدرهم فيُعَاقَبوا بما يُناسبهم في دنياهم قبل أخراهم.. أيْ سيَظلّ هذا البناء الذي بَنوه وهذا السوء الذي أساؤوه أمثال هؤلاء مَصْدَر وسبب اضطرابٍ وخوفٍ وشقاءٍ في قلوبهم أيْ عقولهم ومشاعرهم لا ينتهى ما داموا أحياء إلاّ فقط إذا حَدَثَ أنْ تتقطّع قلوبهم بالندم الشديد والتوبة الشديدة الصادقة أثناء حياتهم وبذلك يتوب الله التواب الرحيم عليهم وينتهي اضطرابهم، أو أنْ تَتَقَطّع بالموت والهلاك حينما يأتي موعد موتهم أو هلاكهم الذي حدَّده الله تعالي لهم وهم مُصِرُّون علي ما هم فيه وحينها فقط ينتهي قلقهم وعذابهم الدنيويّ لا ليرتاحوا ولكن لكي يبدأ عذابهم الأخرويّ الذي لا يُوصَف!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿110﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾" أيْ هذا تَشجيعٌ وتَرْغِيبٌ شديدٌ لكلّ مسلمٍ لكي يُشارك في هذه الصفقة التجارية الأعظم والأَرْقَيَ علي وجه الأرض، لأنَّ المشتري هو الخالق الكريم ويشتري بذاته العَلِيَّة سبحانه، والبائع هو الإنسان وهو أكرم مخلوق خَلَقه تعالي وسَخَّرَ له الكوْن كله لينتفع وليسعد به، والسلعة هي أغلي ما يُمْتَلَك وهي النفس والتي هي نفخة من روحه عَزّ وجَلّ، والمال، والوَعْد هو أحقّ وَعْد لأنه مِمَّن لن يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَاً، والصحيفة التي كُتِبَ فيها هذا العَهْد هي أصْدَق وأوْثَق وأطهر وأضمن وأقْوَم صحيفة وهي القرآن الكريم، والذي نَقَلَه هو أشرف الخَلْق وسَيّدهم ذو الخُلُق العظيم الرسول الكريم محمد ﷺ ، والثمن هو أعلي سعر علي الإطلاق وهو أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر مع النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا.. أيْ إنَّ الله تعالي يُؤَكّد وَعْده أنه قد اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم في مُقابِل ذلك الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف، من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته حيث يَقْبَل العِوَض عمَّا يَملكه ويَشتريه بثمنٍ وهو المالِك لكلّ شيءٍ من نفسٍ ومالٍ وغيره، وذلك لأنهم يَبذلون كل أنواع الجهود ويَجتهدون في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾، فهُمْ يُجاهِدون في سبيل اللَّه فيَقتلون أعداء اللَّه أو يُسْتَشْهَدون في سبيله.. إنهم يُقاتلون في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. إنهم لهم هذا الأجر العظيم سواء قَتَلُوا فانتصروا وسعدوا في دنياهم قبل أخراهم أو قُتِلُوا فاسْتُشْهِدُوا فنالوا أعلي درجات أخراهم.. ".. وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي هذا الوعد.. أيْ هذا الوعد بالجنة قد جعله سبحانه من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته حقّاً لهم عليه وأثبته لهم فى كل الكتب السماوية التى أنزلها على رسله الكرام منذ بَدْء الخَلْق والتي فيها الإسلام الذي يُناسب كل عصر وأواخرها التوراة التي أنْزِلَت علي موسي ﷺ وبعدها الإنجيل الذي أنْزِلَ علي عيسي ﷺ وخاتمها حتي يوم القيامة القرآن العظيم الذي أنْزِلَ علي الرسول الكريم محمد ﷺ .. إنه الوعد الحقّ أيْ الصدْق المُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه، فهو تعالي حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يُنَفّذ ما وَعَدَ به ولا يُمكن مُطلقاً أن يُخْلِفَ وَعْدَاً قَطَعَه علي ذاته العَلِيَّة فهو قادر قطعاً علي ذلك وعلي كل شيء.. ".. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي هذا الوعد.. وهذا استفهامٌ للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أوْفَىَ بوَعْده إذا وَعَد أيْ يَلْتَزِم به ويُنَفّذه بتمامه بلا أيِّ إخلافٍ من الله، فلا أحد أصْدَق من الله قولاً في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم ﷺ ، ولا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يَكْذِب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله، وبالجملة فإنَّ الإخْلاف مرفوضٌ لا يَفعله الكِرام فكيف يكون من الله؟!.. ".. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ.." أيْ فإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فافرحوا واسعدوا وارضوا أيها المؤمنون أشدّ وأتَمّ الفرح والسعادة والرضا بالبشارة التي تنتظرون تَحَقّقها والتي يُبَشّركم بها ربكم الكريم الرحيم الودود ذو الفضل العظيم بسبب بيعكم وشرائكم هذا الذي بِعْتُم به أنفسكم وأموالكم وهي الزائلة حتماً يوماً مَا لله واشتريتم منه أغلي وأعظم سلعة وهي الجنة الباقية الخالدة بنعيمها الذي لا يُوصَف.. ".. وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾" أيْ وذلك البيع والشراء الذي فازوا به بالجنة هو حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من التائبين من ذنوبك أوَّلاً بأوَّل والعابدين أيْ الطائعين لله تعالي وحده والشاكرين له علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والسائحين المُسافرين في كل خيرٍ بكل مكانٍ والراكعين الساجدين المُقيمين للصلاة في أوقاتها والداعين لله وللإسلام والمحافظين علي كل حلالٍ بلا وقوعٍ في أيِّ حرام
هذا، ومعني "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين بصفات الإسلام الطيِّبَة الحَسَنَة ليجتهدوا جميعا في أنْ يَتّصِفوا بها كلها لينالوا كلهم تمام خيرِ وأمنِ وسعادةِ الدنيا والآخرة.. أيْ إنَّ أوصاف المسلمين المُبَشَّرين بالخير والأمن والسعادة في الداريْن أنهم هم التائبون مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لهم سعادتهم التامّة بإسلامهم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. وهم ".. الْعَابِدُونَ.." أيْ الطائعون لله تعالي وحده ولا يُشركون معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وهم ".. الْحَامِدُونَ.." أيْ الشاكرون لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، ليَجِدُوها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدهم ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. وهم ".. السَّائِحُونَ.." أيْ المُتَحَرِّكون في كل خيرٍ يحبّه الله ورسوله في كل شئون الحياة المُتَنَوِّعَة، لأنفسهم ولغيرهم، وعند بعض العلماء هم الصائمون.. وهم ".. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ.." أيْ المُقِيمُون للصلاة أيْ المُوَاظِبُون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، كذلك من معاني "الراكعون الساجدون" إقامة الشعائر عموماً إذ هي تُحَرِّك مَشاعِر الحبّ والشّوْق والرَّغْبَة والرَّهْبَة والأمن والرضا وقوة الإرادة ونحوها بداخل العقل فتدفعه لحُسْن التعامُل مع الآخرين في كل وقتٍ وفي أيِّ مجالٍ فيَسعد بذلك وهي تشمل – مع الصلاة – الذكر والاستغفار وقراءة القرآن والعمرة والحج للمستطيع ونحو ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾، وبالجملة فإنَّ من معاني "الراكعون الساجدون" أنهم الطائعون لله تعالي المُتَّبِعون لكل أخلاق الإسلام حيث الركوع والسجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها.. وهم ".. الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ.." أيْ الطالِبُون من أنفسهم وغيرهم والمُوصُون بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بالمعروف أيْ بما هو معروفٌ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خيرٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة وبالجملة فالمعروف هو كلّ أخلاق الإسلام، والمَانِعُون ذواتهم ومَن حولهم بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مُناسبٍ عن المنكر وهو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ.." أيْ وهم بالجُمْلَة المُحَافِظون تماماً دائماً علي حَوَاجِز الله تعالي من تشريعاتٍ وواجباتٍ وأخلاقيَّاتٍ ونُظُمٍ ووصايا يُوصِيهم بها في القرآن والإسلام والتي عليهم ألاّ يعتدوا عليها بأنْ يَتَعَدُّوها ويَتَجاوَزُوها لأنْ تَعَدِّيها وتَجَاوُزها يُوقِعهم فيما هو مُحَرَّم عليهم أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تَضَرُّهم وتُتْعِسهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائماً المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المؤمنون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿113﴾ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿114﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم ﷺ قُدْوَة لك (برجاء مراجعة الآية ﴿33﴾، ﴿34﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿74﴾ حتي ﴿79﴾ من سورة الأنعام، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُحْسِنَاً للدعوة إلي الله تعالي والإسلام صَبُورَاً رقيقاً حَلِيمَاً مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فأنت وكل مسلم رحمة للعالمين كما كان قدوتنا الرسول ﷺ وصحابته الكرام، ولا تتوَقّف عن هذا أبداً إلاّ عندما يَتَبَيَّنَ لك بأدِلّة قاطعة أو بقَرَائِن حين تجتمع بعضها لبعض فتُصبح دليلاً علي أنَّ مَن تَدعوه هو عدوٌّ لله تعالي وللإسلام والمسلمين والأبرياء والخير والحق والعدل، حينها سيَحتاج الأمر لتغيير أسلوب التعامُل حسبما تحتاج الأحوال، فقد تَتَطَلّب الظروف أحيانا الغِلْظَة والكلام الشديد أو المُقَاطَعَة أو كشف الحقائق والمُعَاقَبَة أو حتي المُقَاتَلَة لمَن يبدأ ويعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿113﴾" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنبي كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم، ولا كذلك الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أنْ يَطْلُبوا المَغْفِرَة للمشركين وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه، حتي ولو كانوا أصحاب قَرَابَة كآباء وأبناء وإخوة ونحوهم، وذلك مِن بعد ما تَبَيَّنَ لهم أيْ اتّضَحَ وتأكّدَ بلا أيِّ شكّ للنبي وللذين آمنوا أنهم أيْ هؤلاء المشركين أهل النار بسبب مَوْتِهم علي شِرْكِهم وعدم إسلامهم، فلا يَستغفروا لهم بعد الموت لأنه تعالي أخبرهم بأنه لا يَغفر للمشركين إذا ماتوا كذلك فيَحْرُم عليهم هذا لأنَّ استغفارهم حينها سيكون مُخَالَفة لربهم أمَّا أثناء حياتهم فتُطْلَب الهداية لهم ولأشباههم لعلهم يستفيقون ويُسْلِمون ليسعدوا في الداريْن لأنَّ المسلمين رحمة للعالمين وهذا من باب البِرِّ بهم والإشفاق عليهم وحُسن التعامُل معهم ودعوتهم للخير الذي يُوصِي به الإسلام
ومعني "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿114﴾" أيْ ولم يَكُن ما فَعَله إبراهيم ﷺ من الاستغفار لأبيه إلاّ تحقيقاً لوَعْدٍ منه له بأن يَدعو ويستغفر له رجاء إيمانه، كما قال تعالي في الآية ﴿47﴾ من سورة مريم "قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً" ، فلمَّا تَبَيَّنَ لإبراهيم أيْ اتّضَحَ له وتأكّد بلا أيِّ شكّ أنَّ أباه عدوٌّ للَّه بإصراره على الشرك حتى مات عليه، تَبَرَّأ منه وتَرَكَ الاستغفار له، والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف، فلا حُجَّة مُطلقاً لكم بالتالي إذَن أيها المسلمون في أن تستغفروا للمشركين والكافرين ومن يَتَشَبَّه بهم بعد تأكّدكم أنهم قد ماتوا علي شِرْكِهم وكُفْرِهم.. ".. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿114﴾" أيْ هذا بيانٌ لِمَا دَفَع إبراهيم ﷺ للاستغفار لأبيه رغم قَسْوَته عليه، وهي صفات كريمة لكل الرسل الكرام علي المسلمين أنْ يَتَشَبَّهوا بها ليُحْسِنوا دعوة غيرهم لله وللإسلام لينالوا عظيم الأجر في الداريْن مِثْلهم.. أيْ إنَّ إبراهيم بالتأكيد أوَّاهٌ أيْ رقيق المشاعر يحبّ للجميع الخير والسعادة ويَسعد حينما يَرَاهم كذلك بسبب ارتباطهم الدائم بربهم ودينهم الإسلام ويَحْزَن ويُكْثِر مِن قولِ آهٍ آهٍ مُتَأَلّمَاً ومُسْتَغْفِرَاً ورَجَّاعَاً لربه حينما يَرَيَ شَرَّاً وبُعْدَاً عنهما، ثم هو حليمٌ أيْ شديد الصبر علي مَن يَدعوهم يُقابِلهم بكل خيرٍ حتي ولو قابَلُوه هم بكلِّ شَرّ.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَرْك الاستغفار لمَن مات علي الشرك لأنه إذا كان إبراهيم ﷺ الذي هو بهذه الصفات تَرَكَه فمِن باب أوْلَيَ أنتم أيها المسلمون
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿115﴾ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿116﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مِن المُصِرِّين علي عدم تقوي الله تعالي أيْ المُسْتَمِرِّين المُدَاوِمِين المُوَاظِبين علي فِعْل ما يُخَالِف شرعه الإسلام لأنَّ الإصرار يُؤَدِّي غالباً للإدمان للفساد وعدم القُدْرَة علي العودة عنه فيُؤدّي للضلال أيْ الضياع بفِعْل مزيدٍ من الشرور والمَفاسد والأضرار بما يُؤَدِّي بالتالي لتمام التعاسة في الداريْن
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿115﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الإصرار علي المعاصي.. أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الكريم الغفور الرحيم الودود الذي يحب لخَلْقه سعادتهم في دنياهم وأخراهم لأنه ما خَلَقَهم إلاّ لهذه السعادة فيهما لِيَظلم أحداً بأيّ ذرَّة ظلم ويَستحيل ذلك بأنْ يُضِلّ أناساً أيْ يُوقِعهم في الضلال أيْ الشرِّ والفساد بعد أنْ هداهم للإسلام حتي يُوَضِّحَ لهم تماماً ما الذي عليهم أن يَتّقوه أيْ يَتَجَنّبوه من شرٍّ وما الذي عليهم أن يفعلوه من خيرٍ وذلك من خلال كتبه التي أرسلها مع رسله فيها الإسلام الذي يُناسب كل عصر وآخرها القرآن العظيم، فإذا لم يَتّقوه وفَعَلوا الشرَّ وتَرَكُوا الخيرَ وأصَرُّوا عليه بلا أيِّ توبةٍ وعودةٍ عنه ورجوعٍ لربهم ولإسلامهم فعند ذلك يَسْتَحِقّون الإضلال بمعني أنه تعالي لا يُوَفّقهم للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لهم لأنهم يَشاءون الضلالة ولم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿115﴾" أيْ إنَّ الله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم ﷺ وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿116﴾" أيْ إنَّ الله تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ الملك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿116﴾" أيْ وأيضا ليس لكم أيها الناس غير الله تعالي الخالق الرازق المُعِين الرحيم الودود أيّ وَلِيّ وأيّ ناصر يَتَوَلَّيَ أموركم فيُعِينكم ويَنصركم ويَمنع الضرَرَ عنكم في كل شئون حياتكم.. ومَن كان الله وَلِيّه ونَصيره فسيُوَفّر له حتماً في دنياه وأخراه الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها.. وفي المُقابِل مَن ابتعد عن ربه وإسلامه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فأمثال هؤلاء عند نزول ما يُناسبهم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ لا يَجدون أيَّ وَلِيٍّ أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافِع عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿117﴾ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿117﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بأهمية خُلُق التوبة من كلّ شَرٍّ أوّلاً بأوَّل وتشجيعٌ عليها، لتعود للتائب سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ.. إنه بالرغم أنه من المعلوم أنَّ الأنبياء لا يفعلون أيَّ شَرّ، ولكنْ ذِكْر النبي ﷺ في الآية الكريمة هو للتذكير بأنَّ التوبة هي خُلُق طيِّب مُلاَزِم لكل الرسل الكرام ولكل الصالحين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ليَتَشَبَّه بهم كل مسلم، كما يُفيد أنَّ كل القادة والمسئولين غير الرسل هم بَشَر قد يقعون في الشرّ والخطأ فعليهم أن يعودوا عنه سريعاً بالتوبة وأن يَتَجَنّبوه مستقبلا بالشوري دائما مع المُتَخَصِّصين الأمناء وذوي الخبرات منهم دون الانفراد والاستبداد بالرأي والذي هو أصل الشرور والأخطاء.. إنَّ الآية الكريمة تُفيد أيضا أنَّ الذي يتمسّك ويعمل بكل أخلاق الإسلام ويَدعو له ويُدافِع عنه ويُجاهِد في سبيله وقد يَتَحَمَّل أحيانا بعض المَشَقّات من أجل هذا هو الأحقّ والأجْدَر بتوبة ربه ورضاه ورفع درجاته حينما يُخطيء ويُسارِع بالتوبة، فدرجته ولا شكّ أعلي مِمَّن يتوب وهو لا يفعل ذلك.. أيْ لقد غَفَر الله للنبي بالتأكيد ورَفَعَ درجاته بسبب دوام استغفاره، وكذلك يَغفر لكلّ مَن يَتَشَبَّه به من المهاجرين وهم الذين فارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها مع رسول الله ﷺ في هجرته من مكة إلي المدينة، أو بعده في أيِّ زمانٍ ومكان، من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها، ومن الأنصار وهم الذين كانوا بالمدينة، وكذلك الذين في أيِّ مكانٍ بعد زمنه ﷺ ، فأحسنوا استقبال المهاجرين إليهم بأن نصروهم وعاوَنوهم وتَقَاسَمُوا معهم أموالهم وأرزاقهم وتآخوا وتآلفوا وتَحابّوا وتَلاَحَمُوا جميعا وتعامَلوا بالإسلام فيما بينهم ونشروه لغيرهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ ودافعوا عنه ضدّ مِن اعتدي فسعدوا في الداريْن، وكذلك يَغفر لكل مَن يَتَشَبَّه بهم في كل عصر، وذلك لأنهم اتّبَعوه في ساعة العُسْرَة أيْ ساروا خَلْفه وكانوا معه مُتمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم داعِين ناشِرين له مُدَافِعين عنه ولم يَتَخَلّفوا عن ذلك في كل الأوقات خاصة في وقت الشدّة من بعد ما قَارَبَ يَمِيل ويَبْتَعد عقول فريق منهم عن اتّباعه من عظيم الشدائد التي يَمرّون بها ولكنهم لم يَزيغوا ولم يَضِلّوا بل صَبَروا جميعاً واستعانوا بربهم وتوكّلوا عليه واعتصموا به ومَرَّت الشدائد وانتهوا إلى الاطمئنان والسعادة باتّباع الإسلام.. ".. ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم ورحمته التامّة بهم لمزيدٍ من طمأنتهم وتَبْشِيرهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿117﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم ورحمته التامّة بهم لمزيدٍ من طمأنتهم وتَبْشِيرهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ لأنه هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ بهم رؤوف رحيم أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾" أيْ وكما غفر الله تعالى بفضله وكرمه ورحمته وإحسانه للمهاجرين والأنصار تَقَبَّل كذلك توبة الثلاثة من الرجال الذين تَخَلّفوا عن الخروج مع الرسول ﷺ في غزوةٍ هامّةٍ تحتاج لوجود كل مسلم بغير عذرٍ مَقْبُولٍ كَسَلاً وحباً للراحة وليس نفاقاً أو إضعافا للإسلام والمسلمين والذين قد ظَهَر صِدْق توبتهم بأنْ حزنوا حزناً شديداً بسبب تَخَلّفهم بلا عذرٍ إلي الحَدِّ الذي ضاقت عليهم الأرض رغم سَعَتها غمًّاً ونَدَماً بسبب هذا التخَلّف وضاقت عليهم حتي أنفسهم لِمَا أصابهم من الهَمّ والحزن وأيقنوا أن لا ملجأ ولا مَهْرَب من غضب وعقاب الله إلا باللجوء والعودة إليه باستغفاره واتّباع إسلامه، حينها تابَ عليهم، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي قبول توبتهم وطمأنتهم وإسعادهم، ليتوبوا أيْ ليَظَلوا علي توبتهم متمسّكين بها مستمرّين عليها ولا يعودوا لسوءٍ وليتوبوا مستقبلا لو صَدَر منهم خطأ مَا ولا ييأسوا أبداً من واسع رحمته ليعيشوا دائما في سعادات رحماته بعدما ذاقوا مرارات تعاسات معصيته، وذلك لأنَّ الله هو التواب الرحيم أيْ لأنه هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تاب إليه ورجع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقين.. وإذا كنتَ من الصادقين
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوه وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾" أيْ وكونوا دَوْمَاً مع الصادقين وهم الذين يكونون في الدنيا عابدين أيْ مُطِيعين لله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ عاملين بأخلاق إسلامهم ويُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق الإسلام ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. إنه بالتقوي وبالصدق سيَسعدون حتماً تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، بينما بعدم التقوي وبالكذب سيَتعسون قطعاً فيهما
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿121﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾"، "وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿121﴾" أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لسُكّان المدينة وهم الذين يعيشون في المُدُن ولهم إمكانات فكرية وعلمية ومالية وغيرها ولا لمَن حولهم من الأعراب وهم البدو الذين يعيشون في الصحراء قليلي العلم والخبرة والتّطَوُّر لكن فيهم شجاعة وإقدام وشِدَّة وصلابة وتَحَمُّل وصَبْر، والمقصود جميع المسلمين علي اختلاف قُدْراتهم وإمكاناتهم علي قَدْر استطاعاتهم، أن يَتَرَاجَعوا عن رسول الله ﷺ ويَتركوه في زمنه ومِن بعده عند نشر الإسلام والدعوة له والدفاع عنه بكل ما يَملكون مِن قوَيَ لأنَّ ذلك يَتَنَافَيَ مع الإيمان بالله وبه ﷺ ، وليس لهم كذلك أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أىْ ليس لهم أن يَتَرَفّعوا بأنفسهم عن نفسه بأنْ يَكرهوا لأنفسهم المَكَارِه ولا يَكرهوها له ﷺ بل عليهم أن يعكسوا الأمر أيْ ليس لهم أنْ يُؤْثِرُوا ويُقَدِّموا أنفسهم بالراحة على نفسه بأن يتركوه يَتَعَرَّض وحده لللآلام والأخطار دون أن يُشارِكوه فى ذلك بل الإيمان يجعل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله فى البأساء والضراء والعُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمَكْرَه فبَذْل النفس من أجل الله والرسول ﷺ والإسلام عند الاحتياج لبذلها للدفاع عنهم أوْلَيَ وأحقّ وأجْدَر مِن حفظها لأنه بدونهم لا قيمة لوجود أيّ نَفْسٍ أصلا! لأنها ستكون مِن شِدَّة تعاستها بفقدانهم كأنها مَيِّتَة!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿6﴾ من سورة الأحزاب " النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.."﴾.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾" أيْ هذا بيانٌ لعظيم الأجر الذي ينتظرهم في دنياهم وأخراهم وهو الدافع الشديد الذي يَدْفعهم لاتّباعه ولعدم التّخَلّف عنه ﷺ بعد دافِع حبه وحب ربهم وإسلامهم ويقينهم أنه هو الذي يُسعدهم في الداريْن، مع بيانِ أنَّ مَن لم يَفعل ذلك سيُحْرَم هذا وسيُعَاقَب بما يُناسب من عقابٍ وتعاسةٍ فيهما.. أيْ ذلك الذى نُوصِيهم به من وجوب اتّباع الرسول ﷺ والنهى عن أن يَتَخَلّفوا عنه ويُخَالِفوه بسبب أنهم لا يَحْدُث لهم أيُّ عَطَشٍ ولا تَعَبٍ ولا مَجَاعَةٍ في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، ولا يَطَئُون مَوْطِئَاً أيْ يَدُوسُون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم وبمُعِدَّاتهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم وإضعافهم وهزيمتهم ولا يأخذون مِن عدوٍّ مِن أعدائهم أخْذَاً مَا كقتلٍ أو أسْرٍ أو غنيمةٍ أو هزيمةٍ أو غيره، إلا كُتِبَ لهم بكلِّ واحدٍ مِمَّا ذُكِر عمل صالح ينالون بسببه الثواب الجزيل من الله في الدنيا والآخرة، لأنه سبحانه لا يضيع مطلقا أجر المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم لا في دنياهم حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم ولا في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد وإنما يكافئهم بسبب إحسانهم بالأجر العظيم فلهذا لا ينبغي لهم أن يَتَخَلّفوا عن رسول الله ﷺ حتى لا يَفوتهم هذا الأجر الذي لا يُوصَف.. "وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿121﴾" أيْ وكذلك لا يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان إنفاقاً صغيراً أم كبيراً وسواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، وأيضا لا يَقطعون وادياً أيْ لا يَسيرون طريقاً من أجل فِعْل أيّ خيرٍ في سبيل الله في أيِّ مكان، إلاّ كَتَبَ الله لهم ثواب كلّ ذلك فى سِجِّل حسناتهم.. ".. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿121﴾" أيْ ليُعْطِيهم الله بذلك في دنياهم وأخراهم جزاءً أحسنَ مِن الذي كانوا يعملونه أي أفضل كثيراً وكثيراً منه، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف جزاءَ الأعمال الحَسَنَة أضعافاً مُضَاعَفة، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع، سبحانه الوهّاب الرزّاق الذي يرزق بغير حساب، وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية للذين آمنوا وعملوا الصالحات كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿122﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَخَصِّصَاً، ومُتَعَلّمَاً لا جاهلاً، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، لأنه بانتشار العلم والعلوم والعلماء يَرْقَيَ الناس في معاملاتهم ويتطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الجهل والجهلاء يتخلّفون ويتعسون فيهما، سواء أكان تَخَصُّصَاً وعِلْمَاً شَرْعِيَّاً أو سياسياً أم إدارياً أم عسكرياً أم اجتماعياً أم قانونياً أم إعلامياً أم اقتصادياً أم تجارياً أم صناعياً أم زراعياً أم طبياً أم هندسياً أم الكترونياً أم فلكياً أم رياضياً أم فنياً أم بيئياً أم غيره من أيِّ علمٍ خَيْرِيٍّ مُسْتَحْدَث ينفع البشرية ويُطَوِّرها ويسعدها، مع استصحاب ما أمكنك من نوايا خير بعقلك أثناءها لتُثاب عليها أعظم الثواب في دنياك وأخراك.. إنَّ الآية الكريمة تَرْفَع من شأن العلم والتّخَصُّص والعلماء والمتعلمين والمُتَخَصِّصِين، فتُسَاوِيه بالجهاد في سبيل الله في مكانته وفضله، بل وقد يُقارِبه في الأجر الدنيويّ والأخرويّ، علي حسب كل فردٍ وقُدْرته وتَخَصّصه وأدائه وإحسانه وعدم تقصيره فيما هو مطلوب منه ويستطيعه ويقوم به قَدْر استطاعته ويحتاجه الإسلام والمسلمون والدولة المسلمة وكل المواطنين فيها علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم، بل الآية الكريمة تُحَذّر من خروج الجميع للقتال ضدّ مَن يَعتدون بالقتال مع تَرْك شئون الحياة لِتَخْرَب!!.. إنَّ الجهاد في سبيل الله ما شُرِعَ في الإسلام إلاّ لحماية الحياة! حماية أن تكون حياة حقيقية سعيدة، وذلك بتقديم الحماية والدفاع عن الإسلام والمسلمين والأبرياء والخير والحقّ والعدل، وهم الذين يجعلونها حياة سعيدة، مُسْتَبْشِرَة بانتظارِ آخرةٍ أسْعَد وأخْلَد.. وكذلك العلم والتَّخَصُّص، فهما اللذان يُنْشِئان الحياة أصلا ويُصلحانها ويُكملانها ويُسعدانها، ولولاهما لخَربَتْ الحياة وحينها لن يكون للجهاد قيمة لأنه عن ماذا سيُدَافِع إذَن؟! ولهذا فكل من الجهاد والعلم المُتَخَصِّص مطلوب بذات الدرجة
