الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿1﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿2﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿5﴾ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴿16﴾ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴿17﴾ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19﴾ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿20﴾ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21﴾ لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22﴾ لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23﴾ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴿24﴾ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴿25﴾ جَزَاءً وِفَاقًا ﴿26﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴿27﴾ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴿28﴾ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴿29﴾ فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴿30﴾ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴿33﴾ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴿34﴾ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴿35﴾ جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴿36﴾ رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴿37﴾ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴿38﴾ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ﴿39﴾ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !! .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿1﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿2﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿5﴾ " أيْ عن ما ، عن أيِّ شيءٍ يسأل المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن فيما بينهم ومع مَن حولهم ؟! إنهم يتساءلون عن الخَبَر العظيم الشأن والقَدْر وهو خبر نزول القرآن العظيم وما يَحمل مِن كلّ خَبَرٍ عظيمٍ كتوحيد الله تعالي بالعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وكالآخرة والبعث بعد الموت والحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحمل من نُظُمٍ عظيمة مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة .. والاستفهام والسؤال هو للتفخيم والتعظيم لشأن هذا الخبر والتَّعَجُّب من الجدال فيه مع مُوَافَقَته التامَّة لكل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وللفطرةِ بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فكان من المُفْتَرَض ألاّ يُجَادَل فيه ولا يُتَسَاءَل عنه بل يُصَدَّق به تماما بلا أيّ شكّ !! .. " الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ " أيْ الذي اخْتَلَفَ وتَفَرَّقَ في أمره الناس وكان من المُفْتَرَض أن يجتمعوا جميعا علي التصديق بهذا النبأ العظيم ولكن منهم مَن أحسنَ استخدام عقله فآمَنَ أيْ صَدَّقَ به وفَعَلَ الخير فسَعِدَ في دنياه وأخراه ومنهم مَن عَطّله فكذّب به وفَعَلَ الشرَّ فتَعِس فيهما علي قَدْر شَرِّه وذلك بسبب الأغشية التي وضعها علي هذا العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَدَّعِي كذباً وزُورَاً هؤلاء السائلون المُكَذّبون مِن عدمِ صدقِ القرآن العظيم والرسل الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وعدم وجود بَعْثٍ وآخرةٍ وحساب وعقاب وجنة ونار ، فليَرْتَدِعُوا وليَتراجعوا وليَنتهوا عن السؤال عن هذه الأمور بتكذيبٍ وعنادٍ واستكبارٍ واستهزاء ، فإنهم حتما سيعلمون قريبا الصدق التامّ لها والنتائج السيئة لتكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم حينما يَنْزِل بهم واقعيا أمام أعينهم ما كانوا يُوعَدونه ولا يُصَدِّقونه مِن بعضِ عذابٍ دنيويّ يُناسب شرورهم ثم حينما يُبْعَثون يوم القيامة ويَنالون تمام العذاب الذي لا يُوصَف .. هذا ، ولم يَذْكُر سبحانه تفصيل ما الذي سيعلمونه عَمَّا قريبٍ وذلك لتعميم العذاب وتنوعيه وتهويله ليَسْبَحَ خيال العقل فيه .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعله يُوقِظ بعضهم فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. " ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿5﴾ " أي هذا مزيدٌ من التأكيد علي رَدْعِهم وتهديدهم ، أىْ كلاّ ثم كلاّ ، إنهم حتما سيعلمون قريبا
ومعني " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴿16﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ للناس بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ عليهم وبقُدْراته التامَّة وبعِلْمه الكامل ليَتَدبَّروا في كل ذلك فيَعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ويشكروه ويتوكّلوا عليه وحده فيسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، ويتأكّدوا تماما أنَّ القادر علي كلّ شيءٍ هكذا قادر حتما علي بَعْثهم يوم القيامة بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم ترابا حيث الخِلْقَة الثانية حتما أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة ! وذلك لحسابهم الحساب الختاميّ علي كل أقوالهم وأعمالهم بالخير خيراً وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو ، فليُحْسِنوا الاستعداد إذَن بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام .. والاستفهام والسؤال هو للتقرير أيْ لكي يُقِرّ به كل العاقِلون المُنْصِفون العادِلون حينما يُذَكَّرون به فهُم لا يَملكون إلا الاعتراف بذلك .. أيْ ألم نجعل الأرض مِهَادَاً ؟ أيْ كالفِراش المُمَهَّد المُيَسَّر الذي يَستقِرّ ويستريح عليه مَن جَلَس فوقه ، حيث جعلها سبحانه مَبْسُوطَة صالحة للسَّيْر عليها ولإنبات الزروع بها وجعل فِيها طُرُقا مُتَعَدَّدَة لكي يَصِل بواسطتها الناس من مكانٍ لآخر لقضاء حوائجهم ولتحقيق ما لا يُمكن حَصْره من المنافع والسعادات .. " وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ " أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض مُعجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا أننا جعلنا الجبال أوتاداً للأرض – جمع وَتَد وهو ما يُدَقّ في الأرض لتثبيت الشيء وتقويته – لكي تكون مستقرّة لكم ليست هائِجَة مُضطربة فيمكنكم الحياة بسهولة وتَمَتُّعٍ عليها لكي تنتفعوا وتسعدوا بكل خيراتها .. " وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ " أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض معجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا ، أننا خلقناكم أزواجا أيْ أصنافاً مِن ذَكَرٍ وأنثي ليَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أيْ ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة – من خلال المودة أي المَحَبَّة والرحمة أيْ اللّيِن والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما .. " وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9﴾ " أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض معجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا ، أننا جعلنا نومكم راحة لكم وقَطْعَاً للحركة من أجل تجديد حيوية عقولكم وأجسامكم لإعدادها لاستيقاظٍ قادمٍ مُرْبِحٍ سعيد ، فتَذَكَّروا هذه النِّعَم وأنَّ هذا يُشبه بَعْثكم بعد موتكم وإعادة الأرواح إليكم يوم القيامة فأَيْقِنوا به .. " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ " ، " وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ " أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض معجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا ، أننا جعلنا لكم الليل يُصاحِبكم ويُغَطّيكم ويُلاصِقكم كلِبَاسِكم التي تلبسونها من أجل أن ترتاحوا وتَسْكنوا فيه بعد عملكم أثناء يومكم .. كما أننا جعلنا النهار مَعاشا لكم أيْ وقتَ سَعْيٍ وحركةٍ وانتشارٍ وربحٍ لكى تُحَصِّلوا فيه ما تَعيشون به من أرزاقٍ ومنافع ومكاسب وسعادات .. " وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ " ، " وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13﴾ " أي وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض معجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا ، أننا أقمنا فوقكم سبع سموات قَوِيَّات مَتِينَات مُحْكَمَات لا شقوق فيها ولا عيوب بغير أعمدةٍ مَرْئِيَّة وبكل ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرات مُفيدات مُسْعِدات لكم .. وكذلك جعلنا فيها الشمس مصباحًا وَهَّاجَاً أيْ شديد الوَهَج أيْ الضياء للناس ليعلموا نهارهم من ليلهم لِيَسعوا في طَلَب أرزاقه وخيراته تعالي لينتفعوا وليسعدوا بها وبطاقاتها وحراراتها التي تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام .. " وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴿16﴾ " أي وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا ومِن بعض مُعجزاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرتنا وكمال علمنا ، أننا أنزلنا لكم من المُعْصِرات أيْ السُّحُب التي تَعْتَصِر بالماء أيْ تَمْتَلِيء به وحانَ لها عَصْر وإنزال المطر منها ماءً ثَجَّاجَاً أيْ مُنْصَبَّاً مُنْدِفَعَاً بقوة وكثرة لكي تنتفعوا وتسعدوا بما يُحْدِثه من خيراتٍ ومنافع حيث نُخرج به حبا ونباتا أيْ نُنْبِت كل الحبوب والنباتات التي تَنفعكم وتُسعدكم بكل المنافع والتي منها الأكل والدواء وغيره .. ولنُخْرِج بهذا الماء أيضا جنات ألفافا أيْ بساتين وحدائق وأشجار قد الْتَّفّت أغصانها وتَشَابَكَت لتَقَارُبها وكثرة نمائها وثمارها المُفِيدَة المُسْعِدَة .. فالقادِر علي هذا الإحياء للأرض الميتة سبحانه قادِر حتما بلا أيّ شكٍّ علي بَعْثكم يوم القيامة
أمَّا معني " إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴿17﴾ " أيْ إنَّ يوم الفصل وهو يوم القيامة الذي يكون فيه الفصل بين الخَلْق جميعا حيث يَفْصِل الخالق الكريم أيْ يَحكم ويُمَيِّز بين الحقّ والباطل وبين الناس مَن المُحِقّ المُحْسِن منهم ومَن المُبْطِل المُسِيء ليُعْطِي لكلِّ صاحبِ حقٍّ حقّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، هذا اليوم هو بكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكٍّ كان في عِلْم الله تعالي وحده مِيقاتاً أيْ ميعاداً ووقتاً مُحَدَّدَاً للبَعْث وللحساب ، بلا أيِّ تقديمٍ أو تأخير ، وهو آتٍ حتما وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد ، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ " أيْ هو يوم يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حينها يكون ذلك هو يوم انتهاء الحياة الدنيا بكل ما فيها وبدء البَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لبدء حسابهم .. " .. فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ " أيْ فتَحْضُرون مجموعات حينها أيّها البَشَر من قبوركم إلي مكان الحساب لا يَتَخَلّف أيّ أحدٍ منكم
ومعني " وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19﴾ " ، " وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿20﴾ " أيْ ويومها تَحْدُث مُتَغَيِّرات هائلة تدلّ علي نهاية الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة ومنها أن شُقَّت السماء من كل مكانٍ فصَارَت شقوقها وفتحاتها كالأبواب فى سعتها وكثرتها ، وذُهِبَت وحُرِّكَت وأُزِيلَت الجبال من أماكنها بعد تَفَتّتها فصارت بسبب هذا التَّفَتّت والتَّحَرّك كالسَّراب وهو ما يَظهر فى الصحراء فيَتَوَهَّمه الناظر إليه عن بُعْدٍ أنه ماء وهو ليس بشيء
أما معني " إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21﴾ " أيْ إنَّ النار – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – كانت يومها بأمر الله تعالي مكان رَصْدٍ للمُستحِقّين للعذاب أيْ مكان تَرَقّب وانتظار لهم ليدخلوها أيْ مُعَدَّة ومُهَيَّأَة لمَن يستحِقّونها فهى تَرْصُدهم وتَتَرَبَّص بهم وتَتَرَقّبهم وتَنتظرهم ولن يستطيعوا مُطلقا الهرب منها .. وفي هذا تهديدٌ وتحذير شديدٌ لمَن يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
ومعني " لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22﴾ " أيْ هي حتماً للظالمين – بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَآبَاً أيْ مَرْجِعَاً وحيداً يَرجعون إليه ويَستقرّون فيه
ومعني " لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23﴾ " أيْ مُقِيمين فى جهنم أزمانا طويلة مُتَتَابِعَة لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى – والأحقاب جمع حُقُب وهو الزمن الطويل المُتَتَابِع – بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي فعلوها في دنياهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴿24﴾ " ، " إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴿25﴾ " أي لا يَجدون فى جهنم أيَّ شيءٍ مِن هواءٍ باردٍ يُزيل عنهم حَرَّها ولا مِن شرابٍ نافعٍ يَرْوِي عطشهم لكنهم يَذوقون فيها الحَمِيم أيْ الماء المَغْلِيّ الذي بَلَغَ أقصيَ درجات السُّخُونَة والغَلَيَان ، والغَسَّاق وهو السائل الذي يتكوّن من القيح والصديد والدم وغيره الذي يسيل من أجسادهم المُحترقة بالنار
ومعني " جَزَاءً وِفَاقًا ﴿26﴾ " أيْ جَازَيْنَاهُم بذلك العذاب جزاء مُوَافِقَاً ومُقَابِلاً ومُساوِيَاً لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي فعلوها في دنياهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فلم نظلمهم شيئا ولكنهم هم حتما الذين ظلموا أنفسهم
ومعني " إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴿27﴾ " ، " وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴿28﴾ " أيْ هذا هو سبب ما هم فيه من عذاب ، فليَتَّعِظ به مَن أرادَ الاتِّعاظ فلا يَفعل مثلهم حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم ، أيْ إنهم كانوا في دنياهم لا يَتَوَقّعون ولا يَنتظرون ولا يُبالون وبعضهم لا يُصَدِّقون بوجود أيّ حسابٍ فيعملوا للنجاة منه بل فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم ، وذلك لأنهم كانوا غافلين تائهين في حياتهم لا يَتَوَاصَلُون مع ربهم ودين الإسلام .. " وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴿28﴾ " أيْ وأيضا كذَّبوا بآياتنا تكذيباً شديداً فلم يُصَدِّقوا بها ، أيْ بدلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتنا علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم
ومعني " وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴿29﴾ " أيْ ومِن كَمَال عِلْمنا عن كلّ كَوْننا وخَلْقنا أنَّ كلَّ شيءٍ قد أحصيناه أيْ حَسَبْناه وعَدَدْناه وضَبَطْناه حِسَابَاً وعَدَّاً وضَبْطَاً دقيقاً مُحْكَمَاً بكلّ تفاصيله بتمام الدِّقّة والعدل وكتبناه كتاباً أيْ كتابة تامَّة دقيقة مُحْكَمَة في اللوح المحفوظ أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما ، لكي يَنالَ كلُّ صاحب حقٍّ حقّه بالثواب أو العقاب في دنياه وأخراه بما يُناسِب قوله وفعله صغيرٍ أو كبيرٍ ظاهرٍ أو خَفِيٍّ خيرٍ أو شرٍّ بكلّ دِقّةٍ دون أن يَتَوَهَّمَ أيُّ أحدٍ بوجود أيِّ خَلَلٍ في ذلك .. وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ لكلِّ صاحبِ عقلٍ سليمٍ أن يفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لأنه سيُحَاسَب علي الخير خيراً وسعادة في الداريْن وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة فيهما
ومعني " فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴿30﴾ " أيْ فيُقال لهم عند عذابهم لمزيدٍ من إهانتهم وذِلّتهم وعذابهم النفسيّ مع الجسديّ ذوقوا أيها المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن العذاب الذي تستحِقّونه بسبب ما فعلتموه في دنياكم من شرور ومَفاسد وأضرار والذي كنتم تُكَذّبون به ، فلن نزيدكم إلا عذابا فوق العذاب الذي أنتم فيه ، من كل الأنواع ، وفي هذا قطعٌ لهم لأيِّ أملٍ في تخفيفِ العذاب أو حتي بقاءه كما هو بغير زيادةٍ في مقداره أو تغييرٍ في نوعه ، وهذا من علامات شِدّة غضب الله تعالي علي أمثالهم
ومعني " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ للمُتَّقين – أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم – مَفَازَاً أيْ فوزًا عظيماً يوم القيامة بنَجَاتهم من النار ودخولهم الجنة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني " حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لبعض مظاهر هذا الفوز ، أيْ لهم في هذه الجنات بساتين فيها كل الأشجار والنباتات المُثْمِرَة المُسْعِدَة ولهم كذلك الأعناب المتنوعة الطيِّبة الطعم ، جمع عنب ، وتمّ ذِكْره من بقية الفواكه لشهرته وفخامته والحب له
ومعني " وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴿33﴾ " أيْ ومِن مظاهر الفوز أيضا أنَّ لهم فيها زوجات شابات جميلات ومن علامات شبابهنّ وجمالهنّ أنهنّ كَوَاعِب جَمْع كَاعِبَة وهي الشابّة التي تَكَعَّبَ ثَدْيُها أيْ اسْتَدَارَ وارْتَفَعَ فصار مثل الكَعْب ولم يَتَدَلّ ويَنْكَمِش كما يحدث عند الشيخوخة وكِبَر السنّ ، لمزيدٍ من السعادة بالاستمتاع الجِنْسِيّ لكلٍّ مِن الرجال وأزواجهنّ ، والأتْراب هم المُتَسَاوون في السِّنّ ، فكلٍّ مِن الأزواج والزوجات في عُمْرٍ واحدٍ وهو سِنّ الشباب ، وكذلك هم المُتساوون في كمال وحُسن الخُلُق والصفات ، وبذلك يتحقّق تمام التَّمَتُّع والتفاهُم والتآلُف والتلاحُم والسعادة بينهم
ومعني " وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴿34﴾ " ولهم فيها كذلك كؤوس مُمْتَلِئَة ، بكل أنواع الشراب اللذيذ الفَخْم من كل ما يَتَمَنّون
ومعني " لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴿35﴾ " أيْ هذا استكمالٌ للنعيم العظيم التامِّ الذي هم فيه حيث لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ، وهي نِعْمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع الكذب وهو كل كلام مُخَالِف للحقائق ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط الكلام الطيِّب الصادق السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو كذب المُشْتَمِل على الطمأنينة والتحية الدائمة والحبّ الدائم والسرور المستمرّ ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة
ومعني " جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴿36﴾ " أيْ جَازَيْنَاهُم بكل ذلك النعيم الذي لا يُوصَف ليكون جزاءً أيْ أجراً من ربهم وعطاءً حِسَاباً أيْ كثيراً كافياً لهم – كما يقول المسلم حَسْبِيَ الله أيْ يكفيني كفاية تامّة – وليكون أيضا حساباً بمعني مَحْسُوبَاً علي قَدْر أعمالهم الخيرية التي فعلوها في دنياهم ليتحقّق تمام العدل بينهم عند تحصيلهم لدرجتهم في الجنة ، مع فضله وكرمه سبحانه عليهم والذي هو بغير حساب
ومعني " رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴿37﴾ " أيْ هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو مِن رَبِّكم رَبِّ السماوات والأرض وما بينهما ، أيْ خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئية ، فهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أيْ مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه ، وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم حيث هو مُنَزِّل عليهم هذا القرآن العظيم ومُوصيهم بالالتزام والعمل به كله لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن فهو لا يُمكن أبدا أن يَتركهم أو يهملهم فيهما .. ولذلك كله فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه بلا أيّ شريكٍ معه ، وهو المُسْتَحِقّ لأن يُخْلِصوا ويُحْسِنوا له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ليسعدوا بكل ذلك تمام السعادة في الدنيا والآخرة .. " .. الرَّحْمَٰنِ .. " أي هذا العطاء والخير الدنيويّ والأخرويّ هو مِن رَبِّكم الرحمنِ والرحمنُ اسمٌ من أسماءِ الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والذي يعني الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء ، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم .. " .. لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴿37﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا قَبْله مِن كوْنه تعالي هو ربّ كلِّ شيءٍ حيث لا يَقدر أيّ أحدٍ مِن خَلْقه علي خطابه والكلام معه يوم القيامة إلا مَن أذِنَ له منهم ، مِن هيبته وعظمته سبحانه
ومعني " يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴿38﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، يقوم بنو آدم بأرواحهم وأجسادهم ويقوم الملائكة مُصْطَفّين في صفوف منتظمة ساكنين حيث جميع الخَلْق تحت سلطان خالقهم وتصرّفه تعالي لا يتكلم أيّ أحدٍ منهم إلا مَن أذِنَ له منهم – مِن هيبته وعظمته سبحانه وهيبة وعظمة أحداث اليوم ذاته ، وهذا مزيدٌ مِن التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة – وقال صوابا أيْ نَطَقَ حقّاً وصِدْقَاً وعَدْلَاً وخيراً بعد أن يُؤْذَنَ له بالكلام ، كأنْ يكون رسولا يَشهد علي قومه مَن آمن منهم ومَن لم يؤمن أو شهيداً مُكَرَّمَاً عند الله يشفع لأهله ليَعفو عنهم
ومعني " ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ﴿39﴾ " أيْ ذلك اليوم الذى يقوم فيه الخَلْق جميعهم للحساب والجزاء هو اليوم الحقّ أي الصِّدْق الثابت الذى لا شكّ فى حُدُوثه المُتَحَقِّق بكل تأكيد .. " .. فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ﴿39﴾ " أيْ وإذا كان الأمر كذلك من تَحَقّق هذا اليوم حتما فمَن أراد تمام السعادة في دنياه وأخراه والنجاة من التعاسة فيهما فعليه إذَن أن يكون عاقلا ويُحسن استخدام عقله ويَأخذ إلي ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في الداريْن – مآباً أيْ مَرْجِعَاً إليه حَسَنَاً سليماً مَضْمُونَاً ، وذلك من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام .. إنه مَن كان يريد بحقٍّ أن يَتَّخِذَ إلى ربه مَآبَاً فالأمر سَهْل مَيْسُور مُسْتَطَاع فلْيَفْعَله إذَن لأنه قد تَهَيَّأ له تماما اتخاذه بهذا الإسلام ، فلم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْر
ومعني " إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴿40﴾ " أيْ نحن حَذّرْنَاكم أيها الناس – بما ذَكَرْنَاه لكم في القرآن العظيم – عذاباً قريباً منكم يَنزل علي المُسِيئين منكم الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار بما يُناسب أفعالهم ، بعضه في الدنيا ، حيث درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم تمامه في الآخرة حيث ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة ، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد .. " .. يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ .. " أيْ يومها ، يوم القيامة ، يَرَىَ كلّ إنسانٍ قوله وعمله كله الذي قَدَّمه سابقا في دنياه من خيرٍ أو شرٍّ حاضراً أمامه مُسَجَّلاً عليه بكلّ دِقّةٍ وتفصيلٍ في كتاب أعماله ، ويَري كذلك جزاءه إنْ خيراً فله كل خيرٍ وسعادة وإنْ شرَّاً فله كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر ما قَدَّم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " .. وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴿40﴾ " أيْ ويومها وحينها ، حين يَرَيَ الإنسان الكافر – وهو الذي لم يُصَدِّق بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلَ بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره – ما يَستحِقّه من عذابٍ لا يُوصَف كان يُكَذّب به في دنياه يقول وقتها متمنياً الخَلاَصَ نادِمَاً أشدّ النَّدَم في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ يا ليتنى كنت في الدنيا ترابا ولم أُخْلَق بَشَرَاً أصلاً أو بَقِيتُ فيها تراباً بعد موتي فلم أبعث وأُحَاسَب أو أُصْبِح ترابا الآن لأنْجُو مِمَّا أنا فيه
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴿5﴾ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ﴿6﴾ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ﴿7﴾ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9﴾ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ﴿10﴾ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ﴿11﴾ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴿12﴾ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ وَعْده الدنيويّ والأخرويّ للناس وأنَّ يوم القيامة والبَعْث والجزاء على الأعمال بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً كله واقعٌ صادق بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعْجِزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالنازعات " وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ " أيْ وحَقّ النازعات ، جَمْع نَازِعَة ، والنَّزْع جَذْب الشىء بقوةٍ وخَلْعه من مكانه ، والمقصود الملائكة التي تَنْزع أرواح الكافرين من أجسادهم حيث تَنْزعها غَرْقَاً أيْ إغراقاً في النَّزْع أيْ نَزْعَاً شديداً بالِغَاً الغاية فى الشدّة والقَسْوَة والغِلْظَة إذ هي تَغْرِق في الجسد لنَزْع الروح وإخراجها من كل مكانٍ هي فيه بكلّ قوةٍ ثم تُغْرِقها في العذاب .. " وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ " أىْ وأُقْسِمُ بالملائكة التي تَنْشَط نَشْطَاً كبيراً أيْ تُسارِع إسراعاً شديداً لقَبْض أرواح المؤمنين عندما يَحِلّ موعد موتها بكل خِفّةٍ وسهولة وتبشير وتكريم ، والناشطات تعني الموصوفات بالنشاط أيْ بالقوة والسرعة فى الانطلاق لأداء العمل والخِفّة فى أَخْذِ الشيء .. " .. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ " أيْ وأُقْسِمُ أيضا بالملائكة التى تَسْبَح فى الكوْن سَبْحَاً عظيماً أىْ تَنْطَلِق انطلاقاً سريعاً لتنفيذ أوامر الله تعالى ولتسبيحه وتحميده وتكبيره وتعظيمه .. " فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ " أيْ وأُقْسِم كذلك بالملائكة التي تَسْبِق سَبْقَاً كبيراً لتنفيذ ما تُكَلَّف به من الله تعالي ، وتَسْبِق وتُسَارِع بأرواح المؤمنين إلي الجنة .. " فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا " أيْ وأُقْسِم بالملائكة التي تُدَبِّر وتُرَتِّب أمر الكوْن وشئونه المختلفة التي يحتاجها الخَلْق حسبما يأمرها به خالقها سبحانه .. هذا ، وعند بعض العلماء المراد بالنازعات النجوم التي تَنْزع أيْ تَذهب من مَدَارٍ لآخر والناشطات هي الكواكب التي تسير في الفضاء أو السفن السائرة في المياه والسابحات والسابقات هي النجوم أو الشمس والقمر والليل والنهار أمّا المُدَبِّرات فقد أجمعوا على أنَّ المراد بها الملائكة .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ النَّازعات والنَّاشِطات والسَّابِحات والسَّابِقات والمُدَبِّرات
أمَّا معني " يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ﴿6﴾ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ﴿7﴾ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9﴾ " أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد .. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد ، اذكروا يوم القيامة ، يوم تَرْجُف الرَّاجِفَة أي تضطرب وتتزلزل المُضطرِبَة المُتَزَلْزِلَة وهي الأرض بسبب النَّفْخَة والصَّيْحَة والرَّجْفَة الأولي في الصور حيث يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – وهي نفخة الإمَاتَة إذ يموت كل مَن عليها ثم تتبعها أيْ تأتي بعدها الرَّادِفَة أيْ التَّابِعَة أيْ النفخة التي تَرْدِفها أيْ تكون خَلْفَها بزمنٍ في عِلْم الله والتي عندها يبدأ بَعْث جميع الموتي بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا للحساب والجزاء .. " قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾ " ، " أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9﴾ " أيْ قلوب المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن تَشَبَّهَ بهم ، تكون في ذلك اليوم خائفة مضطربة مُنْزَعِجَة من شدّة الخوف ، وأبصار أصحابها ذليلة مُنْكَسِرَة من فَظاعة ما تَرَيَ
ومعني " يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ﴿10﴾ " ، " أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ﴿11﴾ " أيْ يقول هؤلاء المُكَذّبون بالبَعْث ، يقولون في دنياهم ، بصورةٍ فيها تكذيب واسْتِبْعاد واستهزاء واستكبار ، هل نحن سنُرَدّ وسنُرْجَع أحياء في القبور مرة أخري بعد موتنا ؟! والحافرة هي الأرض المَحْفُورة التي حُفِرَت فيها قبورهم .. أَنُرَدُّ وقد صِرْنَا عظاماً مُجَوَّفَة مُفَتَّتَة ؟!
ومعني " قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴿12﴾ " أيْ وقالوا أيضا مُستهزئين مُكَذّبين ، تلك الرَّجْعَة إلي حياة أخري ، إنْ وَقَعَت وصَحَّت وتَمَّ بَعْثنا ، ستكون إذَن رَجْعَة خاسرة ، لتكذيبنا بها
ومعني " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ " ، " فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ﴿14﴾ " أيْ لا يحتاج أمر الله تعالي بالبعث لزمنٍ طويلٍ أو جهدٍ كبير ، وإنما بمُجرّد أن يُنْفَخَ بصيحةٍ واحدة ، يتمَّ بعثهم والجميع ، وسُمِّيَت النفخة زَجْرَة لأنَّ المُكذبين حينها سيُخْرَجون من قبورهم وهم يُزْجَرُون أي يُدْفَعُون مَذلولين ناظرين بعضهم لبعضٍ ولأهوال يوم القيامة وللعذاب الذي ينتظرهم وكانوا يُكذبون ويَستهترون ويَستهزؤن به ، وسيَستجيبون حتما جميعا للبعث وللحضور للحساب مُجْبَرين ودون أن يَتَخَلَّف منهم قطعا أيُّ أحدٍ عن أمر الله وبكلّ سرعةٍ من غير استغراقٍ لأيِّ وقت .. " فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ﴿14﴾ " أيْ فإذا الموتى جميعا حضور أحياء بالساهرة وهي الأرض المستوية الخالية التي لا شيء فيها وهي أرض الحَشْر والحساب وذلك بمجرّد حُدُوث هذه الزجرة الواحدة ، وسُمِّيَت ساهِرَة لأنَّ مَن عليها يَسْهَر ولا ينام خوفاً وحَذَرَاً من أن يُصيبه مكروه
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15﴾ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴿19﴾ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ﴿20﴾ فَكَذَّبَ وَعَصَى ﴿21﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22﴾ فَحَشَرَ فَنَادَى ﴿23﴾ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴿24﴾ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴿25﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أن أهل الحق والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15﴾ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴿19﴾ " أيْ هل وَصَلَ إلى عِلْمك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم ذلك الخَبَر المُهِمّ ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر .. إنه خَبَر وقِصَّة رسولنا الكريم موسي ﷺ حين نادَاه ربّه أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في الداريْن وهو في الوادي المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر مِن السوء المُبَارَك فيه المُكَرَّم المُعَظّم المُسَمَّي طُوَيَ – وهو سَهْلٌ بجانب جبل الطور بسيناء بمصر – لأنه الذي حَدَثَ فيه كلامٌ من الخالق لبَشَرٍ وبدأ فيه نزول كتاب التوراة علي موسي ﷺ وبه الإسلام هاديا مُسْعِدَاً للناس في هذا الزمن ، فقال له اذهب إلي فرعون – ملك مصر في ذلك الوقت – إنه طَغَيَ أيْ ظَلَمَ وبَالَغَ في الظلم وتجاوَزَ كل الحدود فيه وفي الفساد والكفر والاستكبار واسْتِعْباد الخَلْق حيث فَعَلَ الظلم بكل أنواعه سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. " فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ﴿18﴾ " ، " وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴿19﴾ " أيْ اذهب فقُل له على سبيل النصح والإِرشاد بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ هل لك يا فرعون رغبة فى أنْ أدُلّك على ما يُزَكِّيك أيْ يُطَهِّرك من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأن تُسْلِم فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرك فتَسعد – والتزكية هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات – وهل لك رغبة أيضا فى أنْ أرشدك إلى معرفة ربك وحبه بذِكْر دلائل أنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ بكمال صفاته الحُسْنَيَ فتَخْشَيَ أيْ فيَتَرَتَّب علي هذه المعرفة بعظمته وسلطانه وتمام قُدْرته وكمال عِلْمه أنْ تَخْشاه أي تخافه فتَفعل كل خيرٍ وتترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فتَسعد تمام السعادة في دنياك وأخراك .. ولا شكّ أنَّ هذا الأسلوب اللّيِّن السَّهْل الرَّفِيق الرقيق المُناسب يكون مُؤَثّراً مُحَرِّكَاً للعقول والمشاعر بداخلها مُقَرِّبَاً لله ولدينه الإسلام لكلّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني " فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ﴿20﴾ " أيْ فَأَرَيَ موسي ﷺ فرعونَ الدلالة والمُعجزة العُظْمَيَ الدَّالّة علي صِدْقه أنه رسول من عنده سبحانه ليُصَدِّقه ويُسْلِم ، وهي انقلاب العصا ثعبانا حقيقيا حينما يُلقيها وعودتها عصا حينما يَسترجعها إليه
ومعني " فَكَذَّبَ وَعَصَى ﴿21﴾ " أي ولكنَّ فرعون لم يُصَدِّق موسى ﷺ فيما رآه منه وما جاءه به من مُعجزاتٍ تُثْبِت أنه رسول من عند الله تعالي بل سارَعَ بتكذيبه وعَصَاه أيْ خَالَفَه ولم يَتَّبعه فيما دعاه إليه من عبادة أيْ طاعة الله وحده واتِّباع أخلاق دين الإسلام
ومعني " ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22﴾ " أيْ ثم بعد ذلك أدْبَرَ عن موسي ﷺ يجتهد في مُعَارَضَته ومَنْع نشر دعوة الإسلام بكل الوسائل المُمْكِنَة ، أيْ أعْطَيَ دُبُرَه أي ظَهْرَه والتفتَ وانصرفَ وابْتَعَدَ عنه وعن الإسلام وتَرَكه وخَالَفه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصراره التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني " فَحَشَرَ فَنَادَى ﴿23﴾ " ، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴿24﴾ " أيْ فبمجرّد أنْ أدْبَر عن موسي ﷺ جَمَعَ عموم الناس وجنوده ومعاونيه ونادي فيهم قائلا لهم أفظع كلمة يُمكن لكافر أن يقولها وما تَجَرَّأَ علي قولها أحدٌ قبله ولا بعده أنا ربكم الأعلي الذي لا ربّ فوقه فلا عبادة أيْ طاعة إلا لي وليس الأمر كما يَدَّعِي موسى أنَّ لكم إلهاً غيري تعبدوه
ومعني " فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴿25﴾ " أيْ فسبب تكذيبه الفظيع هذا عاقَبَه الله ونَكَّلَ به – أيْ عَذّبَه عذاباً شديداً جَعَله عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به – نَكَالَ الآخرة أيْ عذاب الآخرة بأشدّ أنواع العذاب المُتنوِّع الذي لا يُوصَف في النار ، مع نَكَال الأولي أيْ عذاب الدنيا بأفظع صور الإِغراق في الماء
ومعني " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴿26﴾ " أيْ إنَّ في ذلك الحديث الذي ذَكَرْناه عن موسي وفرعون بكل تأكيدٍ عِظَة عظيمة ودروس مُسْتَفَادَة كثيرة لمَن يخشي الله سبحانه أيْ يَخافه ويخاف عذاب الدنيا والآخرة – والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فيَدْفَعه هذا إلي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه ، فمِثْله فقط هو الذي ينتفع بهذه العِبَر فيَسعد في الداريْن ، أمّا غيره مِمَّن لا يَخْشَوْن الله فلا يَتَّبِعون الإسلام فإنهم لا يَنتفعون قطعا ويَتعسون فيهما لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴿27﴾ " أيْ هل أنتم أيها الناس أقوي وأعظم وأصعب في الخَلْق في تقديركم أم خَلْق السماوات – والأرض – التي بناها بقُدْرته أيْ أوْجَدها وأنشأها الله خالقكم سبحانه ورفعها فوقكم كالبناء والسَّقْف بإحكامٍ وإتقانٍ بلا أيّ خَلَلٍ بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ ؟! إنَّ خَلْقها بالتأكيد هو أشدّ مِن خَلْقكم وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما أنتم تتغيَّرون وتَمرضون وتَضعفون وتَشيخون وتَموتون فهي إذَن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منكم ، فهل الذي خَلَقَ الأكْبَرَ لا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ وهو أنتم أيها الناس !! وفي هذا دليلٌ ضِمْنِيٌّ علي قدْرته التامّة سبحانه علي بَعْثهم يوم الحساب من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لأنه إذا كان خَلْقهم أهْوَن وأقلّ كثيرا هكذا مِن خَلْق السماوات والأرض فإنّ إعادة خَلْقهم سيكون أكثر سهولة حيث الموادّ موجودة والطريقة أصبحت معروفة !! والله تعالي يَستويِ قطعا عنده الصعب والسهل والبدء مِن عدمٍ والإعادة فكله يكون بقول كن فيكون كما يريد ولكنه يُخاطِب البَشَر بما تفهمه عقولهم !! فمَن يَسْتَبْعِد ويَسْتَغْرِب البَعْث لماذا لا يُصَدِّقه إذن ؟! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا العمل بخُلُق التواضع وعدم التكَبُّر والتعَالِي علي الآخرين وظلمهم لأنه إذا كنتم يابني آدم ترون واقعيا أنكم لا شيء يُذْكَر بالنسبة للكوْن فلماذا تتكَبَّرون إذَن ؟! .. هذا ، والاستفهام والسؤال هو للتقرير أيْ لكي يُقِرّ به كل العاقِلون المُنْصِفون العادِلون حينما يُذَكَّرون به فهُم لا يَملكون إلا الاعتراف بذلك
ومعني " رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ " ، " وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ " أيْ هذا بعضُ تفصيلٍ لكيفية أنه سبحانه قد بَنَاهَا ، بإعجازٍ تامٍّ مُبْهِرٍ ، لبيان تمام قُدْرته وكمال علمه سبحانه ، فقد رَفَعَ سَمْكَها أي أعلي سقفها فوقكم وبناءها وسُمْكَها فجعلها مستوية ليس فيها أيّ خَلَل أو عَيْب أو بروز أو انخفاض بكل إحكامٍ وإتقانٍ بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ مُفِيدة مُسْعِدَة لكم .. " وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ " أيْ وأظلم ليلها بغروب الشمس وأظهر نهارها بشروقها
ومعني " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿33﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر تمام قُدْرته وكمال عِلْمه في أرضه سبحانه بعد بيانها في سمائه ، أيْ والأرض بعد كل ذلك الخَلْق البديع للسماء بَسَطَها وأوْسَعها علي هيئة بيضة لتسكنوا فيها وتستقرّوا عليها وتُعَمِّرُوها وتنتفعوا وتسعدوا بخيراتها التي لا تُحْصَيَ .. " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ " أيْ وأخرج منها ماءها الذي يَحيا به كل حيّ عن طريق تفجير العيون والآبار وتسيير الأنهار والبحار وأخرج منها أيضا مَرْعَاها أىْ نباتها بكل أنواعه الذي يعيش به الناس والدوابّ .. " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ " أيْ وكذلك الجبال أثْبَتها فيها حتى لا تضطرب وتتزلزل بهم فيَنعمون بالاستقرار عليها ويَسعدون بما فيها .. " مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿33﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ بفضل الله تعالي وكرمه الذي لا يُحْصَيَ علي خَلْقه ليعبدوه ويشكروه ويتوكّلوا عليه وحده ليسعدوا في الداريْن .. أيْ خَلَقَ سبحانه كل ذلك في الكوْن كله بكل هذا الإبداع والخير ليكون متاعا لكم تتمتعون وتنتفعون وتسعدون به أنتم وأنعامكم والتي بقُوَّتها تُعينكم وتُفيدكم وتُسعدكم ، وذلك إلى وقت مُحَدَّدٍ ثم تتركون هذا المتاع بانتهاء أعماركم ويَنتقل المُحسنون منكم لمتاع الآخرة الخالد الذي لا يُوصَف
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴿34﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ﴿36﴾ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ﴿37﴾ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿38﴾ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿39﴾ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿41﴾ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42﴾ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ﴿44﴾ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴿45﴾ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴿34﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ﴿36﴾ " أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد ، وذلك لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ فيُحسن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. أيْ فحينما تأتي وتَحْدُث المُصيبة العظمي ، الآخرة ، القيامة – وسُمِّيَت بذلك من الطّمّ أيْ الغَمْر ، لأنَّ أحوالها تَغْمُر الناس وتَغْلِب عليهم فتجعلهم لا يفكرون في أيِّ شيءٍ غيرها – حينها تَحْدُث الشدائد والأهوال علي المُكَذّبين بها .. " يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، هو يوم يَتَذَكَّر كلّ إنسانٍ ما عملَ وقالَ في دنياه من خيرٍ أو شرٍّ من خلال كتاب أعماله الذي يُسَلَّم له يومها فيُذَكِّره بها كلها بتفاصيلها بكل دِقّةٍ وصدقٍ وعدلٍ وقد كان نَسِيَها من طول المدة وكثرتها ، وليس له حينها إلا أنْ يتذكّرها كلها تماما ويَعترف بها .. " وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ﴿36﴾ " أيْ فإذا جاءت الطّامَّة الكبرى وتَذَكَّر الإِنسان ما سَعَيَ وأُظْهِرَت النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل إظهاراً واضِحَاً بلا أيِّ خَفَاءٍ علي أيِّ أحدٍ لكلِّ مَن يَنْظُر ، حينها كان الهَوْل الأعظم علي المُكَذّبين ، فالمُكَذّب يَراها قبل دخولها كمزيدٍ من التعذيب له ، والمؤمن يراها أيضا قبل دخوله الجنة ليزداد حمداً لله أن نَجَيَ مِن عذابها
ومعني " فَأَمَّا مَنْ طَغَى ﴿37﴾ " ، " وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿38﴾ " ، " فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿39﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لأحوال الناس فى ذلك اليوم ، فأمَّا مَن طَغَيَ أيْ ظَلَمَ وبَالَغَ في الظلم وتجاوَزَ كل الحدود فيه وفي الفساد والكفر والاسْتِكْبار واسْتِعْباد الخَلْق حيث فَعَلَ الظلم بكل أنواعه سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. " وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿38﴾ " أيْ وقَدَّمَ وفَضَّلَ واختارَ مُتَعَ الحياة الدنيا الزائلة فقط دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف فهو لا يريدها ولا يعمل لها سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسيا لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يُشبههم ولم يُحسن طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد الله اللطيف سبحانه من عباده وكما يريده إسلامه منهم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) بل قد استمتعَ بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واختار معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلَها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبه للآخرة لأنه قد نَسِيَها مُطْلَقَاً أو لا يُصَدَّق بها مِن الأصل .. " فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿39﴾ " أيْ فالنتيجة الحَتْمِيَّة لذلك بكل تأكيدٍ هي أنَّ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل ستكون هي المَسْكَن والمَقَرّ الذي يَأْوِي إليه أمثال هؤلاء ويستقرّون فيه فما أسوأ هذا المَأوي الذي ليس هناك أسوأ منه ، وذلك بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40﴾ " ، " فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿41﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمَّا مَن أحسنَ التَّعامُل مع مَقام خالِقه العالِي العظيم فأحسنَ اللجوء إليه والتوكّل أيْ الاعتماد عليه والتمسّك والعمل بوصاياه كلها في شرعه وأحبه وطلب رعايته ورضاه وحبه وأمنه وتوفيقه ورزقه وقُوَّته ونصره وسعادته في دنياه واتَّخذه وَلِيَّا لأموره يُديرها له علي أكمل وجهٍ مع إحسان اتِّخاذه لأسباب ما يريد في حياته ، وهو مع كل ذلك يخاف مقام ربه أيْ رقابته عليه فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرّ ، كما يخاف المقام بين يديه يوم القيامة فيُحسن الاستعداد لذلك بالتمسك والعمل بكل أخلاق إسلامه ليدخل أعلي درجات جناته ، ونَهَيَ النفس عن الهَوَيَ أي مَنَعَ نفسه عن الشرور والمَفاسد والأضرار فلا يفعلها وذلك بإحسان استخدام عقله ، فالنتيجة الحَتْمِيَّة لمِثْل هذا بكلِّ تأكيدٍ أنَّ الجنة ستكون هي المَسْكَن والمَقَرّ الذي يَأْوِي إليه ويستقرّ فيه فما أحسن هذا المَأوي الذي ليس هناك أعظم وأسعد منه حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني " يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42﴾ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ﴿44﴾ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴿45﴾ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴿46﴾ " أيْ كلّ الناس يَستَفْسِرون ويَسْتَخْبِرون ويسألون المسلمين وغيرهم عن ما هي الساعة وأيّ وقتٍ يكون إرْساؤها أيْ استقرارها وثبوتها وحُدوثها ، كما تُرْسِيِ السفينة علي المَرْسَيَ عند نهاية رحلتها ، وهل هي صدق أم كذب ونحو هذا من أسئلة مختلفة ، فالمسلمون يسألون عنها لكي يُحسنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وليَحْيُوا حياتهم مُتَعَلّقِين بها مُتَشَوِّقين لخيراتها ولسعاداتها ، والمُكذبون والمُعاندون والمُستكبرون والمُستهزؤن ومَن يشبههم يسألون عنها اسْتِبْعادَاً لها وتكذيبا لحدوثها وسُخرية منها ، والمُتَرَدِّدون بين الإسلام وغيره من الأنظمة والأديان يسألون عنها لعلهم يَتَثَبَّتُون ويهتدون للخير وللسعادة ، وهكذا .. والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها .. " فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ " ، " إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ﴿44﴾ " أيْ في أيِّ شيءٍ أنت من ذكراها أيْ ليس عندك من علمها أي شيء حتي تذكرها لهم ، إلى ربك وحده منتهي علمها متى يكون لا يعلمها غيره سبحانه أي إلي ربك وحده مُرْساها أي علم وقت رسوها أي استقرارها ومجيئها وثبوتها لأنه وحده لا غيره العليم علما تاما بالوقت الذى ستقوم فيه .. أي رُدُّوا علي السائلين أيها المسلمون وقولوا لهم إنّ وقتها في علم الله تعالي وحده ، وحتي رسله الكرام لم يعلم أيّ أحدٍ منهم موعدها ، وهذا مِن رحمته سبحانه وحبّه لخَلْقه ، لكي يَتوَقّعوها في كلّ وقت فيُحسنوا الاستعداد الدائم لها بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ فيسعدوا بذلك ، ومَن يَدري ويعلم فلعل موعدها أو موعد ساعة السائل قريب ، أي نهاية أجله في الحياة وموته قد اقترب ، ومَن ماتَ فقد جاءت ساعته وقامت قيامته ، حيث الموت يأتي فجأة وكل ما هو آت فهو قريب حتما حتي لو تُوُهِّمَ أنه بعيد .. ثم مِن رحمته كذلك بعدم إعلام أحدٍ بها أو بموعد موته أنه لو كان أحدٌ يعلم ما يَحدث في اللحظة المستقبلية لَفَقَدَ الإنسان هِمَّته ونشاطه ولَقَعَدَ يَنتظر ما يعلمه أنه سيَحدث له !! ولَفَقَدَ بالتالي مُتعة الحياة وتنافسها والانطلاق والسعي فيها واستكشافها والتمتُّع بخيراتها والسعادة بها هي والآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها باستصحاب نوايا خيرٍ بعقله عند كل أقواله وأفعاله الدنيوية .. إنه مِن الحِكمة عدم السؤال عن توقيتها بل السؤال عن كيفية الاستعداد لها ، بالعمل بكلّ أخلاق الإسلام وبحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. " إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴿45﴾ " أيْ ليس أبداً مهمّتك الإعلام بموعدها وإنما هذه فقط هي مهمّتك يا رسولنا الكريم ومهمّة المسلمين مِن بَعْدك – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم مُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مُوَضِّحَاً لكل الناس ما أمكن حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة ، ومُحَذّرا الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم ، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم .. هذا ، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا حتما مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق بعض الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذّبين المُصِرِّين علي تكذيبهم .. " .. مَنْ يَخْشَاهَا ﴿45﴾ " أيْ مَن يخاف الساعة هو فقط الذي سيَنتفع بهذا الإنذار حيث سيَدْفعه حتماً إلي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه فيَسعد في الداريْن ، أمّا غيره مِمَّن لا يَخْشَوْنها أو يَتشكّكون فيها أو يَسخرون منها أو لا يُصَدِّقونها أو نحو هذا وبالتالي هم لا يَتَّبِعون الإسلام لأنه لا آخرة ولا حساب من وجهة نَظَرهم فإنهم لا يَنتفعون قطعا ويَتعسون فيهما لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴿46﴾ " أيْ عندما يَرَوْنَها أيْ يَرَيَ المُكَذّبون بالساعة قيامها وهَوْلها وعذابها الذي كانوا يُوعَدون به في دنياهم وكانوا يُكَذّبونه ويَنْزِل بهم واقعيا في النار حينها سيَستشعرون كأنهم لم يَبْقُوا في حياتهم الدنيا إلا وقتا قليلا جدا كأنه مثلا عَشِيَّة يومٍ وهى الوقت بين الظهر والغروب أيْ أواخِر اليوم أو ضُحَيَ هذه العَشِيَّة الذي يأتي بعدها وهي الوقت من طلوع النهار إلي الظهر أيْ أوائل اليوم أيْ لم يَلبثوا إلا كجزءٍ مِن يومٍ بما يَدلّ علي استصغار مدة الحياة مهما طالَت لأنّ شدّة هذا العذاب والموقف تُنسيهم كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها .. وفي هذا مزيدٌ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ حيث تمام الحَسْرة والندم في وقت لن ينفعا فيه بشيء
عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿1﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿2﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿3﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿4﴾ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿8﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿9﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿10﴾ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿12﴾ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴿13﴾ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴿14﴾ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴿15﴾ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت من الذين يحرصون أشدّ الحرص علي دعوة جميع الناس إلي الله والإسلام علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ حيث كان يحزن أشدّ الحزن بإعراض مَن يُعرِض ويبتعد ، فطلب منه ربه الرحيم الودود أن يَتَوَازَن في هذا الأمر ، وأن يستمرّ في دعوته ، ولا ييأس من مثل هؤلاء البعض الذين قد لا يستحقون أحيانا من داعيهم للخير كل هذا الحزن عليهم ! لأنهم يعلمون صدقه وصدق ما يدعوهم إليه من الحق والخير ، ولكنهم مِن ظلمهم وعِنادهم ينكرونه وينحرفون عنه من أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فكن مثل رسولنا الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن متوازنا مستمرا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمدعوين حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام ، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس ، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا ، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا ، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم ، وانطلقوا في دعوتكم لهما ، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن ، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما
هذا ، ومعني " عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿1﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿2﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿3﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿4﴾ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿8﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿9﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿10﴾ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿12﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ للمسلمين الذين يَدْعُون لله وللإسلام بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة – وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌّ منهم مع حرصه الشديد علي دعوة جميع الناس وحبه العظيم لهم ليعملوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا مثله تمام السعادة في دنياهم وأخراهم أن يكون مِثْل الرسول الكريم ﷺ مُتَوَازِنَاً في دعوته لهم مُحْسِنَاً في تصنيفهم مِن حيث درجة إقبالهم وكيفية معاملتهم مُوسِعَاً جهده وفِكْره وصبره للجميع داعياً كلاّ منهم بما يُناسب أحواله وظروفه وبيئته وثقافته (برجاء لمزيدٍ من التفصيل مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة﴾ مُجْتَهِدَاً ألاّ يَصِل إلي المرحلة التي يُعَاتِب فيها الله تعالي الدعاة إذا وَصَلُوا إليها أحيانا حينما تَكْثُر عليهم جهود الدعوة والتَّعامُل مع المَدْعُوِين وهي مرحلة " عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿1﴾ " ، " أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿2﴾ " أيْ تَغَيَّرَ وَجْهُه وكَشَّرَ جَبِينَه بما يُظْهِر بعض الضِّيق مِن تَصَرُّفات مَن يَدْعوه ، وتَوَلّي عنه أيْ أعطاه ظَهْره والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ وتَرَكَه وأهمله ، وذلك بسبب أنْ أتَاهُ مثلا مَدْعُو أعمي أو جاهل أو فقير أو مَن يُسِيء التَّصَرُّف أو القول أو مَن يُشبه هؤلاء مِمَّا يَصعب حَصْره مِن أحوال الناس الذين يحتاجون الصبر عليهم لتعريفهم بربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿3﴾ " ، " أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿4﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ يَجعلك دَارِيَاً عالِمَاً بحقيقة أمره أيها الداعي إلي الله والإسلام حتي تَتَوَلّي عنه فلعلّ هذا المَدْعُو الذي قد عَبَسْتَ في وجهه وتَوَلّيْتَ عنه يَتَزَكَّي أيْ يَتَطَهَّر من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأن يعمل بأخلاق الإسلام فيَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيَسعد – والتزكية هي التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات – ويَتَذَكَّر ما كان في غَفْلَةٍ عنه ويَتَّعِظ ويَنتفع بما سَتُذَكِّره به من ذِكْرَيَ وعِظَة مِن كل خيرٍ في الإسلام ، لو كنتَ صَبَرْتَ عليه وأحسنتَ دعوته بما يناسبه ، فتنالَ بذلك أعظم الثواب ، فإنَّ الذي يُيَسِّر أسباب الهداية للناس ويهديهم إليها هو الله تعالي خالقهم وما أنت إلا سبب من هذه الأسباب ، فلو دَرِيتَ كلّ هذا وتَنَبَّهْتَ له لَمَا حَدَثَ ذلك منك .. " أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾ " ، " فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾ " ، " وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾ " أيْ أمَّا مَن كان مُسْتَغْنِيَاً عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار .. " فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾ " أيْ فأنتَ تُقْبِل عليه وتَتَقَدَّم إليه وتَتَعَرَّض له وتَهْتَمّ بدعوته لله وللإسلام ، وكان مِن المُفْتَرَض ألاّ تَهتمّ به إلاّ بالقَدْر الذي يُناسبه علي حَسَب تقديرك لحاله ، لأنَّ الإقبال على المُعْرِض قد يكون فيه تضييع للجهود والأوقات فيكون من الأفضل توفيرها لغيره .. " وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾ " أيْ وأىّ شيءٍ عليك إذا لم يَتَطَهَّر بالإسلام ؟! لا شيء عليك مطلقا أيها الداعي في ألا يَتَزَكَّيَ مِثْل هذا من سُوئه ويَبْقَيَ علي حاله مُصِرَّاً عليه ، فلستَ مُحَاسَبَاً علي ما عمل مِن سوء ، فكلٌّ يَتَحَمَّل نتيجة عمله ، ما دُمْتَ قد أحسنتَ دعوته بما يُناسبه قَدْر استطاعتك .. " وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿8﴾ " ، " وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿9﴾ " ، " فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿10﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَذْكِرَة الدعاة بأن يكون كلٌّ منهم مِثْل الرسول الكريم ﷺ مُتَوَازِنَاً في دعوته للمَدْعُوين مُحْسِنَاً في تصنيفهم مِن حيث درجة إقبالهم وكيفية معاملتهم مُوسِعَاً جهده وفِكْره وصبره للجميع داعياً كلاّ منهم بما يُناسب أحواله وظروفه وبيئته وثقافته مُجْتَهِدَاً ألاّ يَصِل إلي المرحلة التي يُعَاتِب فيها الله تعالي الدعاة إذا وَصَلُوا إليها أحيانا حينما تَكْثُر عليهم جهود الدعوة والتَّعامُل مع المَدْعُوِين وهي مرحلة أن يَنشغلوا عن الحريص علي الخير السَّاعِي إليه بل عليهم قَدْر استطاعتهم الاهتمام به وحُسن دعوته وتوجيهه إلي مزيدٍ من الخير ومساعدته عليه ونحو هذا مِمَّا يُعينه علي مزيدٍ من القُرْب لربه والعمل بأخلاق إسلامه .. أيْ وأمَّا مَن جاءك أيها الداعي ، مِن المَدْعُوين يَسْعَيَ أيْ يُسْرِع إليك باهتمامٍ وحِرْصٍ لطَلَب العلم والخير والعوْن علي فِعْله ، وهو يخشي أيْ وحاله أنه مِمَّن يخشي الله تعالي – والخَشْيَة هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فلذلك هو يسعي ويتحرك مُجتهدا طَالِبَاً كلّ خيرٍ يُسعده في دنياه وأخراه ويُنْجِيه من عذابهما ، فأنت عنه تَلَهَّيَ أيْ تَتَشَاغَل فلا تُعطيه الاهتمام الذي يَسْتَحِقّه .. " كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ " ، " فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿12﴾ " أيْ لا ، لا تفعلوا ذلك ، فليس الأمر كما قد تفعلون أحيانا أيها الدعاة لله وللإسلام من العُبُوس أو التَّلَهِّي عَمَّن يأتي إليكم يَسْعَيَ أو التَّصَدِّي لمَن اسْتَغْنَيَ أو ما شابه هذا بل عليكم حُسْن التَّوَازُن بين جميع الناس عند دعوتهم (برجاء مراجعة ما سَبَقَ ذِكْره للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومن معاني كلاَّ أيضا هنا أيْ حقّاً إنها تذكرة .. " .. إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ " أي إنَّ هذه الآيات الكريمة في هذه السورة وفي القرآن العظيم كله هي بكل تأكيدٍ تَذْكِرَة وذلك لأنَّ فيها كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيها الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن .. " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿12﴾ " أيْ فمَن أراد تمام الانتفاع والسعادة بالقرآن العظيم في دنياه وأخراه والنجاة من التعاسة فيهما فعليه أن يكون عاقلا ويُحسن استخدام عقله ويتذَكّره ويقرأه ويتذاكره ويتدارسه بكل تَدَبّر وتَعَقّل وتَعَمّق ويعمل بكل أخلاقه ليَصلح ويَكمل ويَسعد تمام السعادة في الداريْن حيث ينال حب ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة .. إنه مَن كان يريد ذلك بحقٍّ فالأمر سَهْل مَيْسُور مُسْتَطَاع فلْيَفْعَله إذَن بلا إبْطاءٍ أو تَرَدّد لأنه قد تَهَيَّأ له تماما فِعْله بهذه التذكرة ، بتَذَكّر هذا القرآن العظيم ، فلم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْر .. ومَن لم يَشَأ فلْيَتَحَمَّل نتيجة اختياره وسيَنال حتما كل تعاسة في الدنيا والآخرة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره
أمَّا معني " فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴿13﴾ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴿14﴾ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴿15﴾ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴿16﴾ " أيْ هذا مدحٌ للقرآن العظيم لمزيدٍ من تعظيمه والتمسّك والعمل بأخلاقه ، أيْ إنَّ آيات القرآن التي هي تَذْكِرَة هي مُثْبَتَة موجودة فى صحفٍ مُكَرَّمَة أيْ مُعَظَّمَة عند الله تعالى لأنها تحمل كلامه وآياته وهذا هو سبب كرامتها وعظمتها ، وهذه الصحف أيضا مرفوعة أىْ عالية القَدْر والقيمة والمَكَانَة ذات مَنْزِلَة رفيعة بما تحمله من خيراتٍ وإرشاداتٍ مُسْعِدَاتٍ ومُطَهَّرَة أىْ مُنَزَّهَة أيْ مُبْعَدَة عن كل نقصٍ حيث لها الكمال في كل شيء ، وهى موجودة ومحمولة ومُصَانَة ومحفوظة تمام الحفظ بأيدي سَفَرَة وهي الملائكة الكريمة الأمينة الحفيظة عليها التي كرَّمها خالقها بأن جعلها سُفراء بينه وبين رسله تحمل أمانته وهي الإسلام بكل أمانة لهم ليُبَلِّغوها للناس – جمع سافِر بمعنى سفير أىْ رسول ووَاسِطَة – لأنَّ من صفاتها أنها كرام بَرَرَة أي خَيِّرَة كريمة مُتَرَفّعَة عن فِعْل المعاصي مُطِيعَة صادقة ، جمع بَارّ وهو المُطيع الصادق
قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴿17﴾ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴿18﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿19﴾ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴿20﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴿21﴾ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴿22﴾ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴿23﴾ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ﴿24﴾ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴿25﴾ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴿26﴾ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴿27﴾ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ﴿28﴾ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴿29﴾ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴿30﴾ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴿31﴾ مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴿17﴾ " أيْ لُعِنَ الإنسان الكافر ، ما أكفره أيْ ما أشدّ كفره بربه ونُكْرانه لنِعَمه ! ما أعجب حاله الشديد السوء هذا ! وأيضا ما أكفره بمعني ما الذي حَمَلَه عليه ودَفَعَه إليه رغم أنَّ له عقل وفطرة وكل الكوْن حوله يدلّ علي عظمة خالِقه ؟! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) والاستفهام لذَمِّه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ؟! أيْ اسْتَحَقّ بكفره هذا الهلاك – والكفر هو التكذيب بوجود الله تعالي وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته ونار – أي قَتَلَ الله هذا العَنِيد المُكَذّب إذا استمرّ علي تكذيبه وعِناده دون عودةٍ لربه ولإسلامه ، أيْ سيَقتله عاجلا أم آجلا حيث يَرَيَ أنْسَبَ توقيتٍ لذلك أيْ سيُعذّبه وسيهلكه وسيَلعنه أيْ سيَطرده من رحمته في دنياه قبل أخراه بسبب شروره ومَفاسده وأضراره ، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة لسوء أقواله وأعماله ، ولذا فهو في تمام التعاسة في الدنيا والآخرة ، فلا يَتَشَبَّه أبدا به أيّ أحدٍ حتي لا يكون مصيره مثله
ومعني " مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴿18﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿19﴾ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴿20﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴿21﴾ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴿22﴾ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴿23﴾ " أيْ ألَاَ يَتَذَكَّر هذا الإنسان الكافر حقيقة أصله ومِن أيِّ شيءٍ خَلَقَه ربّه الذي يَكفر به ؟! خَلَقَه من نُطْفَة – أيْ حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مَهِينٍ مِن مَنِيِّ رَجُلٍ يُمْنَيَ منه أي يُدْفَع ويُقْذَف إلي رَحِم أنثي ليتَّحِدَ مع بُوَيْضَة مِن مِبْيَضها – فقَدَّرَه أطواراً مُتَعَدِّدَة داخل الرحم حتي أصبح إنسانا وكلها مُقَدَّرَة أي مَوزونة ومُحْكَمَة ومَحْسوبة دون أيّ عَبَثٍ وبكل تمامٍ وكمال ، ثم السبيل سَهَّلَه له أيْ الطريق للخروج للحياة من بطن أمه وأيضا يَسَّرَه للسبيل أثناء حياته ليسعد فيها ثم في آخرته أيْ سَهَّلَ له الطريق الصحيح المُسْعِدَ وهو طريق الإسلام حيث بَيَّنَ له طريق الخير من الشرّ والصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة وسَهَّلَ له التَّعَرُّف عليه بعقله والعمل به (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿3﴾ من سورة الإنسان " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، ثم بعد نهاية أجله الذي حَدَّده له فيها أماته بقَبْض روحه فلا يستطيع مَنْع ذلك فأدخله قبره ليُدْفَنَ فيه وهذا من تكريم الإنسان عموما سواء أكان مؤمنا أم كافرا حيث لم يجعله كسائر الحيوانات التي تموت على سطح الأرض فتتحول إلي جِيِفَة مُنْتِنَة مُسْتَقْذَرة من الناس ، ثم بعد كل ذلك إذا شاءَ سبحانه أيْ حين يريد أنْشَرَه – من الانتشار – أيْ أحياه وبَعَثَه بجسده وروحه بعد موته وكوْنه ترابا ونَشَرَه مع جميع الخلق المُنْتَشِرين يوم القيامة للحساب والجزاء وذلك في الوقت المحدّد له والذي لا يعلمه إلا هو تعالي .. فإذا كان هذا هو الحال فكيف لهذا الكافر أن يكفر ويَتَكَبَّر ويَستغني عن الله ؟! ألم يَتَدَبَّر في بدايته التي هي نطفة مهينة ونهايته التي هي تراب وما بينهما من ضعفٍ حيث يصيبه في أيِّ لحظة ما يُضعفه من مرضٍ أو فقرٍ أو نحوه ؟! .. إنَّ ما سَبَقَ ذِكْره يُوقِظ حتما أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ليُسارع بالعودة لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. " كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴿23﴾ " أيْ لا أيّها الإنسان الكافر ليس الأمر كما تفعل مِن تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وغَفْلة عن تَدَبُّر الكوْن حولك ونِعَم الله عليك فَارْتَدِع وتَرَاجَع وانْتَهِ عَمَّا أنت فيه .. ولفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه .. والسبب في هذا الردع الشديد من الله تعالي له أنه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَه أيْ لم يُؤَدِّ طوال حياته حتي موته ما أمره الله به من الإيمان به والعمل بأخلاق الإسلام ، لمصلحته هو لا لله حتما ، ليسعد بذلك في الداريْن .. ولَمَّا في اللغة العربية مِثْل لَمْ تُفيد النفي لكن مع الاستمرارية
ومعني " فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ﴿24﴾ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴿25﴾ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴿26﴾ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴿27﴾ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ﴿28﴾ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴿29﴾ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴿30﴾ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴿31﴾ مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿32﴾ " أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ من الخالق العظيم لكل إنسان ، وكذلك لكلّ كافرٍ تَحَدَّثَت عنه الآيات الكريمة السابقة ، لأنْ يكون مِن المُتَدَبِّرين في كل خَلْق الله تعالي فهذا سيزيده حتما يَقينا أيْ تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقه الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن .. ولأنْ يكون أيضا من الشاكرين له علي نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ ومن العابدين أيْ الطائعين له وحده بلا أيِّ شريك ، ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه .. " فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ﴿24﴾ " أيْ فلْيَتَدَبَّر الإنسان في طعامه المُتَنَوِّع الذي هو من أسس حياته كيف خَلَقَه تعالي ورَزَقه إيّاه ومَكَّنَه منه ، لكي يزداد يقيناً به وطاعة وشكراً له وتوكّلاً عليه .. " أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴿25﴾ " أيْ هذا بَيَانٌ لأَبْرَز خطوات تهيئة هذا الطعام ، أيْ نحن قد أنزلنا الماء من السماء علي الأرض إنزالا بكثرة .. " ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴿26﴾ " أيْ ثم بعد ذلك شققنا وفتحنا الأرض بالنبات الخارج النَّامِي منها شَقَّاً بديعاً حكيماً بحيث تخرج النباتات من داخلها خروجا تدريجيا مُعْجِزَاً مُفيداً مُسْعِدَاً .. " فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴿27﴾ " أيْ فبعد أن كانت مَيِّتة هامِدة مَلْساء لا نبات فيها أنبتنا وخَلَقنا فيها وأخرجنا منها بتمام قدرتنا وكمال علمنا كل النباتات والحبوب التي تَنفع الإنسان وغيره وتُسعدهم بكل المنافع والتي منها الأكل والدواء وغيره .. " وَعِنَبًا وَقَضْبًا ﴿28﴾ " أى وأنبتنا فيها أيضا بقُدْرتنا ورحمتنا ثَمَر العنب بكل أنواعه والمعروف بطعمه الطيّب ، وكذلك قَضْبَا وهو كل ما يُقْضَب أي يُقْطَع ليُؤْكَل من النباتات .. " وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴿29﴾ " أيْ وكذلك أشجار الزيتون والنخيل والتي تُثْمِر زيتوناً وتَمْرَاً بأنواعٍ مختلفةٍ طيّبة الطعم والنفع .. " وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴿30﴾ " أيْ وأيضا بساتين كثيفة الأشجار من كل الأنواع المُفيدة المُسْعِدَة ، جَمْع غَلْبَاء أيْ عظيمة غليظة .. " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴿31﴾ " أيْ وأنبتنا ثماراً يُتَفَكَّه أيْ يُتَلَذّذ ويُتَمَتَّع بها كمختلف أنواع الفواكه التي تُؤْكَل ، وأبَّاً أيْ عُشْبَاً تأكله البهائم لتنتفعوا بلحومها وجلودها وألبانها وغير ذلك من منافعها .. " مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿32﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ بفضل الله تعالي وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ علي خَلْقه ليعبدوه ويشكروه ويتوكّلوا عليه وحده ليسعدوا في الداريْن .. أيْ خَلَقَ سبحانه كل ذلك في الكوْن كله بكل هذا الإبداع والخير ليكون متاعا لكم تتمتعون وتنتفعون وتسعدون به أنتم وأنعامكم والتي بقُوَّتها تُعينكم وتُفيدكم وتُسعدكم ، وذلك إلى وقت مُحَدَّدٍ ثم تتركون هذا المتاع بانتهاء أعماركم ويَنتقل المُحسنون منكم لمتاع الآخرة الخالد الذي لا يُوصَف
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿33﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿34﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿35﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿36﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿37﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ﴿38﴾ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴿39﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴿40﴾ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿33﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿34﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿35﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿36﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿37﴾ " أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد ، وذلك لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ فيُحسن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. أيْ فحينما تأتي وتَحْدُث الصَّاخَّة ، الآخرة ، القيامة ، والصاخة هي الصَّيْحَة العظيمة التى بعدها يخرج الناس من قبورهم للحساب والجزاء وسُمِّيَت بذلك لأنها تكاد تَصُخّ الآذان أيْ تَصُمّ الأسماع لشِدَّتها ، حينها تَحْدُث الشدائد والأهوال علي المُكَذّبين بها .. " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿34﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿35﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿36﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿37﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، هو يوم يهرب الإنسان مِن أقْرَب وأحبّ الناس إليه لشِدَّة انشغاله بحاله وذهوله بالفظائع حوله ، كأخيه وأمه وأبيه وزوجته وأبنائه – ومن باب أوْلَيَ غيرهم – حيث لن ينفع أحدٌ أحداً بأيِّ شيءٍ غير ما عمل من خيرٍ في دنياه ، لأنه سيكون لكل إنسانٍ منهم يومها شأن أيْ حال خاصّ به يُغنيه أيْ يَكفيه ويَشغله ويَمنعه عن الانشغال بغيره
ومعني " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ﴿38﴾ " ، " ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴿39﴾ " أيْ وجوه السعداء ، أهل الجنة ، يومها ، مُسْفِرَة أيْ مُسْتَنِيرة مِمَّا عليها من نور السعادة ، مُبْتَسِمَة مسرورة فَرِحَة مُنْتَظِرَة لكل خيرٍ وسعادة من ربها الكريم
ومعني " وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴿40﴾ " ، " تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾ " ، " أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴿42﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ ووجوه التُّعَسَاء ، أهل النار ، يومها ، عليها غَبَرَة أيْ غُبار وسَواد من شدّة الهَمّ والغَمّ الذى يَعْلُوها .. " تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾ " أي تُغَطّيها ظُلْمَة تُشْبِه الدخان والتي تَظهر علي وجوه المُرْهَقِين مِن شِدَّةٍ وخوفٍ ونحوه وذلك بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وذلةٍ وعذاب .. " أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴿42﴾ " أيْ هؤلاء أصحاب تلك الوجوه هم الكافرون الفاجِرون الذين جَمَعُوا بين الكفر وهو التكذيب بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وبين الفُجُور وهو الانغماس في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكثرةٍ وبلا مُبَالاَةٍ لأيِّ نتائج .. فلا يَتَشَبَّه أبداً بهم أيّ أحدٍ حتي لا يكون مصيره مثلهم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿4﴾ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿5﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿6﴾ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿7﴾ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴿8﴾ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴿9﴾ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴿10﴾ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴿11﴾ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴿12﴾ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴿13﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !! .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿4﴾ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿5﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿6﴾ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿7﴾ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴿8﴾ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴿9﴾ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴿10﴾ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴿11﴾ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴿12﴾ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴿13﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴿14﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أحداث وأهوال يوم القيامة والمُتَغَيِّرات الهائلة التي تحدث فيه حينها ، فإذا حصلت هذه الأمور فقد حَدَثَ هذا اليوم الشديد علي المُكذبين المُسِيئين اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة ، ووقتها عَلِمَت كلّ نفسٍ من نفوس البَشَر ما قَدَّمته لهذا اليوم وما أحضرته فيه من خير أو شرٍّ فَعَلَته في دنياها ، فلِيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. هذا ، وتكرار لفظ " إذا " والذي هو في اللغة العربية حرف شرط يحتاج إلي جواب له هدفه التشويق والانتظار لهذا الجواب حتي إذا جاء وسمعه المُسْتَمِع استقرّ في عقله تماما ، وجواب الشرط هنا هو في الآية الكريمة " عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴿14﴾ " .. ومعني " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ " أيْ إذا لُفّتْ كالكرة المُستديرة وأُلْقِيَت وأذْهِبَت فلم يَعُدْ لها أثَرَ ولا ضوء .. " وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿2﴾ " أيْ وإذا انْطَمَسَ نور النجوم فلم تَعُدْ تَلْمَع وصافية كما كانت وذلك لذهاب ضوء الشمس الذي كانت تعكسه كما أنها تتناثَر وتَتَسَاقَط بعد تكوير الشمس واختلال نظام التَّجَاذُب بين الكواكب " وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿3﴾ " أي وإذا الجبال أذْهِبَت وحُرِّكَت وأُزِيلَت من أماكنها بعد تَفَتّتها .. " وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿4﴾ " أيْ وإذا النُّوُق – جَمْع نَاقَة – الحوامل تُرِكَت وأُهْمِلَت ، والعِشَار جمع عُشَرَاء وهي الناقة الحامل في عشرة أشهر وقارَبت علي أن تلد وتعني أنفس الأموال ، والمقصود أنَّ الناس لا يهتّمون بها رغم نفاستها عند حدوث يوم القيامة لانشغالهم التامّ بما هم فيه .. كذلك من معاني العِشَار أيْ السُّحُب الحامِلَة للأمطار والتي تُعَطّل يومها فلا تَسِير ولا تُمْطِر .. " وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿5﴾ " أيْ وإذا الوحوش جُمِعَت فأُمِيتَت كلها كعلامة من علامات بدء يوم القيامة ، والوحوش جَمْع وَحْش وهو الحيوان البَرِّيّ غير المُسْتَأْنَس من الإنسان كالأسد ونحوه .. كذلك من المعاني أنها تُحْشَر ليَظْهَر تمام العدل للناس حيث يرون يومها كيف يأخذ الخالق العادل الحقّ حتي من الحيوان الذي اعتدي علي غيره للذي تَمَّ الاعتداء عليه ثم يكون الجميع ترابا ولا يتبقي إلا البَشَر .. " وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿6﴾ " أيْ وإذا البحار أُشْعِلَت فصَارَت نارا ، لزيادة نار جهنم اشتعالا لتزداد عذاباً لمُستحِقّيها من أهل الشرّ .. " وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿7﴾ " أيْ وإذا الأرواح قُرِنَت وجُمِعَت بأجسادها ثم بكُتُبها التي فيها أعمالها ، وبأمثالها أيْ بمَن يُشبهها في الخير والشرّ فيكون أهل الخير معاً للجنة وأهل الشرّ معاً للنار ، ويشمل هذا الجَمْع أيضا زوجاتهم من نساء الدنيا إنْ كنّ شَبيهاتٍ بهم ، وكذلك جَمْع نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحُوُر العِيِن .. " وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴿8﴾ " ، " بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴿9﴾ " أيْ وإذا الطفلة المَدْفُونَة حَيَّة سُئِلَت يوم القيامة سؤال تطييبٍ وإكرامٍ لها وذمٍّ شديدٍ وتخويفٍ لوَائِدِها الذي وَأَدَهَا – أيْ أثْقَلَ عليها التراب ودفنها فيه وقتلها به حيث كان بعض العرب الجهلاء أصحاب التفكير المُخْتَلّ يَدفنون بناتهم أحياء لأنهم يعتبرونهن مخلوقات حقيرة لا تستحقّ الحياة بل هي تُذِلّها ولذا يجب التخلّص منهن لكي تصبح الحياة عزيزة كريمة ! – بسبب أيِّ ذنبٍ ارْتَكَبَته قُتِلَت لأجله ؟! بأىِّ سببٍ من الأسباب قَتَلَكِ قاتِلُك أيتها الموؤدة ؟! ولا شكّ أنها لم ترتكب ما تستحقّ عليه القتل ، والمقصود زيادة رُعْب قاتلها لأنه إذا سُئِلَ المظلوم فلا شكّ أنَّ هذا إرهاباً شديداً لظالمه وما ينتظره من سؤالٍ وحساب يُناسب ظلمه ! .. " وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴿10﴾ " أيْ وإذا الأوراق والكُتُب المُسَجَّل فيها أقوال وأفعال الناس التي قالوها وفعلوها في دنياهم من خيرٍ أو شَرٍّ والتي سَجَّلها عليهم الملائكة المُكَلَّفَة بذلك بكل صدقٍ وعدلٍ ودِقّةٍ وتفصيل ، نُشِرَت أيْ فُتِحَت وبُسِطَت بعد أن كانت مَطْوِيَّة وَوُزِّعَت وفُرِّقَت وعُرِضَت عليهم .. " وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴿11﴾ " أيْ نُزِعَت وأُزِيلَت من مكانها كما يُكْشَط أيْ يُنْزَع ويُزَال الجِلْد عن الذبيحة ، فلم تَعُدْ على هيئتها التى كانت عليها من كوْنها سَقْفَاً لما تحتها .. " وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴿12﴾ " أيْ وإذا النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل أُشْعِلَت بشِدَّة ليدخلها المُسْتَحِقِّين لها .. " وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴿13﴾ " أيْ وإذا الجنة دار النعيم الخالد الذي لا يُوصَف قُرِّبَت ليدخلها المُسْتَحِقّين لها ، أيْ جُعِلَت بالقُرْب من مكان حَشْرِهم بحيث لا تَعَب عليهم في الوصول إليها ، وفي ذلك تكريم وتشريف وحب لهم .. " عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴿14﴾ " أيْ إذا حَدَثَ كل ما سَبَقَ ذِكْره من أحداثِ يوم القيامة ، حينها عَلِمَت وتَبَيَّنَت كل نفس من نفوس بني آدم ما قَدَّمته لهذا اليوم وما أحضرته فيه من خيرٍ أو شرٍّ فَعَلَته في دنياها ، فلِيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴿15﴾ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿17﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿18﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿19﴾ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿20﴾ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿21﴾ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴿22﴾ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿23﴾ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴿24﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴿25﴾ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴿26﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿27﴾ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴿28﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴿15﴾ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿17﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿18﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿19﴾ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿20﴾ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿21﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ سابقا من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ فلا داعي أنْ أقْسِم إنه لقول رسول كريم ! وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! .. أيْ أقْسِم بالخُنَّس – جَمْع خانِس – وهي النجوم التي تَخْنَس أيْ تَختفي بالنهار وتظهر بالليل ، الجارية المُسْتَتِرَة في أبراجها والكُنَّس جمع كانِس والكُنُوس هو الاستتار ، والليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا ظَهَر ضِياؤوه بنَسَائِمِه المُفِيدَة المُسْعِدَة للكائنات فكأنه يَتَنَفَّس .. ولقد أقْسَمَ سبحانه بها للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ ما سَبَقَ ذِكْره من مخلوقات .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿19﴾ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿20﴾ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿21﴾ " أيْ إنَّ القرآن العظيم هو بكل تأكيدٍ تَبْليغ رسولٍ من الله تعالي كريم هو جبريل عليه السلام أيْ شريف نفيس في نوعه مُمَيَّز عن بقية الملائكة ، صاحب قوة في تنفيذ مهامه ، مَكِين أيْ صاحب مَكَانَةٍ رفيعة فوق بقية الملائكة عند ذي العرش أيْ صاحب المُلك والنفوذ والسلطان العظيم الكامل وهو الله تعالي ، مُطَاع أيْ تُطيعه الملائكة ثَمَّ أيْ هناك في السماوات ، أمين أيْ مُؤْتَمَن تماما على الوحي الذي ينزل به للرسول ﷺ بلا أيّ زيادة أو نقصان .. والمقصود بيان عظيم قَدْر القرآن عند الله تعالى حيث بَعَثَ به هذا المَلَك الكريم الموصوف بتلك الصفات الكاملة وذلك ليُعَظّمه الناس فيتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاقه .. هذا ، وعند بعض العلماء الآيات الثلاث تعني الرسول محمد ﷺ ، فهو كريم أيْ كامل الخُلُق ، ذو قوة من الله علي تبليغ الإسلام للعالمين ، وذو مكانة رفيعة عند ذي العرش سبحانه ، ومُطاع يُطيعه مَن أطاع الله تعالي ، وثَمَّ أيْ مُقَرَّر هناك عند الله في اللوح المحفوظ المُسَجَّل فيه علمه أن يُطاعَ فيما يَأمرُ به ، وأمين كامل الأمانة علي الإسلام
ومعني " وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴿22﴾ " أيْ وما رسولكم أيها الناس بمجنون ، أيْ وأُقْسِمُ أيضا كما أَقْسَمْتُ علي أنَّ القرآن العظيم لَقَول رسولٍ كريم أنَّ الرسول محمد ﷺ ليس أبداً بمجنونٍ كما يَدَّعِي كذباً وزوراً المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، فهُم مِن شِدَّة كراهيتهم له وللإسلام وسوء أخلاقهم يَطْعَنُون فيه ﷺ محاولين يائسين تشويه صورته وصورة القرآن الكريم لتنفير الناس عنه فلا يَقبلون منه دين الإسلام بقولهم كذبا وزورا وسوء أدبٍ أنه مجنون أىْ مُخْتَلِط في عقله لا يُدْرِك ما يقول بسبب ذِكْره للقرآن وعمله بأخلاقه !! .. وهم يعلمون تمام العلم أنه ﷺ هو الصادق الأمين كما كان يُطْلِق عليه المُصاحِبُون له في زمنه ذلك هم بأنفسهم ويعلمون أنه هو أحسنهم خُلُقاً !! كما أنه بالقطع ليس مجنوناً لأنَّ للمجنون صفات يعرفها الجميع كالتخريف وعدم الإدراك وسوء التصرّف ونحو ذلك .. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿23﴾ " أيْ وأيضا أُقْسِمُ لقد رأيَ رسولكم الكريم محمد جبريلَ بصورته الحقيقية التي خَلَقه الله عليها بالأفق المُبِين أيْ بالفضاء الذى يبدو للعين ما بين السماء والأرض المُبَيِّن المُظْهِر للأشياء التي تُرَيَ فيه بحيث لا تشتبه معه المَرْئِيَّات ولا يُوجَد أيّ مجالٍ للأوهام والتَّخَيُّلات ، والمقصود من الآية الكريمة تثبيت صِدْق الرسول الكريم ﷺ أمام كذب المُكَذّبين الذين كلما سمعوا أنه يُوحَيَ إليه بواسطة مَلَكٍ كذّبوه واستهزؤا به واتَّهموه ووصفوه كذباً وزُورَاً بالجنون وتَخَيُّل ما ليس بحقيقةٍ فنَفَيَ عنه سبحانه الجنون في الآية السابقة وأكَّدَ هنا أنَّ هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة لا مجال معها للتكذيب أو التشكيك
ومعني " وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴿24﴾ " أيْ وما رسولكم الكريم محمد ﷺ علي الغَيْب – وهو الوَحْي أيْ القرآن وغيره من الغيب وهو ما غابَ عن إدْراك الناس وحوَاسِّهم مِمَّا أخبره به الله تعالي ليُبَلِّغه لهم ليسعدوا به في الداريْن – بضَنِين أيْ ببَخِيل يَمنعه ويَكتمه عنهم كالبخيل ويُقَصِّر في تبليغه وتعليمه لهم بل بَلّغه ونَشَرَه وعَلّمه وأعطاه لكل أحدٍ على أكمل وأتمِّ وجهٍ بلا أيّ زيادةٍ أو نقصانٍ وبلا طَلَبٍ لأيِّ أجرٍ إلاّ مِن الله وبكل حرصٍ وصدقٍ وأمانةٍ وتضحيةٍ وبذلٍ وعطاءٍ وصبرٍ لأنه هو الرحمة للعالمين ﷺ .. هذا ، وهناك قراءة أخري " بِظَنِينٍ " أي بِمُتَّهَمٍ مِنَ الظِنَّة وَهِيَ التُّهْمَة ، أيْ هو ﷺ ليس مُتَّهَمَاً بزيادةٍ أو نقصانٍ في الوَحْي بل هو ثقة صادق تماما فيما يقوله عن الله تعالي .. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بتمام حفظه سبحانه للقرآن الكريم حيث وَصَل للناس تماما كما أنزله بلا أيِّ تحريفٍ حيث بَلّغهم إيَّاه رسولٌ كريمٌ صادقٌ أمين ، وفيها أيضا ردّ علي المُكَذّبين الذين قد يُشَبِّهونه ﷺ ظُلماً وزُورَاً أنه مثل الكَهَنَة الذين يدَّعون كذباً أنهم يعرفون الأشياء الغَيْبِيَّة المستقبلية ويَضِنّون بها ويَكتمونها ولا يُخبرون عنها إلا لمَن يُعطيهم أجرا كمالٍ أو غيره ! أو يَتَوَهَّمون أنه ﷺ سيَستجيب لطَلَبهم أنْ يَضِنَّ بمعني يَكْتُم بعض ما في القرآن مِمَّا يُسِيء لآلهتهم أو نحو هذا ! فيَرُدّ عليهم سبحانه أنه ما هو بضَنِينٍ أيْ بكاتمٍ شيئاً منه بل هو مُبَلِّغه كما هو كاملاً بكل أمانة
ومعني " وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴿25﴾ " أيْ وليس هذا القرآن العظيم أبداً بقول شيطانٍ رَجِيم أيْ مَرْجُوم يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوءٍ وعليه لعنة الله أي يُطْرَد ويُخْرَج مِن رحمته سبحانه وخيره في دنياه دائما إلي يوم الدين ، ولكنَّ القرآن هو كلام الله تعالي الذي أنزله علي رسوله الكريم ﷺ .. أيْ ليس الأمر مُطلقا كما يَدَّعِي المُكَذّبون كذباً وسَفَهَاً أنَّ الرسول ﷺ الصادق الأمين هو كاهِن أيْ يَدَّعِي كذباً أنه يعرف الغَيْب عن طريق اتصاله بمخلوقاتٍ خَفِيَّةٍ شَرِّيَّةٍ هي التي أوْحَت إلي تفكيره الشَّرِّيِّ فأخرج للناس هذا القرآن وادَّعَيَ أنه نزل إليه من عند الله وهو الذي أوحاه إليه !!! إنه لا يَصِحّ ولا يَصلح ولا يمكن أن يُعْقَل هذا مطلقا من هذه المخلوقات ! إذ كيف يَصِفونها أنها شيطانية أيْ شَرِّيَّة – والشيطان في لغة العرب هو كل مُفْسِد مُتَمَرِّد بعيد عن الحقّ وعن رحمة ربه – وهي التي حَفَّزَت ونَشَّطَت التفكير الشَّرِّيّ في عقل الرسول محمد ﷺ ثم هم يرون واقعا عمليا لا يُنكره أيّ مُنْصِف عادل أنَّ القرآن الكريم والرسول ﷺ ذا الخُلُق الكريم الكامل ليس فيهما أيّ شَرّ وتعاسة بل فيهما كل خيرٍ وسعادة ؟!! إنهم قطعا سفهاء مُخَرِّفون مُكَذّبون مُعاندون مُستكبرون مُستهزؤن مُرَاوِغُون .. إنه حتي لو فُرِضَ أنَّ هذه المخلوقات الشَّرِّيَّة أرادَت ذلك فإنها لن تستطيع بأيِّ حالٍ من الأحوال ولإثبات ذلك فليطلبوا من الكَهَنَة الذين عندهم والذين يَدَّعُون أنَّ لهم اتصالاً بهذه المخلوقات أن يأتوا بمِثْل هذا القرآن العظيم الذي أتَيَ به هذا الكاهِن محمد ﷺ !! إنَّ الله تعالي قد حفظ قرآنه وإسلامه تمام الحفظ كما أكَّد في الآية ﴿9﴾ من سورة الحجر " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾
ومعني " فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴿26﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لكم من أنَّ القرآن كلامنا ووحينا ومن صِدْق رسولنا فأين تذهب بكم عقولكم في التكذيب بالقرآن وبالرسول بعد هذه الحجَج القاطِعَة ؟! فأىّ طريقٍ أهْدَىَ وأسْعَد من هذا الطريق تسيرون فيه ؟! فأين تذهبون عن قرآن الله وعن طاعته ؟! إنه لا طريق لكم غير هذا الطريق الذى يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ! كما يُقالُ لتاركِ الطريق الصحيح إلي الطريق الخطأ إلي أين تذهب ؟! وفي هذا ذمّ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿27﴾ " أيْ ما هذا القرآن العظيم إلاّ تذكير للناس جميعا ، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن
ومعني " لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴿28﴾ " أيْ هذا الذكر العظيم ، القرآن الكريم ، إنما هو نافع فقط لمَن أراد منكم أيها الناس أن يستقيم ، أن يسير في الطريق المستقيم ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. فالذين استجابوا لإرشاد القرآن قد شاءوا هم لأنفسهم الاستقامة أولا بأن أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فاختاروا الإيمان بالله والعمل بأخلاق الإسلام فشاءها الله تعالي لهم بعد ذلك بأنْ يَسَّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. والآية الكريمة تُفيد ضِمْنَاً المدح والتكريم والتشريف لهم لأنهم هم الذين قد شاءوا الاستقامة ليَدفعهم للاستمرار فيما هم فيه من خيرٍ وسعادةٍ ويَدفع غيرهم ليكونوا مثلهم .. أمّا مَن لم يشأ الاستقامة فلا يشاؤها الله له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ومِثْل هذا لن ينتفع حتماً بهذا الذكر العظيم لأنه قد عَطَّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فالأمر إذَن اختياريّ لا إكراه فيه ! فلْيَخْتَر كلّ إنسانٍ ما شاء بكامل حرية إرادة عقله ولْيَتأكَّد أنه سيَتَحَمَّل قطعا نتيجة اختياره فإنْ اختار خيراً فله كل خير وسعادة في دنياه وأخراه وإنْ اختار شرَّاً فله كل شرّ وتعاسة فيهما
ومعني " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿29﴾ " أيْ ولكنَّ هذا التَّذَكّر والاتِّعاظ واتِّخاذ الطريق المستقيم وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئتكم وإرادتكم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله ربّ العالمين – أي مُرَبِّي جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه ، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم ، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه ، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه .. فمَن يشاء أن يستقيم ، يَشاء التذكّر بالقرآن العظيم والهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فإنَّ الله يَشاء له ذلك ويَأذن ، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ، فهو قد اختار هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَن استخدام عقله ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !! .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أحداث وأهوال يوم القيامة والمُتَغَيِّرات الهائلة التي تحدث فيه حينها ، فإذا حصلت هذه الأمور فقد حَدَثَ هذا اليوم الشديد علي المُكذبين المُسِيئين اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة ، ووقتها عَلِمَت كلّ نفسٍ من نفوس البَشَر ما قَدَّمته لهذا اليوم وما أحضرته فيه من خير أو شرٍّ فَعَلَته في دنياها ، فلِيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. هذا ، وتكرار لفظ " إذا " والذي هو في اللغة العربية حرف شرط يحتاج إلي جواب له هدفه التشويق والانتظار لهذا الجواب حتي إذا جاء وسمعه المُسْتَمِع استقرّ في عقله تماما ، وجواب الشرط هنا هو في الآية الكريمة " عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ " .. ومعني " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴿1﴾ " أيْ إذا انْشَقَّت وظَهَرَت فيها الشقوق والفَتَحَات واخْتَلَّ نظامها .. " وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴿2﴾ " أيْ وإذا النجوم وغيرها من الكواكب تَنَاثَرَت أيْ تَبَعْثَرَت وتَفَرَّقَت وتساقطت بسبب اختلال قوَيَ التَّجَاذب بينها .. " وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3﴾ " أيْ وإذا شُقَّت جوانبها الأرضية التي تُحيطها وتَفَجَّرَت وزالَت الحَواجِز بينها ففُتِحَ ماء بعضها في بعضٍ بشِدَّةٍ وغَزَارَةٍ وفيضان .. " وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4﴾ " أيْ وإذا المَقَابِر قُلِبَت ، أيْ انْقَلَبَ باطنها إلي ظاهرها وأسفلها إلي أعلاها وتَنَاثَرَت أتربتها وأُخْرِجَ موتاها منها ليُبعثوا أحياء بأجسادهم وأرواحهم لحسابهم .. " عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ " أيْ إذا حَدَثَ كل ما سَبَقَ ذِكْره من أحداثِ يوم القيامة ، حينها عَلِمَت وتَبَيَّنَت كل نفس من نفوس بني آدم – من خلال كتاب أعمالها المُسَجَّلَة فيه – بكل أقوالها وأفعالها صغيرها وكبيرها من خيرٍ وشَرٍّ في كل حياتها الدنيا ، ما قَدَّمته منها في أوّلها وما كان في آخرها ، وكذلك ما قَدَّمَت فيها وما أخَّرَت بعد موتها مِن سُنَّةٍ حَسَنَةٍ سَنّتها أو سَيِّئة عملتها فعمل بها آخرون اقتداءً بها وتَعَلّموها منها فلها أجرها أو عقابها عليها أيضا ، بكل تمامٍ دون نقصانٍ وبكل دِقّةٍ وتفصيل
أمَّا معني " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾ " أيْ يا أيها الإنسان العاصِي أيْ الذي لم يُطِع ربه فعَصَاه بصورةٍ مَا مِن صور العصيان سواء أكان كُفْرَاً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، ما الذي خَدَعَكَ ودَفَعَكَ للاستهانة بربك الكريم حتى تَجَرَّأْتَ هكذا على معصيته ؟! والاستفهام والسؤال للتَّعَجُّب من حاله ولرفضه ولعِتَابه إنْ كانت المعصية صغيرة ولِذَمَّه ذَمَّاً شديدا ولتهديده إنْ كانت كبيرة لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما علي قَدْر ابتعاده عنهما ، وذلك لأنه ربه أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه ، الكريم الذي لا يُحْصَيَ كَرَمُه وعطاؤه عليه وعلي كلّ خَلْقه ، وبالتالي فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل مُطلقا مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يُقَابِلَ كرم وعظمة ورحمة ووُدّ ربه الكريم العظيم الرحيم الودود الشديد العقاب في ذات الوقت للمُصِرِّين علي المعاصي أن يُقَابِلَه بأقوالٍ وأفعالٍ سيئةٍ بل المُفْتَرَض عقلاً ومَنْطِقَاً مُقَابَلَته بمزيدٍ من الطاعة والشكر والتوبة من أيِّ معصية أوَّلاً بأوَّلٍ لِتَتِمَّ له السعادة في الدنيا والآخرة ! ولكنَّ الذي غَرَّه هو كلّ ما يَغُرّ الإنسان أيْ يَخدعه ويَستغفله سواء أكان تفكيره الشرِّيّ أم مَن حوله مِمَّن يأخذونه للشرّ فيستجيب لهم بكامل حرية اختيار إرادة عقله أم نحو هذا ، أو غَرَّه أنَّ الله غفور رحيم كريم لا يُعذّب أحدا مثلا ! أو أنه تعالي يُخوّف فقط ولن يُنَفّذ ! أو ما شابه ذلك من خِدَاعَات والتي خَدَعَته فلم يَحْذَر ويُحْسِن الاستعداد للقاء ربه بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وهو الذي وَعْده صِدْقٌ لا يُخْلَف مُطلقا أنَّ مَن فَعَلَ ذلك فله حتما تمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه ، وكلّ ذلك الانخداع سببه الأساسيّ وأصله أنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ " ، " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التذكرة بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ علي الإنسان ومزيدٍ من العِتاب والتأنيب له لعله يستفيق ويعود له ولإسلامه ليسعد في الداريْن بَدَلاً أن يتعس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما .. أيْ يا أيها الإنسان ما غَرَّكَ بربك الكريم ؟! أليس هو الذي خَلَقَك أيْ أوْجَدَك من عَدَمٍ علي أحسن شكلٍ وهيئةٍ وحالٍ حيث سَوَّاكَ أيْ جعلك سَوِيَّاً أيْ سليما في كل قوَاك العقلية والجسدية خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعك ، وعَدَلَك أيْ جعلك مُعْتَدِلاً قائما لست علي أربع أرجل كالدوابّ ومُتَنَاسِبَاً مُتَنَاسِقَاً مُتَوَازِنَاً في أعضائك بلا تَخَالُفٍ فيها فليس هناك مثلا يد أو رجل أو أذُن أو عيْن أكبر من أخري أو نحو هذا ؟! .. لقد سَوَّاكَ بالعقل وعَدَلَكَ بالإسلام .. وكل ذلك لتسعد بالحياة حولك .. " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾ " أيْ وأيضا أليس هو كان قادراً علي أن يُرَكِّبَ مُكَوِّنَاتك في أيَّةِ صورةٍ أخرى يشاؤها ويريدها فاختار لك هذه الصورة السَّوِيَّة المُعْتَدِلَة الجميلة الكريمة المُبْهِرَة المُكْتَمِلَة الشكل والوظيفة والتي هي أبدع الصور وأعجبها وأعظمها وأحسنها ؟! إنه إذا شاء رَكَّبَك في غير صورةِ إنسانٍ كصورةِ حيوانٍ مثلاً أو شكلٍ قبيحٍ أو غيره لَرَكَّبَكَ فيها فهو حتماً القادر علي كل شيءٍ فهل هناك مَن يَمنعه عَمَّا يشاء ؟! لا أحد قطعاً ! فكيف إذَن تكفر به أو لا تُطيعه ؟!
