الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
ومعني "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿24﴾" أيْ وكذلك يَحرم عليكم زواج المتزوجات إلا بعد مُفَارَقَة الزوج بطلاقٍ أو وفاةٍ وبعد انقضاء عِدَّتِهِنّ.. ومن معاني المُحْصَنات عموماً أنهنّ اللاتي يُحَصِّنَّ ويَحفظنَ أنفسهنّ من الوقوع في الزنا، وبالتالي فالمقصود هو تحريم الزنا.. إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكم أيْ إلاّ ما تملكونه بأيديكم أيْ بما هو عندكم من عَبْدَاتٍ فلا يَحرم عليكم أنْ تُجَامِعُوهنّ، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب وبالتالي فقد انتهت هذه الرخْصَة، ولقد كان الإسلام سَمَحَ بجِمَاعِهِنَّ كنوعٍ من التّعامُل مع واقعهم قبل مَجِيئِهِ حيث كانوا يفعلون ذلك حتي استطاع تغييره مع الوقت ومَنْعه، بما يُشْبِه ما فَعَلَه معهم عند تحريم الخمر عليهم حيث لم يمنعهم منها مرة واحدة وإلا صَعُبَت عليهم الاستجابة لأنها كانت جزءاً أصيلاً من حياتهم وإنما مَنَعَهم بالتدريج.. هذا، وقد يَحدث في بعض حروب الإسلام ضدّ المُعتدين عليه وعلي بلاد المسلمين أن يتمَّ أَسْر بعض النساء ويرفضنَ العودة لبلادهنّ لسببٍ من الأسباب فأمثال هؤلاء مَن أرادَت منهنّ الزواج تُزَوَّج بعقدٍ ومَهْر.. ".. كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.." أيْ فَرْضَ الله عليكم، أيْ كَتَبَ الله عليكم تحريم هذه الأنواع التى سَبَقَ ذِكْرها كتاباً وفَرَضَه فَرْضَاً، فتَجَنّبوا كل ما حَرَّم عليكم، وإلا عُوقِبْتم وتَعِسْتُم بما يُناسِب في الداريْن، والْزَمُوا كل أخلاق الإسلام التي كَتَبَها عليكم في القرآن العظيم لتسعدوا فيهما.. ".. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ.." أيْ بَيَّنَ لكم ما حَرَّم عليكم من النساء وأباح لكم ما عَدَا هؤلاء أن تطلبوا بأموالكم نساءً مُتَزَوِّجِين بِهِنَّ لا زَانِين.. ".. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.." أيْ فما انتفعتم وتَلَذّذتم به من النساء عن طريق الزواج فأعطوهنّ أجورهنَ عليه أيْ مُهُورَهُنّ في مُقابِله والتي هي فريضة فرضها الله عليكم لهنّ لا بُدّ من أدائها.. ".. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ.." أيْ ولا إثم ولا تَحَرُّج ولا عقوبة عليكم في الداريْن في الذي تَرَاضَيْتم به فيما بينكم مِن تَنَازُلِ زوجةٍ عن بعض مَهْرها أو تأجيلٍ له أو لبعضه أو زيادةِ زوجٍ فيه برضاً وطِيب نفسٍ منكما أو ما شابه هذا من بعد ثُبُوت الفريضة وتحديدها وهي المَهْر.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿24﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليما أيْ هو عليم دائما بكلّ شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو يعلم كلّ ما يُصلح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويعلم كل ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرا.. وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿25﴾" أيْ ومَن لم يَجِدْ ويَمْلِك منكم أيها المسلمون قُدْرَة وسَعَة علي أن يتزوَّج من المُحْصَنات الحَرَائِر – أيْ ليست من العَبِيد – المؤمنات فله في هذه الحالة أن يتزوج مِمَّا مَلَكَت أيْمانكم أيْ اللاتي تَملكونهنّ بأيديكم من عبيداتكم المؤمنات لا الكافرات، إنْ كنتم في زمنٍ فيه عَبِيد، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.." أي هذا تكريمٌ للعبيد ورفعٌ لشأنهم واحترامٌ لإنسانيتهم ومَنْعٌ للتَّأَفّف والعار منهم والتَّرَفّع عليهم عند التعامُل معهم كما أنه تَطْيِيبٌ لنفوس الذين سيتزوّجون منهم حيث يُبَيِّن سبحانه أنَّ المقياس هو درجة تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وليس حَسَبهم ونَسَبهم ونحو هذا فالله تعالي هو وحده حتما الأعلم بحقيقة ودرجة إسلامكم أيها الناس جميعا ومنهم أنتم أيها المُقْبِلُون علي الزواج مِن عَبْدَاتٍ وكذلك هُنَّ اللاتي ستتزوّجوهنّ فقد تكون عبدة أكثر عَمَلاً بأخلاق الإسلام من حُرَّةٍ ومن حُرٍّ سيتزوّجها ثم أنتم في الأصل بعضكم من بعضٍ أيْ جنسكم واحد وهو الإنسان متساوون في الإنسانية ودينكم واحد وهو الإسلام والذي يُذْهِب الفَوَارِق بين الجميع فكلكم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منكم الآخر وكل الناس بعضهم مُتَوَالِد من بعض وكلكم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه.. ".. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." أيْ بعد أن عرفتم ما سَبَقَ ذِكْره فتزوجوهنّ بموافقة أهلهنّ – والمقصود بأهلهنّ أيْ المَالِكِين لهؤلاء العَبْدَات وعَبَّرَ سبحانه عنهم بالأهل للتنبيه علي أنَّ العلاقة بين العبد ومالكه يجب أن تكون علاقة أهل لا علاقة استعلاء – والذين بالتالي سيأخذون موافقتهنّ ورضاهنّ، وأعطوهنّ مُهُورَهُنَّ بالمعروف أيْ بالقَدْر المُتَعَارَف المُعْتَاد عليه بين الصالحين في مثل هذا النوع من الزواج عن طِيِبِ نفسٍ منكم بلا مُمَاطَلَةٍ أو انتقاصٍ لأنه ليس من الإسلام أن تستغلوا أنهنّ عَبْدَاتٍ ضعيفاتٍ لأكل حقوقهنّ.. ".. مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ.." أي واختاروهنّ مُحْصَناتٍ ولا تتزوجوهنّ إلا إذا كُنّ كذلك أيْ عفيفاتٍ عن الزنا، ويَكُنّ غير مُسافحاتٍ أيْ غير زانياتٍ علانية مع أيِّ أحدٍ بأجرٍ وبدون وهذا تأكيد علي عدم الزواج إلا من عفيفة، و يَكُنَّ غير مُتّخِذات أخْدَان أيْ أصحاب – جَمْع خِدْن وهو الصاحب والصديق – مُحَدَّدِين يزنون معهم في السرّ وهذا مزيد من التأكيد علي العِفّة.. ".. فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ.." أيْ فإذا تَزَوَّجْنَ فإنْ زَنَيْنَ وثَبَتَ عليهنّ الزنا فعليهنّ نصف ما علي المحصنات من العقاب وهي أن تُجْلَد خمسين جَلْدَة لأنَّ الحُرَّة إنْ زَنَتْ وهي لم تتزوج بَعْد تُجْلَد مائة جَلْدَة وإنْ كانت متزوجة فإنها تُرْجَم بالحجارة حتي الموت وبما أنَّ الموت لا يمكن أخذ نصفه فبالتالي يُفْهَم ضِمْنَاً أنه ليس علي العَبْدَة رَجْم إذا زَنَت بعد زواجها.. وذلك مراعاة للظروف التي مَرَّت بها مِن قَبْل حيث قد تَرَبَّت في بيئةٍ يَغْلِب عليها الإذلال والذي قد يُسَهِّل فِعْلَ أيَّ سوءٍ فهي إذَن ليست كالحُرَّة التي عَرَفت أخلاق الإسلام ثم زَنَت رغم ذلك، كما أنَّ الجريمة تَهُون ويَضعف أثرها بهَوَانِ مُرْتَكبها وتَعْظُم ويَشتدّ أثرها بعُلُوِّ مَكَانَةِ مَن ارتكبها وإذا عَلَتْ الجريمة ازدادت معها العقوبة وإذا انخفضت نَقصت عقوبتها بما يدلّ علي تمام عدل الإسلام ودِقّة تشريعاته.. ".. ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ.." أيْ ذلك الذى شَرَعْناه لكم من إباحة الزواج بالعَبْدات عند الضرورة وبالمُواصَفات السابق ذِكْرها يكون بالنسبة لمَن خاف منكم علي نفسه العَنَت أيْ المَشَقّة والضرَر والمقصود الزنا وسُمِّيَ بالعَنَت لأنه يؤدّي إلي مَشَقّةِ وتعاسةِ العقاب عليه في الداريْن، فحينئذٍ يتزوج منهنّ، وهذا أمرٌ تقديريّ يختلف من شخصٍ لآخر وكلّ أحدٍ أعلم بحاله والله تعالي أعلم بالجميع.. ".. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ وأن تصبروا علي البقاء بغير زواجٍ وعدم زواجهنّ مع العِفّة وتَجَنّب الاقتراب مُطلقاً من الزنا حتي يُيَسِّرَ الله لكم الزواج من حُرَّةٍ فيها صفات الزوجة الطيّبة الصالحة فلا شكّ أنَّ ذلك سيكون أكثر خيرا لأنه أكثر ضمانا لحياةٍ زوجيةٍ سعيدةٍ ثم آخرة أسعد إذ للصابر أجره العظيم في دنياه حيث قوة إرادة عقله والتي ينطلق بها قويَّاً مُنْجِزَاً سعيداً في حياته ثم في أخراه السعادة الأعظم والأتمّ والأخلد كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" ﴿الزمر:10﴾.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿25﴾" أيْ والله من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وهو رحيم أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿26﴾ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴿27﴾ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿26﴾" أيْ يريد الله بما شَرَعَ من إسلامٍ وما فيه من أخلاقياتٍ وتشريعاتٍ وقوانين ونُظُمٍ شاملةٍ متكاملةٍ ملائمة لكل البشرية بكل مُتَغَيِّراتها بكل أزمنتها حتي يوم القيامة حيث تُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير الذي له كل صفات الكمال الحسني المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة ثم آخرتهم، يُريد بكل هذا أن يُبَيِّنَ ويُوَضِّح لكم أيها الناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وذلك لكي تَصلحوا وتَكملوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وهذا التّبْيِين هو من النّعَم والرحمات العظيمة التي لا تُوصَف عليكم والتي تستحقّ الشكر منكم لأنه يُشَجِّعكم علي التمسّك والعمل بالإسلام بكل اقتناعٍ وحماسٍ وحرصٍ وإقبالٍ وسهولةٍ وسعادةٍ حيث بفِطرتكم داخل عقولكم تحبون كل ما يُرشدكم لسعادتكم وأمنكم وربحكم وتعملون به لتُحقّقوا ذلك علي أكمل وجه فتَرَوْنَ بهذا التّبْيِين أنَّ الإسلام هو الذي يحقّقه لكم تماما فتعملون بكل أخلاقه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿213﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿185﴾ منها، ثم الآية ﴿93﴾ منها، ثم الآية ﴿85﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿138﴾ منها﴾.. ".. وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.." أيْ كما يُريد أن يُرْشِدكم إلي مَناهِج وطُرُق وأساليب وتصرّفات الذين كانوا قبلكم سابقين لكم من الأنبياء والصالحين لتَقتدوا بهم فتَصلحوا وتَكملوا وتَسعدوا في الداريْن مِثْلهم، وكذلك يُبَيِّن لكم عقاب المُخَالِفين حتي لا تُخَالِفوا فتتعسوا فيهما كما تَعِسوا.. وهذا أيضا من نِعَمه ورحماته تعالي حيث يُبَيِّن تجارب عملية لكيفية العمل بأخلاق الإسلام وأنَّ بَشَرَاً قد طَبَّقوها بالفِعْل في كل شئون حياتهم فسعدوا وبالتالي فلا يَستصعبها أحدٌ بل فلْيَسْتَسْهلها ويَحرص عليها الجميع ليسعدوا.. ".. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.." أيْ وكذلك يريد بما بَيَّنَ لكم أن يُتِمَّ نِعَمَه ورحماته عليكم بأنْ يتوب عليكم أيْ يَرْجِع بكم مِن شَرِّ وتعاسةِ أيِّ سوءٍ بسبب مُخَالَفتكم للإسلام إلي كلّ خيرٍ وسعادةٍ حينما تتّبِعوه، وأنْ يُبَيِّنَ لكم كيفية التوبة ويُيَسِّرَها لكم ويَتَقَبَّلها منكم إذا كانت صادقة، فتعيشون بذلك دائما في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكونوا حريصين دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدِين في ألاّ تخرجوا عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَموه فَعُودوا سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. وفي هذا طَمْأَنة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. وفي هذا تشجيع للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿26﴾" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴿27﴾" أيْ هذا استخدام لذات الألفاظ كما في الآية السابقة لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ والله يريد بما بَيَّنَ لكم مِن إسلامٍ أن يُتِمَّ نِعَمَه ورحماته عليكم بأنْ يتوب عليكم أيْ يَرْجِع بكم مِن شَرِّ وتعاسةِ أيِّ سوءٍ بسبب مُخَالَفتكم للإسلام إلي كلّ خيرٍ وسعادةٍ حينما تتّبِعوه، وأنْ يُبَيِّنَ لكم كيفية التوبة ويُيَسِّرَها لكم ويَتَقَبَّلها منكم إذا كانت صادقة، فتعيشون بذلك دائما في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، بينما في المُقَابِل يريد الذين يَتّبِعون الشهوات أيْ الفَجَرَة أيْ المُنْغَمِسُون في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكثرةٍ وبلا مُبَالاَةٍ لأيِّ نتائج ويَسيرون خَلْفها ونحوها حيث كانت سواء أكانوا كفّارَاً أيْ مُكَذّبين بوجود الله أم مشركين أيْ عابدين لغيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم مُعتدين علي الآخرين ظالِمين لهم أم فاسِدين ناشِرين لفسادهم وشرّهم أم مَن يَتَشَبَّه بهم كلهم يريدون لكم أن تَبتعدوا وتَنْحَرِفوا عن طريق الله طريق الحقّ والعدل والاستقامة طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة ابتعاداً وانحرافاً شديداً كبيراً هائلاً حتي لا يُذَمُّون ولا يُمْنَعون من فسادهم لأنَّ الجميع فاسدون فلا أحد يَمنعهم! وحتى تُصبحوا مِثْلهم لا فضل لكم عليهم وبالتالي لا حقّ لكم في قيادة البشرية وتوجيهها نحو ربها وإسلامها لتسعد في دنياها وأخراها وحتي تَظَلّوا مُغَيَّبِين مَهِينِين ذَلِيلِين تابِعِين عبيداً مُطِيعين لهم وهم أسياد لكم يُوَجِّهونكم كيفما شاءوا مُسْتَغِلّين جهودكم وثرواتكم لصالحهم.. إنَّ في الآية الكريمة مُقَارَنَة واضحة بين حال السعداء في دنياهم وأخراهم وحال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع طريق الله والإسلام لا طريق الذين يَتّبِعون الشهوات ليسعد تمام السعادة في الداريْن وإلاّ تَعِسَ فيهما
ومعني "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿28﴾" أيْ يريد الله دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم من تيسيراتٍ سَبَقَ ذِكْرها وغيرها أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم ﷺ حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله ﷺ "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" ﴿جزء من حديث رواه البخاري ومسلم﴾، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿28﴾" أيْ وقد خَلَقَ الله الإنسان ضعيفاً حيث هو يضعف أحيانا أو كثيرا في عقله وإرادته وجسده وعلمه وماله وغيره عند تعامله مع كل شئون حياته ولذلك كان من المُناسِب ومن العدل أن يُخَفّف عنه ويُيَسِّر له ما يضعف عنه ولا تستطيعه قُدْراته وإمكاناته والتي هو أعلم بها رحمة منه به وكَرَمَاً عليه وحبا له وإرادة في إسعاده.. إنه تعالي يُنَبِّه الإنسان لضعفه بالنسبة لخالِقه وللكوْن حوله لمصلحته ولسعادته وليس حتما ليُحْبَط ويَقعد بالتالي عن استكشاف الكوْن والانتفاع به والسعادة فيه وهو الذي خَلَقَه كله وسَخّره له كما يقول "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.." ﴿الجاثية:13﴾ ولكن لكي يُحْسِن اتّخاذ أسباب القوة والتي بها سيكون أقوي المخلوقات حيث هو مُؤَهَّل لذلك من خالِقه بما وَهَبَهُ من عقلٍ مَيَّزَه به عن بقية خَلْقه وأهم هذه الأسباب وأولها التّوَاصُل مع الخالق القويّ العزيز والاستزادة من قوّته التي لا تُهْزَم وطَلَب عوْنه وتوفيقه وسداده ورعايته وأمنه ورزقه وإسعاده، ثم اتّخاذ أسباب القوة الفكرية والصحية والجسدية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، ثم التعاون والتحاوُر مع الآخرين الصالحين والاستفادة بقوّاتهم وخبراتهم، وما شابه هذا.. كذلك يُنَبِّه تعالي الإنسان لضعفه حتي لا يَتَعَالَيَ علي غيره، فيَنْفر الناس منه ويَبتعدون فيزداد ضعفا! وأيضا هو تشجيعٌ منه سبحانه ومواساة له إذا وَقَعَ في شَرٍّ مَا لسببٍ مَا دنيويٍّ رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا فيُطَمْئنه أنه يعلم أنه خَلَقَه ضعيفا قد يَقع في مِثْل هذا ولكن عليه أن يتوب ويستفيد خبرة مِمَّا وَقَعَ فيه ولا يعود إليه بعدما ذاقَ أضراره وتعاساته وينصح غيره بذلك وينطلقوا جميعا سريعا نحو ربٍّ غفورٍ رحيم كريم مُعِين ونحو كل خيرٍ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ في دنياهم وأخراهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿29﴾ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿30﴾ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَمتنعون تماما عن أكل أموال الناس بغير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم.. فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿29﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا يأكل بعضكم مال بعضٍ فيما بينكم بسببٍ باطلٍ غير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو مُغًالًطًةٍ أو سرقةٍ أو ما شابه هذا.. ".. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ.." أيْ إلا أن تكون هذه الأموال تجارة ناشئة عن رضيً منكم واتفاقٍ فيما بينكم وفيما بين البائع والمشتري في إطار أخلاق الإسلام وتشريعاته فحينها يُباح لكم أخذ هذه الأموال الناتجة عنها، فالكسب والربح المُعْتَدِل الطيّب من خلال تبادُل التجارات والبيع والشراء مع الآخرين وبالتراضِي فيما بينهم وفيما هو حلال أيْ طيّب نافع فليس قطعا أكلاً للأموال بالباطل بل هو من أصول الحياة ومِمَّا يُسعدها هي والآخرة ومُوَافِق لفطرة العقل ويُحبه الله ورسوله ﷺ ويُشَجِّع عليه الإسلام لأنه يَرْقَيَ بالناس ويُقَوِّيهم ويُسعدهم.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.." أيْ ولا يَقتل بعضكم بعضا، ولا يَقتل أحدكم نفسه، ولا تَقتلوا أنفسكم بأنْ تُهْلِكوها بمُخَالَفة أخلاق الإسلام من خلال فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار – والتي منها أكل أموالكم بينكم بالباطل – والتي فيها هَلاك وقتل لقيمتكم ولقيمة حياتكم حيث تعيشون كالموتي بلا روحٍ في تمامِ ظلامِ وتعاسةِ الضلالِ والضياعِ بسبب بُعْدِكم عن ربكم وإسلامكم ثم سيَنتظركم في آخرتكم هَلاكٌ وظلامٌ وعذابٌ وشقاءٌ أشدّ وأعظم وأتمّ، فهل هناك قتل للأفراد وللأمم وللدول أسْوَأ وأتْعَس من هذا؟!!.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿29﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ ما شَرَعَه الله في الإسلام من أخلاقٍ وتشريعاتٍ ونُظُمٍ سَهْلَة التطبيق في استطاعة الجميع هو رحمة بالناس عموما وبالخَلْق جميعا.. أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي بكم أيها الذين آمنوا به العامِلِين بكلّ أخلاق إسلامهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة بكم مُحِبّاً لكم في دنياكم وأخراكم، ففي الدنيا لكم تمام الخير والسعادة، لأنه سيُوَفّر لكم كلّ الحب والرضا والرعاية والأمن والعوْن والتوفيق والسداد والنصر والرزق والقوة، ثم في الآخرة سيكون لكم حتماً ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. إنَّ الله تعالي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ رؤوف رحيم بالناس جميعا وبالخَلْق كله فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾، فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾ (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو مِن رأفته بهم حَذّرهم من فِعْل السوء ليَنتبهوا وليُحْسِنوا كلّ قولٍ وعملٍ ليَسعدوا ولا يَتعسوا في الداريْن
ومعني "وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿30﴾" أيْ ومَن يفعل ذلك المذكور سابقاً من أكل أموال الغير بالباطل والقتل، ويَفعل ذلك الذي نَهَيَ الله تعالي عن فِعْله عموماً، يَفعله عدواناً أيْ مُتَجَاوِزَاً بتَعَمُّدٍ حدودَ الله أيْ حَوَاجِزه التي عليه ألاّ يَتَعَدَّاها لأنَّ تَعَدِّيَها وتَجَاوُزها يُوقِع فيما هو مُحَرَّم عليه أيْ في الشرور والمَفاسد والأضرار التي تضرّه وتُتْعِسه ومَن حوله في دنياه وأخراه، ويفعله كذلك عدواناً علي حقوق الآخرين، ويفعله أيضا ظلما حيث هو ليس من حقه أن يفعل ذلك وظلما لنفسه حيث يُعَرِّضها لعذابيّ وتعاسَتَيِّ الداريْن ويفعله ليس نسيانا بحيث لو تَذَكّر رَجَعَ عن فِعْله ولا خَطَأً غير مقصودٍ بحيث لم يتعمّده ويُعَوِّض مَن أساء إليه، والمعنيان أيْ معني العدوان والظلم مُتَقَارِبَان وهذا مزيدٌ من التأكيد علي سوء فِعْله وعلي التحذير الشديد من فِعْل ما يَنْهَيَ الله عنه.. ".. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا.." أيْ فسوف نَحْرِقه ونَشْوِي جسده يوم القيامة بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. إضافة إلي ما يكون فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. ".. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿30﴾" أيْ وكان ذلك العقاب بهذا العذاب الشديد الدنيويّ والأخرويّ لمَن يستَحِقّه سَهْلاً على الله لأنه لا يَمْتَنِع عليه شيءٌ لأنه القادر علي كل شيءٍ إذ بمجرد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ هذا العقاب الذي لا يمكن الفرار منه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ﴿31﴾" أيْ إنْ تَتْركوا أيها المسلمون كبائر الذنوب التى يَنهاكم الإسلام عن فِعْلها، وهي الشرور الكبيرة التي تَضُرّ الذات والآخرين والمجتمع كله ضَرَرَاً كبيراً شديداً، كالكفر والقتل والزنا والخمر والمخدرات والفرار من صَدِّ المُعتدين علي الإسلام والمسلمين ونشر الشَّعْوَذات والخُرافات وما شابه هذا، وهي أيضا الشَّرّ الصغير لكن يُعْتَاد ويُصَرّ عليه ويُنْشَر حتي يُغْطّي العقل ويُلَوِّث حُسْن تفكيره وتَدَبّره فيُؤَدّي إلي ضَرَرٍ كبيرٍ فيتحوّل إلي كبيرةٍ من الكبائر، ونحو ذلك، وبالجملة فالكبيرة هي ما تَتَطَلّب إقامة حَدٍّ مَا في الدنيا كعقوبةٍ عليها أو جاء فيها القرآن أو السُّنَّة بوعيدٍ شديدٍ في الآخرة أو نَفْيِ إيمانٍ أو وقوعِ غَضَبٍ أو لعنةٍ من الله تعالي.. ".. نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ نُسامِحكم فلا نُعاقبكم علي ما تفعلونه من سوءٍ أيْ علي شروركم وذنوبكم الصغيرة ونمحوها كأنْ لم تكن ونمْحُو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ونسْتُرْها ونخْفيها فلا نعذبكم بفضحكم بها فيهما، لكثرة توبتكم منها وعودتكم إلينا، رحمة منا بكم وتَكَرُّمَاً عليكم وحباً فيكم.. إنَّ مَن يَتَجَنّب الكبائر يَضمن تماماً أنَّ ذنوبه مَغْفورة بمجرّد أن يتوب منها أيْ يَنْدَم ويَعْزِم علي عدم العودة بداخل عقله ويَستغفر بلسانه ويَرُدّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم.. وحتي مَن يَفعل كبيرةً مَا، فإنْ كان عليها حَدّ مَا، أيْ عُقوبَة مُحَدَّدَة حَدَّدَها الإسلام، ووَصَلَ أمره للمسئولين وللقضاة وأُقِيمَ عليه الحَدّ، ضَمنَ أنَّ ذنبه قد غُفِر، وإنْ لم يَصِل أمره لمسئولٍ ولا لقاضٍ ولم يُقَمْ عليه الحَدّ، فعليه أنْ يَستر علي نفسه ولا يَفضحها فالسَّتْر أفضل ويحبه الإسلام ما دام يُؤَدّي لمراجعة النفس والعودة لله وللإسلام ولا يُؤَدّي إلي مزيدٍ مِن فِعْل السوء وعليه أنْ يتوب أيضا ليَنالَ وَعْدَ الله تعالي الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾ وأنْ يَستزيد مِن عملِ كلّ خيرٍ ويستمرّ فيه لتعويض ما فاته من خيرٍ ولإعادة السعادة لذاته بعدما تَعِسَ بمرارات وعذابات كبيرته التي فَعَلَها ولضمان ثِقَل ميزان حسناته أمام سَيِّئات هذه الكبيرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. أمَّا مَن ماتَ ولم يَتُبْ، لا مِن صغيرةٍ ولا كبيرة، فأَمْرُه إلي الله تعالي إنْ شاءَ عَاقَبَه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلم وإنْ شاء رَحِمَه، ورحمته وَسِعَت كلَّ شيء، وسيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسَيِّئاته، فيَعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً مُقابِل خيرٍ آخر فَعَلَه أو بمصائب أُصِيبَ بها أو بدعاءِ المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعة الأنبياء والشهداء والصالحين أو حتي من دون شيءٍ فهو الرحمن الرحيم ورحمته دَوْمَاً تَسْبِق غَضَبَه.. ".. وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ﴿31﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الحب للمسلمين العامِلين بأخلاق إسلامهم المُجْتَنِبِين للكبائر المُستغفرين أوَّلاً بأوَّلٍ من الصغائر وأيضا مزيدٌ من التشجيع لهم علي مزيدٍ من الخير، أيْ ونُدْخِلْكم في دنياكم إلي كلّ خيرٍ حيث كل كرمٍ وتكريمٍ بسبب حُسن أخلاقكم إذ ستُفْتَح لكم الأماكن وتَتّسِع بيوتكم وأملاككم وأعمالكم وأموالكم وكل أنواع أرزاقكم، وستشعرون دائما أثناء ذلك وفي كل ما تَدْخُلُون فيه وتُقْدِمُون عليه وتَبدأونه من أقوالٍ وأفعالٍ وفي كل لحظات حياتكم بكل كرمٍ وتكريمٍ ورضاً وأمنٍ واستقرارٍ وهدوءٍ واطمئنانٍ ورعايةٍ وحبٍّ وتوفيقٍ وسَدَادٍ وقوّةٍ ونصرٍ وبالجملة تستشعرون تمام السعادة، ثم في أخراكم سنُدْخِلكم حتماً أعظم مدْخَل أيْ أسعد مكانٍ وأكثره كَرَمَاً وتكريماً وتشريفا، إنه الجنة، حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودا.. وإذا لم تكن من الذين يعيشون في الأماني دون السعي المطلوب لِمَا يتمنّون ويريدون.. وإذا كنت دوْمَاً راضياً بما أعطاه الله لك