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿122﴾" أيْ وبَعْد بيان عظيم الأجر الذي يَنتظرهم في دنياهم وأخراهم باتّباعه ﷺ والتحذير الشديد من التّخَلّف عنه يُبَيِّن تعالي كيفية الخروج لصور الجهاد المختلفة حسب الاحتياج.. أيْ وكما أنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل للمؤمنين أنْ يَتَخَلّفوا عن اتّباع الرسول ﷺ كما في الآيتين السابقتين فإنه كذلك لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لهم أنْ يخرجوا للجهاد في سبيل الله جميعاً ولقتال عدوّهم المُعْتَدِيِ عليهم بالقتال إذا لم يَتَطَلّب الأمر ذلك لأنه سيَحصل لهم المَشَقّة بذلك وسيَفوتهم به كثير من المصالح الأخرى.. ".. فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿122﴾" أيْ فلو خَرَجَ من كل فرقة من المؤمنين طائفة أيْ مجموعة للجهاد وتَبْقَىَ طائفة أخرى منهم ولا تَخْرُج للجهاد ليَتَعَمَّقوا في الدين الإسلامي وفي كل تَخَصُّصات الحياة المتنوِّعَة ولكي يُحَذّروا قومهم الذين خرجوا للجهاد إذا رجعوا إليهم بعد قتالهم للعدو لعلهم يَحْذرون دائماً مُخَالَفَة أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما، فلو أنَّ المسلمين فَعَلُوا ذلك لكَاَنَ أوْلَيَ وأصْوَب وأكثر نَفْعَاً وجَمْعَاً للمصالح كلها من خروج الجميع للجهاد في سبيل الله ما دام الأمر لا يحتاج لخروجهم جميعا حيث القتال لا يحتاجهم كلهم بل يخرج العدد الذي يحتاجه القتال ومعهم تجهيزاتهم المناسبة التي تُحَقّق المطلوب وهو النصر علي المُعْتَدِين، بينما تَنْشغل كل فرقة أيْ كل مجموعة في تَخَصّصهم سواء أكانَ شَرْعِيَّاً أم غيره، وبكل إجادة، وليَحْذروا التقصير في العدد الذي يكفي لكلّ تَخَصُّص ولكل فروع التّخَصُّصات المختلفة حسبما يحتاجه المسلمون ويسعدهم، وإلاّ تَعِسُوا في دنياهم بعُلُوِّ غيرهم عليهم واستغلالهم لهم واستهزائهم بهم واستضعافهم وإذلالهم، ثم تعسوا في أخراهم بسبب تقصيراتهم هذه (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقاً تحت عنوان "بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة" من أجل اكتمال المعاني﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿123﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾، ثم الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿123﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – قاتِلوا المُعْتَدِين عليكم بالقتال الذين يُجَاوِرُونكم الأقْرَب ثم الأبْعَد من الكفار وغيرهم حتى لا يكونوا مَصْدَر خَطَرٍ عليكم، وهذا أمر مَنْطِقِيّ عقليّ إذ كيف يُقْضَيَ علي مُعْتَدٍ بَعِيدٍ ويُتْرَك قريبٌ يَستمرّ في اعتدائه؟! إلا إذا كانت هناك حاجة لذلك، لحِصار القريب مثلا، فحِينَئذٍ يُبْدَأ بالأَبْعَد، حسبما يُقَدِّره المُتَخَصِّصُون الصالحون.. ".. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.." أيْ وعليكم أن تجعلوهم يَروا ويحسّوا فيكم شِدَّة وقوّة وشجاعة عند قتالكم لهم بحيث تَسْحَق أيَّ مُعْتَدٍ وتَمنع أيَّ أحدٍ أن يُفَكّر في الاعتداء مستقبلا.. ".. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿123﴾" أيْ واعْرَفُوا وتَأكَّدوا واطمَئِنّوا أنَّ الله ربكم الكريم القويّ العزيز دائما مع المتقين بعلمه وبقُدْرته يَنصرهم حتما ويُكرمهم ويعزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، فكونوا كذلك لتنالوا ذلك الوعد.. والمتقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، والتي منها عند قتالهم المُعتدين عليهم بالقتال، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿124﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿125﴾ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿127﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿124﴾" أي وإذا كانت هناك سورة مَا مِن سُوَر القرآن الكريم واستمعها المنافقون وهم الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخْفُون الكفر ومَن يَتَشَبَّه بهم فمنهم مَن يقول لمَن حوله أمثاله ساخراً منها رافِضَاً لها مُسْتَعْلِيَاً عليها مُشَكّكَاً في قيمتها وتأثيرها أيّ أحدٍ منكم قد زادته هذه السورة وآياتها إيماناً أيْ تصديقاً بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسُّكَاً وعَمَلاً بأخلاق الإسلام؟! فأمّا الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فزادتهم حتماً إيماناً أيْ قوَّة في التصديق بوجوده – لتَدَبُّرهم العميق لكلّ مَعانيها – وفي أنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنَّ شرعه الإسلام هو وحده الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لأنه هو الذي يُوافِق العقل والفطرة، فازدادوا بهذا قوَّة وهِمَّة في حبِّ ربهم وفي العلم بدينه الإسلام والعمل بكل أخلاقه وفي الاستعداد التامّ الحَسَن بذلك للآخرة وفي الاستبشار بانتظار دوْمَاً كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، والخلاصة أنها زادتهم إسلاماً باستكمال كل أخلاقه، فعاشوا سعداء تماماً فيهما، فإسلام المسلم بالقطع يَزيد بمزيدٍ من عمله بأخلاقه ويَقِلّ بمِقْدار تَرْكه ومُخَالَفته ومَعصيته لها بعضها أو كلها (برجاء لاستكمال المعاني مراجعة الآية ﴿4﴾ من سورة الفتح "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.."، والآية ﴿17﴾ من سورة محمد "وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في قوله تعالي "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا.." ﴿الحجرات:14﴾ فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة
ومعني "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿125﴾" أيْ وأمَّا الذين في قلوبهم أيْ عقولهم مرضٌ مَا كنفاقٍ مثلاً أيْ إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو كشكّ في وجود الله أو تَرَدُّدٍ بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم تمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كرياءٍ أيْ ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحبون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، أو ما شابه هذا من تفكيرٍ مَرَضِيٍّ غير سَوِيّ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم فزادتهم حتماً حين يسمعونها رِجْسَاً إلي رِجْسهم أيْ قَذارَة وخُبْثَاً إلي قذارتهم وخُبْثهم حيث هم قَذِرُون خَبِيثُون بسبب سُوءِ أفكارهم واعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وهل هناك أنْجَس وأقْذَر وأخْبَث مِمَّن يَفْعَل مِثْلهم؟! إنها نجاسة معنوية وليست حِسِّيَّة فيجوز قطعا لَمْس ما يَلْمسونه دون تطهيره بالماء! وفي هذا تَهوينٌ وتَحقيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم فيَرْقُون ويَسْمُون ويَسعدون في الداريْن.. إنهم يزدادون رِجْسَاً إلي رِجْسهم الذي هم فيه لأنهم كلما استمعوا لشيءٍ من آيات القرآن العظيم لا يؤمنون ويعملون بأخلاقها فيزداد بذلك كفرهم بها إضافة إلي كفرهم السابق بغيرها فيزداد قَلَقهم واضطرابهم وكآبتهم وتعاستهم لأنها تزيد التَّصارُع مع فطرتهم المسلمة بداخلهم والتي تدعوهم للخير دائما ولاتّباعه وتزيد خوفهم من انكشاف أمرهم حيث ستكون فضيحتهم كبيرة بسبب تَرَاكُم شَرِّهم.. إنهم كلما أصَرّوا علي الشرّ كلما أصبح مَرَضهم مُزْمِنَاً يصعب علاجه، كالذي يسير في طريقٍ خطأ، كلما طالَ سَيْره فيه، كلما ازداد بُعْده عن الطريق الصواب وصَعُب عودته إليه.. ".. وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿125﴾" أيْ وتَمَكَّنَ ذلك الرّجْس فيهم واستمرّوا مُصِرِّين عليه حتى ماتوا وهم كافرون بلا توبةٍ أيْ رجوعٍ إلي ربهم وإسلامهم فاسْتَحَقّوا بذلك ما هو أتمّ وأعظم وأخْلد عذاباً وشقاءً في أخراهم لا يُقارَن قطعاً بما كانوا فيه من عذابٍ وتعاسةٍ في دنياهم
ومعني "أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك مُصِرَّاً علي إغلاق عقله مُستمِرَّاً علي كفره ونفاقه وشَرِّه وفساده بلا أيِّ توبةٍ واتّعاظٍ بما يَحْدُث حوله، ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل لا يُشاهدون ولا يَتَدَبَّرون ولا يَعلمون هؤلاء المنافقون وأشباههم أنَّ الله يَفتنهم أيْ يَختبرهم في كل عامٍ مرة أو مرات بأنواع الاختبارات المختلفة مُتَمَثّلَة في بعض البلايا والمصائب كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفياضانات والأوبئة والأمراض مع فَضْح سُوئهم وكَشْف باطلهم وكَيْدهم ونَصْر المؤمنين عليهم وما شابه هذا مِن فِتَن، رحمة بهم، ليستفيقوا مِمَّا هم فيه من بَلادَة وغَفْلَة، ويعودوا له ولدينهم الإسلام وللخير وللسعادة في الداريْن بَدَل تمام التعاسة التي هم فيها فيهما؟! ثم هم بعد كل هذه الفِتَن النازلة بهم لا يتوبون من سُوئهم ولا هم يَذّكرون أيْ يَتّعِظون بما يَحْدُث لهم بل يُصِرُّون على ما هم فيه مع أنَّ من شأن الفِتَن والمصائب أنها تَدْفع كل صاحب عقلٍ للاعتبار والاتّعاظ والعودة عن الشرّ للخير!.. لقد وَصَل بهم السَّفَه وإغلاق العقل إلي الحَدِّ الذي لا يَتّعِظون بأنَّ مَا وَقَعَ لهم هو بسبب سُوئهم حيث مَن يَزرع سُوءَاً لا بُدّ أن يَحصد سوءاً لأنَّ هذا هو القانون العادل للحياة كما نَبَّه تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿127﴾" أيْ وإذا كانت هناك سورة مَا مِن سُوَر القرآن الكريم واستمعها هؤلاء المنافقون وأشباههم فإنهم بسبب صفاتهم السيئة التي يَتّصِفون بها والتي سَبَقَ ذِكْرها يَتَمَلْمَلُون وينظر بعضهم إلي بعضٍ نظرة ضيقٍ واستهزاءٍ ورغبةٍ في الانصراف لأنها تكشف سُوءهم وتزيدهم رِجْسَاً إلي رِجْسِهم وحينما تَحين لهم أيّ فُرْصَةٍ للتّخَلّص من هذا الاستماع الثقيل عليهم وحينما يطمئنون – كعادتهم الخَسِيسَة – أنهم لا يراهم أيُّ أحدٍ فإنهم حينها ينصرفون مُتَسَلّلين في الخفاء وكأنهم قد تَخَلّصُوا من قَيْدٍ أو سجن!!.. ".. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.." أيْ فلمّا انصرفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير صَرَفَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام وابتعدوا عنه، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا البُعْد والزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا البُعْد والزَّيْغ والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يَصرفهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء المُنْصَرِفِين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الانصراف والزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذابا مناسبا لشرورهم بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿127﴾" أيْ صَرَفَ الله قلوبهم بسبب أنهم أناسٌ لا يفقهون أي لا يعقلون ولا يتدبّرون ولا يُدْركون أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم
تفسير الآية ﴿128﴾، ﴿129﴾
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿128﴾ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿129﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿128﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للمؤمنين بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة القرآن والإسلام الذي أرسله إليهم بوحيه لرسوله الكريم محمد ﷺ ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾.. أمَّا غير المؤمنين فلا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ لقد وَصَلَ إليكم أيها الناس جميعا من فضل الله وإنعامه وكرمه ورزقه عليكم ووُدّه لكم رسولٌ من أنفسكم أيْ مَبْعُوثٌ هو منكم تعرفونه فيَسهل بالتالي عليكم تصديقه والثقة به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامكم عمليا فيَسهل عليكم أنتم أيضا تطبيقه، يقرأ عليكم ويُبَلّغكم آيات الله تعالي ويُذَكِّركم دوْمَاً بها، وآياته هي دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولكم يرشدكم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربكم أم آيات في القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليكم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ.." أيْ وهذا الرسول الكريم كامِل الخُلُق فيه كل صفات الخير والرحمة يُعامِلكم بها ويَحملها لكم فآمِنُوا بالتالي به وبما جاءكم به من إسلامٍ واقتدوا بكل أخلاقه لتسعدوا تماما في الداريْن فهو عزيزٌ أيْ شَاقّ صَعْبٌ عليه ما شَقَّ عليكم وصعب تَحَمُّله لأنه جزء منكم وأنتم جزء منه فهو يَخاف عليكم سوء النتائج والوقوع فى العذاب والتعاسة في الداريْن إذا خَالَفتم الإسلام كما أنه يَشقّ عليه الشيء الذي يَشقّ ويَصعب عليكم بمعني أنَّه قد جاءكم بالإسلام الذي كله سَهْل يَسِير مُسْعِد لا مَشَقّة أبداً في أيٍّ من أخلاقه علي مَن عمل به لأنه يُوافِق الفطرة التي هي مسلمة أصلا والعقل المُنْصِف العادِل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ.." أيْ وهو حريصٌ تمام الحِرْص بكل اهتمامٍ ورَغْبَةٍ وحبٍّ على إصلاحكم وإكمالكم وإسعادكم تماماً في دنياكم وأخراكم من خلال تبليغ الإسلام إليكم بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وشِدَّة رغبته في استجابتكم جميعاً له واتّباعكم لكل أخلاقه التي بَلّغها لكم.. ".. بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿128﴾" أيْ وهو بالمؤمنين كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابتهم بأيِّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسهم، والرحمة هي حبّ إيصال كلّ الخير والنفع لهم بما يُسعدهم.. هذا، وللرسول الكريم ﷺ رحمة عامة للعالمين غير المُمَيَّزَة التي بالمؤمنين حيث يريد لهم جميعا السعادة التامّة في دنياهم وأخراهم من خلال حرصه علي هدايتهم جميعا لربهم ولإسلامهم وحزنه علي مَن لم يَهْتَدِ منهم كما أكّد ذلك تعالي بقوله "وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" ﴿الأنبياء:107﴾
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿129﴾" أيْ فإن استجاب الناس بأنْ اتّبَعوا أخلاق الإسلام فلهم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم ﷺ والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فاستمرّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك ودعوتك له ودفاعك عنه ولا تَتَأَثّر بهم ولا تَيْأَس منهم بل قل لهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم حَسْبِيَ الله أيْ يكفيني الله الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فلا أعبد غيره ولا أتوكّل علي غيره وهو وحده الذي يَعتمد عليه كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل﴾، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ".. وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿129﴾" أيْ وهو تعالي الذي قد تَمَلّكَ المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك!.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾" أيْ هذه هي الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة للقرآن الذي بين أيديكم، وهذه هي صِفته، هو الكتاب الحكيم، أي الذي كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث، والذي هو مُحْكَم أي كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل، والذي هو الحاكِم أي المَرْجِع الشامل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
ومعني "أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴿2﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل كان أمْرَاً عَجَبَاً مُسْتَغْرَبَاً للناس الكفار وأشباههم أنْ أوحينا القرآن الكريم من فضلنا وإنعامنا علي البَشَر جميعاً ووُدّنا لهم لإسعادهم تماماً في دنياهم وأخراهم إلي رجلٍ منهم أيْ بَشَرٍ من بينهم وليس مَلَكَاً لا يمكنهم التفاهُم والتعايُش معه ويعرفونه فيَسهل بالتالي عليهم تصديقه والثقة به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه؟! إنَّ الذى يدعو إلى العجب والاستغراب والدهشة حقاً هو ما تَعَجَّبُوا هم منه لأنه يُخَالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!!.. ".. أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.." أيْ وهذا المُوُحَىَ به في القرآن الكريم مُجْمَله ومُلَخّصه هو أنْ أنذر كل الناس أيْ حَذّرهم من عذاب وتعاسة الدنيا والآخرة إذا هم خَالَفوا الإسلام وتركوه كله أو بعضه وأنَّ تعاستهم ستكون علي قَدْر مُخَالَفتهم له، وأنْ بَشِّر الذين آمنوا أيْ أَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم عند ربهم مُجَهَّزٌ كوَعْدٍ منه إليهم لا يُخْلَف مُطْلَقَاً قَدَمَ صِدْقٍ أيْ مقام ومكان صدق أيْ مُؤَكّد مُحَقّق لا زوال له والمقصود مقاماً عالياً وأجراً حَسَنَاً مُسْعِدَاً في الدنيا والآخرة يَتَمَثّل في كلِّ خيرٍ وأمنٍ وسرورٍ لا يُوصَف بسبب ما يُقَدِّمون مِن أعمالٍ صالحةٍ صادقة.. ".. قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴿2﴾" أيْ فلما جاء الرسول ﷺ للناس بوَحْيِ الله لهم وهو القرآن العظيم مُنْذِرَاً ومُبَشّرَاً قال الكافرون منهم أي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤون إنَّ هذا الرسول وهذا القرآن بكل تأكيدٍ ساحرٌ واضح السحر!! وهم أكثر مَن يعلم صِدْقه وأمانته حيث هم الذين كانوا يُسَمّونه بأنفسهم الصادق الأمين! إنهم يقصدون بذلك ادِّعاء أنَّ القرآن العظيم ليس وحيا من الله تعالي ليُسْعِد البشرية في الداريْن وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وأنَّ الرسول ﷺ ما هو إلا ساحر ولا يُوحَيَ إليه أيّ شيء بل هو كذاب كثير الكذب!! إنهم حتما هم الكذّابون، لأنَّه بكل بَسَاطَةٍ وعُمْقٍ إذا كان الرسول ﷺ ساحرا فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به؟!! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد!! ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ ربّكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – الذي عليكم أن تعبدوه وحده أيْ تطيعوه هو الله تعالي الذي وحده لا غيره خَلَق أيْ أوْجَد مِن عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.." أي قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.." أيْ هو تعالي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات، يُسَيِّرُ كلّ أموره، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته ليُنفّذوها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أيِّ مكانٍ من كوْنه، ثم يَعْرُج إليه كلٌّ منهم أي يصعد له، أي يعودون بعد التنفيذ ليُتابعهم سبحانه، وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادةٍ ونحو ذلك، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. ".. مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.." أيْ ليس هناك أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّل يَجْرُؤ ويَقْدِر علي أن يشفع عنده أيْ يَتَوَسَّل أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده حتي يعفوَ عن أحدٍ ويُنقذه مِمَّا هو فيه من عذاب، أيْ لا أحد مُطلقا مهما كان يمكنه الشفاعة إلاَّ أن يأذن تعالي بها تَفَضُّلاً منه وكَرَمَاً، وذلك من كمال عظمته وهيبته وسلطانه ونفوذه.. ".. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.." أيْ ذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – فاعبدوه بالتالي إذَن أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾" أيْ هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يعبد الله تعالي ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ أي الصدق الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿4﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمُحسنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم وناصرهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنُون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.." أيْ وقد وَعَدَ الله بهذا وَعْدَاً حقاً أيْ صِدْقاً سيَتحقّق حتماً يوماً ما بالبَعْث وبالآخرة وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصِين، وهو مُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه.. ".. إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." أيْ ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه قادرٌ بتمام القُدْرَة علي إرجاعكم إليه يوم القيامة ببعثكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تراباً وأنَّ هذا وَعْدٌ حَقٌّ وأنه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، أنه سبحانه يبدأ خَلْقا ما في كلّ لحظةٍ سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي، ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فهو وحده الخالق!! فكيف يُنْكِر المُكَذّبون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كُن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. ".. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.." أيْ إليه مَرْجِعكم جميعاً وستقوم الساعة وسيَبْعَثكم حتماً لكي يَجزيَ أيْ يُكافِيءَ ويُعطي ويُحاسب تعالي كلاّ بما يَستحقّ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له، ويُعاقِبَ كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه، بالقسط أيْ بالعدل دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه، فذلك هو تمام العدل، فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر!! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. فالذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم، لهم قطعا مغفرة أيْ مَحْو لذنوبهم التي قد وقعوا فيها وعفو عنها من ربهم الغفور الرحيم الودود، ولهم مع هذا ما هو أعظم وأسعد – إضافة إلي السعادة التامّة التي كانوا فيها في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا – وهو الرزق الكريم أي النفيس الفخم الهائل وهو الجنة بدرجاتها حسب أعمالهم حيث تمام السعادة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر.. بينما غيرهم فحالهم علي العكس تماما "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿4﴾" أيْ ولِيَجْزِيَ كذلك الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، بأن يكون لهم مِن بعض عذابهم شراب من حميمٍ أيْ من ماءٍ مَغْلِيٍّ بَلَغَ أقصي درجات الحرارة يشربونه بالإكراه فيُقَطّع ويُذيب أمعاءهم ويَشْوِي وجوههم مِن شدّة حرارته، ويكون لهم أيضا عذاب مُوجِع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وكل ذلك وغيره بسبب أنهم كانوا يكفرون
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿5﴾ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿5﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ الله تعالى وحده هو الذى جعل لكم الشمس ضياءً أيْ مُضِيئَة في ذاتها مُتَوَهِّجَة بها طاقة وحرارة مُفيدة مَضبوطة في مقدارها دون أيّ زيادة أو نقصان بما ينفع الأرض والمخلوقات عليها وفيها ويسعدها حيث يعلم الناس نهارهم من ليلهم ليسعوا في طلب أرزاقه وخيراته تعالي لينتفعوا وليسعدوا بها وبطاقاتها وحراراتها التي تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام، وجعل لكم كذلك القمر نوراً أيْ مُنِيرَاً حيث يعكس ضوء الشمس فهو منير وليس في ذاته وَهَج وضوء وحرارة وذلك لكي يناسب وقت الليل والإضاءة الخافِتَة المُعِينَة علي الراحة ومنافعها وسعاداتها.. ".. وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.." أيْ وعلامة ودلالة أخري علي قدْرتنا علي كلّ ما نشاء، ونعمة أخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع، هي أنَّ الله نَظّمَ وحَسَبَ للقمر بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل المنازِل أيْ الأماكن التي يَنْزِل فيها ويَتحَرَّك، أيْ يُغَيِّر مَوَاضعه وانعكاساته فيكون هلالا ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي معرفة وحساب الأيام والأسابيع والشهور والسنين والأعمار والمعاملات والتصرّفات.. ".. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ.." أيْ ما خلق الله بقدْرته التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ما خَلَقَ كلّ ذلك وغيره مِمَّا لا يعلمه إلاّ هو سبحانه عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة! وإنّما خَلَقه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لقد خَلَقه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا.. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة.. ".. يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿5﴾" أيْ يُبَيِّن الله تعالي ويُوَضِّح ويُفَصِّل بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْنه والتي تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته وعطائه، وكذلك الآيات في قرآنه العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿6﴾" أيْ وكذلك مِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. وكذلك ما خَلْق الله تعالي في السماوات والأرض أيْ أوجد فيهما من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء والنباتات والطيور والحيوانات وتغيُّر الصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان.. ".. لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿6﴾" أيْ في كلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وغيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ دلالات واضحات على تمام قدْرة الله وعلمه ولكنْ لا يُدْرِك أهمية هذه الآيات ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا أناس يَتّقون أيْ يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴿7﴾ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ أي الصدق الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴿7﴾"، "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿8﴾" أيْ إنَّ الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، والذين قَبِلُوا بالحياة الدنيا وقدَّموها وفضَّلوها واعتقدوا واهِمين مُنْخَدِعِين أنها هي مُنْتَهاهم كأنهم مُخَلّدُون فيها وليس بعدها حياة أخري فاطمأنوا بها اطمئنانا واستقراراً جعلهم لا يَرَوْن حياة غيرها بعدها يَعملون لها واختاروا مُتَعَها الزائلة فقط بَدَلَ الآخرة ودون ارتباطٍ بها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ، والذين هم عن آياتنا، أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا الكرام وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، غافلون أيْ مُنْشَغِلون تائهون غير مُتَدَبِّرين مُعْرِضِون أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!. وتلك الغَفْلَة هي سبب التكذيب.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿8﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذكرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، بسبب ما كانوا يكسبون أيْ يعملون في الدنيا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مكاناً للراحة لا للعذاب!