أمَّا معني " كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9﴾ " أيْ لا أيّها الإنسان الذي اغْتَرَّ واسْتَهَانَ بربه الكريم فتَجَرَّأَ علي الكفر به ليس كرم الله وعفوه وحِلْمه هو الذي غَرَّكَ وجَرَّأَكَ علي ذلك وإنما السبب الحقيقي أنك وأمثالك تُكَذّبون بالدين أيْ بدين الإسلام فلا تعملون به وأيضا بيوم الدين أيْ بيوم الحساب والجزاء ، أيْ باليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، ففعلتم لذلك الشرور والمَفاسِد والأضرار حيث لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار من وجهة نظركم ولو كنتم تُصَدِّقون بالدين وأحسنتم استخدام عقولكم وتَدَبَّرْتم وتَعَقّلتم لَمَا فَعَلْتم ما فعلتم ، فَارْتَدِعوا وتَرَاجَعوا وانْتَهوا عن ذلك لتسعدوا في الداريْن وإلا تَعِستم فيهما .. هذا ، ولفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم
ومعني " وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12﴾ " أيْ والحال والواقِع أيها الناس أنَّ عليكم ملائكة حافظين أيْ تحفظ عليكم تمام الحفظ كل أقوالكم وأفعالكم خيرها وشَرّها وتُحْصِيها وتُسَجِّلها لكم كاملة تامّة بكل أمانةٍ لتُحَاسَبُوا عليها يوم القيامة .. هذا ، ومن معاني حافظين أيضا أنها تحفظ نظام الكوْن تنفيذا لأوامر الله تعالي بما يَحفظ لكم – ولكل خَلْقه – منافعكم وقُوَاكُم ليتحقّق لكم تمام الراحة والطمأنينة والسعادة .. " كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ " أيْ ومن صفاتها الطيّبة أيضا أنَّ لها عند الله تعالى الكرامة والمَنْزِلَة الحَسَنَة فهي مخلوقات كريمة نَفِيسَة شريفة خَيِّرَة مُتَرَفّعَة عن فِعْل المعاصي مُطِيعَة صادقة .. كاتبين أيْ تَكتب كلّ ما تقولونه وتعملونه من خيرٍ وشرٍّ في كُتُب أعمالكم بكل دِقّةٍ وتفصيلٍ وصدقٍ وعدلٍ لحسابكم في آخرتكم .. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيّ للناس ليكونوا دائما هم أيضا كراما مثلها فيفعلون الخير ولا يكونوا خَسِيسِين يفعلون الشرّ .. وكلّ شيءٍ مَكْتُوب مُسَجَّل .. " يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12﴾ " أيْ ومن صِفاتها كذلك أنها تعلم بقُدْرَة الله وعِلْمه وبما خَلَقَ فيها من صفاتٍ تُؤَهِّلها لذلك أفعالكم التى تفعلونها وأقوالكم التي تقولونها في كل وقتٍ ومكانٍ سواء أكانت خيراً أم شرَّاً قليلة أم كثيرة صغيرة أم كبيرة سِرَّاً أم عَلَانِيَة فردية أم جماعية ، أمَّا نواياكم أيْ أهدافكم داخل عقولكم أثناء فِعْلها وقولها فلا يعلمها إلا خالقكم سبحانه الذي يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
أمَّا معني " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ " أيْ حتماً وبكلّ تأكيدٍ إنَّ الأبرار – جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير – أيْ المؤمنين الخَيِّرِين الصادِقين الطائعين الصالحين الشاكرين المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم ، في نعيمٍ تامٍّ خالدٍ أيْ يَنعمون بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ يوم القيامة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. إضافة قطعا إلي نعيم وسعادة الدنيا التي يعيشونها وكأنها كالجنة بسبب خَيْرهم
ومعني " وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وحتماً وبكل تأكيدٍ وفي المُقابِل فإنَّ الفُجَّار جَمْع الفَاجِر وهو الفاعِل بشدّةٍ وبكثرةٍ وبدوامٍ للشرور والمَفاسد والأضرار بلا اهتمامٍ لشيءٍ في جحيمٍ في الآخرة أيْ نار شديدة الاشتعال لا تُحْتَمَل ولا يُوصَف عذابها .. إضافة قطعا إلي جحيم وعذاب الدنيا الذي هم فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة .. " يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ " أيْ يَحترقون فيها وتُشْوَيَ أجسادهم بنارها يوم الدين أيْ يوم الحساب والجزاء ، أيْ اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به .. " وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ " أيْ وما هؤلاء الفُجَّار عن النار بمُبْعَدِين بل هم مُلازِمُون لها بلا ابتعادٍ وغيابٍ عنها بخروجٍ أو موتٍ طوال فترة عذابهم فيها
ومعني " وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴿19﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هو يوم الدين أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك به علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينه واقعيا لخروجه عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوه فهو أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيه من النعيم لأهله والعذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. ثم أيّ شيءٍ أعْلَمَكَ وعَرَّفَكَ ما هو يوم الدين أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! .. والتكرار بذات الألفاظ هو للتأكيد علي هَوْل وعَظَمَة يوم الدين .. إننا نحن وحدنا مَن يُدْرِك حقيقته .. " يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴿19﴾ " أيْ يومها ، يوم الدين ، هو يوم لا تَقْدِر أيّ نفسٍ من نفوس بني آدم على أيِّ شيءٍ لأيِّ نفسٍ أخرى أيْ لنفعها بأيِّ شيءٍ أو لمَنْع أيّ ضَرَرٍ عنها ، فكلّ نفسٍ ستَتَحَمَّل نتيجة عملها في دنياها فهذا هو تمام العدل ، فإنْ عَمِلَت خيراً فلها كل الخير والسعادة وإنْ عملت شرَّاً فلها ما يُناسبه من الشرّ والتعاسة ، والأمر يومها ووقتها لله تعالي وحده لا لغيره فليس لأيِّ أحدٍ أيّ سلطان أو نفوذ أو تَصَرّف – لا كما كان يَحدث في الدنيا بين الناس فيما أعطاهم الله ومَلّكَهم إيَّاه وأَذِنَ وسَمَحَ لهم في التَّصَرُّف فيه وفِعْله – فهو الذي يَحكم حينها في الأمور كلها بتمام عدله وحِكْمته ورحمته بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فالجميع تحت سلطانه ، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يُعْطُون الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ .. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم ، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما
هذا ، ومعني " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ " أيْ هلاكٌ وعذابٌ ، والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم ، للمُقَلّلِين المُنْقِصِين في أيِّ حقٍّ من حقوق الآخرين – بل وكل المخلوقات – سواء أكانت مادية أم معنوية في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة بما فيها إيفاء المَكاييل والمَوَازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط ، وَيْلٌ لهم في الدنيا والآخرة ، بما يَستحِقّون ويُناسب فِعْلهم ، ففي دنياهم ينالون درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم لهم ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. والمُطَفّفِين جَمْع مُطَفّف مأخوذ من الطّفِيف وهو الشئ التَّافِه الحَقِير أيْ الذي يَأخذ من حقِّ غيره شيئا قليلا ، وفي هذا تحذيرٌ ضِمْنِيّ شديدٌ لتَجَنّب أيَّ أكلٍ لأيِّ حقٍّ لأيِّ أحدٍ حتي ولو كان طفيفا لأنه إذا كان الوَيْل سيكون علي الشيء اليَسِير هكذا فتَجَنّب الذي أكثر منه هو من باب أوْلَىَ وإلاّ كان عذابه حتما أشدّ
ومعني " الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ " ، " وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3﴾ " أيْ ومن بعض مظاهر ذلك التَّطْفِيف أنهم إذا أخذوا لأنفسهم الكَيْلَ وأيَّ حقٍّ من الناس يأخذونه وافِيَاً كاملاً من غير أيِّ نَقْص ، وإذا أَعْطُوا لهم كَيْلَهم أو وَزْنَهم أو أيَّ حقٍّ خاصٍّ بهم – والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف – يُخْسِرُون أي يُنْقِصُون من حقّهم الواجب لهم بالعدل اعتداءً عليهم وظلماً لهم
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴿7﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴿8﴾ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿9﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿10﴾ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴿15﴾ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴿16﴾ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿17﴾ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿20﴾ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴿21﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿22﴾ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴿23﴾ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴿24﴾ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴿25﴾ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴿28﴾ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿30﴾ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴿31﴾ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴿32﴾ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴿33﴾ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴿34﴾ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴿35﴾ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ " أيْ هل لا يَحْسَب ولا يَخْطُر ببَالِ وفِكْر هؤلاء المُطَفّفين المَوْصُوفين بالوصف السيء الذي سَبَقَ ذِكْره أنهم سيَبعثهم الله أحياء بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا ؟! .. والسؤال للتَّعَجُّب من حالهم ولرفضه ولذمهم ذمَّاً شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل نزول العذاب بهم فيهما .. ولفظ " يظنّ " يُفيد أنهم حتي ولو لم يكونوا متأكّدين من أنهم مَبْعوثون ومُتَرَدّدون مُتَشَكّكون في هذا فلْيَضَعُوا احتمالاً ولو ضيعفا لحدوثه ولْيَحْتَاطُوا فلا يُطَفّفوا ! فما بَالَ مَن هو مُتَيَقّن مِن البعث بلا أيِّ شكٍّ فعليه حتما ألاّ يقترب من أيِّ تطفيفٍ لأيِّ حقٍّ لأيِّ أحدٍ أو حتي أن يفكر في فِعْله ! .. " لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ " ، " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ " أيْ مَبْعُوثون ليومٍ عظيمِ الهَوْل شديدٍ ثقيلٍ مُخيفٍ عَسيرٍ طويلٍ تعيسٍ عليهم وعلي المُسِيئين ، خفيفٍ يَسيرٍ سريعٍ سعيدٍ علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة ، وهذا اليوم هو يوم القيامة الذي فيه يقوم جميع الناس لا يَتَخَلّف منهم أحدٌ استجابة لأمر رب العالمين واقفين أمامه خاضعين لسلطانه ليُحاسبهم ويَحكم بينهم بعدله وحِكْمته ويُجازيهم علي الخير كل الخير والسعادة وعلي الشرّ كل شرٍّ وتعاسةٍ بقَدْر ما فَعَلَ كل منهم من شرور ومَفاسد وأضرار بكل عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم
أمَّا معني " كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴿7﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴿8﴾ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿9﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يظن المُطَفّفون للحقوق أنَّ مِثْل هذا لا يُكْتَب ولا يُحاسَب عليه حقاً أو أنه لا دِقّة في الكتابة والحساب أو يظن بعضهم أنه ليس هناك مِن بعثٍ ولا آخرةٍ ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار أصلا ، فَليرْتَدِعوا ويتَرَاجَعوا وينْتَهوا عن ذلك ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم .. " .. إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴿7﴾ " أيْ إنَّ كتابهم الذي كُتِبَ فيه أعمالهم السَّيِّئة التي كانوا يعملونها في دنياهم حتماً وبكل تأكيدٍ في سِجْنٍ وحَبْسٍ وضيقٍ شديدٍ ، ولفظ " سِجِّين " هو كما يُقالُ مثلا سِكِّير أيْ كثير شديد السُّكْر لا يَفِيق من سُكْرِه ، وإذا كان كتابهم هكذا في هذا المكان المُخِيف الحَقِير فحالهم بالتأكيد أيضا كذلك حيث مصيرهم يَتَحَدَّد بهذا الكتاب فهُم في سِجْنٍ وحَبْسٍ وضيقٍ شديدٍ لا يخرجون منه ولا مِمَّا فيه من عذابٍ مُهِينٍ لا يُوصَف ، والفُجَّار جَمْع الفَاجِر وهو الفاعِل بشدّةٍ وبكثرةٍ وبدوامٍ للشرور والمَفاسد والأضرار بلا اهتمامٍ لشيء .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴿8﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هو سِجِّين أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك به علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينه واقعيا لخروجه عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوه فهو أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيه من العذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. " كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿9﴾ " أيْ كتاب الفُجَّار هو كتابٌ مَكْتُوبٌ كتابة واضحة – مِن رَقَمَ أيْ كَتَبَ كتابة حروفا أو أرقاما – بحيث يَفْهم صاحبه كل ما فيه فهما واضحا بلا أيِّ خَفَاءٍ أو التباسٍ أو اشتباهٍ في أيِّ شيءٍ قاله أو فعله من سوءٍ في دنياه
ومعني " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿10﴾ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ " أيْ هَلاكٌ يومها ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، للمُكذّبين الذين كانوا في دنياهم يكذبون بيوم الدين أي يوم الحساب والجزاء ، أي اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، وكانوا يكذبون بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وبعثه للناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم ترابا وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولذلك كانوا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم .. هذا ، والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم .. " وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ " أيْ ولا يُمكن أن يُكَذّب بهذا اليوم العظيم إلا فقط كل إنسانٍ مُتَجَاوِزٍ حدود التَّعَقّل والنظر والاعتبار فيما حوله فلم يُحسن استخدام عقله ويَتَدَبّر ويَتَعَمَّق في دلائل وجود الله حوله في مخلوقاته المُعْجِزَة المُبْهِرَة في كل كوْنه واسْتَكْثَرَ عليه سبحانه بَعْثَ الناس بأجسادهم وأرواحهم يوم الدين لحسابهم ولم يُصَدِّق ذلك ، وهو في ذات الوقت أثيم أيْ كثير فِعْل الآثام أيْ الذنوب أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أشكالها لأنه لا حساب من وجهة نظره وكان مُنْشَغِلاً بذلك مُنْهَمِكَاً فيه لا وقت له لاستخدام عقله بإحسانٍ فزاده ذلك الإثم مزيداً من تعطيل العقل وبالتالي مزيداً من الاعتداء ! .. لقد اعتدي علي الله تعالي ورسله الكرام وشرعه الإسلام بالتكذيب وعدم الاتِّباع .. إنه كان من المُفْتَرَض لأيِّ عاقلٍ أن يُحسن استخدام عقله ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ويُصَدِّق بربه وبيوم الدين ويعمل بالإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يكون مُعْتَدِيَاً أثيماً فيتعس تماما فيهما ولكنَّ السبب أنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ " أيْ ومن صفاته السيئة أيضا ومن مظاهر اعتدائه أنه حين تُقْرَأ عليه وتُذْكَر له دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل الكرام لتأكيد صِدْقهم ، حينها يقول عنها مِن شِدَّة تكذيبه وعِناده واستكبار واستهزائه أنها أساطير الأولين أيْ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها !!
ومعني " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَدَّعِي ظُلماً وزُورَاً هؤلاء المُكَذّبون أنَّ القرآن العظيم أساطير الأولين فهو كلام الله تعالي ووَحْيه لرسوله الكريم ليُبَلّغه للناس ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم ، فَليرْتَدِعوا ويتَرَاجَعوا وينْتَهوا عن ذلك ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ، لكنَّ السبب في قولهم هذا هو أنه قد رَانَ أيْ غَطّيَ علي عقولهم – مثلما يغطي الرَّيْن أيْ الصَّدَأ علي الحديد فيَقضِي عليه تدريجيا ويُفسده ويُهلكه ويَمنع استخدامه – ما كانوا يفعلون من شرور ومَفاسد وأضرار كثيرة اعتادوا عليها ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، عَطّلَت حُسن تفكيرها بعدما صارت كالصدأ عليها فمنعتها أن تُمَيِّز بين كلام الله تعالي وكلام البَشَر وبين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة
ومعني " كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴿15﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي رَدْعِهم عَمَّا هم فيه ، أىْ كلاّ ثم كلاّ ، وأيضا من معاني كلّا هنا أيْ حقّاً .. إنَّ هؤلاء المُكَذّبين يومها ، يوم القيامة ، حتما بالتأكيد سيكونون ممنوعين عن رحمة ربهم ونعيمه ورؤيته بسبب ما اكتسبوه أيْ فعلوه من شرور ومَفاسد وأضرار في دنياهم
ومعني " ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴿16﴾ " أيْ هذا بيانٌ لنوعٍ آخر من سوء مصيرهم ، أيْ ثم إنهم بعد ذلك الحَجْب عن رحمة ربهم ومعه وإضافة إليه ، بالتأكيد صَالُونَ الجحيم أيْ مُحْتَرِقُون مَشْوِيَّة أجسادهم بالجحيم أيْ بالنار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل
ومعني " ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿17﴾ " أيْ ثم يُقالُ لهم بواسطة ملائكة العذاب في الجحيم ، على سبيل الذّمِّ الشديد والتحقير والإهانة والذلّة ، كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ مع الجسديّ ، هذا هو العذاب الذى كنتم به تكذبون فى الدنيا وتَسْتَبْعِدون حدوثه وتسخرون منه ومِمَّن ينصحكم بحُسن الاستعداد للنجاة منه بالعمل بأخلاق الإسلام
أمّا معني " كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ لا ، ليس الأمر كما يظن هؤلاء المُكَذّبون أنه ليس هناك مِن بعثٍ ولا آخرةٍ ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، فَليرْتَدِعوا ويتَرَاجَعوا وينْتَهوا عن ذلك ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ، فهذا مزيدٌ من التأكيد علي رَدْعِهم عَمَّا هم فيه ، أىْ كلاّ ثم كلاّ ، وأيضا من معاني كلّا هنا أيْ حقّاً .. " .. إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ " أيْ في مُقابِل أنَّ كتاب الفُجَّار لفي سِجِّين كما ذُكِرَ في الآية ﴿7﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ فإنَّ كتاب الأبرار لفي عِلِّيِّين أيْ إنَّ كتابهم الذي كُتِبَ فيه أعمالهم الحسنة التي كانوا يعملونها في دنياهم حتماً وبكل تأكيدٍ في عِلِّيِّين جمع عِلِّيّ من العُلُوّ فهو في عُلُوٍّ فوق عُلُوٍّ وارتفاعٍ بعد ارتفاع ، في درجات الجنات علي حسب أعمالهم ، وإذا كان كتابهم هكذا في هذا المكان العالي العظيم الذي لا يمكن تَخَيّله فحالهم بالتأكيد أيضا كذلك حيث مصيرهم يَتَحَدَّد بهذا الكتاب فهُم في المَراتِب العالِيَة في أعلي درجات النعيم التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، والأبرار جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير أيْ المؤمنون الخَيِّرِون الصادِقون الطائعون الصالحون الشاكرون المُخلصون المُحسنون (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكون العامِلون بأخلاق إسلامهم
ومعني " وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هو عِلِّيُّون أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك به علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينه واقعيا لخروجه عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوه فهو أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيه من النعيم لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
ومعني " كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿20﴾ " أيْ كتاب الأبرار هو كتابٌ مَكْتُوبٌ كتابة واضحة – مِن رَقَمَ أيْ كَتَبَ كتابة حروفا أو أرقاما – بحيث يَفْهم صاحبه كل ما فيه فهما واضحا بلا أيِّ خَفَاءٍ أو التباسٍ أو اشتباهٍ في أيِّ شيءٍ قاله أو فعله من خير في دنياه ، فيَسعد به .. وذلك في مُقابِل كتاب الفُجَّار الذي يَتعس به صاحبه
ومعني " يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴿21﴾ " أيْ هذه صفة أخري لكتاب الأبرار تُذْكَر على سبيل المدح له ولهم أنه يَحضره ويَراه ويَطّلِع عليه المُقَرَّبون من الله تعالي كالملائكة والأنبياء الكرام والشهداء والصالحين ، ويُعْلَن به عندهم ، وهو إعلان يُفيد التكريم والتشريف لهم كما تُعْلَن أسماءُ المُتَفَوِّقين لتكريمهم
ومعني " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿22﴾ " أيْ أيْ حتماً وبكلّ تأكيدٍ إنَّ الأبرار في نعيمٍ تامٍّ خالدٍ أيْ يَنعمون بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ يوم القيامة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. إضافة قطعا إلي نعيم وسعادة الدنيا التي يعيشونها وكأنها كالجنة بسبب خَيْرهم
ومعني " عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴿23﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلسة وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التَّمَتّع بالراحة والاسترخاء ، علي الأرائك جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يشبهه ، مفروشة بمفروشاتٍ مُريحات نَفِيسات مُزَيَّنات بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة ، يَنظرون إلى كل ما يُدْخِل السعادة عليهم دون تحديدٍ لشيءٍ مُحَدَّدٍ لأنَّ كل ما حولهم في الجنة من نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ والتي أعطاهم إيّاها بكرمه ورحمته مُسْعِد تماما ، وينظرون كذلك سعداء لربهم الكريم في مُقَابِل أنَّ الفُجَّار عن ذلك لَمَحْجُوبون أيْ مَمْنُوعون كما ذُكِرَ في الآية ﴿15﴾
ومعني " تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴿24﴾ " أيْ تَرَيَ أيها الناظِر إليهم في وجوههم بَهْجَة التَّنَعُّم ، فهي حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم الذي هم فيه
ومعني " يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴿25﴾ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴿28﴾ " أيْ ومِن بعض نعيمهم الذي لا يُوصَف أنهم يَسقيهم ربهم من شرابٍ طيِّبٍ لذيذِ الطعم والرائحة ، مَخْتُومٍ أيْ مَقْفُولٍ عليه الإناء مَصُونٍ لا يفتحه إلا هم بما يُفيد أنه لم يَمَسّه يدٌ قبل أيديهم كتكريمٍ وتشريفٍ لهم .. " خِتَامُهُ مِسْكٌ .. " أيْ آخره ، عند آخر جُرْعَاتٍ منه ، تكون له رائحة طيبة جميلة كرائحة المِسْك ، وأيضا ما يُخْتَم به عليه أيْ يُغْلَق أيْ أعْلَاه وأوّله كذلك مسك ، فهو كله طيِّب الرائحة ونتيجته ونهايته وتأثيره مسك مُبْهِج مُسْعِد .. " .. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ " أيْ وفى نَيْلِ ذلك النعيم الخالد التامّ الذي لا يُوصَف ، لا في غيره ، يجب أن يَتسابق المُتَسَابقون ، وذلك بالمُسَارَعَة إلي فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. والمقصود تشجيع الناس علي التنافس الدائم في الخير الذى يوصلهم يوم القيامة لذلك .. أيْ لِمِثل هذا العطاء العظيم الهائل الخالد الكامل السعادة اجتهدوا واسْعوا وسَارِعُوا يابني آدم العاملين في الحياة الدنيا للحصول عليه ، فهذا هو الذي يجب ويَسْتَحِقّ أن يكون فقط الهدف الحقيقي الذي علي أيِّ عامِلٍ يَعمل ويَسعيَ في دنياه أن يضعه دائما أمام عينيه يَجتهد في العمل له لكي يحصل عليه وذلك بفِعْل كلّ صالح ، ولا يضيع عمله ووقته وجهده في فِعْل أيّ سوءٍ فيَخسر حتما هذا الهدف ومعه مثل هذا الفضل الكبير .. " وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ " أيْ وهذا الرَّحيق المَختوم مَمْزوج ومَخلوط بشرابٍ من عَيْنٍ في الجنة تُعْرَف باسم تسنيم لعُلُوّ مكانها ومكانتها وعظمتها – والتسنيم في اللغة العربية هو الارتفاع – ولأنَّ شرابها يجري من أعلي إلى أسفل ولأنه أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه وأعظمه وأفخمه .. " عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴿28﴾ " أيْ هذه العين يشرب منها المقربون إلى الله تعالى وحدهم شرابها الصِّرْف أيْ الخالص الغير المَمْزوج بشيءٍ لأنهم في أعلي درجات الجنات بينما غيرهم مِمَّن هم في درجة أقل يشربون الأشربة الممزوجة ، والمقربون هم السابقون إلى الخيرات في الدنيا أيْ الذين سَبَقُوا غيرهم إلي كلِّ قولٍ وفِعْلٍ خَيْرِيّ ، وبالتالي فهم السابقون إلى الدرجات العُلَا في الآخرة وهم المُقَرَّبون عند الله تعالى قُرْبَاً لا يُوصَف ولا يَعرف أحدٌ مقداره من عظمته وعُلُوّ مكانته بما يَدلّ علي تمام الحبّ منه والتقدير والتنعيم والعطاء لهم ، إضافة إلي قُرْبهم الذي كانوا فيه وتَمَتَّعوا به دوْما في دنياهم بسبب سَبْقهم هذا
أمَّا معني " إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض الشرور والمَفاسد والأضرار التي كان يفعلها المجرمون مع المسلمين المتمسّكين العاملين بأخلاق إسلامهم والتي كانت سبباً لدخولهم النار وعذابهم فيها بما يناسب أفعالهم .. أيْ إنَّ الذين ارتكبوا الجرائم بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، كانوا في الدنيا يضحكون من المسلمين أيْ يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويحتقرونهم بكل صور السخرية والاستهزاء والاحتقار
ومعني " وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿30﴾ " أيْ وكذلك من صور سُخْريتهم واستهزائهم بهم واحتقارهم لهم أنهم حين يَمُرّون عليهم يُشيرون بالجفن والحاجب فيما بينهم بما اعتاد المستهزئون أن يفعلوه مع مَن يسخرون منهم ويُفيد الضحك عليهم والتحقير لهم والعيب فيهم
ومعني " وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴿31﴾ " أيْ وأيضا إذا رَجَعَ هؤلاء المجرمون إلى بيوتهم وأسرهم رجعوا فَرِحِين مسرورين مُعْجَبِين بحالهم بأنهم قبل عودتهم كانوا في مجالسهم وأعمالهم وشئونهم يَسْتَخِفّون بالمسلمين ويضحكون ويتغامزون عليهم ويذكرونهم بالسوء والعيب ، فهم لشدّة سوئهم لا يكتفون بالضحك والغَمْز والسخرية عندما يرون المسلمين بل يجعلونهم أيضا عند عودتهم إلى أهلهم سبباً للتَّفَكّه أيْ للمَرَح !
ومعني " وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴿32﴾ " أيْ ولم يكتفوا بما سَبَقَ ذِكْره من سوءٍ بل من شدّة سوئهم وخَبَلهم أنهم إذا شاهدوا المسلمين قالوا عنهم إنهم بكل تأكيدٍ ضائعون تائهون مخدوعون ضعاف العقول بسبب اتِّباعهم للإسلام !! فهم صاروا لا يُمَيِّزون بين الحقّ والباطل والخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة بل وحَكَمُوا لأنفسهم أنهم هم أهل الحقّ !! وما كل ذلك إلا بسبب الرَّان الذي غَطّيَ عقولهم وعَطّلها بما كانوا يكسبون من شرور ومَفاسد وأضرار كما ذُكِرَ في الآية ﴿14﴾ " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾
ومعني " وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴿33﴾ " أيْ وحتما ما أرسلوا من الله تعالى هؤلاء المجرمون ليكونوا حافظين لكل أقوال المسلمين وأفعالهم مُحْصِين مُسَجِّلِين لها ليُحاسبوهم عليها وليَشهدوا برُشْدِهم أو بضلالهم !! والمقصود ذمّهم ذَمَّاً شديداً على تصرّفاتهم وتسفيهها وتحقيرها حيث حُكْمهم علي المسلمين بأنهم ضالّون هو في مُنْتَهَيَ السَّفَه والخَبَل
ومعني " فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴿34﴾ " أيْ فيوم القيامة ، الذين آمنوا يضحكون من الكفار في مُقابِل ضحكهم منهم في الدنيا استهزاءً بهم واحتقاراً لهم ، وذلك حينما يرونهم مَذْلُولِين في عذاب النار الذي لا يُوصَف بعدما كانوا فيه من استكبار .. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الآخرة ، وكذلك في الدنيا بالقطع
ومعني " عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴿35﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلسة وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التَّمَتّع بالراحة والاسترخاء ، علي الأرائك جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يشبهه ، مفروشة بمفروشاتٍ مُريحات نَفِيسات مُزَيَّنات بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة ، يَنظرون إلى كل ما يُدْخِل السعادة عليهم دون تحديدٍ لشيءٍ مُحَدَّدٍ لأنَّ كل ما حولهم في الجنة من نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ والتي أعطاهم إيّاها بكرمه ورحمته مُسْعِد تماما ، وينظرون كذلك سعداء لربهم الكريم في مُقَابِل أنَّ الفُجَّار عن ذلك لَمَحْجُوبون أيْ مَمْنُوعون كما ذُكِرَ في الآية ﴿15﴾ ، وينظرون أيضا إلى مَن آذوهم في دنياهم وهم في النار ويَضحكون منهم وهم يُعَذّبون ، ولا عَجَب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في الجنة والمُعَذّبون في النار حيث وسائل الاتصال الحديثة في الدنيا تَبُثّ إرسالها مباشرة من كل مكانٍ بالصوت والصورة بكل دِقّةٍ فكيف يكون الحال في الآخرة ؟!
ومعني " هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾ " أيْ هل جُوزِىَ الكفار في الآخرة علي ما كانوا يفعلون في الدنيا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات ؟ والاستفهام والسؤال للتقرير أيْ لكي يُقِرّ المستمع العاقل بذلك ، أيْ نعم بكل تأكيدٍ قد جُوزُوا بما يُناسب إساءاتهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. إضافة إلي ما كانوا فيه حتما في الدنيا من عذابٍ وتعاسةٍ بدرجة من الدرجات وصورةٍ من الصور كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، بسبب سوء أفعالهم
إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴿6﴾ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴿8﴾ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿9﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10﴾ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11﴾ وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿12﴾ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿13﴾ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴿14﴾ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴿15﴾ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿17﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴿18﴾ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴿19﴾ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ۩ ﴿21﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ﴿22﴾ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴿23﴾ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !! .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أحداث وأهوال يوم القيامة والمُتَغَيِّرات الهائلة التي تحدث فيه حينها ، فإذا حصلت هذه الأمور فقد حَدَثَ هذا اليوم الشديد علي المُكذبين المُسِيئين اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة ، ووقتها عَلِمَت كلّ نفسٍ من نفوس البَشَر ما قَدَّمته لهذا اليوم وما أحضرته فيه من خير أو شرٍّ فَعَلَته في دنياها ، فلِيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. هذا ، وتكرار لفظ " إذا " والذي هو في اللغة العربية حرف شرط يحتاج إلي جواب له هدفه التشويق والانتظار لهذا الجواب حتي إذا جاء وسمعه المُسْتَمِع استقرّ في عقله تماما ، وجواب الشرط هنا هو في الآية الكريمة " .. فَمُلاَقِيه .. " أيْ إذا حَدَثَ كل ذلك قامَ يوم القيامة ولاَقَيَ كل إنسان كَدْحَه ووَجَدَ جزاءه عند ربه سبحانه .. ومعني " إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ " أيْ إذا ظَهَرَت فيها الشقوق والفَتَحَات واخْتَلَّ نظامها .. " وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾ " أيْ واسْتَمَعَت لأمر ربها – أيْ خالقها ومُدَبِّر أمرها وصاحب السلطان والنفوذ عليها وحده – وأطاعته تماما فيما أمرها به وهو أن تَنْشَقّ ، ولفظ أَذِنَت مُشْتَقّ من الأُذُن ، أيْ أَصْغَت إليه أُذُنها ، أيْ استمعت بكل إنْصاتٍ وأطاعَت ما استمعت له .. وحُقَّتْ أيْ وكان حقا وواجبا عليها فِعْل ذلك بلا أيّ امتناعٍ أو تأخيرٍ لأنه أمر ربها ولا يمكنها حتما مخالفته وإلا قَهَرَها وأَجْبَرَها عليه .. " وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ " أيْ وإذا بُسِطَت وأُزِيلَ تَكَوُّرها وسُوِّيَت بدَكِّ وتَفْتِيت جبالها فلم يَعُد فيها شيء مُرْتَفِع واخْتَلّ نظامها .. " وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾ " أيْ ورَمَت وقَذَفَت ما بداخلها من أجساد وعظامِ موتي وكنوزٍ وغيرها وتَخَلّت عنه وخَلَت دَوَاخلها منه تماما بما يدلّ علي هوْل وفَظَاعَة الأحداث .. " وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿5﴾ " أيْ واسْتَمَعَت هي أيضا مثل السماء لأمر ربها – أيْ خالقها ومُدَبِّر أمرها وصاحب السلطان والنفوذ عليها وحده – وأطاعته تماما فيما أمرها به وهو أن تَمْتَدّ وتُلْقِي ما فيها وتَتَخَلّيَ عنه ، ولفظ أَذِنَت مُشْتَقّ من الأُذُن ، أيْ أَصْغَت إليه أُذُنها ، أيْ استمعت بكل إنْصاتٍ وأطاعَت ما استمعت له .. وحُقَّتْ أيْ وكان حقا وواجبا عليها فِعْل ذلك بلا أيّ امتناعٍ أو تأخيرٍ لأنه أمر ربها ولا يمكنها حتما مخالفته وإلا قَهَرَها وأَجْبَرَها عليه
ومعني " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴿6﴾ " أيْ يا كلّ إنسانٍ إنك سَاعٍ سَعْيَاً كبيراً في عملك طوال حياتك إلي ما تريد من مَطَالِب وأهداف ، ومُنْتَهَيَ هذا الكَدْح أيْ السَّعْي والعمل بجدٍّ واجتهادٍ هو إلي لقاء ربك ، حيث ستُلاقِيه وتُقابله حتما يوم القيامة ، تُلاقِي ربك وتُلاقِي عملك خيره وشرّه ، فيُحاسبك ويُجازيك عليه بالخير كل خيرٍ وسعادة وبالشرِّ ما يُناسبه من شرٍّ وتعاسة ، فأَحْسِن الاستعداد إذَن لهذا اللقاء بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴿8﴾ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿9﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ للنتيجة النهائية لهذا الكَدْح ، أيْ فأمَّا مَن أُعْطِيَ كتاب أعماله في يده اليُمْنَيَ – وهذا دلالة علي أنه من أهل اليمين أيْ أهل الجنة الذين هم كلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة – فسوف يُحاسَب حساباً سهلاً سريعاً لا مناقشة فيه للتفاصيل ولا مُطَالَبَة بعُذْرٍ أو حجّةٍ ، لأنه كان مؤمنا بالله عاملا بالإسلام ولأنَّ حسناته زادَت عن سيئاته ، من عظيم كرم الله وفضله الذي لا يُوصَف ورحمته التي وَسِعَت كل شيء ومغفرته لذنوبه وتجاوزه عنها ومَحْوها وسَتْرها عليه بعد سَتْره وعدم فَضْحه في الدنيا فيُعطيه جزاء الحسنات بغير حسابٍ ويتجاوز عن كل السيئات ، ويَرْجِع ويَنْصِرف سعيدا فرحا مُبتهجا بهذا الحساب اليسير وبنجاته من عذاب جهنم وبما أعطاه الله تعالي من النعيم العظيم ، إلي أهله في الجنة وهم كل المؤمنين ومنهم أسرته وعائلته وأقاربه وأحبابه وخَدَمه وحُور العين المُجَهَّزَة له
ومعني " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10﴾ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11﴾ وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿12﴾ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿13﴾ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴿14﴾ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴿15﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمّا مَن أُعْطِيَ كتاب أعماله بشماله مِن وراء ظهره حيث تُثْنَىَ يده إلى ورائه ويُقَيَّد ويُعْطَيَ كتابه بها كذلك امتهاناً وإذلالاً وتحقيراً له بما يُفيد أنه من أصحاب الشِّمَال أيْ الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليَسار بما يَرْمز إلي أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة وهم أهل النار .. " فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11﴾ " أيْ فسوف يَطْلُب هلاكاً أيْ سيُنادِي بالهلاك علي نفسه بحسرةٍ وندامةٍ ويقول أيها الموت أقْبِل عَلَيَّ لتنقذنى مِمَّا أنا فيه مِن سوء ، وفى طَلَبه للهلاك دليل على أنه قد وَصَلَ به حاله الشديد السوء إلى أقصى مَدَاه حيث أصبح الهلاك مُنتهي أمانيه .. " وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿12﴾ " أيْ ويُشْوَيَ ويُحْتَرَق جسده بسعيرٍ أيْ بنارٍ شديدة الاشتعال لا تُقَارَن حتما بنار الدنيا يُقْذَفُ في عذابها بكل أنواعه المختلفة المُخِيفَة .. " إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿13﴾ " أيْ هذا هو سبب ما هو فيه مِن سوءٍ يوم القيامة وهو أنه كان في دنياه بين أهله وفيمن حوله مسرورا أيْ فَرِحَاً بنوعٍ من الفَرَح مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث كان فَرَحَاً مَصحوباً بفخرٍ وتعالٍ علي الآخرين بما يَمْلك واحتقارٍ وإيذاءٍ لهم بالقول والفعل وظُلْمهم بصورِ الظلم المختلفة ونحو هذا مع انعماسه في الشرور والمَفاسِد والأضرار والتي تؤدي قطعا إلي تعاسة الجميع في دنياهم وأخراهم ، بل بعض أمثاله كان مسرورا بكفره وتَعَالِيه علي الله ورسله وكتبه وعدم اتِّباعه للإسلام وإيذائه لهم وللمسلمين لأنه من وجهة نظره لا آخرة ولا حساب وعقاب وجنة ونار فليفعل إذَن ما يريد من شرور .. فلا يَتَشَبَّه أحدٌ أبداً به حتي لا يكون مصيره مثله .. هذا ، والله تعالي والإسلام بكل تأكيد يحب الذين يُسَرُّون ويَفْرَحُون ويَسعدون تمام السعادة بتواصُلهم مع ربهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم الأمر الذي يساعدهم حتما علي تمام السعادة في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآية ﴿58﴾ من سورة يونس " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ " ، للشرح والتفصيل) .. " إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴿14﴾ " أيْ إنه تَوَهَّمَ في دنياه أنْ لن يَرْجِع إلي الله ليُحاسبه ولذلك فَعَلَ ما فَعَل ، لتكذيبه بيوم القيامة والبعث والجنة والنار أو لنسيانه لكل هذا وانشغاله عنه ، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴿15﴾ " أيْ بَلَيَ ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِ ، أيْ ليس الأمر كما يَظنّ أنه لن يَحُور بل سيَرْجِع وسيُحاسَب حتما بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ فإنَّ ربه أيْ خالِقه ومُرَبِّيه ورازقه وراعِيه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال بصيراً علي الدوام بكلّ أعماله وأقواله – وجميع الناس قطعا – أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ منها وفي كل كوْنه ، وبالتالي سيُجازيه حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ بما يَسْتَحِقّه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره
أمَّا معني " فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿17﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴿18﴾ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴿19﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ سابقا من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ فلا داعي أنْ أقْسِم إنه لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طَبَق (انظر تفسير الآية ﴿19﴾) ! وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! .. أيْ أقْسِم بالشَّفَق وهو الاحمرار الذي يَحدث بالسماء بعد غروب الشمس أو قبل شروقها وهو ضياء من شعاعها ويُسمى شَفَقَاً لِرِقّته مثل شَفَقَة المشاعِر أيْ رِقّتها ، وأُقْسِمُ كذلك بالليل وما وَسَق أيْ وما جَمَعَ فيه من مخلوقات وعجائب لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ، والوَسْق هو جَمْع الأشياء بعضها إلي بعض ، وأُقْسِمُ أيضا بالقمر إذا اتَّسَق أيْ اجتمع واكتمل ضياؤه وتَكَامَل شكله وصار بَدْرَاً مستديراً لامعاً .. ولقد أقْسَمَ سبحانه بها للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ ما سَبَقَ ذِكْره من مخلوقات .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴿19﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت لتَرْكَبُنَّ طَبَقَاً عن طَبَق أيْ لتُلاَقُنَّ أيها الناس حالاً بعد حال – وسُمِّيَ الحالُ طَبَقاً لأنَّه مُطابِق لعمل صاحبه كما أنَّ الطَبَق وهو الغِطاء يكون مُطَابِقَاً لِمَا يُغَطّيه – وطَبَقَة بعد طبقة ودرجة بعد درجة ومرحلة بعد مرحلة ومَرْتَبَة بعد مرتبة ومنزلة بعد منزلة وأمرا بعد أمر ، أيْ ستُلاقُون حال الآخرة بعد حال الدنيا ، أيْ ستُقابِلون حتما بكل تأكيدٍ طبقات وأحوال ومراحل ودرجات ومنازل الآخرة وسَتَتَنَقّلُون بينها والتي تبدأ بالموت ثم القبر ثم البعث بالأجساد والأرواح ليوم القيامة ثم الحساب والجزاء بالجنة ودرجاتها والنار ودَرَكاتها علي حسب أعمالكم ، فأَحْسِنُوا إذَن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. وكذلك ستُلاَقُون أحوال ومراحل الدنيا المُتعدِّدة المختلفة وستَتَنَقَّلُون بينها والتي تبدأ بالنطفة ثم الجنين ثم الخروج إليها ثم الطفولة ثم الشباب ثم الشيخوخة ثم الموت ونهاية الحياة ، فتَدَبَّروا في ذلك واعلموا أنَّ الله خالقكم هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة .. وكذلك ستُلاَقُون أحوال ومُتَغَيِّرات حياتكم المتنوّعة وستَتَنَقَّلُون بينها من رخاءٍ وشدّة وغِنَي وفقر وقوة وضعف وصحة ومرض فأحسنوا التعامُل معها كلها بأخلاق الإسلام فاستخدموا أرزاقها في كل خيرٍ لتسعدوا في الداريْن ولا تستخدموها في أيِّ شرٍّ فتتعسوا فيهما ، وأحسنوا التوكّل علي الله والاستعانة به وشكره ليُيَسِّر أموركم وليزيدكم من خيراته وأفضاله وإنْ أصابكم ضَرَرٌ ما فاصبروا عليه واستعينوا بربكم لتخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، واجتهدوا في العمل بكل أخلاق إسلامكم لتُلاقوا حالاً بعد حال ولتَتَنَقَّلُوا من قُرْبٍ بعد قُرْبٍ من ربكم ونصرٍ بعد نصر وسعادة بعد سعادة حتي تتمَّ وتكتمل لكم بعملكم بدينكم كله
ومعني " فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ﴿21﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ﴿22﴾ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴿23﴾ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾ " أيْ فماذا إذَن يَمنع هؤلاء الذين لم يؤمنوا من الإيمان بالله ورسله وآخرهم محمد ﷺ وكتبه وآخرها القرآن العظيم والبعث والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار بعدما وَضَحَت لهم كل الدلالات التي تُعين كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي الإيمان أيْ التصديق بكل ذلك ؟! وهي دلالات تدلّ علي تمام قُدْرته وعلمه سبحانه وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت دلالاته في الكوْن في كل مخلوقاته المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم أم آياته في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن الكريم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم .. والاستفهام للتَّعَجُّب من حالهم ولرفضه ولذمِّهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما .. ولكنَّ السبب الأساسي أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ﴿21﴾ " أيْ وما لهم إذا قُرِيءَ عليهم القرآن لا يَخضعون ؟! أيْ لا يخضعون لخالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته فيه ويستجيبون ويستسلمون لها ويقومون بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم ليسعدوا بها ، وأيضا لا يسجدون لله متواضعين خاشعين ساكنين علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، ولا يكتسبون من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه فلا يستعلون عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما .. إنهم حينما يُدْعَوْنَ لكل هذا يرفضونه ويتَعَالون عليه ولا يستجيبون له بل ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار .. " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ﴿22﴾ " أيْ ليس هناك أيّ مانعٍ يَمنع هؤلاء الذين لم يؤمنوا من الإيمان بعدما وَضَحَت لهم كل الدلالات التي تُعين كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي الإيمان أيْ التصديق بكل ذلك ، ولكنَّ الحقّ أنَّ هؤلاء الذين كفروا يُكَذّبون أيْ يَستمرّون علي تكذيبهم عِناداً واستكباراً وليس اعتقاداً حيث هم يعلمون ويتأكّدون تماما بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا صِدْق كل هذا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وهذا العِناد أيْ الرفض للاستجابة رغم معرفة الحقّ وهذا الاستكبار أيْ التَّعَالِي عن الاتِّباع له سببه الأساسي هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴿23﴾ " أيْ والله أعلم بما يُخْفون ويَكتمون في عقولهم من التكذيب والعِناد – مأخوذ من الوعاء الذي يُجْمَع ويُحْفَظ فيه الأشياء – فهو سبحانه خالقهم حتما يعلم سِرَّهم وعلانيتهم من أقوالهم وأعمالهم لا تَخَفْيَ عليه خافِيَة في كل كوْنه وسيُجازيهم بما يستحِقّونه من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا فيهما .. " فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾ " أيْ فإذا كان حالهم هكذا كما ذُكِرَ سابقا فأخبرهم إذَن في مُقابِل ذلك بصورةٍ مناسبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بأنَّ لهم عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم ، بعضه في دنياهم ، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم ، بما يناسب أفعالهم ، وفي هذا استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿25﴾ " أيْ لكنَّ الذين الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فصَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، مثل هؤلاء لهم حتما من الله تعالي عطاء عظيم غير مَمْنونٍ أيْ غير مقطوعٍ أبداً بل هو دائم مستمرّ في دنياهم وأخراهم حيث تمام الخير والأمن والسعادة بسبب فِعْلهم لكل خيرٍ وتَرْكهم لكل شَرٍّ من خلال عملهم بالإسلام ونَشرهم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حَسَنة وصبرهم علي أذيَ مَن يُؤذيهم ودفاعهم عنه ضدّ مَن يعتدي عليه
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿3﴾ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4﴾ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿7﴾ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿8﴾ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿9﴾ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴿10﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴿11﴾ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿13﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿14﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿15﴾ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿16﴾ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ﴿17﴾ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿18﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿19﴾ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿20﴾ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴿22﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿3﴾ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4﴾ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿7﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّه قُتِلَ أصحابُ الأخدود (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالسماء ذات البروج " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ " أيْ وحَقِّ السماء ذات المنازِل والمَدَارَات التى تَنْزِلُها الكواكبُ وتَدُورُ فيها أثناء سَيْرها .. " وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ " أيْ وأُقْسِم باليوم الموعود وهو اليوم الذي وَعَدَ الله به الناس أن يَبعثهم ويَجمعهم فيه بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم تراباً للحساب والجزاء النهائيّ وهو يوم القيامة ليُحاسبهم وليُعطيهم علي الخير كل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ ما يُناسبه من شرٍّ وتعاسة .. " وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿3﴾ " أيْ وأُقْسِم أيضا بشاهدٍ يَشْهَد وبمشهودٍ يُشْهَدُ عليه .. كالأنبياء يَشهدون على أممهم استجابوا للإسلام أم لا ، وكالملائكة التي كانت مُكَلَّفَة بتسجيل أعمال بني آدم تَشهد عليهم بما قالوه وفعلوه ، وكأعضاء الإنسان تَشهد عليه بما قاله وفعله ، وكالإنسان ذاته حيث هو شاهد بمعني حاضِر ومُشَاهِد ليوم القيامة والمشهود هو أحداثه التي تُشَاهَد وتُرَيَ يومها .. وبالجملة فإنَّ الله تعالي يُقْسِم بالكوْن كله بما فيه من مُعجزاتٍ مُبْهِرَاتٍ لأنه ما مِن شيءٍ فيه إلا وهو شاهد أيْ ناظِر إنْ كان حيا أو مشهود أيْ مَنْظُور إنْ كان حيا أو جمادا .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ السماء ذات البروج ورب اليوم الموعود ورب الشَّاهِد والمَشْهُود .. " قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4﴾ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿7﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت لقد قُتِلَ أصحاب الأخدود ، أيْ لُعِنَ أصحاب الأخدود ، ولُعِنَ كلّ كافرٍ مِثْلهم وكل مَن تَشَبَّهَ بهم .. أيْ قَتَلَهم الله إذا استمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم دون عودةٍ لربهم ولإسلامهم ، أيْ سيَقتلهم عاجلا أم آجلا حيث يَرَيَ أنْسَبَ توقيتٍ لذلك أيْ سيُعذّبهم وسيهلكهم وسيَلعنهم أيْ سيَطردهم من رحمته في دنياهم قبل أخراهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة لسوء أقوالهم وأعمالهم ، ولذا فهم في تمام التعاسة في الدنيا والآخرة ، فلا يَتَشَبَّه أبدا بهم أيّ أحدٍ حتي لا يكون مصيره مِثْلهم .. والأخدود هو الحُفْرة الكبيرة المستطيلة فى الأرض ، وأصحاب الأخدود هم قوم من الكفار السابقين حفروا أخدوداً وأشعلوا فيه النار وألقوا به المؤمنين الذين خالَفوهم فى كفرهم وأسْلَمُوا وثَبَتُوا علي إسلامهم ولم يَتَرَاجَعوا عنه رغم ما لاقوه منهم من أذَيَ حتي اسْتُشْهِدُوا ونالوا أعلي درجات الجنات ، فلْيَتَشَبَّه بهم مَن أصابه مِثْل ما أصابهم ليَنالَ كدرجاتهم .. " النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿7﴾ " أيْ قُتِلَ أصحاب الأخدود الذين أشعلوا فيه النار ذات اللهب الشديد الذي لا يَنطفيء لأنَّ لها وقوداً يُلْقَىَ فيها يزيدها اشتعالا أوَّلاً بأَوَّل ، وذلك حين كانوا قاعدين علي حافتها يُتابعون إلقاء المؤمنين فيها .. " وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿7﴾ " أيْ ولم يَكتفوا بذلك بل أضافوا إليه أنهم شهود أيْ حضور يرونهم بأعينهم وهم يُعَذّبون ويُحرقون على سبيل التَّشَفّى منهم ! بل ويشهد بعضهم لبعض أمام مَلِكِهم الظالم الذي أمرهم بإحراقهم بأنهم ما قَصَّروا فى تعذيبهم ومهمّتهم ! بما يدلّ علي تمام ظلمهم وعوْنهم للظالمين وقسوة مشاعرهم ، وحتما سيكون بعضهم شهود أيضا علي بعض في الآخرة كما كانوا في الدنيا ليذوقوا أشدّ العذاب الذي يُناسب فِعْلهم
أمَّا معني " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿8﴾ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿9﴾ " أيْ هذا هو سبب انتقامهم منهم بصُوَرِ الانتقام المختلفة ، أيْ وما كَرِهُوا منهم وما عَابُوا عليهم ، أيْ وما كَرِهَ وما عابَ هؤلاء الظالمون الكافرون علي المؤمنين شيئا سيِّئا يعتبرونه نقمة أيْ بلاءً وشدّة ومصيبة لهم !! وإنما عابوا عليهم ورفضوا منهم خيرا عظيما ! نقموا منهم أن يؤمنوا بالله تعالي بل وينتقمون منهم بسبب ذلك !! الله العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، الحميد أيْ المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم ، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا ، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات ، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد .. هذا ، واختيار صِفَتِيّ العزيز الحميد وهو سبحانه له كل صفات الكمال الحُسني ليكون مناسبا لطَمْأَنَة المسلمين أنَّ الله حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. لقد نقموا منهم أن يعملوا بأخلاق الإسلام ليسعدوا به تمام السعادة في الدنيا والآخرة !! .. إنَّ الذي مِن المُفْتَرَض أنْ يُنْقَم هو الشرّ لا الخير !! هو ما هم فيه !! وفي هذا تَعَجّب من حالهم وذمّ شديد لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل عصرٍ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما .. لكن ما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿9﴾ " أيْ والذى له وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، فهو له كلّ الملك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة ، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء ، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار .. " وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿9﴾ " أي وهو سبحانه علي كل شيءٍ شهيدٍ أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالهم وأفعالهم وكلّ خَلْقه مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً ، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافيةٍ في كوْنه كله .. فانتبهوا لذلك أيها الناس جميعا وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴿10﴾ " أيْ إنَّ الذين اخْتَبَرُوا المؤمنين والمؤمنات في إيمانهم أيْ تصديقهم بوجود الله تعالي وعملهم بأخلاق إسلامهم هل يستمرّون علي ذلك أم لا من خلال إيذائهم ومحاولاتهم المختلفة بكل الوسائل التَّرْهِيبِيَّة أو الترغيبيّة لإبعادهم عنه ، ثم استمرّوا وأصرّوا علي هذا ولم يَتَرَاجَعوا بالتوبة أيْ بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، فلهم حتما في مُقابِل هذا في الآخرة عذاب جهنم بكل أصنافه المتنوعة التي لا تُوصَف ولهم العذاب الشديد المُحْرِق الذي سيحرقهم مثلما عذّبوا وحرقوا المؤمنين في الدنيا .. هذا ، وتكرار لفظ " عذاب " هو لمزيدٍ من التأكيد علي عذابهم المُضَاعَف المُتَنَوِّع .. إضافة قطعا إلي ما كانوا فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴿11﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، مثل هؤلاء لهم حتما في الآخرة عند الله تعالي ومن أفضاله ورحماته وعطاءاته وبركاته جنات أيْ بساتين تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴿11﴾ " أيْ ذلك كله الذي يُعطيهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أكبر وأعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني " إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء الذين يحاولون فتنة المؤمنين والمؤمنات ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. أيْ حَذّرهم أيها المسلم بالأسلوب الذي يُناسبهم وحَذّر كل المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الظالمين الفاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار بأنواعها ودرجاتها المختلفة إنَّ بَطْشَ ربك لشديد أيْ بكل تأكيدٍ بالغ أقصي مَدَيَ في الشدّة ، والبطش هو الأخذ بقوة وسرعة وعنف ، أيْ سيُعذّبهم بشدّة وقوة حيث سيَنتقم منهم أشدّ الانتقام بما يُؤلمهم ويُذلهم ويُتعسهم أيْ سيُعاقبهم في مُقابِل تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبما يُناسب ذلك ، وهذا البَطْش الشديد لهم سيكون بعضه في الدنيا يَتَمَثّل في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿13﴾ " أيْ ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه هو وحده لا غيره الذي يُبْدِيء الخَلْق أيْ يَخْلُقه أولا في الدنيا ثم يُعيده بخَلْقِه مرة ثانية في الآخرة ، فكيف يُكَذّب مَن يُكذب بوجود الله تعالي ، وبصلاحية شرعه الذي أرسله للبَشَر وهو الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم ، وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة ؟! ألم ينظروا حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يبدأ خَلْقا ما في كل لحظة سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي ؟! إنَّ في الآية الكريمة لوْماً شديداً لمِثْل هؤلاء علي تعطيلهم لعقولهم وعدم استجابتهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربه ولدينهم ليسعدوا في الداريْن .. ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز !! إذن فهو وحده الخالق !! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة ؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته ! .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه تعالي يُبْدِيء العذاب علي المُكَذّبين والمُسيئِين ثم يُعيده عليهم بما يدلّ علي بطشه الشديد المذكور في الآية السابقة ، يُكَرِّره ويُعيده لهم في الدنيا أولا بما يُناسبهم ويَستحِقّونه ما داموا مستمرّين علي سُوئهم لعلهم يستيقظون ويتوبون ، ثم في الآخرة بما لا يُوصَف
ومعني " وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿14﴾ " أيْ وهو تعالي – مع بَطْشِه الشديد لمَن يستحِقّه مِن المُكَذّبين والمُسيئين – الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم أيْ الكثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. وهو الودود أيْ الكثير الحب والرعاية والكرم لمَن آمَنَ به واتَّبَعَ أخلاق الإسلام ولكل مَن تاب من ذنوبه مهما كانت كثيرة وكبيرة
ومعني " ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿15﴾ " أيْ هو سبحانه صاحب المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه .. وهو تعالي المجيد أىْ الكثير المَجْد والشرف والقَدْر الرفيع والعَظَمَة في ذاته وفي صفاته حيث له كل صفات الكمال الحُسني
ومعني " فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿16﴾ " أيْ وهو تعالى إذا أرادَ إيجاد شيءٍ أو إحداثَ فِعْلٍ ما ، فإنه بمجرّد أنْ يقول له كُن فإنه يكون ويَحدث فوراً كما يُريد لا يَمتنع عليه ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مَنْعه ، فهو لا يحتاج مثلا إلي أدواتٍ وخاماتٍ وخطواتٍ وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر ! وذلك لتمام قُدْرته وكمال عِلمه فهو ذو العَرْش المجيد
ومعني " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ﴿17﴾ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿18﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿19﴾ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿20﴾ " أيْ هل وَصَلَ إلى عِلْمك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم ذلك الخَبَر المُهِمّ ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر .. إنه خَبَر وقِصَّة الجنود الذين تَجَنَّدُوا ضِدَّ الله ورسله والإسلام والمسلمين في زمنهم فكذّبوا بهم ولم يَتَّبعوهم وآذوهم وحاولوا مَنْع نشر إسلامهم بين الناس فصبروا وتمسّكوا وعملوا بدينهم ونشروه ودافعوا عنه بما استطاعوا حتي نصرهم الله وهَزَمَ وعذّبَ وأهلكَ عدوهم ، من أمثال فرعون ملك مصر ومعاونيه وجنوده وقومه الذين كذّبوا رسولنا الكريم موسي وآذوه ، وثمود قوم رسولنا الكريم صالح الذين كذّبوه ، وغيرهم مِن أشباههم كثيرون .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء في كل عصرٍ لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿19﴾ " أيْ لكنَّ المُعاصِرين لكم أيها المسلمون من الذين كفروا أمثالهم لم يَتَّعِظُوا بعذابِ وهلاكِ مَن سَبَقَهم واستمرّوا علي ما هم فيه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار .. " وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿20﴾ " أيْ واعلموا جميعا أنَّ الله تعالي يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه ، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب ، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه ، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية ، فلا مَفَرّ إذَن لهؤلاء المُكذبين حينما ينزل بهم عذابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسبا مُتْعِسَاً لهم مُسْعِدَاً للمسلمين .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولأمثالهم أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما في الداريْن بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ
ومعني " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ " ، " فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴿22﴾ " أيْ ليس الأمر كما يقول ويَدَّعِي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن عن القرآن العظيم كذباً وزُورَاً أنه ليس كلام الله تعالي وإنما هو أساطير الأولين أيْ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها أو هو شعر أو ماشابه هذا مِن سَفَهٍ وتخريفٍ ولكنَّ الحقّ أنه كلامه سبحانه وأنه مجيد أيْ كثير المَجْد والشرف والقَدْر الرفيع والعَظَمَة والكرم والخير الوفير الذي يَجِد فيه كلّ طالبٍ ما يريده من تمام الخير والأمن والسعادة في الداريْن لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها ، وأنه مِن مَجْدِه وعظمته وتمام حِفْظه موجود في لوحٍ محفوظ أيْ في كتابٍ في السماء مكتوب فيه كلّ عِلْم الله تعالي وفيه ما هو غائب عن الناس وكل أقوالهم وأفعالهم منذ بدء الحياة وحتي نهايتها وما سيَحدث في هذا الكوْن قبل خَلْقه وكيفية ووقت حدوثه حتي يوم القيامة والذي لابُدّ أن يتحقّق ويقَع في التوقيت المُحَدَّد في علمه سبحانه ، وهو لوح مَصُون مَحْمِيّ مِن أيّ تغييرٍ أو تحريفٍ أو زيادةٍ أو نقصانٍ ، ولا يعلم حقيقته وشكله وحجمه وتفاصيله إلا الله تعالي
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿4﴾ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿5﴾ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴿6﴾ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿7﴾ إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿8﴾ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴿10﴾ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴿11﴾ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴿12﴾ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿4﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ كلّ نفسٍ لَمَّا عليها حافظ (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالسماء للانتباه لِمَا فيها مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِرَاتٍ مُفِيدَاتٍ مُسْعِدَاتٍ للخَلْق ، ويُقَسِم بالطارق وهو النجم الذي يَطْرِق السماء أيْ يَدَقّ علي بابها ويَأتيها ويَظهر فيها ليلا بحيث تنفعهم هذه النجوم بأن تُضِيء لهم سُكُون الليالي بتَلألأها وبأن تُحَدِّد اتّجاهات الطرق البرية والبحرية التي يسيرون فيها وتُسعدهم بكلّ ذلك وغيره من المنافع ولو كانت السماء مُظلمة تماما كيف يكون حالهم ليلا ؟! إنها ستكون بالتأكيد مُخيفة مُتْعِسَة لهم !! .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ السماء وربّ الطارق .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هو الطارق أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك به علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينه واقعيا لخروجه عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما رأوه وتَخَيَّلوه فهو أعظم من تَخَيّلِهم .. " النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ " أيْ هذا الطارق هو النجم الذي يَثْقب أيْ يَنْفذ ضوؤه الظلامَ فيَظهر مُضِيئا .. " إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿4﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ السماء وحقِّ الطارق ، ما كلّ نفسٍ من نفوس بني آدم إلا عليها حافظ وهو الله تعالي أيْ مُرَاقِب مُطّلِع على كلّ شيءٍ من أحوالها يَحفظها لها تمام الحِفْظ وسيُحاسبها عليه ، وكذلك عليها حافظ منه سبحانه وبأمره وهو الملائكة التي تحفظ عليها هذه الأحوال بكل أقوالها وأفعالها خيرها وشَرّها وتُحْصِيها وتُسَجِّلها لها كاملة تامّة بكل أمانةٍ لتُحَاسَب عليها يوم القيامة ، وأيضا عليها حافظ هو العقل الذي وَهَبَه لها يُرْشِدها إذا أحْسَنَت استخدامه لكلّ ما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها في دنياها وأخراها .. فعلي كل عاقلٍ أن يُراعِيَ ذلك فيَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن .. هذا ، ومن معاني حافظ أيضا أنَّ الملائكة تحفظ نظام الكوْن تنفيذا لأوامر الله تعالي بما يَحفظ لكل نفسٍ – ولكل خَلْقه – منافعها وقُوَاها ليتحقّق لها تمام الراحة والطمأنينة والسعادة
ومعني " فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿5﴾ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴿6﴾ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿7﴾ إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿8﴾ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴿10﴾ " أيْ هذا إرشادٌ وتوجيهٌ من الخالق العظيم لكل إنسانٍ لأنْ يكون مِن المُتَدَبِّرين في كل خَلْق الله تعالي فهذا سيزيده حتما يَقينا أيْ تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقه الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن .. ولأنْ يكون أيضا من الشاكرين له علي نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ ومن العابدين أيْ الطائعين له وحده بلا أيِّ شريك ، ليسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه .. " فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿5﴾ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴿6﴾ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿7﴾ " أيْ فلْيَتَدَبَّر الإنسان من أيِّ شيءٍ خُلِق ، لقد خُلِقَ مِن ماءٍ مُتَدَفّقٍ باندفاعٍ وسرعةٍ يخرج من الرجل وهو المَنِيّ ويُصَبّ فى رحم المرأة فتبدأ أطوار الجنين في التَّكَوُّن والنمو بتمام قُدْرة الله وكمال عِلْمه حتي يُولَد للحياة إنسانا ، وهذا الماء يَخرج من بين الصلب وهو العمود الفقريّ وبين الترائب وهي الضلوع التي تخرج منه علي اعتبار أن الخصيتين وهما مصدر المَنِيّ تكونان عند تكوينهما في الجنين في هذا المكان قبل أن تَنْزِلا إلي موضعهما المعروف بين الفخذين عند الولادة ، كما وَضَّحَ هذا علماء الأَجِنَّة ، إضافة إلي أن أوعيتهما الدموية وأعصابهما التي تُغَذّيهما لكي تُفْرِز المَنِيّ عند سِنّ بلوغ ذلك أصلهما من هذا المكان أيضا فكأنه يخرج منه
ومعني " إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿8﴾ " أيْ إنَّ الله الذى خَلَقَ الإنسان هكذا ابتداءً من هذا الماء الدافِق بهذا الإعجاز قادر حتما بكل تأكيدٍ على إعادة خَلْقه بعد موته وكوْنه ترابا ، فكيف يُكَذّب المُكَذّبون بالبَعْث وإعادة الخَلْق بأجسادهم وأرواحهم يوم القيامة لحسابهم ؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته !
ومعني " يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، هو يوم تُكْشَف الأسرار والخَفَايَا التي كان يُخفيها الإِنسان فى دنياه من خيرٍ وشرّ ، حيث في الدنيا تخفي كثير من الأمور ولا تظهر للناس وأما في الآخرة فيظهر خير الأخيار وشرّ الأشرار .. فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ سواء في السرِّ أو العَلَن من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴿10﴾ " أيْ فمَا للإنسان يومها مِن أيِّ قوةٍ في نفسه مِن داخله تَحْمِيه من الحساب والجزاء علي ما عمل في دنياه ولا أيِّ ناصرٍ من خارجه يَطلب نصره والدفاع عنه مثلما كان يَحدث في الدنيا
ومعني " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴿11﴾ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴿12﴾ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴿14﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ هذا القرآن العظيم هو حتما بكل تأكيدٍ قول فَصْل وما هو بالهَزْل ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالسماء للانتباه لِمَا فيها مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِرَاتٍ مُفِيدَاتٍ مُسْعِدَاتٍ للخَلْق ، يُقْسِم بالسماء صاحبة الرَّجْع أيْ المطر أيْ الماء الذي يَشربه الناس وكلّ حيٍّ وكلّ زَرْع وبدونه لا حياة لهم ، وسُمِّىَ بذلك لأنه يَرْجِع ويَجِيء ويَتَكَرَّر بين الحين والآخر ، وأيضا من معاني الرَّجْع هنا الشمس والقمر والنجوم لأنها تَرْجِع فى السماء حيث تطلع من ناحية وتغيب فى ناحية أخري لتنفع الخَلْق بمنافعها المُتَعَدِّدة .. ويُقْسِم بالأرض صاحبة الصَّدْع أيْ التَّشَقّق بالنبات المُتنوِّع الخارج النَّامِي منها بعد نزول الماء عليها بحيث تخرج النباتات من داخلها خروجا تدريجيا مُعْجِزَاً مُفيداً مُسْعِدَاً .. " إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ السماء ذات الرجع والأرض ذات الصَّدْع إنَّ هذا القرآن العظيم حتما بكل تأكيدٍ هو قولٌ فَصْلٌ أيْ فاصلٌ بين الحقّ والباطل والهُدَىَ والضلال والصدق والكذب والعدل والظلم والخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة حيث يُبَيِّن كل ذلك بتمام البيان والوضوح وبالحُكْم الفاصِل الحاسِم النهائيّ الذي لا تعقيب عليه .. " وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴿14﴾ " أيْ وليس فيه حتماً أيّ مزاحٍ بل هو جدّ كله ، وهو مُهَاب مُعَظّم ، يَجِد فيه كلّ طالبٍ ما يريده من تمام الخير والأمن والسعادة في دنياه وأخراه لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها فيهما .. فعلي كل عاقل أن يجعل الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل هو دائما مرجعه في كل مواقف ولحظات حياته ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة سيجد السعادة كلها في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴿15﴾ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴿16﴾ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴿15﴾ " ، " وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴿16﴾ " أيْ إنَّ المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمان ومكان يَكيدون كيداً كبيراً شديداً بالإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، أيْ يفعلون المَكَائِدَ بهم بكل أشكالها ، أيْ يُدَبِّرون ضدّهم ما يُوقِع بهم الشرّ والهلاك ، حيث يستخدمون إمكاناتهم محاولين إيذائهم قوليا وفعليا ومَنْع الناس عن اتَّباع الإسلام بتشويه صورته وصورة المسلمين وبنشرهم الشرور والمَفاسد والأضرار وما شابه هذا من مَكائد مُتَعَدِّدَة .. " وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴿16﴾ " أيْ وأنا الله القويّ المَتِين أقابل كيدهم بكيدٍ قويٍّ متينٍ لا يمكن لأحدٍ منعه لإظهار الحقّ ، وماذا يُساوِي كيدهم الهزيل هذا في مُقابِل كَيْدِي وأنا خالق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي لي الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا أنا ؟! إنَّ نتائج كيدي ونصري ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يشعرون ببداياته فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومته أو الفرار منه .. إنَّ الله تعالي حتما هو خير الماكِرين الكائدين ، وكَيْده بأهل الشرّ لإبطال مكائدهم واستدارجهم درجة بدرجة نحو هلاكهم بأخفّ جنوده والتي لا يعلمها إلا هو استهزاءً بهم واحتقاراً لهم لا يُقارَن حتما بكيدهم هم ، وهل تُقَارَن قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيء بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو له ؟! .. هذا ، ولفظ الكَيْد إذا نُسِبَ إلي البَشَر فإنه يعني الخِداع من أجل إيقاع الشرّ ، أما إذا نُسِبَ إلي الله تعالي فإنه يعني التدبير ، وللخير .. إنهم حتماً واهِمون ، إنهم هم الذين مع الوقت سيُكَادُون أيْ الذين سيُصيبهم الشرّ والهلاك وسيَعود عليهم كيدهم وسيُغْلَبُون وسيَخسرون ، إمّا بصورةٍ مباشرةٍ من الله تعالي بزلازل أو أعاصير أو أمراض أو نحوها وإمّا بأنْ يُسَلّط عليهم خَلْقَاً من خَلْقه يَنتقمون منهم ، ويُقَوِّي المسلمين ويُنجيهم من مَكْرهم وتدبيرهم ويَنصرهم عليهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر " .. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وفي هذا استهانة بشأنهم وتهديد لهم وطَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم
ومعني " فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴿17﴾ " أيْ فتَمَهَّل أيها المسلم مع الكافرين ومَن يَتَشَبَّهَ بهم أيْ لا تَستعجل عقابهم وانتظر مُستبشراً مُتفائلاً كَيْدي بهم ونَصْري لك فهو واقع حتماً بكل تأكيدٍ وهو وَعْدِي الذي لا يُخْلَف مُطلقا والذي سيكون بأتعسِ توقيتٍ وأسلوبٍ لهم يُناسبهم وأسْعَدِه لكم أيها المسلمون ، وأمهلهم رويداً أي وأجِّلْهم وقتاً قليلا فإنَّ كل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد .. هذا ، وتِكْرار الإمهال هو للتأكيد عليه وعلي الصبر وعدم التَّعَجُّل
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴿1﴾ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿2﴾ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴿3﴾ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ﴿4﴾ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴿1﴾ " أيْ سَبِّح يا كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ باسْم ربك أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك ، الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه والأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه ، فسَبِّحوه تعالي أيها الناس ، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته ، أيْ نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿2﴾ " أيْ ومِن صفاته سبحانه ، صفات الكمال الحُسني ، إضافة إلي صفة الأعلي ، والتي تدلّ كل عاقلٍ علي أنه هو الأعلي وأنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة ، أنه هو الذي خَلَقَ كل مخلوقٍ أيْ أوْجَده من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ فجعله سَوِيَّاً أيْ سليما في كل قوَاه خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعه ، بكل تَنَاسُقٍ وإحكامٍ وإتقانٍ وإحسان
ومعني " وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴿3﴾ " أيْ وكذلك من صفاته سبحانه أنه قَدَّرَ وضَبَطَ تماماً بكل دِقّةٍ واتِّزانٍ وحسابٍ وحِكْمَةٍ بلا أيِّ خَلَلٍ أو عَبَثٍ وأعطي لكل مخلوقٍ من المُواصَفات والإمكانات التي تُمَكّنه من أداء وظائف ومهامّ له في هذه الحياة ثم هَدَاهُ وأرشده لكيفية أدائها ، لتكون كلها مُسَخَّرَة للإنسان ، والذي قَدَّرَ له وأعطاه مواصفاتٍ أهمها العقل ، وهَدَاه وأرشده لكي يعرف خالقه تعالي بالفطرة التي وضعها فيه ويُحْسِن التَّوَاصُل معه والعمل بدينه الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، فيكون بذلك ابن آدم قد اهتدي ووَصَلَ لما أراده الله منه وخَلَقَه لأجله وهو الانتفاع التامّ بالحياة الدنيا والسعادة التامّة فيها ثم الأتمّ والأعظم والأخلد في الآخرة (برجاء مراجعة سبب الحياة والخِلْقة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ﴿4﴾ " أيْ ومن صفاته سبحانه أيضا أنه هو وحده لا غيره الذي أنبت من الأرض عند سَقْيِهَا بالماء كل أنواع النبات والعُشْب في المَراعِي التي تَرْعَيَ فيها الداوبّ ليكون ذلك متاعا لكم تتمتعون وتنتفعون وتسعدون به أنتم ودوابّكم والتي بقُوَّتها تُعينكم وتُفيدكم وتُسعدكم
ومعني " فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ﴿5﴾ " أيْ فجعله بعد ذلك ، بعد خُضْرته ونضارته ، مِن تمام قُدْرته ، غثاءً أيْ يابِسَاً جافا ، أحوي أيْ أسوداً من شدّة جفافه .. وفي الآية الكريمة دلالة واقعية مَلْمُوسَة على أنه تعالى يتصرّف فى خَلْقه كما يشاء فهو القادر علي إنشائهم وإنهائهم ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، كما أنها تدلّ ضِمْنَاً علي قِصَر الحياة وقِلّة مُتَعها مُقَارَنَة بخلود الآخرة وسعاداتها فهي كالنبات الذي يكبر وينمو ثم يجفّ وينتهي ، هكذا بسرعة ، وهكذا هو حالكم في دنياكم تكونون أقوياء ثم تضعفون مع كبر السنّ ثم تموتون ، وهكذا هو حال الدنيا وحال كل ما فيها مِن مُتَعٍ يَتَوَهَّم مَن فيها أنها مستمرّة دائمة معهم ثم ينقطعون عنها بموتهم ثم تنتهي هي كلها يوم القيامة ، فلْيُحْسِن كل عاقلٍ إذَن الاستعداد لحساب الآخرة بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ﴿6﴾ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿7﴾ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ﴿6﴾ " ، " إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿7﴾ " أيْ هذا طَمْأَنَة للمسلمين أنَّ الله تعالي بذاته العَلِيَّة هو الذي يَتَكَفّل بحفظ القرآن العظيم في الحياة عموما لإسعادها وفي عقولهم ، ويُيَسِّر لهم قراءته وتَدَبّره وفهمه لمَن اجتهد في ذلك وحَرِص عليه فلا داعي إذَن للقلق والاضطراب والخوف من غيابه أو ضياعه أو نسيانه أو تغيير أيِّ حرفٍ فيه أو ما شابه هذا من مَخاوِف (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿9﴾ من سورة الحجر " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ، والآية ﴿17﴾ من سورة القمر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. لقد كان الرسول الكريم ﷺ يُحَرِّك لسانه مع جبريل عليه السلام وهو يقرأه عليه عن الله تعالي ليُبَلِّغه للعالمين مُتَعَجِّلاً بقراءته وحِفْظه معه مُحْتَاطَاً ومُتَخَوِّفَاً وحَذِرَاً أن يَتَفَلّت ويَفقد ويَنْسَيَ منه أيّ شيءٍ وذلك من حرصه الشديد ﷺ على تمام حفظ وصيانة وتبليغ كل ما أنزل إليه بتمام حروفه وكلماته ونصوصه ، فطَمْأَنَه الله تعالي بأنه سيُقْرئه فلا يَنْسَيَ ما أقرأه إيّاه بل يحفظه حفظا متينا تامّا .. هذا ، وعدم نسيان الرسول ﷺ لأيِّ حرف منه يكون قبل تبليغه للناس لكن بعد تبليغه فمن المُمكن أن ينسي شيئا ويحتاج إلي مَن يُذَكّره ويفتح به عليه لأنه ﷺ بَشَر وقد حدث هذا معه بالفعل في بعض صلوات الجماعة ، وهذا مِمَّا شاء الله له أن ينساه ليُذَكِّر الناس أنه بَشَر مثلهم وليس إلاهاً يُعْبَد كما فَعَلَت بعض الأمم مع رسلها .. " إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ .. " أيْ إلا إذا أراد الله للقرآن الكريم أن يُنْسَيَ ويُرْفَع من الأرض ، ولن يشاء حتما هذا !! أيْ من المُمْكِن كما أوحينا إليكم أيها الناس القرآن أن نمحوه ونسحبه منكم وننسيكم إياه فنحن قادرون علي كل شيء ، علي الوحي وعلي الذهاب به ، فتصوروا حالكم حينها وأنتم مُنْقَطِعين عن ربكم وإسلامكم !! لكنه تعالي لم يشأ ذلك ولن يشاءه ولا يمكن أن يفعل هذا رحمة بكم وحبا فيكم فأنتم خَلْقه وصَنْعَته ، وما خَلَقَكم إلا ليُسعدكم ، ولن تَسعدوا إلا بهذا القرآن والإسلام ، فلتشكروه إذَن علي هذا الفضل الكبير شكرا عمليا بأن تتمسّكوا به وتحافظوا عليه وتُحسنوا استخدامه بإسعاد ذواتكم وغيركم في الداريْن .. إنه تعالي يُذَكِّرهم بهذه النعمة العظيمة والتي بدونها لا حياة حقيقية سعيدة تمام السعادة في الدنيا ثم الآخرة ، إذ بدون التواصُل مع الخالق الكريم واتِّخاذ الرسول ﷺ قُدْوة في كل أفعاله وأقواله والتمسّك والعمل بالقرآن الكريم وبكل أخلاق الإسلام يكون التَّخَبُّط والضياع والفوضي في كل شيء وتكون التعاسة التامة في الداريْن ، ولذا يُذَكِّرهم ليَحرصوا عليه أشدّ الحرص ويتمسّكوا به تمام التمسّك ويعملوا به كله ولا يَنسوه وإلا سيَضيع منهم وسيَضيعون بعدها .. " .. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿7﴾ " أيْ إنه تعالي حتما يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه الظاهر من أقوالكم وأعمالكم الخيرية والشَّرِّيَّة وما يَخْفَيَ منها ، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه ، وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فانْتَبِهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام التي في القرآن العظيم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴿8﴾ " أيْ واطْمَئِنّ واسْتَبْشِر دائما أيها المسلم فسنُقْرئك فلا تَنْسَيَ (راجع تفسير الآية ﴿6﴾ لتكتمل المعاني) وسنُوَفّقك باستمرارٍ لليُسْرَيَ أيْ للطريقة التامَّةِ اليُسْر فى كل شئون حياتك وسنُيَسِّر ونُسَهِّل لك كل أسبابها من خلال اليُسْرَي أيْ الشريعة المُيَسَّرَة السَّهْلَة وهي الإسلام والذي ليس فيه أيّ ضيقٍ أو شدّةٍ بل كل أخلاقياته وتشريعاته وأنظمته سَهْلَة مُيَسَّرَة مُسْعِدَة لمَن يعمل بها كلها (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة " .. يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وبهذا ستَسعد تماما بحياةٍ سَهْلَةٍ سعيدةٍ في دنياك – وذلك إذا عملت بكل أخلاقه – ثم نُيَسِّر لك في أخراك اليُسْرَيَ والتي تعني أيضا الجنة
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴿10﴾ وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ﴿11﴾ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴿12﴾ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ﴿13﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿16﴾ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون دعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن﴾
هذا ، ومعني " فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها المسلم أننا سنُيَسِّرك لليُسْرَيَ ﴿راجع تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ فدَاوِم إذَن بكل اجتهادٍ وقَدْر استطاعتك وبكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة علي تذكير الناس جميعا بالقرآن والإسلام الذي فيه تمام سعادتهم في الداريْن ، إنْ نَفَعَ هذا التذكير أو إنْ لم ينفع ، فلعله يَنفع يوما ما ! فالدعوة عامة للجميع واستجابة المدعوين للذكري وتوقيتها أو رفضهم إياها أمور غيبية مستقبلية لا يعلمها إلا الله تعالي وحده .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنْ ذَكِّر حيث تنفع الذكري فقط وليس في كل وقتٍ ومع كل أحد ، فالداعي إلي الله والإسلام يَخُصّ بالتذكير مَن يَغْلِب علي ظنه أنه ينتفع بهذه الذكري والموعظة ولا يُتْعِب نفسه مع مَن تَأَكَّدَ في الغالب أنه لا ينفعه التذكير ولا يزيده إلا بُعْدَاً وتكذيباً واستكباراً واستهزاءً كما يُثبت الواقع ذلك مع البعض ويُوَفّر جهده لآخرين ينتفعون به ، مع استمراره كذلك في دعوة المُكَذّبين والمُعاندين لكن بما يُناسبهم وبين الحين والحين علي حسب تقديره للأمور بما يُحَقّق أفضل النتائج وأقل الخسائر (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿45﴾ من سورة ق " .. فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ " ، والآية ﴿29﴾ من سورة النجم " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا .. "﴾
ومعني " سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴿10﴾ " أيْ سيَتَّعِظ وسيَنْتَفِع بهذه الذكري فقط مَن يَخشي الله سبحانه أيْ يَخافه ويخاف عذاب الدنيا والآخرة – والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فيَدْفَعه هذا إلي أن يعمل بكل أخلاق إسلامه فيَسعد في الداريْن
ومعني " وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ﴿11﴾ " أيْ ويتَجَنَّب الذكرى أيْ ويبتعد عن الموعظة ولا يلتفت إليها ولا يهتمّ وينتفع بها الإِنسان الشديد الشقاوة والتعاسة وهو المُصِرّ علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولم يَخْش الله تعالي
ومعني " الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴿12﴾ " أيْ الذى مِن صفاته أنه سيَصْلَىَ أيْ سيَحترق وسيُشوي جسده بالنار العظيمة الشديدة الهائلة المُعَدَّة لعذابه يوم القيامة بأنواع العذاب المختلفة ، إنها النار الكبري نسبة إلي نار الدنيا الصغري التي لا تُقارَن حتما بها
ومعني " ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ﴿13﴾ " أيْ ثم إنَّ هذا الشقِىّ بعد أنْ يُلْقَىَ به فى النار الكبرى لا هو يموت فيها فيستريح من عذابه بالموت ولا هو يحيا حياة طيِّبَة مُريحة يَسعد بها بما يعني أنه يبقي هكذا في عذابٍ دائمٍ مُستمِرٍّ مُتَنَوِّعٍ في كل لحظة إلي ما شاء الله علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بلا أيِّ أملٍ في أيِّ خيرٍ بل هو في يأسٍ تامّ
ومعني " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴿14﴾ " ، " وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ قد نَجَحَ وربح وفاز وانتصر وسَعِد في دنياه وأخراه بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ نجاحا وربحا وفوزا ونصرا وسرورا عظيما لا يُقارَن كل مَن تَزَكَّيَ أيْ تَطَهَّر مِن كلّ سوءٍ ككفرٍ أيْ تكذيبٍ بوجود الله أو شركٍ أي عبادة لغيره كصنم أو غيره أو ظلمٍ أو فسادٍ أو نحوه من الشرور ونَمَّيَ ذاته في كل خيرٍ بأن اجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه ، والتزكية هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات .. " وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾ " أيْ قد أفلح مَن تَزَكَّيَ واتَّصَفَ بدوام ذِكْر ربه في كل أحواله أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذكر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ فأَدَّيَ ذلك به إلي دوام حُسن عبادته أيْ طاعته وإقامة الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها – وغيرها – وأدائها علي أكمل وأحسن وأتقن وجهٍ مُمْكِن .. هذا ، والآية الكريمة تُخَصِّص الصلاة رغم أنها داخلة في معني الذكر والعبادة للتنبيه علي أهميتها وفضلها ونفعها وسعاداتها في الداريْن لمَن يُحسن إقامتها
ومعني " بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿16﴾ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿17﴾ " أيْ لقد بَيَّنَّا لكم أيها الناس ما يُؤَدِّى إلى فلاحكم وسعادتكم التامّة في دنياكم وأخراكم ولكنكم كثير منكم لم يستجب لِمَا بَيَّنَّاه له ، بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا أيْ تُقَدِّمونها وتُفَضِّلونها وتختارون مُتَعَها الزائلة فقط دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فأنتم لا تريدونها ولا تعملون لها سواء أكنتم كفاراً أيْ غير مُصَدِّقين بها أصلا أم مسلمين لكنكم ناسِين لها بسبب ترْككم لأخلاق إسلامكم بعضها أو كلها ولم تُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربكم الكريم الرحيم والإسلام منكم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن﴾ بل قد استمتعتم بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واخترتم معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلتموها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبكم للآخرة لأنكم قد نَسيتموها مُطْلَقَاً أو لا تُصَدِّقون بها مِن الأصل
ومعني " إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ﴿18﴾ " ، " صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴿19﴾ " أيْ إنَّ هذا المَذكور لكم في هذه السورة الكريمة لَثَابتٌ ومذكورٌ معناه ومَضمونه بالتأكيد في الصحف السابقة التي أنزلت قبل القرآن العظيم ومنها صحف إبراهيم ﷺ وتوراة موسي ﷺ .. إنَّ هذه الصحف وغيرها كلها أصلها الإسلام لكنْ بما يناسب كل عصر بما يُسْعِد الناس في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه ، وكلها صُحف مشهورة يَعلم أكثرها الجميع ، وكلها وَحْي من عند الله تعالي لا من كلام البَشَر ، فإذا كان هناك مَن يُكَذّب بما جاء في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي محمد ﷺ فليسأل إذَن المُتَخَصِّصِين وليبحث عَمَّا جاء في صُحف إبراهم وموسي وسيتأكَّد أنَّ أصول ما فيها هو ما في القرآن تماما بلا أيِّ اختلاف ، فالقرآن إذَن صادق بلا أيّ شكّ ولكنَّ المُكَذّب هو الذي يُغْلِق عقله ويُرَاوِغ !! لقد عَطَّله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴿1﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ﴿4﴾ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴿5﴾ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ﴿6﴾ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴿7﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴿8﴾ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴿9﴾ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿10﴾ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴿11﴾ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12﴾ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴿13﴾ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴿14﴾ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴿15﴾ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴿1﴾ " أيْ هل وَصَلَ إلى عِلْمك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم ويا كل عاقل ذلك الخَبَر المُهِمّ ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر .. إنه خَبَر وقِصَّة الغاشية ، وهي الآخرة ، القيامة ، والتي لها عِدَّة أسماءٍ ذَكَرَها القرآن الكريم كالواقعة والحاقّة والطّامَّة وغيرها ، وسُمِّيَت كذلك لأنها تَغْشَىَ أيْ تُغَطّي الناس بأهوالها وشدائدها وتغطى عقولهم عن التفكير فى أىِّ شيءٍ غيرها .. وفي هذا تذكرة بها إذ هي تمرّ طويلة تعيسة علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما تمرّ سريعة سعيدة علي أهل الخير لأنها تنتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد ، وذلك لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ فيُحسن الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ﴿4﴾ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴿5﴾ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ﴿6﴾ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴿7﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لأحوال الناس في هذا اليوم ، فوجوه أهل النار يومها ذليلة مُنْكَسِرَة مُتَضَائِلَة مُسْتَسْلِمَة بسبب ما هم فيه من خِزْيٍ وعارٍ وفضيحةٍ وحسرةٍ ونَدَم .. " عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ " أيْ عاملة بأجسادها في النار بأعمالٍ شاقّةٍ مُرْهِقَةٍ لا تُوصَف كنوعٍ من عذاباتها التي تجعلها ناصِبَة أيْ تَعِبَة تَعبَاً شديداً بالغاً أقصي درجاته والذي ليس بعده أيّ راحةٍ بل هو دائم كجَرِّ سلاسل مثلا وحملِ أثقالٍ ومرورٍ في حرائق وأقذار وصعودٍ وهبوطٍ بين تلالِ نيرانٍ ونحو هذا من بعض صور العذاب .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ وجوه أهل النار وعقولهم وأجسادهم كانت عاملة في الدنيا بالشرور والمَفاسد والأضرار فجعلها الله تعالي ناصبة في العذاب يوم القيامة بما يُناسب أعمالها .. " تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ﴿4﴾ " أيْ هذه الوجوه والأجسام ستَحْتَرِق وستُشْوَيَ بنارٍ شديدة الحرارة مُعَدَّة لعذابها يوم القيامة بأنواع العذاب المختلفة .. " تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴿5﴾ " أيْ تُشْرَب أصحاب هذه الوجوه من شرابِ عينٍ آنيةٍ أيْ بَلَغَت أشدّ درجات إنَاها أيْ نُضْجَها وغليانها وحرارتها ، وهي أيضا آنية أيْ حاضِرة ، يُعَذّبون بَها عذاباً لا يُوصَف .. " لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ﴿6﴾ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴿7﴾ " أيْ وليس لأصحاب هذه الوجوه أيّ طعامٍ إلا ما يطعمونه من ضريعٍ وهو شجر فى النار يشبه الشوك شديد المرارة والسخونه قبيح الشكل والطعم والرائحة ، وهو حتما لا يُسمن أيْ لا يجعل الجسم سَمِينَاً أيْ ذا لحمٍ وشَحْمٍ وعَضَلٍ وقوة وصحة ، ولا يُغني أيْ لا ينفع ويُشْبِع مِن ألمِ جوعٍ هم فيه
ومعني " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴿8﴾ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴿9﴾ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿10﴾ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴿11﴾ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12﴾ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴿13﴾ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴿14﴾ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴿15﴾ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴿8﴾ " أيْ وجوه أهل الجنة تكون يوم القيامة مُتَنَعِّمَة أيْ يظهر عليها بَهْجَة التَّنَعُّم فهي حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم الذي هي فيه من نِعَم الله تعالي عليها التي لا تُحْصَيَ .. " لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴿9﴾ " أيْ لعملها الذي سَعَت ومَشَت إليه واجتهدت فيه من كل خيرٍ في الدنيا راضية في الآخرة لأنها قد وجدت من ربها الكريم الرحيم في مُقابِله من الثواب العظيم الذي لا يُوصَف أكثر مِمَّا كانت تتوقع وترجو مِمَّا لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. " فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿10﴾ " أيْ في بساتين وقصور وخيرات وكرامات رفيعة عظيمة المَكَانَة والدرجات ، مرتفعة أيضا في بعض أماكنها وأبنيتها وأشجارها بما يُفيد فخامتها ، فهي لا تُقَارَن بشيء .. " لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴿11﴾ " أيْ لا تَسمع أصحاب هذه الوجوه فى هذه الجنة أيّ كلمةٍ ذات لغو ، وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء الذي فيه شرّ وفساد وضَرَر ولا يكون الذى يسمعونه إلا فقط الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو شرٍّ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة .. " فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12﴾ " أيْ في هذه الجنة عيون تَسير وتجري بالماء العَذْب الذي لا ينقطع لتكون مَنْظَرا مُسْعِدَاً ولسَقْي الأشجار والأغصان فتُثمر من جميع الثمار المُبْهِجَة ، وهي تسير وتجري أيضا بلبنٍ أو عسلٍ أو غيره من المشروبات اللذيذة الطيّبة المُتَدَفّقة المُستمرّة بلا نهاية .. " فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴿13﴾ " أيْ في هذه الجنة أَسِرَّة – جمع سرير – هي أيضا مِن بعض تَمَتُّعِ أصحاب هذه الوجوه وسعادتهم حيث يَتَلَذّذون ويَسعدون فيها بأن يجلسوا ويناموا علي سُرُرٍ عالِيَاتٍ ليست علي الأرض بل مرتفعات عنها مُتْقَنَة الصُّنْع مُزَخْرَفَة بالذهب والفضة وغيرهما ، وهي مرفوعة بكثرة حَشْوِ مفروشاتها زيادة في الاستمتاع بها ، وهي مرفوعة القَدْر والقِيمة لأنها مصنوعة من أفخم الخامات وبالتالي فهي مُريحة نَفِيسة مُزَيَّنة بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة ، وهي مرفوعة في مكانها بما يُتيح لهم رؤية مُلْكِهم الذي مَلّكَهم الله تعالي إيّاه في الجنة وهم عليها .. " وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴿14﴾ " أيْ وفيها أيضا أكواب – جَمْع كُوُب – فخمة مُعَدَّة للشاربين حينما يريدون شُرْب مشروبٍ مَا .. " وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴿15﴾ " أيْ وفيها كذلك وَسَائِد كثيرة من حريرٍ وغيره مَحْشُوَّة بحَشْوٍ فخمٍ مُتَعَدِّدَة الأشكال والأنواع والألوان موضوعة علي شكل صفوف مُنتظمة مُتَرَاصَّة بشكلٍ مُمْتِعٍ وبحيث يجدها الجالس قريبة منه فى كل وقتٍ حينما يريد الاستناد عليها لمزيدٍ من راحته واستجمامه وسعادته .. " وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾ " أيْ وفيها بُسُط – جَمْع بِسَاط وهو ما يُبْسَط للجلوس عليه أو السَّيْر عليه كالسجاد – مُنتشرة في كل مكان ، فاخرة ، للتكريم والتشريف والراحة والسعادة
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20﴾ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿21﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ﴿23﴾ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ﴿24﴾ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴿25﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾ " أيْ هل يُهْمِلُون التَّدَبّر في آيات الله تعالي في الكوْن في كل مخلوقاته المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم فلا يَنظرون مثلا إلي الإبل أيْ الجِمال ويَتدبّرون ويَتَعَقّلون فيها كيف خُلِقَت خلقاً بديعاً مُسَخَّرَاً مُفِيدَاً مُسْعِدَاً لمَن يستخدمها يدلّ على قُدْرته سبحانه علي كل شيءٍ وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة ؟! والسؤال هَدَفه رفض حال المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين مع حَثّهم أيْ دَفْعهم وتَشجيعهم هم وعموم الناس ليكونوا مِن المُتَدَبِّرين في خَلْقه سبحانه ليَعبدوه ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن .. " وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ " أيْ وأيضا ألَاَ يَنظرون إلي بعض نِعَمه ورحماته تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها وإلي تمام قُدْرته وكمال علمه أنه كيف رَفَعَ السماوات بغير أعمدة مَرْئِيَّة وفيها ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرَاتٍ مَعلوماتٍ وغير معلومات وكلها مُسَخَّرات لنفع ولسعادة الناس والخَلْق ؟! .. " وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾ " أيْ وكذلك ألَاَ يَنظرون إلي الجبال بقوّتها وبخيراتها كيف أقِيمَت ورُفِعَت وثُبِّتَت على وجه الأرض تثبيتاً راسخاً يحميها من الاضطراب والتزلزل لكي تكون مُسْتَقِرَّة للخَلْق غير مُضطرِبَة فيمكنهم الحياة بسهولة وتَمَتّع عليها ؟! .. " وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20﴾ " أيْ وأيضا ألَاَ يَنظرون إلي الأرض التي يعيشون عليها كيف سُوِّيَت وبُسِطَت ومُهِّدَت لكي يتمكنوا من الاستقرار عليها والانتقال بسهولة فيها والانتفاع والسعادة بكل خيراتها ؟!