هذا، ومعني "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿32﴾" أيْ ولا تَتَطَلّعوا إلي، وتَرْغَبوا وتَطْمَعوا في، ما زادَ الله به بعضكم علي بعض في الأرزاق.. وكذلك لا تَتَمَنّوا أيها الرجال ما فَضَّلَ الله به النساء عليكم من زيادة العاطفة والأمومة وإمكاناتها ولا تَتَمَنَّوا أيها النساء ما فضّل الله به الرجال عليكنّ من زيادة القوة والصلابة فهذا لكي يُكْمِل بعضكم بعضا وتنطلق الحياة بهذا التكامُل فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، فلا يَتَمَنّ أحدٌ ما يَستحيل تحقيقه.. وفي هذا إرشادٌ وتوجيهٌ لكل مسلمٍ ألاّ يكون حَسُودَاً حتي يسعد ولا يتعس في الداريْن، والحَسَد هو أن يتمنّيَ زوال نِعَم الله عن الآخرين ولا يكتفي بهذه الأمنيات العقلية وإنما يتّخذ من الإجراءات العملية ما يحقّقها كعدم عوْن الذي يحسده أو ظُلْمه أو تَضليله بمعلوماتٍ كاذبة أو نحو ذلك، فإنَّ الحَسَد أول مَن يُؤْلِم ويُتعس هو الحاسد ذاته بينما المَحْسُود يَنْعَم بنِعَم الله ولا يشعر بألم حاسده ويَقِيه ربه إجراءاته الضارة، فانتشار التّحَاسُد بين الناس ينشر الأحقاد والضغائن والتشاحنات والانتقامات فيتعس الجميع في الدنيا والآخرة، أمَّا أنْ يتمنّي المسلم أن يكون له مثلما عند غيره وأكثر دون تمنّي زوال ما عنده ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك ويتعاوَن الجميع في التطوّر والرُّقِيّ فهذا هو ما يطلبه الإسلام ليسعدوا كلهم في الداريْن.. كما أنه إرشادٌ وتوجيهٌ للمسلم لكي يسعد ولا يتعس فيهما ألاّ يكون من الذين يعيشون في الأماني والأحلام والأوهام دون السعي المطلوب لِمَا يتمنّون ويُريدون فتَرَاهم كسَالَيَ قاعِدين مُتَخاذِلِين لا هِمَّة لهم، بل عليه أن يكون من المُجتهدين المُنْطَلِقين في الحياة بهِمَّةٍ عاليةٍ الذين يُحسنون اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لاستكشافها والانتفاع بها والسعادة فيها سواء أكانت أسبابا علمية أم فكرية أم عملية أم اقتصادية أم تخطيطية أم إدارية أم تعاونية أم عسكرية أم غيرها، فهذا هو القانون الإلهِيّ العادل للحياة والذي نَبَّهنا له ربنا لنعمل به "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾ فمَن زَرَعَ حَصَد ومَن لم يزرع لم يحصد، ثم هو عليه بالتأكيد أن تكون هِمَّته أعلي وأعلي في طَلَب الجنة والنجاة من النار فلا يَتَمَنَّيَ ذلك فقط بل يعمل بأعلي هِمَّةٍ لتحقيقه بأن يستحضر دائما نوايا خيرٍ بعقله في كل أقواله وأفعاله والتي لا بُدّ أن تكون في إطار كل أخلاق الإسلام.. كما أنه إرشادٌ وتوجيهٌ للمسلم ليَرْضَيَ بما قَسَمَ الله تعالي له من أرزاقٍ وإلا تَعِسَ إذا لم يَرْض وذلك ما دام قد أحسنَ اتّخاذ ما أمكنه من أسبابٍ مُتَاحَةٍ مُبَاحَةٍ لتحصيلها حيث هو سبحانه يرزق كل عبدٍ من عباده بالمقدار وبالتوقيت المناسب له الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه، فهو تعالي في وقتٍ ما يشاءُ أنْ يُقَلّل ووقتٍ آخر يَبسط ما يُنَزِّله علي عبده أي يُسَهِّله له من أسباب الرزق وذلك بتقديرٍ مضبوطٍ علي حسب المصلحة لهذا العبد ولمَن حوله وليس كما يريد هو لأنه لا يعرف المستقبل بالقطع كما يعرفه خالقه بحيث يجعله دائما مرتبطا بربه وبإسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتجاوز حدودهما وينحرف فيتعس بالتالي فيهما.. ".. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ كُلّاً من الرجال والنساء هم بنو آدم ويُتَمِّم كلٌّ منهم الآخر وكلهم متساوون عنده سبحانه في قبول الأعمال والعطاء عليها في الداريْن لأنَّ الجميع خَلْقه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن المساواة بين الرجال والنساء في الإنسانية وفوائد ذلك وسعاداته في الداريْن﴾.. أي للرجال نصيبٌ أيْ مِقْدارٌ من العطاء والجزاء في الدنيا والآخرة بحسب عملهم، إنْ كان خيراً فلهم كل خيرٍ وسعادة وإنْ كان شرَّاً فلهم الشرّ والتعاسة بما يُناسب، وكذلك حتما للنساء نصيبٌ فيهما مِمَّا عَمِلْنَ.. وأيضا للرجال وللنساء مقدارٌ مُحَدَّدٌ في الميراث من أقاربهم بعد موتهم كما حَدَّده الله تعالي، وكذلك لكلٍّ منهما حقّ امتلاك ما كَسَبَه من أموال، وإذا كان الأمر كذلك فلا يَلِيق بعاقلٍ أن يتمنّى غير ما قَسَمَ الله له من رزقٍ وميراث، بل عليه أن يرضَىَ به فهو سبحانه الذى قَدَّرَ أرزاق ومواريث الرجال والنساء على حسب جهودهم وحسب حِكْمته وعِلْمه بما يحقّق مصالح وسعادات الجميع، وهو الذى كلّف كُلّاً منهم بواجباتٍ وبأعمالٍ تُناسب إمكاناته وتكوينه وخِلْقته.. ".. وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ ولا تَتَمَنّوا ما فَضَّلَ الله به بعضكم علي بعضٍ فإنَّ التَّمَنِّي بلا عملٍ لا يُفيد شيئا ولا يحسد بعضكم بعضا وبدلا من كل ذلك السوء المُضِرّ المُتْعِس اتّجِهُوا مباشرة لمصدر كل خيرٍ وهو الله تعالي الرَّزَّاق الوَهَّاب الكريم الرحيم الودود واسألوه لدنياكم وأخراكم ما شِئْتُم من إحسانه وإنعامه الزائد وأحسنوا اتّخاذ أسباب ما تريدون يُعْطِكُم ما فيه مصلحتكم وسعادتكم بما يُطَمْئِن نفوسكم ويُبْعِد عنها الطمع والقَلَقَ والحَسَدَ والألم والتعاسة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿32﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليماً تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، وهو يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴿33﴾" أيْ ولكلِّ واحدٍ من الرجال والنساء جعلنا وَرَثَة يَرِثونه مِمَّا تَرَكَه له الوالدان والأقربون من المال وَوَرِثَه منهم، وذلك حتي تُتَدَاوَل الأموال بين الناس من جيلٍ لآخر ولا تَتَخَزَّن وتَتَعَطّل فينتفعوا ويسعدوا بها، فلْيَنتفع كلّ واحدٍ بما قَسَمَ الله له من الميراث ولا يَتَمَنّ مال غيره، لأنه أعدل قِسْمَة للخَلْق الذين يَعلمهم خالِقهم ويَعلم ما يُصلحهم ويُسعدهم في الداريْن.. ".. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.." أيْ والذين عَقَدْتُم معهم عقوداً بأيْمانكم أيْ بأيديكم اليُمني وأكّدتموها بأيْمانكم أيْ بقَسَمكم بالله علي تنفيذها فأعطوهم حقّهم الذي اتّفقتم عليه، في كل أنواع العقود المختلفة في كل شأنٍ من شئون الحياة.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه قد يَحدث أحيانا ومن باب التعاون والتَّآخِي الذي يُشَجِّع عليه الإسلام ويُثيب الله تعالي عليه ثواباً عظيماً أن يُقَدِّم أحدٌ لأحدٍ بعض خدماتٍ ويُريد تعويضه وإكرامه كما أكرمه فيَكتب له في وَصِيَّته أنَّ له بعد وفاته جزءاً من ماله بما لا يزيد عن الثلث كما سَمَحَ بذلك الإسلام في الوَصِيَّة لخيرٍ مَا فعليكم أن تُعطوا مثل هؤلاء نصيبهم الذي كُتِبَ وعُقِدَ به العَقْد في الوصية لهم.. إنه بانتشار الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴿33﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيَستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كلّ صفات الكمال، كان تعالي شهيداً أي كثير الشهود أي شاهِداً علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالكم وأفعالكم مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً، يراه بتمام الرؤية ويسمعه بتمام السمع، وسيُحاسبكم عليه بالخير خيرا وسعادة ويَزيد، وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو، فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴿34﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون معامَلَة أزواجهم، فكلٌّ منهم كاللباس للآخر يَستره ويُعينه ويُكْمِل نَقْصَه ويَستفيد منه، وكلٌّ منهم سَكَنٌ للآخر يَأْمَن ويَهْدَأ ويَسْكن ويَطمئنّ إلي جواره، وحُسن التعامُل يكون بتبادُل الحب والحوار والتفاهم والتقارب والتسامح والتعاون والكرم والصدق والوضوح والأمانة والعلاقات الجنسية المُعتدلة المُنَظّمَة ونحو ذلك من أسباب الحياة الزوجية السعيدة
هذا، ومعني "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴿34﴾" أيْ الرجال كثيروا القيام علي النساء – سواء كُنَّ أمهاتٍ أم زوجاتٍ أم أخواتٍ أم قريباتٍ وغيرهنّ مُحْتَاجاتٍ لهم – أيْ يقومون دائماً باستمرارٍ علي حمايتهنّ ورعايتهنّ وأمنهنّ وخدمتهنّ وإدارة شئونهنّ والإنفاق عليهنّ، بسبب ما لهم من قوّة تَحَمُّلٍ وصبرٍ، فهذه هي الدرجة التي لهم عليهنّ في قوله تعالي ".. وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.." ﴿البقرة:228﴾، وهي في مُقابِل الدرجة التي لهنّ عليهم في هذه الآية ".. بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.." حيث لم يَقُلْ سبحانه مثلا " بما فَضَّلهم عليهنّ"! وكذلك في الآية قبل السابقة "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ.."، وهما آيتان يُفْهَم منهما ضِمْنَاً أنَّ لهنَّ أيضا تفضيل علي الرجال بدرجة! وهي درجة العاطفة والحب والحنان تُقَدِّمه لأزواجهنّ ولأسرتهنّ بل وللكوْن كله، لِيُكْمِل أحدهما الآخر، ويَنْدَمِجَا، ولا يستطيع البُعْد عنه، إذ قد أصبح جزءاً منه، لينطلقا في الحياة بكل تَكَامُلٍ وقوّةٍ وهِمَّةٍ يستكشفانها ويسعدان بخيراتها، وتكون إدارتهما لحياتهما إدارة جماعِيَّة شُورِيَّة حِوَارِيَّة وُدِّيَّة تَرَاحُمِيَّة، فيكون لهما – ومع أبنائهما حين يُحْسِنون عَرْض آرائهم وأدِلّتهم – في كلِّ أمرٍ أكثر مِن رَأْي، فيأخذون بالرأي الذي يَغْلِب علي ظنّهم أنه مُناسب لهم ويَسيرون في تنفيذه، فإنْ كان صواباً فليحمدوا ربهم، وإنْ كان فيه عدم صوابٍ فليأخذوا بالرأي الذي بعده، ولْيُراجِعوا ذواتهم، ولْيُعالِجوا السلبيَّات ويأخذوا بالإيجابيَّات، وهكذا يسير كلٌّ من الرجل والزوجة والأبناء مُطْمَئِنَّاً بأنَّ هناك مَن يُصَوِّب له رأيه مِمَّن حوله ويُعاوِنه علي التنفيذ علي أكمل وأسعد وَجْهٍ مُمْكِنٍ، بعد الاستعانة بربهم ودوام التّواصُل معه وطَلَب رعايته وأمنه وحبه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده، فيَحْيَوْنَ حياة صائِبَة خَيْرِيَّة سَلِسَة سَهْلَة مُتَطَوِّرَة مُنْجِزَة سعيدة، ثم أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن أنَّ الرجال والنساء في الأصل متساوون﴾.. ".. وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.." أي وهم قَوَّامُون عليهنّ أيضا بسبب ما ألْزَمَهم به الله في الإسلام من السعي للكسب للإنفاق عليهنّ وتقديم مُهُورهنّ للزواج منهنّ لأنه يناسب قوة تَحَمُّلهم وهو ما لم يُلْزِمهن به نحوهم، وبالتالي فهم الأَنْسَب للقيام عليهنّ وليس مناسبا قطعا العكس أيْ أنْ يَكُنَّ هُنَّ مَن يَقُمْنَ علي الإنفاق عليهم وحمايتهم، فهذا سيكون مُخَالِفَاً لفطرة كلٍّ منهما مُتْعِسَاً بالتالي لهما فكلاهما لا يَرضاه ولا يُناسبه ولا يَتَحَمَّله.. ".. فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.." أيْ هذا بيانٌ لنَوْعَيّ النساء والزوجات عند القيام عليهنّ، فبعضهنّ صالحات وبعضهنّ غير صالحات.. أيْ فالصالحات منهنّ أيْ النافعات المستقيمات في خُلُقِهِنّ أيْ العاملات بأخلاق إسلامهنّ في كل شئون حياتهنّ مِن صفاتهنّ الطيّبة أنهنّ قانتاتٌ أي مُواظِبَاتٌ علي طاعة الله تعالي في كل ما طَلَبَه منهنّ في وَصَاياه في الإسلام باختيارهنّ وبرضاهنّ وبكلّ حبٍّ لربهنّ ولطاعته واطمئنانٍ به وسكونٍ له، وكذلك طائعاتٌ لأزواجهنّ، لأنَّ مِن طاعته سبحانه طاعة الزوج في غير معصية.. وأيضا من صفاتهنّ الحَسَنَة أنهنّ ".. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ.." أيْ حافظاتٌ صائناتٌ لغياب أزواجهنّ أو آبائهنّ ومَن يقومون علي رعايتهنّ لكل ما يجب حفظه وصيانته في غيابهم فَيَكُنّ أميناتٍ عليه من أعراضٍ وأموالٍ وأسرارٍ وغيرها، وبالأوْلَيَ في حضورهم.. إنهنّ يحفظنَ للبيوت كل ما يؤدّي لاستقرارها وسعادتها في غيابهم وحضورهم.. ".. بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.." أيْ بسبب ما حَفِظَ الله إيَّاهُنَّ من فِعْل السوء وعاونهنّ علي هذا الحِفْظ ووفقهنّ إليه وسَهَّله عليهنّ لأنهنّ صالحات، وبسبب ما حَفِظَ لهنّ من حقوقٍ علي أزواجهنّ حيث أوْصَاهم في الإسلام بالإحسان إليهنّ والإنفاق عليهنّ فعليهنّ في المُقابِل حِفْظ حقوقهم، وبسبب الشَّرْع الذي وَضَعه الله للحِفْظ من كلّ سوءٍ ولفِعْل كلّ خيرٍ وهو الإسلام أيْ بسبب ما حَفِظَ في الإسلام من وصايا بحِفْظ الغيب وأداء الأمانات إلي أزواجهنّ والجميع فحافظنَ عليها والْتَزَمْنَ بها فعاوَنَهُنَّ ووَفّقَهُنَّ.. ".. وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ.." أيْ هذا بيانٌ للصنف الثاني من الزوجات وهُنَّ غير الصالحات.. أيْ واللاتي تُوقِنون أيْ تَتَأكّدون بلا أيِّ شكّ تَرَفّعهنّ عليكم وعلي ما أَلْزمَهنّ به الله من واجباتِ الحياة الزوجية ويظهر هذا التّرَفّع والتّعَالِي في الأقوال والأفعال كسوءِ الألفاظ والمُعَامَلَة وعصيانكم بعدم طاعتكم فيما هو خير والامتناع عن أداء حقوقكم الواجبة لكم بلا عذرٍ مَقْبول وإظهار كراهيتكم وما شابه هذا.. ".. فَعِظُوهُنَّ.." أي فحين تَظهر منهنّ بَوَادِر وعلامات نشوزهنّ وتخافونَ استمراره فعليكم أن تُبَادِرُوا وتُسارِعوا بموعظتهنّ بتوقيتٍ وأسلوبٍ مناسبٍ بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ ولفتراتٍ تُقَدِّرونها حسب الحال والواقع حتي لا يَسْتَعْصِي الأمر لأنَّ العلاج في أوله يكون سهلاً ميسوراً قبل أن يُصبح مُزْمِنَاً صعباً، وكل زوج أعلم بما يناسب زوجته من موعظةٍ تحقّق أفضل استجابة، فقد تكون ترغيباً في اتّباع أخلاق الإسلام وسعادات ذلك في الداريْن أو تَرْهِيباً من تعاسات تركها فيهما أو جَمْعَاً بينهما.. هذا، ولو أحسنتم اتّخاذ أسباب السعادة الزوجية (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم الآيات ﴿187﴾، ﴿221﴾، ﴿226﴾، ﴿227﴾ منها أيضا، ثم الآية ﴿195﴾ من سورة آل عمران، لمعرفة بعض أسباب السعادة الزوجية﴾ فلن تَصِلُوا غالباً بإذن الله إلي مرحلة الخلاف، وإنْ وَصَلْتم فسيكون أمراً استثنائياً عارِضَاً ويسهل حَلّه بعلاج أسبابه بالحب والتفاهُم والتراحُم والتقارُب والتسامُح وتَنَازُل كل طرفٍ من جانبه خطوة أو اثنتين فيلتقيان في وسط الطريق علي ما هو مشترك بينهما فخير الأمور أوساطها وذلك بعد الاستعانة قطعا بالله تعالي وطَلَب عوْنه وتوفيقه.. فإنْ لم تَحدث استجابة وعودة الأمور لطبيعتها وأسعد بعد وَعْظِهنّ فتَدَرَّجُوا في العلاج إلي ما هو أعلي من الوَعْظ ".. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ.." أيْ وأعْطُوهُنَّ ظهوركم في أماكن النوم ولا تُجَامِعُوهُنّ، فذلك مِمَّا يُحَرِّك المشاعِر العاطفية بعقولهنّ ويعود بهنّ للخير، فإنْ لم تَحدث استجابة يَتِمّ النوم في مكانِ نومٍ آخر فإنْ لم تستجب تُتْرَك حجرة النوم إلى حجرة أخرى من غير كراهيةٍ ولا خصام، والأمر يختلف من زوجين لآخرين علي حسب درجة النشوز وبما يُحَقّق المصلحة والعودة للخير.. فإنْ لم تَحدث استجابة وعودة الأمور لطبيعتها وأسعد بعد وَعْظِهنَّ وهَجْرِهِنَّ في المضاجع وأصبحت الحياة الزوجية والأسرة مُهَدَّدَة بالانهيار بسبب هذا النشوز فحينها افعلوا ما هو أخَفّ الضرَرَيْن بأن تَتَدَرَّجُوا في العلاج إلي ما هو أشدّ ".. وَاضْرِبُوهُنَّ.." أيْ وعاقِبوهنّ عند نُشُوزِهِنّ بضربٍ خفيفٍ غير شديدٍ بما لا يُؤذي جسدياً بل بما يُفيق العقل وبما لا يكون مُهِينَاً كأن يكون في الوجه مثلا لعلهنّ يستيقظنَ ويَرْجِعْنَ للخير، فالضرب حينها يكون رمزاً لاستحقاق الضرب وليس بضربٍ يُطْلَق عليه ضرب! بل يكون دلالة فقط علي عدم الرضا عن نشوزها، لأنَّ المقصود منه الصلاح والتأديب لا غير ذلك كانتقامٍ أو نحوه.. ".. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.." أيْ فإنْ اسْتَجَبْنَ لكم وعُدْنَ إلي طاعتكم وتُبْنَ ورَجَعْنَ إلي الله والإسلام، في أيِّ سبيلٍ أيْ طريقٍ مِن هذه السُّبُلِ الثلاث السابق ذِكْرها، فلا تَبْغُوا أيْ لا تَطلبوا سبيلاً للتّعَدِّي عليهنَّ هي أشدّ منها أيْ لا تَنتقلوا لطريقٍ أشدٍّ لكي تَبْغُوا عليهنّ أيْ تَظلموهنّ وتنتقموا منهنّ وتَسْتَعْلُوا عليهنّ، بل اجعلوا ما كان منهنّ من نشوزٍ كأن لم يكن، فإنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له، واجتهدوا في استعادة أسباب الحياة الزوجية السعيدة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴿34﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان أعْلَيَ وأعظم وأكبر من أيّ شيءٍ، فهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلْك والسلطان والنفوذ كله، قد غَلَبَ كلّ شيءٍ وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم.. إنه كان كبيراً أيْ أكبر من كلّ شيءٍ ومن كل كبيرٍ قاهرا له كبير الذات والصفات.. والمقصود أنَّ الله العَلِيّ الكبير فوقكم وهو وَلِيّهنَّ وناصرهنَّ ووَلِيّ كل مظلومٍ وناصره وينتقم منكم إذا آذيتموهنّ أو بَغَيْتُم عليهنّ كما ينتقم من كلّ ظالمٍ بما يُناسب ظُلْمه في الدنيا قبل الآخرة نُصْرَة لكلّ مظلوم
ومعني "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿35﴾" أيْ وإنْ عَلِمتم يا أهل زوجيْن ويا مسلمون ويا مسئولون ويا صالحون خلافَ بينهما وخِفْتُم منه حُدُوث انشقاقٍ يُعَرِّضهما للانفصال ولانهيار الحياة الزوجية الأسريَّة حيث صار أحدهما في شِقّ والآخر في شِقّ آخر فلا تَلاَقِي بينهما ولا وِفاق فالحلّ في الإسلام حينها أن تُرْسِلوا حَكَمَيْن يحكمان بينهما حَكَمَاً من أهل الزوج وأقاربه أو مِن خارجهم مِمَّن يرتضيهم أيْ رجلاً صالحاً أميناً عادلاً عاقلاً مُؤَهَّلَاً للإصلاح ومَنْع الظالم من الظلم ذا خبرةٍ في مثل هذه الأمور وكذلك حَكَمَاً من أقارب الزوجة بحيث يكون له ذات الصفات لأنَّ الأقارب فى الغالب أعرف بدَوَاخِل الأحوال وأكثر حرصاً علي الإصلاح ويطمئنّ إليهم الطرفان أكثر من غيرهم وعلى الحَكَمَيْن فى هذه الحالة أنْ يجتهدا في تحقيق المصلحة بأنْ يستكشفا حقيقة الخلاف ويعرفا هل الإصلاح بينهما مُمْكِن أو أنَّ الفراق خيرٌ لهما.. ".. إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا.." أيْ إنْ يَرْغَبَا كُلّاً من الزوجيْن والحَكَمَيْن إصلاحاً بصِدْقٍ وبعزمٍ أكيدٍ، والله تعالي أعلم بدَوَاخِلِهم جميعا، يُوَفّق الله بين الزوجين بإلقاء التآلف والتفاهُم وانتزاع أسباب الخلاف بينهما، وكذلك يُوَفّق بين الحَكَمَيْن ويُسَهِّل مهمّتهما في الوصول إلى ما هو خير للزوجين من استكمالِ حياةٍ زوجيةٍ سعيدةٍ أو تفريقٍ بإحسان.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿35﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليماً خبيراً بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، عليماً بكلّ شيءٍ عن أحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس ودرجة تقواكم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، خبيراً بها بكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فاجتهدوا في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيكم بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿36﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿36﴾" أيْ وأطيعوا الله وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. ".. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.." أيْ وأحْسِنُوا بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ إلي الوالدين وإلي كلّ كبيرٍ وإلي أقاربكم واليتامي وهم الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ والمساكين أيْ المُحتاجين لكلّ أشكال العوْن والجار ذي القربي أيْ الجار صاحب القَرَابَة لكم أو القريب منكم في المكان والجار الجُنُب أي البعيد أو الأجنبيّ عنكم ليس من الأقارب والصاحب بالجَنْب أي من تكونون بصحبته وبجانبه سواء في سفر أو عمل أو علم أو غيره وابن السبيل أي الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال فيُحْسَن إليه حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه، وما ملكت أيْمَانكم أيْ ما تملكونه من عَبِيد – مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب – والإحسان كذلك يكون حتي مع الجَمَادات والدوابّ! برعايتها والاهتمام بها وصيانتها وعدم إهمالها والإساءة إليها والتي هي أيضا تُعَدّ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمان الناس أيْ أيديهم اليُمْنَيَ أيْ من ممتلكاتهم وهي من نِعَم الله عليهم والتي مِن شكرها الإحسان إليها.. إنَّ المسلمين لو فعلوا ذلك فلا بُدَّ أن يَقْوَيَ كل أفراد المجتمع وطوائفه ويزداد تَرَابُطهم ويَرْقون ويَسعدون في دنياهم ثم أخراهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿36﴾" أيْ إِنَّ اللَّهَ حتما يَكْرَه مَن كان مَغروراً مُعْجَباً بنفسه يظنّ مُتَوَهِّماً أنه كلّ شيءٍ ولا شيء غيره! فخوراً أي كثير الفخْر والتّباهِي والتّعَالِي علي الآخرين بما يمتلكه من قوَيَ صحية وعقلية ومالية وغيرها ولا يشكر الله عليها لأنه يَتَوَهَّم أنها بسبب جهوده هو وعلومه لا بتوفيقه وتيسيره سبحانه! ومَن يَكرهه الله فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منها في الدنيا والآخرة.. وكل هذه الصفات وما يُشبهها هي من أسباب المنازعات والمُشاحَنات والاختلافات بين الناس بما يُتعسهم في الداريْن ولو تَجَنَّبوها لَسَعِدوا تمام السعادة فيهما