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿9﴾ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿9﴾"، "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، يهديهم ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – بإيمانهم أيْ يُرْشِدهم بسبب إيمانهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن أيْ بسبب أنهم أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختاروا الإيمان بخالقهم واتّباع إسلامهم لأنهم تأكّدوا بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، فأمثال هؤلاء حتما وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا السعي للهداية للإيمان واجتهدوا في طَلَبها والحرص الصادق الدائم التامّ عليها والتمسّك والعمل بها يرشدهم الله خالقهم العالِم تمام العلم بهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويزيدهم هُدَيً علي هُداهم وفاءً بوعده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيد المُحْسِنين فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وثواباً عليه في الداريْن كما يقول ".. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين" ﴿البقرة:58﴾ وحبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب صَلاحهم وهُداهم، أيْ يزيدهم رشادا وصوابا وحقا وعدلا وخيرا وإحسانا وصِدْقا وإخلاصا وحرصا واجتهادا وقُرْبَاً منه وحبا له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكا بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم ﷺ ، وذلك بأنْ يوَفَّقَهم ويعاوَنهم وييَسَّرَ لهم أسباب كلّ هذا ويثَبَّتهم عليها وأيضا يعطيهم مِن قوة الإرادة العقلية والصبر والحِكْمة والعَوْن ويوَضَّح لهم ويبَيَّنَ ويمَيَّزَ ما يَتَّقون به أي يَتَجَنَّبون كلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة.. وبالتالي وبسبب هداية ربهم لهم وزيادة هداهم وإعطائهم تقواهم فقد وَجدوا حتما في دنياهم البيان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، ووَجدوا النور كله، والهُدَي كله، والتذكرة كلها، والمواعظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقوة كلها، والرزق كله، والنصر كله، وبالجملة وَجدوا السعادة كلها.. ثم في أخراهم سيَجدون قطعا ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة حيث جنات النعيم التي يَتَنَعَّمون فيها بتمام النعيم في بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾" أيْ هذا استكمالٌ للنعيم العظيم التامِّ الذي هم فيه مُتَمَثّلاً في النعيم النفسيّ بعد النعيم الجسديّ السابق ذِكْره حيث تمام راحة البال والأمن والسعادة.. أيْ دعاؤهم في الجنة أي عبادتهم قول سبحانك يا الله أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ويكون ذلك التسبيح وغيره من الذكر علي سبيل التّمَتّع والابتهاج حيث هو أهم سعادة نفسية لهم فيها، وذلك لِمَا يَرَوْا من عظيم خَلْقه في جناته التي لا تُوصَف.. ".. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ.." أيْ وعندما يُلاقوا الله تعالي يوم القيامة يُحَيِّيهم تحِيَّةً كلها سلام وأمن مِن كلّ سوءٍ وتَحْمِل كلّ خيرٍ ورضا وحب وسعادة، وهم أيضا يُحَيِّ بعضهم بعضا وتُحَيِّيهم الملائكة بالسلامة والطمأنينة والراحة والحب، وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. إنهم لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع التأثيم أيْ كل ما يُوقِع في الإثم أيّ الشرّ والفساد والضَرَر، ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط قول "سلاما سلاما" أيْ الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو إثمٍ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة.. ".. وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾" أيْ وخِتام ذِكْرهم وكلامهم دائماً بعد استفتاحه وبَدْئِه بالتسبيح يكون بقولهم الحمد لله رب العالمين شكراً له علي نِعَمه عليهم التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف والتي هي بغير حساب
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكن حريصاً دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدَاً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَه فَعُدْ سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ الآية الكريمة هي طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه
هذا، ومعني "وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿11﴾" أيْ ولو يُسَرِّع الله للناس الشرَّ في مُقَابِل ما يفعلونه من شرور يَستحِقّون تسريع العقوبة عليها – وكل ابن آدم خطّاء – تسريعاً مثل استعجالهم بالخير أيْ بذات السرعة كما يُحِبّون استعجالهم والإسراع إليهم بالخير منه أيْ كما يُعَجِّل لهم الخير لانتهي أجلهم ووقت بقائهم في الدنيا فماتوا وهلكوا جميعاً، ولكنه تعالي لا يَفعل ذلك مُطلقاً ولكنْ مِن واسع وعظيم رحمته بخَلْقه وحبه لهم وحرصه علي سعادتهم في دنياهم وأخراهم، لأنهم خَلْقه وصَنْعته وفيهم نفخة من روحه وكلّ صانِعٍ يحب لصنعته الخير، يُعَجِّل لهم دائما كل خير، فخيراته تَغْمُرهم في كل لحظةٍ كما يُثبت الواقع ذلك ولا يُنْكِره إلا ناكِر للجميل سفيه مُعَطّل لعقله مُكَابِر مُعَانِد يعلم تماما أين الحقّ ولا يَتّبعه، وهو تعالي في المُقابِل لا يُعَجِّل لهم الشرّ، رغم أنَّ بعض الناس المُستكبرين أو الكافرين أو المشركين أو المنافقين أو الظالمين أو الفاسدين أو أشباههم، قد يطلب أحيانا، استعلاءً واستهزاءً وتعجيزاً وتكذيباً، من الرسل، ومن الدعاة الصالحين ومن المسلمين عموما مِن بعدهم، أن يأتوا بعذابٍ يُهلكهم كزلازل أو براكين أو صواعق أو عواصف أو فيضانات أو نحوها، أو أن يأتوا بيوم القيامة ذاته حتي يُصَدِّقوهم ويُؤمنوا!! أو ما شابه هذا.. لكنه تعالي حليم رحيم بهم، فلا يستجيب لما يطلبون، ولا يُعَجِّل لهم هلاكهم، وإنما يُمْهلهم، لكن دون أن يهملهم، أيْ يتركهم لفترة عمرهم المُقَدَّرة لهم، ينتفعون بخيراته التي تغمرهم لحظيا دون انقطاع، ويرسل لهم رسله بوصاياه وتشريعاته المُسْعِدَة لهم في دنياهم وأخراهم، ويتركهم لاختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم، فإن اختاروا الخير واتخذوا أسبابه وَجَدوا منه سبحانه كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، وإن اختاروا الشرّ واتّخذوا أسبابه وجدوا بسبب ما قَدَّمته أيديهم شروراً وتعاسات علي قَدْر ما قَدَّموا، فهذا هو القانون العادل الذي وضعه تعالي للحياة "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فمَن زَرَعَ خيراً حصده، ومَن زرع شرَّاً حصده أيضا.. فهو إذَن من رحمته سبحانه يتركهم لعلهم يتوبون ويعودون للحقّ وللخير وللسعادة، والواقع يُثبت أنَّ كثيراً منهم بالفِعْل يُسْلِمون ويَحْسُن إسلامهم، بل ويَدْعون له بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة، بل وكثير منهم ينالون الشهادة في سبيل ربهم ودينهم، كما حدث سابقا مع كل الرسل ويحدث حاليا، ولو كان أهلكهم قبل إسلامهم، وله تعالي كل الحقّ في ذلك بسبب كثرة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، لكانوا ماتوا علي الكفر وخُلّدوا في عذابات وتعاسات النيران.. فالحمد لله الرحمن الرحيم.. هذا، ومَن يستمرّ في عِناده وتَعَاليه ومُرَاوَغَته وكذبه وافترائه، مُتَمَثّلاً في كفرٍ أو شِرْكٍ أو نفاقٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو نحوه، ويُصِرّ علي شَرِّه، فإنَّ الله تعالي مِن شِدَّة غضبه عليه، يَذَره، أيْ يَتركه فيما هو فيه، لا يُعينه، ولا يُيَسِّر له أسباب الهداية، فهو لا يرجو لقاء ربه، أيْ لا يُصَدِّق به ولا ببَعْثٍ بعد الموت ولا بآخرةٍ ولا بحسابٍ أو عقابٍ أو جنةٍ أو نار، ولا يَتَوَقّع أنْ يَحْدُث ذلك مطلقا، ولذا فهو لا يَسْتَعِدّ له، ويَفعل كلّ شَرٍّ إذ لا حساب من وجهة نظره، فكيف يُعينه ربه وهو مُصِرّ كل هذا الإصرار ولم يبدأ ببادِرَةٍ ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا القانون الإلهيّ العادِل المُحَفّز علي كلّ خير "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد : 11﴾، وهذا هو معني ".. فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿11﴾" أيْ فنترك الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، نتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن نُيَسِّر لهم أسبابه وبأن نُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ونَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية ﴿10﴾ من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا﴾.. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، وإنْ انتشر الفساد والظلم في الأرض إلي الدرجة التي يُخْشَيَ عليها من انتهاء الخير بهلاك أهله مِن عليها، حينئذٍ يَتَدَخّل خالِق الأرض والخَلْق سبحانه ليَحْمِيهم بأن يُهْلِكَ أهل الشرّ، ليعود للكوْن ولتعود للبشرية سعادتها، كما حَدَثَ مع قوم نوحٍ وعادٍ وثمود ولوط وغيرهم، حيث أهلكهم بقُدْراته وآياته بصورٍ مُتَعَدِّدَة كطوفانٍ أو خَسْفٍ أو ريحٍ أو زلازل وأعاصير أو غَرَقٍ أو ما شابه ذلك
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾ – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء (برجاء مراجعة الآية ﴿22﴾، ﴿23﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن الاعتصام علي الدوام بالله تعالي وليس وقت الشدَّة والأزمات فقط﴾
هذا، ومعني "وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿12﴾" أيْ إذا حَدَثَ ولَمَسَ الإنسان، أيّ إنسان، أو الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا أو المشرك الذي يُشرك بالله آلهة غيره فيَعبد صنما أو حجرا أو نحوه، الضُّرُّ أيْ ضَرَرٌ مَا، أيْ شيئاً ما يَضرّه ويُسيء إليه في صحته أو ماله أو عمله أو أحبابه أو ما شابه هذا، حينها يَدْعونا لكشفه وإزالته بكل تَوَسُّلٍ واحتياج وتَذلّل، وبكل إنابةٍ أيْ عودة تامّة لنا لا لأيِّ أحدٍ غيرنا، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينه أي في دعائه وفي طاعته لنا وقتها حيث يكون مُخْلِصا مُحْسِنا ويَترك ويَلفظ ويَنسي آلهته! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، إنه حينها يَنْسَيَ بل يَحتقر عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ لأنه متأكّد أنها لن تنفعه بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنه يدعونا في كل مكانٍ دوْمَاً في جميع أحواله، لِجَنْبه أي مُلْقَي لجَنْبه أيْ مُضطجِعَاً علي جَنْبِه أو قاعداً جالساً أو قائماً واقِفَاً.. ".. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ.." أيْ فلمَّا استجبنا دعاءه وأزَحْنَا عنه ضُرَّه الذي أضَرَّه وأنعمنا عليه برحمتنا وإسعادنا ذَهَبَ وانْصَرَفَ كأنه لم يَدْعُنا مِن قَبْل إلي كشف ضُرٍّ مَسَّه واسْتُجِيب له وكأنه ما كان به من ذلك شيء! والمقصود أنه بَدَلاً أن يشكره تعالي علي خيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هو يَنْسَيَ الله والضّرَّ والدعاءَ الذي كان يدعوه إليه سابقا ليكْشفه عنه!! أي يعود لِشَرِّه ولشِرْكه ويعبد آلهته بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّ علي عبادة ربه ليسعد في الداريْن وقد جَرَّبَ أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿12﴾" أيْ هكذا دائماً زَيَّنَ التفكير الشَّرِّيّ بعقول المُسْرِفين لهم هذه الأعمال السيئة التي يعملونها أيْ حَسَّنَها لهم، واختاروا هذا التكذيب والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار والسَّيْر في الظلمات والتعاسات بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والمُسْرِفون هم المُتَجاوِزون لحدود الله المُتَجَرِّئون علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّون علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرون المُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿13﴾" أيْ ولقد أهلكنا الأمم السابقة لكم كأقوام الأنبياء الكرام هود وصالح وشعيب وغيرهم الذين تَرَوْن بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاكنا لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها – والقرون جمع قَرْن والقرن هم مجموعة من الناس تعيش في فترة زمنية واحدة واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – حين ظلموا واستمرّوا في ظلمهم وحين أصَرُّوا عليه بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات وتَبَيَّنَ واتّضَحَ لهم الحقّ تماماً فلم يؤمنوا فاسْتَحَقّوا بذلك أنْ أهلكناهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومعني البَيِّنات أنهم ليس لهم أيّ حجَّة حيث قد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا.." أيْ ولم يكن من حالهم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿13﴾" أيْ هكذا دائماً وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للناس المُجرمين بما يُناسب جرائمهم في كل زمانٍ ومكان.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إننا نُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلُفك بهذا حيث خَلَقَ سبحانه خَلْقَه لينتفعوا وليسعدوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه، وكَرَّمَكَ بأن وَثَقَ بِك، وجعلك خليفة أيْ نائبا عنه تُدير شئونها بما أوصاك به من أفضل الوصايا وأكملها لأنها منه العليم الحكيم مُمَثّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحسن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِد ذاتك وغيرك والكوْن كله.. فكُن أهْلاً لهذا التكريم وأحْسِن القيام بالخلافة بأن تكون سعيداً في نفسك مُسْعِدَاً لمَن حولك بكل خيرٍ مُجْتَنِبَاً كلّ شرٍّ مُتْعِسٍ من إفسادٍ وسفكِ دماءٍ وظلمٍ ونحوه من خلال أن تكون مُتَوَاصِلاً في كل ذلك مع ربك مُستعينا به مُتمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك مُنتظراً لعوْنه وحبه وتوفيقه مُستبشراً بانتظار أعظم ثوابه وإسعاده لك في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿14﴾" أيْ ثم نحن وحدنا الذي جعلناكم أيها الناس خلائف – جمع خليفة – لنا في الأرض ويَخْلف بعضكم بعضا جيلا بعد جيل من بعد السابقين لكم لتنتفعوا بجميع خيراتنا ونِعَم أرضنا وكوْننا، وكرَّمناكم بأن وَثَقنا فيكم وجعلناكم خُلَفاء نُوَّاباً عنّا تُسَيِّرُون شئونها بما أوصيناكم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِدوا ذواتكم وغيركم والكوْن كله.. فكونوا إذن نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادتنا أيْ طاعتنا وحدنا (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكرنا وحدنا علي نِعَمنا والتي لا يُمكن حصرها بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمدنا وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَناكم ووعْدنا الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك تَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ثم أيضا بما أننا قد جعلناكم خُلَفاء لمن سَبَقكم من الأمم السابقة، فاعْتَبِروا إذن بما أصابهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا تفعلوا أبداً مثلهم حتي لا تتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿14﴾" أيْ لكي نَرَيَ ما تعملون من خيرٍ أو شرٍّ في كل أقوالكم وأفعالكم، هل ستُحْسِنون فيها فنُحْسِن إليكم بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم أم تُسِيئون فنُجازيكم بما يناسب إساءاتكم بكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما؟ وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ للناس علي استشعار مراقبة الله تعالي علي الدوام فيَدفعهم هذا لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كما أنه تحذيرٌ وتنبيهٌ شديدٌ ألاّ يفعلوا مثل القرون من قبلهم التي أهلكها بسبب ظلمهم الذي تَمَثّل في كفرٍ وظلمٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار حتي لا يكون مصيرهم مثلهم فيتعسوا تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿16﴾ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾" أيْ وحينما تُذْكَر أمام المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين آياتنا بينات أيْ دلالاتنا واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْق رسولنا الكريم وأنه مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده ليَثِقوا به ويَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولهم يُرْشِدهم إليها ليَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، قال هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا – أيْ الذين لا يريدون مُقابلتنا والمقصود أنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون بوجودنا وبالآخرة وبالبعث وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم – لرسولنا الكريم علي سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والجراءة والتَّعَدِّي علي الخالق ائْتِ بقرآنٍ غير هذا القرآن أيْ أَحْضِر قرآناً آخر غيره يكون ليس فيه ما نَسْتَبْعِده ونُنْكِره من البعث والثواب والعقاب بعد الموت وما نَكْرهه من الإساءة لآلهتنا وما شابه ذلك، أو أبْقِه ولكنْ بَدِّله بأنْ تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ليس فيها هذا وبأنْ تجعل بعض الحرام حلالا ونحو هذا، حتي نؤمن لك فإنْ لم تفعل فلن نؤمن!.. إنَّ مِثْل هذه الطلبات السفيهة ليس لكي يؤمنوا ولكنها من محاولاتهم اليائسة للكَيْد والمَكْر بالرسول ﷺ لإثبات عدم صِدْقه وللإساءة لأخلاق الإسلام بأنها من وَضْع البَشَر لا خالقهم لأنَّ اقتراح إبدال قرآنٍ بقرآنٍ يعني ضِمْنَاً أنه من عنده ومن كلام البَشَر وليس من الله تعالي وأنه قادر على مِثْله فلْيَأتِ بالتالي إذَن بغيره أو يُبَدِّل ويُغَيِّر فيه ما يشاءون من تشريعات!!.. ".. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لي وأنا نبيّ كرَّمه الله بأنْ يكون رسولاً مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم لي أن أغَيِّر هذا القرآن أو أغَيِّر أيَّ شيءٍ فيه من عندي ومِن جِهَة نفسي فهذا ليس لي أبدا!.. ".. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.." أيْ قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي الله الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟! فأنا أبلّغكم ما أُنْزِلَ علىَّ منه بلا أيّ زيادةٍ أو نُقْصانٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ وما أنا إلاّ مُتّبِع ومُبَلّغ ما يُوحَىَ إلىَّ ليس لي إلا ذلك لأني فقط رسول مأمور.. ".. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾" أيْ قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم وذَكّرهم بخوفك من معصية الله أيْ عدم طاعته في اتّباع أخلاق الإسلام وترْكها بعضها أو كلها أو التبديل للقرآن في حَرْفٍ أو مَعْنَيَ أو الابتعاد التامّ عن الإسلام بكفرٍ أي تكذيبٍ بوجودِ الله أو شركٍ أي عبادةٍ لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو اعتداءٍ وعدم عدلٍ أو فسادٍ ونشرٍ له أو ما شابه هذا، ذَكِّرْهم حتي لا يقعوا في هذه المعاصي فيتعسوا في دنياهم وأخراهم، ذَكِّرْهم بعذابِ يومٍ عظيمٍ وهو يوم القيامة حيث العذاب الشديد في نار جهنم علي قدْر الشرور والمَفاسِد والأضرار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذَكِّرْهم أيضا بعذاب الدنيا الذي يكون فيه المُسِيء بدرجةٍ مِن الدرجات وبصورةٍ مِن الصور بسبب إساءته وفساده وضَرَره حيث يكون في قَلَقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين.. هذا، ومن المُفيد تذكرتهم بأنّ الرسول ﷺ وهو مَن هو ومع عظمته لو فُرِضَ وعَصَيَ فإنه لن يَأْمَن مِن العذاب فكيف بهم هُم؟!
ومعني "قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿16﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ أمر نزول القرآن العظيم أو تغييره أو تبديل بعضه ليس للرسول الكريم ﷺ أيّ شأنٍ فيه فهو مُبَلّغ فقط والأمر كله هو مشيئة أيْ إرادة الله تعالي لإسعاد البشرية به حيث يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، كما أنَّ الآية الكريمة هي مزيدٌ من التأكيد علي صِدْقه ﷺ ، ومزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يؤمن به أو يَدَّعِي أنه من كلام البَشَر أو يطلب تغييره أو تبديل شيء فيه أو نحو هذا ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو شاء أيْ أراد الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم ولا أدراكم أيْ لا أعلمكم به بواسطتي أيْ فالأمر كله أمره بالتالي إذَن وأنا لا أعصيه، ومِمَّا يدلكم علي تمام صِدْقِي وصِدْق هذا القرآن وأنه من الله لا من كلام البَشَر ما أقوله لكم أني قد لَبِثْت أيْ بَقِيتُ فيكم عمراً طويلاً من قبل هذا القرآن وهو أربعين عاماً قبل أن أكون رسولاً ويُوحَيَ إليَّ به تشهدون لي طواله بالصدق والأمانة وتطلقون عليَّ الصادق الأمين وتعرفون خلال كل هذا العمر حقيقة حالي وأقوالي وأفعالي بأني أُمِّيّ لا أقرأ ولا أكتب ولا أدرس ولا أتعلّم من أحدٍ ثم أتيتكم بقرآنٍ عظيم أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فهل يمكن مع هذا أن يكون من تلقاء نفسي أم هذا دليل قاطع ليس فيه أيّ شكّ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه تنزيل من حكيمٍ عليم؟!.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿16﴾" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ لأمثالهم لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴿17﴾" أيْ لا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴿17﴾" أيْ بكل تأكيد لا يُفلح المُجرمون أيْ لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إنَّ الله تعالي يُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾" أيْ ويَعْبُد المشركون أيْ يُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّهم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعهم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ وعندما يُدْعَون لعبادة الله تعالي وحده يقول بعضهم من شِدَّة عِناده وكِبْره وفساده ومُرَاوَغته، وأحيانا من شدة استهزائه بالإسلام والمسلمين، يَدَّعُون كذباً ويَتَحَجَّجون بحُجَج سفيهةٍ خَسِيسَةٍ كاذبةٍ ليُبَرِّرُوا شِرْكهم أنهم يعبدون هذه الآلهة لتكون من الشفعاء لهم عند الله تعالي أيْ من المُتَوَسِّلين الذين يَتَوَسَّلون أمامه لكي يُسْتَجَابُ لتَوَسّلهم ولوَسَاطتهم عنده حتي يُصْلِح دنياهم ثم يصلح أخراهم إنْ كان هناك يوم قيامةٍ وحساب وثواب وعقاب!! إنهم حتماً كاذبون مُخادِعُون مُستكبرون مُستهزؤن، وقد فَضَحَ الله تعالي كذبهم وكفرهم بقوله في الآية ﴿3﴾ من سورة الزمر ".. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿3﴾" ومعني زُلْفَيَ أيْ مَنْزِلَة ودَرَجَة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ حيث السبب الأساسي في شِرْكِهم ليس هذا الادِّعَاء وإنما هو رفضهم للإيمان بالله تعالي بسبب إغلاق عقولهم من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم بما يَفضح سَفههم وكذبهم ويُخْرِس ألسنتهم هل تُخْبِرُون الله بشيءٍ لا يعلمه في السماوات ولا في الأرض وهو الذي يعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في كَوْنه لا تَخْفَيَ عليه خافِيَة؟! إنه لو كان هناك كما تَدَّعُون كذباً وزُورَاً آلهة تُعْبَد غيره أو شفعاء منها لكم عنده لكان هو أعلم بذلك منكم حتماً أيها الكاذبون السفهاء المُغْلِقون لعقولكم!! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه؟!! أأنتم أعلم أم الله؟!!.. ".. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، عمَّا يُشركون هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿19﴾ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكاً دَوْمَاً بالفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام أيْ خَلَقهم وأنشأهم وبَدَأهم عليها (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أيْ كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿19﴾" أيْ وما كان الناس إلا جماعة واحدة مُجتمعين جميعهم علي الإيمان بالله تعالي مُتّبِعين للإسلام منذ خَلْق آدم ولعِدَّة قرون بَعده مِن ذِرِّيَّته، حيث الإسلام هو فطرة الله، أي خِلْقَته التي خَلَقَ الناس جميعا عليها، فكلهم مَفطورون أيْ مَخلوقون علي أخلاق الإسلام وكلّ مولودٍ يُولَد حديثا في كل لحظة هو مولود عليها كما يُؤَكّد ذلك الرسول ﷺ بقوله "كلّ مَوْلودٍ يُولَد علي الفِطْرَة.." ﴿جزء من حديث رواه ابن حبان﴾، فاختلفوا بعد ذلك بمرور الأزمنة، فمنهم مَن استمرّ علي الالتزام بالإسلام مُستجيباً لنداء الفطرة التي هي مسلمة أصلا وموجودة في داخل عقله وحينها سيَجد أمر اتّباعه أمرا سهلا سَلِسَاً مَيْسُورا مُسْعِدَاً، ومنهم من عانَدَ هذه الفطرة وخالَفَها فظلت تُصَارِعه لمُحَاوَلَة رَدَّه إلي ربه ودينه ليسعد في الداريْن واتّبع نظاما مُخالِفا للإسلام فكان الأمر عليه صعبا عسيرا مُعَقّدا مُتْعِسَاً وسيَظلّ في شقاءٍ وتعاسةٍ بسبب الصراع الدائم معها حتي يستفيق ويعود لما تُذَكّره به دائما، لربه ولدينه الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وسبب بُعْدِه عنهما أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فرَحِمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم، أيْ فلذلك وبسبب هذا الاختلاف فهو مِن عظيم رحمته وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم لم يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة فأرسل الرسل إليهم كمَبْعُوثين من عنده ليُبَلّغوهم بالإسلام ليعودوا إلي فطرتهم ليسعدوا في الداريْن، بَعَثَهم مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أيْ يأتون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ ويُحَذّرون بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وأنزل مع كلّ رسول منهم من خلال الوَحْي إليه الكتاب الذي فيه الإسلام بما يُناسب كلّ عصرٍ ليُبَلّغوه للناس وآخرها القرآن العظيم علي رسوله الكريم محمد ﷺ بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. لكي يحكم هذا الكتاب بحُكْم الله تعالي العدل بين الناس جميعا فيما اختلفوا فيه من كل شئون حياتهم حيث سيكون المَرْجِع الذي فيه الأصول والقواعد التي يرجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿19﴾" أيْ ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، لوْلاَ كلّ هذا، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." ﴿يونس:93، الجاثية:17﴾، لقَضَيَ تعالي بين الناس فيما يختلفون فيه بين إيمانٍ وكفرٍ وخيرٍ وشَرٍّ وذلك بأنْ يُهْلك أهل الشرّ منهم ويُنجي أهل الخير أيْ لَحَكمَ وفَصَلَ بينهم فوريا أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيرا مع أول ما يفعلونه من شرور!! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾.. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن؟!
ومعني "وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿20﴾" أيْ ويقول المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم لو أُنْزِلَ علي محمد آية من ربه أيْ دلالة ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حدث مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من أدِلَّة، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادر قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة لا تُحْصَيَ حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! فالآيات عنده سبحانه وليس عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ.." أيْ فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم إذا طلبوا منك آية إنَّ الغيب ليس إلا لله وحده لا لغيره وإنَّ نزول الآيات غيبٌ ولا أحد يعلم الغيب أيْ المستقبل وكل ما يَغيب عن عقول البَشَر إلا هو سبحانه فهو الذي يُدَبِّر أمور الخَلْق والكَوْن كلها علي أكمل وأسعد وجه ولو أراد علي حسب حكمته ومصلحة خَلْقه أن يأتي بمُعجزةٍ لأَتَيَ بها حتما.. ".. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿20﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴿21﴾ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾ – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء
هذا، ومعني "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴿21﴾" أيْ وإذا رحمنا الناس البعيدين عن ربهم وإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كانوا مسلمين، ومنهم الناس الكافرين المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم، برحمتنا التي وَسِعَت كلّ شيء، وأعطيناهم خيراً مَا بعد شرٍّ كان قد مسّهم أيْ أصابهم في صحتهم أو أموالهم أو أعمالهم أو أحبابهم أو ما شابه هذا، إذا لهم مكرٌ في آياتنا أيْ يُفاجئونك ويُسارعون أيها المسلم بمكرٍ أيْ بتدبيرٍ لِمَكائد شَرِّيَّة في الخَفَاء بالطعن في آياتنا مُتَمَثّلاً في الكفر والتكذيب والاستهزاء بها والإساءة إليها والاستكبار عليها وعدم اتّباعها ومنع الآخرين من العمل بها ونحو هذا.. إنهم يُقابلون هذه الرحمة بالمسارعة في تكذيب آياتنا سواء أكانت آيات في الكوْن حولهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. والمقصود أنهم بَدَلاً أن يشكروه تعالي علي رحماته وخيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هم يَنْسون الله والضّرَّ الذي كانوا فيه ويعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التحذير لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بدلا أن يتعسوا فيهما، الله أسرع مكراً بكم وعقاباً لكم من مَكْركم أنتم بآيات الله فسَيُريكم حتماً مَكْرَهُ بكم وهو عذابكم وإتعاسكم في دنياكم بسبب مَكْركم ثم ما هو أشدّ عذاباً وتعاسة في أخراكم إنْ مُتّم علي ما أنتم عليه من سوء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية ﴿50﴾ من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية ﴿34﴾ من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴿21﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يَمكرون دليل على تجهيزه سبحانه لهم المَكْر الذي يريد أن يُجازيهم به على مَكْرهم.. أيْ إنَّ رسلنا من الملائكة المُوَكّلِين بكم يكتبون ما تمكرون بالقول والفعل والذي سنُحاسِبكم عليه حتماً بما يُناسب في الداريْن.. وفي هذا مزيدٌ من التحذير والتنبيه على أنَّ مَا يمكرون في الخفاء ليس خافياً على الملائكة فكيف الحال بخالقهم سبحانه الذي لا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ عن أيِّ شيء؟!