ومعني " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿21﴾ " ، " لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنا وبَيَّنَا لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من أحوال الناس يوم الغاشية ، ومن تمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا في خَلْق الكوْن وبَعْثهم يوم القيامة من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم لحسابهم ، فدَاوِم بالتالي إذَن علي دعوة الجميع إلي الله والإسلام ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فهذه هي مهمتك ، فما أنت إلا مُذَكِّر أيْ واعِظ ما أمكن لكل الناس حولك تُذَكِّرهم حتي لا يَنسوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم .. " لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ " أيْ فأنتَ لستَ بمُتَسَلِّط عليهم مُتَحَكِّم فيهم تُجْبِرهم وتُكرههم على اتِّباع الإسلام ، وإنما أنت عليك فقط التذكير والتبليغ والوعظ ونحن علينا الحساب ، وليس عليك أكثر من ذلك ، فليس عليك هدايتهم لله وللإسلام وإنما الأمر يعود لاختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم ، فإن اختاروا الهداية سَعِدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وإن لم يختاروها تعسوا فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿45﴾ من سورة ق " .. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ " ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. فإنْ فعَلَتَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعدك هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم ، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم ، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم ، ولا يتأثروا بهم ، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم ، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وليس عليهم أكثر من ذلك ، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما ، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوَان
ومعني " إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ﴿23﴾ " ، " فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ﴿24﴾ " أيْ داوِم أيها المسلم على التذكير لكنْ مَن تَوَلّىَ أيْ أعطيَ ظهره للقرآن والإسلام والتفتَ وانصرفَ وابتعدَ عنه وتَرَكَه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بل وقاوَمه وحَاوَل يائِساً مَنْع انتشاره ، وكَفَرَ أيْ كذّبَ بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ولذلك فَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره ، وأصَرَّ واستمَرَّ علي ذلك دون عودةٍ لربه ولإسلامه ، فذلك وأمثاله يُعذّبه الله تعالي العذاب الشديد ، بما يناسبه ، فهو الخالق الجبّار الذي يَتَوَلَّيَ حسابه وعقابه ، في دنياه بدرجةٍ ما من درجاتِ العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه ينال ما هو أكبر عذابا وتعاسة مِمَّا ناله في الدنيا وأعظم وأتمّ وأشدّ .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴿25﴾ " ، " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴿26﴾ " أيْ داوِم أيها المسلم على تذكير الناس بالله والقرآن والإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنَةٍ ، بدون إجبارٍ لهم أو سيطرة وتَسَلّط عليهم ، واتركهم بعد ذلك لاختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم ، فأنت لهم مُذَكِّر ولستَ عليهم بمُسَيْطِر ، فإنَّ إلينا وحدنا لا إلي أحدٍ غيرنا حتما بالتأكيد إيابهم أيْ رجوعهم يوم القيامة بعد موتهم ببعثهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا ، ثم إنَّ علينا وحدنا أيضا ونحن العالمين بكل شيءٍ عنهم حسابهم على أعمالهم ومجازاتهم عليها إنْ كانت خيراً بكل خيرٍ وسعادة وإنْ كانت شرَّاً بكل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي الآيتين الكريمتين – كما السابقتين – تحذيرٌ شديدٌ للمكذبين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَالْفَجْرِ ﴿1﴾ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴿2﴾ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿4﴾ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْفَجْرِ ﴿1﴾ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴿2﴾ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿4﴾ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴿5﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّه لَبِالْمِرْصَاد (انظر تفسير الآية ﴿14﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالفَجْر وهو وقت انفجار ضياء النهار من ظلام الليل وما يَعنيه ذلك من انطلاق الناس لتحصيل خيراتِ وسعاداتِ سَعْيهم في حياتهم ، وقد يُقْصَد بالفجر أيضا صلاة الفجر للاهتمام بها حيث هي تُجَهِّز ليومٍ سعيدٍ عند أدائها بإحسان .. ويُقْسِم بليالٍ عَشْرٍ وهي الليالى العشر الأُوَل من شهر ذى الحجة لأنها وقت مناسك الحج وهي أيامٌ العمل الصالح فيها أحبّ إلي الله تعالي أو هي الليالى العشر الأواخر من رمضان التي فيها ليلة القَدْر والتي عمل الخير فيها خير من عمل ألف شهر ، من أجل إحسان العمل في هذه الليالي .. ويُقسم بالشفع وهو ما كان زوجا ليس فردا وبالوتر وهو ما كان واحدا والمقصود بالشفع كل المخلوقات لأنها كلها أزواج وحتي الجماد مُكَوَّن من ذَرَّاتٍ فيها شحنات موجبة وسالبة والوتر هو الله تعالي الواحد بلا أيّ شريك ، أو المقصود الصلوات ما كان منها عددا زوجيا وما كان منها فرديا كالمغرب وصلاة الوتر للتنبيه لأهميتها وفوائدها وسعاداتها .. ويُقسم بالليل إذا سَارَ وجَرَيَ آتِيَاً بظلامه ليستريح الناس فيه أو ذاهباً ليَظهر النهار ليَسْعوا فيه ، بسبب حركة الأرض والشمس وما في ذلك من إعجاز .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ الفجر وليالٍ عشرٍ والشفع والليل .. هذا ، والمُقْسَم عليه قد يكون قوله تعالي " إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴿14﴾ " أو قد يكون ليس مذكوراً ليَحتمل أكثر من معني بما يدلّ عليه سياق الحديث في الآيات بعدها فيكون المعني مثلا أُقْسِمُ بما سَبَقَ علي تعذيبِ وإهلاكِ كل مَن تَشَبَّه بقوم عادٍ وثمود وفرعون في الداريْن ، أو أُقْسِم علي بَعْث الناس يوم القيامة ومحاسبة كل أحدٍ بعمله خيره وشرّه .. " هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴿5﴾ " أيْ هل في ذلك المذكور سابقا من الأشياء التي أقسمتُ بها قَسَمٌ لصاحبِ عقلٍ يَرَاهُ قَسَمَاً مُقْنِعَاً ؟! والإجابة نعم فيه حتماً بكل تأكيدٍ قَسَمٌ عظيمٌ مُقْنِعٌ تماماً لكل عاقل
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿6﴾ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴿7﴾ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴿8﴾ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴿9﴾ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴿10﴾ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴿11﴾ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴿12﴾ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿6﴾ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴿7﴾ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴿8﴾ " أيْ ألم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، وألم تشاهدوا وتتدبّروا وتعلموا أيها الناس ، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك ، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم كيف فَعَلَ ربكم بقوم عادٍ في جنوب الجزيرة العربية من قبيلة إرَم صاحبة العماد التي تسكن فيها أيْ الأبنية المرتفعة المرفوعة علي الأعمدة على قَدْر طول أجسامهم والتي كانت طويلة كالأعمدة والتي لم يُخْلَق مثلها أيْ مثل هذه القبيلة في البلاد في عِظَم أجسادها وضخامتها وقوّتها وفيما أعطاها الله تعالى من غِنَى وقوة ، والذين كَذّبوا رسولهم الكريم هود ﷺ وآذوه والمسلمين معه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، فعذّبهم وأهلكهم تعالي بريحٍ شديدة لَمَّا أصَرّوا علي ما هم فيه .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴿9﴾ " أيْ وألم تَرَ كيف فَعَلَ ربك بقوم ثمود الذين أيضا كذّبوا رسولهم الكريم صالح ﷺ ، الذين جابوا أيْ قَطَعُوا الصخر من الجبال من شدّة قوّتهم يبنون به القصور الفخمة الحصينة بالوادى الذي كانوا يسكنونه في شمال الجزيرة العربية – والوادي هو أرض منخفضة بين مكانين مرتفعين – حيث آذوه والمسلمين معه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، فعذّبهم وأهلكهم تعالي رغم قوّتهم وحصونهم بصَيْحَةٍ مُهْلِكَةٍ وهي صوت شديد يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة لَمَّا أصَرّوا علي ما هم فيه
ومعني " وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴿10﴾ " أيْ وألم تَرَ كيف فَعَلَ ربك بفرعون ملك مصر الذي أيضا كَذّب رسوله الكريم موسي ﷺ وآذاه والمسلمين معه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار بل وقال أنا ربكم الأعلي ، ذي الأوتاد أيْ صاحب ومالِك المباني الضخمة العظيمة والجنود الكثيرين الذين يكونون كالأوتاد – جَمْع وَتد وهو ما يُدَقّ في الأرض لتثبيت الشيء وتقويته – التي تُثَبِّت مُلْكه وتُقَوِّيه ، وذلك يَدلّ علي ثبوت مملكته كالأوتاد الثابتة القويّة ، ومع ذلك ورغم عِظَم قوته أغرقه تعالي وقومه جميعا في البحر وأنْجَيَ ونَصَرَ موسي ﷺ والمسلمين
ومعني " الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴿11﴾ " ، " فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴿12﴾ " أيْ عاد وثمود وفرعون وكل مَن تَشَبَّهَ بهم وفَعَلَ مِثْلهم ، فإنهم طَغَوْا في بلاد الله التي هم فيها وآذوا الناس والمخلوقات كلها بل والكوْن كله – والطغيان هو التَّعَدِّي والظلم في أيّ شيء – فأكثروا في هذه البلاد بطُغيانهم هذا وببُعْدهم عن أخلاق الإسلام الفسادَ والشرَّ والضَرَر والتعاسة
ومعني " فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾ " أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لأمثال هؤلاء أنْ أفاضَ وألقيَ عليهم ربك بشدّة وبقوّة وبحيث يُحيط بهم ويُصيبهم من كل جانبٍ بلا أيِّ أملٍ في أيِّ نجاةٍ منه سَوْطَ عذابٍ في دنياهم قبل أخراهم أيْ نوعَ عذابٍ أيْ أنواعا مُلْهِبَة مُهِينَة شديدة من العذاب كما يُلْهِب السَّوْط وهو مَضْرَب من الجلد المُضَفّر كالضَّفِيرَة جسم الجُناة الذين يستحقّون العقاب بالضرب به ، فهو عذابٌ كعذاب السوْط يُشبهه من حيث شدّته وكثرته وسرعته وتتابعه وآلامه
ومعني " إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴿14﴾ " أيْ إنَّ ربك أيها المسلم لَهُوَ بكل تأكيدٍ حتماً يَرْصُد ويُراقِب كلّ أعمالهم وأقوالهم وسيُجازيهم عليها بما يُناسبها من كل شرٍّ وتعاسةٍ ولن يستطيعوا مُطلقا الهرب من عذابه الدنيويّ والأخرويّ الأعظم والأتمّ – والمِرْصَاد فى الأصل هو المكان الذى يجلس فيه الرَّاصِدُ والمُراقِبُ لشيءٍ مَا – وهو قطعا يرصد أعمال الناس وخَلْقه جميعا فهو سبحانه لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كوْنه وسيُعطِي أهل الخير كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذير شديدٌ لمَن يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴿15﴾ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴿16﴾ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴿17﴾ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿18﴾ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ﴿19﴾ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك ، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك ، وهذا هو الغالب ، أو من غيرك ، وهو كثير الحدوث أيضا ، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة ، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾ ، ﴿156﴾ ، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة " بشيء " والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه ، ثم مراجعة الآية ﴿35﴾ من سورة الأنبياء " .. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة .. " ، للشرح والتفصيل عن أنَّ الاختبار يكون بالشَّرِّ وأيضا بالخير﴾
إنك إذا كنتَ مستعدا دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة
إنك إنْ اخْتُبِرْتَ بالشَّرِّ صَبَرْتَ وبالخير شَكَرْتَ – بعقلك باستشعار قيمته وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمه في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجده بذلك دائما باقيا بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ – فقد نَجَحْتَ حتما في الاختبار ونِلْتَ خيرا كثيرا لا يُحْصَيَ في دنياك وأخراك
إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة
إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألاّ يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون ، ولذا فهو بين الحين والحين ، حيث الأصل دائما السعادة والخير ، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة ، يختبرهم ببعض الصعوبات ، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته ، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه ، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث ، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم .. فيَسعد الجميع بكل هذا
إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه ، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل ، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم ، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه ، بينما لو علموا الغيب ، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني !! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل !! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه ، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم ، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴿15﴾ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴿16﴾ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴿17﴾ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿18﴾ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ﴿19﴾ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿20﴾ " أيْ هذا تنبيهٌ من الله تعالي للإنسان لخطأٍ يقع فيه كثير من الناس خاصة غير المسلمين وحتي بعض المسلمين ولو تَجَنّبُوه وأحسنوا التعامُل مع الأحداث حولهم بحُسن استخدام عقولهم لَسَعِدُوا في دنياهم وأخراهم ، وهذا الخطأ هو أنَّ الإنسان لا ينتبه إلي ما صار إليه من الخير أو ما أصيب به من شرٍّ مَا إنما هو للاختبار هل يَشكر أم لا في حال خيره وهل يَصبر أم لا في حال ضَرَرِه .. أيْ فأمَّا الإنسان إذا اختبره ربه بأنْ أكرمه وجعله مُنَعَّمَاً في نِعَمِه وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ فإنه يقول حينها مُغْتَرَّاً مُتَفَاخِرَاً بذلك ربى فَضَّلَنى لاستحقاقى لهذا مُتَوَهِّمَاً أنَّ ذلك لكرامته عند ربه .. وأمّا إذا اختبره فضَيَّقَ عليه رزقه فيقول غافلا عن الحكمة فى ذلك على سبيل التَّضَجُّر والتَّأَفّف وعدم الرضا أهانَنِي ربي أىْ أذَلَّنِى بالفقر وغيره من الشرّ وأنزلَ بى الإهانة مُتَوَهِّمَاً أنَّ ذلك لهَوَانِه على الله تعالي .. " كَلَّاَ .. " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَتَوَهَّمَ مِثْل هذا الإنسان من أنَّ التَّوْسِعَة إكرام والتَّضِييق إهانة ولكن كِلَاَ الأمران ابتلاء ، فَليرْتَدِع ويتَرَاجَع وينْتَهِ عن ذلك ليسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه .. إنَّ بَسْط الرزق ليس دليلا أبدا علي حب الله لمَن فَتَحَ عليه في رزقه كما أنَّ تضييقه لا يعني مُطلقا كراهيته للذي يُضَيِّق عليه ، وإنما الأمر مرتبط بأشياء كثيرة منها كيفية إحسان اتّخاذ الأسباب وتيسير الله لها وإرادته في تحقّقها وإنفاذها ونحو هذا بما يحقّق المصلحة والسعادة والعِبْرَة والاستفادة للجميع ليسعدوا في دنياهم وأخراهم إذا استفادوا وتدبَّروا وأحسنوا استخدام عقولهم في كل ما يدور حولهم .. إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، فليس الأمر إذَن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه ! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه ، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا ! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه ! فلْيَطمَئِنّ إذَن المؤمنون بربهم المتمسّكون العامِلُون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات .. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصْلِحَ خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم ، فهو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته ، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إنْ ضَيَّقَ في رزقٍ مَا فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل) .. " .. بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴿17﴾ " أيْ هذا بيانٌ لسوءِ أفعالِ مثل هؤلاء الناس بعد بيان سوء أقوالهم وأفهامهم .. أيْ بل لكم أحوال أشدّ شرَّاً مَمَّا ذُكِرَ وهو أنكم لا تَعطفون علي اليتيم – وهو الذي مات أبوه صغيرا – ولا تُحسنون إليه بأن تتركوه مُعَرَّضَاً للفقر والاحتياج دون أن تعملوا على مساعدته .. أيْ بل من بعض أسباب أني أَهَنْتُ مَن أهَنتُ منكم مِن أجل أنه لا يُكْرِم اليتيم ، أيْ بل أنتم لا تُكرمون اليتيم فلذلك أهنتكم .. " وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿18﴾ " أيْ وأيضا من أفعالكم السَّيِّئَة ومن أسباب إهانتكم أنكم لا يَحُثّ ويُشَجِّع بعضكم بعضا علي إطعام المسكين .. وإذا كانوا لا يقومون حتي بمجرّد الحَضِّ فيُفْهَم من ذلك ضِمْنَاً أنهم لا يُطعمونه أصلا بما يُفيد قسوة مشاعرهم وبُخْلهم .. " وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ﴿19﴾ " أيْ وكذلك من أفعالكم السَّيِّئة ومن أسباب إهانتكم أنكم تأكلون المال المَوْرُوث عن غيركم أكلا مُجَمِّعَاً شديداً بحيث تَقومون بجَمْعِهِ ولَمِّهِ كله دون أن تتركوا منه شيئا أيْ تأخذون حقوقكم وحقوق غيركم مِمَّن تستضعفونهم كالنساء واليتامي ونحوهم ولا تعطونهم إيّاها .. " وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿20﴾ " أيْ وأيضا من أفعالكم السَّيِّئَة ومن أسباب إهانتكم أنكم تحبون المال حباً كثيراً شديداً يَدفعكم إلى الحرص على جَمْعه من أيّ طريقٍ سواء أكان من حلالٍ نافعٍ أم حرامٍ ضارٍّ مع مَنْع الحقوق بالبُخْل بإنفاقه فيما يُطْلَب أن يُنْفَق فيه من خير
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴿21﴾ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴿22﴾ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿23﴾ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴿24﴾ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴿25﴾ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴿26﴾ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴿27﴾ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴿28﴾ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴿29﴾ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴿21﴾ " أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد .. أيْ لا ، لا يَصِحّ أن يكون حالكم سَيِّئاً هكذا ، كما ذُكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فارْتَدِعُوا وتَرَاجَعُوا وانْتَهُوا عن ذلك واعملوا بأخلاق الإسلام لتسعدوا في الداريْن وإلاّ تعستم فيهما – فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم – وانْتَبِهُوا لِمَا يَنتظركم يوم القيامة إذا دُكَّت الأرض أيْ دُقّت وضُرِبَت دَقّة وضَرْبَة قوية عظيمة تُفَتِّتها تَفْتِيتا شديدا ، دَكَّاً دَكَّاً أيْ مرةً بعد مرةٍ لتأكيد تمام دَكِّها
ومعني " وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴿22﴾ " أيْ وإذا حَضَرَ ربك يومها أيها الإنسان – أيْ خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشِدك لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن – بهيبته وعظمته حضوراً يَليق به سبحانه فهو ليس كمثله شيء لحساب الناس والحُكْم بينهم بحُكْمه العادل وجزائهم علي أعمالهم في دنياهم ، والملائكة صفوفا صفاً بعد صفّ
ومعني " وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿23﴾ " ، " يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴿24﴾ " أيْ وأُحْضِرَت وأُظْهِرَت يومها نار جهنم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ولكل الذين كانوا في دنياهم فاعلين للشرور والمَفاسِد والأضرار استعداداً لتعذيبهم فيها علي قَدْر سُوء كل منهم .. يومها يَتَذَكّر الإنسانُ المُسِيءُ سُوُءَه .. " .. وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿23﴾ " أيْ وكيف ومن أين له الذكرى النافعة وقد فات وقتها وهو قد فَرَّط فيها واستهزأ بها عندما جاءته في دنياه ؟! حيث الوقت الآن يوم القيامة وقت حساب لا عمل وتوبة وتصويب للأخطاء كما كان في الدنيا .. " يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴿24﴾ " أيْ يقول حينها هذا الإنسان المُسِيء بكل نَدَمٍ وحَسْرَةٍ وألمٍ في وقتٍ لا يَنفع فيه أيّ ندم أو تَمَنِّي يا ليتنى أيْ كنتُ أتَمَنَّيَ لو قدَّمت فى دنياي الزائلة أعمالاً صالحة تنفعنى لحياتى الآخرة الباقية الخالدة
ومعني " فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴿25﴾ " ، " وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴿26﴾ " أيْ فيومها لا يُعَذّب كعذاب الله أحدٌ في فظاعته لمَن أساء ، ولا يُقَيِّد ويَرْبِط للتعذيب كقَيْده ورَبْطه أحدٌ في شِدَّته ، علي قَدْر إساءة كلّ مُسِيء ، كما أنه لا يَتَوَلّيَ عذابه أحدٌ غيره تعالي فالأمر كله له ، بما يدلّ علي أنه عذاب ووَثاق فظيع شديد لا يُوصَف ولم يُعَذّب أيّ أحدٍ بمِثْله في الدنيا ولم يُعَذّبه أحدٌ لغيره فيها
ومعني " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴿27﴾ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴿28﴾ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴿29﴾ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴿30﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ يُخَاطِب الله تعالي بذاته العَلِيَّة أو من خلال ملائكته ، كتبشيرٍ سعيدٍ وتكريمٍ وتشريفٍ عظيمٍ لها ، عند موتها وبَعْثها وحسابها ودخولها الجنة ، كل نفسٍ إنسانيةٍ مطمئنة أيْ آمِنَة من الخوف والحزن والحَسرة والندم والألم يوم القيامة بسبب أنها كانت في دنياها مؤمنة أيْ مُصَدِّقَة تماما بلا أيِّ شكٍّ بوجود ربها مُتَوَكِّلَة عليه وحده شاكرة له واثقة برحمته عامِلَة بأخلاق إسلامها ثابتة عليه بإخلاصٍ لا لطَلَب شيء إلا إسعاد ربها لها في الداريْن .. لقد كانت مطمئنة مُستَقِرَّة في كل حياتها بتواصُلها الدائم مع ربها ودينها الإسلام الحقّ الصدق راضية بهما مجتهدة في طاعتهما مُتواضِعَة لهما عادلة في كل أقوالها وأفعالها عائدة لهما بالتوبة سريعا من أيّ خطأ ، وكانت تهتزّ وتتحرك مشاعر عقلها وجسدها لأيِّ شيءٍ يُذَكِّرها بالله سواء أكان آية من آياته أيْ معجزاته في أيِّ مخلوق في كل كوْنه أم كان آية من القرآن الكريم وذلك حبا له وهيبة منه وشعورا بعظمته وقُدْرته وكماله وتَحَرُّجاً من قِلَّة عملها الخيريّ – رغم ما تُقَدِّمه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمَقَامه سبحانه حيث كان عليها فِعْل المزيد من الخير وخوفا من بعض تقصيرها أو عدم إكمال وإحسان كل قولٍ وعملٍ ما أمكن وحَذَرَاً من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليٍّ وبالجملة كانت مُتَوَاصِلَة مع ربها ودينها حسَّاسَة مُرْهَفَة تتحرك وتتفاعل بما يناسب الصورة التي تَذْكُر الله عليها فتستجيب إمّا بمشاعر حبٍّ أو هيبةٍ أو حرجٍ أو خوفٍ أو حذرٍ أو مراجعةٍ للذات أو تَدَبّرٍ أو توبةٍ أو أملٍ أو استبشارٍ أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكل ذلك وبهذا عاشت كل حياتها في سعادة تامّة واسْتَبْشَرَت بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتها .. " ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴿28﴾ " أيْ عُودِي إلي جِوار وأمان ورحمات وأَنْعُم وجِنان ربك – أي خالقكِ ومُرَبِّيكِ وراعيكِ ورازقكِ ومُرْشِدُكِ لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن – وأنتِ راضية تمام الرضا أيْ قَابِلَة مرْتَاحَة تماما بما أعطاك سبحانه بكرمه وفضله ورحمته من عطاءٍ في جناته لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ وبغير حساب ، ومَرْضِىّ عنك منه تعالى برضاه التامّ بسبب إيمانك الصادق وعملك الصالح من خلال تمسّكك بأخلاق إسلامك في دنياك ، بما يعني تمام وخلود الأمن والراحة والنعيم والخير والسعادة .. " فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴿29﴾ " ، " وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴿30﴾ " أيْ وادخلى فى جملة عبادى الصالحين الراضين المَرْضِيِّين وادخلي معهم جنتي التى وعدتهم بها في دنياهم والتى أعددتها لنعيمهم التامّ الهائل الخالد المُسْعِد تمام السعادة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ﴿1﴾ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ﴿2﴾ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿4﴾ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴿5﴾ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴿6﴾ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴿7﴾ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴿8﴾ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴿9﴾ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿10﴾ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿12﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿14﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿16﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿17﴾ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿18﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿19﴾ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ﴿1﴾ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ﴿2﴾ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿4﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ لا داعي أنْ أقْسِم أنه لقد خَلَقْنَا الإنسان في كَبَد (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل حيث الواقع يثبت ذلك ؟! .. أيْ أقْسِم بهذا البلد أيْ بمكة المكرمة التي جعلناها قِبْلة للمسلمين تُوَحِّدهم ليكونوا أقوياء أعِزَّاء سُعَداء بهذا الاتِّحاد ، وأنت يا رسولنا الكريم حِلٌّ بهذا البلد أيْ حَالّ به نازِلٌ مُقِيمٌ فيه فازداد بك شَرَفَاً وقَدْرَاً لأنك سيد الخَلْق وأحبهم لنا فازداد أَحَقِّيَّة للقَسَم به ، وأقْسِمُ كذلك بوالدٍ وما وَلَد أيْ بآدم وبذريته لأنهم أعْجَب خَلْقِنا على وجه الأرض لِمَا فيهم من عقلٍ وتدبير .. ولقد أقْسَمَ سبحانه بهذه الأمور للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ ما سَبَقَ ذِكْره من مخلوقات .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿4﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت لقد خلقنا الإنسان في كَبَد أيْ في اسْتِوَاءٍ واستقامةٍ أيْ خَلَقْنَاه سَوِيَّاً مستقيماً أيْ أوْجَدناه من عَدَمٍ علي أحسن شكلٍ وهيئةٍ وحالٍ حيث سَوَّيناه أيْ جعلناه سَوِيَّاً أيْ سليما في كل قوَاه العقلية والجسدية خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعه ، وجعلناه مُعْتَدِلاً قائما ليس علي أربع أرجل كالدوابّ ومُتَنَاسِبَاً مُتَنَاسِقَاً مُتَوَازِنَاً في أعضائه بلا تَخَالُفٍ فيها فليس هناك مثلا يد أو رجل أو أذُن أو عيْن أكبر من أخري أو نحو هذا ، وكل ذلك ليسعد بالحياة حوله .. هذا ، ومن معاني في كَبَدٍ أيضا أيْ في شدَّةِ وقوّةِ خَلْقٍ فهو المُسَيْطِر بعقله الذي مَيَّزْناه به علي كل المخلوقات وهي كلها قد سَخَّرْنَاها له ولم نَخْلُق خَلْقَاً في الدنيا يُكَابِد مثلما يُكابد ابن آدم فهو وحده الذي يُحَاسَب علي خيره وشرِّه ويُجَازَيَ عليه في دنياه وأخراه بسبب هذا العقل .. ومن معاني في كَبَدٍ كذلك أيْ في مَشَقّةٍ وتَعَبٍ أيْ في جدٍّ وسَعْيٍ واجتهادٍ وكفاحٍ فلْيَنْتَبِه إذَن لذلك وليُحسن استخدام عقله فيختار ما يُسعده في الدنيا والآخرة حتي يكون سَعْيه وكفاحه الذي يُكَابِده أيْ يَتَكَلّفه في كل شئون حياته مُسْعِدَاً له لا مُتْعِسَاً فيهما فهو قد خُلِقَ يُكابِد الأمور ويُعالجها ولا يوجد فى هذه الحياة إِنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته وفى تَعَبٍ للحصول على أهدافه وأمنياته .. إنَّ الإنسان عموماً يكون في كَبَدٍ أيْ شقاءٍ وعُسْرٍ إذا ابْتَعَدَ عن الله والإسلام ويكون في تمام السعادة واليُسْر إذا تَوَاصَلَ مع ربه وعمل بكل أخلاق إسلامه لأنَّ ذلك هو وعده سبحانه الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً كما قال في الآية ﴿97﴾ من سورة النحل " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، وقال في الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة " .. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. " وقال عن البعيد عن ربه ودينه في الآية ﴿124﴾ من سورة طه " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ " (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا ، ويفهم من الآية الكريمة أيضا أنَّ مَن وَقَعَ في شِدَّةٍ ما فلْيَعلم أنَّ هذا أمر طبيعي مُتَوَقّع في الحياة الدنيا فيكون ذلك تسلية له وعوْنَاً علي الصبر عليها حيث هو مُؤَهَّل في خِلْقَته لهذا الصبر ، ليَخرج منها مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
ومعني " أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴿5﴾ " ، " يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴿6﴾ " أيْ هل يَتَوَهَّم الإِنسان عموماً والمُتَجَبِّر المَغرور أي المَخْدُوع بقوَاه خصوصاً أنه قد بَلَغَ من القوة بحيث لا يقدر عليه أحد ؟! إنْ كان يتوهّم ذلك فهو حتما فى خطأٍ وضياعٍ شديد ! لأنَّ الله تعالى الذى خَلَقه ومَلَّكه هذه القُوَيَ قادر قطعا على إهلاكه فى لحظةٍ وعلى أن يُسَلّط عليه مَن يذلّه ويَقضى عليه مِن بَشَرٍ وغيره من مخلوقاتٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه ! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي قد يَصِل إليه بعض بني آدم ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما .. " يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴿6﴾ " أيْ يقول هذا الإنسان المَغْرُور بقوّته مُتَفَاخِرَاً مُتَعَالِيَاً علي غيره مُحْتَقِرَاً له للتدليل علي قوته وإظهارها والتي يَتَوَهَّم أنه يَسْتَنِد إليها لقد أنفقت مالا لُبدا أيْ كثيرا قد تَلَبَّد أيْ تَرَاكَم والتصق بعضه ببعض من كثرته مثلما يَتَلَبَّد الصوف ، في كل ما أريد فِعْله وتحقيقه .. هذا ، ولفظ أهلكت يدل علي العشوائية فيما ينفق كما يُفيد أنه كان بلا أيّ نفعٍ حقيقيّ مُسْعِدٍ له ولغيره لأنه كان في شرّ
ومعني " أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴿7﴾ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴿8﴾ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴿9﴾ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿10﴾ " أيْ هذا استفهام وسؤال لمزيدٍ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي قد يَصِل إليه بعض بني آدم ولتذكيرهم بنِعَمه تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ لعلهم يشكرونها ويُحسنون استخدامها في الخير لا في الشرّ حتي يزيدها لهم ولا يمنعها عنهم ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما .. أيْ هل يَتَوَهَّم الإِنسان عموماً والمُتَجَبِّر المَغرور أي المَخْدُوع بقوَاه خصوصاً أنه لم يَرَه أحدٌ أيْ أنَّ الله لم يره وهو يفعل الشرور والمَفاسد والأضرار سواء في السِّرّ أو العَلَن وأنه سيُحاسِبه عليها بما يُناسب في دنياه وأخراه ؟! إنْ كان يتوهّم ذلك فهو حتما فى خطأٍ وضياعٍ شديد ! هل لم يجعل له عينين ؟! لقد جَعَلَ بالفِعْل كما هو ثابت واقعا !! فكيف يجعلها له ولكل إنسانٍ ولكل مخلوقٍ يَرَيَ وهو لا يملك عينا يَرَيَ بها وله سبحانه المَثَل الأعلي فهو ليس كمثله شيء ؟! هل لم يجعل له أيضا لساناً وشفتيْن يتكلم بهما ما يُعينه علي التَّوَاصُل مع غيره للانتفاع بالحياة والسعادة بها ؟! إنه غافل عن تمام قُدْرة الله تعالى وعن كمال علمه المحيط بجميع خَلْقه إذ كيف يكون مُفِيض العلم والإمكانات على الناس والخَلْق كله غير مُمْتَلِكٍ لها كلها غير عالم بأحوالهم غير قادر عليهم ؟!! .. إنه تعالي يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا فهو عالم بكل شيءٍ لا تَخْفَيَ عليه خافية في كوْنه كله .. " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿10﴾ " أيْ وهل لم نُرْشِده للنَّجْدَيْن أيْ للطريقيْن ، طريق الخير والسعادة وطريق الشر والتعاسة في دنياه وأخراه وجَهَّزْناه بالعقل لحُسن الاختيار بينهما بكامل حرية إرادته ثم يتحمَّل هو نتيجة اختياره ؟! لقد عَرَّفْناه بالفِعْل الطريق وبَيَّنَّاه له وأرْشَدناه إليه ودَلَلْنَاه عليه برحمتنا وكَرَمنا ، طريق الله ، طريق الجنة ، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، من خلال إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها الإسلام الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة فيهما ، ومن خلال عقله الذي خَلَقناه به ليُعِينه علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة ويُعينه علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم .. وأيضا هديناه النجديْن من خلال فطرته التي فيه والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ثم بعد هذه الهداية للنجديْن هو الذي سيَختار بكامل حرية إرادة عقله ، فإمَّا أنْ يكون شاكرا أيْ عابدا لله تعالي أي طائعا له عاملا بأخلاق إسلامه شاكرا لنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليه فيَسعد في الداريْن ، وإمَّا العكس ، يختار طريق الشَّرّ فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فيَتعس فيهما علي قَدْر ما تَرَكَ من أخلاق الإسلام بعضها أو كلها ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11﴾ " ، " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿12﴾ " أيْ فلم ينتفع مِثْل هذا الإنسان الذي اختار الشرَّ بما وَهَبْنَاهُ إيّاهُ من إمكانات سَبَقَ ذِكْرها في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ فلم يأتِ في الدنيا بما يُسَهِّل عليه اقتحام العقبة أيْ اختراقها بقوة وسرعة والمرور منها بأمان – والعقبة هي الصعوبة في الآخرة علي المُسِيئين ، وما أدراك ما العقبة أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي هذه الصعوبة والمَشَقّة عليهم أيها المُخَاطَب العاقِل فهي لا تُوصَف ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم – وذلك بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، وفي هذا حَثّ وتشجيع له ولغيره علي فِعْل الخير وترك الشرّ لينجو من عقبة عذاب الآخرة ويسعد فيها سعادة تامّة خالدة .. هذا ، ومن معاني العقبة أيضا أنها العقبة الدنيوية – إضافة إلي صعوبة الآخرة – التي تمنعه من دخول أعلي درجات الجنات وهي تفكيره الشَّرِّيّ بعقله والذي إذا لم يَتَغَلّب عليه بحُسن التفكير الخَيْرِيّ لكان عَقَبَة مانعة من دخولها ، والذي يُعينه علي اختراق هذه العقبة هو ترجمة هذا التفكير الخيريّ إلي فِعْل كل خير وترك أيّ شرّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ، وعلي هذا المعني يكون قوله تعالي " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ " هو للتشويق لمعرفة الأعمال التي تُعين علي كيفية اختراقها واجتيازها بنجاحٍ والتي سيُذْكَر بعضها في الآيات القادمة فتستقرّ في الأذهان ولا تُنْسَيَ ليَعمل بها مَن أراد النجاح
ومعني " فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿14﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿16﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أعمال الخير التي يُشَجِّع عليها الإسلام والتي تُعين علي اقتحام العقبة واجتيازها بنجاح ، كَفَكِّ رقبةٍ مثلا أيْ تحرير نفسٍ من قيود العبودية وما فيها من إذلالٍ واستغلالٍ لتعيش حُرَّة كما خَلَقَها ربها إنْ كان الزمن فيه عبيد أو تخليصها من الأسر والسجن في زمن الحروب – وعند بعض العلماء فكّ الرقبة يعني تخليص الإنسان نفسه من الشرِّ الذي يمنعه من اقتحام العقبة ليحيا سعيدا بالخير في الداريْن ويجتازها بنجاح وسعادة – أو إطعام المحتاجين للطعام فى يومٍ ذي مجاعةٍ شديدةٍ يشتدّ فيه جوعهم ، خاصة إذا كان المحتاج يتيماً – وهو من مات أبوه صغيرا – وخاصة إذا كان صاحب مَقْرَبَة أيْ قَرَابَة حيث له حقّ كفالة اليتيم وحقّ القَرَابَة أو كان المحتاج مسكينا صاحب مَتْرَبَة أيْ مُلْتَصِق بالتراب ينام عليه بلا فراش فهو بيته وهو تعبير في اللغة العربية يُفيد شدّة فقره
ومعني " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿17﴾ " ، " أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿18﴾ " أيْ وهو مع هذه الأعمال الطيّبة الحَسَنة التي يقوم بها مِمَّا سَبَقَ ذِكْره وغيره ، كان قبلها وحينها وبعدها ودَفَعَهُ إليها أنه من الذين آمنوا ، لأنه لا يمكنه مطلقا أن يقتحم العقبة إلا بعد أنه كان من الذين آمنوا حيث غير المؤمن لا يتمكّن حتما من اقتحامها وحتي لو فَعَلَ خيراً مَا في دنياه أخذ أجره فيها برزقٍ مَا مِن عدل الله وليس له في الآخرة شيء لأنه لا يُصَدِّق بها أصلا ، والذين آمنوا هم الذين صَدَّقوا بوجود الله تعالي وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم وكانوا دائمي الوصية لذواتهم ولغيرهم بالصبر أيْ الثبات والاستمرار طوال حياتهم علي الإسلام بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ والصبر علي أيِّ مُصيبة قد يُصابون بها أحيانا (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ وعلي الرحمة بين الناس والخَلْق جميعا لأنه بذلك يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم وبفقدانه يَتعسون فيهما ، وكانوا مُخلصين مُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم لا يَطلبون منها إلا إسعاد الله لهم في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿18﴾ " أيْ أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة التي سَبَقَ ذِكْرها هم أصحاب اليَمين وهم الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليمين ويَأخذون بأيديهم اليُمني الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم وكلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة وهم أهل الجنة
ومعني " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿19﴾ " ، " عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴿20﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله تعالي وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا لذلك الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم ، بآياتنا أيْ أيْ بدلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ علي الناس وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم ، هؤلاء حتما هم أصحاب المَشْأَمَة أيْ أصحاب الشِّمَال الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليَسار ويَأخذون بأيديهم اليُسري الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم ويظهر عليهم تمام الشّؤْم أيْ الشرّ بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة وهم أهل النار .. " عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴿20﴾ " أيْ هم في نارٍ مُغْلَقَة عليهم ، بحيث لا يستطيعون الخروج منها مُطلقا إلي ما شاء الله ، إذ أبوابها مُحْكَمَة الغَلْق وعذاب نيرانها فوقهم وحولهم من كل جانبٍ بما يُفيد أنهم في ألمٍ وضيقٍ وشقاءٍ لا يُوصَف وليس له أيّ أملٍ في أيِّ مَخْرَجٍ منه
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿1﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿2﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴿4﴾ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴿5﴾ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ﴿6﴾ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿1﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿2﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴿4﴾ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴿5﴾ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ﴿6﴾ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿10﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (انظر تفسير الآيتين ﴿9﴾ ، ﴿10﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿1﴾ " أيْ أُقْسِمُ بالشمس وضوئها وإشراقها وحرارتها وما في ذلك من منافع وسعادات للناس وللخَلْق جميعا .. " وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿2﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالقمر إذا تَبِعَها وجاء بضوئه الخافِت المُريح بعد غروبها سواء أكان مُكْتَمِلاً أم هِلالاً وذلك للراحة والاستجمام .. " وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿3﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالنهار إذا جَلَّىَ الظلمة أيْ كَشَفَها وأزالها وأظهر الأرض واضحة غير مُخْتَفِيَة لسَعْي الخَلْق لأرزاقهم ولسعاداتهم .. " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴿4﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالليل إذا غَطّيَ الأرض فيكون كل ما عليها مظلمًا ليرتاحوا .. " وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴿5﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالسماء وبنائها المُحْكَم كالسَّقْف وكالغِلاف الحامِي للأرض بلا أيِّ خَلَلٍ وبغير أعمدة مَرْئِيَّة وفيها ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرَاتٍ معلوماتٍ وغير معلومات وكلها مُسَخَّرات لنفع ولسعادة الناس والخَلْق .. " وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ﴿6﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالأرض وبَسْطها وتوسيعها للسَّكَن والانتقال فيها والاستقرار عليها وتعميرها والانتفاع والسعادة بخيراتها التي لا تُحْصَيَ .. " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ " ، " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ " أي وأُقْسِمُ بكلّ نفسٍ وتسويتها أيْ إكمال خِلْقَتها لأداء مهمّتها حيث قَدَّرَنا ذلك وضَبَطَناه تماماً بكل دِقّةٍ واتِّزانٍ وحسابٍ وحِكْمَةٍ بلا أيِّ خَلَلٍ أو عَبَثٍ فأعطينا لكل مخلوقٍ حيٍّ – وغير حيٍّ – من المُواصَفات والإمكانات التي تُمَكّنه من أداء وظائف ومهامّ له في هذه الحياة ثم هَدَيناه وأرشدناه لكيفية أدائها ، لتكون كلها مُسَخَّرَة للإنسان ، والذي قَدَّرْنا له وأعطيناه مواصفاتٍ أهمها العقل ، وذلك لينتفع ويسعد كل مخلوقٍ بما وَهَبْناه إيّاه بتمام قُدْرتنا وعِلْمنا وفضلنا .. " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ " أيْ والتي مِن تمام تَسْوِيتها أننا قد أَلْهَمْناها أيْ بَيَّنَا لها ، للنفس الإنسانية – أي الإنسان – طريق فجورها وطريق تقواها ، طريق الفُجُور أيْ الشرّ والتعاسة ، وطريق التقوي أيْ إتِّقاء ذلك أيْ طريق الخير والسعادة ، في دنياها وأخراها ، وجَهَّزْناها بالعقل لحُسن الاختيار بينهما بكامل حرية إرادتها ثم تتحمَّل هي نتيجة اختيارها ؟! لقد عَرَّفْناها الطريق وبَيَّنَّاه لها وأرْشَدناها إليه ودَلَلْنَاها عليه برحمتنا وكَرَمنا ، طريق التقوي ، طريق الله ، طريق الجنة ، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، من خلال إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها الإسلام الذي يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة فيهما ، ومن خلال عقلها الذي خَلَقناه بها ليُعِينها علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة ويُعينها علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولها أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليها وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتها علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم .. وأيضا هديناها من خلال فطرتها التي فيها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ثم بعد هذا الإلهام لطريق الفجور ولطريق التقوي ، بعد هذه الهداية والإرشاد ، هي التي ستَختار بكامل حرية إرادة عقلها ، فإمَّا أنْ تكون شاكرة أيْ عابدة لله تعالي أي طائعة له عاملة بأخلاق إسلامها شاكرة لنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليها فتَسعد في الداريْن ، وإمَّا العكس ، تختار طريق الشَّرّ فتَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فتَتعس فيهما علي قَدْر ما تترك من أخلاق الإسلام بعضها أو كلها ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. وهذا هو معني " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ " ، " وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿10﴾ " أيْ أُقْسِم بكلّ ما سَبَقَ أنه قد نَجَحَ وربح وفاز وانتصر وسَعِد في دنياه وأخراه بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ نجاحا وربحا وفوزا ونصرا وسرورا عظيما لا يُقارَن الإنسان الذي زَكَّيَ نفسه أيْ طَهَّرَها من كل شرٍّ بكلِّ أنواعه – والتزكية هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات – بينما قد خابَ وفشل وخَسِرَ وتَعِسَ فيهما حتماً مَن دَسَّاهَا أيْ مَن دَسَّ نفسه وغمسها ودفنها وأخفاها في الشرور والمَفاسد والأضرار بحيث اختفي وغرق فيها ولم يَظهر ويَخرج منها ، مِن الدَّسِّ وهو إخفاء الشيء .. هذا ، والمُقْسَم عليه قد يكون قوله تعالي " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿10﴾ " أو قد يكون ليس مذكوراً ليَحتمل أكثر من معني بما يدلّ عليه سياق الحديث في الآيات بعدها فيكون المعني مثلا أُقْسِمُ بما سَبَقَ علي تعذيبِ وإهلاكِ كل مَن تَشَبَّه بقوم ثمود في الداريْن ، أو أُقْسِم علي بَعْث الناس يوم القيامة ومحاسبة كل أحدٍ بعمله خيره وشرّه .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ في كل ما سَبَقَ ذِكْره هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ الشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض والنفس
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴿11﴾ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴿12﴾ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴿13﴾ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴿14﴾ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴿11﴾ " أيْ هذا بيانٌ لمَثَلٍ مَشهورٍ يَتناقله الناس فيما بينهم من أمثلة الأمم المُكَذّبة يَذكره الله تعالي ليَعْتَبِر به مَن أراد الاعتبار ولا يفعل مثلهم فيُعَذّب ويَتعس كحالهم تمام التعاسة في دنياه وأخراه .. أيْ لم تُصَدِّق ثمود وهي أمة الرسول الكريم صالح ﷺ بطَغْواها أيْ بسبب طُغْيانها ، والطغْيان هو التَّعَدِّي والظلم في أيِّ شيء ، أيْ كذّبت بسبب إفراطها في الاستكبار والعِناد والاستهزاء والتعطيل للعقول بالأغشية التي وضعتها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وكذلك من المعاني أنها كذّبت بطَغْواها أيْ بعذابها الذي سيَطْغَيَ وسيَفيض وسيَنزل عليها والذي حَذّرها منه رسولها إذا لم تُسْلِم والذي نَزَلَ وطَغَيَ بالفِعْل بسبب استمرارها في تكذيبها وعِنادها واستكبارها واستهزائها وفِعْلها الشرور والمَفاسد والأضرار حيث عُذّبوا وأهلكوا بالطاغية التي تُناسب طغيانهم أيْ بالشديدة المُتجاوِزَة الحَدِّ في شِدَّتها وتعذيبها وإهلاكها لهم والتي كانت عبارة عن صَيْحَة ورَجْفَة وزَلْزَلَة وصاعِقَة عظيمة هائلة مُخِيفَة مُدَمِّرَة
ومعني " إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴿12﴾ " أيْ كذّبت ثمود رسولها بسبب طَغْوَاها وبَلَغَ هذا الطغيان أقصاه وقت أن نَهَضَ وأسرعَ أشقى تلك الأمة وأسْوَؤُها وأشدّها عذابا في الداريْن لذبح الناقة التى نهاهم رسولهم الكريم عن مَسِّها بأيِّ سوء ، ولقد اتفقوا جميعا علي هذا التَّجَرّؤ علي هذا العمل الفظيع السَّيِّءِ ثم هو الذي تَقَدَّمَ للتنفيذ مُظْهِرَاً أنه أشدّهم جرأة علي السوء
ومعني " فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴿13﴾ " أيْ فحينها قال لهم رسول الله إليهم وهو صالح ﷺ مُحَذّرَاً ومُنْذِرَاً بالعذاب الشديد إذا ذَبَحوها احْذَروا أن تَقْرَبوا ناقة الله واحذروا سُقْياها أيْ أن تقربوا وقت شُرْبها فتمنعوها منه حيث لها وقت تخرج فيه للشرب وأنتم لكم وقت لا تخرج هي فيه وفي ذلك آية من ربكم إليكم أيْ دليل عظيم لكم علي وجود خالق لها هو الله تعالي الذي خَلَقَها وسَيَّرَها وجعلها كأنها عاقِلَة وعلي صِدْقِي وصِدْق ما أدعوكم إليه وهو الإسلام
ومعني " فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴿14﴾ " أيْ ولكنهم لم يُصَدِّقوا رسولهم في أنَّ العذاب سيَنْزِل بهم لو ذَبَحوا الناقة ولو لم يَتَّبِعوا الإسلام ، وذَبَحوها بالفِعْل مُصِرِّين علي تكذيبهم وفِعْلهم للشرور ، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة أنْ دَمْدَم أيْ دَمَّرَ بغضبٍ شديدٍ مُهْلِكٍ عليهم ربهم ديارهم بسبب ذنوبهم لا بظلمٍ منه تعالي قطعا فسَوَّاها بالأرض بصَيْحَةٍ ورَجْفَة وزَلْزَلَة وصاعِقَة عظيمة هائلة مُخِيفَة مُدَمِّرَة ، وقد سَوَّاهَا كلها هذه الأمة أيْ سَاوَيَ بينها في الإهلاك فلم يُفْلِت منهم أحداً قوياً أو ضعيفاً رجلاً أو امرأة رغم أنَّ الذي ذَبَحَها أشقاها وحده أو معه مجموعة منهم وذلك لأنهم كلهم كانوا راضين عن فِعْله آمِرين له به مُشَجِّعين له عليه .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكل مَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكانٍ لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴿15﴾ " أيْ ولا يخاف الله تعالي حتما بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ عاقبة أيْ نتيجة وتَبِعَة هذه الدَّمْدَمَة حين أنزلها بمِثْل هؤلاء المُكَذّبين – وبمَن يَتَشَبَّه بهم في أيِّ زمانٍ ومكان – لأنَّ الذى يخاف إنما هو المخلوق أمّا الخالق العظيم فكيف يخاف من مخلوقه وهو المالك لكل شيءٍ الذي له تمام القُدْرة وكمال العلم والسلطان والنفوذ وكل صفات الكمال الحُسني ويقول للشيء كن فيكون كما يريد العادل الحكيم العليم فى كل أحكامه وتصرّفاته ؟!! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ أشْقَاهَا الذي ذَبَحَ الناقة قد فَعَلَ فِعْلَته الشنيعة هذه وهو لا يخاف ولا يُقَدِّر عاقبتها لشِدَّة سَفَهه ، فلا يَتَشَبَّه أحدٌ به في سوئه وإلا تَعِسَ مِثْله في الداريْن
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿1﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿2﴾ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿3﴾ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴿4﴾ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ﴿5﴾ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿6﴾ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ﴿8﴾ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿9﴾ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ﴿10﴾ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ﴿11﴾ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ﴿12﴾ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ ﴿13﴾ فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ﴿14﴾ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴿15﴾ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿16﴾ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴿17﴾ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿19﴾ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ﴿20﴾ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿1﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿2﴾ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿3﴾ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴿4﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي إن سعيكم لشتي (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿1﴾ " أيْ أُقْسِمُ بالليل حين يُغَطّي الأرض فيكون كل ما عليها مظلمًا ولا يكون إلا الضوء الخافِت المُريح للنجوم من أجل راحة واستجمام الناس .. " وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿2﴾ " أىْ وأُقْسِمُ بالنهار حين يَنكشف ويَظهر ويُزيل ظلام الليل ليَخرج الخَلْق فيه لينتفعوا وليسعدوا بخيرات الكوْن وأرزاق الله تعالي التي لا تُحْصَيَ .. " وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿3﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بخَلْقِ الزوجين الذكر والأنثي ، من بَشَرٍ وطيورٍ وحيواناتٍ وغير ذلك مِمَّا لا يعلمه إلا خالقه سبحانه ، وما في ذلك من مُعْجِزاتٍ مُبْهِرَاتٍ ، ليَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أيْ ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة لبني آدم – من خلال المودة أي المَحَبَّة والرحمة أيْ اللّيِن والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ في كل ما سَبَقَ ذِكْره هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ الليل إذا يغشي والنهار إذا تجلي وما خلق الذكر والأنثي .. " إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴿4﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت إنَّ سَعْيَكم لَشَتَّيَ أيْ إنَّ مَسَاعِيكم وتحرّكاتكم وأعمالكم وأقوالكم أيها الناس فى دنياكم هي أنواع شَتَّيَ أيْ مُتَفَرِّقَة مختلفة فمنها الخير ومنها الشرّ وسنُحاسبكم ونجازيكم عليها كلها بما يُناسب في دنياكم وأخراكم علي الخير كل خيرٍ وسعادةٍ وعلي الشرّ كل شرٍّ وتعاسة ، فانتبهوا لذلك واستعدوا له بفِعْل الخير وترك الشرّ
ومعني " فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ﴿5﴾ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿6﴾ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴿7﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ وبَيَانٌ للسَّعْي الشَّتَّيَ ، أيْ فأمّا الذي أعطي أيْ أنفقَ أيْ كان مِن المُعْطِين المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. وَاتَّقَىٰ ﴿5﴾ " أيْ وكان من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿6﴾ " أيْ وكان من المُصَدِّقِين المُتأكِّدين تماما بلا أيِّ شكٍّ ولا يُكَذّبون أبداً بالحُسْنَيَ أيْ بالكلمة الحسني وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أيْ صَدَّقَ بوجود الله تعالي وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وصَدَّقَ بالمِلّة الحسني وهي دين الإسلام فعمل بكل أخلاقه ، وصَدَّقَ بالمَثُوبَة الحسني لمَن أحسنَ في دنياه وهي الجنة فعمل مُخلصا مُحسنا لينالَ أعلي درجاتها (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴿7﴾ " أيْ فمِثْل هذا حتما سنُسَهِّله لليُسْرَيَ في دنياه وهي الحياة المُيَسَّرَة السَّهْلَة المُريحَة السعيدة ثم لليسري في أخراه وهي الجنة ونُيَسِّر له كل أسباب ذلك ونُوَفّقه إليها ونُعينه عليها من خلال تيسيره وتوفيقه للطريقة اليسري أيْ السهلة السَّلِسَة السريعة الصائبة لفِعْل كل خيرٍ وصوابٍ مُسْعِدٍ وتَرْك كل شرٍّ وخطأ مُتْعِس ، وذلك لأنه هو الذي اختار أولا هذا الطريق بكامل حرية إرادة عقله فيَسَّره الله تعالي له بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وهذا يدلّ علي أنَّ فِعْل الخير يؤدي بالقطع إلي فِعْل المزيد منه فتكون الحياة الدنيا والآخرة كلها خير علي خير وسعادة علي سعادة
ومعني " وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ﴿8﴾ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿9﴾ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ﴿10﴾ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ﴿11﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمّا مَن لم يُنفق فيما هو مفروض عليه أن ينفقه من كل أرزاق الله التي لا تُحْصَيَ كالمال والجهد والفكر والوقت وغيره في أيِّ خيرٍ ولم يَنفع ويُسْعِد نفسه وغيره بها وكان مُسْتَغْنِيَاً عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار .. " وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ﴿9﴾ " أيْ ولم يُصَدِّق بالكلمة الحُسني وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أيْ لم يصَدَّقَ بوجود الله تعالي وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يُصَدَّقَ بالمِلّة الحسني وهي دين الإسلام فلم يعمل بأخلاقه ، ولم يصَدَّقَ بالمَثُوبَة الحسني لمَن أحسنَ في دنياه وهي الجنة فلم يعمل لنَيْلِها بفِعْل الخير وتَرْك الشرّ بل فَعَلَ الشَّرَّ وتَرَكَ الخير .. " فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ﴿10﴾ " أيْ فمِثْل هذا حتماً سنُسَهِّله للعُسْرَيَ في دنياه وهي الحياة العَسِيرَة الصعبة المُتْعِبَة التعيسة ثم للعُسْرَيَ في أخراه وهي النار ونُيَسِّر له كل أسباب ذلك ونُوَفّقه إليها ونُعينه عليها من خلال تيسيره وتوفيقه للطريقة العُسْرَيَ – أي لطريق الشرّ – أيْ التي تُؤدي به إلي فِعْل كل شرٍّ وخطأ مُتْعِسٍ وتَرْك كل خيرٍ وصوابٍ مُسْعِدٍ ، وذلك لأنه هو الذي اختار هذا الطريق بكامل حرية إرادة عقله وأصَرَّ عليه واستمرّ فيه ولم يبدأ بأيِّ خطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله " .. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ " (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. والآية الكريمة تُفيد أنَّ فِعْل الشرّ يؤدي بالقطع إلي فعل المزيد منه حتي يستفيق فاعله ويتوقف عنه ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن وإلا لو استمرّ علي حاله سيَتعس قطعا فيهما .. " وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ﴿11﴾ " أيْ ولا يَنفعه ولا يَدْفَع ويَمْنع عنه عذابه الذي سيَلقاه ما كان له في دنياه من مالٍ وسلطانٍ ونفوذٍ وقوة وجاه ومنصب وأعوان وما شابه هذا مِمَّا كان يُغنيه ويَنفعه فيها ، وذلك إذا تَرَدَّيَ أيْ ماتَ وهَلَكَ وسقطَ في قبره ثم في جهنم يوم القيامة ، بل سيكون وقتها وحيدا فقيرا ذليلا بلا مُنْقِذٍ ولا مُعِينٍ وفي غاية الذلّة والإهانة والحَسْرة والندامة والألم والعذاب والتعاسة