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿37﴾ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴿38﴾ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ﴿39﴾ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن بخيلا، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معك من نِعَم الله عليك والتي لا تُحْصَيَ فلا تُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيرك أو حتي لك! أو تُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد تأمر غيرك بهذا من شدّة شَرِّك!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ عليك وعلي مَن حولك، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في كل إنفاقك وكل أقوالك وأفعالك لا تُريد سُمْعَة بين الناس ولا مَدْحَاً منهم ولا تَجَنّب ذَمّهم ولا غير ذلك بل تَطلب فقط ودائما وباستمرارٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياك أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراك حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿37﴾" أيْ ولا يُحِبّ حتماً كذلك الذين يَحرصون حِرْصَاً شديداً علي ما معهم مِن نِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنفقون منها شيئا مطلقا، لغيرهم أو حتي لأنفسهم! أو يُنفقون الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا يُعطون للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليهم نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل ويأمرون غيرهم بهذا من شدَّة شَرِّهم! ويُخفون ما أعطاهم الله من عطائه الزائد فلا يُظْهِروه ولا يَنفعوا أنفسهم وغيرهم به سواء أكان عطاءً مالياً أم فكرياً أم علمياً أم غيره.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿37﴾" أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالبخيل يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴿38﴾" أيْ هذا تنفيرٌ شديدٌ من الرياء لتَرْكِه والابتعاد عنه تماما.. أيْ والله تعالي حتماً لا يحب كذلك الذين ينفقون أموالهم فقط رئاءَ الناس أيْ رياءً للناس أي لِيُرُوُهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون بإنفاقهم رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله واليوم الآخر أصلا وبالتالي فهم ليس لهم أجر في الداريْن.. وفي هذا أشدّ التنفير لكل مؤمنٍ مِن الرياء وما شابه هذا حتي لا يَتَشَبَّه بمثل هؤلاء الكافرين الذين هذه من أبرز صفاتهم والذين لا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم.. فهذه كلها أعمال سَيِّئة تكون في ميزان السَّيِّئات فتَخْصِم من حَسَناتِ الإنفاق وقد تَفوقها فكأنَّ المُنْفِق لم يُنْفِق أصلا أو عَمِلَ شَرَّاً!!.. ".. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴿38﴾" أيْ وكل هذا السوء هو مِمَّا يدعو إليه الشيطان وبسبب استجابتهم له – والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل – وكلّ مَن يَكُن الشيطان قَرِينَاً له أيْ صاحباً ومُلازِمَاً فمَا أسوأ هذا المُقَارِن والمُصَاحِب والمُلازِم لأنه يدعوه إلى كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ له ولمَن حوله في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!﴾
ومعني "وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ﴿39﴾" أيْ وماذا علي هؤلاء الكافرين البُخَلاء المُرَائين ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن ضَرَرٍ لو أنهم آمنوا بالله أيْ صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بأخلاق الإسلام وصَدَّقوا باليوم الآخر وما فيه من حسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وأنفقوا مِمَّا رزقهم الله بلا بُخْلٍ وبإخلاصٍ وبإحسانٍ وليس برياءٍ – وهم يُنفقون مِن الذي أعطاه إيّاهم ولا ينفقون إلا بعض ما أعطى والأرزاق في الأصل أرزاقه فلا فضل لهم بالقطع عليه سبحانه – بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم؟!! إنه ليس عليهم أيّ ضَرَرٍ مُطلقاً بسبب ذلك بل لهم به حتماً كل الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم بَدَلاً مِمَّا هم فيه من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما بسبب كفرهم وبُخْلهم وريائهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ﴿39﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ بأمثال هؤلاء وبخَلْقه جميعا عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وعلي الشرّ شرَّا
ومعني "إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿40﴾" أيْ إنَّ الله الخالق الرحيم الكريم لا يُمكن أبداً أنْ يَظلم أحداً وَزْنَ ذرَّة، أيْ بأيّ ذرَّة ظلم، بأنْ يَنقص مثلا أيَّ شيءٍ من جزاء عمله مهما كان يسيراً أو يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو نحو هذا، أيْ مهما كان العمل في غاية القِلَّة من الخير أو الشرّ فسيأخذ فاعله ما يناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا.." أيْ وإنْ تكن الذرَّة التي عَمِلها العامِل حَسَنَة، فإنه سبحانه يزيدها ويكثرها لعامِلها أضعافاً كثيرة من عظيم كرمه ورحمته وحبه وإسعاده لخَلْقه، بينما لو كانت الذرَّة التي عملها العامل سيئة كان جزاؤها بقَدْرها بلا أيّ زيادة.. ".. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿40﴾" أيْ ويُعْطِ من عنده فوق ذلك وبدون مُقَابِلٍ لأعمالٍ حَسَنَةٍ عطاءً عظيماً لا يُوصَف في جناتٍ لا تُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿41﴾ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿41﴾" أيْ فكيف يكون حال الكافرين والعاصِين المُخَالِفين للإسلام الفاعِلين في دنياهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات إذا جاء الله يوم القيامة من كل أمةٍ بشهيدٍ أيْ بشاهدٍ أمينٍ عادلٍ ثِقَةٍ هو رسولها الذي أرسله إليها ليُعَلّمها الإسلام ليَشهد عليها أنه قد بَلّغها إيّاه وبَيّنه لها كاملا وليَشهد بما شاهده وحَضَره من أعمال أفرادها من إيمانٍ أو كفرٍ وخيرٍ أو شرٍّ، وجاء بك أيها الرسول الكريم محمد شهيداً على هؤلاء الذين بعثك إليهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور بالإسلام فكَذّبوك وشهيداً أيضا علي هؤلاء الرسل السابقين لك لتَشهد بالحقّ لهم أنهم قد بَلّغوا الإسلام بكل صدقٍ وأمانةٍ وتَمَامٍ ولم يُقَصِّروا فى نصيحة أقوامهم لعِلْمك بذلك من خلال ما أخبرناك به في القرآن العظيم، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد ﷺ الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، فكيف يكون حالهم وقتها؟! لا شكّ أنَّ حالهم ومصيرهم سيكون أسوأ وأتْعَسَ حالٍ ومصيرٍ بسبب سوئهم.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴿42﴾" أيْ يومها، يوم القيامة، يوم يَحْدُث ذلك، يَتمنّي الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وقد عَصَوا الرسول أيْ خالَفوه فلم يَتّبعوا الإسلام وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، وكذلك يَتَمَنّي الذين عصوا الرسول من المسلمين ففعلوا السوء، يَتمنّون حينها الخَلاَصَ نادِمَين أشدّ النَّدَم في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أن تُسَوَّيَ بهم الأرض حتي لا يُحاسَبوا ويُعذّبوا أيْ يجعلهم الله والأرض سواء أيْ يجعلهم تراباً مثلها أيْ يُدْفَنون فيها وتَتَسَوَّيَ وهي مُختلطة بهم وعليهم تَرْدِمهم وتَبتلعهم بداخلها كالموتي.. ".. وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴿42﴾" أيْ والحال والواقع أنهم مع شدّة رُعْبِهم هذا لا يستطيعون أن يُخْفوا عن الله كلاماً عن أيِّ شيءٍ مِمَّا قالوه أو فعلوه في دنياهم من سوءٍ بل يعترفون به كله – وهو سبحانه بالقطع أعلم به ولكن ليُقِرُّوا هم بأنفسهم لأنَّ الاعتراف سيد الأدِلّة – حيث سيَجعل أعضاءهم هي التي تَشهد عليهم بما كانوا يقولون ويفعلون من شرور، فالرعب قد يَجعلهم يُفَكّرون في الكذب لكنْ ما دام الذي قالَ أو فَعَلَ السوء كألسنتهم وأيديهم وأرجلهم قد اعترف فبالتالي إذَن ليس هناك أيّ أملٍ لهم في أيِّ كذبٍ أو إنكارٍ أو كتمانٍ للحقائق.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿43﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلاً بخُلُق التَّدَرُّج مع التدريب، بمعني أنه إذا كان فيك مثلا خُلُقٌ سَيّءٌ مَا، فإنْ استطعتَ الامتناع عنه تماما وفوراً، بقوة إرادة عقلك وبعدما ذُقْتَ أضراره وتعاساته في دنياك مع انتظارك لِمَا هو أشدّ في أخراك، وبعد الاستعانة بربك وسؤاله أن يوفّقك في تَرْكه، فهذا هو المطلوب، واحمده تعالي علي ذلك ليُثَبِّتك ويزيدك خيراً ولا تعود له.. أمّا إنْ لم تستطع ذلك، فاتركه بالتدريج، وتَدَرَّب علي زيادة قوة إرادة عقلك ببعض الأعمال التي تُقَوِّيها كالذكر والصيام ونحو ذلك، مع التواجُد وسط صُحْبَة صالحة لا يفعلون مثل هذا الخُلُق السَّيِّء فتحيا لفتراتٍ وسطهم دون فِعْله فتَتَدَرَّب علي تَرْكه، مع الانشغال بما هو نافع مفيد يشغلك عنه كرياضةٍ أو قراءةٍ أو عملٍ أو علمٍ أو ما شابه هذا، مع فِعْل خيرٍ كثيرٍ بحيث لا يَتبقّي لك وقت أو جهد لفِعْل هذا الخُلُق السَّيِّء.. بهذا التَّدَرُّج والتدريب يمكنك بإذن الله التّخَلّص نهائيا منه.. وكذلك الحال مع كل خُلُقٍ سَيِّءٍ آخر.. وبالتزامُن مع ذلك أيضا تجتهد كذلك في اكتساب كل أخلاق الإسلام الحسنة، بالتّدَرُّج والتدريب، وبالاستعانة بربك، وبتقوية إرادة عقلك، وبالتواجُد وسط صحبةٍ صالحةٍ متمسّكةٍ عامِلَةٍ بكل أخلاق الإسلام.. بذلك تحيا حياة سعيدة كلها خير وخالية من أيِّ شرٍّ وتنتظر مُستبشراً حياة الآخرة حيث السعادة الأعظم والأتمّ والأخلد.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تنبيه لهذا التّدَرُّج والتدرب، فلقد كانت خطوة من خطوات تحريم الخمر والامتناع عنها تدريجيا حيث كانت جزءاً أساسياً من حياتهم، فنَبَّههم سبحانه أولا أنَّ فيها أضراراً أكثر كثيراً من بعض منافعها بقوله تعالي "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.. " ﴿البقرة:219﴾، ثم ثانيا بالامتناع وقت الصلاة عنها حتي يمكن التركيز فيها بقوله ".. لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.." ﴿النساء:40﴾، ثم ثالثا بالانتهاء تماما عنها لأضرارها وتعاساتها المعروفة من ذهاب العقل والسَّفَه والمرض وغيره فقال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ﴿المائدة:90﴾.. كذلك ستَسعد في حياتك كثيراً إذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿43﴾" أيْ هذا تنبيهٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ للاهتمام بوسائل الاستعداد للصلاة قبلها حتي يتمَّ تمام الاستفادة منها والسعادة بها أثناءها وبعدها.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تقتربوا من الصلاة أبداً وإيّاكم أن تَدْخُلوا فيها وتَقوموا بأدائها وابتعدوا تماماً عنها وأنتم سُكَارَيَ، جَمْع سَكْران، أيْ سَكَرانِين بسبب خَمْرٍ أو غيره مِمَّا يُغَيِّب العقل إلي أن تفيقوا وتَتَدَبَّروا وتُدْركوا وتُمَيِّزوا بعقولكم ما تقولون أثناءها، وقد كان هذا قبل التحريم القاطِع للخمر وما شابهها في كل الأحوال سواء في الصلاة أو خارجها، حيث كانت هذه الآية الكريمة خطوة من خطوات تحريمها والامتناع عنها تدريجيا إذ كانت جزءا أساسيا من حياتهم، فنَبَّهَهم أولا أنَّ فيها أضراراً أكثر كثيراً من بعض منافعها بقوله تعالي "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.. " ﴿البقرة:219﴾، ثم ثانيا بالامتناع وقت الصلاة عنها حتي يُمكن التركيز فيها بقوله ".. لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.." ﴿النساء:40﴾، ثم ثالثا بالانتهاء تماما عنها لأضرارها وتعاساتها المعروفة من ذهاب العقل والسَّفَه والمرض وغيره فقال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ﴿المائدة:90﴾.. والمقصود التَّدَبُّر والتّعَقُّل في الصلاة وما يكون فيها من ذِكْرٍ ودعاءٍ واستغفارٍ وقراءةٍ للقرآن الكريم لتتحقّق منها الفوائد والسعادات الدنيوية والأخروية والتي من أجلها أوْصَيَ بها الإسلام.. ".. وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا.." أي وكذلك لا تَقْربوها في حالِ كنتم جُنُبَاً أيْ نَزَل منكم مَنِيٌّ أثناء نومكم أو بسبب جِمَاع الزوجة أو غيره، حتي تَسْتَحِمّوا بالماء والذي يُنَشِّط أجسامكم وأذْهَانكم من الخُمُول الذي يَحدث بعد نزول المَنِيّ، إلاّ إذا كنتم عابِرِي سبيلٍ أيْ مُسافرين ولم تَجدوا ماءً فتَيَمَّمُوا لكى تُؤَدّوها.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ.." أيْ وإنْ كنتم في حالِ مرضٍ لا تستطيعون معه استعمال الماء خوفاً من زيادته أو تأخّر الشفاء منه، أو في حالِ سفرٍ ويصعب عليكم الحصول علي الماء، أو جاء أحد منكم من الغائط وهو المكان المُعَدّ للتّبَوُّل والتّبَرُّز أو جامَعتم النساء، فلم تجدوا ماءً للطهارة فتَيَمَّموا أيْ فاقصدوا تراباً طاهراً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.. إنَّ في هذا الذي ذُكِرَ تربية لعقل المسلم علي الانضباط والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام النافعة المُسْعِدَة إضافة لتربيته علي يقظة الضمير ومراقبة خالِقه فلا يفعل إلا خيراً مُسْعِدَاً لأنَّ كل هذه المُلْحَقَات بالصلاة من وضوءٍ وتَيَمُّمٍ ونحوه لا رقيب لأحدٍ عليه فيها إذ من الممكن مثلا أن يصلي بغير وضوء!! فمَن يدري بذلك إلا ربّه ونفسه؟!.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿43﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو أيضا عن الذنوب، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العفو، وذلك لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، فهو الرحيم كثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً عند دعوة غير المسلمين للإسلام، فأحْسِن إليهم القول والعمل والقُدْوة كرسولنا الكريم ﷺ وأحْضِر لهم كلّ دليلٍ مناسبٍ ما استطعت بالحكمة والموعظة الحسنة لكن مع العلم بأنَّ بعضهم مُستكبرون علي الحقّ مُعانِدون له لثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وهم كارهون لك ولدينك الإسلام يتمنّون لو أبعدوك وأضلّوك عنه لتتبع تحريفاتهم وتخريفاتهم وتدخل تحت سيادتهم وسلطانهم ليَنْهَبوا جهودك وإمكاناتك رغم أنهم ليسوا مُتّحِدِين فيما بينهم بل كلٌّ يتبع ما يُحَقّق شَرَّه ورغم معرفتهم المؤَكّدَة أنَّ الإسلام هو الحقّ كمعرفتهم بأبنائهم لا يُخطئونهم.. فإيّاك إيّاك أن تنخدع بهم وتنزلق معهم وتترك شيئا من أخلاق إسلامك بعدما ذُقْتَ سعاداته وإلا تَعِسْتَ وشَقِيتَ وظلمتَ ذاتك ظلماً شديداً في الداريْن
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿44﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين يشترون الضلالة أيْ يبيعون الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ ويشترون بدلاً منه الضلالة أي الضياع! يدفعون الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! يبيعون الخير ويتركونه ويفرَّطون فيه ويشترون الشرّ ويأخذونه ويتمسّكون ويعملون به ويختارونه بكامل حرية إرادة عقولهم!! يبيعون ما يُوصلهم إلى المغفرة والرحمة من ربهم في دنياهم وأخراهم ليأخذوا فى مقابل ذلك العذاب فيهما!!.. يتركون السعادة التامَّة في الداريْن ويأخذون تمام التعاسة فيهما!!.. ".. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿44﴾" أيْ ولا يَكْتَفون بما هم فيه من ضلالة ولكنهم أيضا يتمنّون لكم أيها المسلمون أن تفقدوا الطريق ولا تهتدوا إليه أيْ أنْ تَنْحَرِفوا عن الطريق المستقيم لتكونوا ضالّين مثلهم، عن طريق الله، عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، تنحرفوا عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. إنهم يريدون بكل ما يستطيعون من وسائل أن يُضِلّوكم أيْ يُضيعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها.. وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها إذ هم لم يُؤْمَرُوا بذلك حتماً فى كتبهم بل هي تَمنعهم من هذا الخُلُق القَبِيح.. والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. كما أنه بنَشْرِهم للضلالة يَضمنون ألاّ يَنصحهم أحدٌ بخيرٍ إذ الكلّ ضالّ فاسد فيستمرّون بذلك علي ضلالهم بلا تَنْغِيص!.. وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد ﷺ والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية ﴿54﴾ من سورة آل عمران "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيراً للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴿45﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ والله قطعاً أعرفُ منكم أيها المسلمون بكل أعدائكم الحقيقيين وأخْبَرُ بدَوَاخِلهم منكم فهو يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله، ولذا أخبركم بصفاتهم لتَعرفوهم وتَجتنبوهم وتَحذروهم فتَنْجُوا من مَكْرِهم وتضليلهم وتُعِدُّوا لهم ما يُناسب الانتصار عليهم، وبالتالي فأنتم بالقطع مُنْتَصِرون علي أيِّ عدوّ لكم، كَبُرَ أم صَغُر، سواء أكان عدوا فكرياً أم اقتصادياً أم علمياً أم عسكرياً أم غيره، لأنه سبحانه هو الذي سيَكفيكم بولايته لأموركم وبنصره، ما دُمْتُم قد أحسنتم وأكملتم ما استطعتم من أسبابٍ مناسبةٍ لمقاومة هذا العدو وهزيمته.. "..وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴿45﴾" أيْ واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وليٍّ لأموركم أو نصيرٍ ومُعِينٍ آخر، ولا تطلبوا وَلِيَّاً أو نصيراً غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وَلِيَّاً ونصيرا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيَنصركم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُغَيِّر أو تُحَرِّف شيئاً من معاني وتفسيرات وتطبيقات آيات كتاب الله تعالي، وإذا حافظتَ علي أخلاق الإسلام وتمسَّكْتَ وعَملتَ بها كلها وطَبَّقْتها في كل شئون حياتك دون أيِّ زيادةٍ أو نقصانٍ أو حَذْفٍ أو تبديلٍ أو تحريفٍ أو تشويهٍ أو تَلَاعُبٍ أو غيره من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون ويُقَدِّرُون شرع الله الإسلام ورسوله الكريم ﷺ ، ثم كلَّ كبيرٍ وعالمٍ وأستاذٍ ومُرَبٍّ ودَاعٍ وصاحبِ فضل، فهذا من أهم الدوافع التي ستَدفعك للاستفادة مِمَّا عندهم من خبراتٍ وسعاداتٍ تَنفعك وتُسعدك في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿46﴾" أيْ من اليهود فريق يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة عن مواضعه التي وَضَعَه الله فيها أيْ عَمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.." أيْ ويقولون مُتَمَرِّدين مُعانِدين مُستكبرين مُسِيئين الأدب مع القرآن العظيم ومع مَن يدعوهم له كالرسول الكريم ﷺ في زَمَنِه وكالمسلمين مِن بَعْده في كلّ زمنٍ سمعنا ما فيه وعصينا أيْ وخالفناه أيْ خالفوا أخلاق الإسلام التي به وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.." أيْ ويزيدون في تَكذيبهم وتَمَرُّدهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وسوء أدبهم مع مَن يَدعوهم للإسلام قائلين له اسمع منّا أثَرَ دعوتك لنا ورَدِّنا عليها فأنت غير مُسْمَعٍ كلامُك فلا يُجَاب ولا يُقْبَل أي لن نَسمعه سماع قبول واستجابة ولا نَلْتَفِت إليه!! واسمع مِنّا فأنت غير مُسْمَعٍ إلاّ الشرّ أيْ لن تُسْمَع منّا غيره!! واسمع مِنّا قولنا ولا نَسْمَع منك قولك!! أو أحيانا يقولون واسمع منّا فأنت غير مُسْمَعٍ منّا مكروهاً بل خيراً كنوعٍ من النفاق للمسلمين إذا اضطروا لذلك في بعض الأحوال، أو أحيانا يريدون غير مُسْمَع كلاماً أصلاً بسبب صَمَمٍ أو موتٍ أيْ يَتمنّون فقدانه للسمع أو موته للتّخَلّص منه ومِن تأثيره.. ".. وَرَاعِنَا.." أيْ وكذلك من تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم وسوء أدبهم وقُبْحِهم أنهم كانوا يقولون للرسول الكريم ﷺ ويقولون لمَن يدعوهم للإسلام راعِنَا بمعني ارْعَانَا بكل خيرٍ والذي يحتمل لمَن يريد الإساءة معني آخر وهو راعِنَ أيْ يا أَرْعَنَ أيْ يا أَحْمَقَ وأهْوَجَ وسفيه وجاهل أو أصبحتَ راعِنَاً ﴿ويُحْذَف التنوين عند الوقف عليها فتُقال راعِنَ﴾ من الرّعُونة وهي الحُمْق والتَّهَوُّر والسَّفَه والجهل.. ".. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ.." أيْ يَنطقون بهذه الكلمة وما يُشبهها نُطْقاً مُلْتَوِيَاً مُنْحَرِفَاً ليُحَوِّلوها من جانب احتمالها للخير إلى جانب إحتمالها للشرّ من أجل الإساءة والتّطاوُل علي الرسول الكريم ﷺ والمسلمين وللطعن في الإسلام ذاته أيْ الذمّ فيه والاستهزاء به للتشويش علي الناس حتي لا يَتّبعوه حيث هو دين يُذَمّ ويُسْتَهْزَأ به!!.. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ.." أيْ هذا بيانٌ لِمَا كان يجب عليهم أن يقولوه ويفعلوه لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم.. أى ولو أنهم قالوا عند سماعهم لِمَا يدعوهم إليه الرسول ﷺ والمسلمون والذي هو كل الخير والسعادة لهم في الداريْن سَمِعْنا قولك سَمَاعَ قبولٍ واستجابةٍ وأطعنا أمرك باتّباع أخلاق الإسلام بَدَلَ قولهم سمعنا وعصينا، ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له ﷺ وللمسلمين واسْمَع مِنّا استجابتنا للإسلام وانظرنا أيْ انتظرنا وأمْهِلْنا وأعْطِنَا وقتنا حتى نَفهم ونَتَدَبَّر ونَسْتَوْعِب ما تريده مِنّا وانظر إلينا بعَيْن الخير وتَعَهَّدنا به بَدَلَ قولهم واسْمَع غير مُسْمَعٍ ولَيِّ ألسنتهم بقولِ راعِنَا وما يُشْبِه هذا مِن سوءٍ، لو أنهم فعلوا ذلك لَكَانَ قولهم وفِعْلهم هذا حتماً خيراً لهم وأعْدَلَ وأصْوَبَ وأكثر استقامة من أقوالهم السابقة السيئة حيث سينالون كل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة بَدَلاً عَمَّا هم فيه من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما.. ".. وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ.." أيْ ولكنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلَعَنَهم الله بسبب هذا أيْ طَرَدَهم وأبْعَدَهم من رحماته وإسعاداته في دنياهم وأخراهم.. ".. فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿46﴾" أيْ فبالتالي، فبسبب كفرهم هذا والذي أدَّيَ إلي لعنة الله عليهم وغضبه منهم وعدم توفيقه لهم بتيسير أسباب الهداية إليهم حيث لا يُيَسِّرها إلاّ لمَن يريدها هو بكامل حرية إرادة عقله، لا يؤمنون أمثال هؤلاء إلاّ قليلاً من الأحيان وإلا عدداً قليلاً منهم وهم الذين يَستيقظون ويُحسنون استخدام عقولهم ويستجيبون لنداء الفطرة بداخلها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿47﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُبَادِرَاً، أيْ مُسْرِعَاً مُعَجِّلاً سَبَّاقَاً، لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال تَمَسُّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿47﴾" أيْ يا أيها الذين أُعْطُوا الكتاب قبل القرآن أيْ عَقلوه وعَلموه وفَهموا تفاصيله كاليهود مثلا الذين أوتوا الكتاب الذي أُوُحِيَ للرسول الكريم موسي ﷺ وهو التوراة وكالنصاري الذين أوتوا الإنجيل الذي أوحي للرسول الكريم عيسي ﷺ ، آمنوا أيْ صَدِّقوا واعملوا بما نَزّلنا بعد كتابكم وهو القرآن العظيم الذي أنزلناه علي رسولنا الكريم محمد خاتم الرسل مُصَدِّقَاً لِمَا معكم من كتبكم أيْ مُوَافِقَاً ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مَصْدَرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يكفر أي يكذب به مِن حيث وجب أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يؤمن به لأنكم أصحاب كتابٍ وأهل علمٍ وأدْرَىَ الناس بأنه من عند الله وأكثرهم تأكّداً بأنَّ الرسول الذى نَزَلَ عليه هذا القرآن هو الصادق الأمين كما تُسَمُّونه فيما بينكم، فتكذيبكم له هو ضِمْنَاً تكذيب لمَا معكم ولن تكونوا مؤمنين إلا إذا آمنتم به وإن لم تؤمنوا فبالتالي ستنالون إثمكم وإثم مَن يتبعكم في هذا التكذيب لأنكم أول مَن كذّب به.. وفي ذلك حثّ وتشجيع لهم على الإيمان فهم أحقّ بذلك وأيضا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لنتائج عدم إيمانهم.. ".. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا.." أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن من عدم الإيمان وتأجيله حيث قد يَصْعُب مع مرور الوقت.. أيْ آمنوا بما نَزّلنا مُصَدِّقاً لِمَا معكم مِن قبل أنْ يُصيبكم الطمْس أيْ المَحْو لعقولكم التي في وجوهكم فترجع علي الخَلْف أي يُطْبَع عليها فلا تُمَيِّز بين الخير والشرّ وبالتالي لا تستطيع الإيمان وذلك بسبب طول تمسّكها بالتكذيب والاستكبار والعِناد وتَمادِيها فيه.. إنه تعالي يُحَذّرهم من أنهم بإصرارهم علي عدم الإيمان بلا أيِّ استجابةٍ وسَدِّهم الباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم للخير فمِن الغالِب أن يَصِلُوا إلي مَرْحَلة الطمْس أيْ الإخفاء والإزالة والطبْع علي عقولهم وعلي أسماعهم فكأنهم لا يعقلون ولا يسمعون شيئا وكأنَّ علي أبصارهم غِشاوَة أيْ غِشاء وغِطاء فكأنهم لا يَرَوْنَ شيئا، والمقصود أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، سَيَصِلُون غالباً لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لا يَبْقَيَ في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم حتي قد لا يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم إذا لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلن يَشَاءها الله لهم وسيتَركهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعِينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، فكأنه تعالي هو الذي طَمَسَ وخَتَمَ علي عقولهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، ومن معاني الطمْس أيضا أنه قد يكون حقيقياً حِسِّيَّاً مادِّيَّاً بأنْ يكون بنوعٍ من عذابٍ في مُقابِل شرورهم يُؤَدّي إلي أن يُخفي الله ويَمحو مَعَالِم وجوههم بمرضٍ أو حَرْقٍ أو غيره فيُردّها علي أدْبارها أيْ يُرْجِعها علي هيئة خَلْفِها من الأقْفاء فتَصِير كأقْفِيَتِها – جمع قَفَا وهو خَلْف الرَّقَبَة – لا تفاصيل واضحة فيها بل مَطْمُوسَة مُشَوَّهَة، فالله تعالي حتماً علي كل شيءٍ قدير.. ".. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ.." أيْ أو نَطْرد هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من رحمتنا وخيرنا وإسعادنا كعقابٍ لهم علي شرورهم كما طَرَدْنا أصحاب السبت ونجعلهم عِبْرَة لمَن أراد الاعتبار فلا يَفعل مِثْلهم فيَتعس كتعاستهم في الداريْن، وأصحاب السبت هم قومٌ من اليهود حَرَّمَ الله عليهم صيد السمك فى يوم السبت تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي ينطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، فكان هذا البعض يقوم بالتّحَايُل بأن يَنْصِبَ الشباك يومها ثم يَصيده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!! فأنزل الله عليهم عذابه في مُقابِل مُخَالَفاتهم فجَعلهم قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمته وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم.. إنهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان.. إنهم بإصرارهم علي ما هم فيه سيكون لهم حتما أحد العذابَيْن، إمّا الطمْس وإمّا اللّعْن.. ".. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿47﴾" أيْ تشريع الله وحُكْمه لابُدّ أن يكون مُتَّبَعَاً مَفْعُولاً مَعْمُولاً به عمليا في واقع حياة المسلم المتمسّك بكل أخلاق إسلامه، كما أنَّ أيّ أمرٍ يريد الله تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماما بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾" أيْ إنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يَعفو ولا يَتجاوَز عمَّن أشرك به غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَرَ به أيْ كذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وماتَ علي شِرْكِه أو كفره، وسبب عدم المغفرة أنَّ المشرك أو الكافر لا يطلب العفو منه تعالي أصلا لأنه يلجأ لغيره ولا يَعرفه!! كما أنه لو سَمَحَ سبحانه في الأرض بالشرك لَتَعَدَّدَت الآلهة ولَأَطَاعَ كلُّ أحدٍ إلهه بما يأمره به والذي هو غير أوامر الإله الآخر فيَتَنازَع البَشَر ويختلفون ويقتتلون ولا يتّفقون فيتعسون حتما!!.. ولكنه يَعفو ويَتجاوَز قطعاً عمَّا غير ذلك الكفر والشرك من الذنوب، لمَن يشاء.. أيْ إنَّ المُشْرِكَ والكافر ومَن يَتَشَبَّه بهما في أقوالِ وأفعالِ شِرْكِهِم وكُفْرِهم لا بُدَّ أن يتوب من إشراكه وكفره أيْ يَرْجع عنه إلي ربه خالِقه ومُرَبِّيه وراعِيه ورازقه حتي يغفر له، وهذا هو معني "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر : 53﴾ أيْ بما فيها الشرك والكفر لكن يُشْتَرَط أن يتوب المُشْرِك أو الكافر قبل موته لأنَّ الإسلام يَمحو ما قبله مهما كان، أمَّا بالنسبة للمؤمن أيْ المُصَدِّق بربه ورسله وكتبه وآخرته فإنه مهما فَعَل مِن شرورٍ حتي ولو كانت كبائر شديدة الضرَر فإنَّ الله تعالي يغفر له حتماً إذا تابَ وما دام لم يَصِل إلي مرحلة أن يُشْرِك به شيئاً بأن استغفر منها ونَدمَ وعَزَمَ بالعقل علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، أمَّا إذا لم يَتُب قبل موته، فأَمْرُهُ إلي الله تعالي إنْ شاءَ عاقَبَه علي قَدْر شروره بكلّ عدلٍ وإنْ شاء رحمه، ورحمته وَسِعَت كلّ شيء، وهي دائما تَسْبِق غضبه، وسَيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسيئاته، فيعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً إذا زادَت سيئاته عن حسناته مُقابِل مَصَائبَ مثلا أصيب بها أو بدعاء المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعَة الرسل والشهداء والصالحين أو حتي بغير شيءٍ فهو الغفور الرحيم الودود الكريم، ولكنْ سيكون في درجةٍ أقل قطعاً في الجنة عن مَن تابَ وفَعَل مِن الخير الكثير.. ".. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾" أيْ ومَن يشرك بالله فقد كَذِبَ كذباً وزَوَّرَ زُوُرَاً فيه ظلم وإفساد وضلال وكان ذلك كله إثماً عظيماً أي ذَنْبَاً هائلاً تَمَّ ارتكابه هو أعظم ذنبٍ في الوجود لا يستحقّ معه المغفرة وتُسْتَحْقَر غيره كل الآثام لأنه سَاوَيَ بين المَخلوق والخالِق وعَبَدَ مَن لا يَسْتَحِقّ العبادة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿49﴾ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُزَكّون أنفسهم بالخير لا بالشرّ بمعني تَرْقِيَتها وتنميتها بفِعْل كل خيرٍ وتَنْقيتها وتطهيرها بتَرْك كل شرّ، فإذا شِئْتَ أنت ذلك باختيار عقلك، وهذا حتماً سَهْل مَيْسُور لأنه مُبَرْمَج مَفْطُور أصلا علي هذا الخير ليسعد والنفور من الشرّ والبُعْد عنه لأضراره وتعاساته، شاءَ بالتأكيد لك الله ذلك وأعانك عليه ووفّقك وسَدَّدَ خُطاك وأحبك ورضي عنك وقوَّاك ورزقك ونصرك وأسعدك في دنياك وأخراك لأنه تعالي يحب ذلك ويَحثّ خَلْقَه عليه ليسعدوا في الداريْن وقد وَعَدَ به ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً حيث قال "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" ﴿محمد:17﴾
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿49﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين يُزَكّون أنفسهم أيْ يَصِفُونها بالأفعال الحسنة ويَمدحونها مَدْحَاً كثيراً مَغرورين مُعْجَبين بها يظنّون مُتَوَهِّمين أنها كلّ شيءٍ ولا شيء غيرها مُتَفَاخِرين مُتَعَالِين مُتَرَفّعِين علي الآخرين بما لديهم أو أحيانا وليس لديهم شيء أو يكون شيئاً وَهْمِيَّاً مَكْذُوبَاً مع أنهم لا يَسْتَحِقّون إلا الذمّ بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم وعدم شكرهم لِنِعَمِه تعالي عليهم لأنهم يَتَوَهَّمون أنها بسبب جهودهم هم وعلومهم لا بتوفيقه وتيسيره سبحانه!.. إنَّ الإسلام يمنع مثل هذا النوع من التزكية للنفس أو للغير لأضراره وتعاساته في الداريْن علي النفس والغير حيث يُثير الأحقاد بين الجميع وقد يُوقِع في ذنوب نِسْيان نِعَم الله والكذب والنفاق والرِّياء أي لِيَرَيَ الناس أعمال الخير فيَطلب فاعلوها منهم مَدْحَاً أو سُمْعَة أو مَكَانَة أو نحو هذا ولا يَطلبون ثواب الله في الداريْن بعملهم فيتعسون بالتالي فيهما، ولكنه يطلب من المسلم أن يكون من الذين يُزَكّون أنفسهم بالخير لا بالشرّ بمعني تَرْقِيَتها وتنميتها بفِعْل كل خيرٍ وتَنْقيتها وتطهيرها بتَرْك كل شرّ.. هذا، وإذا كان ذِكْر الأعمال الصالحة ليس علي سبيل التَّعالِي والتَّفاخُر والإعجاب بالنفس والمَدْح الكاذب لها وللغير وما شابه هذا بل علي سبيل شكر الله تعالي ونشر الخير وتشجيع الفاعل علي المزيد منه فهذا لا ضَرَر فيه بل هو مطلوب وله ثوابه لأنه يَنْفَع ويُسْعِد في الدنيا والآخرة.. ".. بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.." أيْ لا اعتبار بتَزْكِيَة أحدٍ لنفسه أو مِن غيره أيْ شهادته لها بالمَكَانَة ولكنَّ الاعتبار الحقيقيّ والمَرْجِع في ذلك هو تَزْكِيَة الله تعالي له إذا كان مُسْتَحِقّاً لهذه التزكية والتي ستَظْهَر في تَرْقيته وعطائه بما لا يُوصَف من كل مَكَانَةٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه فهذه هي التزكية والشهادة الحقيقية لأنه وحده سبحانه الذي يعلم بتمام العلم حقيقة أعمال خَلْقِه من خيرٍ أو شرٍّ ونواياهم داخل عقولهم أثناءها، فهو أعلم بالجميع أكثر من أنفسهم ولا يَخْفَيَ عليه منهم أيَّ شيء، فلا مَجَالَ إذَن لتزكية النفس أو القطع بتزكية الآخرين ولكن لِيُتْرَك أمر التقييم هذا لله وليَحْرِص كل فرد علي دوام الاستزادة بكل هِمَّة من كل خير وتَرْك كل شرٍّ ولا يَكْتَفِي بعمله الذي عمله ويَغْتَرّ به فيتكاسَل أو يُقَصِّر.. هذا، وفي حالة مَدْح الآخرين لتشجيعهم علي مزيدٍ من فِعْلهم للخير علّمنا الإسلام أن نقول مع المَدْح الصادق: ولا نُزَكِّي على الله أحداً، أيْ لا نَتَدَخَّل في هذه التزكية ولكنها مَتْروكَة لله تعالى لأنه هو الذي يُزكِّي أيْ يُطَهِّر ويَزيد مَن اجتهد ويَرْفع قَدْره في الداريْن لأنه هو وحده الأعلم بحقيقة الجميع وصِدْقهم أو كذبهم في تَقْوَاهم.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه تعالي بفضله ورحمته علي البَشَر مِن خلال قرآنه العظيم الهادي المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن هو وحده الذي يُزَكّيهم بأخلاق الإسلام التي فيه أيْ يُطَهِّرهم مِن كل سوءٍ ويَرْقَيَ ويَنمو ويَسْمُو بهم في الأفكار والأخلاق والمعاملات، وبالتالي فمَن يشاء منهم التّزَكِّي، بصِدْق، يشاؤه الله له، أيْ يُيَسِّر له أسبابه ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ مَن يختار التّزْكِيَة بكامل حرية إرادة عقله يَسْتَحِقّ مُعاونته عليها منه سبحانه ليسعد في دنياه وأخراه، ومَن لم يَخترها – أيضا بكامل حرية إرادة عقله لأنه عَطّله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره – فلا يَسْتَحِقّ العَوْن.. ".. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿49﴾" أيْ ولا يُنْقَصُون أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخيرية أو الشَّرِّيَّة مهما كان ضئيلاً ولو بمِقْدار فتيلٍ أيْ خيطٍ رفيع.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم فَتِيلاً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿50﴾" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف يَخْتَلِق المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن كذباً ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، مِن بعد الظهور للحقّ بالأدِلّة القاطِعَة، كمَن يَدّعون مثلا كذباً وزُوُرَاً وتخريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليهم! أو أتَوا بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو أنَّ شيئا حلالا وهو حرام أو أنه حرام وهو حلال، أو يُغَيِّرون في تفسيرات ومعاني الآيات ليُبْعِدوا الناس عن أخلاق إسلامهم، أو يُزَكّون أنفسهم مع كفرهم وعِنادهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات والتي تَجعلهم مُؤَهَّلِين للذمّ والعقاب في الداريْن لا للمَدْح والعطاء فيهما، أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخريفات.. ".. وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿50﴾" أيْ ويكفي بذلك شَرَّاً واضِحَاً لا يَخفَيَ سُوؤه علي أحد، ومُبَيِّنَاً أي مُوَضِّحَاً لحَتْمِيَّة تعاسة الدنيا وكآبتها ثم لِمَا هو أشدّ وأتْعَس في الآخرة بسببه
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴿51﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴿52﴾ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴿53﴾ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴿54﴾ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴿55﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿56﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿57﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا لم تكن بَخِيلاً.. وإذا لم تكن حَسُودَاً
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴿51﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين أُعْطُوا جزءاً وبعضاً من الكتاب، وهم اليهود والنصاري – ومَن يَتَشَبَّه بهم مِمَّن يعرفون قليلا عن القرآن العظيم أو يعرفونه ألفاظا فقط دون تَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه – حيث حَرَّفوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل ولم يَتَبَقَّ لهم إلا الجزء القليل الصحيح من الإسلام الذي فيهما، حين يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بالجِبْتِ ويُقِرُّون ويَعترفون بصِحَّة عبادته وهو الرديء من كل شيءٍ الذي لا خير فيه ووَصَلَ الغاية في الشرّ والفساد سواء في الأفكار أو المعبودات أو الأقوال والتَّصَرُّفات وكذلك يؤمنون بالطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا مما يُؤَدِّي إلي البُعْد عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴿51﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سوئهم الذي يدعو إلى مزيدٍ من التّعَجُّب من أحوالهم والتحقير من شأنهم.. إنهم يَقْلِبون الحقائق فيقولون ظلماً وزُورَاً عن الضّالِّ مُهتدي وعن الظالم عادل وعن الفاسد صالح!! .. إنهم يقولون للذين كفروا: هؤلاء الكافرون أقْومُ وأعدلُ طريقاً وأكثر هداية ووصولاً للخير والحقّ والصواب من أولئك الذين آمنوا الذين طريقهم ليس هو طريق الهداية والرشاد؟! يقولون ذلك فيهم وبينهم لأجل نفاقهم لتحقيق مصالح فيما بينهم وكُرْهَاً شديداً للإسلام
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴿52﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم الذين طردهم وأبعدهم الله من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم.. ".. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴿52﴾" أيْ ومَن يَطرده ويُبْعِده الله من رحمته وخَيْره فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ له يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهده ويُتابعه نصيراً يَنصره ويُعِزّه ويَرْفعه وسيَنْهَزِم في الدنيا وإذا نَزَلَ به عقابٌ مَا فيها ثم في الآخرة لن يَجد له من الله أيّ نصير ينصره بأن يُدافع عنه أو ينقذه أو يُخَفّف عنه شيئاً منه.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تعسوا فيهما
ومعني "أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴿53﴾" أيْ هذا بَيَانٌ لشدّة البُخْل وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم.. أيْ هل لهؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم جزء من المُلك، مِن مُلْك الله تعالي؟! هل لهم مُلْك الدنيا علي سبيل الفرض والذي هو جزءٌ مِن مُلْكِه سبحانه مَالِك المُلْك والكوْن كله؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، أيْ أنهم ليس لهم نصيبٌ من المُلْك ولو فُرِضَ وكان لهم المُلْك الكامل للدنيا فإنهم إذَن مِن شدّة بُخْلِهم لا يُعطون الناس أيَّ شيءٍ حتي ولو كان قليلا تافِهَاً مثل النُّقْرَة أيْ الحُفْرَة الضئيلة التي يَنْقرها منْقار الطائر أو أقل!! رغم أنهم مهما أعطوهم من مُلْكها الهائل هذا الذي يَصعب حَصْره فلن يُؤَثّر فيه!! فما الحال وهم لا يَملكون منها إلا القليل أصلا فبالتالي لا يُنْتَظَر منهم أن يُعطوا أحداً شيئا!!.. إنَّ الآية الكريمة تُرْشِد المسلم ألاّ يكون أبداً بخيلاً، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معه من نِعَم الله عليه والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيره أو حتي لنفسه! أو يُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد يَأمر غيره بهذا من شدّة بُخْله وشَرِّه!!.. إنَّ البُخْل شَرٌّ علي البخيل وعلي مَن حوله، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم.. بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن
ومعني "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴿54﴾" أيْ هذا بيانٌ أنهم لم يكتفوا بما سَبَقَ ذِكْره من صفاتٍ سَيِّئةٍ بل أضافوا لها صفة قبيحة أخري وهي الحَسَد.. أيْ هل يحسدون الناس والمقصود المسلمين علي ما أعطاهم الله من فضله ورحمته وحبه لخَلْقه وهو القرآن العظيم وما فيه من أخلاق الإسلام التي تسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟!.. إضافة إلي حَسَدهم لعموم الناس أيْ لكلّ مَن أعطاه الله أيّ نوعٍ من أنواع الخير حيث هم لشدّة شَرِّهم لا يُحبّون خيراً لأحدٍ من الناس!.. والحَسَد هو تَمَنّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات وانتصارات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات وانهزامات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم، وذلك بعدما ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد ﷺ والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴿54﴾" أيْ ولماذا يَحسدون المسلمين ويَستكثرون عليهم ما هم فيه من إسلامٍ يُحْيِيهم في كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ من أفضالنا ورحماتنا عليهم وهي أمور ليست جديدة غريبة؟! حيث هم يعلمون جيدا من خلال كتبهم أننا أيضا بفضلنا قد أعطينا سابقا ذُرِّيَّة إبراهيم كإسحق ويعقوب وموسي وغيرهم الكتب التي أوحيناها إليهم وفيها الإسلام الذي يُسعدهم بما يُناسب زمنهم كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل وغيرها، وأعطيناهم كذلك الحِكْمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتهم أيْ طريقتهم في كلّ أقوالهم وتصرّفاتهم والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه، وأيضا أعطيناهم مُلْكَاً عظيماً أىْ سلطاناً واسعاً فى الأرض كداود وسليمان وغيرهما ينتفعون ويسعدون به في إطار أخلاق الإسلام.. فالمشكلة إذَن فيهم، في حَسَدِهم وعِنادهم وتكذيبهم، ولو أسلموا لنَالُوا حتماً مثل الخير الذي فيه المسلمون!!.. إنَّ حسدهم لن ينفعهم ويُحَقّق لهم ما يريدون من زوال الإسلام كما لم ينفع الحاسدين السابقين حيث سيَنتشر رَغْمَاً عنهم كما انتشر سابقا.. وفي هذا ذمٌّ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴿55﴾" أيْ فمِن أهل الكتاب مَن صَدَّق بالقرآن العظيم وبمحمدٍ ﷺ مثل المسلمين، وكذلك مِن الناس في زمن إبراهيم ﷺ وكلّ رسول مِن بعده مَن صَدَّق به وبكتابه، فأسْلَمَ وعمل بأخلاق الإسلام فسَعِدَ في الداريْن، ومنهم مَن امتنعَ عنه، عن الإيمان به، فتَعِسَ فيهما، حيث كَذّب وعانَد واستكبر واستهزأ ورَاوَغ وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، ومَنَع غيره قَدْر استطاعته بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. وفي هذا تسلية وطمأنة للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين أنَّ هناك مَن يؤمن وهناك مَن يَمتنع بسبب تعطيله لعقله وما عليهم إلا أن يُحسنوا دعوة غيرهم للإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة.. ".. وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴿55﴾" أيْ وكفى بجهنم تكون ناراً مُسَعَّرَة أىْ مُشْتَعِلَة اشتعالاً شديداً لا تُوصَف ولا تُحْتَمَل يُعذّب بها أمثال هؤلاء بسبب صُدُودهم وشرورهم، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمَصير الذي يَصِيرون إليه، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعالهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿56﴾" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ".. بِآَيَاتِنَا.." أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا.." أي هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم سوف نَحْرِقهم ونَشْوِي أجسادهم يوم القيامة بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّبون بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. ".. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ.." أيْ كلّما شُوِيَت تماماً جلودهم ووَصَلَت مرحلة النُّضْج في الشَّوْي أيْ أقصاها وتَهَتّكَت وتَآكَلَت وانتهت وفَقَدَت إحساسها غَيَّرنا وخَلَقْنا لهم فوراً جلوداً أخري غيرها بَدَلاً منها ليَستمرّ ألمهم وعذابهم وليحِسُّوا به فى كل مرةٍ كما يحِسّ الذائق للشيء الذى يَذوقه.. وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿56﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مَالِك المُلْك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين، وكان حكيماً دائماً في كل تدبيره وتَصَرُّفه حيث يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿57﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُكَذّبين الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتماً سنُدخلهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ.." أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ لا يُمكن وَصْفه، لهم في الجنة كذلك مُتعة وسعادة الحياة الزوجية بكل ما فيها من مُتَع الحب والعاطفة والألفة والأمن والجنس ونحو هذا بلا أيِّ مشكلاتٍ مثلما كان أحيانا في الدنيا حيث أهل الجنة جمعيهم من الرجال والنساء في حالة طهارةٍ تامّةٍ أيْ نظافة من كل أشكال السوء المَعْنَوِيّ كسوء الخُلُق بكل صوره والحِسِّي كالبول والعرق وغيره، فهم في أجمل وأكمل وأسعد صورة.. هذا، والأزواج جَمْع زوج ذكراً كان أو أنثى فهي كلمة تُطلق على المرأة المتزوجة كما تطلق على الرجل المتزوج ولذا فهذا النعيم هو لهما معا أيْ تكون المرأة مُتعة زوجها ويكون هو متعتها.. ".. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿57﴾" أيْ هذا تأكيد لجمال الظلّ وفَخَامته وجَوْدَته، أيْ ظِلّاً مُمْتَدَّاً كثيراً دائماً لا يَنقطع مُتَعَدِّد الطبقات عميقاً ساتِرَاً لا يَتَخَلّله ما يُؤذي طيّباً جميلاً مُعْتَدِلاً لا حَرّ فيه ولا بَرْد، أيْ ونُدْخلهم في حالٍ من التّمَتّع والنعيم حيث النسيم الطيّب لظلالٍ مُتَّسِعَة مُنْبَسِطَة دائمة لا تَنْكَمِش ولا تَتَغَيَّر ولا تذهب ولا تَنْقطع ولا تزول كظلال الدنيا، وهي تحمل نسائم مُمْتِعَة، وهي حاصِلَة من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها وثمارها بمناظرها المُسْعِدَة المُبْهِجَة، بما يُفيد تمام التّمَتُّع بالراحة والاسترخاء وكمال التكريم والتشريف والرعاية والحب والرحمة
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً، تُؤَدِّي الأمانات إلي أصحابها، صَغُرَت أم كَبُرَت، سواء أكانت مالاً أم شيئاً عَيْنِيَّاً أم معنوياً ككلمةِ حقّ وشهادتها أم أداء نصيحةٍ وفكرٍ سليمٍ أم عملٍ وعلمٍ مُتْقَنٍ أم ما شابه هذا من أنواع الأمانات.. وإذا كنتَ عادلا تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه.. إنه بانتشار الأمانة وحفظ الحقوق ينتشر العدل والأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة والمَعنويَّة يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿58﴾" أيْ إنَّ الله يُوجِب ويُؤَكّد عليكم أيها المسلمون ويُوصِيكم بشدّة أيها الناس عموماً فلا تُخَالِفوا حتي لا تُعَاقَبوا وتتعسوا في الداريْن بل تسعدوا فيهما، يأمركم أن تُوَصِّلوا وتُسَلّموا كل ما ائْتُمِنْتُم عليه من أماناتٍ من الله أو الناس إلي أصحابها بكل عدلٍ بلا أيِّ تفريطٍ أو نُقْصانٍ أو تحريفٍ أو تَلاعُبٍ أو مُرَاوَغَة أو غير ذلك.. إنَّ عليكم أنْ تَحفظوها دائماً وتماماً ولا تَخونوها وتَرُدُّوا كلّ مَا تمَّ الائتمان عليه عندكم سواء أكان مالا أم شيئا عَيْنِيَّاً أم أسراراً قولية أم عِلْمَاً أم عَمَلاً أم ما شابه هذا، وأعظم هذه الأمانات التي عليكم أنْ تُراعوها وأوّلها وأهمّها حفظ أمانة الله ورسوله ﷺ وهي الإسلام من خلال التمسّك والعمل به والدعوة له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، ثم راعوا ولا تَنْقضوا أبداً عهودكم وعقودكم ومواثيقكم ومعاهداتكم ووعودكم ومواعيدكم ونحو هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالعمل بكل أخلاق إسلامكم ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فبانتشار رعاية الأمانات وهذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس علي أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. ".. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.." أيْ ويأمركم كذلك إذا فَصَلْتُم وقَضَيْتُم بين الناس عموما صغيرهم أم كبيرهم فقيرهم أم غَنِيِّهم ضعيفهم أم قَوِيِّهم نسائهم أم رجالهم بعيدهم أم قريبهم مَرْؤُوسِيهم أم رؤسائهم مسلميهم أم غير مسلميهم – حتي حقّ الحيوان والنبات والجَمَاد وكل مخلوقٍ يُعْطَيَ له – في أيِّ أمرٍ أو تنازُعٍ مهما صَغُر أو قضيةٍ صَغُرَت أم كَبُرَت أنْ تَفْصِلُوا وتَقْضُوا بينهم بكلّ عدلٍ وحقّ وصِدْقٍ بلا أيّ ظلم، لأنه بانتشار المَظَالم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفَزَع والخِلاف والاقتتال بين الناس فيَتعسون حتماً في الداريْن، بينما بالعدل وأخْذ كلّ صاحب حقّ حقّه يَطْمَئِنّون ويَسعدون فيهما.. ".. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ.." أيْ إنَّ الله نِعْمَ مَا يُذَكّركم به من مَوْعِظَات وتَذْكِرَات وواجبات وتشريعات وأوامر ونَوَاهِي ووَصَايا ونصائح في إسلامكم، أيْ ما أحْسَنها وأطْيَبها وأجملها وأفضلها وأعظمها وأنفعها، لأنَّ فيها كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته.. وفي ذلك تشجيعٌ علي العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿58﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيراً أي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿59﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي استجيبوا ونَفِّذوا ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.." أي وأطيعوا كذلك المُتَوَلّين لأموركم وشئونكم مِن بينكم المسئولين عنكم في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة ما داموا يُطيعون الله ورسوله فلم يَأمروكم بما يُخَالِف أخلاق الإسلام فإنْ أمروكم بأيِّ شيءٍ يُخَالِفه فلا تُطيعوهم فيه.. ".. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.." أيْ فإن اختلفتم في أمرٍ من الأمور فارْجِعوه إلي كتاب الله وسُنَّة الرسول ﷺ ، ارجعوه إلي الإسلام واعْرِضُوه عليه، فهذا وحده لا غيره هو المَرْجِع الذي تَرْجِعُون إليه وتَقِيسُون عليه والإطار الذي لا تَخْرُجون عنه.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ بالله واليوم الآخر كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم متأكّدين بلا أيّ شكّ من الحساب يوم القيامة وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، فالإيمان يُوجِب ويَعنِي فِعْلَ هذا.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله واليوم الآخر فإنه حتماً سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان والحساب والعقاب والجنة والنار مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة حيث الإيمان الحقّ يَتَطَلّب ذلك.. ".. ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿59﴾" أيْ ذلك الرَّدّ لله والرسول الذي ذَكَرْنَاه لكم ونُوصِيكم به إنْ فَعَلْتموه فسيكون لكم حتماً تمام كلّ خيرٍ وسعادةٍ وأجمل وأطيب وأفضل تأويلاً أيْ مَآلاً أيْ نتيجة ونهاية في دنياكم وأخراكم لأنه سيَمنع قطعاً أيَّ تَنازُعٍ بينكم وسيُرْشدكم لكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تماما فيهما
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿60﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴿61﴾ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴿62﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿63﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿60﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أي لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن المنافقين الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرّ الذين يَزْعمون أيْ يَدَّعُون كذباً وزوراً أنهم صَدَّقوا وعملوا بما أُنْزِلَ إليك يا رسولنا الكريم وهو القرآن العظيم وما أُنْزِلَ من كُتُبٍ قبلك أوحيناها إلي الرسل السابقين لك وهم مع هذا في ذات الوقت يَتركون الحُكْم به والرجوع إليه واتّباعه ويُريدون بكل محبةٍ وإقبالٍ واقتناعٍ واستجابةٍ أن يتحاكموا أيْ يجعلوا الحُكْم والتّصَرُّف والقرار في كل شئون حياتهم وكيفية تسيير أنظمتها وأساليبها وشئونها وعند الخلاف فيها مَرْجِعه إلي الطاغوت وهو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا مِمَّا يُؤَدِّي إلي البُعْد عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام إلي ظلمات وتعاسات الكفر وغيره من السيئات.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. إنه تعالي يَكْشِف للمسلمين أحوال أمثال هؤلاء المنافقين لكي يَحذروهم ويُعاملوهم بما يُناسب.. ".. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التّعَجُّب من سوء حالهم والتقبيح له والتحقير لشأنهم حيث هم يفعلون هذا رغم أنهم يعلمون أنَّ الله تعالي قد أمرهم وجميع الناس في القرآن العظيم وفيما أنزل مِن قَبْل في كل الكتب أنْ لا يُصَدِّقوا ويُكَذّبوا بهذا الطاغوت ولا يَتّبعوه ويَتّبعوا الإسلام ويكون مَرْجِعهم ليسعدوا في الداريْن، وبالتالي فهم عن عَمْدٍ لا جَهْلٍ مُخَالِفون مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون مُستهزؤن مُرَاوِغُون يستحقّون العقاب بما يُناسب فيهما.. ".. وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿60﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التّعَجُّب من سوء حالهم والتقبيح له والتحقير لشأنهم.. أيْ يُريدون أنْ يَتَحَاكَموا إلي الطاغوت والذي من ضِمْن معانيه أنه الشيطان – ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يَخطر بالعقل – رغم أنَّ الشيطان يريد أنْ يُضِلّهم ضلالاً بعيداً أيْ يُضَيِّعَهم ضَيَاعَاً كبيراً بأنْ يُبْعِدهم عن طريق الحقّ والخير والسعادة الذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، ولا يُريدون أن يَتّبِعوا الله والرسول والقرآن والإسلام رغم أنه يريد أنْ يُسعدهم إسعاداً عظيماً تامّاً في الداريْن!! إنَّ هذا هو أعْجَب العَجَب!! أنْ يَتّبِعوا مَن يريد إضلالهم وسيكون حتماً سَبَبَاً فيه ولا يَتّبعوا مَن يريد إسعادهم سعادة حَتْمِيَّة!!.. إنَّ أيَّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ من المُفْتَرَض أن يُحْسِن الاختيار باتِّباع الطريق الذي سيُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه وهو طريق الله والإسلام وأنْ يَبتعد تماماً عن الطريق الذي سيُتْعِسه فيهما وهو طريق الشيطان
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴿61﴾" أيْ هذا بيانٌ لعَلاَمَةٍ هامّةٍ من علامات المنافقين يَكْشِفها الله تعالي للمسلمين لكي يَحذروهم ويُعاملوهم بما يُناسب.. أيْ وحينما يقول المسلمون ناصِحين لهؤلاء المنافقين الذين يَزْعمون أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليك وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِك والذين يُريدون أن يَتَحاكَموا إلي الطاغوت والذين يتّبعون خطوات الشيطان فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، أقْبِلُوا علي ما أَنْزَلَ الله أيْ اتّبعوا القرآن العظيم والإسلام واعملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، رأيتَ أيها الناظِر إليهم وقتها هؤلاء الذين يُنافقون يَمتنعون ويُعرِضُون عنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم امتناعاً وإعراضاً شديداً تامَّاً – بل ويَمنعون غيرهم أيضا بما استطاعوا – أيْ يُعطون ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبتعدون عنك ويتركونك ويهملونك بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء، بما يَدلّ علي شدّة بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم وإصرارهم التامّ علي ما هم فيه وأنهم كاذبون فيما يَدَّعُونه ويُظْهِرونه أنهم يؤمنون بما أُنْزِل إليك حيث يُخْفُون كلّ شَرّ
ومعني "فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴿62﴾" أيْ هذا مَظْهَرٌ آخرٌ من مَظَاهِر نفاقهم وهو ما يكون منهم من أقوالٍ وأفعالٍ عند حدوث المصائب.. أيْ فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم مُصيبة أيْ مَضَرَّةٌ مَا تَضَرُّهم في شأنٍ من شئون حياتهم تُظْهِر نفاقهم وأنهم يَتَحَاكَمون إلي الطاغوت لا إلي الإسلام؟! بسبب ما قدَّمته أيديهم أيْ بسبب أفعالهم السيئة، وهذا هو قانون الحياة الإلهيّ العادِل أنه مَن زَرَعَ خيراً حَصَدَ خيراً ومَن زرَع شرَّاً فلن يَحصد بالقطع إلاّ كلّ شرّ كما نبَّهنا تعالي لذلك بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، سواء أكان هذا العذاب قَلَقَاً أم توتّراً أم ضيقاً أم صراعاً أم اقتتالا مع الآخرين.. ".. ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴿62﴾" أيْ ثم يَحضرون إليك عند نزول المُصيبة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُعْتَذِرِين عَمَّا حَدَثَ منهم من الاحتكام إلي الطاغوت حَالِفِين بالله كذباً وزُوُرَاً أننا ما أردنا بالتَّحَاكُم إلى أهل الطاغوت إلاّ قَصْد الإحسان إليهم لتقريبهم إلي الإسلام والتوفيق بينهم وبين المسلمين!! فلا تُؤَاخِذنا بما فَعَلْنا فنحن نريد الخير لا الشرّ!!.. إنَّ حالهم وقتها سيكون حتماً حالا بائِسَاً ذليلاً مُنْكَسِرَاً لأنهم لا يَجدون حينها عُذْرَاً مَقبولاً للدفاع عَمَّا ارتكبوه من سوء!.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل نزول المُصيبة وانكشافهم بها ونَدَمهم عليها واعتذارهم عنها حين لا ينفع نَدَم ولا اعتذار حيث سيُعَاقَبون حتما علي سوئهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿63﴾" أيْ هؤلاء المنافقون المَوْصُوفون بالصفات السيئة في الآيات السابقة يعلم الله قطعاً حقيقة ما في عقولهم من النفاق وكذب أقوالهم التي يقولونها وإنْ أظهروا الخير، يَعلمه بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو عليم بكل شيءٍ في كوْنه ويعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتماً بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم إنْ لم يَتوبوا ويَعودوا لربهم ولإسلامهم.. ".. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿63﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ فلا تُقْبِل عليهم يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السيئة ولكنْ في ذات الوقت عِظْهم أيْ ذَكّرهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْهم فيما بينك وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عظهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿64﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿64﴾" أيْ وما بَعثنا أيَّ مَبْعُوث لكم أيها الناس جميعا بالإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، منذ آدم ونوح وحتي خاتم الرسل محمد ﷺ ، إلا لكي يُستجاب له في كل ما أمَرَ ووَصَّيَ به ونَهَيَ عنه لا لكي يُعْصَيَ ويُخَالَف، فكيف يُعْرَض عنه ولا يُطاع؟! والمقصود الأمر والحَثّ على طاعة الرسول باتّباع كل أخلاق الإسلام التي بَعَثه الله بها إليهم حيث هذه هي الغاية من إرسال الرسل لا غاية غيرها، وبالتالي فمَن أطاعه سَعِدَ في الداريْن ومَن عصاه استحقّ العقوبة وتَعِسَ فيهما.. ".. بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ وهذه الطاعة اللازِمَة على الذين أُرْسِلَ إليهم هي بإذن الله أيْ بأمره بطاعته فهو تعالى الذي يَأمر بها وليس الرسول وبالتالي فمَن يَعصاه فإنما يَعْصِى الله ومَن يُطيعه فقد أطاع الله فكل أمرٍ يأمر به أو يَنْهَيَ عنه هذا الرسول هو من أمر الله تعالى وليس من عند نفسه وبإذنه هو.. هذا، ومن المعاني أيضا أنَّ هذا الرسول لا يُطاع إلا بإذنٍ من الله أيْ لا يُطيعه أحدٌ إلا بإذن الله أيْ إلا بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب الطاعة له وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، وذلك لَمَّا يَرَيَ تعالي المُطِيعَ هو أولا يَسعي ويَجتهد في التمسّك بكل أخلاق الإسلام وقد اختار ذلك بكامل حرية إرادة عقله فيُعينه حينها علي المزيد منها كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق لا يُخْلَف مُطْلَقا "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" ﴿العنكبوت:69﴾، "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" ﴿محمد:17﴾ (برجاء مراجعة تفسيرهما لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني﴾.. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴿64﴾" أيْ هذا دعوة لكل مَن عَصَيَ مهما كان عِصْيانه أن يأتي لرحمات الله مُستغفراً ليسعد بها في دنياه وأخراه.. أيْ ولو أنَّ العُصَاة حين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، جاءوك يا رسولنا الكريم أيْ اتَّجَهُوا نحو سُنّتِك راجعين إلي الإسلام مُتَعَرِّفين علي أخلاقه من خلال هذه السُّنَّة تائبين بصدقٍ تارِكين ما يفعلونه من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات مُستغفرين الله واستغفرتم لهم أنتم أيضا أيها المسلمون حولهم لمزيدٍ من ضمان قبول الله لتوبتهم حيث الطاعة الجماعية لها عظيم الأثر والأجر في الداريْن، لو أنهم فعلوا ذلك لوَجَدُوا فَوْرَ توبتهم أيْ لقَابَلُوا حتماً وعَلِموا واستشعروا ولَمَسُوا في حياتهم بشائر وآثار رحمات وخيرات أنَّ الله قد تابَ عليهم مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك لِكَوْنه تَوَّاباً أيْ كثير عظيم التوبة على مَن تابَ إليه أيْ رَجَع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، ولِكَوْنه أيضا رحيماً أيْ كثيرَ واسعَ الرحمةِ بالعالمين الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوْسَع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب﴾.. وفي هذا تشجيعٌ لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿66﴾ وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْر عَظِيمًا ﴿67﴾ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿68﴾ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿69﴾ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿213﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿185﴾ منها، ثم الآية ﴿93﴾ منها، ثم الآيات ﴿7﴾، ﴿8﴾،﴿9﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿81﴾، ﴿83﴾، ﴿85﴾ منها، ثم الآية ﴿138﴾ منها﴾.. إنك إنْ فَعَلْتَ هذا بكلّ ثقةٍ واطمئنانٍ وحبٍّ واشتياقٍ وحماسٍ وانشراحٍ وتسليمٍ دون أيّ ضيقٍ أو تَمَلْمُلٍ لثقتك التامَّة أنَّ في ذلك مصلحتك وسعادتك الكاملة في دنياك وأخراك، فأَبْشِر أنك علي طريق إكمال كلّ أخلاق إسلامك، وحين تُتِمّها ستَكتمل بإ ذن الله وعوْنه وتوفيقه وتيسيره كل سعاداتك.. إنَّ هذا أمر سَهْل مَيْسُور في مُتَنَاوَل كل مَن يريده، لأنَّ أخلاق الإسلام وأنظمته هي التي تُوافق فطرة العقل وتسير معه دون أيّ صراع لأنه مُبَرْمَج من خالقه علي هذه الأخلاق ﴿ برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولذا فهي السَّهْلَة المُيَسَّرَة، وهي المُسْعِدَة في الداريْن، بينما غيرها المُخَالِف لها كلها شرّ وكآبة وتعاسة، لأنها تُنَازِع الفطرة وتَتَصَادَم معها، ولذا فهي عسيرة شاقة عليها مُضِرَّة مُتْعِسَة لها ولمَن حولها وللخَلْق وللكَوْن كله، كما يقول تعالي "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾" ﴿الروم:30﴾.. إنَّ نظام الإسلام هو الأَخْيَر والأكمل والأفضل والأسعد لك وللبشرية كلها في الداريْن، لأنه يُنَظّم لك كل شئون حياتك صغيرها وكبيرها لتسعد بكل لحظاتها، لأنه من عند الخالق العادل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي يعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهُمْ خَلْقه وصَنْعَته، والصانع سبحانه هو وحده الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكل دليلِ خَيْرٍ مُسْعِدٍ.. إنه تعالي لم يُوصِينا بشيءٍ شاقّ علينا مُرْهِقٍ لنا، وإلاّ لم يَفعله إلا القليل النادر مِنّا، والله يريد الإسلام للجميع ليسعدوا به، كأنْ نقتل أنفسنا أو نَهْجر ديارنا مثلاً ككَفّارةٍ لذنبٍ مَا فعلناه!! وإنما كل النصائح والوصايا هي في وسعنا كما يقول "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.." ﴿البقرة:286﴾، ولا تحتاج إلي بَشَرٍ خارقٍ فوق العادة للعمل بها!.. هذا، ومَن يَفعل مَا وَصَّانا ووَعَظَنا به ربنا، وهو السَّهْل المَيْسُور المُعْتَدِل الذي ليس فيه مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة، واجْتَهَد في استكمال كل أخلاق إسلامه، كَانَ دائماً خَيْرِيَّاً، أيْ عاش بالخير وفي كل خير، أيْ سعيداً في ذاته تمام السعادة مُسْعِدَاً لمَن حوله، وكَانَ دوماً مُسْتَبْشِرَاً بانتظار ما سيُؤتيه ربه بفضله وكرمه من السعادة التامّة في الدنيا ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في الآخرة.. إنه علي الطريق الهانيء السعيد في دنياه مثل طريق النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين ثم معهم بإذْن الله ووَعْدِه في أخراه، ونِعْم الرفيق هؤلاء، ونِعْم الفضل العظيم من ذي الفضل العظيم سبحانه، وكَفَيَ به عليماً بكل شيء، بمَن يَستحقّ كل هذا، وبمَن لا يستحقّ.. هذا، ومَن كان مَرْجِعِيَّته نظاماً آخر مُخَالِفَاً لنظام الإسلام مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، مُتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرَاً مُتأكّداً بأفضليته عليه، فهو ليس بمؤمنٍ بكل تأكيد، وهو قطعا ضالّ مُضِلّ كئيب تعيس في دنياه ثم أشدّ تعاسة وأخلد في نار جهنم في أخراه.. أمّا إذا كان مسلماً مُوقِنَاً بصلاحية الإسلام وإسعاده للبشرية كلها في كل زمانٍ ومكانٍ ولكنه مُقَصِّرٌ أو مُفَرِّط أو مُتَهَاوِنٌ أو مُضطرٌّ، فيَتعس في دنياه علي قَدْر تَفريطه، وفي أخراه لا يُخَلّد في النار لكن يُحاسبه ربه بالعدل علي ما يَعْلَمه منه، ورحمته تعالي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَسْبِق دائماً غضبه