ومعني "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾"، "فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لبعض ما ذُكِرَ في الآية السابقة وبيانٌ لمَظْهَرٍ آخر من مظاهر سوء الذين سَبَقَ ذِكْرهم لكي يَحْذَر المسلمون حَذرَاً شديداً من التشبُّه بهم وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ هو الله سبحانه الذي يَجعلكم تَسِيرون أيها الناس بقُدْرَته ورحمته ونِعْمته فى البرّ والبحر من خلال ما أعطاكم إيّاه في خِلْقتكم من قُدْرَةٍ عصبيةٍ وعضليةٍ على السير وما سَخَّر لكم من دوابّ وخامات لصناعة ما تركبونه مِمّا تستعملونه في تَحَرّككم وما جَعلَ من جاذبية الأرض وبَسْطها ومن خَوَاصّ الماء والهواء الفيزيائية أنه يَحمل السفن ولا يُغرقها بل تطفو علي سطحه مع تيسيره وتوفيقه سبحانه للعقل لأسباب صناعتها وغيرها مما يُرْكَب وتَجْرِي فيه بما ينفعكم لكي تستطيعوا الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو ذلك من أفضال وأرزاق ونِعَم الله عليكم المُفيدة المُسْعِدَة لكم.. ".. حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا.." أيْ هو سبحانه وحده الذي يُسَيِّركم في البرّ والبحر حتي إذا كنتم فى إحدى مرّات تَسْييركم راكبين فى الفلك أيْ السفن التي سخّرها لكم وجَرَت هذه السفن أيْ سارَت مُسْرِعَة بمَن فيها بسبب الريح الطيّبة أيْ الحَسَنَة اللّيِّنَة النافِعَة لا الضارّة المُسَخّرَة لكم إلى المكان الذى تريدونه وهم فى حالة فرح كبير بهذه الريح لِمَا يكون لهم في هذه الحالة من الراحة والأمن من القلق والاضطراب والتّمَتّع بالنسيم وبالمناظر الجميلة حولهم.. ".. جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.." أيْ بينما هم كذلك حَضَرَت هذه السفن ريحٌ شديدٌ تَعْصِف بكل شيءٍ أيْ تُهلكه وحَضَر الرُّكَّاب الموج وهو ما ارتفع من ماء البحر من كل مكانٍ وغَلَب علي ظنّهم أنهم قد أحاط بهم الهلاك أيْ لَفَّ حولهم من كل جانب.. ".. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾" أيْ حينها يَدْعون خالقهم الله تعالي بكل تَوَسُّلٍ واحتياجٍ وتَذلّل، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينهم أي في دعائهم وفي طاعتهم له وقتها مُخْلِصين مُحْسِنين ويَتركون ويَلفظون ويَنسون آلهتهم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تنطق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، إنهم حينها يَنسون بل يَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كل شيء لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنهم يدعونه حينها وحده لا غيره سائلينه واعِدِين إيَّاه بوَعْدٍ مُؤَكّدٍ لا يخْلِفونه أنه إنْ أنْجَيتنا أيْ أنْقَذتنا وخَلّصتنا من هذه المَهَالِك والمَصاعِب والشدائد سنكون بالتأكيد من الشاكرين أي الحامِدِين لك علي نجاتنا وعلي نِعَمِك التي لا تُحْصَيَ، العابدين أي الطائعين لك وحدك بلا أيِّ شريكٍ من آلهةٍ أخري، المُتّبِعين لشَرْعِك الإسلام.. "فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾" أيْ فلمّا استجاب دعاءهم وأعادهم سالِمين من بين أمواج البحر المُهْلِكَة إلي البرّ بقُدْرَته ورحمته ونِعْمته تَراهم يُفاجئونك ويُسارعون أيها المسلم بَدَلاً أن يكونوا من الشاكرين لله كما وَعَدُوا يُخْلِفون وَعْدَهم ويَنْسَوْنه تعالي وما كانوا فيه من هلاكٍ ويعودون لشَرِّهم ويَبْغُون في الأرض أيْ يَطلبون فيها الفساد والشرّ والضَرَر والتعاسة ويَتعالون ويَعتدون علي غيرهم وكلّ ذلك هو غير الحقّ بالتأكيد لأنّ الحقّ هو الخير والعدل والنفع والسعادة وهو كلّ أخلاق الإسلام.. ".. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ.." أيْ يأيها الناس أمثال هؤلاء الذين سارَعوا باللجوء إلينا ودعائنا عند الشدّة وسارَعوا إلي البَغْي بعد أن أنعمنا عليهم ورحمناهم بإزالتها عنهم، اعلموا أنَّ بَغْيكم هذا سيعود علي أنفسكم لا علي غيركم فأنتم وحدكم الذين ستَتَحَمّلون سوء نتائجه فى الدنيا والآخرة، لأنه لا يُمكن أبدا أن يُحيط ويَحلّ ويَنزل الفِعْل والتدبير السَّيِّء الشرِّيّ بأحدٍ إلا بمَن يَفعله فيَعود أثَرُه المُضِرّ المُتْعِس عليه وذلك علي المَدَيَ البعيد، بسبب أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحْسَنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)، وهو سبحانه خير المَاكِرين (برجاء مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية ﴿50﴾ من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية ﴿34﴾ من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وحتي ما قد يُصيب أهل الحقّ والخير مِن بعض مَكْرِ أهل الباطل والشرّ فهو لن يكون بفضل الله إلا بقليلٍ من الأذي المُحْتَمَل كما يقول تعالي "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.." ﴿آل عمران:111﴾، ويقول ".. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." ﴿آل عمران:120﴾، ويقول "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" ﴿آل عمران:141﴾ (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات الكريمة حتي تكتمل المعاني﴾، فكل ما يُصيبهم إذَن مِن ضَرَرٍ أو اختبارٍ مَا فسيَخرجون منه حتما مع الوقت مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فدائماً وقطعاً ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" ﴿القصص:83﴾ أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما ودوْما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، والخلاصة إذن أنه في كلّ الأحوال مَن يُمْكَر به فهو الفائز في الداريْن علي المَدَيَ البعيد والماكِر هو الخاسر فيهما وعقابه علي قدْر مَكْره حتي ولو ظهر أحيانا علي المَدَيَ القريب عكس ذلك.. وحتي علي المدي القريب أيضا فإنَّ الذي يُدَبِّر المكر السَّيِّء يكون منذ وقت ابتدائه لمَكْره في كلّ قلقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وصراع وأحيانا اقتتال مع مَن مَكَرَ به وغيره وبالجملة فهو يكون في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. ".. مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ واعلموا كذلك أنَّ ما تَتَمَتّعون به في دنياكم هو متاع دنيوىّ زائل يوماً مَا حيث تتركونه بموتكم وانتهاء آجالكم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له وحتي ما أنتم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا تستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد تفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شروركم أنتم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة أنتم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما تُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروركم إضافة إلي ضيقكم عند تَذَكّركم الموت والذي لا تَدْرون ما سوف يَحدث لكم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ثم في آخرتكم ".. ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾" أيْ ثم إلينا وحدنا لا إلي غيرنا رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسيئون، ونحن وحدنا الخالِق لكم العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سنُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إصلاحهم لأنفسهم وحُسْن دعوتهم لغيرهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿24﴾" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ ما حال وشَبَه الحياة الدنيا في سرعة زوال مُتَعها وأنها مهما طالَت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها، وأنها ستَنتهي يوما ما، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عَجْزٍ أو نحوه، أو بموتٍ يأتي فجأة، إلاّ كحالِ وشَبَهِ ماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط بهذا الماء نبات الأرض فنَمَا وكَثُر واختلط ببعضه وهذا النبات بعضه مِمَّا يأكله الناس كالحبوب والثمار ونحوها وبعضه مِمَّا تأكله الأنعام أي الحيوانات كالحشائش والأعشاب وغيرها.. ".. حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا.." أيْ اسْتَمَرّ ينمو ويَكثر إلي أنْ وَصَلَ لمرحلةِ أنْ أخذت الأرض زخرفها أيْ اسْتَكْمَلَت حُسْنها وجمالها وتَزَيَّنَت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر والألوان الجميلة وغَلَبَ علي ظنّ أهل تلك الأرض الذين زرعوها وقاموا برعايتها أنهم قادرون عليها بالتّمَكُّن من حصادها والتّمَتّع بثمارها وخيراتها وأنَّ ذلك سيستمرّ ويَدُوم لهم.. ".. أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.." أيْ بينما هم كذلك حَضَر إليها فجأة أمرنا بإهلاكها وتدميرها كعقابٍ لأهلها الذين كانوا مُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ ورجوعٍ لربهم ولإسلامهم في أيِّ وقتٍ بالليل وأصحابها نائمون أو بالنهار وهم مُنْشَغِلون، فجعلناها بما عليها كالأرض المَحْصُودَة التي حُصِدَ وقُطِعَ كل نباتها فلم يَتَبَقّ فيها شيء، حتي كأنها لم يكن بها منذ وقتٍ قريبٍ قبل ذلك نبات بهيج وسكن مريح قائم علي وجهها حيث لم يَبْق لهذه النباتات ولا للمساكن ولا للسُّكّان أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يُعَمِّروها ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها – يُقال غني بالمكان إذا أقامَ فيه وعَمَّره، أيْ كأنْ لم تكن عامِرَة سابقا – فكأنها ما كانت، فهذه تماما هي حالة الدنيا حيث كل متاعها سريع الزوال.. ".. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿24﴾" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يَتَفكّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في الداريْن حيث يُحسنون طلب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا حياتهم وآخرتهم في تمام التعاسة
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿25﴾ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿26﴾ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُسْتَجِيبين لدعوة الله تعالي لدخول الجنة، لدعوته لاتّباع الصراط المستقيم، أيْ للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهذا هو الطريق لدخولها
هذا، ومعني "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿25﴾" أيْ والله خالقكم الكريم الرحيم أيها الناس جميعا يَدعو في تشريعه الإسلام إلي الأقوال والأفعال التي تُؤَدِّي بقائلها وفاعلها إلي دخول دار السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، دار الله لأنَّ السلام اسم من أسمائه تعالي وتسميتها كذلك هو لتعظيمها ولتكريمها، وهي الجنة، هي جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي وَعْده عنده لهم بأن يكونوا في دار السلام في دنياهم يكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿25﴾" أيْ ومَن يشاء مِن الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿26﴾" أي للذين أحسنوا من الناس في الدنيا بالاستجابة لدعوة الله إلي دار السلام بأنْ آمنوا به أيْ صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم بكل إحسانٍ أيْ إتقانٍ وإجادةٍ وكأنهم يَرَوْنَ ربهم وهو يراهم لحظيا ويعلم ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولذا فهم يجتهدون ما استطاعوا في إحسان كل أقوالهم وأفعالهم وإحسان ما يظهر منهم وما يَخْفَي ليَرَاهم علي أحسن حالٍ في كل وقت، فهؤلاء إنْ فعلوا ذلك فلهم بالقطع من الخالق الكريم الرحيم الودود كلّ إحسانٍ كما وَعَدَ ووَعْده الصدق "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" ﴿الرحمن:60﴾، فهم لهم الحُسْنَيَ أي الجنة يوم القيامة بدرجاتها علي حسب درجات أعمالهم بنعيمها الذي لا يُوصَف، ولهم حتماً زيادة فهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله لا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات، وهذه الزيادة هي مضاعفة الأجور كما وَعَد "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.." ﴿الأنعام:160﴾ ووَعَد ".. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.." ﴿البقرة:245﴾، وهي أيضا رضوانه تعالي وهو أعلي أجر معنويّ لا يعدله أيّ أجرٍ مادِّيٍّ حيث الشعور بتمام السعادة والرضا والأمان والسكينة والاستقرار، وهي كذلك مُتْعَة رؤيته سبحانه في الآخرة بلا حائلٍ حيث أكمل الجمال، ثم هي أيضا سعادة الدنيا التامّة التي يحياها المُتَمَسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه ولا يستشعرها غيره ولا يُحاسِبه عليها قطعاً بأنْ يخصمها مثلاً من أجره في أخراه.. ".. وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.." أيْ ولا يُغَطّي وجوههم غبارٌ وسَوَادٌ ولا ذِلّة وغير ذلك مِمَّا يظهر علي وجوه أهل النار المُسِيئين المُرْهَقِين مِن شِدَّةٍ وخوفٍ ونحوه بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وهَمٍّ وعذاب، بل وجوههم تكون بالقطع ناضرة أيْ حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ نعيمهم تامٌّ خالِصٌ مِن أيِّ شيءٍ يُعَكّر صفوه ويُنْقِصه وأنهم لن يَحْدُث لهم أيُّ سوء.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿26﴾" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة هم حتماً المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والناس الذين عملوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات في الدنيا، واستمرّوا وأصرّوا عليها طوال حياتهم ولم يتوبوا منها حتي موتهم، عقوبة كل سيّئةٍ بما يُناسبها من سوءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرَّة ظلم كما يُؤكّد تعالي "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .." ﴿النساء:40﴾، فلهم في دنياهم من التعاسة والألم والقلق والتوتّر والضيق والاضطراب علي قَدْرها ثم في أخراهم ما يُساويها من عذابٍ في النار.. ".. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.." أيْ وتُغَطّيهم، وجوههم وأجسادهم، إهانة شديدة وغيرها من العلامات السيئة التي تَظهر علي وجوه وأجساد أهل النار المُسِيئين المُرْهَقِين مِن شِدَّةٍ وخوفٍ وارتجافٍ واضطرابٍ وبكاءٍ ونحوه بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وهَمٍّ وعذاب.. ".. مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ.." أيْ ليس لهم من عذاب الله أيّ مانِعٍ يَمنعهم حين يُعاقبهم.. ".. كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.." أيْ كأنما أُلْبِسَت وجوههم قطعاً – جَمْع قِطْعة – من الليل في حال ظلمته وهو مُظْلِم من شدّة سوادها بسبب عظيم ما هم فيه من ذِلّةٍ ورُعْبٍ وتعاسة، فوجوههم ستكون مُسْوَدَّة مُتْرِبَة كأنَّ عليها تراب عابِسَة مُتَجَهِّمَة مُنْقَبِضَة حزينة يابِسَة غير نَضِرة عليها كلّ علامات الحَسْرَة والندامة والذلّة والمَهَانَة والألم والكآبة والتعاسة بسبب سوء أفعالهم..".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم أي الكافرون والمشركون منهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴿28﴾ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴿29﴾ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴿28﴾" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب الذين أشركوا أيْ كانوا يَعبدون غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف ويبدأ تَبَرُّؤ الذين كانوا يُعْبَدون مِمَّن كانوا يَعبدونهم فتكون بهذا الحُجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب لهم والاستهزاء بهم حيث هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها هي لا قيمة لها حينها حتي تَنفعهم وتنقذهم في هذا اليوم الشديد عليهم.. ".. مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ.." أيْ قِفُوا والْزَمُوا مكانكم أنتم ومَن جعلتموهم شركاء تعبدونهم غير الله فلا تُفارِقوه وتَتَحَرَّكوا منه حتي تَنْظروا ما يُفْعَل بكم ويَحْكُم الله بحُكْمه العادل فيكم.. ".. فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ.." أيْ ففَرَّقنا بينهم وجعلناهم فِرَقَاً وأزَلْنا ما كان بينهم من تَرَابُطٍ في الدنيا فأصبح بينهم أشدّ الكراهية والعداوة ومَيَّزنا بعضهم عن بعض كما يُمَيَّز بين الخصوم عند التقاضِى لمُساءَلتهم والحُكْم عليهم.. ".. وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴿28﴾" أيْ وقال آلهتهم التي كانوا يَدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة – يتكلمون إنْ كانوا بَشَرَاً عُبِدُوا ويُنْطِق الخالق بقُدْرته ما كان صَنَمَاً أو غيره – لِمَن عَبَدُوهم، مُتَبَرِّئِين منهم ذَامِّين لهم، ما كنتم أبداً تعبدوننا أيْ تطيعوننا لأننا ما أمرناكم بعبادتنا وما كنا نسمعكم ولا نبصركم بل نحن نَتَبَرَّأ منكم ومن أعمالكم وأقوالكم بل ونَذمّكم عليها أيْ لا علاقة لنا بها ولا نتحمَّل نتائجها بل كلٌّ يتحمَّل نتيجة عمله، فأنتم ما كنتم إيّانا تعبدون ولكنكم أطعتم واتَّبعم كل شرّ مُفسِد مُضِرّ مُتْعِس بإرادتكم ولم نطلب منكم أبداً أن نكون آلهة لكم لتعبدونا أي لتُطيعونا أو كان لنا سلطان أو نفوذ عليكم لإجباركم علي ذلك بل ولم يكن لكم أنتم أيّ دليل علي أحَقِيَّتنا بالعبادة.. وفي هذا التّبَرُّؤ مزيدٌ من الحَسْرَة والنَّدامَة الشديدة والإخافة لهؤلاء العابدين لغير الله تعالي في وقتٍ لن ينفعهم أيّ نَدَمٍ حتماً بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب
ومعني "فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴿29﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لهذا التّبَرُّؤ والرفض والذمّ من المَعْبُودين للعابدين لهم والرجوع إلى الشهادة الحقّ فى ذلك.. أيْ فيَكفينا كفاية تامّة – ولا نحتاج أبدا لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بيننا وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل أحد ما يستحقّ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا.. إنه كفي بالله شهيدا بيننا وبينكم يشهد إننا كنا غافلين عن عبادتكم لنا أيْ ما علمنا ولا شعرنا بها ولا أمرناكم بفعلها ولا دعوناكم إليها وما كنا نعلم ما كنتم تقولون وتفعلون.. وفي هذا تمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب لهؤلاء العابدين لغير الله تعالي
ومعني "هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿30﴾" أيْ عند ذلك الوقت والمكان تَخْبُر وتَعْلَم وتُعَايِن كل نفسٍ إنسانية ما أسلفت من أعمالها أيْ ما فَعَلَته سالِفَاً أيْ سابقاً في دنياها من خيرٍ أو شرٍّ من خلال الكتاب المُسَجَّل فيه كل أقوالها وأفعالها صغيرها وكبيرها الخيْرِيَّة والشرِّيَّة في كل حياتها الدنيوية حيث يُجازيها الله تعالي علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعْدِلِ العادِلِين، بعد أن أُعِيدَ وأُرْجِعَ جميع البَشَر مسلمون وكافرون ومشركون وغيرهم مُحْسِنون ومُسِيئون بعد موتهم وبعد نهاية الحياة الدنيا إلي الله مالِكهم وخالِقهم ومُتَوَلّي أمورهم الحقّ الذي لا يُخالِطه أيّ شكّ المُتَحَقّق تماماً وجوده وسلطانه فلا سلطان ولا حُكْم ولا ولاية لأيِّ أحدٍ غيره المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ العدل الذي لا يَحكم إلا بالحقّ، ليَتَوَلّي حسابهم ومُجازاتهم.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿30﴾" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن المشركين ما كانوا يعبدون غير الله تعالي في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿31﴾ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿32﴾ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿34﴾ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿35﴾ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿31﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ﴿ برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليَتَدَبَّروا فيَتّعِظوا فيَرْتَبِطوا بربهم وإسلامهم فيَسعدوا في الداريْن، قل لهم مَن الذي يُسَبِّب لكم أسباب كل أنواع الأرزاق سواء أكانت هذه الأسباب من السماء كالمطر والهواء والشمس والطاقة ونحو هذا ممّا يُعْلَم أو لا يُعْلَم أم كانت من الأرض مثل الأنهار والبحار والنباتات والثمار والحيوانات والطيور والأسماك والمعادن والخامات وغيرها ومثل العقل والصحة والقوة ونحوها ممّا يَنفعكم ويُسعدكم؟!!.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك حيث أنَّ أيَّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده الخالق المُسْتَحِقّ للعبادة!!.. ".. أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ.." أي بل قل لهم أيضا مَن الذي يَمتلك ويَخْلُق ويَمْنَح برحمته وكرمه ما تتمتّعون به من حَوَاسّ السمع والأبصار وغيرها مِمَّا يُعينكم علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّزون بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لكم السعادة الكاملة في دنياكم ثم أخراكم، ولو أراد لذَهَبَ بها وأخذها منكم.. هذا، وقد خُصِّصَت هاتان الحاسَّتان بالذكر رغم أنَّ كل خَلْق الإنسان أمرٌ مُبْهِرٌ لِمَا لهما من أثرٍ كبيرٍ في إسعاد حياته يُدْركه كل عاقلٍ حيث بهما مع العقل يتحقّق العلم والفكر و التطوّر والنجاح.. ".. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.." أيْ وقل لهم كذلك من القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه، فهو يَخْلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِمَّا هو ميّت بلا روح كماء الشرب، ويخلق بَيْضَاً مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وما شابه هذا من إعجاز.. ".. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.." أيْ وقل لهم كذلك مَن الذي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات، يُسَيِّرُ كلّ أموره، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته ليُنفّذوها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أيِّ مكانٍ من كوْنه، ثم يَعْرُج إليه كلٌّ منهم أي يصعد له، أي يعودون بعد التنفيذ ليُتابعهم سبحانه، وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادةٍ ونحو ذلك، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. ".. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ.." أيْ فلن يكون لهم أيّ إجابة إلا أنْ يقولوا أنَّ الفاعل لكل ذلك هو الله وحده، لشدَّة وضوح الأمر!! وذلك إنْ فكّروا وكانت لهم عقول مُنْصِفَة عادِلَة!! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي يفعل ذلك! فليس لهم إذَن إلا هذه الإجابة! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها! وهذه هي إجابة المشركين، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق الرازق المُحْيي المُمِيت المُدَبِّر للأمور لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة!!.. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾.. فكيف يكون منهم هذا الكذب الواضح السخيف؟! هذا الانصراف عن الحقّ بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل!.. ولماذا إذَن بعد أن اعترف المشركون بأنَّ الله وحده هو الخالِق يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مِمَّا لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضرر كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!.. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار سببه تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿31﴾" أي فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ألَاَ تُحْسنون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿32﴾" أيْ فذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – الحقّ أي الصدق المستَحِق وحده للعبادة بلا أيِّ شريك الذي وجوده صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصدق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدق كله، والإيمان به هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بنصر المؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبعث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضياع وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يكون غير الحقّ إلا الضلال؟! أيْ ماذا يكون بعد الابتعاد عن الحقّ أي الصدق والعدل والخير والصواب والسعادة؟! إنه لا يكون حتماً إلا الوقوع في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد والظلم والتعاسة! أيْ ليس بعد ترك الإيمان وعبادة الله تعالي وحده إلا الوقوع في الكفر حيث لا أمر وسط بينهما بل أيّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوةٍ واحدةٍ يُعَدّ كفراً!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿32﴾" أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَبْتَعِدون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والابتعاد والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسرور في الداريْن والذي هو في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والشقاء والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. ولكنه التعطيل لهذه العقول من البعض منكم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا مزيدٌ من التعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه والرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾" أيْ هكذا دائما وَجَبَت كلمة ربك بالعذاب علي الذين خرجوا عن طاعة الله والإسلام لأنهم لا يؤمنون أيْ لا يَتّبعون الإسلام – والمراد بالكلمة هو ما تَوَعَّد الله به الفاسقين من عذابٍ في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم – فيُعَذّبون علي قَدْر بُعْدِهم عنه بعذابٍ بعضه في دنياهم وتمامه في أخراهم، فمَن تَرَكَ بعض أخلاق إسلامه ولم يَتُب عُذّب علي قَدْر تَرْكه، ومَن تَرَكه كله وكَفَر خُلّد في النار.. هذا، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه بسبب أنهم لا يؤمنون، أيْ لم يشاءوا الإيمان، لم يشاءوا الإسلام والعمل بكل أخلاقه، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الفِسْق أيْ الخروج عن طاعة الله والإسلام، لأجل هذا لم يشأ لهم سبحانه الهداية أيْ لم يُوَفّقهم لها ولم يُيَسِّر لهم أسبابها، فحَقّت عليهم بذلك كلمة ربك أنهم لا يؤمنون أيْ حُكْمه وأسلوبه بعدم مساعدة مَن لا يَبدأ هو بعقله بالسعي للهداية للإيمان، وكيف يشاؤها لهم وهم مُصِرُّون هكذا كل هذا الإصرار علي ما هم فيه دون أن يبدأوا بأيِّ بادِرَةِ خيرٍ ولو بخطوةٍ نحو الإسلام حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه خَلْقَه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾ (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿34﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ﴿ برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليَتَدَبَّروا فيَتّعِظوا فيَرْتَبِطوا بربهم وإسلامهم فيَسعدوا في الداريْن، قل لهم هل من شركائكم أيْ آلهتكم أيْ مَعْبُوداتكم التي تَدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها مَن يبدأ خَلْقا ما في كلّ لحظةٍ سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذن فهو وحده الخالق!! ثم كيف تُنْكِرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كُن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. إنه مَن كان مِن آلهتكم مَن يمكنه أن يَدَّعِي أنه يفعْل ذلك فَلْيَتَجَرَّأ ولْيَتَقَدَّم ولْيُعْلِن عن ذاته أمام الخالق الحقيقيّ الذي يقول أنه هو الخالق الواحد وهو الله تعالي!! فإن لم يَتَقدَّم ويُعْلِن فهو إذن جبان كاذب ولا يمكن أن يكون إلاها! وإن لم يَعلم أنَّ هناك خالقا آخر غيره فهو إذن تائه غافل لا يَصلح أن يكون إلاها أيضا!! والسؤال في الآية الكريمة هو لنفي ذلك قطعيا ولِلَّوم الشديد وللسخرية من هؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما تقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم الله تعالي وحده لا غيره هو الذي يُنْشِيء الخَلْق مِن عدمٍ ثم يُفْنِيه ثم يُعيده بعد فنائه ويُنشيء غيره سواء أكان إنساناً أم حيواناً أم نباتاً أم غيره وهو يَفعل هذا في الدنيا ثم الآخرة، أمّا شركاؤكم فهم أعْجَز مِن أنْ يَخلقوا أيَّ شيءٍ من عدمٍ حتي ولو اجتمعوا له.. ".. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿34﴾" أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿35﴾" أيْ قل لهم أيضا دليلاً آخر يُسَفّه أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم: هل مِن مَعْبُوداتكم مَن يستطيع أنْ يَهدي أيْ يُرْشَد غيره – كما يهدي الله تعالي – إلى الدين الحقّ أيْ الصدق أيْ إلي الصراط المستقيم أيْ إلي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحرافٍ طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة بأنْ يُنزل مثلاً كتاباً أو يُرْسِل رسولاً أو يُشَرِّع شَرْعَاً كالإسلام يَضَع نظاماً دقيقاً لهذا الكوْن يُديره علي أكمل وأسعد وجه للخلق كلهم؟!.. والسؤال في الآية الكريمة كما في سابقتها هو لنفي ذلك قطعيا ولِلَّوم الشديد وللسخرية من هؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم عقلاً بل لا عقل لها!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما تقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم الله تعالي وحده لا غيره هو الذي يهدي للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة الحاسِمَة وبالتوفيق وبالتيسير لاتّباعه، وذلك من خلال كتبه مع رسله وآخرها القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، والذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. أمّا شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من ذلك بل يُضِلّونكم ويُتْعِسونكم فيهما.. ".. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى.." أيْ هذا مزيدٌ من التسفيه لأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب إغلاقهم لعقولهم حتي لم يستطيعوا إدراك أوضح الأمور، ومزيدٌ من التَعَجُّب من حال أمثالهم الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ومزيدٌ من الرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ هل مَن يهدي أيْ يُرْشِد غيره إلى الحقّ وهو الله تعالى وحده أحقّ أن يُتّبَع فيما يُوصِي به من إسلامٍ أم مَن لا يَهِدِّي أيْ لا يستطيع أن يهتدي بنفسه إلاّ أن يهديه غيره أحقّ بالاتّباع؟! كلا لا يُمْكِن أبداً بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساوَيَا!! لأنه حتماً بلا أيَّ شكّ عند كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ الذى يَهْدِي غيره إلى الحقّ أحقّ بالاتّباع مِن الذى هو فى حاجةٍ إلى أن يَهْدِيَه غيره وبالتالي فمِن باب أوْلَيَ هو عاجز قطعاً أن يَهْدِي غيره لعدم عِلْمه ولضلاله كمعبوداتهم التي لا تَهْدِي ولا تَهْتَدِي.. هذا، ولفظ "يَهِدِّي" في اللغة أصله يَهْتَدِي ثم أُدْغِمَت التاء في الدال فأصبحت مُشَدَّدَة وهي صيغة تُفيد عدم الهداية إلا بصعوبة.. ".. فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿35﴾" أيْ فماذا حَدَثَ لكم؟! ما الذي أصاب عقولكم؟! وكيف أصْدَرتم هذه الأحكام الواضحة السَّفَه والجهل والفساد لمَن كان عنده أيّ ذرّةٍ مِن عقل وما أدِلّتكم عليها؟! ما أسوأ هذا الحُكْم!! أمَا لكم عقول تتدبَّرون بها ما تقولون وتفعلون؟! كيف تَحكمون هذا الحكم الباطل السَّفِيه بالمساواة بين الخالِق وخَلْقه؟! كيف تُشركون فى العبادة مع الله تعالي الخالق الهادي النافع الضارّ وحده مخلوقات لا تَهْدِي بنفسها وإنما هى فى حاجةٍ إلى مَن يَخلقها ويَهديها ولا تَنفع ولا تَمنع ضَرَرَاً، بعد ظهور الأدِلّة القاطعة علي أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة؟! لماذا لا تعبدون ربكم وتعملون بأخلاق إسلامكم لتسعدوا في الداريْن بَدَلَ أن تتعسوا تماما فيهما ببُعْدِكم عنهما؟!.. ولكنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التسفيه لأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب إغلاقهم لعقولهم حتي لم يستطيعوا إدراك أوضح الأمور، ومزيدٌ من التَعَجُّب من حال أمثالهم الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ومزيدٌ من الرفض والذمّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أيْ وما يَسير أكثر هؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم في عبادتهم لمَعْبُوداتٍ غير الله تعالي إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي صفات علي المسلم أن يَتَّصِف بها ليسعد في الداريْن – لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام عقولهم فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ الظنّ حتماً لا قيمة له ولا يَنبني عليه أيّ تغييرٍ للحقّ أي لِمَا هو ثابت أكيد، فهو أبداً لا يُغْنِي أيْ لا يَنفع أيَّ شيءٍ ولا يَحِلّ مُطلقا مَحلّ الحقّ ولا يَنفع في معرفته والوصول إليه بأيِّ شيء، وبالجملة فالظنّ ليس مُطْلَقَاً كالحقّ الذي هو اليقين المُؤَكّد الشديد الوضوح الذي لا يُمكن إنكاره إلا مِن مُكَذّبٍ مُعَانِدٍ مُسْتَكْبِرٍ أو سَفِيهٍ أو مُخَرِّفٍ أو مَن شابههم.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾" أي إنَّ الله بكل تأكيد عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يفعلونه ويقولونه كله أمثال هؤلاء سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم عليه بما يُناسِب مِن كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿37﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿38﴾ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿39﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿40﴾ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴿41﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴿42﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴿43﴾ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿37﴾" أيْ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل هذا القرآن العظيم أن يُدَّعَيَ كذباً مِن غير الله تعالي مِن أيِّ أحدٍ مِن خَلْقِه مهما كان.. أيْ وما كان يتهيَّأ لأحدٍ أن يأتي بهذا القرآن مِن عند غير الله ثم ينسبه إليه سبحانه افتراءً عليه أيْ كذباً شنيعاً عليه لا أصل له لأنه لا يَقْدِر على ذلك أحدٌ مِن الخَلْق وقد حاول بالفِعْل كثيرون من أفصح الفصحاء وعَجزوا وفَشلوا ويَئسوا.. أيْ مِثْل هذا القرآن لا يكون أبداً إلاّ مِن عند الله فهو لا يُشْبِهه ولا يُقارِبه بالمُطْلق أيٌّ مِن كلام البَشَر.. أيْ وما كان يَسْهُل مُطْلَقَاً أن يُفْتَرَيَ هذا القرآن علي الله تعالي.. وذلك لأنه في إعجازه وهدايته وإحكامه لا يُمكن أن يكون من عند غير الله لأنه الكتاب العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، والذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ ولكنه كلام الله تعالي الذي أوحاه وأنزله إلى رسوله الكريم محمد ﷺ ليكون تصديقَ الذي بين يديه – أيْ مَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عنده كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب – أيْ مُصَدِّقَاً لها أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. لقد جعلناه كذلك مُهَيْمِنَاً أيْ حاكِمَاً مُرَاقِبَاً علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. ".. وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ.." أيْ وأنزلناه ليكون كذلك تفصيل أيْ توضيح وتَبْيين الكتاب الذي كَتَبَه الله علي خَلْقه وهو الإسلام المُشْتَمِل علي الوصايا والأخلاق والتشريعات والنظم والأصول والقواعد لكلّ شيءٍ في حياة الناس والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن.. ".. لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿37﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا شكّ أبداً مِن أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ في أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز مُنَزَّلٌ من ربِّ العالمين أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا
ومعني "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿38﴾" أيْ أمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين هل يُصَدِّقُون ويَعترفون بأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول ﷺ هو الذي افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عنده؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون، وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه ﷺ هو الصادق الأمين!! وأنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب!! وقد ثَبَتَت وتَأكّدَت الأدِلّة الواضِحَة القاطِعة الحاسِمة علي صِدْقه وصدق القرآن وإعجازه وكذبهم الواضح في ادِّعائهم كما ذُكِرَ في الآية السابقة وغيرها من الآيات!!.. ".. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿38﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التّحَدِّي والتَّعْجِيز وإسْكات الأَلْسِنَة إنْ كان الأمر كما تَدَّعون أنَّ القرآن مِن عندي وأنه من كلام البَشَر فهَاتُوا أنتم أيها الفُصَحَاء سُوُرَة تُمَاثِل سورة منه، والسورة هي مجموعة من آياته، واسْتَدْعُوا واطلبوا عَوْن كلّ مَن استطعتم مِن غير الله تعالي مِمَّن تَدَّعون أنهم ينصرونكم وينفعونكم غيره سبحانه مِمَّن تَقْدِرون علي استدعائه وإحضاره لمساعدتكم من آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها من أصنامٍ وغيرها ومِن نُصَرَاءكم وأعوانكم وفُصَحَائكم وغيرهم إنْ كنتم صادقين في ادِّعائكم هذا أنه ليس مِن عند الله وأنه مِن عندي وأنكم تَقْدِرُون على الإتْيَان بمِثْله وعلي مُعَارَضَته ومُجادَلَته ومُساواته وأنَّ هذه الآلهة تساعدكم، فإنْ جئتم بسورةٍ مثله فأنتم إذَن صادقون!! وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان
ومعني "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿39﴾" أيْ هؤلاء السفهاء لم يَكْتَفُوا بما قالوه فى القرآن الكريم من أقوالٍ سَفِيهَةٍ قبيحةٍ بل سارَعوا إلى التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه أيْ بما لم يعلموه ويفهموه ويَتَدَبَّروه بإحاطةٍ من كل جوانبه بعقولهم مِمَّا فيه مِن وَصايا وأخلاقيَّات وأنظمة وتشريعات تُصْلِحهم والبشرية كلها وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولَمَّا يأتهم تأويله أيْ وبدون انتظارٍ لتفسير معانيه وأخباره التي لم يَعلموها ويَفهموها بَعْدُ بالتفكير فيها والسؤال عنها، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي إغلاقهم لعقولهم وعدم إحسان استخدامها وإصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم مع عدم التّأَنّي والتَّثَبُّت.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُذَكّر المسلمين بخُلُقٍ هامٍّ في الإسلام وهو عدم التّعَجُّل والتّثَبُّت والتّأكّد في الأمور كلها، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، خاصة أم عامة، عاجلة أم آجلة، وذلك بأن يُحيطوا بعلمها وتفاصيلها ما استطاعوا ويسألوا الثقة من أهل التّخَصُّص فيما لا يعلمونه منها ويستفيدوا بخبرات السابقين في إيجابيَّاتها وفوائدها وسَلْبِيَّاتها وأضرارها.. فالتّثَبُّت في الأمور كلها والتَّحَرُّك في الحياة بناء علي معلومات وأدِلّة موثوقة يجعل الناس دائما علي صوابٍ أو قريبين جدا منه ويضبط أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة، بينما عدم التثبت والتحرك العَشْوائيّ دون معلومات ودلائل وخبرات يُكْثِر الأخطاء والتّخَبُّطات والتّشاحُنات والتعاسات فيهما.. ".. كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.." أيْ كما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء فقد كذّبَ كثيرون من قبلهم السابقين لهم منذ أبيهم آدم واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك التكذيب لرسلهم وكتبهم حتي جاءهم عذابنا الدنيويّ ثم الأخرويّ.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿39﴾" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل الظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أيْ آخر أمرهم أيْ نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ الظالمين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿40﴾" أيْ ومِن المُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم مَن سيُؤمِن أيْ سيُصَدِّق مُسْتَقْبَلاً بالقرآن العظيم وبربه وبرسوله ﷺ ويُسْلِم ويعمل بأخلاق الإسلام التي فيه فيَسعد في الداريْن وذلك حينما يُزيح عن عقله الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ويُحْسِن استخدامه ويَعود لفطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ويُحْسِن المسلمون حوله دعوته لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين مِن بَعْده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم سبحانه أنَّ الكثيرين سيُؤمنون كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً وسيَنتشر الإسلام وسيَسعد الناس به في دنياهم وأخراهم، فلْيَصبروا بالتالي إذَن وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ.." أيْ ومنهم فريق لا يصدِّق به أبداً ويَظلّ مُصِرَّاً علي تكذيبه وعِناده واستكباره وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حتى يموت على ذلك، بسبب إصراره التامّ علي إغلاق عقله من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿40﴾" أيْ وربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – حتما أعرفُ من أيِّ أحدٍ بالمُفسدين وأخْبَرُ بدَوَاخِلهم فهو يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في كوْنه كله، أعلم بكل أقوالهم وأفعالهم ومَفاسدهم وشرورهم وأضرارهم بكلّ صورها المختلفة، الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم لأنهم فاسدون في أنفسهم مُتْعِسُون لها مُفْسِدون مُتعسون لغيرهم، وبالتالي سيُجازِيهم في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر فسادهم.. والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الداريْن وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما.. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمفسدين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴿41﴾" أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لي ديني وجزاء عملي ولكم دينكم وجزاء عملكم، مثلما قال تعالي في الآية ﴿6﴾ من سورة الكافرون "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (برجاء مراجعتها لاكتمال المعاني﴾، فأنتم بَريئون مِمَّا أعمل أيْ لا صِلَة لكم به أيْ لا تُؤَاخَذون بعملي وأنا بريء مِمَّا تعملون أيْ لا صِلَة لي به أيْ لا أؤاخَذ بعملكم، أيْ كل فردٍ سيتحمَّل نتيجة عمله لا يتحمّله عنه أحدٌ غيره، وهذا تأكيدٌ وتفصيلٌ لقوله لي عملي ولكم عملكم، فافعلوا ما شئتم فسيُحاسِب الله تعالي البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهذا يُفيد ضِمْناً الابتعاد عنهم وعدم الرضا عمَّا يقولون ويفعلون من سوء
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴿42﴾"، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴿43﴾" أيْ والبعض مِن المُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم، يستمعون إليك أحيانا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عند قراءتك لبعض آيات القرآن العظيم وعند دعوتك لله وللإسلام استماع استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمام، ولا يستمعون استماع تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، وذلك لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴿42﴾" أيْ فهل أنت تسطيع أنْ تُسمع الصُّمّ أيْ الذين لا يسمعون بآذانهم ولو كانوا لا يعقلون أيْ ولو أُضِيفَ إلى صَمَمهم عدم تَعَقّلهم؟!.. والمقصود أنْ استَمِرُّوا أيها المسلمون في التمسّك والعمل بإسلامكم وفي الدعوة إليه بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ولا تلتفتوا إلي أقوالهم وأفعالهم واطمئنوا ولا تشعروا بتقصيرٍ نحوهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة ووسائلها وأساليبها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنَّ المشكلة هي فيهم هم وليست فيكم أنتم، في عقولهم، فهم كالصُّمّ، فهل الأَصَمّ مِن المُمكن أن يَسمع أيّ دعوة تُوَجَّه إليه؟! مع مراعاة أنَّ الأصَمَّ العاقل يَصِل للخير بالإشارة التي تُحَرِّك فِكْره وفِطْرته! والسؤال هو للنفي وللاسْتِبْعاد أيْ كَلَّا لا يستطيع أحدٌ ذلك، إلا إذا أزاحوا عن عقولهم الأغشية التي عليها وأحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) حينها يُوَفّقهم الله تعالي للهداية له وللإسلام ويُيَسِّر لهم أسبابها.. "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴿43﴾" أيْ وكذلك البعض منهم ينظر إلي أدِلّة صِدْقك الواضِحَة القاطِعَة أنك رسول الله وصِدْق ما أُوحِيَ إليك وهو القرآن العظيم وكمال وحُسن خُلُقك وتَصَرُّفك ويُشاهدها بعينه ولكن لا يُصَدِّقونك ويُؤمنون، لأنهم ينظرون نَظَر استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمامٍ لا نظر تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، وذلك لإصرارهم التامّ علي إغلاق عقولهم.. ".. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴿43﴾" أيْ فهل أنت تستطيع أن تَهْدِي العُمْىَ ولو أُضِيفَ إلى عَمَيَ أبصارهم – حيث هم كالأعْمَيَ الذي لا يُبْصِر – عَمَيَ بَصِيرتهم أيْ إدراك عقولهم؟! بل الأعمي العاقِل يَصِل للحقّ بحُسْن استماعه وتَعَقّله وتَدَبُّره فيما يَسمعه كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا!.. والسؤال أيضا كما في الآية السابقة هو للنفي وللاسْتِبْعاد أيْ كَلَّا لا يستطيع أحدٌ ذلك، إلا إذا أحسنوا هم استخدام عقولهم فيُوَفّقهم حينها ربهم للهداية له وللإسلام
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿44﴾" أيْ إنَّ الله الخالق الرحيم الكريم لا يظلم أبداً أيَّ أحدٍ من الناس بأيّ شيءٍ مِن ظلمٍ ولو وَزْن ذرَّة أو أقل، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، ولكنَّ الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فيُتعسوها ويُتعسوهم في دنياهم وأخراهم، بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إنه تعالي سيُحاسِبهم جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! فالظالمون بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم يُصِرُّون تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فأمثال هؤلاء حتماً سيُعاقَبون بما يُناسبهم في الدنيا والآخرة
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿45﴾" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر لحسابهم، وعندما يَرَي المُسِيئين العذاب الذي كانوا يُوعَدون به في دنياهم وكان بعضهم يُكَذّبه ويَنْزِل بهم واقعيا في النار حينها سيَستشعرون كأنهم لم يَبْقُوا في حياتهم الدنيا إلا وقتاً قليلاً جداً كأنه مثلاً ساعة فقط مِن اليوم بما يَدلّ علي استصغار مدة الحياة مهما طالَت لأنّ شدّة هذا العذاب والموقف تُنسيهم كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها.. وفي هذا مزيدٌ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ حيث تمام الحَسْرة والندم في وقت لن ينفعا فيه بشيء.. ".. يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.." أيْ وهم يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون كما كان حالهم في الدنيا، وبذات أجسادهم وأشكالهم بما يدلّ علي قُدْرته سبحانه علي البَعْث وأنَّ كوْنهم كانوا ترابا ليس له أيّ تأثير، فيَعرفون الآباء والأبناء والأقارب والجيران والأصحاب والرؤساء والمرؤسين وغيرهم، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، حيث يعرف كل فريقٍ بعضه ويتعارَف فيما بينه، أهل الخير، وأهل الشرّ، ففاعِلِي الخير في دنياهم يَتعارفون وقتها ويَتحدّثون مُتآلِفين مُسْتَبْشرين مُنتظرين أعظم ثوابٍ علي كل خيرٍ فَعَلوه، وفاعِلي الشرّ كذلك يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون ويتحدّثون مُتَنَافِرين خائفين يَسُبّ ويَلْعَن بعضهم بعضا لأنهم تشاركوا في أسباب ما هم فيه بشكلٍ من الأشكال مُكْتَئِبين تُعَساء مُنْتَظِرين أشدّ عذابٍ مُناسبٍ لكلّ شرٍّ فعلوه.. ".. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين لم يُصَدِّقوا بمُقابَلَة الله يوم القيامة لحسابهم علي أقوالهم وأفعالهم حيث يُعطي المُحسنين كل خيرٍ وسعادةٍ في درجات جناته علي حسب أعمالهم ويُعاقِب المُسيئين بكل شرٍّ وتعاسةٍ في عذاب ناره علي قَدْر شرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، الذين يَستبعدون البَعْث بالأرواح والأجساد بعد موتها وكوْنها ترابا في قبورها، ولذلك يفعلون في دنياهم ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار لتَوَهُّمهم أنْ لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار.. لقد خسروا حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿45﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضلالهم أيْ ضياعهم وإصرارهم علي تكذيبهم، أيْ وما كانوا أبدا راشِدين مُصِيبِين للخير والسعادة في فِعْلهم هذا وما كانوا مطلقا مُحَقّقِين للربح في دنياهم وأخراهم ما داموا مستمرّين هكذا علي ما هم فيه
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴿46﴾" أيْ وإنْ نُرِك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده بعض الذي نَعِدُهم به هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من العذاب الدنيويّ بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في أثناء حياتك ليشْفِي ذلك الانتقام منهم بعض ما في صدرك من ضيق ولتسعد بالنصر والتمكين في الأرض، فهذا سيكون خيرا وبها ونِعْمَت، وإنْ لم يتحقّق فسيتحقّق لغيرك من المسلمين بعد أن نَتَوَفّاك، فقُم بتأدية ما عليك ولك أجرك العظيم علي كلّ الأحوال واتْرُك التوقيت والأسلوب له سبحانه فسيأتي به في أفضل وأنْسَب وقتٍ يُحقّق لكم تمام السعادة في الداريْن، ولو فُرِضَ ولم يتمّ عذابهم في الدنيا بصورةٍ مِن الصور كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بدرجةٍ ما مِن درجات التعاسة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا حيث العذاب الأكيد لهم ولأمثالهم بما هو أتمّ تعاسة وأعظم، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذَن! فاستمِرّوا في تمسّككم بإسلامكم وعملكم بكلّ أخلاقه وحُسن دعوتكم لغيركم واصبروا علي أذاهم لتسعدوا بذلك في دنياكم وأخراكم.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة فيه إرشاد للمسلم أن يكون هكذا دائما في كلّ شئون حياته متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ نتائج أيّ سببٍ سيتّخذه مِن أجل أيّ خيرٍ لابُدَّ حتما ستتحقّق يوماً مَا، إنْ عاجلا أو آجلا، إمّا فوريا أو بعد فترة قصيرة أو متوسطة أو طويلة، وعلي حسب نوع الخير ومقداره وحالته، وسواء رَأَيَ هذه النتائج السعيدة للخير في أول حياته أو وسطها أو آخرها، أو حتي لم يَرَها مطلقا فيها! فإنها ستتحقّق حتما! فما مِن خيرٍ إلا ويؤدّي إلي خيرٍ بكلّ تأكيد، فهذا هو وعْد الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا لأنه قادر علي كل شيء كما يقول "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، وللمسلم أجره وثوابه في الدنيا، حيث سيَسعد بأنه دائما في كل خير، وإنْ لم يتحقّق خيرٌ مَا فسيتحقّق حتما له ولغيره خيرٌ غيره وخيرٌ آخر وخيرات كثيرات من الكريم الرزّاق، ثم له بالقطع أجره العظيم في أخراه علي كلّ ذلك في أعلي درجات الجنات، فالمهم أن يستمرّ دوْماً علي الخير ويحيا مِن خيرٍ إلي خير، أمّا موعد النتائج وكيفية وأساليب تحقيقها فهذا متروك للخالق الحكيم مُدَبِّر أمور الخَلْق والكوْن علي أكمل وجه، حيث سيختار له ولمَن حوله أفضل وأسعد الأوقات التي يُحَقّق لهم فيها نتائج أسباب الخير التي اتّخذوها سابقا، وقد يُحقّقها بالشكل الذي كانوا يريدون أو بأشكال أخري أكثر خيرا وسعادة للجميع.. فاستمرّ أيها المسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، واستمرّ في عمل كلّ خير، واستمرّ في دعوة غيرك له، وسيتحقّق انتشار الإسلام وانتصاره، وستكون كلمته هي العليا أيْ سيَتّخذه الناس مَرْجعا لهم ليسعدوا، وسيَنهزم وسيَهلك أعداؤه وكلّ مُكذب مُعانِد مُكابِر مُسْتَهْزِيء سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره، وذلك في التوقيت الذي يراه مالِك المُلك الكريم الغفور الرحيم العزيز الحكيم الخبير صالحا مُسعدا للجميع.. وهذا في الدنيا.. ثم في الآخرة يَرْجِع كلّ الخَلْق إليه سبحانه وهو شاهِد عليم بكلّ ما يفعله كلٌّ مِن أهل الخير وأهل الشرّ، فيُجازي كلاًّ بما يستحقّ مِن خيرٍ وجنان وسعادات أو شرّ ونيران وتعاسات.. ".. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴿46﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مُحاسِبتهم في الداريْن.. أيْ والله بعد ذلك السوء الذي يفعلونه مُعَاقِبهم عليه بما يُناسب فهو شهيدٌ علي ما يفعلون أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أعمالهم وأقوالهم هم وكلّ خَلْقه مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله؟!.. فانتبهوا لذلك إذَن وأَسْلِمُوا أيها الناس جميعا وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿47﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ رسولاً حَسَنَاً لرسول الله ﷺ ، لكل الناس، لكل مَن حولك، أي كنتَ من الذين يحسنون الدعوة إلي الله والرسول ﷺ والقرآن والإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿47﴾" أيْ ولكل مجموعة مِن الناس السابقين لكم ومَن حولهم رسولٌ أيْ مَبْعوثٌ بُعِثَ إليهم من الله تعالي ليدعوهم إلي الإسلام ليسعدوا به في الداريْن إذا عملوا بكل أخلاقه، كما بُعِثَ إليكم أيها الناس حتي يوم القيامة آخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ، وبعثنا معهم كُتُبَاً فيها الإسلام ليُبَلّغوها لهم والتي فيها تفاصيل تشريعاتنا وأنظمتنا وأخلاقيَّاتنا المُسْعِدَة لهم في دنياهم وأخراهم التي نُوصِيهم بها المناسبة لكل عصرٍ وآخرها القرآن العظيم الذي يناسبهم بكل بيئاتهم وثقافاتهم ومتغيّراتهم إلي يوم القيامة، وأَحْضَروا لهم كل البَيِّنات أي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقهم وأنهم من عند الله وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، فمَن استجاب له فله كلّ خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة فيهما بقَدْر عدم استجابته وبسببها.. وفي هذا تأكيدٌ أنَّ الله تعالي لا يَترك خَلْقه أبداً منذ خَلَقهم يَتيهون في الشرور فيَتعسون بذلك في دنياهم ثم أخراهم بل من رحمته بخَلْقه وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم فيهما، يُرْسِل لهم دوْما في كل زمانٍ ومكانٍ مَن يُرشدهم إلي كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم فيهما، كما أنّ في الآية الكريمة تسلية للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بَعْده الذين يَدْعون الناس لله وللإسلام لكي يقتدوا بالرسل الكرام قبلهم فيُحسنوا دعوة غيرهم ويصبروا علي أذاهم مثلهم ليَنالوا مثل أجورهم في الداريْن.. ".. فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ فإذا حَضَرَ ووَصَلَ إليهم رسولهم بالبَيِّنات فصَدَّقه بعضهم وكذّبه آخرون قَضَيَ الله تعالي أعدل العادلين وأحكم الحاكمين بينهم بالقسط أيْ حَكَمَ بين الرسول ومُكَذّبيه بالعدل بأنْ يُنجي ويَنصر ويُسعد رسوله والمؤمنين ويُعَذّب ويَهزم ويُتعس ويهلك المُكَذّبين، وذلك في الدنيا أولا، بمعني أنه مَن استجاب له فله كلّ خيرٍ وسعادة ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة بقَدْر عدم استجابته وبسببها، ثم في الآخرة يَقَضِي بينهم حيث يجيء كل رسول ليكون شاهداً أميناً عادلاً مَوْثُوقاً فيه علي الفريقين المُستجيبن المُحسنين وغير المستجيبين المُسيئين في زمنه حيث يشهد الرسل الكرام علي أممهم أنهم قد بَلّغوهم الإسلام بتمامه دون أيّ نقصانٍ أو زيادةٍ كما وَصَّاهم ربهم فمنهم مَن عمل به ومنهم مَن تَرَكَه بعضه أو كله أو عادَاه، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد ﷺ الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، وهذا هو معني ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿47﴾" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴿50﴾ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿51﴾ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿52﴾ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿53﴾ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿54﴾ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿55﴾ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متأكدا تماما أنه لن ينفعك أحدٌ ولن يضرّك إلا إذا شاء الله تعالي فإنه وحده النافع الضَّارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾" أيْ دائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا!! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا! إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾" أيْ أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام، بل أنتم كاذبون!!.. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم في الدنيا، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذَن كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ ومعني "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني لا أَقْدِر ولا أمتلك وليس بيدي مُطلقاً مَنْع أيِّ ضَرَرٍ أيْ شَرٍّ أو جَلْب وإحضار أيّ نفعٍ أيْ خيرٍ، لنفسي، إلا الذي شاء اللَّه من ذلك فيُمَلّكنى ويُعطيني هذا النفع أو يَمنع عني هذا الضرّ بتوفيقه وتيسيره، فلا يَأتيني خيرٌ إلا منه ولا يَدْفع عني شرّاً إلا هو، فكل الأمور مُفَوَّضَة مَوْكُولَة مَتْرُوكَة إليه، فما شاء أن يَحْدث لا بُدَّ حتماً أن يَحْدُث لأنه هو وحده الذي يملك كل أسباب النفع والضرّ والهداية والضلال ولو مَنَعَ كل القُوَيَ والطاقات والإدراكات عن خَلْقه لتَوَقّفَت الحياة تماما وما نَفَعَ أحدٌ أحداً أبداً بخيرٍ مَا وما اهتدي لصوابٍ وما أضَرّ أحدٌ أحداً وما مَنَعَ عنه ضَرَرَاً مَا وَقَعَ به، فهو سبحانه النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. إنه تعالي وحده الذي ينفع، إمّا مبَاشَرَة بأنْ يَصِلَ الإنسان بعقله الذي وَهَبَه له إلي ما يريد من سعادةٍ في دنياه وأخراه ويُحسن اتّخاذ أسباب ذلك ما استطاع فيُعينه ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه ويُيَسِّر له الأسباب، وإمّا بصورةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر له آخرين لعَوْنه.. وإنْ أصابه ضَرَرٌ مَا، فلْيُراجِع ذاته وأسبابه التي اتّخذها لتصحيح الأمور (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. إنَّ كُلّاً من النفع والضرر هو مِمَّا يشاء الله تعالي للإنسان حسبما يشاء ويختار هو بكامل حرية إرادة عقله من أسباب هذا أو ذاك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الإنسان لنفسه يجتهد قَدْر استطاعته أنْ يُحَقّق النفع والسعادة له وأن يمنع الضرر والتعاسة عنه باتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة لذلك، لكن لن تَتَيَسَّر هذه الأسباب ولن تتحقّق نتائجها إلا إذا شاء الله تعالي، أي إذا يَسَّرها ووَفّق فاعِلِيها ومُتّخِذيها ولم يمنعهم أو يمنعها بشيءٍ من الأشياء، فإذا كان هذا حاله مع نفسه أقرب شيءٍ إليه فكيف ينفع أو يضرّ غيره؟! أو كيف إذَن سيأتي مثلاً بعذابٍ أو هلاكٍ له؟! أو كيف سيأتي هو بقيام الساعة أو بمُعجزةٍ خارِقَةٍ مثلاً وهو ما قد يطلبه منه بعض الكافرين والمُكَذّبين والمُعانِدِين والمُسْتَكْبرين والمُسْتَهْزِئين تَعْجيزاً له وتشويشاً عليه لأنه مسلم يدعوهم لأنه يُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن مِثْله؟!!.. ".. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الأمور كلها بيده سبحانه علي حسب إرادته وحكمته وأنه علي كل شيءٍ قدير.. أيْ لكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم، فحينما يأتي هذا الموعد، موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ، أو حتي قبله موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو حُدُوث حَدَثٍ مَا، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أيْ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو للحظة بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأن يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴿50﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله الذي تستعجلون حُدُوثه لتكذيبكم واستهزائكم به، في الدنيا أولا قبل الآخرة، في أيِّ وقتٍ، مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، حيث ينزل بكم بياتاً أيْ بائِتين أيْ وأنتم أثناء نومكم بالليل، أو نهارا أي أثناء عملكم أيْ يأتيكم فجأة وقت استرخائكم واطمئنانكم أو انشغالكم فلا تستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتكم أشدّ ويكون عذابكم أعظم وقد يؤدي بكم إلي هلاككم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴿50﴾" أيْ ما الذي يَستعجله المجرمون من العذاب، وكله مَكْروه مُضِرّ مُتْعِس لا مُسْعِد لهم لا يُناسبه الاستعجال؟! فمِثْله لا يُسْتَعْجَل بل يُسْتَأْخَر عند أيِّ عاقل!!.. والاستفهام للتهويل أيْ ما أعظم ما يَستعجلون به، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إنَّ الله تعالي يُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه
ومعني "أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿51﴾" أيْ هذا استفهامٌ لمزيدٍ من الذّمّ لهم واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل بَعْدَمَا وَقَع عذاب الله بكم أيها المجرمون آمنتم في وقتٍ لا ينفعكم فيه الإيمان؟! ويُقول الله تعالي أو تقول ملائكته ذَمَّاً لهم وزيادة في نَدَمِهم وأَلَمِهم في تلك الحال التي يَدَّعُون فيها الإيمان كذباً وزُورَاً مُتَوَهِّمِين إمكانية هروبهم من العذاب الآن تؤمنون به وقت الشدَّة مع أنكم قبل ذلك قد كنتم تستعجلون به تكذيباً له واسْتِبْعاداً لحُدُوثه وسخرية منه؟! (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين ﴿84﴾، ﴿85﴾ من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴿84﴾"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾"﴾
ومعني "ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿52﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لذمِّهم ولَوْمِهم وزيادةٌ في نَدَمِهم وأَلَمِهم بعد أن نَزَلَ بهم العذاب.. أيْ ثم يُقالُ يوم القيامة للذين ظلموا في دنياهم أيْ ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يُقالُ لهم ليكون ذلك عذاباً نفسيّاً أليماً إلي جانب العذاب الجسديّ المؤلم: اسْتَشْعِروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرَارَة وشدّة وفظاعة عذاب الدوام في النار الشديد المُحْرِق الذي لا يُوصَف بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الظالم يُخَلّد في النار إلي ما شاء الله إذا كان ظلمه كفراً أو شِرْكَاً أو نفاقاً من النوع الذي يُظْهِر خيراً ويُخْفِي كفراً، ويُعَذّب فيها لفتراتٍ لكن دون خلودٍ علي قَدْر ظُلْمه أيْ شَرِّه إنْ كان فاسداً أو مجرماً أو نحو هذا.. ".. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿52﴾" أيْ هل تُجزون بغير ما كنتم تعملون؟! أيْ لم تُجازُوا أي تُعاقَبوا بشيءٍ زائدٍ عمَّا عملتم في دنياكم، ولكن بمِثْله، أي لم تُظلَموا ولو بمقدار ذرّة وإنما عُومِلْتم بكلّ عدلٍ بما يُناسب أعمالكم السَّيِّئَة
ومعني "وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿53﴾" أيْ ويَسْتَخْبِرونك أيْ ويَطلب منك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُراوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه أنْ تُخْبِرهم هل هو حقّ أيْ صِدْق صحيح؟! يطلبون أنْ تُنَبِّأهم علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء لا من أجل الاسترشاد ومحاولة الوصول للحقّ والخير والسعادة في الداريْن كما يَفعل كل عاقل هل ما جئتَ به من قرآنٍ ومِن بَعْثٍ للأجسام بعد موتها وكوْنها تراباً وإعادة الروح لها مرة أخري يوم القيامة ومِن حياةٍ آخرةٍ بعد الحياة الدنيا وجنةٍ ونارٍ وحساب وثواب وعقاب علي كل الأقوال والأفعال الدنيوية ومِن أنَّ عذاب الله يَنْزِل علي المُكَذّبين والعاصِين بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة، هل كل ذلك حقّ؟!.. ".. قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم نَعَمْ واللهِ إنَّ كلّ ذلك بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ حقّ.. ".. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿53﴾" أيْ وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ – هي أنّه ليس لكم إلا أنْ تُسْلِموا لتَسعدوا في الداريْن ولتَنْجُوا من عذابهما