ومعني " إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ﴿12﴾ " أيْ إنَّ علينا بالتأكيد ، برحمتنا وفضلنا وكرمنا ، نحن الخالق الرحيم الودود الحكيم ، ومُتَكَفِّلِين بذلك ، أنْ نُرْشِدَ خَلْقَنا من بني آدم إلي طريق الهُدَيَ ونُبَيِّنه لهم ونُمَيِّزه عن طريق الضلال أيْ الضياع ، حباً فيهم وحِرْصَاً علي أن يَصْلُحوا ويَكْمُلُوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، لأنهم خِلْقَتنا وصَنْعَتنا وكلّ صانعٍ يحب لصَنْعَته أفضل الأحوال ولله المَثَل الأعلي .. إنَّ علينا أنْ نُرْشِدهم للطريقيْن ، طريق الخير والسعادة وطريق الشرّ والتعاسة في دنياهم وأخراهم ، وقد جَهَّزْناهم بالعقل لحُسن الاختيار بينهما بكامل حرية إرادتهم ثم يتحمَّلون هم نتيجة اختيارهم ؟! لقد عَرَّفْناهم بالفِعْل الطريق وبَيَّنَّاه لهم وأرْشَدناهم إليه ودَلَلْنَاهم عليه برحمتنا وكَرَمنا ، طريق الله ، طريق الجنة ، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، من خلال إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة فيهما ، ومن خلال عقولهم التي خَلَقناهم بها لتُعينهم علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة وتُعينهم علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولهم أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم .. وأيضا هديناهم للطريقين من خلال فطرتهم التي فيهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ثم بعد هذه الهداية للطريقين هم الذين سيَختارون بكامل حرية إرادة عقولهم ، فإمَّا أنْ يكونوا شاكرين أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين له عامِلِين بأخلاق إسلامهم شاكرين لنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم فيَسعدون في الداريْن ، وإمَّا العكس ، يختارون طريق الشَّرّ فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار فيَتعسون فيهما علي قَدْر ما يَتركون من أخلاق الإسلام بعضها أو كلها ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ ﴿13﴾ " أيْ وإنَّ لنا حتماً وحدنا كل ما في الحياة الآخرة والحياة الدنيا فنحن مالِكين لهما كُلّهما والمُتَصَرِّفين فيهما والقادِرين عليهما والعالِمين بهما ليس معنا أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا نُمَلِّكه نحن لهم وقد نأخذه منهم في أيّ وقتٍ نشاء ، فلنا كلّ المُلك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة ، ولا يَمنعنا أيّ مانع مِمّا نريد فنحن قادرون بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أردنا شيئا فبمجرّد أن نقول له كن فيكون كما نريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة والشكر والاستعانة به ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء ، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار
ومعني " فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ﴿14﴾ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴿15﴾ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿16﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْتُ لكم سابقا أيها الناس أنَّ مَن أعطَيَ واتَّقَيَ وصَدَّقَ بالحسني فسَنُيَسِّره لليُسْرَي ومَن بَخِلَ واسْتَغْنَيَ وكذّبَ بالحسني فسنيسره للعُسْرَي وأنَّ علينا لَلْهُدَيَ وأنَّ لنا للآخرة والأولي ، فأكون بذلك قد حذّرتكم من عذابٍ عظيمٍ يوم القيامة فى نار شديدة تَتَلَظّيَ أيْ تشتعل بشدّة ، وهذه النار " لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴿15﴾ " أيْ لا يَحترق ويُشْوَيَ جسده بها إلا مَن كان شديد الشقاء والتعاسة بسبب إصراره في دنياه على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه .. وسيُخَلّد فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله " الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿16﴾ " أيْ كلّ مَن لم يُصَدِّق بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلَ كلّ شرٍّ لأنه لا حساب من وجهة نظره ، وتَوَلّيَ أيْ أعطي ظهره والتفتَ وانصرفَ وابْتَعَدَ عن الإسلام وتَرَكه وأهمله وخَالَفه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصراره التامّ علي فِعْل السوء حتي ماتَ علي ذلك
ومعني " وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴿17﴾ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿19﴾ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ﴿20﴾ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ﴿21﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. " وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴿17﴾ " أي وسَيُبْعَد تماماً حتماً عن هذه النار التي تَتَلَظّيَ ، التَّقِيّ الذي يَجتهد أن يكون دائما في أتْقَيَ الأحوال بكل شئون حياته ، أيْ الذي يَتَجَنَّب كلَّ شرٍّ يُبعده ولو للحظة عن حب ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِل أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارع لفِعْل كل خيرٍ يُسعده ومَن حوله .. " الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾ " أيْ والذي مِن صِفاته أنه يُعطي لغيره مِمَّا له في دنياه من أرازق الله التي رزقه إيّاها والتي لا تُحْصَيَ من مالٍ وسلطانٍ ونفوذٍ وقوة وجاه ومنصب وأعوان وما شابه هذا .. إنه من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. يَتَزَكَّيَ ﴿18﴾ " أيْ وهو يَفعل ذلك من أجل أن يَتَطَهَّر مِن كل سوءٍ كبخلٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ يعمل بأخلاق الإسلام فيَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيَسعد في دنياه وأخراه ، والتزكية هي التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات .. " وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿19﴾ " ، " إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ﴿20﴾ " أيْ هذا بيانٌ لوصول هذا الأَتْقَيَ لأعلي درجات الإخلاص والإحسان في كل أفعاله وأقواله (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، فهو لا يَفعل ما يَفعل من أيِّ خيرٍ من أجل مُجازَاة ومُكَافأة أحدٍ علي أيِّ نعمةٍ أيْ مَنْفَعَةٍ قَدَّمَها له سابقا ، ولكنْ يَفعله من أجل شيءٍ واحدٍ وهو ابتغاء وجه ربه الأعلي أيْ لطَلَب ثواب ربه – أيْ مُرَبِّيه ورازقه وراعيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه – ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن وحبا فيمَن يُنفق لهم كما يَطلب سبحانه والإسلام منه ذلك ، الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه والأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه .. إنه لا يَطلب مُطلقا في مُقابِل إنفاقه منهم تَعْويضاً ومُقَابِلاً لهذا لا مادِّيَّاً ولا معنوياً كمدحٍ أو نحوه ولا غير ذلك ، وإنما هو وهم جميعا يشكرون ربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ .. وفي هذا مَدْحٌ منه سبحانه له لِيَفْعَلَ مِثْله مَن أراد أن يَنال مِثْل سعادته الدنيوية والأخروية .. " وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ﴿21﴾ " أيْ وحتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ وهو وَعْد علينا لا يُخْلَف مُطلقا لسوف نُعطي مثل هذا الأَتْقَيَ من العطايا والخيرات والبركات والنِّعَم والأرزاق والرعاية والأمن والتوفيق والتيسير والقوة والنصر حتي يَرْضَيَ ويَسعد تمام الرضا والارتياح والسرور الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ ، في دنياه أولا ، ثم في أخراه حيث الجنات التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. هذا ، ولفظ سوف يُفيد الاستمرارية مستقبلاً طوال حياته الدنيوية والأخروية
وَالضُّحَىٰ ﴿1﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿2﴾ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ﴿3﴾ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ﴿4﴾ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ﴿5﴾ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ﴿6﴾ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ﴿7﴾ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ﴿8﴾ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴿9﴾ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴿10﴾ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالضُّحَىٰ ﴿1﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿2﴾ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ﴿3﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّه ما وَدَّعَكَ ربُّك وما قَلَيَ (انظر تفسير الآية ﴿3﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَالضُّحَىٰ ﴿1﴾ " أيْ أُقْسِمُ بوقت النهار الذي يَحْدُث بظهور الشمس بضَوْئها وأشعتها وما في ذلك من منافع وسعادات للناس وللخَلْق جميعا .. " وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿2﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بالليل إذا أقْبَلَ وغَطّيَ الأرض بظلامه وسُكونه وهدوئه بعد غروب الشمس ليكون ذلك سُكُونَاً واسْتِجْماماً وراحة لهم .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ الضحي والليل إذا سَجَيَ .. " مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ﴿3﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ الضُّحَيَ والليل إذا سَجَيَ ، ما تَرَكَكَ ربّك – أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعِيك ومُرْشِدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك – وما كَرِهَكَ ، مُطلقا ، يا أيها الرسول الكريم ، ويا كل مسلم مِن بَعْده مُتَشَبِّه بأخلاقه في كل شئون حياته ، بل لك مِنَّا كل الرضا والحب والرعاية والأمن والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر والسعادة التامَّة في الدنيا والآخرة
ومعني " وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ﴿4﴾ " أيْ وبالتأكيد فإنَّ نَعِيم الدار والحياة الآخرة الذي لا يُوصَف ولا يُقارَن حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر حتما خير لك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم من نعيم الدار الأولي أيْ الحياة الدنيا .. هذا ، والإسلام يَطلب من المسلم حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ آخرة أمرك أيها المسلم في كل عملٍ من أعمالِ حياتك ستكون دوْمَاً خيراً لك من أوله وبدايته بما يُفيد ضِمْنَاً الوعد الأكيد والتبشير بتوفيق الله وتيسيره وعوْنه لمَن يتوكل عليه ويُحسن اتِّخاذ ما استطاع من أسبابٍ في كل شئونه فإنه لا بُدَّ سيَصِل في نهاية الأمر لما يريد من نجاحٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه
ومعني " وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ﴿5﴾ " أيْ وحتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ وهو وَعْد علي ربك – أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعِيك ومُرْشِدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك – لا يُخْلَف مُطلقا ، لسوف يُعطيك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم المُتَشَبِّه بأخلاقه من العَطايا والخيرات والبركات والنِّعَم والأرزاق والرعاية والأمن والتوفيق والتيسير والقوة والنصر حتي تَرْضَيَ وتَسعد تمام الرضا والارتياح والسرور الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ ، في دنياك أولا ، ثم في أخراك حيث الجنات التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. هذا ، ولفظ سوف يُفيد الاستمرارية مستقبلاً طوال الحياة الدنيوية والأخروية ، كما أنَّ الفاء في " فَتَرْضَيَ " تُفيد بأنَّ عطاء الدنيا عاجل قريب لا بعيد
ومعني " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ﴿6﴾ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ﴿7﴾ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ﴿8﴾ " أيْ هذه تذكرة للناس ببعض نِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ كدليلٍ منه سبحانه الرحيم الودود القويّ المَتين أنه معهم دَوْمَاً ولن يتركهم لو أحسنوا اللجوء إليه والتوكل عليه والشكر له والعمل بأخلاق إسلامهم ، كما أنها دلالة على تحقّق وعده حتماً للمسلمين في كل ما يَعِدُهم به في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُفيداً مُسْعِدَاً لهم .. أيْ هل لم يجدك ربك يتيماً أيها الرسول الكريم – حيث توفي أبوه قبل ولادته ﷺ – فآواك برحمته وكرمه وحبه أيْ فَضَمَّكَ وأَمَّنَكَ وأسْكَنَكَ وكَفَاكَ وكَفَلَكَ عند مَن يَرْعَاكَ ويُحْسِن القيام بكل ما تحتاجه من شئون حياتك ، وكذلك مع كل يتيمٍ قطعاً ؟! والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّ الجميع بذلك حيث إنهم لا يَملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى هو الذي يُيَسِّر أسباب كفالة وعوْن الأيتام والمحتاجين ويُرَقّق المَشَاعِر نحوهم .. " وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ﴿7﴾ " أيْ ومن أعظم نِعَمِه عليكم أيها الناس أنه برحمته وفضله وكرمه لم يترككم ضالّين أيْ حائِرين بين الصواب والخطأ لا تعرفونه فتَضِلّون أيْ تَتَخَبَّطون في حياتكم فتَتعسون بل هداكم أيْ أرشدكم إلي طريق الهُدَيَ وبَيِّنه لكم ومَيِّزه عن طريق الضلال أيْ الضياع ، حباً فيكم وحِرْصَاً علي أن تَصْلُحوا وتَكْمُلُوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، لأنكم خِلْقَته وصَنْعَته وكلّ صانعٍ يحب لصَنْعَته أفضل الأحوال ولله المَثَل الأعلي .. لقد أرشدناكم للطريقيْن ، طريق الخير والسعادة وطريق الشرّ والتعاسة في الدنيا والآخرة ، وقد جَهَّزْناكم بالعقل لحُسن الاختيار بينهما بكامل حرية إرادتكم ثم تتحمَّلون أنتم نتيجة اختياركم ؟! لقد عَرَّفْناكم بالفِعْل الطريق وبَيَّنَّاه لكم وأرْشَدناكم إليه ودَلَلْنَاكم عليه برحمتنا وكَرَمنا ، طريق الله ، طريق الجنة ، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في الدارين ، من خلال إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها الإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة فيهما ، ومن خلال عقولكم التي خَلَقناكم بها لتُعينكم علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة وتُعينكم علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حولكم أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم .. وأيضا هديناكم من خلال فطرتكم التي فيكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ثم بعد هذه الهداية للطريقين أنتم الذين ستَختارون بكامل حرية إرادة عقولكم ، فإمَّا أنْ تكونوا شاكرين أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين له عامِلِين بأخلاق إسلامكم شاكرين لنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليكم فتَسعدون في الداريْن ، وإمَّا العكس ، تختارون طريق الشَّرّ فتَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار فتَتعسون فيهما علي قَدْر ما تَتركون من أخلاق الإسلام بعضها أو كلها ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. إنَّ الرسول الكريم محمد ﷺ قَبْل وَحْي القرآن العظيم له كان ضالّاً أيْ حائراً حيث لم يكن يعلم تفاصيل الإيمان وهي كل أخلاق الإسلام وكيفية الدعوة له ، فكان القرآن من أعظم نِعَم الله ورحماته عليه التي يُذَكِّره وكل الناس بها ليشكروه عليها بأنْ يتمسّكوا ويعملوا بها (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿52﴾ من سورة الشوري " وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ﴿8﴾ " أيْ ومن نِعَمِه عليكم أيها الناس أيضا والتي لا تُحْصَيَ أنه يعلم تماما أنكم يَعُول بعضكم بعضا بدرجاتٍ مختلفة أيْ يَتَكَفّل به ويَرعاه ويقوم بتوفير احتياجاته فجعلكم أغنياء بكل صور الغِنَي بأرزاقه ومَعُوناته التي يصعب حَصْرها من فكرٍ وقوة وصحة وعلم وحب وتعاون فيما بينكم وأنواع أموال وأملاك متنوعة وغِنَيَ نفسٍ بأخلاق الإسلام وعِفّةٍ وصدق وتوكّل عليه وتوفيق وتيسير ونحو هذا ، فكلّ عائلٍ هو فقير إلي الله أيْ محتاج تماما ودائما له .. وهكذا كان الحال مع الرسول ﷺ وصحابته الكرام ومع كل الرسل والمسلمين – بل وكل الناس والخَلْق – سابقا وسيكون لاحِقَاً حتي يوم القيامة
ومعني " فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴿9﴾ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴿10﴾ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴿11﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما أخبرتكم في الآيات السابقة فكونوا بالتالي إذَن من المُتَذَكِّرين دائما لهذه النِّعَم ولغيرها التي لا تُحْصَيَ الشاكرين لربكم عليها ، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. ومن مظاهر هذا التَّذَكُّر والشُّكْر لها ألّا تقهروا أبداً اليتيم مُسْتَغِلِّين ضعفه أيْ لاَ تذِلّوه وتَظلموه وتُسيئوا معاملته وتَغلبوه في ماله وحقّه ومصلحته مهما كان الأمر بل عليكم أن ترفقوا تماما به وتعدلوا معه في كل أقوالكم وأفعالكم وتكرموه وتحفظوه وما يملك من أيِّ سوءٍ وتعاونوه علي تَطَوِّره ونُمُوِّه في كل شئون حياته .. " وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴿10﴾ " أيْ وأيضا مهما كان الأمر فلا تَرُدّوا أبداً السائلَ بقَسْوَةٍ وعُبُوسِ وجهٍ وإغلاظِ قولٍ وما شابه هذا من صور الرَّدّ والإبْعاد السيء ، سواء أكان هذا السائل يسألكم عوْناً أم معرفة أم علما أم مالا أم غير ذلك من شئون الحياة وحاجاتها وتذكّروا سؤالكم وحاجاتكم لغيركم فكلكم يحتاج بعضكم بعضا ، فإمَّا أن تُعطوه ما تتمكنوا من إعطائه إياه من جهدكم أو فكركم أو مالكم أو غيره ، أو تَرُدّوه بالكلام الطيب والخُلُق الحَسَن بما يُطَيِّب خاطره ويُخَفِّف أَلَمَه .. " وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴿11﴾ " أيْ واذْكُر دائما وتَحَدَّث وأَخْبِر بنِعَم الله عليك وعلي الخَلْق جميعا والتي لا تُحْصَيَ ، النِّعَم النفسية وأعظمها التواصُل مع الله والقرآن والعمل بأخلاق الإسلام ، والنِّعَم المادية مِن أرزاقٍ متنوعة ، بينك وبين نفسك ومع مَن حولك ، بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها ، بدون فخرٍ أو تعالٍ علي الآخرين ، وبغير إيذاءٍ لهم بأنك تملك ما لا يملكون فهم أيضا عندهم ما ليس عندك ، وبدون طَلَب سُمْعَةٍ ومدحٍ وما شابه ذلك من سوءٍ يَضُرّ ويُتْعِس ولا يَنفع ويُسْعِد في الداريْن ، فإنَّ الحديث بالنِّعَم يُذَكِّر بشكرها وهو صورة عملية من صور الشكر إضافة إلي استخدامها في كل خيرٍ بلا أيِّ شرٍّ وهذا يحبه الله ويزيد بسببه هذا الشاكر المُتَحَدِّث بنِعَمه المُحْسِن في استخدامها من كل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة كما وَعَدَ ووَعْده الصِّدْق " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، كما أنَّ الحديث عنها يُذَكِّر بالله تعالي المُنْعِم ويَنشر الخير والتفاؤل بانتظار كل خير بين الناس ويزيدهم حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيِّ شكٍّ بوجود خالقهم الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في دنياهم وأخراهم ، فيَسعد الجميع بذلك فيهما
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿6﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ للناس ببعض نِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ كدليلٍ منه سبحانه الرحيم الودود القويّ المَتين أنه معهم دَوْمَاً ولن يتركهم لو أحسنوا اللجوء إليه والتوكل عليه والشكر له والعمل بأخلاق إسلامهم ، كما أنه دلالة على تحقّق وعده حتماً للمسلمين في كل ما يَعِدُهم به في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُفيداً مُسْعِدَاً لهم .. " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ " أيْ ألم نجعل عقلك وفكرك وشعورك مُنْشَرِحَاً مَبْسُوطاً مَسروراً مَرْضِيَّاً مُطمئنا مُرْتاحا مُسْتَبْشِرَاً مُسْتَنِيرَاً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده مُتَشَبِّه بأخلاقه وذلك بوَحْي القرآن لكم وبتيسير أسباب الإيمان بنا واتِّباع أخلاق إسلامنا لمَن اختار ذلك بكامل حرية إرادة عقله ؟! والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّ الجميع بذلك حيث إنهم لا يَملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى هو الذي يُيَسِّر أسباب انشراح الصدور وسعادتها للمؤمنين المُحسنين أو ضيقها وتعاستها للمُسِيئين المُخالِفين للإسلام ويكون ضيقهم وشقاؤهم علي قَدْر مُخَالَفَتهم له .. " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ " ، " الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ " أيْ وحَطَطْنَا وأَزَلْنَا عنك بنِعْمَة الإنشراح بالإسلام هذه حِمْلك الذي أَثْقَلَ ظهركَ أيْ الذي تَشْعُر بهَمِّه وعِبْئِهِ كالحِمْل الثقيل تحمله علي ظهرك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده مُتَشَبِّه بأخلاقه ، هذا الحِمْل الذي يَتَمَثّل في مُتَطَلّبَات الحياة الدنيا فحَطَطْناه عنك من خلال تيسير كل أسبابها فكلها ستكون مُيَسَّرَة سَهْلَة بتوفيق الله وعوْنه ، ويَتَمَثّل في توصيل الإسلام للناس جميعا فنُيَسِّر لك أسباب ذلك ونُرَقّق عقول ومشاعر مَن تدعوهم ونُحَرِّك فطرتهم ليُسْلِموا ونُعِينك علي الصبر علي ما قد يحدث من أذي بعضهم ، ويَتَمَثّل في الوقوع أحيانا في نسيانٍ فنغفر ما قد تقع فيه منه أو من أيِّ خطأٍ بتوبتك منه أيها المسلم فكل ابن آدم خَطّاء وخير الخَطّائين التَّوَّابُون ، فتحيون بذلك دوْمَاً أيها المسلمون سُعَداء أصْفياء الذهن من أي هَمٍّ في حياة مُيَسَّرَةٍ سَهْلَةٍ مُريحةٍ سعيدةٍ في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ .. " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾ " أيْ وجعلناك يا رسولنا الكريم برحمتنا وفضلنا وكرمنا في منزلةٍ عالية رفيعة مَذكوراً علي لسان كل مسلمٍ محبوباً مُعَظّمَاً عنده مَقْرُونَاً باسمنا في النطق بالشهادتين والأذان والإقامة والتَّشَهُّد وغير ذلك من الشعائر والأذكار وطاعتك هي طاعتنا وأنت سيد الخَلْق في الدنيا والآخرة .. هذا ، وكل مسلمٍ مُتَشَبِّهٍ بأخلاق الرسول الكريم محمد ﷺ كلما فَعَلَ خيرا يَبْقَيَ ويَستمرّ في الحياة بعد مماته كلما تَذَكَّره الناس بالخير ودعوا له وفعلوا مثله وكلما ازداد ثوابه في الآخرة وبالتالي يرفع الله له ذِكْرَه الحَسَن في الداريْن .. " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ " ، " إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿6﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن شَرْح الصدر بالإسلام ووَضْع الوِزْر ورَفْع الذّكْر فتأكَّد واعلم بالتالي إذَن أنَّ حتماً ودائماً وأبداً وفي كل زمانٍ ومكانٍ مع أيِّ صورةٍ من صور الشِّدَّة لا بُدّ سهولة كثيرة قريبة مُصَاحِبَة لها ومع أيِّ ضيقٍ فرج كبير قريب مُصَاحِب له .. إنَّ هذه بشارة عظيمة ووَعْد أكيد من الله تعالي لا يُخْلَف قطعاً مُطلقا للمُعْسِرين الذين يعملون بأخلاق إسلامهم ويُحسنون اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة في كل شئون حياتهم مع حُسن التوكّل علي ربهم أنه حتما سيزيل عنهم أيّ شدّة في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم ولغيرهم عاجلا أم آجلا ، وسيُيَسِّر لهم بالقطع كل أمورههم وأرزاقهم وتعاملاتهم مع جميع الخَلْق فتكون حياتهم كلها سَهْلَة سَلِسَة سعيدة تماما في دنياهم ، ثم أخراهم .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ في الآيتين الكريمتين هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيهما والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها للانتفاع بذلك ، كما أنَّ استخدام لفظ " مع " يُفيد بأنَّ هذا اليُسْر الوفير ليس بعد العُسْر بزمنٍ طويل وإنما هو يُصَاحِبه وسيَأتى معه سريعا أو بعده بفترة قصيرة ، وأيضا فإنَّ العُسْر مُعَرَّف في الآيتين ولذا فهو مُفْرَد مُحَدَّد بينما اليُسْر غير مُعَرَّفٍ ولذا فهو مُتَعَدِّد مُتَنَوِّع غير مُحَدَّدٍ كثير فَيَّاض ، وذلك زيادة في طمأنة المسلمين وتبشيرهم وإسعادهم وعوْنهم علي الصبر لفترةٍ قليلة علي هذا العُسْر للخروج منه باستفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿7﴾ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين لله تعالي في كل أقوالك وأعمالك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿7﴾ " أيْ فإذا أَنْهَيْتَ وأَتْمَمْتَ أيها المسلم عملاً ما مُفيداً مُسْعِدَاً في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة فاجتهد بعده في الدخول في عمل آخر مُفيد مُسعد أيضا بحيث تكون كل لحظات حياتك مملوءة بالأعمال المفيدة المسعدة لك ولمَن حولك وللناس جميعا وللكوْن وللخَلْق كله – والنَّصَب هو الاجتهاد والجدِّيَّة والتَّعَب في تحصيل شيءٍ ما – مع مراعاة أن تكون دائما أثناء كل أقوالك وأفعالك مُسْتَحْضِرَاً نوايا حسنة داخل عقلك أنك لا تطلب بها إلا حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ، وبذلك تكون دنياك كلها عبادة لله تعالي أي طاعة له فتسعد فيها ثم في أخراك تمام السعادة ، وهذا هو معني " وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ﴿8﴾ " أيْ وإلى ربك وحده لا إلي غيره فارْغَب فيما عنده من الإسعاد في الدنيا والآخرة ، أيْ فاجعل رغبتك وما تحبه وتريده وتتمنّاه هو هذا ، أيْ وأثناء نَصَبك في كل أعمالك كُن فيها مُخلصا مُحسنا له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، واشكره ليزيدك خيراً وسعادة وتوكَّل عليه واسأله وادعوه وحده فهو وحده تعالي القادر علي تيسير أسباب تحقيق ما تريد
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿1﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿2﴾ وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿4﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿5﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿6﴾ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿7﴾ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿1﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿2﴾ وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿4﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿5﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّه قد خَلَقَ الإنسان في أحسن تقويم (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿1﴾ " أيْ أُقْسِمُ بهذين النباتين لِمَا فيهما من منافع وسعادات للناس وللخَلْق .. " وَطُورِ سِينِينَ ﴿2﴾ " أيْ وأُقْسِمُ بجبل الطور بمنطقة سيناء بمصر ، وهو الجبل المُقَدَّس المُكَرَّم لأنه هو المكان الذي فيه كَلَّمَ الله تعالي موسي ﷺ ، والقَسَمُ به هو لتذكرة الناس بالعِبَر والعِظَات في قصته ﷺ حيث واجَهَ استبداد وظلم فرعون ونَصَرَه الله والمسلمين وسَحَقَ أعداءهم .. " وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿3﴾ " أيْ وأقسم بهذا البلدِ – وهو مكة المُكَرَّمَة – الآمِنِ مَن دَخَلَه مِن أيِّ خوفٍ أو اعتداءٍ حيث هو يَحفظ مَن فيه كما يحفظ الأمين ما يُؤْتَمَن عليه ، والقَسَم به هو لتذكرة المسلمين بقبلتهم التي تَجْمَعهم فيتذكّرون اتِّحادهم ويتجنّبون تَفَرَّقهم فيحيون أقوياء مُتعاونين مُتطوِّرين سعداء في دنياهم ثم أخراهم .. " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿4﴾ " ، " ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿5﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحَقّ ما سَبَقَ ذِكْره لقد أوجدنا الإنسان من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بتمام قُدْرتنا وكمال علمنا في أحسن تقويمٍ أيْ في أكمل وأفضل تقديرٍ وشَكْلٍ وصُورةٍ مُتَّصِفَاً بأجمل ما يكون من الصفات الجسدية والنفسية سَوِيَّاً أيْ سليما خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعه .. لقد خَلَقْناه مُعْتَدِل القَامَة لا يمشي علي أربع أرجل كالدوابِّ مُتَنَاسِب مُتَنَاسِق مُتَوَازِن الأعضاء بلا تَخَالُفٍ فيها فليس هناك مثلا يد أو رجل أو أذُن أو عيْن أكبر من أخري أو نحو هذا تامّ الأجهزة التي تُعينه علي الانتفاع والسعادة بالحياة حوله مُتَّصِفَاً بالعقل الذي مَيَّزْناه به علي كل مخلوقاتنا والتي سَخَّرْنَاها كلها لمنفعته ولسعادته وجعلنا له بعضاً من صفاتنا كالقُدْرة والإرادة والعلم والكلام والسمع والبصر .. لقد خَلَقْناه على الفطرة السليمة بداخل عقله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. " ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿5﴾ " أيْ ثم بعد أن كان في أحسن تقويمٍ سيكون مَرَدّه ومَرْجِعه ومصيره إلى أسفل حالٍ في أخراه وهو النار فيكون من أهلها الذين هم أسفل مِن أيِّ سافلٍ وأقبح مِن أيِّ قبيح فهم أشدّ سَفَالَة من السافلين أيْ الموصوفين بالسَّفَالَة أيْ الانحطاط والوَضَاعَة والحَقَارَة والخِسَّة ، وذلك إنْ لم يُطِع الله ويَتَّبِعْ أخلاق الإسلام ويَسْتَجِبْ لنداء الفطرة بداخله وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار ، إضافة إلي ما سيكون فيه من مَنْزِلَة سافِلَة مُنْحَطَّة وَضِيعَة حَقيرة خَسِيسة تعيسة في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه وفِعْله للسوء ، ولو عمل بأخلاق إسلامه لكان في أعلي عِلِّيِين جَمْع عِلِّيّ من العُلُوّ فهو في عُلُوٍّ فوق عُلُوٍّ وارتفاعٍ بعد ارتفاع ، في درجات الجنات علي حسب أعماله ، إضافة إلي جنة الدنيا التي سيكرمه الله بها حيث تكون حياته كأنه في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيره مِمَّن لا يَتَّبِعون الإسلام وذلك بسبب إيمانه بربه وتوكّله عليه وشكره له وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه بعد أن كان في أحسن تقويم أيْ في سِنِّ الشباب والحُسْن والقوة نُرْجِعه إلي حاله الضعيف عندما كان طفلا أيْ نجعله شيخا ضعيفا أسفل من سِنّ الطفولة حيث يصبح فاقدا لِقواه ، وذلك ليَتَّعِظ ويُحسن العمل وهو مُقْتَدِر قبل أن يعجز
ومعني " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿6﴾ " أيْ لكنَّ الذين الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فصَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، فمثل هؤلاء لهم حتما من الله تعالي عطاء عظيم غير مَمْنونٍ أيْ غير مقطوعٍ أبداً بل هو دائم مستمرّ في دنياهم وأخراهم حيث تمام الخير والأمن والسعادة بسبب فِعْلهم لكل خيرٍ وتَرْكهم لكل شَرٍّ من خلال عملهم بالإسلام ونَشْرهم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حَسَنة وصبرهم علي أذيَ مَن يُؤذيهم ودفاعهم عنه ضدّ مَن يعتدي عليه .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يُرَدُّون إلي أسفل سافلين في دنياهم بمعني لا يَشِيخُون بحيث تذهب عقولهم ولو فُرِضَ وأصيبَ أحدهم بعدم تركيزٍ في شيخوخته أو حتي في شبابه لمرضٍ ما فإنَّ الله تعالي يكتب له من الأجر ما كان مُوَاظِبَاً عليه من أعمالٍ صالحة بكرمه وفضله لأنه مَنَعه مانِعٌ خارجٌ عن إرادته ولو كان سليما صحيحا لفَعَلَه ، فأجره غير ممنون أيْ لا يَنْقَطِع إلا بموته
ومعني " فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿7﴾ " أيْ فمَا الذي يَجعلك إذَن مُكَذّباً بالدين الإسلامي أيها الإنسان بعد أن خَلَقْناك في أحسن تقويمٍ وبعد أن أقمنا لك كل الأدِلّة القاطعة والتي يقبلها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتقبلها فطرته بداخله علي أنه هو الدين الحقّ الذي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها في دنياها وأخراها بأخلاقه وتشريعاته وأنظمته وذلك من خلال رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ وكتبنا وآخرها القرآن العظيم ؟! وما الذي يجعلك كذلك مُكَذّباً بيوم الدين أيْ يوم الحساب والجزاء ، أي اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، فلم تُحسن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ ؟! ألم تَتَدَبَّر خَلْقك وكيفية بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها أليس مَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع ؟! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم !! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته ! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي وَصَلَ إليه مِثْل هذا الإنسان المُكَذّب السَّفِيه !! .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه مَن هذا الذي يَقْدِر علي أن يُكَذّب بالإسلام وبيوم القيامة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بعد كل هذه الأدِلّة الحاسمة ؟! إنَّ العاقل المُنْصِفَ العادل لا بُدّ أن يُسْلِم !! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴿8﴾ " أيْ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ الله تعالي الذي خَلَقَ الإنسان في أحسن تقويمٍ وخَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِرَاتٍ والذي يَبعث الناس بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم يوم القيامة هو أحكم الحاكمين ، فليس هناك أيّ أحدٍ أحْكَم في حُكْمه وتَصَرّفه وتدبيره منه سبحانه ، فهل يَتَوَهَّم الإِنسان أن نتركه في حياته مُهْمَلاً لا راعي له ولا مُرْشِد لتمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه عن طريق إرسال الإسلام له من خلال الرسل الكرام وتوصيته بالتمسّك والعمل بكل أخلاقه أو يتوّهم أن نتركه بعد موته هكذا تنتهي حياته بصورة عَبَثِيَّة ويذهب مع التراب دون بَعْثه بجسده وروحه يوم القيامة لنحاسبه بما يستحِقّه ليتحقّق العدل الكامل ونحن الذين خَلَقناه قبل ذلك من عدم ؟! إنْ كان يَحْسَب ذلك فهو حتما فى وَهْمٍ كبير ، لأنّ العدل يتطلّب أن نُكرم المُحسنين ونُعاقِب المُسيئين (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿115﴾ من سورة " المؤمنون " " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه لا يُمكن أن يكون ذلك أبداً ولا يُتَصَوَّر مُطلقاً من أحكم الحاكمين !! والسؤال هو للذمّ الشديد له لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان ، كما أنه للتقرير أيْ لكي يُقِرّ الجميع بذلك حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف به .. أليست الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة كما يُثبت الواقع ذلك ؟! فالله تعالي يُخاطِبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سَهْل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذَن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! .. إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا ! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7﴾ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ﴿8﴾ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿9﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿10﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿11﴾ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ ﴿12﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿13﴾ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ ﴿14﴾ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿15﴾ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿16﴾ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿17﴾ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿18﴾ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُتَعَلّما لا جاهلا ومُتَخَصِّصَاً في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة لأنه بانتشار العلم والعلوم والعلماء يَرْقَيَ الناس في معاملاتهم ويتطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الجهل والجهلاء يتخلّفون ويتعسون فيهما ، فالله تعالي يُنَبِّه لقيمة العلم والتَّخَصُّص ويُشجع عليه لفضله العظيم ومَكْسَبه الكبير في الدنيا والآخرة وهو سبحانه يرفع قيمة الإنسان ومكانته فيهما بإيمانه وحُسن قوله وعمله وفكره وعلمه وتخصّصه ونحو هذا .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ " أيْ كُنْ دَوْمَاً أيها المسلم قارئاً مُتَعَلّما لا جاهلا ومُتَخَصِّصَاً في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة لأنه بانتشار العلم والعلوم والعلماء يَرْقَيَ الناس في معاملاتهم ويتطوّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الجهل والجهلاء يتخلّفون ويتعسون فيهما ، وكن دوما بادِئاً قراءتك وعلمك وتَخَصُّصك وعملك بذِكْر اسم ربك – أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك – ومُستعيناً به متوكّلا أيْ معتمداً تماما عليه فهو الذي خَلَق كل المخلوقات المُعْجِزات المُبْهِرات القادر علي كل شيء وهو إذَن بالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللاعتماد عليه ، وذلك ليُبَارك لك في كل أعمالك وأقوالك أيْ تُحَقّق منها أفضل وأسعد النتائج الدنيوية والأخروية .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أن اقرأ أيها المسلم القرآن العظيم مُبْتَدِئاً باسم ربك الرحمن الرحيم ، لنفسك أولا لتَدَبُّر معانيه وللعمل بها لتسعد في الداريْن ، ثم تقرأه لغيرك باسم ربك أيْ بصفتك مُتَكَلِّمَاً باسمه مُبَلِّغَاً عنه تدعوهم إليه بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة ليسعدوا مثلك هم أيضا فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وكذلك من المعاني أن اقرأ أيْ تَدَبَّر في الكوْن كله حولك في كلّ خَلْق ربك ، فهذا التَّدَبُّر سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. " خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ " أيْ الذي خَلَقَ كلّ إنسانٍ من عَلَقٍ جَمْع عَلَقَة وهي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخليّ – وهذا التَّجَمُّع من الخلايا تَكَوَّنَ فى الأصل من نُطْفَةٍ أيْ حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مَهِينٍ مِن مَنِيِّ رَجُلٍ يُمْنَيَ منه أيْ يُدْفَع ويُقْذَف إلي رَحِم أنثي ليتَّحِدَ مع بُوَيْضَة مِن مِبْيَضها – ثم تَتَطَوَّر في أطوارٍ مُتَعَدِّدَةٍ بقُدْرته سبحانه حتي يكون إنسانا فى أحسنِ صورةٍ يمتلك من كل القُوَيَ الجسدية والعقلية وغيرها .. وفي هذا تذكيرٌ بتمام قُدْرته وكمال علمه تعالي وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه .. هذا ، وقد تَمَّ تخصيص خَلْق الإنسان بالذكر دون غيره من المخلوقات رغم أنها كلها مُعْجِزَة مُبْهِرَة لأنه أشرفها وسيدها وأَمْيَزها بعقله وأعظمها إعجازاً وإبْهَارَاً وهي كلها مُسَخَّرَة لمنفعته ولسعادته .. " اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ علي الأهمية العُظْمَيَ للقراءة والعلم والتَّخَصُّص بتكرار استخدام ذات اللفظ " اقرأ " من أجل تمام الاهتمام بذلك والاستمرار عليه ، مع التبشير والتذكير بأنَّ ربك أيها المسلم هو الأكرم علي الإطلاق من أيِّ كريمٍ بلا أيِّ مُقَارَنَة فهو أكرم الأكرمين حيث كراماته ونِعَمه علي كل خَلْقه لا تُحْصَيَ بما يُفيد أنه حتما سيُعين ويُيَسِّر كل الأسباب لمَن يقرأ ويتعلم ويتخَصَّص ويَعمل ويُنْتِج ويُسْعِد ذاته وغيره وسيُعطيه علي كل ذلك من عطايا وسعادات الدنيا والآخرة ما لا يُمكن حَصْره وسيَتجاوز بكرمه ورحمته عن تقصيره حين يتوب منه .. " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ " أيْ وأيضا من كرامات ونِعَم ورحمات الأكرم تعالي علي الإنسان والخَلْق والتي لا يُمكن حصرها أنه هو الذي عَلَّمه الكتابة بالقلم ولم يكن يعلمها حيث به يَكْتُب بنو آدم كل خيرٍ نافعٍ من علومٍ بكل أنواعها وحِكَمٍ ومصالح بكل أشكالها وما شابه هذا ، مُنَبِّهَاً بذلك لأهمية وكثرة منافع الكتابة والعلم والاهتمام بهما لأثرهما المُسْعِد في حياة الناس ومُذَكِّرَاً بشكره تعالي علي عظيم نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ومنها تعليم الكتابة والتفاهُم والتي سَهَّلها وسَخَّرَها لهم مع عقولهم وألسنتهم وأيديهم وأصابعهم ليَنتفعوا وليَسعدوا بها .. " عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ " أيْ وبالجملة ومن تمام كراماته ونِعَمه ورحماته علي الإنسان والخَلْق والتي لا تُحْصَيَ عَلّمه بالقلم ما لم يكن يعلم وعَلّمه أيضا بغيره بوسائل أخري أشياء كثيرة من مختلف المعارف مِمَّا لم يكن يعلمه ليتمّ له تمام الانتفاع والسعادة بالحياة حوله حيث وَضَعَ في عقله بذور وأصول معرفة كل الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليه إلا أن يُنَمِّيها بالعلوم والبحوث والتجارب والتساؤلات والاستفسارات والحوارات ، وهذا سيَدْفعه دفعا قويا للانطلاق في الحياة بكل قوة فرديا وجماعيا من أجل مزيدٍ من استكشاف خيراتها وكلما انطلق أكثر واستكشف أكثر كلما انتفع وسعد أكثر هو ومَن حوله وكلما ازداد ثوابه ودرجاته في الآخرة ما دام يَسْتَصْحِب نوايا حسنة بعقله عند فِعْله أيّ خير
ومعني " كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7﴾ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ﴿8﴾ " أيْ لا ، لا يَصِحّ أن يكون الإنسان هكذا ، أن يُنْعِم عليه ربه بخَلْقِه في أحسنِ صورة وأفضل إمكانات وبتعليمه ما لم يكن يعلم ليَنتفع ويَسعد تماما بحياته الدنيا وبآخرته لو أحسنَ في دنياه ، ثم يَطْغَيَ أيْ يظلم ويُبَالِغ في الظلم ويُجاوِز كل الحدود فيه وفي الفساد والكفر والاسْتِكْبار واسْتِعْباد الخَلْق حيث يفعل الظلم بكل أنواعه سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أيْ إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. فَليرْتَدِع ويتَرَاجَع وينْتَهِ عن ذلك ليسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه .. " أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7﴾ " أيْ مثل هذا الإنسان البعيد عن الله والإسلام يَطْغَيَ لأنه رَأَيَ نفسَه قد استغني أي عندما يَرَىَ نفسه مُسْتَغْنِيَاً بما له من غِنَيً وثَرَاءٍ وسلطانٍ ونفوذٍ وأعوانٍ ونحو هذا مُتَوَهِّمَاً الاستغناء عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار .. " إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ﴿8﴾ " أيْ فلْيَعلم كل مَن يَطْغَيَ أنه مهما طَغَيَ فإنَّ إلي ربك وحده لا إلي غيره أيها المسلم الرجوع والمصير في الآخرة فيُجازِي كلَّ إنسان بعمله علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة ، وليعلم أنَّ ما يَسْتَغْنِي به من قوي دنيوية لن تنفعه بأيِّ شيءٍ وقتها ، وبالتالي فليجتهد كل عاقل في فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في دنياه وأخراه .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهذا الذي يَطْغَيَ ولأمثاله لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿9﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿10﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿11﴾ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ ﴿12﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿13﴾ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ ﴿14﴾ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿15﴾ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿16﴾ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿17﴾ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿18﴾ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴿19﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتهديد الشديد لهذا الذي يَطْغَيَ ولأمثاله لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿9﴾ " ، " عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿10﴾ " أيْ هل شاهدتَ وَوَصَلَ إلي علمك يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حال هذا الطاغِي السَّفِيه المُعَطّل لعقله الذي يَمْنع أحدا من الصلاة إذا صَلّي ؟! الذي يَمنع مِن طاعة الله والإسلام وفِعْل الخير ؟! هل هي جريمة حتي يَمْنَعه منها ؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء له ولمَن يُشبهه ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما .. " أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿11﴾ " ، " أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ ﴿12﴾ " أيْ أخبرنى يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ عن حال هذا الطاغِى إن كان على الهُدَىَ فى نَهْيِهِ عن الخير أو أمر بالتقوى فيما كان أمرَ به ؟!! .. كذلك من معاني الآيتين الكريمتين أخبرني أيها العاقل إنْ كان المَنْهِيّ عن الصلاة والخير على الهدى أي الرشاد والصواب والسعادة فكيف ينهاه ويمنعه عن هُدَاه ؟! أو إن كان قد أمر غيره بالتقوى أيْ بالخوف من الله بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام ليَسعد في الداريْن هل يَنهاه عن ذلك ؟! .. وأيضا من معانيهما أرأيتَ أيها المسلم إنْ صارَ الطاغى على الهدى فآمَنَ بربه واتَّبَع الإسلام ، ودعا إلى البر والتقوى ، أمَا كان ذلك خيرا وأسعد له في دنياه وأخراه من الإِصرار على كفره ومن نهيه غيره عن الصلاة وعن الخير ؟! .. " أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿13﴾ " ، " أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ ﴿14﴾ " أيْ أخبرني أيها المسلم عن حال هذا الطاغِي إن لم يُصَدِّق بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَوَلّىَ أيْ أعْطَيَ ظهره لكل هذا والْتَفَتَ وانصرفَ وابتعدَ عنه وتركه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وفَعَلَ الشرور والمفاسد والأضرار لأنه لا بَعْث ولا حساب من وجهة نظره ، أرأيت إنْ فَعَلَ ذلك ، هل لم يُرْشِده عقله وجَهلَ ولم يُدْرِكْ أنَّ الله تعالي خالقه يري تماما أفعاله ويسمع أقواله وسيُجازيه بما يَستَحِقّه ويُناسبه من عذابٍ مُهينٍ في دنياه وأخراه ؟! ولكنه قد عَطَّلَ هذا العقل بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿15﴾ " ، " نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿16﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَتَوَهَّم هذا الإنسان الطاغي أنه يمكنه أن يفعل ما سَبَقَ ذِكْره مِن سوءٍ أو إنْ فَعَلَ بعضه سيَمُرّ بدون عقاب !! .. فَليرْتَدِع ويتَرَاجَع وينْتَهِ عن ذلك ليسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ، وإلاّ إنْ لم يَكُفّ ويَمْتَنِع عمَّا يفعله لنَسْفَعَاً بالناصية أيْ حتماً بالتأكيد لَنَقْبِضَنَّ بشدّة علي مُقَدِّمَة رأسه فلا يُمْكِنه الإفلات ونَجُرّه ونَسْحَبه منها علي سبيل الإذلال والإهانة والتحقير ولَنَحْرِقَنَّ وجهه وجسده حتي يَسْوَدَّ لونه ، والمقصود تعذيبه في الدنيا والآخرة عذابا مُهينا مُؤلما مناسبا لأفعاله وأقواله .. " نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿16﴾ " أيْ فإنَّ ناصيته هذه هي بكل تأكيدٍ ناصية كاذبة في أقوالها خاطئة غير مُصِيبَة في أفعالها اختارت في دنياها بكامل حرية إرادة عقلها أن تفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فأَدَّت بهذا الإنسان صاحبها إلي ما هو فيه من عذاب وتعاسة في الداريْن .. " فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿17﴾ " أيْ فلْيَطْلُب أهلَ ناديه – أي النادي الذي يجلسون ويجتمعون يتسامرون فيه – من أقاربه وأصحابه وأعوانه وغيرهم ليكونوا له نُصَرَاء فى الدنيا لنُصْرَته علي المسلمين أو لِمَنْعه من العذاب حين يَنزل به أو في الآخرة لينقذوه من النار .. " سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿18﴾ " أيْ إذا دَعَا أهلَ ناديه واستمرّ فيما هو فيه من سوء ، سنَدْعُ نحن الخالق مالك الملك القادر علي كل شيء ، الزبانية ، أيْ الملائكة والجنود التي لا يعلمها إلا نحن المُكَلّفَة بإيقاع أنواع العذاب المختلفة بمَن يَسْتَحِقّونه في الدنيا والآخرة والمُكَلّفَة بنُصْرة أهل الحقّ لنُصرتهم حين يستحقّون النصر .. ولا مُقارَنَة قطعا بين الدعوتان دعوة الخالق ودعوة المخلوق !! .. وفي هذا تعجيزٌ له وكَسْرٌ لاستكباره واستخفافٌ به وبما يَدَّعِيه ويَتَوَهَّمه من قوة ، كما أنه مزيدٌ من التحذير والتهديد الشديد لهذا الذي يَطْغَيَ ولأمثاله لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب ويتعسون فيهما .. " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴿19﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من الرَّدْع لهذا الطاغي ، أيْ لا ، ليس الأمر كما يَتَوَهَّم أنَّ أهل ناديه سينصرونه فإنهم وغيرهم أعجز من أن يقفوا أمام قُدْرة الله تعالي وتقديره وحُكْمه ونصره حين يأتي ، فَليرْتَدِع ويتَرَاجَع وينْتَهِ عن ذلك ، وبالتالي فلا تُطِعْه أيْ لا تَسْتَجِب له ولا تَتَّبِعه أبداً أيها المسلم فيما يدعو إليه من أيِّ مخالفةٍ لأخلاق الإسلام واستمرّ دَوْمَاً علي التمسّك والعمل بها كلها والدعوة إليها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنها ضد مَن يعتدي ، وهذا هو معني " .. وَاسْجُدْ .. " أيْ واعْبُدْ أيْ وكُن دائما في طاعةٍ مَا حيث السجود هو الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها ، وأيضا هو السجود له بتواضُعٍ وخشوع وسكون علي الجبهة في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما ، " .. وَاقْتَرِب .. " أيْ واقترب بكل ذلك إلى الله تعالي ، وكلما تَقَرَّبْتَ منه كلما ازدادت رعايته لك وازداد رضاه عنك وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده لك في دنياك وأخراك
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿2﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿3﴾ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴿4﴾ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿1﴾ " أيْ نحن بدأنا إنزال هذا القرآن العظيم ، علي رسولنا الكريم ، ليُبَلِّغه للناس ليُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، في ليلة القَدْر ، والتي هي في العشر الأواخر من رمضان ، والتي هي بسبب نزوله فيها ليلة مُبارَكة لأننا نزيد فيها خيرنا ورزقنا وتوفيقنا وتيسيرنا وعوْننا وفضلنا وإسعادنا الدنيويّ ثم ثوابنا الأخرويّ لخَلْقنا أكثر مِمَّا هم فيه إكراما لها لأنها ذِكْرَيَ بَدْء نزوله وهي تُذَكِّر بقيمته وعظمته ونَفْعه ، وقد سُمِّيَت بذلك لِعِظَم قَدْرها ومكانتها ومنزلتها وشرفها حيث هى الليلة التى نَزَلَ فيها القرآن الكريم ذو القَدْر العظيم على الرسول الكريم محمد ﷺ ذى القَدْر الكبير ليُبَلِّغه للعالمين ليعملوا بأخلاقه ليكونوا ذوي القَدْر والشأن الكبير
ومعني " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿2﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي ليلة القَدْر أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بقَدْرها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من الخير لمَن يستحِقّه ما لا يُوصَف
ومعني " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿3﴾ " أيْ ومن مظاهر قَدْرها العظيم أنَّ أيَّ عملِ خيرٍ فيها من أيِّ نوعٍ يُحْسَبُ لفاعله بأجرٍ أكثر مِن كأنه فَعَلَه لمدة ألف شهرٍ أيْ ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ، بتكريمه وتفضيله تعالي لها وللعاملين بأيِّ خيرٍ فيها
ومعني " تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ " أيْ وأيضا من مظاهر قَدْرها العظيم أنَّ الملائكة تَتَنَزَّل فيها بكثرة وكذلك تتنزل الروح وهي الرحمة والبركة أيْ الزيادة من كل خير – والروح قد تعني أيضا جبريل وخُصَّ بالذكر رغم أنه من ضِمْن الملائكة لأنه أفضلها إذ نزل بالقرآن الكريم – أكثر من غيرها من أيام السنة ، بإذن ربهم أيْ بأمره ، وذلك من كل أمرٍ أيْ من أجل كلّ أمرٍ أراد سبحانه تنفيذه بإنزالها وبتسخيرها والذي منه كل أمرٍ خيريٍّ مُسْعِدٍ يُيَسِّر الخيرات والرحمات والبركات للناس وللخَلْق رحمة بهم وإسعاداً لهم وليستشعروا قيمة السعادة الغامرة مع فِعْلهم للخير ونَشْرهم له فيكون ذلك حافزا وتشجيعا لهم ليجعلوا حياتهم كلها خيرا مثلما يجعلونها كذلك في ليلة القدر ولا يقتصرون فقط علي فِعْل الخير فيها وحدها فيحيون بذلك بسعادة تامِّةٍ لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم
ومعني " سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿5﴾ " أيْ وكذلك من مظاهر قَدْرها العظيم أنَّها هي كلها أمن وطمأنينة واستقرار وخير وسعادة لكل مسلم يجتهد في أن يُواصِلَ فيها فِعْل كلّ خيرٍ وراء خير ، وذلك السلام مستمرّ من بدء وقتها بعد غروب الشمس حتي طلوع الفجر ، وهو يناله في دنياه كأجرٍ من كرم ربه ورحمته وفضله قبل أن يناله تامَّاً لا يُوصَف في أخراه
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿1﴾ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴿2﴾ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴿3﴾ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿4﴾ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿5﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿6﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿7﴾ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿1﴾ " أيْ لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى ، وهم الذين لم يُصَدِّقوا بالقرآن العظيم ولا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبَقوا علي اليهودية والنصرانية ولم يدخلوا دين الإسلام ، وكذلك لم يكن المشركون وهم الذي يشركون مع الله في عبادته غيره كأنْ يعبدوا صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو كوكباً أو نحو هذا ، ومَن يَتَشَبَّه بهم ، لم يكن كل هؤلاء أبدا مُنْفَكِّين أيْ مُنْفَصِلِين عَمَّا هم عليه من كفرٍ وشِرْكٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار بل يظل كثير منهم مُصِرِّين علي ذلك حتي وإن تأتيهم وتجيئهم البَيِّنَة وهي القرآن الذي جاء به محمد ﷺ والذي يُبَيِّن لهم أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة ، فهم حين تأتيهم البينة يَنْفكوا أيْ يَنْفصلوا ويتفرَّقوا فمنهم مَن يؤمن بها ومنهم مَن يكفر ويبقي علي سوئه مِن كفرٍ وشركٍ وشرّ ، مع أنه مِن المُفْتَرَض أن تكون معرفتهم بالبَيِّنَة مُعِينَة لهم جميعا علي الاجتماع علي الحقّ والعدل والخير والصواب والسعادة وهو الإسلام لا علي الافتراق بسببه ! فهم قد اجتمعوا علي الكفر والشرّ وتفرَّقوا عند الإيمان والخير !! .. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء وتَعَجُّب من سوء حالهم وإصرارهم عليه وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فلعلهم بهذه التذكرة يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنها تذكيرٌ لمَن يؤمن من الذين كانوا قد كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين بنعمة الله العظيمة عليهم وهي القرآن والرسول ﷺ والإيمان إذ لولا أن جاءتهم البينة لَمَا آمنوا
ومعني " رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴿2﴾ " ، " فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴿3﴾ " أيْ وهذه البَيِّنَة هي رسولٌ مَبْعُوثٌ من عند الله تعالي يقرأ عليهم صحفاً وأوراقاً مُنزَّهة عن الباطل حيث فيها ما هو مكتوب من أحكامٍ وتشريعات وأخلاقيَّات وأنظمة قَيِّمَة أيْ مستقيمة بلا أيِّ انحرافٍ حيث هي ناطقة بكل حقٍّ وعدلٍ وصواب وخير وسعادة وهي ذات قِيمَة عالية وذات قِيَم أخلاقية سامية ، والمقصود القرآن العظيم وآياته التي فيه
ومعني " وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿4﴾ " أيْ وأهل الكتاب – وهم اليهود الذي أُوُتُوا أيْ أُعْطُوا التوراة بواسطة رسولهم موسي ﷺ ، والنصاري الذين أعطوا الإنجيل من خلال رسولهم عيسي ﷺ – لم يتفرَّقوا إلي مؤمنٍ وكافرٍ بدين الإسلام إلا مِن بعد ما جاءتهم الآيات في القرآن العظيم وعَلِموا منها أين الحقّ المُسْعِد في الداريْن وأين الباطل المُتْعِس فيهما ومع ذلك تفرّقوا ، فهم لم يكونوا جهلاء بحيث يكون لهم حجّة يتحجّجوا بها أنهم تفرّقوا لأنهم لم يكونوا علي معرفة بالإسلام ، بل مِن المُفْتَرَض أن تكون معرفتهم بالبَيِّنَة أي به مُعِينَة لهم جميعا علي الاجتماع علي الحقّ والعدل والخير والصواب والسعادة وهو الإسلام لا علي الافتراق بسببه ! لقد اجتمعوا علي الكفر والشرّ وتفرَّقوا عند الإيمان والخير !! .. فليس تفرّقهم إذَن بسبب قصورٍ في البيان لهم من ربهم ، وإنما كان السبب الأساسيّ هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ للحال السَّيِّء الذي وَصَلَ إليه عقول أمثال هؤلاء الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة والذين كفروا بدين الإسلام ولم يَتَّبِعوه رغم أنهم ما أُمِرُوا فيه إلا بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حيث لم يُؤْمَرُوا ويُرْشَدُوا إلا لعبادة الله تعالي وحده أيْ طاعته بلا أيّ شريك ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أيْ الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأن يكونوا مُخلصين مُحسنين له الدين أيْ الطاعة أيْ عند تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق دينهم الإسلام أيْ يقولوا كلّ أقوالهم ويعملوا كل أعمالهم من أجل الله وحده لا من أجل غيره ، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق ، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾ .. وأن يكونوا حُنَفاء أيْ مائلين عن أيِّ باطل مُتَّجِهِين دوْماً إلي كلّ حقّ ، وأن يقيموا الصلاة أيْ يُواظِبوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم ويُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحسنوها ويُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن ، وأن يُؤْتُوا الزكاة أي يعطوا الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال ، وأن يكونوا من المُنْفِقين عموما الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم ، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات .. " .. وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿5﴾ " أيْ وذلك الذي نأمر ونُوصِي به الناس ونرشدهم إليه هو دين القَيِّمَة أي دين غاية وتمام الاستقامة بلا أيِّ انحرافٍ حيث هو ناطق بكل حقٍّ وعدلٍ وصواب وخير وسعادة وهو ذو قِيمَة عالية وذو قِيَم أخلاقية سامية .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنهم ما أُمِرُوا في كتبهم السابقة إلا بما أُمِرُوا به في القرآن فالأصل إذَن واحد وهو الإسلام فلماذا لا يُسْلِمون إذَن وقد تَبَيَّنَ لهم صدق الرسول الكريم محمد ﷺ حيث لم يأتهم إلا بمِثْل الذي آمنوا به سابقا في التوراة والإنجيل ؟!