هذا، ومعني "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾" أيْ هذا قَسَمٌ من الله تعالي بذاته العَلِيَّة، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد!! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه.. أيْ فَوَرَبّك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لا يُؤمن الناس أيْ لا يُعَدَّوُن مُصَدِّقِين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُتَمَسِّكِين عامِلِين بأخلاق الإسلام – ويُذَكّر سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب المشاعر للعوْن علي سرعة الاستجابة – حتي يُحَكّموك أيْ يَتَحَاكَموا إلي شريعتك التي أُوحِيَت إليك وهي الإسلام أيْ يجعلوها وحدها لا شيء غيرها يُخَالِفها هي المَرْجِع الذي يَرْجِعون إليه في الحُكْم والتّصَرُّف والقرار في كل شئون حياتهم وكيفية تسيير أنظمتها وأساليبها وشئونها وعند التّشَاجُر أيْ الخِلاف فيها، ثم أثناء ذلك وبَعده لا يَجدوا في أنفسهم أيَّ ضيقٍ أو تَمَلْمُلٍ أو شكٍّ مِمَّا يَقْضِي ويَحْكُم ويُوصِي به الإسلام ويُرْشِد إليه بل يَرْضُوا ويَقبلوا به بكلّ ثقةٍ واطمئنانٍ وحبٍّ واشتياقٍ وحماسٍ وانشراحٍ واقتناعٍ وتسليمٍ واستسلامٍ ورضا وقبولٍ واتّبَاعٍ وانْقِيادٍ تامٍّ بلا أيِّ اعتراضٍ أو رفضٍ أو امتناعٍ أو تَرَدُّدٍ أو تَرَاجُعٍ لثقتهم التامَّة أنَّ في ذلك مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم الكاملة في دنياهم وأخراهم، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها ليسعدوا بكل لحظاتها، لأنه مِن عند خالِقهم العادل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي يَعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهم خَلْقه وصَنْعَته، والصانع سبحانه هو الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكل دليلِ خَيْرٍ مُسْعِدٍ
ومعني "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿66﴾"، "وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴿67﴾"، "وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿68﴾" أيْ هذا بيانٌ لرحمة الله تعالي بالناس حيث لم يُوُصِهِم بشيءٍ شاقّ عليهم مُرْهِقٍ لهم لا يمكنهم تَحَمُّله، وإلا لم يستطع فِعْله إلا القليل النادر منهم، وهو سبحانه يريد الجميع أن يعملوا بكل أخلاق الإسلام لا مجموعة من بينهم فقط ليسعدوا كلهم بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولذلك يُوصِيهم بما هو في استطاعتهم كما يقول "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.." ﴿البقرة:286﴾، ويقول ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.." ﴿البقرة:185﴾ (برجاء مراجعة تفسيرهما لتكتمل المعاني﴾، وليس بما يحتاج إلي بَشَرٍ خارِقٍ فوق العادة لكي يستطيع العمل به!.. أي ولو فُرِضَ أننا فَرَضْنا علي الناس مثلاً عند فِعْل ذنبٍ مَا أن يَقتلوا أنفسهم أو يَهجروا ديارهم ليكون ذلك كَفّارة لهم من ذنوبهم لنَتوب عليهم ولا نُعاقبهم، أو ما شابه هذا من فروض ووَصَايا وتشريعات لكل شئون حياتهم تكون شاقّة مُرْهِقَة مُستحيلة علي أغلبهم، ما فَعَلوا هذا المطلوب حتماً إلاّ قليلٌ منهم يُمكنهم فِعْله.. فلَمَّا لم نَفعل ذلك من رحمتنا وكرمنا بل كَتَبْنا عليهم الإسلام المُيَسَّر المُسْعِد لهم في الداريْن حبّاً فيهم وإسعاداً لهم فلْيَقبلوه إذَن شاكرين ومن الشكر أن يعملوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها في الدنيا والآخرة، وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ لهم علي اتّباعها، وتحذير أنه لا عُذْر بالقطع بالتالي لمَن لم يعمل بها وهي في استطاعته تماما حيث سيُعَذّب ويَتعس فيهما بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه وعلي قَدْر هذا البُعْد.. ".. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿66﴾" أيْ ولو أنَّ الناس فَعَلوا ما يَعِظهم أيْ يُذَكّرهم ويُوصِيهم به ربهم في القرآن العظيم من التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لَكَانَ هذا الفِعْل والامتثال لِمَا يُوعَظون به حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ خيراً لهم في دنياهم وأخراهم حيث سيعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. ولَكَانَ أيضا سبباً في خيرٍ آخرٍ وهو تثبيت الله لهم أشدّ وأقوي وأعظم التثبيت علي كل هذا الخير والأمن والسرور الذي هم فيه حيث بمجرّد عملهم بأخلاق إسلامهم يُيَسِّر لهم سبحانه المزيد من العمل بها حتي يعملوا بها كلها فتكتمل سعادتهم الدنيوية والأخروية كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" ﴿محمد:17﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾.. كذلك من معاني أشدّ تثبيتاً أيْ أقوي وأضْمَن تحقيقاً لثواب الله وتثبيتاً لمَكانتهم عنده تعالي في الدنيا والآخرة، ولو أصابهم – كاستثناءٍ – اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا ثَبَّتهم وأعانهم وأخرجهم منه مستفيدين استفاداتٍ كثيرة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وبعد موتهم يُثَبِّتهم في قبورهم عند السؤال عن مَن ربهم ورسولهم ودينهم عند بداية دخولهم له ويستشعرون أنَّ القبر روضة من رياض الجنة وتكون أرواحهم سائحة في نعيمها علي حسب درجة أعمالهم، ثم عند قيام الساعة وبدء الحساب يكونون ثابتين بتثبيت الله لهم فيكونون آمنين مطمئنين يَمُرّ عليهم حسابهم يسيراً سريعاً كله تبشير وسعادة، ثم ينعمون بمُستقرّهم الأخير في أعلي درجات الجنات مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا.. "وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴿67﴾" أيْ ولَكَانَ أيضا سبباً في خيرٍ ثالثٍ لهم، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الخير الذي سَبَقَ ذِكْره والزيادة عليه بمقدارٍ لا يعلمه إلا وحده سبحانه صاحب كلّ فضل.. أيْ وإذَن بالتالي وبكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكّ وكنتيجةٍ طيِّبَةٍ لذلك لأعطيناهم من عندنا بكرمنا الذي لا يُحْصَيَ عطاءً هائلاً لا يُوصَف في دنياهم ثم في أخراهم في جنّاتنا حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. "وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿68﴾" أيْ ولَكَانَ أيضا سَبَبَاً في خيرٍ رابعٍ عامٍّ هامٍّ لهم، أيْ ولأرشدناهم عموماً وبالجملة وبالتأكيد – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّفٍ صراطاً مستقيماً ووَفّقناهم إليه وأعَنّاهم عليه ويَسَّرنا لهم أسباب السَّيْر فيه والثبات به والزيادة منه، أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً مُتَّجِها دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وكفي بهذه نعمة تُحقّق لهم كل خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وسعادةٍ فيهما
ومعني "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿69﴾" أيْ والذي يُنَفّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي والرسول ﷺ من أخلاق الإسلام والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتما سيُدخلهم سبحانه في الآخرة في مُقابِل حُسْن أعمالهم وعلي حسب درجاتها جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر مع الذين أنْعَمَ عليهم بهذا النعيم الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ من النّبِيِّين الذين أرسلهم للناس ليُنَبِّئوهم ويُخْبِروهم بالإسلام، والصِّدِّيقين وهم الذين عَظُم وكَمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل اعتقاداً وفهماً وفكراً وقولاً وعملاً، والشهداء الذين اسْتُشْهِدُوا فى سبيل الله أيْ قُتِلُوا في طريق الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، وهم أيضا الشهداء علي الناس أيْ القادَة المُعَلّمِين المُعِينِين المُقَوِّمِين المُصَحِّحِين لهم بالإسلام لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن، والصالحين الذين صَلُحَت أقوالهم وأفعالهم في حياتهم فكانت في كل صلاحٍ وخيرٍ لا فسادٍ وشرّ.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿69﴾" أيْ وما أحسنَ هؤلاء كلّ واحدٍ منهم رفيقاً أيْ مُرَافِقَاً صاحِبَاً كله رِفْق وحبّ ولُطْف ولِيِن وحُسْن تَعَامُل، لا يُوصَفون في حُسْنِهم حيث لا صُحْبَة أحسنَ وأسْعَدَ منهم في أحسن وأسعد مكان، الجنة، يَتزاوَرون ويَتَسامَرون ويَتَنَعَّمون ويَسعدون فيها علي اختلاف درجاتهم في إطار رحمات وخيرات خالقهم الكريم الرحيم الودود.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعا أن يَنالوا هذا المقام بأنْ يجتهدوا في طاعة الله والرسول ﷺ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿70﴾" أيْ ذلك العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُقَدَّر بأيِّ قَدْرٍ المذكور سابقا هو مِن الله وحده لا غيره لأنه ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ علي خَلْقه من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿70﴾" أيْ ويَكفِي الناس جميعا كفاية تامّة ويُطَمْئِنُهم اطمِئْناناً كاملا، ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه، أنه سبحانه بكرمه ورحمته وفضله وإحسانه وعدله العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه هو الذي سيكون المُحَاسِب لهم المُرَاقِب المُشاهِد الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه حيث يعلم مَن يستحقّ هذا الفضل العظيم مِمَّن لا يَسْتَحِقّه بكل دِقّةٍ وعدلٍ مع فضلٍ لا يُحْصَيَ.. فليجتهد العاقل إذَن في أن يكون من الذين يَسْتَحِقّونه بأنْ يُسَارِع في طاعة الله والرسول ﷺ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا ﴿71﴾ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿72﴾ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿73﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما حَذِرَاً باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، بمعني أن تكون مُحْتَاطَاً مُحْتَرِسَاً مُتَيَقّظَاً في كل موقفٍ من مواقف حياتك، صَغُر أم كَبُر، فتقوم بحسابه ما استطعت من كل الجوانب المُمْكِنَة، وتُحْسِن اتّخاذ ما أمكن من أسبابٍ له، وتأخذ رأي أهل الخبرة والتّخَصّص إنْ لم يكن لك به علم، وما شابه ذلك، فإنَّ الحَذَر المُعْتَدِل يَقِي كثيرا من المشكلات، ويجعل الجميع قليلي الأخطاء، فيسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا ﴿71﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – احْتَاطُوا وكونوا في حَذَرٍ دائمٍ من أعدائكم بدوام الاحتياط والاستعداد التامّ لهم بكل أنواع القوة الإيمانية والمعنوية والمادِّيَّة كالقويَ العسكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها كما يقول تعالي "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.." ﴿الأنفال:60﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، وذلك لرَدّ أيّ اعتداءٍ منهم عليكم.. ".. فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا ﴿71﴾" أيْ فإذا اعتدوا فاخرجوا لقتالهم ورَدّ اعتدائهم وأنتم ثُبِاتٍ أيْ مجموعاتٍ وفِرَق جَمْع ثُبَة أيْ مجموعة أو اخرجوا لهم جميعا أيْ مجتمعين في جيشٍ كبير، وذلك علي حسب الظروف والأحوال بما يُحقّق لكم النصر عليهم ورَدّ اعتدائهم وهزيمتهم فلا يفكرون في اعتداءٍ آخر.. هذا، والآية الكريمة تُرْشِد المسلم أن يكون دائما حَذِرَاً باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريط، بمعني أن يكون مُحْتَاطَاً مُحْتَرِسَاً مُتَيَقّظَاً في كل موقفٍ من مواقف حياته، صَغُر أم كَبُر، فيقوم بحسابه ما استطاع من كل الجوانب المُمْكِنَة، ويُحْسِن اتّخاذ ما أمكن من أسبابٍ له، ويأخذ رأي أهل الخبرة والتّخَصّص إنْ لم يكن له به علم، وما شابه ذلك، فإنَّ الحَذَر المُعْتَدِل يَقِي كثيراً من المشكلات، ويجعل الجميع قليلي الأخطاء، فيسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿72﴾" أيْ وإنَّ مِن بينكم أيها المسلمون مَن يَتَبَاطَيء ويَتَأَخّر ويَتَثَاقَل عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ضدّ المُعتدين عليهم، ضَعْفَاً وجُبْنَاً، بلا أيّ عُذْر مَقبول، ويُبَطّيء ويُؤَخّر غيره، فلا يَفعل أحدٌ منكم ذلك حتي لا يَتَشَبَّه بالمنافقين الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ وحتي لا يكون آثِمَاً ويُعاقَب بما يُناسب في دنياه وأخراه بسبب ما يُسَبّبه انهزامه أمام عدوه من أضرارٍ وتعاساتٍ له وللجميع، ولا تتأثّروا بهم بل انطلقوا في جهادكم.. ".. فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿72﴾" أيْ فإنْ أصابتكم مَضَرَّةٌ مَا أثناء جهادكم، قال هذا المُتَبَاطِيء المُتَّصِف بالضعف والجُبْن المُتَشَبِّه بالمنافقين، على سبيل الفرح لنفسه والتّشَفّى والتأنيب لكم، قد أكرمنى الله بالقعود حيث لم أكن معهم شهيداً أيْ حاضراً فيما كانوا فيه لأنى لو كنتُ حضرت لأصابنى ما أصابهم! فهو مِن سَفَهِه وعدم تقديره لِمَا سيُصيبه مِن ذِلّةٍ وتعاسةٍ هو والمجتمع كله بسبب جُبْنه وتَرَاجُعه وبَعْد انتصار عدوّهم عليهم وسيطرته علي خيراتهم وثرواتهم وجهودهم وإبعادهم عن ربهم وإسلامهم وما سيُصيبهم من عقابٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة وما سيَفقده هو وأمثاله من عطاءٍ عظيمٍ فيهما لو كانَ جاهَد، يَعْتَبِر ذلك نعمة من الله تستحقّ الشكر بينما الإقدام والعِزّة والاستشهاد إذا حَدَثَ مُصيبة!!.. إنه من أنانيته وعدم انشغاله إلا بذاته لا يَعْتَبِر آلام ومصائب مُجتمعه ألَمَاً ومُصيبة له!!
ومعني "وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿73﴾" أيْ وإذا نالَكُم عطاءٌ من الله كنصرٍ وغَنِيمةٍ وتوسيعِ أرزاقٍ وحُكْمٍ وسُلْطةٍ ونُفوذٍ ونحو هذا، يقول علي سبيل الحسرة والندم والحرص الشديد علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة يوماً مَا بلا حرصٍ علي ثواب الآخرة ونسيانها مع الحسد لكم أيْ تَمَنّي زوال النِّعَم عنكم، كنت أتمنّي وأحب أن أكون معهم لكي أفوز بهذا الفوز العظيم الذي فازوا به، فهذا هو أكبر هدفه، وهو نوع من الخِسَّة والدناءة والحَقَارَة حيث يقوله وكأنه ليس من أهل دينكم الإسلام! ولا كان بينكم وبينه أيّ صُحْبة ومَعْرِفَة وصِلَة سابِقَة مُسْتَلْزِمَة للمَوَدَّة! فهو ينتظر لكم المصائب ويفرح بها ويَتَحَسَّر بعِزّكم ونصركم ورزقكم!.. وهذا هو حال الأنانيّ الذي يحب نفسه فقط ولا يفكر في المجتمع الذي يعيش فيه، وكأنَّ المَوَدَّة الإيمانية لا قيمة لها عنده لأنه لو كان لها أقل تقدير لَكَانَ عليه ألاّ يَتَبَاطَيء في البداية ويقول قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولكان مع المسلمين في جهادهم لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط ويبتعد عنهم إذا ما أصابتهم مَضَرَّة مَا واستشهد عدد منهم.. إنَّ المودة تَتَطَلّب أن يكون المسلمون مشتركين في جميع مصالحهم ودَفْع مَضَارِّهم، يفرحون بحصولها ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمرٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن.. إنَّ عليكم ألاّ تتأثّروا بأمثال هؤلاء ولا تَتَشَبَّهوا بهم بل انطلقوا في عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه لتسعدوا فيهما
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿74﴾ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿75﴾ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿76﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿74﴾" أيْ إنْ أَبْطَأ أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم عن الجهاد والقتال، فلْيُقاتِل إذَن المسلمون الصادقون في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، وهم الذين يَشْرون أيْ يَبيعون الحياة الدنيا بكل مُتعها حيث يتركونها بتضحيتهم وباستشهادهم والتي يعلمون تماما عدم دوامها وزوالها يوماً مَا ويَشترون بَدَلاً منها الحياة الآخرة ويدفعونها ثمناً لها بجناتها الخالدة التي لا تُوصَف ولا تُقَارَن حتماً بها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿74﴾" أيْ ومَن يُقاتِل في سبيل الله فيُسْتَشْهَد أو يَنتصر فسوف نُعطيه عطاءً هائلاً لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بقَدرٍ في أيٍّ مِن الحالتين، فليكن دائما مُسْتَبْشِرَاً أيْ مُنتظراً دوْمَاً لكل خير، لإحدي الحسنيين، فإمّا النصر في دنياه ومعه العِزّة والكرامة والرِّفْعَة والمَكَانَة والربح ثم الأجر العظيم في الآخرة أجر الشهداء لأنه كان مُسْتَعِدَاً للشهادة وذلك مُقابِل قتاله وجهاده وتضحيته بذاته وبكلّ ما يَملك – إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمه الله بها حيث تكون حياته كأنه في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيره مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانه به وتوكّله عليه وشكره له وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه – وإمّا الشهادة حيث الشهيد حَيّ يُرْزَق في أعلي درجات الجنات عند رحمات وخيرات ربه الكريم الرَّزَّاق الذي يُعْطِي المُحسنين بغير حساب
ومعني "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿75﴾" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ مقصوده تحريض المسلمين على الجهاد وتشجيعهم عليه وإلهاب مشاعرهم لفِعْله وتحذيرهم مِن تَرْكه بلا عذرٍ مَقبول.. أيْ وما الذي يجعلكم يا معشر المسلمين لا تُقاتلون في سبيل الله لنشر دينكم الإسلام والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه ليَسعد الناس به وفي سبيل أيْ مِن أجل الضعفاء والمظلومين من الرجال والنساء والصبيان وعموم الناس مع أنهم مظلومون أشدّ الظلم مِمَّن يَظلمونهم حولهم ولم يَعُد لهم حِيلَة ولا وَسِيلَة لدفعه وعدم الاستسلام له إلا الاستغاثة بربهم ثم بكم حيث يقولون مُسْتَنْجِدِين مُسْتَنْصِرين به وهو المُجيب لدعائهم حتماً في التوقيت وبالأسلوب المناسب الذي يُحَقّق لهم أفضل نتائج يريدونها ربنا أخرجنا من هذه البلدة التي أفرادها ظالمون يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بكل أنواع الظلم وسَخّر ويَسِّر لنا من عندك وَلِيَّاً لأمورنا وناصراً ومُعِينَاً في كل شئون حياتنا، لِنَنْعَم برعايتك وأمنك وعونك وتوفيقك وسدادك ورزقك وتيسيرك وقوّتك ونصرك وبالسعادة كلها في دنيانا وأخرانا
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿76﴾" أيْ هذا توضيحٌ وتذكيرٌ بأهداف القتال والجهاد في الإسلام حتي يسعد الجميع بها ولا يتعسوا بالخروج عنها (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في دنياهم وأخراهم، ليكون ذلك مزيداً من التحريض لهم على الجهاد والتشجيع عليه والإلهاب لمشاعرهم لفِعْله والتحذير مِن تَرْكه بلا عذرٍ مَقبول.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُذكرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – حينما يُقاتِلون فإنهم يُقاتِلون في سبيل الله أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. أمّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فإنهم يُقاتلون في سبيل الطاغوت أيْ في طريق الطاغوت أيْ من أجله والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا.. ".. فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿76﴾" أيْ وإذا كان الذين كفروا يُقاتلون في سبيل الطغيان والظلم والسيطرة وإبعاد الناس عن إسلامهم لينهبوا ثرواتهم وجهودهم لأنهم به يعرفون حقوقهم ويحفظونها فعليكم بالتالي إذَن أيها المسلمون أن تُقاتلوا أولياء أي نُصَراء وأعوان الشيطان هؤلاء – والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل – لتمنعوا طغيانهم بكل صُوَره وأن يكون قتالكم لهم بكل قوّةٍ بلا أيِّ خوفٍ منهم لأنَّ الله معكم بقوّته ونصره وتأييده ولذا فأنتم المنصورون حتماً ما دُمْتُم تُحسنون اتّخاذ ما استطعتم من أسباب النصر أمّا هم فالشيطان معهم بضعفه وهزيمته فلا مُقَارَنَة قطعاً فهم المَهزومون بالتأكيد لأنَّ كَيْد الشيطان مهما عَظُم أيْ تدبيره ووساوسه لأتْباعه بالاعتداء علي الإسلام والمسلمين وتدبير المَكائد لهم كان وسيَظل بالقطع ضعيفا مَوْصُوفاً دائما بالضعف، فهم قد اعتمدوا على أضعف شيءٍ وأنتم قد اعتمدتم على أقوى الأقوياء سبحانه، وهل تُقَارَن قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمَخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو له ؟!