ومعني "وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿54﴾" أيْ ومِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة للذين ظلموا، لو فُرِضَ وكانت كل نفس ظَلَمت في دنياها تمتلك وقتها ما في الأرض مِن كلّ أملاكها لَقَامت بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن تفتدي ذاتها أيْ تُنجيها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء الذي لا يُوصَف، وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض!!.. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لها.. والنفس التي ظلمت هي التي أتعست ذاتها ومَن حولها بصورةٍ ما مِن صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر شرورها ومَفاسدها وأضرارها بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعدما ذاقَت في دنياها بسبب أفعالها درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. ".. وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ.." أيْ وكَتَمَ الذين ظلموا الحَسْرَة وظَهَرَت علامات ذلك نَدَمَاً وألَمَاً علي وجوههم، حينما رأوا بأبصارهم ما تمَّ إعداده لهم من عذابٍ أليمٍ مُوجِع بما يُناسب شرور كلٍّ منهم ومَفاسده وأضراره وجرائمه، ولمَّا بدأ الاستعداد لدخول العذاب بوضع الأغلال أي القيود في رقابهم وربط أيديهم فيها لمنعهم من أيِّ حركة ولإذلالهم وإهانتهم، ولمَّا تأكّدوا أنه ليس لهم أيّ نجاةٍ منه.. ".. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ وقَضَيَ الله تعالي أعدل العادلين وأحكم الحاكمين بينهم بالقسط أيْ حَكَمَ بينهم بالعدل حيث يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد ﷺ الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، وهذا هو معني ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿54﴾" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿55﴾" أيْ إنَّ الله تعالي وحده هو الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ وَعْد الله صِدْق سيَتحقّق حتماً يوماً مَا بالبَعْث وبالآخرة بما فيها من حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصين.. ولماذا يُخْلِفه تعالي وهو القادر علي كل شيء؟! فهو ليس كالبَشَر مِن المُمْكِن أن يخلْفوا وعودهم لعدم استطاعتهم أو لمُرَاوَغَتهم أو لِمَا شابه هذا من أسباب! وبما أنه وَعْدٌ أكيدٌ فاستعدوا له جيدا أيها الناس بأنْ تُحْسِنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿55﴾" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا، ولا يَعقلونه ولا يَتدبّرون فيه، تماما كالجهلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، فبعضهم يكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم ينافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تارِكٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيراً ينسي قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يدرك ويتفهَّم ويعلم ويستخرج الخير الكثير المخفيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، ما لم يستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي يفعلونه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿56﴾" أيْ الله سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيءٍ كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿56﴾" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره تكونون دائما في كل أحوالكم في كل شئون حياتكم راجِعين إليه أيْ تجعلون دوْما مَرْجِعِيَّتكم هي الله ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وتكونون دائما تائبين عائدين إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل عنكم سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتكم بتعاسة هذا الخطأ.. ثم جميعكم أيها الناس ستُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، وهو أعلم بكم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن والإسلام.. أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليتنبهوا له، أيْ يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد وَصَلَتْكم موعظة أيْ تَذْكِرَةٌ وتَوْصِيَة تُؤَثّر في عقولكم ومشاعركم بالترغيب أو الترهيب لتَدْفعكم للعمل بها، وهي القرآن العظيم، من عند ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – لا مِن عند غيره مِن أيِّ بَشَر، مِن خلال وَحْيه للرسول الكريم محمد ﷺ ، والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم تَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتكم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمكم تمام العلم.. ".. وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.." أيْ وهُوَ، وفِيهِ، دواءٌ وعلاجٌ يَشْفِي الله به ما في العقول والمَشاعِر والدواخِل من أمراضكم كالكفر والشرْك والشكّ والجهل والنفاق والظلم والتّباغُض والتّنازُع والخوف والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ونحو ذلك، لأنه إذا صَلح العقل وفِكْره ومشاعره صَلحت حتماً كل الأقوال والأفعال وسَعِد قطعاً في دنياه وأخراه مَن يفعل ذلك.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ وهُوَ، وفِيهِ، هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾" أيْ ولكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم بفضل الله وبرحمته أيْ بإنزال القرآن العظيم وبِبَيَان تشريع الإسلام فبهذا لا غيره عليهم أن يَفرحوا أيْ يَسعدوا فهو أوْلَيَ مَا يَفرحون به لأنَّه بذلك يكون معهم مَصْدَر وأصْل كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ حقيقية في كل شئون حياتهم ثم في آخرتهم حيث الجنات التي فيها من النعيم الخالد التامّ المُسْعِد الذي هو بلا حسابٍ والذي يَشمل مَا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بشر، وهذا بالقطع بلا أيِّ مُقَارَنَة خيرٌ مِمَّا يجمع الناس غير المُتَوَاصِلِين مع ربهم وقرآنهم وسيرة رسولهم وإسلامهم من كل نِعَم الدنيا الزائلة بالتأكيد يوماً مَا، سواء أكانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم ظالمين أم فاسدين أم حتي مسلمين لكنهم تارِكين لأخلاق إسلامهم بعضها أو كلها أو مَن شابههم، فإنَّ مَا يجمعون من أموالٍ أو أعْوَانٍ أو مَناصِب أو ألقاب أو غيرها، كلها سعادات وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يصحبها أو يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا ويراه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بصير، ثم في آخرتهم مَرْجعهم الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم بسبب أفعالهم مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك.. ثم برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة التوبة ".. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴿59﴾ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿60﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. إنَّ الأصل في كل الأشياء أنها حلال، أيْ مَسْمُوح بها لمنفعة ولسعادة بني آدم، إلا القليل الذي حَرَّمَه سبحانه، لضَرَره، أيْ لأنه مُضِرّ مُتْعِس، أو لأنه مُسْتَقْذَر يَعافه العقل السليم ولا يقبله، أو ما شابه هذا، كما يقول تعالي "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ﴿البقرة:29﴾، إذ ليس من المعقول أن تكون لنا كلها ثم تكون كلها مُحَرَّمَة علينا إلا القليل الذي يُسْتَثْنَيَ فيُحَلّل!!.. هذا، ويُراعي أن ما هو ضارّ مُسْتَقْذَر لابن آدم فإنه بالقطع نافع لمخلوقاتٍ أخري أو لإحداثِ تَوَازُنٍ مَا في البيئة والكوْن ونحو ذلك من منافع، فلم يَخْلق سبحانه بالتأكيد مَخْلُوقاً عَبَثا! حاشَا لله.. إنه تعالي لم يأذن لأيِّ أحدٍ أنْ يُحَرِّم حلالاً أو يُحَلّل حراما، لأنه لا أحد يعلم ما يَضُرّ وما ينفع إلا ما أخبر به سبحانه خَلْقه، ولذا فمَن يفعل ذلك فهو حتماً من المُفْتَرِين الكاذبين الظالمين المُفْسِدين
هذا، ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴿59﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك مِن الناس الذين يُحَرِّمون ما أحَلَّ الله ويُحَلّلون ما حَرَّمَه من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي عِلْمِكم – والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن – ما أنزل الله لكم بفضله وكرمه ورحمته أيْ خَلَقَه وأعطاه مِن رزقٍ حلالٍ طيِّبٍ لا يُحْصَيَ فجعلتم من أنفسكم مُشَرِّعِين تَجعلون مِن بعضه حلالاً وبعضه حراماً مُخَالِفين شَرْع الله الذي شَرَعَه في الإسلام؟!.. هذا، ولفظ "أنزل" يُفيد لفت الانتباه لإنزال الماء من المطر فتخرج به النباتات وتنمو الحيوانات والطيور التي يَتَغذّي عليها الناس.. ".. قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴿59﴾" أيْ قل لهم علي سبيل الذّمِّ والإيقاظ لعلهم يمتنعون هل الله سَمَحَ لكم بذلك أم تفترون علي الله أيْ تَكذبون بكذبٍ شَنِيعٍ ليس ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا؟! والمَعْلوم والمُؤَكّد حتماً أنَّ الله تعالي لم يَأذن لأيِّ أحدٍ أنْ يُحَلّل أو يُحَرِّم فهم بالتالي قطعاً مُفْتَرون أيْ كاذبون بأعظم الكذب، لأنه لو كان أَذِنَ لهم في ذلك لكَانَ بَيَّنه على لسان رسوله ﷺ ! وبالتالي فهم بالقطع مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتماً فيهما
ومعني "وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿60﴾" أيْ وما هو تَوَهُّم وتَوَقّع هؤلاء الذي يَكذبون علي الله بأعظم الكذب حين يأتي يوم القيامة؟! هل يَتَوَهَّمون أنه تعالي لن يعاقبهم علي افترائهم؟! كلّا إنَّ عقابهم بالتأكيد سيكون شديداً، ولم يُخْبِر سبحانه به لتهويله وتعظيمه.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿60﴾" أيْ إنَّ الله تعالى بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هو صاحب فضلٍ وكرمٍ زائدٍ عظيمٍ على الناس وعلي الخَلْق جميعا، ولكنَّ كثيرا من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كلّ كاذِبٍ ناكِر، وأعظمها نِعْمَة القرآن والإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذبون وجود الله أصلا، أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنام أو أحجار أو كواكب أو نحوها، أم مَن شابههم في شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بأعمالهم وعقولهم وألسنتهم، والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال، فالقليل هم الذين يشكرون بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدهم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم: 7﴾.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه، بما استطاعوا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿61﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿61﴾" أيْ وما تكون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في أمرٍ مِن أمورك وما تقرأ من كتاب الله من آياتٍ ولا يعمل أحدٌ منكم يا مسلمين ومِن كل الناس عملاً ولا يقول قولاً مِن خيرٍ أو شرٍّ صغيراً أو كبيراً سِرَّاً أو عَلَنَاً إلا كنا عليكم شهوداً أيْ شاهدين مُطَّلِعين عالِمين بتمام العلم حين تُفيضون فيه أيْ تَخوضون وتَدخلون فيه، فنَحفظه ونُسَجِّله عليكم بكلّ دِقّةٍ وعدلٍ في كتاب أعمالكم ونجزيكم به بما يُناسب في الداريْن من كل خيرٍ وسعادةٍ أو شرٍّ وتعاسة، وبالتالي فكونوا دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿61﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إحاطة علمه تعالي بكل شيءٍ ومزيدٌ من التعميم له والبرهان عليه.. أيْ ولا يَغيب ولا يَخْفَيَ عن علم ومُشاهَدَة وقُدْرَة ربك أيّ شيءٍ في وَزْن ومِقْدار الذرَّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من هذا ولا أكبر منه.. ".. إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿61﴾" أيْ إلا وهو سبحانه يعلمه علماً تامَّاً شامِلاً لأنَّ كل ذلك مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62﴾ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿63﴾ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿64﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً من المُتّقين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62﴾"، "الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿63﴾"، "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿64﴾" أيْ حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ أتْبَاع وأحِبَّاء الله القَرِيبين دائما منه المُحِبِّين تماما له أيْ المُوالِين له بالإيمان والطاعة أيْ الذين آمنوا وكانوا يَتّقون – كما في الآية ﴿63﴾ والتي هي مُفَسِّرَة ووَاصِفَة لمعني أولياء الله – أيْ الذين صَدَّقوا به وعملوا بكل أخلاق قرآنه وإسلامه في كل شئون حياتهم وكانوا يَتّقون أيْ يَخافونه تعالي ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ والذين يَتَوَلّاهم هو في مُقَابِل ذلك أيْ سيكون سبحانه وهو الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيَّ أمرهم أيْ مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. هذا، ولفظ "ألا" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. هؤلاء بالقطع لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أيْ هم بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا.. هذا، والعكس صحيح قطعا، أيْ مَن بَقِيَ علي دين غير الإسلام أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿64﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التكريم والتشريف والطمْأَنَة والإسعاد لهم.. أيْ أمثال هؤلاء لهم حتماً من الله تعالي كلّ التبشير وهو الإخبار بكلّ ما هو مُسْعِد والانتظار الدائم له من خلال ما بَشّرَهم ووَعَدَهم به في قرآنه الكريم، أيْ لهم دوْما تمام الخير والأمن والسعادة في حياتهم الدنيا وكذلك في آخرتهم حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وبالتالي فهم يحيون بذلك كلّ لحظاتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. وفي هذا تشجيعٌ تامٌّ لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بهذا في الداريْن.. ".. لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا تغيير أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحِجْر:9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها﴾ (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" ﴿غافر:51﴾، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ﴿فاطر:43﴾، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" ﴿الصافات:171،172،173﴾، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ﴿المجادلة:21﴾﴾.. ".. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿64﴾" أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿65﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿65﴾" أيْ ولا تَشعر بالحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من الذي يقوله المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الله والإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه وأنك تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التسلية والطمأنة والتبشير والتثبيت والإسعاد.. أيْ لا تحزنوا لأنَّ العِزَّة كلها لله لا يملك غيره شيئاً منها فهو المُنْفَرِد وحده بكمال القوة والقُدْرة فهو يذِلّهم ويهزمهم ويُتعسهم ويعِزّكم وينصركم ويُسعدكم، فاستعينوا بالله واصبروا وتوكّلوا عليه وحده، فإنَّ أقوالهم وأفعالهم لا تعِزّهم ولا تَضُرّكم شيئاً يُذْكَر، فالعِزَّة ليست مطلقا لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّهَ بهم بل هم بسبب سوئهم أذِلّة أخِسَّاء مُتَلَوِّنين مُنْحَطّين وَضيعين كذوبين تابعين قَلِقين متوتّرين مضطربين مُهْتَزين مُرتعشين خائفين مَرْعُوبين مُنْزَعِجين مُتشكِّكين في كل ما حولهم مُتَوَقّعين أنه سيُهلكهم وبالجملة هم مرضي مُعَذّبين تَعساء في دنياهم ثم أخراهم حيث العقاب المُناسب لكل هذا حتما.. لكنَّ العِزّة جميعها قطعاً لله تعالي أيْ هو مالِك تمام العظمة والكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة والغَلَبَة والنّصْرَة وهو حتما يعطيها في الداريْن كاملة لا ناقصة حقيقية لا وَهْمِيَّة مستمرّة لا مُتَقَطّعة لرسله الكرام وللمؤمنين ما داموا متمسّكين عاملين بكل أخلاق إسلامهم ولا يعطيها أبدا بالقطع لأحدٍ غيرهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. ".. هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿65﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولأنه هو السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يقولونه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرونه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿36﴾ من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿66﴾ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿67﴾ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿68﴾ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴿69﴾ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿66﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ إنَّ الله تعالي وحده هو الذي له كل مَن في السماوات ومَن في الأرض مِن العقلاء من المخلوقات – إضافة بالقطع لكل مَا فيهما مِن غير العقلاء – وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. هذا، وإذا كان العقلاء هم كلهم عباد لله تعالي ولا يُمكن أبداً أن يكونوا آلهة شركاء له لكي تُعْبَد فمِن باب أوْلَيَ حتماً غير العقلاء بما يدلّ علي أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة!!.. ".. وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿66﴾" أيْ والذين يَدْعون أيْ يَعبدون من دون الله أيْ غيره كأصنامٍ وغيرها، لا يَتّبع أيْ لا يَسِير خَلْف ويَعبد ويُطيع هؤلاء المشركون، شركاء بحقّ، أيْ آلهة أيْ مَعْبودات تَسْتَحِقّ العبادة حيث تملك مع الله لعابديها خيراً أو تمنع عنهم ضرَّاً، حتي وإنْ كانوا هم يُسَمُّونها كذباً وزُورَاً آلهة، لأنَّ الله تعالي ليس له حتماً أيّ شريكٍ مِن خَلْقه في مُلْكه وعبادته إذ هل يُشارِك المَخلوق خالِقه في قُدْرته وعِلْمه؟! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، إنما هم في ذلك لا يَتّبعون إلا الظنّ أيْ لا يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ هم كذلك إلاّ يَخْرصون أيْ يقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي قد وضعوها عليها من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿67﴾" أيْ ومن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي جَعَلَ أيْ خَلَقَ لكم أيها الناس، من رحماته بكم وبكل خَلْقه ومِن حبّه لكم وإرادة إسعادكم بحياتكم، الليل لكي تسكنوا فيه أيْ تستقرّوا وترتاحوا بعد تَعَب حركتكم وسَعْيكم فيكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله، وجعل لكم النهار مُبْصِرَاً أي مُبْصَرَاً به أيْ مُضِيئاً بحيث تُبْصِرون فيه الأشياء ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكلّ هذا وغيره مِن أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وهكذا تَوَالِي لليلٍ ونهارٍ وتَوَالِي لكلّ خيرٍ وسعادة طوال الحياة الدنيا ثم إلي تمام السعادة وخلودها في الحياة الآخرة.. إنَّ هذا التوالي لهما هو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر – والشكر – من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿67﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿67﴾" أيْ لكنْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا أناس يسمعون لها سماع تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ واستفادة وانتفاع وتطبيقٍ عمليّ في واقع حياتهم لِمَا يسمعونه ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، وليس أيّ استماعٍ بلا أيّ تَعَقّل!
ومعني "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿68﴾" أيْ قال بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. سُبْحَانَهُ.." أي فسَبِّحوه تعالي أيها الناس، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ هذا بيانٌ لِغِناه سبحانه عن الولد وعن كل شيءٍ.. أيْ هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه وهو المُسْتَغْنِي عنهم وهم المُحتاجون إلي أفضاله وأرزاقه ورحماته ومَعوناته في كل شئون ولحظات حياتهم، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا! فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك! فهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا.." أيْ ما عندكم أيّ دليلٍ بهذا الذي تَدَّعُونه كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً أنَّ الله تعالي قد اتّخَذَ ولدا.. إنهم لو كان عندهم أيّ دليلٍ لَكَانوا أظهروه وبما أنهم لم يستطيعوا فهم إذَن كاذبون بكل تأكيد، وما قالوا ما قالوه إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿68﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ لمزيدٍ من الذمّ واللوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك.. أيْ هل تقولون على الله الكذب جَهْلاً وجَرَاءَة عليه؟! تقولون عليه سبحانه شيئاً بغير علمٍ أو دليلٍ أو تَثَبُّتٍ، أو تَصِلُوا إلي مرحلة أن تقولوا عليه كذباً أو افتراءً أو سَفَهَاً أو تَعَالِيَاً أو عِنادَاً أو مُرَاوَغَة أو ما شابه هذا، سواء أكان هذا القول في شَرْعه تعالي وهو الإسلام أو في صفاته أو أقواله أو أفعاله.. إنه ليس هناك قطعاً أيّ صِحَّةٍ وصِدْقٍ لِمَا تقولونه وقولكم هذا أعظم دليلٍ على تَعَمُّد الافتراء أيْ الكذب الشنيع لأنه ليس له أيّ أصل.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُذَكّر المسلمين بخُلُقٍ هامٍّ في الإسلام وهو عدم التّعَجُّل والتّثَبُّت والتّأكّد في الأمور كلها، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، خاصة أم عامة، عاجلة أم آجلة، وذلك بأن يُحيطوا بعلمها وتفاصيلها ما استطاعوا ويسألوا الثقة من أهل التّخَصُّص فيما لا يعلمونه منها ويستفيدوا بخبرات السابقين في إيجابيَّاتها وفوائدها وسَلْبِيَّاتها وأضرارها.. فالتّثَبُّت في الأمور كلها والتَّحَرُّك في الحياة بناء علي معلومات وأدِلّة موثوقة يجعل الناس دائما علي صوابٍ أو قريبين جدا منه ويضبط أقوالهم وأفعالهم فيسعدون بذلك في الدنيا والآخرة، بينما عدم التثبت والتّحَرُّك العَشْوائيّ دون معلومات ودلائل وخبرات يُكْثِر الأخطاء والتّخَبُّطات والتّشاحُنات والتعاسات فيهما
ومعني "قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴿69﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، لمَن حولك مِن الناس ولأمثال هؤلاء المُسيئين السابق ذِكْرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُنَبِّهَاً ومُحَذّرَاً لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أن يتعسوا فيهما، قل لهم إنَّ الذين يَخْتَلِقون علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، لا يُفلحون حتماً أيْ لا يفوزون ولا ينجحون ولا يربحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم، بل يُعَذّبون فيهما علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وسيُعَاقَبون بما يَستحقّون بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾" أيْ لأمثال هؤلاء المُسِيئين السابق ذِكْرهم والمُتَشَبِّهين بهم متاعٌ في الدنيا، هو قليلٌ حتماً، حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. هذا في الدنيا.. ".. ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾" أيْ ثم بعد ذلك في الآخرة يوم القيامة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذَن، حيث نُحاسبهم ثم نُذيقهم ألم ومَرارة وشدّة وفظاعة العذاب الشديد في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة المُتْعِسَة بسبب وفي مُقابِل كفرهم واستمرارهم وإصرارهم عليه حتي موتهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴿71﴾ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿72﴾ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴿73﴾ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴿74﴾ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴿76﴾ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴿77﴾ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴿78﴾ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿79﴾ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴿80﴾ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴿81﴾ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿82﴾ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿83﴾ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴿84﴾ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿85﴾ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿86﴾ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿87﴾ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿88﴾ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿89﴾ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿90﴾ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿91﴾ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴿92﴾ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿93﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة العنكبوت وهود والمؤمنون وإبراهيم وغيرها، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴿71﴾" أيْ وكذلك اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ رسولنا الكريم نوح لينتفعوا بما فيه من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما، حين قال لقومه بعد أن بقي فيهم مدة طويلة جدا وهي ألف سنة إلا خمسين عاما صابرا علي أذاهم مُوَاصِلاً دعوته لهم بكلّ هِمَّة وقُدْوة وحكمة وموعظة حَسَنة ومع ذلك ظَلّوا مُصِرَّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ولم يؤمن منهم إلا القليل، يا قوم إذا كان ثَقُلَ وعَظُمَ عليكم بَقائي ووُجُودِي بينكم ووَعْظِي لكم وتذكيري إيّاكم بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولكم أرشدتكم إليها لتَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربكم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليكم أوحِيَ إليَّ فيه الإسلام الذي يشتمل علي أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ أجراها الله علي يدِي لتأكيد صِدْقي.. ".. فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ.." أيْ إنْ كان كَبُرَ عليكم ذلك وعَزَمْتُم علي طَرْدِي أو قتلي فافعلوا ما شِئتم فإني على الله وحده اعتمدت في كل شئون حياتي لأسعد في دنياي وأخراي (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، اعتمدت عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيني كفاية تامّة ولن أحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقنا القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لنا الرحيم بنا هو وكيلي أنا والذين آمنوا معي، أيْ الحافظ لنا المُدافِع عنا، فهل نحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! إننا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولذا فنحن مُطمئنّون اطمئنانا كاملا ومُسْتَبْشِرون ومُنتظرون دائما لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنيانا ثم أخرانا.. إنني مُستمِرٌّ ثابتٌ صابرٌ علي العمل بالإسلام وعلي دعوتى لله وله مُتَوكّل عليه في كل أمرى لا أبالي سواء عَظُم عليكم ذلك أم لا.. ".. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ.." أيْ وبالتالي فقوموا بتجميع ما تريدون جَمْعه مِن مَكْرٍ وكَيْدٍ بي واعْزِمُوا عَزْمَاً أكيداً علي تنفيذه، واستدعوا شركاءكم من كل أعوانكم ومن آلهتكم التي تعبدونها غير الله تعالي ليساعدوكم فى ذلك، فإنى مستمرّ فى طريقى الذى أمرنى الله به بلا مبالاة بمَكْركم فأنا علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاني ويُنجيني ويَنصرني.. ".. ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا يكن أمركم الذى أجمعتم على تنفيذه خَفِيَّاً مُلْتَبِسَاً مُبْهَمَاً عليكم فيجعلكم لا تهتدون منه إلى ما تريدون وتَتَرَدَّدون في إنفاذ ما عزمتم عليه، أيْ ليكن أمركم ظاهراً مُنْكَشِفَاً تتمكّنون فيه مِمَّا شِئتم لا كمَن يخفى أمره فلا يَقدر على ما يريد.. إنه بهذا يَتَحَدَّاهم تمام التّحَدِّي مُتَوَكّلَاً علي الله حقّ تَوَكّله.. ".. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴿71﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره ومزيدٌ من التَّحَدِّي لهم.. أيْ ثم أدُّوُا إلىَّ ذلك الأمر الذى تريدون أداءه من إيذائى بما تستطيعون أو قتلي واحكموا علىَّ بما تريدون من أحكامٍ ولا تُنْظِرون أيْ ولا تُمْهِلُون أيْ ولا تَتَرُكون لي مُهْلَة ووقتاً في تنفيذها بل نَفّذوها علي الفور بحيث لا يكون لي أيّ فرصة للاستعداد للنجاة منه، وذلك إنْ كنتم تَقْدِرون على إيذائى فإنَّ ربّى يَرْعانى.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخيره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مثلهم أجرهم من ربهم فيهما
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿72﴾" أيْ فإن أعطيتم ظهوركم لرسولكم والْتَفَتّم وانصرفتم وابتعدتم عنه وعن الإسلام وتركتموه وأهملتموه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصراركم التامِّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فإني لم أسألكم أجرا حتي تَتَوَلّوا!! لم أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم وعملتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. ".. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.." أيْ ما أجري وثوابي – وما أجر وثواب المؤمنين معي – إلاّ فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيني ما يُسعدني في دنياي وما هو أسعد في أخراي، ما دُمْتُ قد أحسنت دعوتكم سواء أسلمتم أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يُسلم في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿72﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ فإنْ تَوَلّيتم أنتم فأنا قد أُمِرْت من الله أن أكون من المسلمين حتي ولو كنت وحدي، وهذا مزيدٌ من التّيْئِيس لهم بأنَّ إجماعهم هم على التّوَلّي عنه لا يمنعه هو أبداً عن إيمانه بربه واتّباعه لإسلامه.. وكذلك لأني أمِرْتُ أن أكون من المسلمين، فأنا أدعوكم للإسلام، ولا أخالِف أمره باتّباع الإسلام، ولا آخذ أجراً إلا منه.. والمسلمون هم المُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ المُتمسّكون العامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴿73﴾" أيْ فلم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فكان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾.. ".. فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ.." أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن نجيناه من الغَرَق هو والذين آمنوا معه أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، في الفلك أيْ بأنْ حَمَلْناهم في السفينة التي صَنَعَها بوَحْيٍ وتعليمٍ وعوْنٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وأمنٍ مِنّا.. ".. وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ.." أيْ وجعلناهم خلائف – جمع خليفة – لنا في الأرض يَخْلفون المُكَذّبين بعد إهلاكهم ويَخْلف بعضهم بعضا جيلا بعد جيل لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضنا وكوْننا، وكرَّمناهم بأن وَثَقَنا فيهم وجعلناهم خُلَفاء نُوَّاباً عنا يُسَيِّرُون شئونها بما أوصيناهم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ ليُسْعِدوا ذواتهم وغيرهم والكوْن كله.. وفي هذا تذكيرٌ للناس أن يكونوا نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادته أيْ طاعته تعالي وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكره وحده علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك يَسعدون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ثم أيضا بما أنه سبحانه قد جعلهم خُلَفاء لمن سَبَقهم من الأمم السابقة، فعليهم أنْ يَعْتَبِروا إذن بما أصاب غيرهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا يفعلوا أبداً مثلهم حتي لا يتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.." أيْ وأغرقنا بمياه الطوفان الغزيرة التي جاءتهم من السماء فوقهم ومن الأرض تحتهم الذين كذّبوا أيْ لم يُصَدِّقوا بآياتنا أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا أم آيات في كتبنا تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. وفي هذا تذكيرٌ بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴿73﴾" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُنْذَرِين أي الذين تَمَّ إنذارهم ولم يستجيبوا بل استمرّوا علي ارتكاب الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المُنْذَرِين غير المُسْتَجِيبين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴿74﴾" أيْ ثم أرسلنا من بعد نوح رسلاً كراماً كثيرين أيْ مَبْعُوثين مَنّا إلي أقوامهم والناس حولهم ليُبَلّغوهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وذلك لَمَّا ابتعدوا مع الزمن عن ربهم وإسلامهم بصور الابتعاد المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، كالرسل الكرام هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرَهم، فأحضروا لهم رسلهم وأوْصَلوا إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صدقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.." أيْ فلم يكن من حال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وأشباههم مُطلقاً في أيِّ وقتٍ من الأوقات وأيِّ حالٍ من الأحوال أن يؤمنوا بعد رؤية البينات من رسلهم بما كانوا قد كَذّبوا به قبل رؤيتها منهم، بل استمرّوا علي تكذيبهم ولم يُؤَثّر فيهم أبداً مَجيء الرسل وبَيِّنَاتهم بأيِّ تأثيرٍ وكان حالهم بعد مَجيئهم كحالهم قبله، أيْ اسْتَوَت عندهم الحالتان، حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها، رغم أنهم كانوا من المُفْتَرَض أن يتحوّلوا للإيمان لوضوحها وقَطْعِيَّتها، أيْ استمرّوا علي عِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه بلا أيِّ عودةٍ لأيِّ خير، وظلّوا هكذا إلي أن عُذّبُوا وأُهْلِكُوا، وكل ذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴿74﴾" أيْ هكذا دائما، وبمِثْل ذلك الطّبْع الشديد المُحْكَم الذي طَبَعَ الله به على عقول هؤلاء المُعتدين السابقين، يَطبع الله علي عقول المُعتدين حالياً ومُستقبَلاً في أيِّ زمانٍ ومكان، والمُعتدون هم الذين يعتدون علي حدود الله وضوابطه وموانعه ويعتدون علي الرسل بعدم طاعتهم وبإيذائهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم وعلي الصالحين الذين يَدْعُون لله وللإسلام مُحاوِلين مَنْعِهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وحتي بالقتل يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة وهم مُصِرُّون علي ذلك تمام الإصرار مُستمرّون مُنْغَمِسُون مُتَمَادُون فيه بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوعٍ لربهم ولإسلامهم.. أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الشرّ الذي هم فيه فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ المشكلة ليست في البَيِّنَات وفي كثرتها أو قِلّتها وإنما في عقولهم هم!!