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿6﴾ " أيْ هذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة يوم القيامة ، للذين لم يُصَدِّقوا بالقرآن العظيم ولا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبَقوا علي اليهودية والنصرانية ولم يدخلوا دين الإسلام بعد أن وَصَلَ إليهم ، وكذلك للمشركين وهم الذي يُشركون مع الله في عبادته غيره كأنْ يعبدوا صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو كوكباً أو نحو هذا ، ولِمَن يَتَشَبَّه بهم ، وفعلوا في دنياهم الشرور والمَفاسد والأضرار ، أن يكونوا مُعَاقَبين مُعَذّبين في نار جهنم بكل أنواع عذابها المتنوع المُهين المُؤلم ، خالدين فيها بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله .. وهؤلاء هم حتما شرّ البَرِيَّة أيْ الخليقة التي بَرَأَها الله تعالي البارِيء أيْ التي خَلَقها وأوْجَدَها من عدمٍ وجَعَلها بريئة من أيِّ خَلَلٍ وعَيْبٍ عند تنفيذ خَلْقِها .. وذلك إضافة حتما إلي ما كانوا فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿7﴾ " ، " جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴿8﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فصَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، مثل هؤلاء الذين يفعلون ذلك من الناس هم حتما خير البَرِيَّة أيْ أكثر الخَلِيقَة خيرا ، وجزاؤهم أيْ أجرهم وثوابهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم هو جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد ، ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم ، إنها جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، ويكونون خالدين فيها أبدا بلا أيّ نهاية ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها .. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم .. " .. رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .. " أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لتشجيع ولدَفْع كلّ بني آدم ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، أيْ بكلِّ تأكيدٍ لقد أحبهم الله وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن .. " .. وَرَضُوا عَنْهُ .. " أيْ وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم الذي يرضيهم به في الآخرة ، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة السعادة والاستقرار والأمان ؟! .. " .. ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴿8﴾ " أيْ ذلك العطاء الذي لا يُوصَف هو لمَن خاف عظمة ربه وسلطانه وتمام قُدْرته وكمال عِلْمه ففَعَلَ في دنياه كلّ خيرٍ وتَرَكَ كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فسَعِدَ بالتالي تمام السعادة في الدنيا والآخرة
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿1﴾ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿2﴾ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ﴿3﴾ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿4﴾ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴿5﴾ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿6﴾ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !! .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿1﴾ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿2﴾ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ﴿3﴾ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿4﴾ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أحداث وأهوال يوم القيامة والمُتَغَيِّرات الهائلة التي تحدث فيه حينها ، فإذا حصلت هذه الأمور فقد حَدَثَ هذا اليوم الشديد علي المُكذبين المُسِيئين اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة ، ووقتها ويومئذ تُحَدِّث الأرض أخبارها (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ، فلِيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. هذا ، وجواب الشرط لأداة الشرط " إذا " هو في الآية الكريمة " يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿4﴾ " .. ومعني " إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿1﴾ " أيْ اذكروا أيها الناس إذا تَحَرَّكَت واضطرَبَت الأرض يوم القيامة تَحَرُّكها واضطرابها وزلزالها الذى لا يُشْبِهه أيّ زلزالٍ آخر فى شدّته وفظاعته وفزعه .. " وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿2﴾ " أي وإذا رَمَت وقَذَفَت أحمالها التي تحملها بداخلها من أجساد وعظامِ موتي وكنوزٍ وغيرها وتَخَلّت عنها وخَلَت دَوَاخلها منها تماما بما يدلّ علي هوْل وفَظَاعَة الأحداث .. " وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ﴿3﴾ " أيْ وإذا قال الإنسان مُنْدَهِشَاً مُتَعَجِّبَاً مُتَحَيِّرَاً مُنْزَعِجَاً ما الذي حَدَثَ لها حتى جعلها تتزلزل هذا التزلزل الشديد وتُخْرِج أثقالها بهذا الشكل المُخيف ؟! .. " يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿4﴾ " أيْ إذا حَدَثَ كل ما سَبَقَ ذِكْره من أحداثِ يوم القيامة ، حينها تُحَدِّثُ وتُخْبِر الأرضُ أخبارَها التي حَدَثَت عليها فتَشهد لأهل الخير من بني آدم بأنهم قد فَعَلوا خيرا ولأهل الشرّ بأنهم قد فَعَلوا شرَّا ، فالأرض هي من بعض الشهود الذين يشهدون على الإنسان بما عمل حيث يُنْطِقها الله تعالي بقُدْرته .. " بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴿5﴾ " أيْ بسبب أنَّ ربك أيها الإنسان قد أوْحَىَ لها بأن تُحَدِّث بأخبارها التي حَدَثَت عليها أيْ أَمَرَها بذلك وأعطاها القُدْرَة عليه
ومعني " يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿6﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، يخرج الناس من قبورهم إلى مكان الحساب مُتَشَتِّتِين أيْ مُتَفَرِّقِين مُختلفين فمنهم مَن يكون بِيض الوجوه آمنين وهم كل مسلمٍ فَعَلَ الخير في دنياه ومنهم سُود الوجوه فَزِعِين وهم كل فاعلٍ للشَّرّ ، وأيضا يَصْدُرون بمعني يَنْصَرِفون بعد انتهاء حسابهم أشتاتاً حيث يَصْدُر بعضهم للجنة بدَرَجَاتها وبعضهم للنار بدَرَكَاتها .. إنهم يَصْدُرون ليُرَوْا أعمالهم أي لكى يُبَصَّرُوا كُتُب أعمالهم المُسَجَّل فيها كل ما عملوه وقالوه فى دنياهم وجزاؤها وثوابها ويُعْلَمُوا بها ويُطْلَعُوا عليها ، أيْ ليُريهم الله ما عملوا من خيرٍ أو شَرٍّ ويجازيهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشَّرِّ شرا وتعاسة بما يُناسبُ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ " ، " وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿8﴾ " أيْ هذا تفصيلٌ لِمَا يَتَرَتَّب علي أنَّ الناس يُرَوْنَ أعمالهم يوم القيامة ، أيْ فمَن يعمل منهم في دنياه وَزْنَ ذرّةٍ خيراً يَرَ ثوابه في الآخرة ، ومَن يعمل وزن ذرة شرَّاً يَرَ عقابه فيها ، أيْ مهما كان هذا العمل في غاية القِلَّة من الخير أو الشر فسيأخذ فاعله ما يناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، ومن معاني الآيتين الكريمتين أيضا أنه مَن يعمل مِن الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ، ولا يُثاب عليه في الآخرة بأيِّ شيءٍ لأنه لا يؤمن بها أصلا ولكن من تمام عدل الله تعالي أنه لا يضيع حقه فيُعطيه من الخير ما يُناسب فِعْله في دنياه ، ومَن يعمل مثقال ذرّة مِن شَرٍّ عُوقِبَ عليه في الآخرة مع عقاب كفره والذي كان السبب في فِعْله للشرور والمُفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره ، ومَن يعمل مثقال ذرّة مِن شَرٍّ مِن المؤمنين يَرَهُ في الدنيا ولا يُعَاقَب عليه في الآخرة لأنه قد عُوقِبَ به بالفِعْل ، وإنْ عمل مثقال ذرّة مِن خيرٍ يُقْبَل منه ويُضَاعَف له في آخرته .. وفي الآيتين الكريمتين تشجيع علي فِعْل أيِّ خيرٍ مهما كان قليلا فإنه مُفيدٌ مُسْعِدٌ في الدنيا والآخرة ، وتخويف مِن فِعْل أيِّ شرٍّ مهما كان حقيراً لأنه مُضِرّ مٌتْعِسٌ فيهما
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴿1﴾ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴿2﴾ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ﴿3﴾ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ﴿4﴾ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴿5﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿6﴾ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿7﴾ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿8﴾ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴿9﴾ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿10﴾ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴿1﴾ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴿2﴾ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ﴿3﴾ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ﴿4﴾ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴿5﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿6﴾ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿7﴾ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿8﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي إنِّ الإنسان لربه لَكَنُود (انظر تفسير الآية ﴿6﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴿1﴾ " أيْ أُقْسِمُ بالجارِيَات التي تَعْدُو أيْ تَجري فتَضْبَح ضَبْحَاً أيْ فيُسْمَع لأنْفَاسِها صوتاً هو الضَّبْح ، والجاريات هي الخيل أو الإبل التي تجري فتنفع الناس بنقلهم وتجاراتهم وكانت تنفعهم في قتال الأعداء ونحو هذا من منافع وسعادات ، ويُشبهها الآن الطائرات التي لها صوت من مُحَرِّكاتها عند طيرانها وما شابه هذا مِمَّا يصنعه الإنسان من خاماتٍ خَلَقَها الله سبحانه وسَخَّرَها لمنفعته ولسعادته .. " فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴿2﴾ " أيْ والتي تُخْرِج النار حين تَقْدَح قَدْحَاً أيْ حين تَحْتَكّ حوافرها بحجارة الأرض عند جَرْيِهَا بسرعة ، والمُورِيَات جَمْع مُورِيَة وهي التي تُورِي النار أيْ تقوم بإيرائها أيْ إخراجها وإحداثها عن طريق القَدْح وهو ضرب شيءٍ بشيء آخر لكي يخرج بسبب احتكاكهما شَرَر النار ، ويَدخل ضمنها كل آلة قادِحَة مُخْرِجَة مُحْدِثَة للنار صَنَعها الإنسان .. " فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ﴿3﴾ " أيْ والتي تُغِيرُ أيْ تَهْجم على العدو فى وقت الصباح ، بما يُفيد قوتها وقوة مَن يستخدمها حيث تَهجم علانية صباحا لا سِرَّاً ليلا ، إلا إذا كان الهجوم بالليل سيُحَقّق المَنْفَعَة فيُفْعَل الأصْلَح حينها .. " فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ﴿4﴾ " أيْ والتي تُثير أي تُهَيِّج وتُحَرِّك به أيْ بمكان إغارتها نَقْعَاً أيْ تراباً وغُباراً بسبب جَرْيها ، بما يفيد أيضا قوتها .. " فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴿5﴾ " أيْ والتي تَتَوَسَّط – أيْ تَصير في وسط – به أي بمكان إغارتها وبوقته وبالغبار الذي تثيره ، جَمْعاً أيْ جَمْع الأعداء أيْ تجمعاتهم ، فتُمَزِّقهم وتُفَرِّقهم وتَهزمهم ، بسبب قوّتها وقوّة راكبيها .. " إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿6﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ ما سَبَقَ ذِكْرُه إنَّ الإنسان البَعِيد عن ربه وإسلامه هو بالتأكيد كَنُود أيْ كَفُور أيْ كثير شديد الكفر لِنِعَم الله تعالي أيْ لا يَعترف بها ولا يشكرها بل ويَتَنَاسَاها ولا يَذْكرها بل وقد يَنسبها لغيره ، بل وقد يَكفر بوجوده أصلا وبرسله وكتبه وحسابه وعقابه وجنته وناره فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نَظَرِه .. فلا يَتَشَبَّه أبداً بمثله أيّ أحدٍ وإلا تَعِس مثله في دنياه وأخراه بسبب بُعْده عن الله والإسلام .. " وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿7﴾ " أيْ وإنَّ هذا الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه علي ذلك الكُنُود منه لشهيد أيْ بالتأكيد يَشهد علي نفسه به حيث أثره يَظهر عليه في أقواله وأفعاله ، وذلك في الدنيا ، ثم في الآخرة فإنه أيضا حتما لشهيد على نفسه مُعْتَرِف بذنوبه .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ الله تعالى علي ذلك الكُنُود من هذا الإنسان البعيد عنه وعن الإسلام لشهيد أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِمَّا يقوله ويفعله مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع ولا ينسَيَ شيئا وسيُحاسبه عليه بما يُناسبه في دنياه وأخراه .. فانتبهوا لذلك يا بني آدم وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراك وإلا تعستم فيهما .. " وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿8﴾ " أيْ ومن صفاته السيئة أيضا هذا الإنسان الكَنُود أنه يحب المال بكل أنواعه حباً كثيراً شديداً يَدفعه إلى الحرص على جَمْعه من أيّ طريقٍ سواء أكان من حلالٍ نافعٍ أم حرامٍ ضارٍّ مع مَنْع الحقوق بالبُخْل بإنفاقه فيما يُطْلَب أن يُنْفَق فيه من خير .. هذا ، وقد أُطْلِقَ علي المال لفظ الخير لأنه من المُفْتَرَض أن يَحْصُل به كلّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة إذا اسْتُخْدِمَ في الخير
ومعني " أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴿9﴾ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿10﴾ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴿11﴾ " أيْ هل لا يَعْلَم وجَهِلَ هذا الإنسان الكَنُود ما ينتظره من نهاية سيئة إذا قُلِبَ ما في المَقَابِر وانْقَلَبَ باطنها إلي ظاهرها وأسفلها إلي أعلاها وتَنَاثَرَت أتربتها وأُخْرِجَ موتاها منها ليُبعثوا أحياء بأجسادهم وأرواحهم لحسابهم وإذا جُمِع واسْتُخْرِجَ وأُظْهِرَ ومُيِّزَ ما كان مُسْتَتِرَاً مَخْفِيَّاً في العقول وما قِيِلَ وفُعِلَ من خيرٍ أو شَرٍّ عَلَنَاً أو سِرَّاً حيث كله مُسَجَّل في كتب الأعمال ولم يعد هناك أيّ شيءٍ مُسْتَخْفٍ بل صار السِّرّ علانية وظهرت نتائج أعمال الناس ولم يَبْقَ لهم أيّ طريقٍ إلي الإخفاء أو الكتمان وليس ينتظرهم إلا المُجَازَاة عليها ؟!! .. إنَّ في يوم القيامة تُكْشَف الأسرار والخَفَايَا التي كان يُخفيها الإِنسان فى دنياه من خيرٍ وشرّ ، حيث في الدنيا تخفي كثير من الأمور ولا تظهر للناس وأما في الآخرة فيظهر خير الأخيار وشرّ الأشرار .. فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ سواء في السرِّ أو العَلَن من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. هذا ، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء له ولمَن يُشبهه ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما .. " إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴿11﴾ " أيْ إنَّ ربَّ المَبْعُوثِين للحساب والجزاء من بني آدم وربّ الخَلْق جميعا ، بهم أيْ بأحوالهم الظاهرة والباطنة ، يومها أيْ يوم القيامة – وفي غيره من الأيام واللحظات حتما ولكنَّ المقصود أنه يوم المُجَازَاة – لخبير أيْ بالتأكيد عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما كانوا في دنياهم يعملونه ويقولونه كله سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيُحْسِنوا إذن العمل دائما ولْيَفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم
التفسير السعيد لسورة القارعة
الْقَارِعَةُ ﴿1﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿2﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿3﴾ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿4﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴿5﴾ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿6﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿8﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿9﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿10﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الْقَارِعَةُ ﴿1﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿2﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿3﴾ " أيْ اذكروا أيّها الناس حينما تَحْدُث القارعة ، وهي يوم القيامة ، والقارعة من أسمائه المتعدِّدة ، وسُمِّيَت بذلك لأنها تَقْرَع أيْ تَضرب بشدَّة أسماع وعقول ومشاعر الناس بأهوالها وتَغَيّراتها وظهور كل حقائق الأمور فيها وأين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ويَأخذ فيها كل صاحب حقٍّ حقّه ويتحقّق فيها الوعد لأهل الخير من بَشائر وخيْرات وسعادات والتَّوَعُّد بالشَّرِّ لأهله من مصائب وشرور وعذابات وتعاسات .. وبالتالي فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " مَا الْقارِعَةُ ﴿2﴾ " أيْ ما هي ؟ أيّ شيءٍ هي ، في حالها وصِفَتها ؟ والاستفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل .. أيْ فهي في غاية الخير واليُسْر والأمن والسعادة لأهل الحقّ والخير وغاية الشرّ والعُسْر والخوف والتعاسة لأهل الباطل والشرّ .. ولم يَذْكُر سبحانه تفصيل حالها واكتفي بلفظ " ما " الذي هو استفهام يُفيد التَّعَجُّب والتعظيم لشأنها ليَسبح الخيال العقليّ كيفما يشاء في الخير أو في الشرّ .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿3﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي القارعة أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من النعيم لأهله والعذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
ومعني " يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿4﴾ " أيْ يومها ، يوم القيامة ، هو يوم يكون الناس بسبب كثرتهم واضطرابهم وخوفهم الشديد وتفرّقهم وتَدَافعهم يمينا ويسارا وتَزاحمهم وتَدَاخُلهم بعضهم في بعض وتَخَبّطهم وعشوائية حركتهم عند توجههم نحو مكان حسابهم لجزائهم كالفراش المُنتشر المُتَفَرِّق ، والفراش جَمْع فراشة وهي الحشرة المعروفة الضعيفة التى تَتَّجِه في حركةٍ غير منتظمةٍ نحو النار والضوء ، وسُمِّيَت بذلك لأنها تَتَفَرَّش وتنتشر في المحيط حولها
ومعني " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴿5﴾ " أيْ ويومها أيضا ومن بعض أهوال وفظائع وأوصاف هذا اليوم أن تَتَغَيَّر تماما هيئة الجبال الراسخة الشديدة حيث تَتَفَتَّت صخورها وتكون كالعِهْن أيْ كالصوف ، المَنْفُوش أيْ المُفَرَّق بعض أجزائه عن بعض لكي يُغْزَل أو تُحْشَيَ به الوَسَائِد والذي تُطَيِّره الرياح من خِفَّة وزنه
ومعني " فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿6﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿8﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿9﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿10﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿11﴾ " أيْ هذا بيانٌ لأحوال السعداء والتعساء في يوم القيامة ، أيْ فأمَّا مَن ثَقُلَت موازينه أيْ رَجَحَت كِفَّة موازين حسناته على كِفَّة موازين سيئاته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بحَسَنَة واحدة ، فهو فى حياةٍ ذات رِضَا ومُرْضِيَة له قد رَضِيَها تماما وقَبِلَهَا واطْمَأَنَّ بها في درجات الجنة التي تكون علي حسب مقدار أعماله الحسنة ، وذلك لتمام سعادتها وطمأنينتها الغامرة حيث ما لا عين رأت من النعيم والأمن ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، وكيف لا يكون في عيشة مُرْضِيَة وهو في مثل هذه الحالة الكاملة السعادة من فضل وكرم ورحمة ربه الكريم الرحيم الودود سبحانه ؟! .. هذا ، وليس من الضروري أن يكون الوزن بالميزان ولكنَّ المقصود هو تمام العدل الحَتْمِيّ من الله تعالي بلا أيّ ذرّة ظلم
ومعني " وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿8﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿9﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿10﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿11﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. " وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿8﴾ " أيْ وأمّا مَن خَفّت مَوَازين حسناته عن موازين سيئاته بحيث رَجَحَت كِفّة موازين سيئاته علي كِفّة موازين حسناته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بسيئةٍ واحدة ، فإنه يُحَاسَب علي قَدْر سُوئه .. " فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿9﴾ " أيْ فمُقَدِّمَة رأسه هاوية أيْ ساقِطَة من أعلي لأسفل في عذاب نار جهنم لأنه يُؤْخَذ منها بمنتهي الذلّة والإهانة فيُقْذَف في النار هاوياً فيها أيْ ساقِطَاً من أعلي لأسفل بسرعةٍ وبشدَّةٍ وبقسوة .. هذا ، ومن معاني " أُمّه هاوية " أيضا أيْ مأواه جهنم ، فالأم هنا بمعني المَأْوَيَ أيْ المَرْجِع والمَسْكَن حيث يَأْوِيِ أهل النار إليها كما يأوي الولد إلي حضن أمه فيأمَن ويستقرّ فيه ولكنهم حتما لا يأمنون بل يُعَذّبون ، والهاوية هنا هي نار جهنم حيث يَهْوِيِ ويَسقط المُعَذّبون في عذاب نيرانها .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿10﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي ، ما هي هذه الهاوية أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من العذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. " نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿11﴾ " أيْ هذه الهاوية هي نارٌ حاميةٌ أيْ وَصَلَت أقصي درجات الحرارة ، ونار الدنيا بالنسبة لها ليست حامية ولا وجه مُطلقا للمُقَارَنَة بها مهما ازداد اشتعالها
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿1﴾ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿2﴾ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿3﴾ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿5﴾ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴿6﴾ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴿7﴾ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿1﴾ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿2﴾ " أيْ لقد شَغَلَكم التكاثر أيها الناس ، أي التَّزَايُد من الأموال بكل أنواعها والمناصب والأولاد والأنصار والخدم وغير ذلك من كل ما يُزاد منه لأنَّ كل أحدٍ منكم يريد أن يكون أكثر من غيره منها ليَتَفَاخَر ويَتَبَاهَي بها عليه ، وبَقيتم علي ذلك التَّشَاغُل وتَمَادَيْتُم فيه حتي مُتُّم ودخلتم المقابر ، كالزائر لها غير المُقيم فيها لأنكم تَبقون فيها فترة ثم تتركونها حيث تُبْعَثون يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم لحسابكم .. لقد بَيَّنَّا لكم في القرآن والإسلام ما يُؤَدِّى إلى ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ولكنكم كثير منكم لم يستجب لِمَا بَيَّنَّاه له ، بل أنتم تُؤْثِرُون الحياة الدنيا أيْ تُقَدِّمونها وتُفَضِّلونها وتختارون مُتَعَها الزائلة فقط دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فأنتم لا تريدونها ولا تعملون لها سواء أكنتم كفاراً أيْ غير مُصَدِّقين بها أصلا أم مسلمين لكنكم ناسِين لها بسبب ترْككم لأخلاق إسلامكم بعضها أو كلها ولم تُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربكم الكريم الرحيم والإسلام منكم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن﴾ بل قد استمتعتم بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واخترتم معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلتموها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبكم للآخرة لأنكم قد نَسيتموها مُطْلَقَاً أو لا تُصَدِّقون بها مِن الأصل
ومعني " كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿3﴾ " ، " ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ " أيْ لا ، لا يَصِحّ أن يكون حالكم سَيِّئاً هكذا ، أن تنشغلوا بالدنيا عن الآخرة ، أن يلهيكم التكاثر حتي تزورا المقابر ، فارْتَدِعُوا وتَرَاجَعُوا وانْتَهُوا عن ذلك وأحسنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا لتسعدوا في الداريْن وإلاّ تعستم فيهما – فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هم فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم – وانْتَبِهُوا لِمَا يَنتظركم يوم القيامة فإنكم حين تَدخلون قبوركم وحين تُبْعَثون وتُعَايِنُون واقعيا سوء تصرّفكم إذا مُتُّم عليه دون توبة وإصلاح له سوف تعلمون حينها خطأكم فيما كنتم فيه ، فأحسنوا إذَن الاستعداد لذلك .. " ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ علي ما سَبَقَ ذِكْرُه ومزيدٌ من الردْع والتحذير من الانشغال بالدنيا عن الآخرة
ومعني " كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿5﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْرُه ومزيدٌ من الردْع والتحذير من الانشغال بالدنيا عن الآخرة .. أيْ لو كنتم تعلمون علماً يَقِينِيَّاً – أيْ مُؤكَّدَاً بلا أيِّ ذرّة شكٍّ قاطعاً مُطَابِقَاً للواقع كعلمكم ما تَسْتَيْقِنُونه أمامكم في دنياكم – ما ستجدونه في قبوركم ويوم بعثكم من سوءِ نتيجة انشغالكم بالدنيا عن الآخرة لَمَا فعلتم ذلك حتما إن كنتم عقلاء وانْزَجَرْتم وأسرعتم إلى إنقاذ أنفسكم من الهلاك ، وبالتالي فمَن لا يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا لا يكون اليقين بالآخرة حاصلاً عنده تماما وعليه أن يُراجِع تَعَقّله وتَدَبّره في الأمور !! وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويُراجعون ذواتهم ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما ، كما أنَّ فيه تنبيها لهم علي تقصيرهم في اكتساب العلم الصحيح الذي يُوصل لليقين .. هذا ، وعند بعض العلماء فإنَّ الخطاب في هذه الآية الكريمة هو للكفار وليس للمسلمين لأنَّ كل مسلم هو مُوقِن بالآخرة وبما يَحدث فيها ولكنه مُنْشَغِلٌ عنها
ومعني " لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴿6﴾ " ، " ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴿7﴾ " أيْ بكل تأكيدٍ ستُشَاهِدون أيها الناس جميعا يوم القيامة النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل ، سيَراها أهل الجنة ليحمدوا ربهم حمدا كثيرا حين يدخلون جنتهم ويُقارِنون نعيمهم فيها بعذاب أهل النار فيَزدادون حمداً لربهم علي رحماته وخيراته وأفضاله العظيمة عليهم ، وسيَراها أهل النار كعذابٍ تمهيديّ قبل العذاب الفِعْلِيّ الحقيقي حينما يدخلونها .. " ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴿7﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي رؤيتها ، أيْ ثم أؤَكِّدُ أنكم ستُشَاهِدونها عِياناً ويَقِيناً ، أيْ بأعينكم مُعَايَنَة بلا تَخْمِينٍ أو ظنّ ، ويقيناً أيْ مُؤكَّدَاً بلا أيِّ ذرّة شكٍّ بل بصورةٍ قاطعةٍ واقعيةٍ بحيث لا يُمكن لأيِّ أحدٍ تكذيبها
ومعني " ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴿8﴾ " أيْ ثم إنكم بعد ذلك بكل تأكيدٍ ستُسْأَلُون أيها الناس يوم القيامة عن كل نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ والتي أعطاكم إيَّاها لتنتفعوا ولتسعدوا بها أنتم ومَن حولكم هل شكرتموه عليها بأن أحسنتم استخدامها فاستخدمتموها فيما خُلِقَت له مِن كل خيرٍ فنَفَعْتم وأسعدتم بها أنفسكم وغيركم أم أسأتم استعمالها فاستعملتموها في الشرّ فأتعستم ذواتكم والكوْن كله ؟ وكذلك كيف حصلتم عليها ، مِن طُرُق خيرٍ أم شَرّ ؟! .. إنه تعالي بلا شكّ عليم خبير بكم وكله مُسَجَّل بكل تفصيلٍ ودِقّةٍ في كتب أعمالكم ولكنْ لتُقِرّوا أنتم بأنفسكم حتي يُقِرّ كلّ أحدٍ بجزائه أنه عادل تماما بلا أيّ ذرّة ظلم .. فأَحْسِنوا الاستعداد إذَن لهذا السؤال بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليكون سؤالكم يسيراً ودوداً مُظْهِرَاً لتكريمكم وتشريفكم أنكم قد أحسنتم التعامُل مع نعيم الدنيا فلكم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد منه في الآخرة ولا يكون سؤالكم مثل سؤال المُسِيئين عسيرا غليظا مُظْهِرَاً لذَمِّكم ولتحقيركم أنكم قد أسأتم في دنياكم فلكم ما هو أسوأ وأتعس في أخراكم
وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (انظر تفسير الآية ﴿3﴾ ، ﴿4﴾) ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، وللتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل ، وللتذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ " أيْ والزمَن ، أيْ يُقْسِمُ الله تعالي بالأزمان والعصور والأوقات التي تُذَكِّر بخِلْقَة الشمس والأرض ونظام حركتهما فيتكوَّن النهار والليل حيث النهار يَحْدُث بظهور الشمس بضَوْئها وأشعتها وما في ذلك من منافع وسعادات للناس وللخَلْق جميعا ثم يأتي الليل ويُغطّيَ الأرض بظلامه وسُكونه وهدوئه بعد غروب الشمس ليكون ذلك سُكُونَاً واسْتِجْماماً وراحة لهم .. والتي تُذَكِّر أيضا بالمُتَغَيِّرات التي تَحْدُث من تطوراتٍ وأحداث لبني آدم يرونها أمامهم فكم مِن شابٍّ أصبح شيخاً وقويٍّ أصبح ضعيفاً وغَنِيٍّ فقيرا .. والتي تُذَكِّر كذلك بعصر ازدهار الإسلام في كل زمنٍ وضرورة التمسّك والعمل بكل أخلاقه ، وبصلاة العصر وغيرها من الصلوات والتي تَصِل المخلوق بخالقه وبدوام ذكر الله باستحضار نوايا خيرٍ مع كل عملٍ من شئون الدنيا المختلفة لتَسعد الحياة وإلا بغير ذلك ستَتعس .. وبالجملة فإنَّ كل تلك المَخلوقات المُعْجِزات المُبْهِرات وكل تلك المُتَغَيِّرات ، فيها من العِبَر الكثير لمَن أراد الاعتبار حيث تَدُلّه دلالة واضحة على عظيم قدرة الله تعالى وأنه وحده المُتَصَرِّف في هذا الكوْن المُدَبِّر بكل دِقّةٍ وحِكْمَةٍ لنظامه المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكل عليه
ومعني " إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ العصر إنَّ كل إنسانٍ بكل تأكيدٍ هو حتماً في خُسْرٍ عظيمٍ أيْ في نُقْصانٍ وفقدانٍ كبيرٍ للربح في مَسَاعِيه وأقواله وأفعاله وخسارةٍ فيها وذلك إنْ لم يُطِع الله ويَتَّبِعْ أخلاق الإسلام ويَسْتَجِبْ لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار .. ودرجة خُسْرانه ستختلف علي حسب سُوئه .. إنّه ببُعْده عن ربه وإسلامه سيكون في خُسْرٍ حقيقي حيث سيفَقَدَ دنياه فيتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة علي قدر بُعْده تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ، ثم سيَخسر حتما أخراه حيث العذاب الشديد المتنوّع في النار علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿3﴾ " أيْ لكنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، وأَوْصَيَ بعضهم بعضًا بالتمسَّك والعمل بالحقّ وهو القرآن والإسلام قولا وعملا وشَجَّعه عليه ودعاه إليه بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ، وبالوقوف دائما مع كل حقٍّ وعدلٍ وصِدْقٍ وخير وسعادة ، وبالدفاع عن ذلك ، وأَوْصَيَ بعضهم بعضا كذلك بالصبر أيْ بالثبات والصمود والاستمرار طوال حياتهم بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، فمثل هؤلاء حتما لن يكونوا في أيِّ خسرٍ بل في أعلي عِلِّيِين جَمْع عِلِّيّ من العُلُوّ فهم في عُلُوٍّ فوق عُلُوٍّ وارتفاعٍ بعد ارتفاع ، في درجات الجنات علي حسب أعمالهم ، إضافة إلي جنة الدنيا التي سيكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنها في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يَتَّبِعون الإسلام وذلك بسبب إيمانهم بربهم وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم .. إنهم قطعا هم المُفلحون الذين يُفلحون وينجحون ويربحون ويفوزون وينتصرون في دنياهم وأخراهم فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء .. إنه بالإيمان والعمل الصالح يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد الإنسان نفسه ، وبالتَّوَاصِيِ بالحقِّ وبالصبر يُصلح ويُكمل ويُسعد غيره ، فيَسعد بذلك الجميع في دنياه وأخراه
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴿1﴾ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴿2﴾ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴿3﴾ كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴿4﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴿5﴾ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴿6﴾ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴿7﴾ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴿8﴾ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مُجتهداً في ألاّ تترك منها شيئاً وإلاّ تَعِسْتَ تعاسة تُساوِي مقدار ما تتركه
هذا ، ومعني " وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴿1﴾ " أيْ هلاكٌ وعذابٌ – والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم – لكلّ مَن كان كثير الهَمْز كثير اللَّمْز ، لأنَّ وَزْن فُعَلَة في اللغة العربية يُفيد الكَثْرَة والمُبَالَغَة ، والمقصود لكلِّ عَيَّابٍ يَعيب كثيرا الآخرين بصفاتٍ سَيِّئة للتقليل من شأنهم أو احتقارهم أو السخرية منهم أو نحو هذا ، ويَغتابهم بلسانه – أو حتي بإشاراته وحركاته – أيْ يتحدث عنهم بسوءٍ وهم غائبين ، ويَطْعَن في أشخاصهم بما يُسِيء ، من الهَمْز وهو الطعْن فى الشيء .. ولُمَزَة من اللَّمْز ، بمعنى السخرية من الغير ، عن طريق الإِشارة باليد أو العين أو غيرهما .. وقيل الهُمَزَة هو الذي يَعيب في الغَيْب واللّمَزَة الذي يَعيب في الوجه .. وقيل العكس .. والكلمتان قريبتان في المعني ، وعند كثير من العلماء هما بمعني واحد وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي التنفير من هذه الصفات السيئة .. إنَّها صفات قَبِيحَة يمنعها الإسلام تماما لأنها تثير الأحقاد والضغائن والصراعات والأضرار بين الناس وتتعسهم في الداريْن بينما بتركها يَحترم بعضهم بعضا ويتآلفون ويتعاونون ويتقدّمون ويسعدون فيهما
ومعني " الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴿2﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التقبيح لهذا الهُمِزَة اللّمَزَة – ولكلّ مَن يَفعل تلك الصفة القبيحة – الذي يَجمع الأموال والممتلكات بعضها على بعضٍ سواء من حلالٍ أم من حرامٍ ويُعَدِّد هذا المال أيْ يُكْثِر مِن عَدِّه وإحصائه ويكون ذلك هو هَمّه وشغله الأكبر في حياته ويَكْنِزه ويَمنع زكاته والإنفاق منه فيما يُفْرَض عليه الإنفاق فيه .. فلا يَتَشَبَّه أحدٌ به إذَن فيكون له الوَيْل مثله
ومعني " يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴿3﴾ " أيْ أيْ هذا مزيدٌ من التقبيح لهذا الهُمِزَة اللّمَزَة – ولكلّ مَن يَفعل تلك الصفة القبيحة – الذي يَتَوَهَّم أن ماله الذي يجمعه في دنياه يضَمِنَ له الخلود فيها وعدم الموت والإفلات من الحساب !! وهل رأيَ هذا السفيه حوله أنَّ المال قد أَنْجَيَ أحداً من الموت حينما يحين موعده ؟! ولكنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، ولو أحسن استخدام العقل لَعَلِمَ وفَهِمَ أنَّ العمل الصالح في الدنيا هو الذي يُخَلّد أصحابه في الآخرة في النعيم المقيم الذي لا يُوصَف في الجنة
ومعني " كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴿4﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴿5﴾ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴿6﴾ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴿7﴾ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴿8﴾ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ﴿9﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَتَوَهَّم هذا الإنسان السَّفِيه أنَّ ماله سَيُخَلّده في الدنيا أو أنَّ هَمْزَه ولَمْزَه وأيّ سوءٍ قاله أو فعله سيَمُرّ بدون عقاب !! .. فَليرْتَدِع ويتَرَاجَع وينْتَهِ عن ذلك ليسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما ، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ، وإلاّ إنْ لم يَكُفّ ويَمْتَنِع عمَّا يفعله لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَة أيْ بالتأكيد سَيُقْذَف بكل ذِلّةٍ وإهانةٍ وتحقيرٍ في النار التي تُحَطّم كل ما يُلْقَيَ فيها من شِدَّة نيرانها وعذاباتها .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴿5﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي الحُطَمَة أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من العذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. " نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴿6﴾ " أيْ هذه الحُطَمَة هي نار الله المُشتعلة بشدّة ، والتي لا تنطفيء لأنَّ لها وقوداً يُلْقَىَ فيها يزيدها اشتعالا علي الدوام ، ونسبتها إلي الله تعالي هو لمزيدٍ من التخويف من فظاعتها حيث خالقها سبحانه القادر علي كل شيءٍ هو الذي يتحكّم في شدّتها ، فكيف تكون إذَن ؟! .. " الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴿7﴾ " أيْ التي مِن شِدَّتها تَصِل إلي دواخل الأجسام من القلوب والعقول والأحشاء وغيرها وتحيط بها تماما ، من الاطّلاع علي الشيء وهو الوصول إليه بسرعة والإحاطة به واكتشافه والنفاذ إلي داخله .. كذلك من معاني الاطّلاع علي الأفئدة العلم بها أيْ أنها تعلم بما أعطاها الله من علمٍ مقدار ونوع ما يستحقه كل واحدٍ من المُعَذّبين فيها من عذابٍ علي قَدْر ما فَعَلَتْه أفئدتهم أيْ عقولهم من قولٍ وعملٍ سَيِّءٍ في دنياهم .. " إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴿8﴾ " أيْ إنَّ هذه النار علي المُعَذّبين فيها مُغْلَقَة تماما بحيث لا يستطيعون الخروج منها مُطلقا إلي ما شاء الله ، إذ أبوابها مُحْكَمَة الغَلْق وعذاب نيرانها فوقهم وحولهم من كل جانبٍ بما يُفيد أنهم في ألمٍ وضيقٍ وشقاءٍ لا يُوصَف وليس لهم أيّ أملٍ في أيِّ مَخْرَجٍ منها .. " فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ﴿9﴾ " أيْ وهم أيضا فيها مَرْبُوطون بشدّة في أعمدةٍ مُمْتَدَّة طويلة يُعَذّبون بذِلّةٍ وإهانةٍ بلا أيّ قُدْرَة علي الحركة أو الخلاص
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿1﴾ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴿2﴾ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿3﴾ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴿4﴾ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿1﴾ " أيْ ألم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك ، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم كيف فَعَلَ ربك – أي خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكل خير وسعادة – بأصحاب الفيل الذين قَصَدُوا الاعتداء على الكعبة المُكَرَّمَة وهَدْمها وكان ذلك في عام مولد الرسول الكريم محمد ﷺ وكانوا من أهل اليمن والحبشة وكانوا مُصاحِبين معهم فِيَلَة شديدة ، مُتَوَهِّمِين قُدْرتهم علي ذلك ليبنوا بناءً غيرها عندهم باليمن ليَجتذبوا المَكَانَة والعِزَّة والكرامة والتجارة لهم !! .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴿2﴾ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿3﴾ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴿4﴾ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴿5﴾ " أيْ ألم يَجعل تَدْبِيرهم الشَّرِّيّ في تَضْيِيع ؟! لقد فَعَلَ سبحانه ذلك بالفِعْل ، أيْ أبطله وأنهاه تماما بأنْ دَمَّرهم تدميراً شديداً فلم يُحَقّقوا ما أرادوه وتَوَهَّمُوه ، بأنْ أرسلَ عليهم طيراً أبابيل أيْ بَعَثَ عليهم جنداً من جنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه عبارة عن طيور في مجموعاتٍ مُتَتَابِعَةٍ كثيفةٍ من أماكن مُتَفَرِّقَة ، كانت تَقْذِفهم قَذْفَاً شديداً مُحْكَمَاً بلا أيِّ خطأٍ بحجارةٍ من سِجِّيلٍ وهو طين مُتَحَجِّر شديد الصلابة وحادّ ومُدَبَّب وهو مطبوخ بنار جهنم ومُسَجَّل عليه اسم من سيُصيبه ويُهلكه ، فجعلهم بسبب ذلك مُحَطّمِين مُفَتَّتِين مُتَنَاثِري الأجساد كعصفٍ مأكولٍ أيْ مثل أوراقِ زرعٍ جافةٍ مُتَسَاقِطَةٍ وقشورِ حبوبٍ – أي تِبْنٍ – عَصَفَت بها أيْ طَيَّرَتها ونَثَرَتها الرياح من خِفّتها وحَقَارتها وأكلتها البهائم وداسَتها بأقدامها والمقصود بيان تمام تَلَفِهم وهلاكهم وذِلّتهم وإهانتهم وحَقَارَتهم