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿77﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حكيماً مُتّزِنَاً لا مُنْدَفِعَاً مُتَهَوِّرَاً، لأنَّ الاندفاع كثيراً ما يؤدّي إلي الخطأ، أو حتي عدم تحصيل النتائج علي أفضل ما هو مطلوب، لأنه لا يُصاحبه غالبا دراسة مُتَأَنّيَة واستعداد مُتْقَن مُوازي، فتَحدث الصدمة عند رؤية الواقع، والذي هو غير ما كان مُتَصَوَّرَاً، فيَحدث التّرَاجُع والجُبْن والانهزام، ويَحدث الفشل، وتَحدث التعاسة، في الداريْن
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿77﴾" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم وتناقلتم أخباراً اشْتُهِرَت بينكم عن الذين يقال لهم امنعوا أيديكم عن قتال أعدائكم حيث الوقت ليس مناسبا لأنَّ الأمر يحتاج لحُسْنِ إعدادٍ لِمَا يُحَقّق النصر عليهم واكتفوا بالحرص علي إقامة الصلاة وإعطاء الزكاة ونحو ذلك من شعائر الإسلام ومعاملاته وأخلاقيَّاته والتي ستُؤَدِّي بكم إلي الإعداد التربويّ لكم مع إعداد العُدَّة المناسبة المُرْهِبَة لعدوكم تدريجيا ما استطعتم من كل أنواع القوي المادية العسكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها – وهذا مِمَّا تَطْلبه حِكْمة الإسلام أحيانا حسبما يراه المُتَخَصّصون وأصحاب الرأي في حالات ضعف المسلمين أو قِلّة عددهم وعتادهم أو ما شابه هذا – إذا بهم لا يَلتزمون ولا يَنضبطون ويَندفعون طالبين سرعة المُواجَهَة، فلمّا يأتي وقتها، إذا البعض منهم يُصْدَم بالواقع غير الذي كان يَتصوّره وغير ما كان مَحْسُوبَاً ولم يكن مُسْتَعِدَّاً له، فيَجْبُن، ويَتَرَاجَع، ويَخشي الناس أيْ الأعداء كخشية الله أو أشدّ، والذي يجب أن تكون خشية عذابه وفقدان ثوابه فوق أيّ خشية، من شدّة خوفه وضَعْفه، بل وقد يَصِل به السوء أن يعترض علي فرض الإسلام أصلاً لقتال المعتدين! أو يطلب التأجيل بعد التأجيل بحجّة زائفة وهي عدم الاستعداد رغم طَلَبه قبل ذلك بالتعجيل! وهو ادِّعاء كثيرا ما يخفي وراءه التّعَلّق الشديد بثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهو الذي دفعهم لهذا الخوف الرهيب من الموت وعلي حياتهم أيَّاً كانت هذه الحياة ذليلة مَهِينَة تَعِيسة تحت استعباد الأعداء إذا تركوا جهادهم والذي فيه عِزَّة المسلمين وسعادتهم في الدنيا أو استشهادهم بكرامتهم وانتقالهم لأعظم وأخلد سعادة في الآخرة، رغم أنَّ الجُبْن لا يُطيل أجَلَاً وأنَّ الإقدام لا يُقَصِّره، فالأجل مَكْتُوب وهو يأتي حتماً يوماً مَا حتي ولو احتمي هؤلاء الجبناء بأشدّ الأماكن تحصينا.. فليحذر كل مسلم مثل هذه الصفات ولا يَتَشَبَّه بهم حتي لا يتعس مثلهم في الداريْن.. ".. قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يعودون لربهم ولأخلاق إسلامهم أنَّ متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس هو زائل حتما غير دائم مهما طال وكَثر حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة ولذا فهو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الذي هو أكثر وأعظم خيراً قطعاً الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد بلا نهاية المُتَنَوِّع المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر والمُجَهَّز فقط لمَن اتّقَيَ في دنياه أيْ خاف الله وراقبه وأطاعه وجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دوْمَاً مِن المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وفي هذا حَثّ وتشجيعٌ ودَفْعٌ للجميع أن يكون مِمَّن اتّقَيَ لينال أعظم درجات الآخرة وخيرها الذي لا يُوصَف.. ".. وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿77﴾" أيْ ولا يُمكن أبداً لله الخالق الرحيم الكريم أنْ يَظلم أحداً منكم مقدار فتيل أيْ خيط رفيع، بأنْ يَنقص مثلا أيَّ شيءٍ من جزاء عمله مهما كان يسيراً أو يُعَذّب مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره أو نحو هذا، أيْ مهما كان العمل في غاية القِلَّة من الخير أو الشرّ فسيأخذ فاعله ما يناسبه من جزاءٍ بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴿78﴾ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿79﴾ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴿78﴾" أيْ حيثما وكيفما تكونوا يلحقكم الموت في أيِّ مكانٍ كنتم فيه عند حلول آجالكم حتي ولو كنتم في حُصُونٍ مَنِيعةٍ وأبراجٍ مَبْنِيَّةٍ بإحكامٍ عاليةٍ حَصِينة.. فأحْسِنوا إذَن الاستعداد لملاقاة ربكم في أيِّ وقتٍ لحسابكم بأن تفعلوا دائما كلَّ خيرٍ وتتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم.. إنَّ الآجال بيده تعالي وما مِن نفسٍ تموت إلا بإذنه وبإرادته ولن يستطيع أحدٌ أن ينجو من تقديره المَحْتُوم فإنَّ الحَذَر مهما كان لا يَدْفع القَدَر والتدبير لا يمنع التقدير مُطلقا فقَدَره نافِذ علي كل حالٍ ولا مَفَرّ منه.. إنَّ البعض كالذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ يَتَوَهَّمون أنَّ الإقدام حيث يُحْتَاج إليه يُقَصِّر عُمْرَهم وأنَّ الجُبْن والتخاذل يُطِيله! رغم أنَّ الواقع يُثْبِت تماما أنه كم مِن مُخْتَبِيءٍ في مَخْبَئِه جاءه الموت فجأة سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وكم مِن مِقْدامٍ، بحَذَرٍ وبحُسْن أسبابٍ، عَمَّرَ طويلا!!.. إنَّ بعضهم يَقصدون أيضا نشر فَزَعِهم وفِكْرهم السَّيِّء بين المسلمين لتَثْبِيط وتَعْجِيز عزائمهم عن الجهاد في سبيل إسلامهم وعن السعى فى الأرض من أجل طَلَب الرزق الذى أحلّه الله تعالي لخَلْقه فلا يتفوَّقون عليهم.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ وإرشادٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا أبداً بأمثال هؤلاء ولا يستمعوا ولا يلتفتوا مُطلقاً لمِثْل أقوالهم وأفعالهم هذه المُخَالِفَة للإسلام بل يكونوا دائما أقوياء شُجْعانا مِقْدَامِين مُنْطَلِقين حُكَماء مُحْسِنِين لاتّخاذ أسباب النجاح المُمْكِنَة في كل شئون حياتهم مُستعِدِّين دَوْمَاً للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم والعمل بها ونشرها والدفاع عنها ضدّ مَن يعتدي عليها من أجل أن ينالوا العزّة والمَكَانَة التي لا تُوصَف في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض ما يقوله ويفعله ويَتّصِف به المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، يظهرون أخلاق الإسلام ويخفون الفساد والقُبْح أو حتي الكفر، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يتعس تعاساتهم في الداريْن، فهم – إضافة إلي جُبْنِهم الذي سَبَقَ ذِكْره – حينما تأتيهم حسنة مَا، مصلحة ومنفعة مَا، فإنهم يُظهرون أنهم مع الله والإسلام ويشكرونه ما دام يأتيهم خيرٌ منه، وإنْ تأتهم مَضَرَّةٌ مَا يقولوا هذه من شُؤْمِك وشَرِّك وسوءِ تدبيرك وإدارتك يا رسولنا الكريم أنت والإسلام الذي جئتَ به فهو لا يُحْسِن ويُسْعِد إدارة الحياة بل يُسيئها ويُتعسها وكلما عملنا بأخلاقك وأخلاقه تَوَقّعنا نزول شرٍّ بنا!! إنهم لا يَعتبرون أنَّ ما حَدَث كان بسبب سُوئهم هم وبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار حيث مَن زَرَعَ سوءاً حَصَدَ حتماً سوءاً إذ هذا هو القانون الإلهي العادل للحياة كما يقول تعالي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء : 7﴾.. إنهم يَتَوَهَّمون أنهم بذلك يُشَكّكون الناس في الإسلام ورسوله الكريم ﷺ فلا يَتّبعه أحدٌ أو يَتّبعونه بنفاقٍ وتَشَكّكٍ وتَذَبْذبٍ مثلهم!.. ".. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُصَحِّحَاً لمفاهيمهم ورَدَّاً علي ادِّعاءاتهم وأكاذيبهم: كلٌّ مِن الحسنة والسيئة هي من عند الله ومن جهته وحده لا غيره حيث هو الخالِق والواضِع لطُرُقِ وأسباب وجودها وحصولها في الحياة وليس الرسل ولا الإسلام ولا أحدٌ من البَشَر، لعلهم يَتدبّرون ويَتَعَقّلون ذلك فيختارون بكامل حرية إرادة عقولهم أن يُحسنوا اتّخاذ أسباب تحصيل الحسنة حتي يُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم الحصول عليها وأن يَتركوا السيئة وأسبابها حتي لا تَحْدُث لهم والتي هي أيضا سيُيَسِّرها لمَن أرادها بإصرارٍ عليها ولا يَمنعه منها ليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم.. هذا، وقد سَمَحَ سبحانه في الحياة الدنيا بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صفة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوا الشرّ بالقطع فهو لا يريد تعاستهم بفِعْله وإنما ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصوا علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكوا به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذوا الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظوه ويتركوه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿2﴾ من سورة المُلْك "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.."، ثم الآية ﴿62﴾ من سورة العنكبوت "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.."﴾.. إنه لا يُمكن أبداً أن يَحْدُث شيءٌ في هذا الكوْن إلا بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه.. ".. فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴿78﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما سَبَقَ ذِكْره فمَا بَالُ وحال أمثال هؤلاء لا يُقارِبُون فَهْمَ أيِّ حديثٍ يُحَدَّثون به؟! وذلك لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿79﴾" أيْ ما يَصِلَ إليك أيها الإنسان من نعمةٍ تُفيدك وتُسعدك مِمَّا لا يُمكنك حَصْره فهي حتماً من الله وحده لا غيره الكريم الرحيم الودود الرّزّاق الوَهَّاب خالقك والكوْن كله ومالِكه بكل خيراته، لأنه هو الذي خَلَقها وأوْجدها من عَدَمٍ ويَسَّرَ لك أسباب الحصول عليها من عقلٍ وصحةٍ وقوّةٍ وعوْنٍ مِمَّن حولك ونحو ذلك.. ".. وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.." أيْ وكلُّ ما يُصيبك أيها الإنسان مِمَّا تكرهه مِن سوءٍ وضَرَرٍ وتعاسةٍ – أو غالبه بدرجةٍ تَصِل إلي كُلّه – هو دائما أو غالباً بسبب نفسك، بسبب مُخَالَفَاتك لأخلاق إسلامك، بسبب شرورك ومَفاسدك وأضرارك التي فعلتها وحَصَّلتها بنفسك، بيديك ورجليك وعقلك وسوء تصرّفك وتَرْكك لأسباب تحصيل كلّ حَسَنَة، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ومع ذلك يعفو سبحانه عن كثير من هذه الشرور والأضرار التي ترتكبها فلا يُحاسبك عليها كلها في دنياك، رغم استحقاقك لعقوبةٍ مناسبةٍ لها، رحمة منه بك ليُعطيك الفُرَصَ الكثيرة لتتوب منها لتسعد، ولولا هذه الرحمات لَعُوقِبَ الجميع كثيرا!.. هذا، وما يُصابُ به المسلم من مصائب في مقابل سُوئه هو تكفيرٌ من ذنوبه ورفعٌ لدرجاته يوم القيامة، وعليه حين تنزل به مصيبة مَا أن يُسارع في مراجعة ذاته وتصويبها باتّباع أخلاق الإسلام حيث سيكون الأمر في الغالب بسبب سوء أقواله وأفعاله وتصرّفاته وتقديراته أو مَن حوله، فإن لم يجد سَبَبَاً – وهذا نادر – فليتأكّد أنَّ الحَدَثَ هو اختبارٌ من الله لمصلحةٍ مَا له ولغيره، فليصبر عليه إذَن حتي يَخرج منه مستفيداً استفاداتٍ كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. إنَّ الآية الكريمة توضيحٌ لسابقتها وتأكيدٌ علي أنه لا يُمكن أبداً بأيِّ حالٍ نِسْبَة الشرّ لله تعالي حيث قد يُفْهَم ذلك بالخطأ من قوله في الآية السابقة ".. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.." لأنه قد سَمَحَ سبحانه في الحياة الدنيا بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صفة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوا الشرّ بالقطع فهو لا يريد تعاستهم بفِعْله وإنما ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصوا علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكوا به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذوا الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظوه ويتركوه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله.. ".. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا.." أيْ وبَعَثْناك يا رسولنا الكريم مَبْعُوثَاً مِنَّا للناس جميعا لتُبَلّغهم وتُعَلّمهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهذه هي مهمّتك فقط وليس من مَهَامِّك تدبير شئون الكوْن بحيث يتّهمك البعض مِمَّن لا يكادون يفقهون حديثا أنت والإسلام والمسلمين كذباً وزُورَاً حينما تصيبهم سيئة مَا بسبب شرورهم أنها من عندك وبسبب الإسلام الذي تدعوهم أن يعملوا بأخلاقه! وقد أحسنتَ تبليغهم فاطمئنّ فلا شيء إذَن عليك واستمرّ والمسلمين علي إسلامكم وعملكم به وحُسْن دعوتكم له ودفاعكم عنه ولا تتأثّروا بأمثالهم.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿79﴾" أيْ ويَكفيك ويَكفي المسلمين كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبداً لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهِد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بينهم وبين غيرهم أنَّ هذا الدين هو أعلي وأعظم دين المُؤَيَّد تماما منه المَنصور دوْماً به وأنَّك رسوله ﷺ الذي جاء به وأنت أصدق الصادقين، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكْمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا وما يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾" أيْ مَن يُنَفّذ كلّ ما وَصَّيَ به الرسول ﷺ مِن أخلاق الإسلام والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه، فهو في حقيقة الأمر قد نَفّذ ما أمَرَ ووَصَّيَ به الله تعالي لأنَّ الرسول لا يأمر إلا بما أمَرَ اللَّه به في شرعه الإسلام ولا ينهى إلا عمَّا نَهَىَ عنه فكانت طاعته في الامتثال والانتهاء طاعة للَّه فهو لا يُطاع لشخصه وإنما يُطاع لذاته سبحانه.. ".. وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾" أيْ ومَن أعْرَضَ أيْ أعطيَ ظهره والتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ عن أخلاق الإسلام وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَمَ نَشْرها وآذَيَ مَن يَتّبعها، فما بعثناك عليهم حفيظا أيْ فلا تحزن أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب، فليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم حفيظا أيْ حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس له إكراههم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿41﴾ من سورة الزمر ".. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل "، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿81﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿81﴾" أيْ ومن الصفات الدنيئة الخَسِيسَة للمنافقين وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفُون الشرّ والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما مثلهم أنهم يُظهرون طاعة وتَمَسُّكَاً وعَمَلاً بأخلاق الإسلام إذا كانوا بين المسلمين المُطِيعين لها المُتَمَسِّكين العامِلين بها حيث يقولون طاعة أيْ حالنا كله طاعة ومُوَافَقَة واستجابة لله وللرسول وللإسلام أيْ نحن مُطِيعون لهم في كل ما يَأمرون ويُوصُون به مُنَفّذون له، فإذا بَرَزُوا أيْ خَرَجوا من عندهم وتَرَكوهم وفارقوهم دَبَّرَ وخَطّطَ في الخَفاء مجموعة منهم وهم رؤساؤهم ومُرْشِدوهم والمُتَصَدِّرُون للنفاق فيهم والذين يَتبعهم الباقون من المنافقين غيرَ الذي تقول للمسلمين من تمام الطاعة لأخلاق الإسلام أيْ يتّفِقون فيما بينهم علي مُخَالَفَتِها.. ".. وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ.." أيْ والله يُسَجِّل عليهم ما يُدَبِّرُونه في صحائف أعمالهم المُسَجَّلَة عنده وسيُحاسبهم علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم بما يُناسب في دنياهم ثم أخراهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لك أيها الرسول الكريم أنهم منافقون، فاتركهم إذَن واتركوهم أيها المسلمون وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم.. ".. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.." أيْ وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ﴿81﴾" أي واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿82﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿82﴾" أيْ ما لهم هؤلاء المُكذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم؟!! لماذا لا يَقرأون ويَتدبَّرون القرآن العظيم الذي فيه كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم حتي لا يَقعوا فيما وَقَعُوا فيه من شرور ومَفاسد وأضرار وحتي تَتَحقّق لهم السعادة التامّة فيهما؟!! هل لا يَتدبّرون ويَتعَقّلون ويَتَعَمّقون فيه لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عنه وأهملوه أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي قلوبهم أيْ عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن تدبّره، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التدبّر!!.. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التعيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا لتشجيعهم علي تَدَبُّره – حيث لفظ "أفَلَاَ" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون للتفَكُّر فيه وللعمل به كله ليسعدوا في الداريْن.. فلْيَتَدَبَّرُوه إذَن ولا يَنشغلوا عنه أو يُهملوه لِيَتِمّ لهم ذلك.. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿82﴾" أيْ وهذا القرآن الكريم ليس من كلام بَشَرٍ أو مخلوقٍ بل كلام خالِقٍ حكيمٍ عليمٍ خبيرٍ مُنَزّه عن الأخطاء والأهواء يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فكل كلامه تعالي يُشبه بعضه بعضاً في الصدق والحِكْمَة والعَقْلانِيَّة وقوّة الأدِلّة والبراهين والتوازُن والحُسْن والبلاغة والفصاحة والائتلاف وعدم الاختلاف والصواب والإرشاد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ، ولقد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ولو كان من عند غير الله، من عند بَشَرٍ أو مخلوقٍ، لَوَجَدَ الناسُ فيه اختلافاً كثيراً أيْ تَنَاقُضَاً وتَضارُبَاً وتَخَبُّطَاً وخَلَلَاً وضعفاً وقصوراً في معانيه وأخباره وحقائقه ونُظُمِه وأحكامه لأنَّ قوانين الحياة تتغيّر من زمنٍ وظرفٍ لآخرٍ بما يُناسب وبالتالي سيُلاحِظون حتماً مع الوقت أنَّ بعضه فصيح وبعضه ركيك وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وبعضه تُوافِق أخباره المستقبلية للواقع وبعضه لا يُوافق وبعضه يسير مع العقل وبعضه غير مَنْطِقِيّ كما يُثبت الواقع ذلك من أنَّ كلام البَشَر إذا طالَ يُوجَد فيه قطعاً شيءٌ من الخَلَل والتناقُض بسبب ما يَمُرّون به خلال حياتهم من اختلافٍ وتَغَيُّرٍ في أفكارهم وآرائهم علي حسب ثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعصورهم وأمزجتهم وأحوالهم من قوةٍ وضعفٍ وغني وفقرٍ وصحةٍ ومرضٍ ونحو ذلك من اختلافاتٍ ومُتَغَيِّراتٍ لا تُحْصَيَ تُؤَثّر علي كلامهم وتشريعاتهم وأنظمتهم بحيث تَظْهَر تَنَاقُضاتهم عاجلاً أو آجِلاً في النظريات والقوانين التي يضعونها سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم عسكرية أم اجتماعية أم تربوية أم غيرها بسبب محدودية عقولهم وإدراكهم لِمَا حولهم وللمستقبل، بخلاف الخالق سبحانه العالِم بكل شيء
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿83﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن من مُذِيعِي ومُرَوِّجِي وناشِرِي الإشاعات، وإنما تسأل فيها أهل التّخَصُّص والخبرة والعلم والمعرفة والمسئولين الصالحين في مختلف المستويات، وهم يُقَدِّرُون الأمر ويَسْتَوْثِقون منه حسبما لديهم من معلوماتٍ وحسبما يَرَوْن من مصلحةٍ في إذاعته ونَشْره كله أو بعضه علي العموم أو علي البعض دون البعض أو كتمانه بالكُلّيَّة أو تأجيل إعلانه أو نحو ذلك بما يُحَقّق مصالح الجميع وسعادتهم ومَنْع أيّ ضَرَرٍ أو تعاسةٍ عنهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ نشر المعلومات والأخبار وإذاعتها بصورةٍ غير مُنضبطةٍ وبغير تَثَبُّتٍ وتأكّدٍ منها وتوثيقٍ لها ومن خلال كل الأفراد دون تحديدٍ وتنظيمٍ لمَن يتحدّث بها وكيف ومتي من المُتَخَصِّصين المسئولين، قد يؤدي أحيانا أو غالبا إلي أضرارٍ كثيرة وتعاسات في الداريْن حيث قد يُنْشَر مثلا ما يُفيد أمن المجتمع بينما الأمر يحتاج إلي استعدادٍ لمواجهة بعض الشدائد فيُصابون بالأضرار بسبب ارتخائهم وعدم استعدادهم المناسب، وقد يُنشر العكس، ما يُوحِي بالخوف فيضطرب الناس وينزعجون رغم أنَّ الوضع آمِن، وهكذا.. إنَّ هذا لا يتعارَض أبداً مع حرية الأفراد، فحريتهم مَكفولة تماما لكنْ بما لا يؤدي لضَرَرٍ عام أو لمَن حولهم.. إنَّ فضل الله علي البشرية عظيم بتوجيهها لهذه النصائح المُسْعِدَة من خلال قرآنه ورسله وإسلامه حيث سينتفعون وسيسعدون بها حتما في الداريْن لو تمسّكوا وعملوا بها، وسيُساعدهم ربهم قطعا ويَرعاهم ويُوفّقهم ويَرضي عنهم ويرزقهم، أمّا إنْ أهملوها وتَرَكوها واختاروا فِعْل عكسها فسيقعوا بالتأكيد في الشرّ ويتعسوا فيهما