ومعني "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿75﴾" أيْ ثم أرسلنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام السابق ذِكْرهم رسولينا الكريمين موسي وأخاه هارون إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها وإلي مَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – بآياتنا أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَاسْتَكْبَرُوا.." أيْ رغم كل هذه الآيات المُفَصَّلات تَرَفّعوا فاسْتَعْلُوا عن التصديق بها وتعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا ويؤمنوا ويعملوا بالإسلام بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿75﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي استكبارهم.. أيْ وأجْرَمُوا لأنهم استكبروا ولم يؤمنوا بهذه الآيات المُفَصَّلات.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن تأتيهم هذه الآيات قوما مجرمين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يستكبروا ولا يؤمنوا بها ويَتَعَالوا ويَتَطاوَلوا علي الله ورسله وآياته وتشريعاته، فهم مُصِرُّون تماماً علي إجرامهم، والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴿76﴾" أيْ فحينما وَصَلَ إليهم الحقّ من عندنا لا من عند غيرنا، والحقّ هو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام وكلّ أخلاقه التي تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك بها كلها، بواسطة الحقّ وهو رسولنا الكريم موسي، إضافة إلي الحقّ من الآيات أيْ المُعجزات الحقيقية التي أيَّدْناه بها لتدلّ علي صِدْقه وأهمها العَصَيَ التي تنقلب ثعباناً حقيقياً عند إلقائها – هذا، ووَصْف ما جاءهم بأنه الحقّ شرف وتكريم ذاتيّ له وبكوْنه من عند اللَّه تعالى شرف وتكريم إضافيّ لا يُوصَف وتأكيد لأهميته ولعظمته ولصِدْق مَن جاء به – قالوا إنَّ هذا الذي جاءنا بالتأكيد سحرٌ مُبِين أي واضِح!! أي ليس وَحْيَاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن، وإنما هو سحر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء!.. إنه إذا كان الإسلام سحراً والرسول الذي يأتي به ساحر، كما يَدَّعون كذبا وزورا، فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون؟! فهم إذَن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد!!.. هذا، وفي الآية الكريمة تَعَجُّب من سوء حالهم وذمّ شديد له وتنفير مِن أن يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴿77﴾" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قال موسي مُسْتَنْكِرَاً مُسْتَغْرِبَاً مُتَعَجِّبَاً ذامَّاً لهم هل تقولون للصدق عندما وَصَلَ إليكم أنه سحرٌ مُبِين؟! أسِحْرٌ هذا؟! هل هذا سحر؟! إنه ليس سِحْراً حتماً وأنتم أعلم وأمْهَر الناس بالسحر وقد عاينتم بأعينكم صِدْق الآيات التي جئتكم بها! إنه بمجرّد التّدَبُّر فيه يَتَبَيَّن أنه الصدق لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!.. ولكنه التعطيل لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴿77﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنه حقٌّ وليس بسِحْر.. أيْ ولا يفوز الساحرون أبداً علي الحقّ في معارك إثبات الحقّ لأنَّ ما يفعلونه فاشلٌ مَكْشُوفٌ مَفْضُوحٌ مَعْلُومٌ حتماً للجميع أنه مُجرَّد خِداع ووَهْم لا حقيقة وبما أني قد فُزْتُ عليكم وأكَلَتْ عصاي أسْحاركم وهَزَمَتُ سَحَرَتَكم كما شاهد الجميع ذلك فإذَن ما جئتكم به هو حقٌّ حتماً لا سِحْر لأنه لو كان سحراً لكنتم أنتم فُزْتُم عليَّ فعليكم بالتالي إذَن أن تُصَدِّقوني وتؤمنوا.. ولكنهم استمرّوا في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وسُوئهم وأصَرُّوا عليه
ومعني "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴿78﴾" أيْ قابَلَ فرعون ومَلَؤه دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والموعظة الحسنة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بعد أن جاءهم بالحقّ حيث قالوا له هل أتيتنا لكي تَصْرِفنا وتُبْعِدنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا السابقين من عبادة ما يعبدون وفِعْل ما يَفعلون؟! إذ كانوا يعبدون آلهة غير الله تعالي كفرعون والأصنام والشمس والكواكب ونحو هذا.. ".. وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ.." أيْ لكى نَصِير لكما أتباعاً ويكون لكما بالتالي أنت وهارون الرئاسة والزعامة والمُلك والسلطان والسيطرة والحُكْم علينا وعلي الناس في الأرض.. والمقصود أنك لم تأتنا لكي نعبد الله وحده ونترْك ما وجدنا عليه آباءنا ونَتّبِع الإسلام من أجل أن نَصْلُح ونَكْمُل ونَسعد في الدنيا والآخرة كما تَدَّعِي وإنما أنت مُتَآمِرٌ علينا تريد أن تكون حاكماً تَتَحَكّم فينا وتَنْهَب خيراتنا!!.. إنهم يريدون بذلك التشويش علي الناس وتَشويه صورة موسي ﷺ والإسلام ومَنْع انتشاره بينهم ليظلّوا مُحْتَفِظين بمُلْكِهم وسلطانهم ليَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنْهَبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴿78﴾" أيْ وبالتالي إذَن، ولهذا، لا نؤمن لكما أيْ لا نُصَدِّقكما ونُسْلِم.. حتي لا نَفْقِد مُلْكنا وسلطاننا ونفوذنا!.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي إصرارهم علي تكذيبهم للحقّ رغم وضوحه وثبوت الأدِلّة القاطِعَة عليه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿79﴾" أيْ وقال فرعون لمُعاوِنيه بعد أن تأكّد من صِدْق موسي ﷺ لَمَّا رأي الآيات أيْ المُعجزات الحقيقية التي أيَّده الله تعالي بها لتدلّ علي صِدْقه وأهمها العَصَيَ التي تنقلب ثعباناً حقيقياً عند إلقائها، وخَشِي استجابة الناس له فيُسْلِموا، ادَّعَيَ كذباً وزُورَاً هو ومَلَؤه أنه ساحر وقال جِيئوني أيْ أحضروا لي كل ساحر مُحْتَرَف صاحب علمٍ واسعٍ وخبرةٍ بالسحر حتي يكشفوا عن سحر موسي ويبطلوه بسحرٍ مِثْله وأشدّ فينكشف أمره أنه ساحر لا رسول ويتّضِح كذبه للجميع فلا يَتّبِع أحدٌ الإسلام الذي يدعوهم إليه.. هذا، وطَلَب المَشُورَة وأمْهَر السَّحَرَة يَهْدِم عند كل عاقلٍ فكرة أنَّ فرعون ربهم الأعلي لأنه لو كان كذلك لكان قَضَيَ علي موسي وهارون وما معهما من إسلامٍ بقول كُنْ فيكون بلا استشارةٍ ولا مساعدةٍ من أحد!!
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴿80﴾" أيْ فعندما حَضَرَ السحرة قال لهم موسي مُتَحَدِّيَاً مُتوكّلاً علي الله القادر علي كل شيءٍ مُتَيَقّناً بنصره له عليهم مُستهيناً بتَحَدِّيهم غير مُبَالٍ بهم وبجُموعهم ألقوا وارْمُوا وهاتوا ما أنتم مُلْقُون أيْ ما تريدون إلقاءه من كل أنواع سِحْرِكم ليَرَىَ الناس خِداعكم لهم وليُمَيِّزوا بين الحقّ الذي معي والباطل الذي أنتم عليه
ومعني "فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴿81﴾" أيْ فحينما ألْقَيَ السَّحَرَة سِحْرهم قال لهم موسي تحقيراً لفِعْلهم وذَمَّاً لهم غير مُهْتَمٍّ بهم وبما صَنَعوا لا يُقيم له وَزْنَاً لثقته التامَّة بما سيَصْنعه بقوة الله تعالي، ما جئتم به السحر أيْ إنَّ الذي أحضرتموه وفعلتموه هو السحر بعَيْنِه وليس الذي جئتكم به أنا من آيات الله تعالي والتي هي حقّ أيْ صِدْق والتي وصَفَها فرعون وملؤه كذباً وزُورَاً بأنها سِحْرٌ مُبِين، وإن الله سيُذْهِبه ويُزيل أثره من النفوس حتماً علي يدي بقُدْرته من خلال ما أوحاه إلي من إلقاء عصاي لتتحقّق مُعجزته حيث تتحوَّل لثعبانٍ حقيقي ضخم يلتهم سِحْركم وخداعكم، لأنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يُصلح عمل المفسدين أيْ لا يؤيده ولا يقويه ولا يثبته ولا يديمه بل يظهر ويكشف بطلانه ويجعله معلوماً ويذهبه ويزيله مع الوقت لَمَّا ينشر أهل الصلاح صلاحهم.. والمفسدون هم الفاعلون لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. أمَّا المُصْلِحون الذين يَنشرون الصلاح وهو أخلاق الإسلام فإنَّ الله حتماً يُصْلِح أعمالهم دائماً بدَوَام تأييدها وتقويتها وتثبيتها وإدامتها ونَشرها تدريجيا فيَسعد الجميع بذلك في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿82﴾" أيْ وهكذا دائماً وحتماً يُثَبِّت الله الحقّ أيْ الإسلام ويُعْلِيه ويُؤَيِّده ويَنصره وهو الذي يُصْلِح البَشَر ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه.. ".. بِكَلِمَاتِهِ.." أيْ بأوامره وبقُدْراته وإراداته النافذة التي لا تُرَدّ أبداً والتي أصلها كُنْ فيكون، وبالجملة بكلماته أيْ بكلامه في آياته التي في كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي لا مُغَيِّر أبداً لها والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحِجْر:9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها﴾ (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" ﴿غافر:51﴾، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ﴿فاطر:43﴾، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" ﴿الصافات:171،172،173﴾، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ﴿المجادلة:21﴾﴾.. ".. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿82﴾" أيْ إنَّ الله تعالي خالِق الخَلْق ومالِك المُلك القويّ المَتِين حتما بلا أيِّ شكٍّ يُحِقّ الحَقّ ويُبْطِل الباطل بتمام قُدْرته وعلمه بأنْ يَنشر الإسلام، القرآن، الهُدَيَ، دين الحقّ، هذا الدين أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن والذي أرسل به الرسل الكرام وخاتمهم رسولنا الكريم محمد ﷺ لكي يُظْهِره علي كل الأديان والأنظمة والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة والمُتْعِسَة لهم فيهما أيْ يُعْلِيه عليها جميعا وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجِع الجميع إليه ليسعدوا، رغم أنف وكراهية وعِناد وكِبْر ومُحاربة المُجْرمين – وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – والذين يَكرهون الإسلام لأنه يَمنعهم مِن نَشْر شرورهم التي يحصلون منها علي أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو غيره، فإنَّ كراهيتهم ومَا يَتَسَبَّب عنها من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة مهما بلغت شِدّتها فليست لها أيّ تأثيرٍ أمام قُدْرة الله وإرادته في إتمام نوره بنشر دينه والنتيجة الحتمية أنهم مغلوبون، وذلك بجنوده سبحانه والتي لا يعلمها إلا هو، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة جميع الناس له علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، والذين يُدافعون عنه ويُضَحُّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يملكون بل ويقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. هذا، وفي الآية الكريمة تبشير وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ليزدادوا بذلك ثباتا على ثباتهم وقوة على قوّتهم
ومعني "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿83﴾" أيْ فما آمَنَ أيْ صَدَّقَ لرسولنا الكريم موسى مع كل ما جاءهم به من آياتٍ أيْ دلالاتٍ واضِحاتٍ قاطِعاتٍ دامِغاتٍ تُثبت صِدْقه وأنه مُرْسَلٌ من عندنا وأنه صادقٌ في دعوته لعبادة الله تعالي وحده، إلا شباب من قومه بني إسرائيل – أو من قوم فرعون، وليس آباؤهم وكِبار السِّنِّ منهم لانتفاعهم وخوفهم منه – وهم خائفون من فرعون وسَادَة قومهم أن يفتنهم أيْ يُعَذّبهم فرعون ويأمر سادَتهم بأنْ يُعَذّبوهم ليُبْعِدوهم عن دينهم الإسلام الذي آمنوا به.. وهذا هو حال الشباب دائما حينما يؤمن بشيءٍ فإنه يَسِير فيه لا تَهُمّه أيّ مُعَوِّقاتٍ بل هو مُسْتَعِدٌّ للتضحية في سبيل الحقّ الذي قد اقتنع به، وذلك رغم ما كان يُصيبهم أحيانا من خوفٍ من بَطْش فرعون بهم فيَرُدّهم عن دينهم لكنهم قاوَموا هذا الخوف وتَغَلّبوا عليه بالاستعانة بربهم، أمَّا كِبار السِّنِّ الذين تَرَبّوا لفتراتٍ طويلةٍ علي أنَّ فرعون هو ربهم الأعلي لم يستطيعوا التّغَلّب علي هذه الخرافة – إلا القليل منهم الذي قاوَمَ واستعان بربه وصَبَرَ وتَحَمَّل – فاستسلموا لِمَا هم فيه من ذِلّةٍ ومَهَانَةٍ واستعبادٍ خوفاً منه وانتفاعاً بما يُلْقِيه إليهم من فُتات النِعَم.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم! فلقد أعطي موسي الكتاب – وهو التوراة – سابقا كما أعطاهم هم القرآن الكريم الآن، فاختَلَف الناس في أمره كما يختلفون في القرآن، فمنهم مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما.. ".. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿83﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وإنَّ فرعون مُتَعَالٍ أيْ مُسْتَكْبِرٍ مُتَسَلّطٍ مُسْتَبِدٍّ ظالمٍ في الأرض، أيْ مِن المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وإنه كذلك بالتأكيد مِن المُسْرفين أيْ المُتَجاوِزين لحدود الله المُتَجَرِّئين علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس المُتَعَدّين علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلهم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ المُكْثِرين المُبَالِغُين في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات الذين لا يقفون عند حدٍّ لها ولا يفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لهم بعض عُذْرٍ يعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار.. ولهذا، لأنه عالٍ في الأرض ومن المُسرفين، ادَّعَىَ كذباً وزوراً قائلا لقومه أنا ربكم الأعلي وخافه الذين آمنوا منهم من شِدَّة سُوئه وظلمه وسَفْكِه للدماء
ومعني "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴿84﴾" أيْ وحينها يُوصِي الرسول الكريم موسي ﷺ قومه بني إسرائيل الذين آمنوا معه بأفضل علاجٍ في مِثْل هذه المواقف وغيرها والذي ليس له بديل والذي علي كل مسلم أن يعمل به دائما مع مزيدٍ منه إذا حَدَثَ له ما يُسِيء ويُخيف، يُوصِيهم بالتوكّل علي الله والاستعانة به وبالصبر.. أي وقال موسي لقومه مُقَوِّيَاً مُثَبِّتَاً مُسَلّيَاً لهم مُهَوِّنَاً عليهم مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً ياقوم، يا أهلي وأحبائي، إنْ كنتم آمنتم بالله حقّ الإيمان أي صَدَّقتم بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره بحقّ كما تقولون، وإنْ كنتم مسلمين حقّ الإسلام، أيْ إنْ كنتم مُسْتَسْلِمين بحقّ لوَصَاياه تعالي وتشريعاته أيْ مُتَمَسِّكَيْن عامِلَيْن بكل أخلاق الإسلام ثابتيْن دائميْن عليها مُخلصين مُحسنين فيها (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾، فعليه وحده إذَن اعتمدوا، كإثباتٍ لِمَا تقولون، فإنه لن يترك مُطْلَقَاً مَن تَوَكَّل عليه، عليه اعتمدوا في نصركم ودَفْع الضرر عنكم ولا تعتمدوا أبداً في ذلك على أنفسكم بمُلاَطَفَة فرعون ولا على فرعون بإظهار الطاعة له.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيمان واتّباع الإسلام والتوكّل والصبر.. هذا، وفي التذكرة بالإيمان والإسلام إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. هذا، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كُلّاً منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في هذه الآية الكريمة فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة.. إنَّ الله تعالي هو وحده الذي يَعتمد عليه كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل﴾، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿85﴾" أيْ فسارَعوا مُجِيبين لنصيحة رسولهم الكريم موسي بما يَدُلّ علي صِدْق إيمانهم قائلين علي الله وحده لا على غيره اعتمدنا.. ".. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿85﴾" أيْ هذا أحد الأدعية التي يُعَلّمها الإسلام للمسلمين ليَجتهدوا في الدعاء والعمل واقعيا به، أيْ يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تجعلنا فاتِنِين للقوم الظالمين أيْ للأناس الظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيْ مُوقِعِين لهم في الشرّ، والمقصود ألاّ تَنصرهم علينا فيُفْتَنون بذلك أي يَغْتَرّون ويَنْخَدِعون ويَتَوَهَّمون أنهم هم الذين علي الصواب ونحن الذين علي الخطأ فيستمرّون ويزدادون فيما هم فيه لأنه لو كنا نحن الذين علي الصواب لَمَا انتصروا علينا ونكون بضعفنا وتقصيرنا وعدم إحسان استعدادنا سَبَبَاً في وقوعهم في هذا الشرّ فنَأثم ونُعَاقَب منك في الدرايْن.. كذلك المقصود ألاّ تَجعلهم فاتِنين لنا فيُفسدوننا بشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فسَنتمسّك ونعمل بأخلاق إسلامنا كلها ما استطعنا فيَسِّر لنا ذلك ولا تترك عوْننا فنقع في الشرور فتُعَاقِبنا فيَتَوَهَّمون أيضا أنهم هم الذين علي الصواب بل وسيترتّب علي تَرْكنا للإسلام وفِعْلنا الشَّرَّ أن يسوء حالنا ونَتَخَلّف ونَتعس بذلك فيؤدي هذا أيضا إلي أن نكون السبب في وقوعهم في الشرِّ كذلك بإبعادهم عن ديننا وكراهيتهم له وعدم الثقة فيه بحجّة أنه لو كان هذا الدين هو الحقّ لَظَهَرَ أثره على أتباعه فتَطَوَّروا وازدهروا وسَعِدوا فنزداد بذلك إثماً علي إثمٍ وعقاباً علي عقاب
ومعني "وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿86﴾" أيْ وأنْقِذنا وخَلّصنا برحمتك التي وَسِعَت كل شيءٍ من شرور الأناس الكافرين – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وذلك حتي نتمكّن من التمسّك والعمل بديننا الإسلام والدعوة له، فأنت أرحم بنا من كل راحِمٍ حتي من أنفسنا علي أنفسنا ومن آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وإخواننا وعموم الناس علينا لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة ورأفة وشفقة
ومعني "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿87﴾" أيْ وأبْلَغْنا إلي موسي وأخيه هارون عن طريق الوَحْي بعد أن بالَغَ فرعون فى عذابه للمؤمنين ليُبعدهم عن دينهم الإسلام أن اتّخِذا لقومكما المؤمنين في مصر بيوتاً خاصة بكم تَبوءون أيْ تَرْجِعون إليها وتَنْزِلون وتَحتمون بها وتَستقرّون وتَختفون فيها وتَبتعدون عن فرعون وجنوده لاتّقاء شرورهم إلى أن يَحكم الله تعالي بينكم فيُنجيكم منهم ويَنصركم عليهم.. ".. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً.." أيْ واجعلوها مسجداً ومكاناً للصلاة والذكْر وتَعَلّم كل خيرٍ ومَنَارَة للإقبال علي عبادة الله تعالي وحده واتّباع إسلامه ولإرشاد الضالّين لذلك.. ".. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.." أيْ ووَاظِبُوا علي تأدية الصلوات المفروضة عليكم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿87﴾" أيْ وأخْبِرْ وذَكِّرْ دائما المؤمنين – أيْ المُصَدِّقين بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملين بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – بمَا يَسُرُّهم بما هو يُوحَيَ إليك ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما يكون لهم من تمام السعادة في دنياهم بسبب عملهم بأخلاق إسلامهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فليَحْيَا المؤمنون إذَن حياتهم مُسْتَبْشِرين تمام الاستبشار ببشارة ربهم لهم، أيْ مُنتظرين بكل أملٍ وتفاؤلٍ لها، ولآخرتهم التي لهم فيها ما لا يُوصَف
ومعني "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿88﴾" أيْ ولَمَّا غَلَبَ علي ظنِّ موسي – أو بوَحْيٍ من الله تعالي – أنَّ فرعون وأعوانه قد وصلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وذلك رغم حُسْن دعوتهم من رسولهم الكريم موسي بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه، حينها دَعَاَ موسي عليهم بأنْ يَنْزِع الله منهم الأسباب التي تُعينهم علي ظلمهم الشديد هذا لذواتهم ولعموم الناس بإتعاسهم بإضلالهم عن طريق الحقّ والخير والسعادة وهو طريق عبادة الله تعالي وحده واتّباع أخلاق الإسلام وجذبهم إلي طريق الباطل والشرّ والتعاسة وهو عبادة غيره واتّباع دينا غير دينه، فإذا فَقَدوا هذه الأسباب تَخَلّص الناس من إرهابهم لهم وسيطرتهم عليهم وأحسنوا استخدام عقولهم وأسْلَموا وسَعِدُوا في الداريْن.. لقد دَعَا عليهم قائلا يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إنك قد أعطيت فرعون وملأه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حولهم وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه، أعطيتهم في هذه الحياة الدنيا زينة كثيرة أيْ ما يُتَزَيَّنُ به من كل أنواع الثياب والحُلِيّ والذهب والفضة والقصور المُزَخْرَفة الفَخْمَة والخَدَم والأثاث والمَفروشات وأوانى الطعام والشراب الراقية ووسائل الركوب الفاخرة وغير ذلك مِمَّا يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته، وأعطيتهم كذلك أموالاً وممتلكاتٍ كثيرة مُتَنَوِّعَة.. ".. رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.." أيْ يا ربنا إنهم لم يشكروا لك بأنْ يُحسنوا استخدامها في كل خيرٍ لهم ولغيرهم وإنما استخدموها لكي يُضِلّوا عن سبيلك أيْ يُبْعِدوا أنفسهم والناس عن طريقك أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.." أيْ يا ربنا امْحُها وأزِلْها فلا تُبْقِي لها أثراً حتي لا يستخدموها في الإضلال والإفساد والشرّ.. ".. وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿88﴾" أيْ واطْبَع واخْتِم علي عقولهم حتي لا يؤمنوا بأن تكون قاسية لا تَرِقّ ولا تستجيب لأيِّ خيرٍ ويَستمرّوا علي ذلك غير مؤمنين إلي أن يُشاهدوا بأعينهم ويُذوقوا العذاب المُؤْلِم المُوجِع الشديد في دنياهم أولا بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ وعدم استجابتهم للحقّ رغم وضوحه وعَرْضه عليهم لفتراتٍ طويلةٍ بكل حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبصورٍ مُتَعَدِّدَة، ثم يموتون علي ذلك ليَروا عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأعظم وأخْلَد ولا يُوصَف.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ هذا حِرْصٌ من موسي ﷺ على وسائل هدايتهم بمعني أنهم إذا زالت عنهم النِّعَم وضاقت عليهم حياتهم بالشدائد فلعلهم يتفكّرون في سبب ذلك فيُسَارِعون بالتوبة إلى الله كما يُثبت الواقع هذا كثيرا حيث بعض الغافلين يستفيقون بذلك لو كانوا أصحاب عقول سليمة مُنْصِفَة عادلة باحِثَة عن مصلحتهم وسعادتهم، ويكون بالتالي معني "فلا يؤمنوا حتي يروا العذاب الأليم" عند هؤلاء العلماء أيْ افعل بهم ذلك ليؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم في الدنيا كفقرٍ أو مرضٍ أو قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿89﴾" أيْ قال الله تعالى لموسي وهارون أبْشِرَا واسْعَدَا، قد أَجَبْتُ دعوتكما في فرعون ومَلَئِه، وسأحَقّقها لكما وللمؤمنين بأنسب وأفضل توقيتٍ وأسلوبٍ يُحَقّق لكم أفضل وأسعد النتائج، وكان موسى يدعو وهارون يُؤَمِّن على دعائه ولذلك نُسِبَت الدعوة إليهما حيث التأمين بقول آمين بمعني اللهمّ اسْتَجِب هو دعاء ومشاركة فيه.. ".. فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿89﴾" أيْ فكما أُجِيبَت دعوتكما فاشكرا لله ذلك بأنْ استقيما على أمره أيْ علي دينكما الإسلام، أيْ استمِرَّا علي الاستقامة واثْبُتا عليها بلا أيِّ انحرافٍ عنها، استمرّا علي هذا الطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، وعلي الدعوة إليه والدفاع عنه، وكُونَا دَوْمَاً مُخْلصَيْن مُحْسِنَيْن في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ولا تَتّبِعَانِ أبداً بالتأكيد أيْ ولا تَسِيرَانِ خَلْفَ أيّ طريقٍ غيره مُخَالِفٍ له مُضِرٍّ مُتْعِسٍ من طُرُق الذين لا يعلمون الإسلام أيْ الجاهلين الضالّين المُنْحَرِفين المُفْسِدين وأشباههم، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الاستقامة
ومعني "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿90﴾" أيْ واجْتَزْنَا وتَخَطّيْنا وعَبَرْنَا بفضلنا وكرمنا ورحمتنا وقُدْرتنا ببني إسرائيل البحر فسارَ خَلْفهم ولحقهم فرعون وجنوده ظلماً واعتداءً أيْ ظالمين مُعْتَدِين ومن أجل الظلم والاعتداء، وذلك حين علموا أنَّ موسي والذين آمنوا معه قد خرجوا من بيوتهم ليلا تاركين مصر ففَلَقَ وشَقّ الله سبحانه لهم البحر عندما ضربه موسي ﷺ بعصاه بوَحْيٍ منه تعالي وفَصَلَ ماءه بعضه عن بعض حتي أصبح فيه طريق جافّ يسيرون فيه وحينما عَبَروا كلهم ونَجوا وأراد فرعون وجنوده المرور فيه ليلحقوا بهم ويُؤذوهم أَعاد سبحانه الماء كما كان فأغرقهم جميعا، فلمَّا أدْرَك أيْ لَحقَ ووَصَلَ الغرقُ فرعونَ وتأكّد من هلاكه وموته قال صَدَّقْتُ بأنه لا معبود إلا الذي صَدَّقَتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين أيْ المُسْتَسْلِمين المُنْقادِين الطائعين لوَصَايَاه وتشريعاته.. هذا، ويُلاَحَظ أنه من شدَّة تَكَبُّره وعِناده لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتابَ الله عليه وأنجاه، ولكنه قال ما قال مُضطرَّاً مُسْتَغِيثاً ليَنْجو مُتَوَهِّماً النجاة في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أو حَسْرَةٍ أو طلب نجاة حيث قد وَقَعَ الحساب والعذاب.. إنه بالقطع لا ينفعه هذا النوع من الإيمان ولا يُنجيه من العذاب لأنه لم يكن إلا محاولة يائسة أخيرة للنجاة منه وليس إيمانا حقيقيا صادقا وهو ما لا يَخْفَيَ علي صاحب أقلّ عقل ويعلمه قطعا علاّم الغيوب الذي يعلم أسرار ودواخل عقول البَشَر سبحانه، فهو إيمان الاضطرار وليس الاختيار
ومعني "آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿91﴾" أيْ هذا استفهامٌ لمزيدٍ من الذّمّ له واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من حاله السَّيِّء، ولعله يُوقِظ مَن كان كذلك بعده يَتَشَبَّه به ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قال الله تعالي له أو ملائكته هل الآن في هذا الوقت فقط يا فرعون يا ظالم يا مُسْتَبِدّ يا فاسِد يا مُتَكَبِّر يا مُعانِد يا مَن قال ما لم يَقُلْه أحدٌ قبلك أنا ربكم الأعلي تَدَّعِي الإيمان حين تأكّدْتَ أنه قد جاء أجلك وهلاكك وجاءت قيامتك وجاءك بداية عذابك الدنيويّ حقّاً واقِعَاً قبل الأخرويّ الخالد الذي لا يُوصَف والحال والواقع أنك كنتَ قبل ذلك من العُصاة أي المُخالِفين لوصايا الله بفِعْل الخير لا الشرّ وكنتَ من المُفْسِدين المُصِرِّين علي العصيان والفساد والتكذيب؟!!.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي الذمِّ له علي تأخير الإيمان إلي الحَدِّ الذي أدَّيَ إلي عدم قبوله وبيان أنَّ تأخيره لم يكن لعُذْرٍ مَا مقبول وإنما كان لشدَّة تكذيبه وعصيانه وفساده وانشغاله بذلك عن الإيمان مع الإظهار لعظيم غضب الله تعالي عليه.. والمُفْسِدون هم الفاعِلون لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ يَنفع أنفسهم والآخرين ويُسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. لقد كنتَ يا فرعون مُكَذّباً بالعذاب مُعانِدَاً للإسلام لربك والامتناع عن معاصيك ومَفاسدك وشرورك وأضرارك التي عِشْتها طوال حياتك، فليس إيمانك هذا إذَن بإيمان، ولن ينفعك بأيِّ شيء لأنك مُضطرٌّ له ولم يَتَبَقّ أمامك اختيار غيره، فقد انقضي الأمر وانتهي (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين ﴿84﴾، ﴿85﴾ من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴿84﴾"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾"﴾
ومعني "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴿92﴾" أيْ فاليوم، يوم إغراقك وإهلاكك أنت ومَلَئك وجنودك، ننقذك بقُدْرتنا بجسدك وهو جُثّة فلا يَهْلَك بل تَلْفِظه الأمواج ولا تأكله الحيتان ليَبْقَيَ لكي تكون وتظلّ دائماً لمَن بَعْدَك مِثْلك يَتَشَبَّه بك عِبْرَة وعِظَة يَتّعِظون بها فلا يفعلوا مثل فِعْلك وإلا تَعِسُوا وهَلَكوا في الداريْن كتعاستك وإهلاكك فيهما.. هذا، ويقول المُؤَرِّخون أنَّ جسده مَحفوظ مُحَنَّط في أحد متاحف دولة مصر يشاهده مَن أراد الاتّعاظ، وهي آية أيْ مُعجزة ودليل علي قُدْرته تعالي علي كل شيءٍ وعلي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة وعلي أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿13﴾، من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴿92﴾" أيْ ورغم كل هذا الوضوح للحقّ لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، لكنَّ كثيراً من الناس عن دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّون للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسلنا أم آيات في الكوْن حول البَشَر أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، لغافلون أيْ تائهون ناسُون ضائعون لاهُون مُنْشَغِلون غير مُنْتَبِهين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم، ولذلك تَمُرّ عليهم وتتكَرَّر فلا يتفكّرون فيها ولا يَعْتَبِرون بها.. واللام مع إنَّ لتأكيد الغَفْلَة.. وفي هذا دعوة للجميع للتّدَبُّر والتّعَقّل لكي لا يكونوا من الغافلين ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