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿1﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿2﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿1﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿2﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿4﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ للناس بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ مع التركيز علي بعض النِّعَم التي اعتادوا عليها وقد لا يستشعرون قيمتها ، كنِعَم التآلف بين عموم الإنسانية والأمن من الخوف والجوع وما شابه هذا مِمَّا هو من أسباب سعادتهم ، ليشكروه ويتوكلوا عليه ويعبدوه أيْ يطيعوه وحده .. " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿1﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿2﴾ " أيْ عَجَبَاً لإيلاف قريش أيْ تَعَجَّبُوا أيها العقلاء لإيلاف قريش وإيلافهم أيْ اعتيادهم – وتكرار لفظ الإيلاف هو لتأكيد المعني وللتنبيه لأهمية ولعظيم نِعَم الله فيه – علي رحلتين للتجارة إحداهما في الشتاء للجنوب الدافيء والأخري في الصيف للشمال البارد يَتَرَبَّحُون منها أعظم الربح حيث يتنقلون آمنين مطمئنين في طُرُقِهم لا يعترضهم أحد تكريما لهم لأنَّ قريشا كانت القبيلة التي بجوار الكعبة المُشَرَّفَة أيام الرسول الكريم محمد ﷺ ، كما أنهم اعتادوا أن يأتي الناس إليهم من أجل الحج والعمرة في رحلاتٍ سواء فى الشتاء أو الصيف فيتحقّق لهم الخير والنفع الكثير ، ومع ذلك لم يشكروا الله تعالي الذي يَسَّر لهم كل أسباب هذا ولم يعبدوه أي يطيعوه بل قابَلُوا هذه النِّعَم بمزيدٍ من البُعْد عنه وعن الإسلام وخالَفوا أخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والله تعالي في المُقابِل يُؤَلِّف بينهم ويُنَظّم ويُهَيِّء لهم أسباب معيشتهم المُرَفَّهَة ويَدْفَع السوء عنهم !! .. إنه أمر يثير التَّعَجُّب بكل تأكيد !! .. إنَّ ما حَدَثَ مع قريش من خيرٍ لا يُحْصَيَ يَحْدُث مع كثيرٍ غيرهم في كل زمنٍ حتي يوم القيامة ، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ أبداً وإلا تَعِس في دنياه وأخراه علي قَدْر بُعْده عن ربه وإسلامه .. هذا ، وعند بعض العلماء فإنَّ اللام في قوله تعالي " لإيلاف " ليست للتَّعَجُّب كما يقول بعض علماء اللغة العربية وإنما هي للتعليل كما يقول علماءُ لغةٍ آخرون وأنها مُتَعَلّقَة بقوله " فليعبدوا " أي في السورة الكريمة تقديم وتأخير بمعني فليعبدوا ، أي قريش ، ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف – ويُذَكِّرهم بالبيت الحرام لأنهم بجواره ويعلمون تعظيم الناس له ولهم بسببه – لإيلاف قريش أيْ لأجل إيلاف قريش وإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، أيْ فليعبدوه لهذا السبب ، ويكون فائدة هذا التقديم هو التركيز علي ما هم فيه من نِعَمٍ عظيمةٍ من ربهم الكريم الرحيم الودود والتي لا يَلتفتون إليها .. " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ " ، " الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿4﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم من أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث هو ربّ هذا البيت الحرام سبب تَجَمُّعِكم ومَكَانَتكم وخيركم وهو ربّ الخَلْق جميعا وربكم أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُطْعِمكم من أيِّ جوعٍ فلا تَجوعون ومُسْعِد معيشتكم ومُؤَمِّنكم من أيِّ خوفٍ فلا تخافون وراعِيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم ، فبالتالي فَلْيَعبده الجميع إذَن ، أيْ يُطيعوه ، أيْ يعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ولْيُخْلِصوا ولْيُحْسِنوا في عبادتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿1﴾ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿2﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿3﴾ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿4﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿5﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿6﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿1﴾ " أيْ هل شاهدتَ وَوَصَلَ إلي علمك يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حال هذا السَّفِيه المُعَطّل لعقله الذي لا يُصَدِّق بالدين ؟! أيْ بدين الإسلام فلا يعمل به وأيضا بيوم الدين أيْ بيوم الحساب والجزاء ، أيْ باليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، ففَعَل لذلك الشرور والمَفاسِد والأضرار حيث لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار من وجهة نظره ولو كان يُصَدِّق بالدين وأحسن استخدام عقله وتَدَبَّر وتَعَقّل لَمَا فَعَل ما فعل ، فلْيَرْتَدِع ولْيَتَرَاجَع ولْيَنْتَه عن ذلك ليسعد في دنياه وأخراه وإلا تَعِس فيهما .. لقد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء له ولمَن يُشبهه ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما
ومعني " فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿2﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿3﴾ " أيْ فهو ذلك الذي من صفاته أنه يَدُعّ اليتيم – وهو الذي مات أبوه صغيرا – أيْ يدفعه دَفْعَاً قويا غليظا لا رحمة ولا شفقة ولا احترام فيه ولا يَعطف عليه ولا يُحْسِن إليه بل يَظلمه ويأكل حقّه لأنه يستضعفه ويتركه مُعَرَّضَاً للفقر والاحتياج دون أن يعمل علي مساعدته .. وكذلك من صفاته السيئة أنه لا يَحُضّ أي لا يَحُثّ ويُشَجِّع علي إطعام المسكين ، وإذا كان لا يقوم حتي بمجرّد الحَضِّ فيُفْهَم من ذلك ضِمْنَاً أنه لا يُطعمه أصلا بما يُفيد قسوة مشاعره وبُخْله
ومعني " فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿4﴾ " ، " الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ " أيْ فهلاكٌ وعذابٌ في الدنيا والآخرة بما يُناسِب ، للمُصَلِّين بسبب أنهم عن صلاتهم ساهون .. والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم .. والسهو عن الصلاة يُقْصَد به إمّا أنهم يُؤَخِّرونها فيُصَلّونها بعد انتهاء وقتها دائما أو في أغلب أحوالهم ، أو لا يُحْسِنون أداءها باطمئنانٍ وتَدَبّرٍ في معانيها واستفادة منها ، أو يتركونها لفتراتٍ طويلة أو قصيرة أو علي الدوام فلا يُصَلّون ، أو يُنافِقون أيْ يُظْهِرون الخير ويُخْفُون الشرَّ أيْ يُصَلّون فقط في العَلَن أمام الناس ولا يُصَلّون في السِّرِّ وحدهم ، أو يَتَهَاوَنُون بها ويتغافلون ويَلْهُون عنها ويَنْسونها ولا يَهُمّهم صَلّوا أم لم يُصَلّوا .. فلفظ ساهون يشمل كل هذه المعاني ، ومَن كان فيه صفة منها كان فيه شيءٌ من السهو حتي يتركها .. أمَّا السَّهْو في الصلاة وليس عنها ، فهذا يَحْدُث مِن كلّ بَشَر ، وقد حَدَثَ بالفِعْل مع الرسول ﷺ ، ولكن علي المسلم أن يجتهد في التركيز في صلاته وتقليل سَهْوه فيها ما استطاع حتي ينتفع ويَسعد بآثارها المُسْعِدَة حيث ما أَوْصَيَ الله تعالي بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
ومعني " الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿6﴾ " أيْ وَوَيْلٌ أيضا لهؤلاء الذين يُراءون سواء في صلاتهم أو في أيِّ أقوالهم أو أعمالهم عموما ، أيْ يقولونها ويفعلونها لكي يراهم الناس فيمدحونهم ، فهم لم يقولوها ويفعلوها خالصة لله تعالي أيْ من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ، وإنما قالوها وفعلوها طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق ، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
ومعني " وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿7﴾ " أيْ ووَيْلٌ أيضا لهؤلاء الذين يَمنعون المَعُونَة بالخير عن الناس بكل أشكالها صغرت أم كبرت والتي تُعينهم علي قضاء حوائجهم من شئون الحياة المختلفة فيَسعدون بها ، بما يُفيد قَسْوة مشاعرهم وبُخْلهم
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿1﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿2﴾ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿1﴾ " أيْ نحن خالقك ورازقك وراعِيك قد وَهَبْناكَ ونعطيك دائما الخير الكثير المستمرّ المتنوّع في دنياك وأخراك ، بكَرَمِنا ورحمتنا وحُبِّنا لخَلْقِنا ، يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه بأخلاقه ، من كل رزقٍ مُسْعِدٍ لا يُمكن حَصْره ، في الدنيا أولا ، وأعظمه القرآن والإسلام الذي يُرْشِدك لكل ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك فيها ، ثم ثانيا في الآخرة حيث ما لا عين رأت من النعيم ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
ومعني " فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿2﴾ " أيْ فبالتالي إذَن وفي مُقابِل كل هذا الخير الكثير الذي أعطيناك إيّاه والذي لا يُحْصَيَ فدَاوِم ووَاظِب علي شكر ربك – أيْ خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشِدك لكل خيرٍ وسعادة في دنياك وأخراك – بأنْ تعبده أيْ تُطيعه باتِّباع كل أخلاق الإسلام والتي منها الصلاة ومنها النَّحْر وهو ذبح الذبائح وتوزيعها لإسعاد الناس والذي يُفيد ضِمْنَاً أن تكون مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. وأن تكون مُخلصا مُحسنا في كل ذلك أيْ تفعله من أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراك الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لك حيث يُوقِعك في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحك حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق ، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقلك (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
ومعني " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴿3﴾ " أيْ إنَّ كارِهَكَ ، يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُتَشَبِّه بأخلاقه ، وكارِه الله تعالي والإسلام والحقّ والعدل والخير ، في كل زمانٍ ومكان ، حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ هو الأَبْتَر أيْ المقطوع – من البَتْر وهو القَطْع – عن كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه والمقطوع الذكر الحَسَن في الحياة بعد موته حيث لا يتذكّره أحدٌ وإنْ تَذَكّره فيَتذكَّر سوءه والمقطوع شَرّه مُؤَكَّدَاً كلما انتشرَ الخيرُ ونَشَره أهله ، فلَسْتَ أنتَ أبداً الأبْتَر ولا كلّ مَن تَشَبَّهَ بك كما قد يَدَّعِي كذباً وزُورَاً ويَتَوَهَّم بعض السفهاء ذلك وأنَّ الإسلام سيُبْتَر أيْ سيَنقطع ويَنتهي !! فلقد تَكَفّلنا نحن بحفظه ونشره حتي يوم القيامة وجعلناك برحمتنا وفضلنا وكرمنا في كل خيرٍ وفي منزلةٍ عالية رفيعة مَذكوراً علي لسان كل مسلمٍ محبوباً مُعَظّمَاً عنده مَقْرُونَاً باسمنا في النطق بالشهادتين والأذان والإقامة والتَّشَهُّد وغير ذلك من الشعائر والأذكار وطاعتك هي طاعتنا وأنت سيد الخَلْق في الدنيا والآخرة .. وكذلك كل مَن تَشَبَّهَ بك سيكون في دنياه في كل خيرٍ وعِزَّةٍ وسعادةٍ وكلما فَعَلَ خيرا يَبْقَيَ ويَستمرّ في الحياة بعد مَمَاته كلما تَذَكَّره الناس بالخير ودعوا له وفعلوا مثله وكلما ازداد ثوابه في الآخرة وبالتالي يَرْفَع الله له ذِكْرَه الحَسَن في الداريْن ولا يَنْقَطِع
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك مِن الكافرين المُصِرِّين علي كفرهم ، وهم الذين يُكَذّبون بوجود الله ورسله وكتبه وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَعبدون أيْ يُطيعون غيره ، ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم ، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم ، قل لهم ، اذْكُر لهم وذَكِّرهم ، بقولك وعملك ، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة ، وبكل وضوح وحَسْم وبلا أيّ تَرَدُّد ، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب ، قل لهم لا أعبد أبداً حتماً ما تعبدون غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحو هذا ، أيْ لا أطيع غيره سبحانه ، أيْ لا أتَّبِع غير أخلاق الإسلام ولا أتَّبِع أيّ نظامٍ يُخالفه بأيِّ مُخَالَفَة ، وإلا تَعِستُ تمام التعاسة في دنياي وأخراي ، فلا يكون لكم أيّ أملٍ إذَن في أنْ أعبد ما تعبدون ، لا الآن ولا في المستقبل مُطلقا طوال حياتي ، ما دُمْتُ بعقلي الذي أعطاني وأعطاكم الله إيّاه لنَتَعَقّل ونَتَدَبَّر الأمور ونُحْسِن الاختيار ، ولا أنتم حتما عابدون ما أعبد ، عابدون الله تعالي ، ما دُمتم تستمرّون علي تعطيلكم لعقولكم هكذا ، ولن تستفيقوا وتعبدوه إلا إذا أزلتم الأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره واستجبتم لنداء الفطرة التي بداخل هذه العقول وبعقولنا جميعا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها ، وأيضا لمزيدٍ من التحذير والإيقاظ للكافرين والمُتَشَبِّهِين بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره وعلي التَّبَرّؤ الكامل من عبادة غير الله تعالي وعلي الاستمرار التامِّ المُطْلَق الأَبَدِيّ في عبادته وعلي التَّيْئِيس الشامل الحاسم والاستحالة التامَّة لمَن يَتَوَهَّم من الكافرين أنَّ مسلما قد يعبد غيره سبحانه مع التهديد الشديد لهم لعلهم يستيقظون .. أيْ إنْ رضيتم بكفركم وبما تعبدون غير الله تعالي وبَقيتم عليه أبداً ولم تستجيبوا لدعوتي لكم فقد رضينا بعبادته سبحانه وبإسلامنا وسنظل عليه أبداً ما حَيِيِنَا ، فلن أتَّبِعكم ولن تَتَّبِعوني أبداً لو بَقيتم علي حالكم وإصراركم لأنَّ كلاّ مِنّا مُتَمَيِّز عن الآخر فلا حلول وسط مُطلقا بيننا في هذا الأمر فلكم دينكم ولي دين ، فلكم كفركم ولي إسلامي .. كذلك من المعاني أنَّ لكم جزاء دينكم تعاسة في الدنيا والآخرة ولي قطعا جزاء ديني سعادةً تامّة فيهما من فضل الله وكرمه علينا ورحماته وقد حَرَمْتُم أنتم أنفسكم بأنفسكم بتعطيلكم عقولكم من كل هذا الخير وكل هذه السعادة .. وأيضا من المعاني أنَّ الآية الكريمة هي شكلٌ مُؤَدَّب من أشكال الدعوة لله وللإسلام حيث تعني أنَّ كلَّ فرد سيتحمَّل نتيجة عمله من خير أو شرٍّ في الداريْن لا يتحمّله عنه أحد غيره مع شمولها ضِمْنا إبلاغهم بالترْك والابتعاد عنهم لفترةٍ وعدم الرضا عمَّا يقولون ويفعلون والتحذير منه والتهديد بسوء نتائجه ، ليس تَرَفّعاً عليهم وتَرْكَاً لدعوتهم لأخلاق الإسلام وإنما لعلّ هذا الموقف يُوقظهم ويَردّهم لربهم ولإسلامهم فيسعد الجميع بذلك ، بانتشار الخير وإيقاف الشرّ وعدم التّمَادِي فيه (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿84﴾ من سورة الإسراء " قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ .. " ، والآية ﴿41﴾ من سورة يونس " وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾ " أيْ هذا تَبْشِيرٌ وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتشجيعٌ للمسلمين أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَفتح الله لهم فتحا ظاهرا واضحا عظيما ، والفتح هو النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه ، أيْ بالجملة سيَنصرهم في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وسيُساعدهم وسيُيَسِّر لهم نشر دعوة الإسلام وسيَفتح لهم العقول وسيُقَوِّي حجَجَهم وبَراهِينهم وسيُنصرها علي غيرها من الدعوات والأنظمة المُخالِفة لها المُضِرَّة المُتْعِسَة ليسعدوا ويسعد الجميع ويَطْمَئِنّ بانتشارها ما داموا أحسنوا الدعوة لها بالحِكمة والموعظة الحَسَنة وصَبَروا علي أذَيَ المَدْعُوين (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وسيُمَكِّن لهم إدارة وحُكْم الأرض بنظام الإسلام وسيَفتحها عليهم وسيَنصرهم علي مَن يُعادِيهم بأيِّ شكلٍ مِن أشكال الاعتداء وسيُوَفّر لهم كلّ الأرزاق وسيَفتح عليهم بالعلوم والأفكار والإلهامات المُتَعدِّدة المُتطوِّرة إذا أحسنوا اتِّخاذ أسباب ذلك (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وفي المُقابِل سيَهزم أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، والنصر والفتح معناهما مُتَقَارِب وجَمْعهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي التبشير بنصر الله للإسلام والمسلمين ، كما أنَّ الفتح أشمل وأوْسَع من النصر بما يُفيد كل أنواع ودرجات النصر وكماله واستقراره وثباته ودوامه ما دام المسلمون أهْلاً له لكنْ إنْ ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم لم يعودوا مُؤَهَّلِين له فلا يستمرّ لهم الفتح حتماً ، كما أنَّ لفظ " جاء " يُفيد الأمل التامّ الكبير في قُرْب حُدوثه دوْماً في أيِّ لحظةٍ وأنه يأتي قطعاً لكل مَن يَسير ويَسْعَيَ إليه بحُسن اتِّخاذ أسبابه ويُقابِله في طريقه وهو سَائِرٌ نحوه .. " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾ " أيْ إذا تحقَّقَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم نصر الله وفَتْحه بكل صوره وأشكاله ودرجاته ، لك وللإسلام وللمسلمين وللحقّ والعدل والخير والسعادة ، في أيِّ زمانٍ ومكانٍ .. " وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾ " أيْ وإذا رأيت الكثير من الناس يدخلون في الإسلام مجموعات وراء أخري ، أو وَصَلَ إلي عِلْمِك ذلك .. " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾ " أيْ فحينها ، وإضافة إلي ما أنت عليه دائما من تسبيحٍ وحَمْدٍ وذِكْرٍ واستغفار ، فأكْثِر مِن حمدِ ربك – أيْ خالقك ومُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بأنْ تزيد تسبيحك وشكرك وذِكْرك له واستغفارك لنفسك ولغيرك وبأنْ تُدَاوِم وتُوَاظِب علي ذلك " .. إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾ " أيْ فهو كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ كثير عظيم التوبة علي مَن يتوب حيث يعفو عن ذنوبه ولا يُعاقِبه عليها .. والتوبة تكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للتائب سعادته التامّة بأخلاق إسلامه من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ .. هذا ، والتسبيح هو التَّنْزِيه أيْ الإبعاد لله تعالي عن كل صفةٍ لا تَليق به ، ويكون بكل أسمائه وصفاته حيث هو الذي له كل صفات الكمال وهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. والحمد يكون بِشُكْرِهِ تعالي بالعقل باستشعار قيمة النِّعَم وباللسان بحمده وبالعمل باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبالتالي يجدها الإنسان دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. والذكر عموما يكون باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره ، ويكون بالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل الإنسان فينطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع ، ويكون بالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق ، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك ، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ ، أيّ طاعة ، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين ، يكون ذاكرا لله تعالي ، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله تعالي ومعه ، فيَسعد الإنسان تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته ، وأثناء ذلك وفي مُقابِلِه وبفضلٍ وكرمٍ منه سيُيَسِّر له كل أموره ويفتح أمامه كل بابٍ مُغْلَقٍ ويُحقِّق معظم أو كل ما يريد ويكون مِمَّن لو أَقْسَمَ علي الله لَبَرَّ قَسَمَه !
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿3﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿4﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ " أيْ خَسِرَت يدا أبي لهبٍ وخَسِرَ هو معهما ، وإعادة لفظ " وَتَبّ " يُفيد التأكيد علي تمام الخُسْران ، أيْ قد خَسِرَ وخَابَ وضاع وانتهي وهَلَكَ بالفِعْل حيث نَزَلَ به الخسران والضياع وتَحَقّق واقعيا ، في دنياه ثم أخراه ، وكذلك يَخْسَر ويَخِيب ويَضيع حتما كلُّ أبي لهبٍ في كل زمانٍ ومكانٍ أيْ كلّ مَن يَتَشَبَّه بسوئه ، ففي الدنيا ينال درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة ينال حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي اللغة العربية استخدام لفظ اليد يُفيد الإنسان كله حيث معظم ما يُقَدِّمه من خيرٍ أو شَرٍّ يكون بيديه استجابة لعقله .. وأبو لهب هو أحد أعمام الرسول ﷺ وكان كافراً أيْ مُكَذّباً بوجود الله ورسله وكتبه وحسابه وعقابه وجنته وناره شديد العداء والإيذاء له ﷺ ولله وللإسلام وللمسلمين كثير الفِعْل للشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره ، واسمه عبد العُزَّيَ بن عبد المُطّلِب ولكنه اشْتُهِرَ بلقب أبي لهب لحُمْرَةِ وجهه وجمال شكله فأراد الله تعالي تحقيره بوصفه بذات وصفه ولكن بما يعني أنه أبو لهبٍ أيْ أبو نارٍ علي وجهه وليس أبو وجهٍ أحمرٍ جميلٍ لتذكرته ومَن حوله بما ينتظره من جحيمٍ وعذابٍ شديدٍ في الدنيا والآخرة
ومعني " مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ " أيْ ما دَفَعَ ومَنَعَ عنه عذاب الله تعالي حين ينزل به في دنياه وأخراه ما له من ممتلكاتٍ وما جَمَعَ وحَصَلَ عليه من مالٍ وسلطانٍ ونفوذٍ وقوةٍ وجاهٍ ومَنْصِبٍ وأعوانٍ وما شابه هذا بل يكون حينها ضعيفاً ذليلاً بلا مُنْقِذٍ ولا مُعِين
ومعني " سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿3﴾ " أيْ سيَحترق ويُشْوَيَ جسده يوم القيامة بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم .. إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه
ومعني " وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿4﴾ " أيْ سيَصْلَيَ هو وامرأته أيْ زوجته ناراً ذات لهبٍ – إضافة لعذاب الدنيا – لأنها كانت حَمَّالة الحطب أيْ كثيرة الحَمْل للنبات الجافّ المُتَصَلّب وللشوك الذي تضعه في طريق الرسول ﷺ لإيذائه ، وأيضا من معاني حمالة الحطب أنها كانت تُشْعِل الفِتَن بين الناس بنشر السوء بينهم كالذي يشعل النار بالحطب ، وكذلك تَحْمِل الحطب علي ظهرها بمعني تحمل الذنوب التي تُؤَدِّي للنار ، وبالجملة كانت مثل زوجها تجتهد في إيذاء الله تعالي ورسوله ﷺ والإسلام والمسلمين وتفعل الشرور والمَفاسد والأضرار ، فمصيرها بالتالي يُشبه مصيره حيث تُعَذّب علي قَدْر سُوئِها
ومعني " فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿5﴾ " أيْ في عُنُقِها حَبْلٌ من لِيفٍ مَفْتُولٍ علي هيئة ضَفِيرةٍ فَتْلاً قوياً مُحْكَمَاً يَربط رقبتها بشدّة وتُجَرّ وتُجْذَب منه بقوةٍ لِتُعَذّب في النار ذات اللهب بما يُفيد تمام إهانتها وإذلالها وهي التي كانت في دنياها صاحبة مَكَانَةٍ ونفوذ .. هذا ، والآيات الكريمة تَحْمِل مُعجزة تدلّ علي صدق القرآن العظيم والرسول الكريم ﷺ حيث عَلِمَ أبو لهب وزوجته مُسبقا أنهما من أهل النار لعدم إيمانهما ومع ذلك فقد استمرّا علي كفرهما حتي موتهما دون أن يُسْلِمَا وكان من المُمكن أن يَتَظاهَرَا بالإسلام لإثبات أنَّ ما يُخْبِر به القرآن عمَّا هو غيبيّ في المستقبل ليس صِدْقَاً ومع ذلك لم يَفْعَلا !! فأثْبَتَا صِدْق الله تعالي ورسوله ﷺ فيما أخبرا به أنهما سيموتان علي الكفر وهو الأمر الذي قد حَدَثَ بالفِعْل
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك ولمَن يسأل عن الله تعالي ، اذْكُر لهم وذَكِّرهم ، بقولك وعملك ، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة ، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد ، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب ، قل لهم هو أحد ، أيْ مُنْفَرِد فى ذاته وفى صفاته وفى أفعاله وفى كل شأنٍ من شئونه ، لا يُشَارِكه أو يُشابِهه أو يُعادِله فيها أحد ، فهو مُنَزَّه أيْ بعيد كل البُعْد عن التركيب من أجزاء مُتَعَدِّدَة أو من مادةٍ مُعَيَّنَة وعن أن يكون له جَسَد وأن يحتاج لِحَيِّزٍ ومكانٍ وعن مُشَابَهَة غيره فهو ليس كمثله شيء ، وليس له حَدّ ولا يُحصَىَ وهو أوَّل ليس قَبْله شيء لأنه خالق كل شيء وآخِر ليس بعده شيء لأنه هو الباقي بينما كل شيء غيره مُعَرَّض للفناء ، وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ولا يحتاج حتماً لشريكٍ أو وزيرٍ أو مُعِينٍ أو زوجة أو ولد لأنه القادر علي كل شيء يقول له كن فيكون كما يريد ، وهو خالق كل المَخلوقات المُعْجِزات المُبْهِرات في كل كوْنه المُدَبِّر لكل شئونها بما يُحَقّق السعادة التامَّة لخَلْقه والتي تَدلّ بكل وضوح وبصورةٍ قاطعةٍ علي وجوده وعظمته وكمال قُدْرته وعلمه لأنه من المعروف عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ كلَّ مخلوقٍ لا بُدَّ له من خالِقٍ وكلّ موجودٍ لا بُدَّ له مِن مُوجِد ، فلذلك كله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه من خلال اتِّباع شرعه الإسلام الذي يُرْشِد البَشَرَ لكل ما يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ولفظ " هو " يُفيد التعظيم والتأكيد للمعني الذي يأتي بعدها
ومعني " اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ " أيْ الذي يُصْمَدُ إليه سبحانه وحده أي يُلْجَأ إليه ويُقْصَدُ لقضاء الحوائج والمَطالِب وعند الشدائد فهو وحده الأهل لذلك لأنه القادر علي كل شيءٍ المَقْصُود الذي يَقضي لكل خَلْقِه في وقتٍ واحدٍ كل احتياجاتهم وما يَنفعهم ويُسعدهم .. كذلك من معاني الصَّمَد ، وكلها معاني مُتَقَارِبَة ، أنه السَّيِّد المُطاع الذي كَمُل في كل أنواع الشّرف والعَظَمَة والقُدْرَة والعلم والسيادة ولا يُقْضَيَ أمرٌ من دون علمه ويَفعل ما يشاء المُسْتَغْنِي تماما عن الجميع بينما الكلّ مُحْتَاج إليه في كل لحظةٍ ولا بقاء لحياتهم بغير ما يُسَخِّره لهم فيها وهو الثابت الدائم الباقي – من الصُّمُود أيْ الثبات والاستمرار بلا تَغَيُّر – وكلّ خَلْقه مُعَرَّضُون للفناء ، وبالجملة هو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل والاعتماد عليه ، ومَن فَعَلَ ذلك سَعِدَ واطمأنَّ تمام السعادة والاطمئنان في دنياه وأخراه
ومعني " لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ " أيْ ليس له سبحانه ولد لأنَّ ذلك يَتَطَلّب وجود زوجة وجِماع بينهما وهذا مستحيل لله تعالي ويُنَافِي أنه أحَد ، فهو ليس في حاجةٍ قطعاً لمَن يُعينه من زوجةٍ أو ولدٍ أو شريكٍ أو غيره علي إدارة شئون الكوْن والخَلْق .. كما أنه لم يُولَد لأنَّ ذلك يتطلّب وجود أبٍ وأمٍ له ويعني أنه لم يكن موجودا قبل أن يُولَد وهذا أيضا مستحيل لأنه هو الذي خَلَقَ الخَلْقَ وكان قبل أيّ مخلوق ، فتعالي الله عن كل ذلك عُلُوَّاً كبيرا
ومعني " وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾ " أيْ وليس أحدٌ كُفْأ له حتماً أيْ مُكَافِئاً ومُسَاوِيَاً ومُمَاثِلاً ومُشَابِهاً له ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، حيث له سبحانه كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو ليس كمثله شيء ، فهو بالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿1﴾ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿2﴾ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿3﴾ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿4﴾ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد ، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم ، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿1﴾ " أيْ هذا توجيهٌ وإرشادٌ وتعليمٌ للرسول الكريم ﷺ ولكل مسلم أن يستعيذ دوْماً بالله تعالي من كل شَرٍّ أيْ ضَرَرٍ ومن كل ما يُخيف بأيِّ شكلٍ من الأشكال ليَحْمِيَه سبحانه منه ، أيْ أنْ يَتَحَصَّنَ ويَحْتَمِي به ويَلْجَأ إليه ويعتمد عليه وحده ، حيث سيُعِينه ويُقَوِّيه مباشرة أو يُيَسِّر له مَن يُعينه ، أيْ قل دائما بين الحين والحين وقبل تَوَقّع نزول شَرٍّ مَا وعند نزوله : أعوذ بربِّ الفَلَق .. والربّ هو الخالق والمُرَبِّي والرازق والراعِي والحافظ والمُرْشِد للبَشَر لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال تشريع أخلاق الإسلام لهم .. والفَلَق هو كل ما يَفْلقه أيْ يَشُقّه الله تعالي مِن مخلوقاتٍ فيُخْرِج ويَخلق منها مخلوقات أخري كشَقِّ ظلامِ الليل مثلا ليُخْرِج منه الصباح وشَقِّ الأرض لخروج النبات وشَقِّ الصخر لخروج عيون المياه وهكذا .. وبالتالي فالمقصود الاستعاذة أيْ الاستعانة والاعتصام والاحْتِماء بربّ كل المخلوقات سبحانه .. ومَن يَسْتَعِذ ويَحْتَمِي به ويتوكّل عليه وهو أقوي الأقوياء مالِك المُلك كله القادر علي كل شيء يُحَقّق ما يريد ويَسعد ويَأمن حتماً بكل تأكيدٍ تمام السعادة والأمن في دنياه وأخراه
ومعني " مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿2﴾ " أيْ أستعيذ بربِّ الفَلَقِ مِن ضَرَر ما خَلَق من كل المخلوقات ، سواء أكان هذا الضرر ناتج من سوءِ تَصَرُّف وخطأ الإنسان ذاته عند تعامُله مع شئون الحياة المختلفة ، أم كان مِن بَشَرٍ آخر يريد شَرَّاً به بسبب سوء استخدامه لعقله حيث يستخدمه في الشَّرِّ المُتْعِس لغيره لا في الخير المُسْعِد له ولهم ، أم كان من حيوانٍ أو نبات أو جماد وظَهَرَ شَرُّهُ لسوء التعامُل معه ، أم لا دَخْلَ للإنسان فيه ويأتي من ربه لاختباره كريحٍ أو فيضانٍ أو مرضٍ أو نحوه ليَخرج من هذا الضرر مستفيداً استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر علي الضرر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، وبالجملة فلا عاصِم مِن شَرِّ أيِّ مخلوقٍ حين يَضُرّ إلا بواسطة خالِقه سبحانه حيث هو المالِك له والمُتَصَرِّف في أمره والقادر علي تغيير حاله ومَنْع ضَرَره .. هذا ، ويَدخل فيما خَلَق حتما نار الآخرة حيث علي المسلم دوْمَاً أن يستعيذ بالله خالقها من شَرِّ دخولها بأنْ يعمل ما يَمنعه عنها ويرحمه الله منها وهو فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿3﴾ " أيْ وأستعيذُ بربّ الفَلَق أيضا من ضَرَرِ ليلٍ اشتدَّ ظلامه إذا دَخَلَ وانتَشَرَ ، وهو أمر مُخِيفٌ عندما لا يَرَيَ الإنسان ما هو مَخْفِيّ عنه والذي قد يكون فيه شرّ له .. وقد خُصَّ شرّ الليل بالذكر رغم أنَّ الآية السابقة تشمل شرَّ كل ما خَلَقَ سبحانه لأنه يتكرّر يوميا ولأنه يَغْلِب حدوث الشرّ فيه وبالتالي فاحتمالية وقوع شروره أكثر من غيره من المخلوقات ، فاحتاج الأمر لمزيدٍ من التنبيه للتركيز علي الاستعاذة من شرّه
ومعني " وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿4﴾ " أيْ وأستعيذُ بربّ الفَلَق أيضا من ضَرَرِ النَّفَّاثَات ، جَمْع نَفَّاثَة ، وهي كثيرة النَّفْث وهو النَّفْخ في شيءٍ مع رِيِقٍ قليلٍ يَخرج من الفم أو بدونه ، والعُقَد جَمْع عُقْدة وهى كل ما رُبِطَ وأُحْكِمَ رَبْطُه داخل خيطٍ أو حَبْلٍ أو نحوه ، والمقصود بالنفاثات في العقد النفوس السيئة من البَشَر التي تَفعل ذلك الرَّبْط للعُقَد والنَّفْث فيها كنوعٍ من السِّحْر للآخرين لإيذائهم ويُسَمّون أنفسهم السَّحَرَة ، وهولاء السحرة يُوهِمُون الآخرين بأنهم قد سَحَرُوهم بهذه العُقَد التي يعقدونها أو بما يُشبهها وبهذا النَّفْث فيها وببعض الأقاويل التي يَذْكُرونها عليها فيَتَوَهَّم المَسْحُور الذي يَجهل كذب وخداع مثل هؤلاء السحرة أنه قد سُحِرَ بالفِعْل ! وهم ما يفعلون ذلك إلا من أجل أخذ المال أو غيره مِمَّن يستأجرهم لسَحْرِ آخرٍ يريدون إيذاءه ومِمَّن يُوهِمُونه أنهم قد سَحَرُوه بحيث أنه لو أعطاهم مالاً أو شيئا يريدونه لَفَكّوا هذه العُقَد ومَنَعُوا عنه هذا السحر وإلا بَقِيَ مَسْحُورَاً ما بَقِيَت هذه العُقَد المَنْفُوث فيها !! إنَّ أمر السحر ليس أمرا حقيقيا بل هو نوع من الخداع إذ تَتَغَيَّر نفسية مَن يُخْبِرونه ويُوهِمونه بأنه قد سُحِرَ بحيث يُصيب عقله بعض عدم التركيز والأوهام والتَّخَيُّلات غير الحقيقية بسبب هذا الوَهْمَ والخوف الذي أوقعوه فيه فيَتَصَرَّف ببعض التصرّفات غير المعتادة .. هذا ، ومن معاني النفاثات في العُقد أيضا عند بعض العلماء أنها النفوس التي تَنْفُث أيْ تَنْفُخ وتُشيع النَّمِيمَة بين تَجَمُّعَات الناس ، والنميمة هي السَّعْي لنقل الحديث فيما بينهم بهدف الإفساد والوَقِيعة .. هذا ، وقد خُصَّ أيضا شرّ النفاثات في العقد بالذكر رغم أنَّ الآية قبل السابقة تشمل شرَّ كل ما خَلَقَ سبحانه وذلك لضررها السيء الشديد ولانتشارها في بعض الأماكن والعصور ، فاحتاج الأمر كذلك لمزيدٍ من التنبيه للتركيز علي الاستعاذة من شرّها
ومعني " وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿5﴾ " أيْ وأَسْتَعِيذُ بربّ الفَلَق أيضا من ضَرَرِ حاسِدٍ إذا حَسَد ، أىْ إذا أظْهَرَ ما فى عقله وفِكْره من الحسد وتَرْجَمَهُ واقعيا في إجراءاتٍ قولية أو فعلية تَضُرّ بمَن يريد أن يَحْسِدَه ، فلا يَحْدُث الحسد قطعا بمجرد الفكر أو النظر بالعين للخير الذي عند المَحْسُود فيَزول ما عنده من خيرٍ من غير اتِّخاذ خطواتٍ إجرائية عملية لذلك !! .. والحسد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة ، لأنه يُنافسه مثلا علي مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نحوه فيريد أن يناله هو وإذا ناله مَن يحسده اجتهد في إبعاده عنه أو لأنه يريد أن يَنْفَرِدَ ويَتَمَيَّزَ هو بما معه فلا يكون مثله أحد حتي يَتَعَالَيَ علي غيره بما عنده ولن يستطيع ذلك ما دام غيره عنده ذات الخير أو ما شابه هذا من أسبابٍ تدلّ علي مخالفته لبعض أخلاق الإسلام .. أمَّا مجرد خَوَاطِر التَّمَنِّي فقط داخل العقل دون ترجمةٍ لتخطيطٍ أو لقولٍ أو لعملٍ لتنفيذه فلا يُعَدّ حسداً ولا إثم عليه .. هذا ، وقد خُصَّ أيضا شرّ الحسد بالذكر رغم أنَّ الآية ﴿2﴾ تشمل شرَّ كل ما خَلَقَ سبحانه وذلك لضرره السيء الشديد ولانتشاره ، فاحتاج الأمر كذلك لمزيدٍ من التنبيه للتركيز علي الاستعاذة من شروره ، لأنه بانتشاره يتباغض الناس ويتنازعون ويضعفون ويتخلفون ويتعسون في الدنيا والآخرة بينما بانتشار الحب والتعاون يَقْوُون ويتطوّرون ويسعدون فيهما .. إنَّ الحسد يَضُرّ الحاسد ذاته أولا قبل المحسود حيث ليس كل إجراءاته التي سيَتَّخذها ستَنجح في منع الخير عنه خاصة إذا انتبه لها واجتهد في الوقاية منها ، فيزداد بالتالي ألما وتعاسة في دنياه أولا – ثم في أخراه حتما بإجراءاته الشَّرِّيَّة التي سيَتَّخذها لتنفيذ حسده – لأنه لا هو سَعَيَ في أن يُحْسِنَ اتِّخاذ الأسباب لتحقيق خيراً مثل الذي عند مَن يحسده وأفضل فيُعينه الله تعالي قطعا حينها علي الوصول لما يريد ولا هو تَمَكَّن من منع الخير عنه إذا أراده الله له !! .. هذا ، ولا يَمنع الحاسد من حسده أن يَتِمَّ إخفاء ذِكْر الخير أمامه وإنما بتدريبه علي العمل بأخلاق الإسلام والتي منها التنافس في تحصيل الخير والتعاون مع الآخرين في ذلك والدعاء لهم ليَعُمّ الخير الجميع الأمر الذي يصحبه بالقطع توفيق الله لهم جميعا وإسعادهم في دنياهم وأخراهم علي قَدْر جهودهم وإحسانهم وتمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم ، فيَنشغل بهذا ويكون إيجابيا يسعي للخير له وللآخرين فيسعدون جميعا في الداريْن لا أن يكون سلبيا يسعي لسَلْب الخير منهم فيَتعسون فيهما وستُصيبه حتما في دنياه ثم أخراه تعاستهم بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات .. هذا ، وتَمَنِّي الخير للنفس كما عند الآخرين دون تَمَنِّي زواله عنهم لا يُعْتَبَر قطعا حسدا بل هو يُسَمَّيَ في الإسلام غِبْطَة وهو أمر مُفيد مُسْعِد لأنه يدفع الجميع للتنافس في كل خيرٍ دنيويّ يُسعدهم في الدنيا والآخرة إذا استحضروا معه نوايا خيرٍ بعقولهم أثناء تحصيله
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿1﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿2﴾ إِلَٰهِ النَّاسِ ﴿3﴾ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿4﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿5﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذته علي الدوام عدوا ، أي لم تتّبع خطواته وقاومتها ولم تستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة ، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾
هذا ، ومعني " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿1﴾ " أيْ هذا توجيهٌ وإرشادٌ وتعليمٌ للرسول الكريم ﷺ ولكل مسلم أن يستعيذ دوْماً بالله تعالي من شر الوسواس الخناس (انظر تفسير الآية ﴿4﴾) ليَحْمِيَه سبحانه منه ، أيْ أنْ يَتَحَصَّنَ ويَحْتَمِي به ويَلْجَأ إليه ويعتمد عليه وحده ، حيث سيُعِينه ويُقَوِّيه مباشرة أو يُيَسِّر له مَن يُعينه ، أيْ قل دائما بين الحين والحين وقبل حدوث الوساوس وعند حدوثها : أعوذ بربِّ الناس أي برب بني آدم ورب الكون كله والخلق كلهم .. والربّ هو الخالق والمُرَبِّي والرازق والراعِي والحافظ والمُرْشِد للبَشَر لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال تشريع أخلاق الإسلام لهم
ومعني " مَلِكِ النَّاسِ ﴿2﴾ " أيْ هو وحده مالِك وحاكِم جميع البَشَر وكل الكوْن وكل الخَلْق مُلْكَاً تامَّاً حُكّامَاً ومَحْكُومين المُتَصَرِّف في كل شئونهم المُدَبِّر لها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لهم المُسْتَغْنِي عنهم القادر تماما عليهم العالِم تماما بهم ليس معه أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه ، ومَن يفعل ذلك يَسعد في الداريْن .. هذا ، وقد اسْتُخْدِمَ لفظ " مَلِك " للتذكير بأنَّ أيّ مَلِكٍ علي الناس من ملوك الدنيا لا يَجوز مُطلقا أن يعبده أحدٌ مهما عَظُم حيث له مَلِك فوقه أعظم منه لا تُقَارَن عظمته بشيءٍ هو خالقه مالِك المُلْك كله سبحانه وهو الذي مَلّكَه ما يَمْلِك ويَسلبه منه حينما يريد وهو بَشَر مخلوق يضعف ويمرض ويشيخ ويموت
ومعني " إِلَٰهِ النَّاسِ ﴿3﴾ " أيْ مَعْبُود الناس ، أيْ هو وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام ، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، والفرق بين الرَّبِّ والإله أنَّ الرَّبَّ هو الذي يَخْلُق خَلْقَه ويُرَبِّيهم ويَرزقهم ويَرعاهم جميعا ، أمَّا الإله فهو المَعْبُود أيْ المُطَاع أيْ الذي يُشَرِّع للبَشَر مِن خَلْقِه الأخلاقيَّات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فمَن أطاعه واتَّبَعَ شَرْعه أيْ الإسلام فقد اتَّخَذَه إلاهَاً له وسَعِدَ فيهما ، ومَن خَالَفه وأطاعَ غيره فيما يُخَالِف الإسلام فقد اتَّخَذَ هذا الغَيْر إلاهَاً له وعَبَدَه وتَعِسَ فيهما علي قَدْر مُخَالَفَاته
ومعني " مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿4﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿5﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿6﴾ " أيْ أستعيذ بربِّ الناس مَلِكِ الناس إلهِ الناس مِن ضَرَر الوسواس الخَنَّاس أيْ الشيطان المُوَسْوِس بالشرّ ، والوَسْوَسَة هي الصوت الخَفِيّ والوَسْاوِس هي خَوَاطِر الشرِّ التي تأتي في التفكير العقليّ ، والخَنَّاس أيْ الكثير الشديد الخُنُوس أيْ التَّأَخّر والتَّرَاجُع والاخْتِبّاء والانكسار والانهزام والذي يَحدث إذا كان الإنسان دائما مُنْتَبِهَاً مُتَيَقِّظَاً له مُسْتَعِينَاً عليه بذِكْر الله تعالى ودعائه وطَلَب عَوْنه وقُوَّته وتوفيقه وتيسيره وسَدَاده حيث سيُعِينه ويُقَوِّيه مباشرة أو يُيَسِّر له مَن يُعينه .. إنَّ الإنسان سيسعد حتما في دنياه وأخراه إذا كان دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذه علي الدوام عدوا ، أي لم يَتَّبِع خطواته وقاوَمَها ولم يستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّك وعمل بكل أخلاق إسلامه التي كلها خير وسعادة ، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. هذا ، وقد خُصَّ شرّ الوسواس الخَنَّاس بالذكر رغم أنَّ الآية ﴿2﴾ في سورة الفَلَق السابقة لسورة الناس تشمل شرَّ كل ما خَلَقَ سبحانه ، وذلك لتِكْرار واستمرارية وَسَاوِسه ولضَرَرِه السَّيءِّ الشديد علي كل إنسانٍ لم يَتَّخِذه عَدُوَّا ، فاحتاج الأمر لمزيدٍ من التنبيه للتركيز علي الاستعاذة من شرّوره .. " الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ لكيفية عمله ومكان تأثيره لتَسْهُل مقاومته وهزيمته ، أيْ هو الذي يوسوس فى عقول الناس ليفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أشكالها وصورها ودرجاتها ، وهذا لا يَحدث إلا عند الذين يَغفلون عن ذكر الله تعالي أي ينشغلون عنه وينسونه حيث يتحرّك تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم تلقائيا والذي هو موجود دائما لكنه هاديء كامِن بذِكْر الله وبفِعل الخير ، وكلما ازداد بُعدهم عن ربهم وإسلامهم وانشغالهم عنهما ونسيانهم لهما كلما ازداد هذا التفكير الشَّرِّيّ والذي لا يَضْعُف ولا يَنتهي إلا بالعودة لذِكْر الله ودعائه وطَلَب عوْنه والانشغال دائما بفِعْل خيرٍ وراء خيرٍ بحيث لا يكون هناك وقت لدي العقل للاستجابة لتفكيره الشري ويظل كامِنَاً هادئاً باستمرارٍ فيَسْكُن ويَطمئنّ الإنسان تماما بهذا ويَسعد بأنَّ فِكْره كله أو معظمه خَيْرِيّ يَدْفعه لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه فيَسعد بذلك بالتالي تمام السعادة في دنياه وأخراه .. هذا ، ويُرَاعَيَ أنَّ مُجَرَّد خَوَاطِر الشَّرِّ فقط داخل العقل بأيِّ شكلٍ مهما زادت دون ترجمةٍ لها لتخطيطٍ أو لقولٍ أو لعملٍ لتنفيذها واقعيا فلا إثم عليها
ومعني " مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿6﴾ " أيْ وهذا الوَسْوَاس الخَنَّاس قد يكون من الجِنَّة – والجِنَّة أو الجَنّ جَمْع جِنِّيّ والجِنِّيّ في اللغة العربية هو كل ما لا تراه العين والمقصود به التفكير الشَّرِّيّ المَخْفِيّ بداخل العقول – وقد يكون أيضا من بعض الناس الذين يريدون شرَّاً بالأخرين لأنهم لم يُحسنوا استخدام عقولهم حيث قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فعَلَيَ كل عاقلٍ إذَن أنْ يَنْتَبِهَ ويَحْذَرَ النوعيْن معاً تمام الانتباه والحذر وأن يَستعيذ بالله منهما ويَستعين به عليهما ويُقاومهما بأنْ ينشر الخير دوْمَاً بكلّ قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ ليسعد تماما في الداريْن ، دار الدنيا ودار الآخرة
تمَّ بحمد الله وتوفيقه وتَيْسيره " التفسير السعيد للقرآن المَجيد " ، ونسأل كل مَن قرأه الدعاء لمَن جَمَعَه وكَتَبَه ونَشَرَه ، بالمغفرة والرحمة وأعلي درجات الجنات مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، له ولوالديه وزوجته وإخوته وأبنائه وأقاربه والمسلمين والمسلمات والناس جميعا .. ومسموح بنَشْره وطَبْعه كله أو بعضه إلكترونيا أو وَرَقِيَّاً أو بأيِّ صورة ، ولمَن فَعَل ذلك أجره العظيم في دنياه وأخراه من الله تعالي الكريم الرحيم الودود.