ومعني "وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿93﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل بعد نعمة ومعجزة إنجائهم وإهلاك عدوهم لتُضِيفَ إليهم ومَن يَتذكّرهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ ولقد أنْزَلْنا وأسْكَنّا بني إسرائيل مَنْزِلَاً ومَسْكَنَاً ومَكَانَاً صالحاً طيِّباً مُرْضِيَاً مُطْمَئِنّاً مُبَارَكَاً فيه كريماً عزيزاً، أيْ ولقد مَكّناهم في الأرض وسَهَّلنا لهم كل الأسباب التي توصلهم إلي ما يريدون من منافع وسعادات، وكذلك رزقناهم من الطيبات أيْ وأعطيناهم من كل أنواع أرزاقنا الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناهم إيَّاها من المأكولات والمشروبات والمَلبوسات والمَرْكوبات والمُمْتَلكات وغيرها مِمَّا لا يُحْصَيَ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿137﴾ من سورة الأعراف "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ".. ثم الآيات ﴿57﴾، ﴿58﴾، ﴿59﴾ من سورة الشعراء " فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ"، "وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ"، "كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ"﴾.. ".. فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ.." أيْ فظلّوا كذلك علي هذا الخير لم يختلفوا فيما بينهم إلي أن جاءهم العلم، علم التوراة وتشريعاتها، فاختلفوا بسبب ما هو من المُفْتَرَض أن يجمعهم لا أن يُفَرِّقهم! اختلفوا بسبب العلم! رغم أنهم متأكّدون أنَّ هذا العلم يجمعهم علي إلهٍ واحدٍ هو الله تعالي ورسولٍ واحدٍ هو موسي ﷺ ومَرْجِعِيَّةٍ واحدةٍ هي الإسلام الذي في التوراة والذي يُناسب عصرهم، ورغم كل ذلك اختلفوا في هذا العلم، والاختلاف فيه يعني أن يُصَدِّقه البعض ولا يُصَدِّقه البعض الآخر أو يُصَدِّقوا ببعض آياته لا بكُلّها أو يكَتَمُوها أو يُفَسِّرُوها تفسيراتٍ فاسدةٍ بعيدةٍ عن مقصودها أو ما شابه هذا من صور الاختلاف علي الحقّ والابتعاد عنه، وانْقَسَمُوا إلي فِرَقٍ تُصارِع بعضها بعضاً وكلٌّ يَدَّعِي احتكار العلم لذاته دون أحدٍ غيره، وهو ما قد يفعله بعض المسلمين الآن فليحذروا من ذلك حَذَرَاً شديداً لأنه يؤدّي للفشل والهلاك والتعاسة في الداريْن.. هذا، ومن المعاني كذلك أنَّ بني إسرائيل الذين آمنوا بالتوراة كانوا مُجتمعين عليها وظلّوا علي هذا الاجتماع إلي أن جاءهم العلم أيْ الرسول الكريم محمد ﷺ ومعه علم القرآن العظيم وحينها اختلفوا فمنهم مَن آمَنَ به وأسْلَمَ ومنهم مَن كَفَرَ بأنْ ظلّ علي يهوديته ولم يُسْلِم.. فهم بالتالي إذَن لم يختلفوا لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يختلفون عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع في أيِّ شَرٍّ للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من طيبات الأرزاق ومن إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أُمِرُوا بالاجتماع عليه، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم!! وهذا تَعَجُّبٌ من حالهم وتَقْبيحٌ لسوء فِعْلهم وذمٌّ شديد له.. هذا، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأَخْذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب.. ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿93﴾" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – الذي هو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا هو الذي سيَحْكُم وسيَفْصِل بينهم، وبين الناس جميعا، في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر، في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿95﴾ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿96﴾ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿97﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم، ويسألون الثقة من أهل العلم والتّخَصُّص فيما لا يعلمونه، حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾" أيْ هذه دعوة لكل مُتَشَكّكٍ في شيءٍ من الإسلام أن يُسارِع بسؤال الثقات من أهل العلم والتّخَصُّص لإزالته، فإنْ كان صادقا في سؤاله لا مُعانِدَاً سَيَصِل بتيسير الله وتوفيقه لكل حقّ وخيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، كما أنَّ الآية الكريمة مزيدٌ من تأكيد صِدْق الرسول الكريم محمد ﷺ وصدق ما جاء به من القرآن العظيم عند مَن يَتَشَكّك في صِدْقه، وليست حتماً بلا أيِّ شكّ بياناً لشَكّه ﷺ فيما أنزله الله تعالي إليه!! فهي خطابٌ له ﷺ لكنَّ المقصود بها غيره مِمَّن قد يَتَشَكّكون، فهي تقصد أنَّ ما جاء به ﷺ يُصَدِّقه الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل وأنَّ الصادقين من اليهود والنصاري الذين أسلموا أقَرُّوا بذلك، وبالتالي فأيّ مُتَشَكّكٍ لو سأل أمثال هؤلاء من أهل الكتاب فسيُخبروه بصدق القرآن الكريم والرسول ﷺ .. أيْ فإنْ كنتَ يا رسولنا الكريم، علي سبيل الافتراض لا الحقيقة – أو يا كل سامع – في شكّ مِمَّا أوحينا إليك من القرآن وأخبرناك به فيه، هل هو صدق أم لا، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، أي اليهود الذين يقرؤون الكتاب الذي أُنْزِلَ علي موسي ﷺ وهو التوراة والنصاري الذين يقرؤون الكتاب الذي أنزل علي عيسي ﷺ وهو الإنجيل، فإنَّ ذلك ثابتٌ في كتبهم غير المُحَرَّفَة مُوَافِقٌ لِمَا أنزلنا إليك.. أو بمعني آخر فإنْ كنت أيها الإنسان في شكّ مِمَّا أنزلنا إليك من القرآن على لسان رسولنا محمد ﷺ فاسأل الذين يقرءون الكتاب مِن قبلك لتتأكّد مِن صِدْقه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿3﴾ من سورة آل عمران "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"﴾.. ".. لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد وَصَلَكَ الحقّ من ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل سامع – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وهو دين الإسلام الذي هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد ﷺ والذي يُسعدك تماما بالداريْن، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً بالتأكيد أيها المسلم وأيها السامع من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
ومعني "وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿95﴾" أيْ وكذلك لا تكن أبداً بالتأكيد أيها المسلم وأيها السامع من الذين كذبوا بآيات الله أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ففعلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، فتصير بالتالي بسبب ذلك بالقطع بالتأكيد من الخاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسر وتَفقد دنياك فتتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدك عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسر حتما أخراك يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورك ومَفاسدك وأضرارك بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿96﴾"، "وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿97﴾" أيْ إنَّ الذين ثَبَتَتْ ووَجَبَتْ عليهم كلمة ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنهم يموتون على الكفر ويُخَلّدون في العذاب لا يؤمنون أبداً مهما دعوتهم لله وللإسلام إذ لا يمكن مطلقاً أنْ يُكَذّبَ كلامه سبحانه أو يُرَاجَعَ حُكْمُه، والمراد بكلمة ربك عموماً هو ما تَوَعَّد الله به الكافرين والعاصين من عذابٍ يُناسبهم في كلامه في كتبه وخاتمها القرآن الكريم والمقصود بها هنا أنها هي كلمته المُسَجَّلَة في كتاب أعمال أمثال هؤلاء والتي سَجَّلَها سبحانه بناءً علي ما اختاروه هم في دنياهم بكامل حرية إرادة عقولهم حيث اختاروا الكفر وأصَرُّوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واستمرّوا حتي ماتوا علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ أي رجوع عنه لربهم ولإسلامهم.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين بأنْ يكونوا مثل رسولهم الكريم ﷺ حريصين علي دعوة الجميع لله والإسلام ليسعدوا جميعا بذلك في الداريْن لكنْ مع حُسن تصنيفهم للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تَذْكِرَة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. "وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿97﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لن يؤمنوا حتي ولو حَضَرَتْ ووَصَلَت لهم كلّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿97﴾" أيْ ويَستمرّون ويُصِرُّون علي ذلك غير مؤمنين إلي أن يُشاهدوا بأعينهم ويُذوقوا العذاب المُؤْلِم المُوجِع الشديد في دنياهم أولا بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ وعدم استجابتهم للحقّ رغم وضوحه وعَرْضه عليهم لفتراتٍ طويلةٍ بكل حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وبصورٍ مُتَعَدِّدَة، مُتَمَثلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم يموتون علي ذلك ليَروا عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأعظم وأخْلَد ولا يُوصَف
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴿98﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين لا يُؤَجِّلُون أبداً التمسّك والعمل بأيِّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام بل يُسارعون للعمل به أوَّلاً بأوّل لعلمهم التامّ وثقتهم أنهم سيفتقدون سعادة هذا الخُلُق الذي يتركونه، في دنياهم وأخراهم، وسيُعَذّبون وسيَتعسون فيهما بما يُناسب فِعْل عكسه من سوء، فكيف يكون حال مَن يترك مثلاً الصدق أو الأمانة أو العِفّة أو العِزّة أو الكرامة أو الوفاء أو الإتقان أو نحو ذلك من أخلاق الإسلام المُسْعِدَة ويكون كاذباً خائناً بلا كرامة؟! (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴿98﴾" أيْ هذا تشجيعٌ لغير المؤمنين علي المُسَارَعَة بلا أيِّ تأجيلٍ للإيمان ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل نزول العذاب بهم فيَتْعَسُوا فيهما.. أيْ فلو أنَّ أهالي كل بلدٍ كانت آمَنَتْ لَكَانَ نَفَعَها إيمانها بأنْ تحيا في كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الداريْن، لكنّها لم تُؤمن فلم تنتفع وتسعد بالإيمان، بل استمرَّتْ وأصَرَّتْ علي كفرها حتي نَزَلَ بها عذاب الله تعالي بالفِعْل، فما كانت قرية مِثْل هذه القرية التي آمَنَتْ بعد كفرها فقط حين نزل بها العذاب بالفِعْل بسبب عصيانها ربها واستحقاقها عقابه أن تنتفع بإيمانها هذا في ذلك الوقت فتُتْرَك فلا تُعَذّب ولا تُهْلَك ويَقْبَل الله توبتها وإيمانها ويُسعدها، أيْ لم يَنفعها هذا الإيمان في هذا الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغَرَق بعد تَمَادِيه في تَكَبُّره وعِناده وظلمه واستحقاقه عذاب ربه بسبب ذلك، فليس إيمانهم هذا إذَن بإيمان، ولن ينفعهم بأيِّ شيءٍ لأنهم مُضطرّون له ولم يَتَبَقّ أمامهم اختيار غيره، فقد انقضي الأمر وانتهي (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة الآيتين ﴿84﴾، ﴿85﴾ من سورة غافر "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴿84﴾"، "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴿85﴾"﴾.. ".. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴿98﴾" أيْ لكن يُسْتَثْنَيَ من أمثال هذه القُرَيَ قرية قوم رسولنا الكريم يونس فإنهم لمَّا آمنوا بعد كفرهم إيماناً صادقاً مُخْتَارين لا مُضْطرّين وذلك بمُجَرَّد أنْ رأوا أمارات وعلامات العذاب الذى أنذرهم به قبل أن يَنْزِل بهم بالفِعْل كغُيومٍ ورياحٍ ونحوها، نَفَعَهم هذا الإيمان الصادق، حيث كشف الله عنهم عذاب الخِزْي هذا في الحياة الدنيا أي العذاب المُخْزِي أي المُهين المُذِلّ والذى كادَ أن يَنْزِل بهم، ومَتَّعهم وأسعدهم بالحياة المُقَدَّرِة لهم إلى حين انقضاء آجالهم فى هذه الدنيا.. وخلاصة القول أنه لو أنَّ هناك أهل قرية آمنوا بصدقٍ قبل أن ينزل بهم العذاب لأنجيناهم منه ومَتّعناهم وأسعدناهم في دنياهم ثم أخراهم كما أنجينا ومَتَّعنا وأسعدنا قوم يونس فيهما
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿100﴾ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿101﴾ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿102﴾ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يُؤمن مَن في الأرض كلهم جميعا ويَتّبِعوا الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."﴾.. وهذا هو معني " أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾" أيْ فهل أنت بعد كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يمكنك أنْ تُجْبِرَ الناس المُصِرِّين علي كفرهم حتي يكونوا مؤمنين؟!! لا يمكن حتماً بكل تأكيد مهما حاولت بكل الطرق! فليس باستطاعتك ولا استطاعة أيّ أحد ذلك، فليس عليك إلا التبليغ فقط (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."، ثم الآية ﴿92﴾ من سورة المائدة ".. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، ثم الآية ﴿8﴾ من سورة فاطر ".. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ.."﴾
ومعني "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿100﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا يُمكن أبداً حتماً لأيِّ نفسٍ من النفوس أن تُؤمن إلا بإذن الله خالِقها ومالِكها أيْ بأمره وإرادته وعلمه لأنه تعالي هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، والمقصود أنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لأيِّ إنسان أن يؤمن إلا إذا أراد هو ذلك أولا بكامل حرية إرادة عقله فحينها يريد الله له الهداية للإيمان والذي هو موجود أصلا في فطرته بأنْ يُيَسِّر له أسبابه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف.. ثم مراجعة الآية ﴿125﴾ من سورة الأنعام "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل واكتمال المعاني﴾.. ".. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿100﴾" أيْ وهكذا دائما يجعل الله المُسْتَقْذَر أيْ الشّرَّ والعذابَ الدنيويّ والأخرويّ علي الذين لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في كل هذا ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا ويتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علم نافع مفيد، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فالرِّجْس الذي عليهم هو بسببهم، بسبب عدم إيمانهم وانغماسهم في فسادهم وعدم رجوعهم لربهم ولدينهم الإسلام وإغلاقهم لعقولهم وعدم استجابتهم لنداء فطرتهم بداخلهم
ومعني "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿101﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، وللمُكَذّبين المُعانِدين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم انظروا نَظَر تَأَمُّلٍ واعتبارٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ إلي ما الذي في السموات والأرض مِمَّا خَلَقَ الله من أيِّ شيءٍ فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا هو وحده الخالق القادر علي كل شيء ليَستدلّوا بذلك علي تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه فيتأكّدوا تماما أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة، فيساعدهم ذلك علي الإيمان به واتّباع الإسلام فيسعدوا في الدرايْن.. ".. وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿101﴾" أيْ ولكنْ لا تَنْفَع بأيِّ شيءٍ مُطلقاً الآيات رغم كثرتها ووضوحها والنذر رغم قوَّتهم وتَعَدُّدهم – جَمْع نذير وهم الذين يُحَذّرون من العذاب في الداريْن للمُخالِفين لربهم وإسلامهم كالرسل والدعاة بعدهم وما معهم من القرآن الكريم وما فيه من إنذارات – الأناس الذين لا يؤمنون فهم لا يَنتفعون بها فيؤمنون وذلك بسبب إصرارهم هم علي عدم الإيمان والتكذيب والعِناد بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا ذمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. والمقصود بالآيات الدلالات الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسل الله وأنهم من عنده وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق الرسول أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. إنَّ هذه الآيات والنذر لا تنفع إلا فقط المؤمنين الذين أحسنوا استخدام عقولهم فآمنوا فهؤلاء هم الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتماً يَقِيناً أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة
ومعني "فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿102﴾" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ سابقا من إثابتنا للمؤمنين وجَعْلِنا الرِّجْس على الذين لا يعقلون، فهل يَنتظر هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين الذين لا يؤمنون ولا يَتّبعون الإسلام رغم وضوح الأدِلّة علي ذلك لكل عاقلٍ إلاّ مِثْل أيام عذاب الذين ذَهَبُوا وانْتَهوا سابقا من قبلهم الذين كذّبوا رسلهم ولم يؤمنوا كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وغيرهم والذين يعلمون أخبارهم وقصص هلاكهم ويتناقلونها بينهم؟! حيث هم لا يَسْتَحِقّون غير ذلك لأنهم قد فَعَلوا فِعْلهم فلا بُدّ أن يصيبهم مِثْل ما أصابهم فسُنَّة الله أيْ طريقته لا تَتَغَيَّر في السابقين واللاحقين من أمثالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ حتي يوم القيامة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. إنَّ أمثال هؤلاء ماذا ينتظرون بعد كل هذا الذي يفعلونه من سوء؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿102﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، وللمُكَذّبين المُعانِدين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم: إذا كان الأمر كذلك من إصراركم علي سُوئكم وانتظاركم مِثْل هذا العذاب فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾" أيْ هذه دائما سُنَّتنا أيْ طريقتنا في التّعامُل مع أمثال هؤلاء والتي لا تَتَغَيَّر ولا تُخْلَف أبداً حيث نهلك المُكَذّبين بعذابنا الحَتْمِيّ المُنْتَظَر لهم في الداريْن ثم حتماً نُنْقَذ رسلنا الكرام والذين آمنوا بهم من هذا العذاب فيهما بل لهم بالقطع كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ بهما.. ".. كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ هكذا دائما، بمِثْل هذا الإنْجاء، وكما أنجينا المؤمنين سابقا، كان واجباً علينا وَعْدَاً صادقاً لا يُخْلَف بالقطع مُطلقاً أنْ نُنْجِي المؤمنين العاملين بكل أخلاق إسلامهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ من كل سوءٍ ونُحْيِيهم في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، تَفَضُّلاً مِنّا وكَرَمَاً وإحساناً ورحمة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿105﴾ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿106﴾ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿107﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس المُتَشَكّكِين في صلاحية الإسلام لإدارة كل شئون الحياة وإسعادها، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ كنتم في شكّ من ديني الإسلام الذي أوحي إليَّ من الله تعالي وأدعوكم لاتّباعه هل هو صِدْق صحيح مُسْعِد أم لا رغم وضوح الأدِلّة علي وجوب اتّباعه لكل عاقل – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها – وفي شكّ من ثَبَاتي واستقامتي واستمراري عليه وتَرْجون يائسين تَحْويلي عنه.. ".. فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.." أيْ إنْ كنتم كذلك فاعلموا أنّي لست مُطلقاً في شكّ منه وأنه مهما تَشَكّكتم أنتم فيه فلن أعبد أبداً الآلهة أيْ المعبودات المَزْعُومَة التي تعبدونها غير الله تعالي كأصنامٍ وغيرها لمُجَرَّد شَكّكم فيه أيْ لن أطيع غيره سبحانه أيْ لا أتَّبِع غير أخلاق الإسلام ولا أتَّبِع أيّ نظامٍ يُخالفه بأيِّ مُخَالَفَة وإلا تَعِستُ تمام التعاسة في دنياي وأخراي، فأنا بريء من شَكّكم ومن أديانكم التى أنتم عليها المُخَالِفَة للإسلام المُتْعِسَة فيهما، ولكنّي أعبد الله وحده الذي يتوفاكم أيْ الذي يَقبض ويَستردّ أرواحكم عند موتكم وانتهاء آجالكم في دنياكم فهو وحده الذي خَلَقَكم وغيركم من مخلوقاتٍ وهو وحده الذي يَرزق ويَنفع ويَضرّ وهو وحده الذي يُحيي ويُميت وهو وحده الذي سيَبعثكم يوم القيامة بعد موتكم وإليه مصيركم فيُحاسبكم ويُعاقِبكم علي كفركم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. هذا، وتخصيص التّوَفّى بالذكْر هو لتهديدهم وترهيبهم وتذكيرهم بموتهم لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم فيسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أن يَتعسوا فيهما.. ".. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ فإنْ لم تؤمنوا أنتم فأنا قد أُمِرْت من الله أن أكون من المؤمنين حتي ولو كنت وحدي، وهذا مزيدٌ من التّيْئِيس لهم بأنَّ إجماعهم هم على عبادة غير الله تعالي وعدم الإيمان لا يمنعه هو أبداً عن إيمانه بربه واتّباعه لإسلامه.. وكذلك لأني أمِرْتُ أن أكون من المؤمنين، فأنا أدعوكم للإيمان، ولا أخالِف أمره بأن اتبع دينا غير الإسلام.. والمؤمنون هم المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم وهم علي هذا فيكونون من جملة المؤمنين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فيسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن.. هذا، ولفظ "أمِرْتُ" يُفيد مزيداً من التأكيد والاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي التنفيذ لأنه أمرٌ لا تَهَاوُنَ فيه وإلا كانت التعاسة التامَّة في الداريْن
ومعني "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿105﴾" أيْ وأُمِرْتُ وأُوحِيَ إليَّ أنْ أقِمْ وجهك للدين حنيفا – والوجه هو الذي يحمل العقل وكل الإداركات والأحاسيس والمشاعر والمقصود اجعل كل كيانك – أمرت بذلك أنا وكل المسلمين وكل عاقل، أُمِرْنا أن نُقيم وجوهنا للدين، أيْ نجعلها دائما قائمة واقِفَة مستقيمة علي دين الله، أي نكون جميعا دوْما مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يمينا أو يسارا مُسَدِّدِين علي الجهة التي وَجَّهنا نحوها ربنا واختارها لنا وأرشدنا إليها، وهي جِهَة الدين، دين الإسلام، حتي نسعد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. وأن نكون دائما حُنَفاء، أيْ مائلين بعيدين عن كل باطل، عن كل نظامٍ آخر مُخالِفٍ له مُضِرّ لنا يُتْعِسنا فيهما، فهو الدين الحنيف أي المائل عن أيّ باطل المُتَّجِه باستمرارٍ وثباتٍ نحو كل حقٍّ وعدل وخير وسعادة.. ".. وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿105﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الأمر السابق.. أيْ ونَهَانِي أيْ مَنَعَنِي وحَذّرَنِي أن أكون أبداً بالتأكيد من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه، وإلا تعستَ تمام التعاسة مِثْلهم في دنياي وأخراي بسبب بُعْدِي عنه وعن ديني الإسلام
ومعني "وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿106﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا تَعْبُد يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل أيْ لا تُطيع غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلك يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّك بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعك بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية.. إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿106﴾" أيْ فإنْ فعلتَ ذلك أيْ عَبَدْتَ ودَعَوْتَ وسألتَ غيره فإنك بالتالي إذَن حتماً بالتأكيد تكون من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿107﴾" أيْ وهذا، إضافة للآيات السابقة، مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَك وأصابك الله بضَرَرٍ مَا أيها الإنسان، أيْ بشيءٍ مَا يَضُرّك ويُسيء إليك في صحتك أو مالك أو عملك أو أحبابك أو ما شابه هذا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير، مع مراعاة أنَّ معظم الضرر الذي يصيب الناس هو في الغالب يكون بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كسبوها وحَصَّلوها وفعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فلا كاشِفَ له مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عنك إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لك أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بك من أضرار، إمَّا بتوفيقك مباشرة لها، أو يُيَسِّر لك خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوك.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. ".. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ.." أيْ وإنْ يَقْصِدْك بخيرٍ مَا ويُقَدِّرْه لك ويَمْنَحْك إيّاه وهو ما يَنفعك ويُسعدك بأنْ يُيَسِّر لك أسبابه فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يَرُدَّ ويُبْعِدَ ويَمنعَ عنك خيره وفضله وكرمه إلا إذا أرادَ هو مَنْعه وإذهابه وعدم حِفْظه لك لأنه وحده على كل شيءٍ قدير، علي النفع والضرّ، بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يَصعب عليه شيء.. ".. يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.." أيْ يُوَجِّه ذلك الخير والفضل ويُنزله علي مَن يشاء مِن خَلْقه الذين يريد رحمتهم ورزقهم وإسعادهم به ويَهبهم إيَّاه إذ هو يفعل ما يشاء.. ".. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿107﴾" أيْ وهذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وهو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿108﴾ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿108﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم قد وَصَلَ إليكم الحقّ الذي ليس فيه أيّ شكّ وهو القرآن العظيم بواسطة الحقّ وهو الرسول الكريم الصادق الأمين ﷺ ليُسعدكم في الداريْن إذا عملتم بكل أخلاقه، من ربكم لا من عند غيره، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. هذا، ووَصْف ما جاءهم بأنه الحقّ شرف وتكريم ذاتيّ له وبكوْنه من عند اللَّه ربهم شرف وتكريم إضافيّ لا يُوصَف وتأكيد لأهميته ولعظمته ولصِدْق مَن جاء به.. ".. فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.." أيْ فمَن اسْتَرْشَدَ به وسارَ خَلْفه وتمسّك بكلّ أخلاقه فإنما يَسْتَرْشِد لنفسه فهو حتماً أوّل المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن لم يَهتد وضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عنه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!!.. إنه مَن يَجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."﴾.. والعكس صحيح قطعا، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿108﴾" أيْ وليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، لا أنا ولا غيري، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يُناسب
ومعني "وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾" أيْ وسِرْ يا رسولنا الكريم خَلْف وسِيرُوا أيها المسلمون خَلْف القرآن العظيم وتمسّكوا واعملوا بكلّ ما فيه من أخلاق الإسلام في كلّ شئون ولحظات حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فهو مُنَزّل إليك وإليكم مِن ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُرشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم.. ".. وَاصْبِرْ.." أيْ وكونوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد يصيبكم أحيانا من أذي مِمَّن تدعوهم، وكونوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وإنْ أصابتهم فتنة ما أيْ اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ.." أيْ واستمرّوا علي ذلك واثبتوا إلي أن يَحكم الله بحُكْمه العادل بينكم وبين المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُعادِين لله وللإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بأنْ ينصركم وينشر إسلامكم ويُعِزّكم ويُمَكِّن لكم في أرضكم ويسعدكم في دنياكم ثم أخراكم وبأنْ يهزمهم ويذِلّهم ويتعسهم فيهما.. ".. وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾" أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿1﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿1﴾" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿1﴾" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم فهو كتاب مَكتوب مُدَوَّن يُرْجَع إليه في كل وقت أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد ﷺ للناس جميعا ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه ومن صفاته أنه أُحْكِمَت آياته أيْ نُظّمَت تنظيماً مُحْكَمَاً مُتْقَنَاً حَسَنَاً دقيقاً تماماً ليس فيها أيّ خَلَل أو تَنَاقُض في ألفاظها أو معانيها وكلها لها دلالاتها القاطِعَة الحاسِمَة وكلها مُتَنَاسِقَة ومُتَرَابِطَة ومُتَنَاغِمَة وتَحْمِل الحقّ وليس فيها أيّ اختلافٍ ولا يُمكن لأيِّ باطلٍ أو انحرافٍ أو اعوجاجٍ أن يَخترقها وكلها حِكَم مُجْمَلَة راقية هادية لمَن يتبعها لكل خيرٍ وعدلٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه.. ".. ثُمَّ فُصِّلَتْ.." أيْ وبُيِّنَت هذه الآيات ووُضِّحَت وجُعِلَت مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بها كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكان وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول ﷺ "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ﴿أخرجه مسلم﴾.. ".. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿1﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره ومن المدح لصفاته ومن التشريف والتكريم والتعظيم والتقديس الذي لا يُوصَف له والتأكيد علي أهميته وعظمته وصِدْق مَن جاء به وهو الرسول الكريم الصادق الأمين ﷺ .. أيْ كلّ ذلك لأنه من عند الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، وخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم لأنهم خَلْقه وصَنْعَته وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبالتالي فلا يكون كتابه ولا إحكامه ولا تفصيله إلا المَثَل الأعلى في كل ذلك، فليجتهدوا بالتالي إذَن في العمل بكل أخلاقه ليَصلحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماما في الداريْن
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴿2﴾" أيْ إنزال القرآن العظيم وإحكام آياته وتفصيلها هو من أجل أنْ لا تعبدوا إلا الله فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴿2﴾" أيْ إنني مُرْسَلٌ لكم أيها الناس جميعاً منه، أيْ من الله، نذيرٌ أي مُحَذّرٌ من تمام الشرّ والتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض الإسلام أو كله أو يُكَذّب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وبشيرٌ أيْ مُبَشّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة فيهما لمَن عمل بكلّ أخلاقه.. فهذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدِي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – وليس من مهمّتى ومهمّتهم معرفة علم الغيب والإخبار به، وليَتَحَمَّل الذين لا يَستجيبون ولا يَتّبِعون أخلاق الإسلام إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴿3﴾" أيْ وعليكم أيها الناس بعد أن عبدتم الله تعالي وحده وتركتم أيَّ عبادةٍ لغيره أن اسألوا ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – دَوْمَاً مَغْفِرَة ذنوبكم وتوبوا إليه علي الدوام وأوّلاً بأوَّلٍ مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. ".. يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.." أيْ فإنكم إنْ فعلتم ذلك يُعْطِكم حتماً من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ مَا تَتمتّعون وتنعمون وتنتفعون وتأمنون وتستقرّون وتَرْضون وتسعدون به إلى نهاية حياتكم التى قَدَّرها لكم فى هذه الدنيا، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.." أيْ وكذلك يُعْطِ بالقطع كلَّ صاحبِ خيرٍ، خَيْرَه تعالي، أيْ يُعْطِ فضله أيْ جزاءه الفاضل الكريم الزائد الذي لا يُوصَف لكل عاملٍ لعملِ خيرٍ فاضِلٍ مَا بما يُناسبه كاملا بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ بلا أيِّ نقصانٍ من كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه.. ".. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴿3﴾" أيْ فإن استجبتم أيها الناس فلكم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَتَوَلّوا أيْ تُعطوا ظهوركم لله ولرسوله ﷺ وتَلْتَفِتُوا وتَنْصَرِفوا وتَبْتَعِدوا عن الإسلام وتَتْركوا أخلاقه وتهملوها وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن تَوَلّي، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيمٍ عذابه شديدٍ فظيعٍ ضخمٍ طويلٍ لا يُوصَف للمُتَوَلّين هو يوم القيامة، كما إني أخاف عليكم عذاب دنياكم أولا إنْ لم تتوبوا وتعودوا إلي ربكم وإسلامكم، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿4﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿4﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لحَتْمِيَّة حُدُوث الرجوع إلي الله تعالي يوم القيامة.. أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرّد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الذين يَخافون الله ويُراقبونه ويَستشعرون عظمته وهيبته ويَخضعون لوصاياه وإرشاداته التي أوصاهم بها في إسلامه وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم سواء في السِّرِّ أو العَلَن فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿5﴾" أيْ إنَّ الناس يَطْوُون صدورهم كاتِمِين لِمَا يدور فيها بدواخل عقولهم وأفكارهم مُجْتَهِدِين في كتمانها لكي يَتَخَفّوا – من الاختفاء – ويَسْتَتِرُوا من الله تعالي مُتَوَهِّمِين أنهم يُمْكِنهم ذلك!!.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿5﴾" أيْ إنهم حين يُغَطُّون أجسادهم بثيابهم – ويَتَخَفّون بأيِّ وَسِيلَةٍ وفي أيِّ مكانٍ وزمان – يعلم الله كل ما يُخْفون وما يُظْهِرون من أيِّ شيءٍ وقولٍ وفِعْلٍ وفِكْرٍ وخاطرٍ وغيره لأنه عليمٌ بذات الصدور أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه حتماً بالتأكيد أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.