هذا، ومعني "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿83﴾" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يَتعس مثلهم فيهما أنهم إذا وَصَلَ إليهم أمْرٌ أيْ خَبَرٌ يجب كتمانه من أمور الأمن للمجتمع ككل ويَتَعَلّق به ويعود خيره على الإسلام والمسلمين وعليهم إذا كَتَمُوه، أو خَبَر من الأمور التي تُصيب بالخوف وعدم الاطمئنان بانتشارها، أذاعوا بهذا الخَبَر أيْ نَشَرُوه بين الناس قبل أن يتأكّدوا من صِحَّته وأثَرِه حيث قد يكون كذباً أو مُبَالَغَاً فيه أو مُحَرَّفَاً أو مُخْتَلَقَاً لا أصل له منهم أو من غيرهم أو نحو هذا، قاصدين إحداث الضرَر والتعاسة بالمجتمع، وقد يَتَشَبَّه بهم وينقله عنهم بعض المسلمين ليسوا منافقين فيُحْدِثون ضَرَرَاً عن غير قَصْدٍ ولكنْ جَهْلَاً وسوءَ تقديرٍ لنتائج الأمور مُتَوَهِّمِين ألاّ ضَرَر من نشره ولا إثم عليهم، حيث قد يَنْشَرون مثلا ما يُفيد أمن المجتمع بينما الأمر يحتاج إلي استعدادٍ لمواجهة بعض الشدائد فيُصابون بالأضرار بسبب ارتخائهم وعدم استعدادهم المناسب، وقد يَنشرون العكس، ما يُوحِي بالخوف فيضطرب الناس وينزعجون رغم أنَّ الوضع آمِن، وهكذا.. إنَّ هذا التحذير في الآية الكريمة بعدم فِعْل ذلك لا يتعارَض أبداً مع حرية الأفراد في تَنَاقُل المعلومات، فحريتهم مَكفولة تماما لكنْ بمراعاة ألاّ تؤدي لضَرَرٍ عامٍّ أو خاصّ.. ".. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.." أيْ هذا إرشادٌ إلي ما يجب فِعْله.. أيْ ولو رَجَّعَ أمثال هؤلاء خَبَر الأمن أو الخوف – بعد سكوتهم عن إذاعته – إلي أسلوب الرسول ﷺ وعَرَضُوه عليه لمعرفة كيفية التعامُل مع مِثْل هذه الأحوال، وإلي المسئولين منهم في كل المستويات والمجالات الصالِحين العامِلين بأخلاق الإسلام أيْ إلي أهل التنفيذ والإدارة والتّخَصُّص والخبرة والعلم والمعرفة، لَعَلِمَ ذلك الخَبَرَ بالتأكيد الذين يَسْتَخْرِجُون حقيقته ومَقْصِدَه وسِرَّه من هؤلاء بأفكارهم وآرائهم الرَّزِينَة السَّدِيدَة وعلومهم وخبراتهم وما عندهم من معلوماتٍ بشأنه بمعني لَعَرفوا صِحَّته وآثاره وجوانبه وأبْعاده ومَعانيه ومنافعه ومَضَارَّه وما يَتَرَتّب عليه، فهُمْ سيُقَدِّرُون الأمر وسيُحَدِّدون المصلحة في إذاعته ونَشْره كله أو بعضه علي العموم أو علي البعض دون البعض أو كتمانه بالكُلّيَّة أو تأجيل إعلانه أو نحو ذلك بما يُحَقّق مصالح الجميع وسعادتهم ومَنْع أيّ ضَرَرٍ أو تعاسةٍ عنهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿83﴾" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم بعدم تعجيل العقوبة لكم لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وبفتح باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وإرشادكم إليها وتوفيقكم لها وتيسير أسبابها لكم وقبولها منكم، وبأنْ جعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَسِرْتُم خلف الشيطان ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم في دنياكم وأخراكم، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل.. ".. إِلَّا قَلِيلًا ﴿83﴾" أيْ لاتّبعتم الشيطان في معظم أقوالكم وأعمالكم إلا قليلاً من الأحيان تَتّبعون فيها إسلامكم وبالتالي تَغْلِب سيئاتكم حسناتكم فتتعسون في دنياكم وأخراكم، وكذلك لاتّبعتموه إلا عَدَدَاً قليلاً نادِراً منكم الذي مِن المُحْتَمَل أن يَستفيق مِن ذاته بتذكرة فطرة عقله فقط دون تنميتها بالإسلام وبعوْن ربه وتَيْسيره وتوفيقه.. فاشكروا ربكم بالتالي إذَن علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحْسِنُوا استخدامها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم واحرصوا عليها تمام الحِرْص لأنها مصدر سعادتكم التامَّة في الداريْن
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ﴿84﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل كنتَ قوياً شجاعاً مِقْدَامَاً مُسْتَعِدَّاً دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿218﴾ منها، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد وفوائدهما وسعاداتهما في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ﴿84﴾" أيْ إنْ أَبْطَأ بعض المنافقين بينكم أيها المسلمون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الجهاد وقتال المُعتدين عليكم بالقتال، فقاتِل إذَن أنت حتي ولو بمفردك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم من التّبَاطيء والتّرَاجُع والجُبْن ومحاولات إضعافكم فإنَّ الله هو ناصركم لا الجنود فإنْ شاء نَصَرَكَ وحدك كما ينصرك وحولك الألوف فالنصر أولاً وأخيراً من عنده وحده القويّ العزيز، فقاتلوا في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، فلا يُكَلّفك ربك إلا نفسك أيْ أنتَ لستَ مسئولاً إلاّ عن نفسك ولا تُؤَاخَذ بتقصير غيرك فكلّ فردٍ يَتَحَمَّل فِعْله من الإحسان أو الإساءة ولكنْ حَرِّض المؤمنين على القتال معك أيْ حثّهم وادْفعهم وشجّعهم عليه ورَغّبهم فيه بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ إذ ما عليك إلا ذلك فهذا هو الذي في استطاعتك.. ".. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة للمسلمين من الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وهي أن يَمْنَع بجهادهم قوة الذين كفروا ويَهزمهم.. وفي هذا طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. وفي هذا أيضا تشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه من التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم وحُسن دعوة غيرهم له والصبر علي أذاهم ودفاعهم عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي بالقتال والتضحية في سبيلها وستَتَحقّق النتائج المُسْعِدَة بفضل الله ثم بجهودهم وتضحياتهم وينتصرون ويَنتشر الإسلام تدريجيا ويَسعد الجميع به في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ﴿84﴾" أيْ والله حتما أعظم قوة منهم ومن أيِّ صاحب قوة فهو القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا مُقَارَنَة قطعاً بين الخالق ومخلوقه! وهو أيضا أعظم تنكيلاً أيْ تعذيباً لهم من تعذيبهم هم لخَلْقه لأنَّ عذابهم يمكن التخلّص منه أمّا عذابه تعالي فلا يمكن فهو سيُعَذّبهم في دنياهم بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ثم في أخراهم بما هو أعظم عذاباً وأتمّ وأخلد.. هذا، والنكال هو العذاب الشديد للعاصِي المُخالِف مُخَالَفَة شديدة والذي يكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يَفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير لهم ومزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴿85﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ وَسِيطَاً في كل خيرٍ مُعِينَاً عليه مُحِبَّاً داعياً له، لا وسيطا لأيِّ شرٍّ ولا مُعينا عليه بل كارهاً مُقاوِمَاً مانِعَاً له، حيث نَشْر الخير في كلّ مكانٍ مُمْكِنٍ مناسب، وبكل أسلوبٍ ممكن مناسب، ومع كل فرد أو حتي أيّ مخلوقٍ ممكن مناسب، لا شك حتما ينشر السعادة بين الجميع، وفي الكوْن كله، في دنياهم، ثم لهم قطعا ما هو أسعد وأعظم وأتمّ وأخلد في أخراهم، ولمَن يفعل ذلك بالتأكيد سعادة معهم وأكثر لقوله ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾، وله في ميزان حسناته يوم القيامة مثل أجر كلّ مَن يعمل بما نَشَرَ مِن أيِّ خير.. والعكس صحيح تماما، فنَشْر الشرّ مؤلم مُتْعِس في الداريْن، ولمَن ينشره كِفْل أيْ نصيب منه مؤكّداً في دنياه ثم يتحمَّل إثم كل مَن يعمل بما نَشَرَه مِن شَرٍّ في أخراه، إلاّ أنْ يتوب فيعفو الله الغفور الرحيم عنه
هذا، ومعني "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴿85﴾" أيْ مَن يَتَوَسَّط وَسَاطَة حَسَنَة أيْ يَسْعَ في أمرٍ يَتَرَتَّب عليه أيّ خيرٍ يَكُنْ له حتماً جزءٌ مِن هذه الوَسَاطَة الحَسَنَة أيْ له نصيب من أجرها أيْ له في مُقابِلها وبما يُناسبها وبحسب سَعْيه وعمله ونفعه وأثره أجره العظيم عليها من الله تعالي مُتَمَثّلاً في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه.. وفي هذا تشجيعٌ للناس علي فِعْل كل خيرٍ لنشر السعادة بينهم في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا.." أيْ والعكس صحيح تماما، فمَن يَتَوَسَّط وَسَاطَة سيئة أيْ يَسْعَ في أمرٍ يَتَرَتَّب عليه أيّ شَرٍّ يكن له حتماً كِفْلٌ من هذه الوساطة السيئة أيْ له نصيب ومقدار من إثمها وشرّها أيْ له في مُقابِلها وبما يُناسبها وبحسب سَعْيه وعمله وضَرَره وأثره ذنبه وعقابه عليها من الله تعالي مُتَمَثّلاً في كل شرٍّ وتعاسة في دنياه ثم أخراه.. وفي هذا تحذيرٌ للناس مِن فِعْل أيّ شرّ حتي لا تنتشر التعاسة بينهم في الداريْن.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴿85﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ مُقِيتَاً أيْ يُعطي كل إنسان قُوُتَه أيْ رزقه وأجره وحسابه كاملا دون أيِّ نقص، وبما أنه وحده الذي يُعطيه القُوت فهو بالتالي المُقْتَدِر والحافظ والشاهِد والحَسيب علي كلّ شيء وكلها من معاني المُقِيت، والمقصود أنه كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليماً تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، وهو يعلم بتمام العلم كل أقوالهم وأفعالهم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانهم ودواخل كل الأمور وشفاعاتهم الحسنة والسيئة فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿86﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن ينشرون السلام أيْ الأمن والاستقرار والسرور بين الناس وعموم الخَلْق، بأقوالك وأفعالك، في كل وقتٍ ومكان، فإنَّ ذلك أساس الحياة الآمِنَة المستقرّة السعيدة
هذا، ومعني "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿86﴾" أيْ وإذا حَيَّاكم أيُّ أحدٍ بأيِّ تَحِيَّةٍ مَا – وأصل معني التّحِيَّة الدعاء بالحياة – سواء بسلامٍ أو بدعاءٍ أو بتكريمٍ أو غيره، فرُدُّوا عليه بأحسنَ منها لفظاً وبَشَاشَة أو علي الأقلّ بمثلها، فإنَّ نشر السلام والتّحِيَّات لَفْظِيَّاً مصحوباً بكل حبٍّ وتَبَسُّمٍ وطمأنينةٍ كقول السلام عليكم وما شابه هذا وعملياً بنشر كل خُلُقٍ حَسَنٍ من أخلاق الإسلام ينشر الأمن والأمان وصفاء الذات والتَّحَابّ والتعاون والتسامُح والتّصَافِي والتقارُب بين جميع البَشَر – بل وجميع المخلوقات والكوْن كله – علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، فيسعدون في دنياهم، ثم أعظم وأتمّ وأخلد سعادة في الآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿86﴾" أيْ كان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ علي كلّ شيءٍ حسيباً أيْ مُحَاسِبَاً حافِظَاً مُرَاقِبا مُشاهِداً دقيق الحساب لا يترك شيئاً ولا يَخْفَيَ عليه شيءٌ في كل كوْنه، مُحاسِبا لكل أقوال وأعمال البَشَر، مُعْطِيَاً لهم علي خيرها بكل تأكيدٍ بما هو أعظم منها، في دنياهم أولا حيث تمام السعادة والخير والكفاية التامّة بالنصر والعوْن والرعاية والرضا والحب والأمن ثم في أخراهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر، ويُجَازِيهم بالقطع علي شَرِّها بما يستحِقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في دنياهم بدرجةٍ ما من درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم لهم حتما ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ﴿87﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ﴿87﴾" أيْ الله لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، سيَجمعكم بكل تأكيدٍ يوم القيامة الذي لا شك فيه حيث يَبعثكم جميعا منذ آدم ﷺ وحتي نهاية الحياة الدنيا بأجسادكم وأرواحكم مِن قبوركم بعد كوْنكم تراباً ويُخبركم بكل ما عملتم وقلتم في دنياكم ليُحاسبكم عليه بتمام العدل بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة حيث قد حَصَره وجَمَعه وحَفِظه سبحانه تمام الإحصاء والحفظ وسَجَّله في كتبٍ خاصة بكل واحد منكم بكل دِقّةٍ ، فانْتَبِهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ﴿87﴾" أيْ ومَن حديثه وكلامه أصدق مِن حديث وكلام الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أصدق من الله حديثا في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم ﷺ ، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿88﴾ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿89﴾ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴿90﴾ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿91﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من فئة المسلمين الذين يُحْسِنُون بتَوَازُنٍ التّعَامُلَ مع المنافقين، فيَقبلون منهم الظاهر لهم من أقوالهم وأفعالهم، ولكنهم يَحْذرونهم أشدّ الحَذَر، فلا يتّخِذون منهم أولياء، أيْ لا يَتَدَاخَلون معهم ولا يُحِبّونهم ولا يَبُوحُون بأسرارهم لهم ولا يتّخِذون منهم مُعاوِنَاً أو مُستشاراً أو نحو ذلك، وإنما يُعاملونهم فقط بالإحسان الذي طَلَبه منهم الإسلام.. بينما هناك فئة من المسلمين لا يفعلون هذا، فنَبَّهَهُم سبحانه لخَطَرهم فلا يَغفلون عنهم، وذلك لأنهم يُخْفون الشرَّ والعَداء ويُظهرون كذباً الخير والوَلاء
هذا، ومعني "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿88﴾" أيْ هذا سؤالٌ لإنكار ورفض تَعَدُّد آراء المسلمين فى شأن بعض المنافقين الذين يُظهرون الإسلام وهم يُخفون الكفر حيث هم غير مسلمين لا مجرد عُصاة يُخالفون أخلاق الإسلام ولكنهم مسلمون وهو سؤال أيضا لِلَوْم بعض المسلمين الذين يُحسنون الظن بأمثال هؤلاء مع أنَّ أحوالهم وأقوالهم وأعمالهم تدعو بوضوح إلى سوء الظنّ بهم وشدّة الاحتياط عند التعامُل معهم.. أي لقد ذُكِرَ ووُضِّحَ لكم في القرآن الكريم أيها المسلمون الكثير من أحوال وصفات المنافقين بما يكشف عن سُوئهم ومَكرهم ويدعو إلى الحَذَر منهم، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذى جعلكم تختلفون فى شأنهم وحالهم إلى فئتين؟ فئة أيْ مجموعة منكم تُحْسِن الظنّ بهم وتُدافع عنهم، وفئة أخرى سليمة صائبة الحُكْم عليهم حيث لَمَّا ظَهَرَ شَرّهم لم تُقْبِل عليهم وأعْرَضَت عنهم وأخَذَت حِذْرها منهم، فالآن أيها المسلمون بعد أن انكشف حال أولئك المنافقين أنَّ نفاقهم من النوع الذي يُخْفِي كُفْرَاً لا مجرد العصيان، عليكم أن تتركوا الخلاف فى شأنهم، وأن تتفقوا جميعا على أنهم بعيدون عن الحقّ والإيمان منغمسون فى الضلال والبطلان وأن تحذروهم تمام الحَذَر.. ".. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإنكار والتّعَجُّب السابق، أيْ كيف تختلفون في شأن أمثال هؤلاء المنافقين والحال والواقع أنْ الله قد أظهر إرْكاسهم أيْ ارتدادهم وانقلابهم للكفر – من الرَّكْس أيْ قَلْب الشيء علي رأسه وتَحَوّله من حالٍ حَسَنٍ إلي حالٍ سيّء – بما كسبوا أيْ بسبب ما عملوا من سوءٍ أيْ بسبب كفرهم واختيارهم إيّاه بكامل حرية إرادة عقولهم وإصرارهم عليه ونشره ومحاولاتهم مَنْع نَشْر الإسلام وتشويهه والإساءة إليه والاعتداء عليه وعلي المسلمين وفِعْلهم الشرور والمفاسد والأضرار، فهو سبحانه يُظْهِر كل هذا السوء الذي يُخفونه بين الحين والحين في فَلتات أقوالهم وأفعالهم السيئة لأنَّ هذا السوء من كثرته لا يستطيعون إخفاءه لفتراتٍ طويلة وعن الجميع وذلك حتي تعلموهم وتحذروهم وتعاملوهم بما يناسبهم.. ".. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي الإنكار والتّعَجُّب السابق، أيْ هل تريدون أيها المسلمون أن تُرْشِدُوا إلي الإسلام مَن أضَلّه الله؟! إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿88﴾" أيْ وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال
ومعني "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿89﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التوضيح لسبب الإنكار والرفض لتَعَدُّد آراء المسلمين فى شأن بعض المنافقين أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم.. أيْ أنَّ هؤلاء المنافقين الذين يُحْسِن الظنّ بهم ولا يَحْذرهم بعضكم أيها المسلمون لا يَكتفون فقط بكفرهم فى أنفسهم بل هم أيضا يَتَمَنّون ويُحِبّون ويُريدون أن تكفروا مثلهم بحيث تكونون أنتم وهم متساوين فى الكفر والنفاق، وهذا يُفيد ضِمْنَاً شدّة عداوتهم وكراهيتهم لكم وتَمَنّيهم وسَعْيهم الدائم اليائس الوَاهِم بانتهاء الإسلام من الأرض وهزيمته وانتشار الكفر وانتصاره!!.. إنهم لا يُحبّون أن يروكم تعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوكم ويَستغفلوكم ويَسْتَغِلّوا جهودكم وثرواتكم وخيراتكم ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. فكيف إذَن لا تَحذروهم أشدّ الحَذَر ولا تُعاملوهم بما يُناسب؟!.. ".. فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ فإذا كانوا كذلك فبالتالي لا تتّخِذوا منهم مُطلقاً أولياء أيْ يَتَوَلّون أموركم يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتَتحابّون وتَتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسراركم ونحو هذا، واسْتَمِرّوا في ذلك حتي يَظهر منهم ما يَدلّ على تَرْكهم نفاقهم وكفرهم وعودتهم للإسلام صِدْقَاً لا خِدَاعَاً بأنْ يهاجروا في سبيل الله أيْ في طريقه أيْ من أجله لا من أجل هدفٍ آخرٍ كأثمان الدنيا الرخيصة الزائلة، أيْ يُفارِقوا أيَّ شرّ، ويُفارِقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، ويُفارِقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، ويُفارِقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها عند الاحتياج لذلك من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها والدفاع عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي عليها بالقتال، وبذلك تزول عنهم صفة الكفر والنفاق.. ".. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.." أيْ فإنْ أَعْطوا ظهورهم للإسلام والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وعلي كفرهم ونفاقهم، وانْضَمُّوا لأعدائكم وعاونوهم بالتّجَسُّس عليكم والغَدْر بكم أو بالقتال معهم إذا اعتدوا عليكم بالقتال فحينها خذوهم في الأسْر واقتلوهم في المعارك كما تأسرون وتقتلون أعداءكم تماما أينما وجدتموهم وقَدَرْتُم عليهم فهُم مثلهم.. ".. وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿89﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتحذير من اتّخاذ أيّ أحدٍ منهم وَلِيَّاً يَتَوَلّيَ شأناً مَا لكم أو مَحَبّته أو إعطائه سِرَّاً أو اتّخاذه ناصراً يَنصركم ويُعينكم ويُدافع عنكم، وذلك لأنهم من أعدائكم لا منكم ولا خير فيهم ولا يُعتمد عليهم وسيُخادعون وسيَخُونون ومَن كان هذا حالهم فهُمْ لا يُؤْتَمَنون والمُوَالاة معهم والنصرة بهم ستكون هزيمة حتمية وخسارة في الداريْن
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴿90﴾" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من المنافقين الذين عليكم أن تأخذوهم وتقتلوهم حيث وجدتموهم والذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ منافقون يَتّصِلُون ويَرْتَبِطون بقومٍ ودولٍ بينكم وبينهم عهد أمان يمنع قتل المُنْتَمِين لهم ولكم فهؤلاء لا تقتلوهم إذا عرفتموهم ولكن عامِلوهم بما تُعامِلون به أقوامهم ودولهم وبما اتفقتم عليه في ميثاقكم معهم لأنهم باتّصالهم وارتباطهم واستجارتهم بهم قد صار حُكْمهم كحُكْمهم من حيث الأمان وعدم الاعتداء، لأنَّ الإسلام يحافظ تماماً علي العهود والمواثيق ويُوَفّي كاملاً بها، وهذا الوفاء يَنشر الأمان في الأرض ولعلهم بحُسْن مُعاملتهم يُسْلِمون يوماً مَا ليسعدوا مثلكم في الداريْن.. ".. أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ.." أيْ وكذلك يُسْتَثْنَيَ منافقون يأتونكم وحالهم وواقعهم أنهم قد ضاقَت وانْقَبَضَت نفوسهم وعقولهم ومشاعرهم كراهة أنْ يُقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم – الذين هم أعداء لكم واعتدوا عليكم لسببٍ من الأسباب ولا يوجد بينهم وبينكم ميثاق – فلا هم يريدون أن يقاتلوكم يا مسلمين لأنَّ لهم علاقات معكم وينتفعون منكم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم لأنهم منهم ولهم منافع عندهم وأقارب وأنساب بينهم فهم يريدون أن يبقوا علي الحِياد مُسَالِمِين، فأمثال هؤلاء لا يُؤْخَذون في الأسْرِ ولا يُقاتَلون بسبب حِيادِهم ومُسَالَمَتِهم.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مظاهر فضل الله ورعايته وعوْنه للمسلمين ليشكروه علي ذلك وليطمئنوا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة فيزدادوا بذلك قوة في تمسّكهم بإسلامهم ونَشْرهم ودعوتهم له ودفاعهم عنه.. أىْ ولو شاء الله لأَطْلَقَ لأعدائكم السلطان والنفوذ والقُدْرة عليكم ومَكّنهم منكم وحَكَّمهم فيكم بأن يجعلهم يَتَجَرَّأون ويَتَجَمَّعون علي قتالكم ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك حيث ألقيَ الرُّعب منكم فى صفوفهم فَفَرَّقهم وجعل منهم مَن يأتى إليكم مُسَالِمَا.. ".. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴿90﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن مُسَالَمَة أمثال هؤلاء وعدم قتالهم.. أيْ فإنْ تَرَكُوكم فلم يُقاتلوكم وانْقادوا اليكم مُسْتَسْلِمين طالِبين الصلح والأمان راضِين به غير مُعانِدين ولا مُخَالِفين مُرَاوِغِين فلم يجعل الله لكم حينها إذَن عليهم في شرعه الإسلام طريقاً من الطرق لقتالهم فعليكم قبول مُسَالَمتهم وألاَّ تقاتلوهم
ومعني "سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿91﴾" أيْ ستَجدون أيها المسلمون قوما آخرين من المنافقين غير الذين ذُكِرُوا لكم سابقا يريدون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم فيُظْهِرون لكم الإسلام – ولكنهم لا يَمُدّون يَدِ الأمان لكم بل هم مُسْتَعِدّون لقتالكم إذا سَنَحَت لهم أيّ فُرْصَة – ويريدون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين فيُظْهِرون لهم الكفر.. ".. كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا.." أيْ ومن أهم الصفات القبيحة التي يَتّصِف بها هذا الصنف الوضيع من المنافقين والتي عليكم أن تنتبهوا لها وتحذروها وتستعدوا للتعامُل معها أنهم كلما أعيدوا إلي صفة الكفر والعَصَبِيَّة ومُقَاتَلَة المسلمين بأنْ دعاهم الكافرين إليها أُرْكِسُوا فيها بمجرّد دعوتهم أيْ انْقَلَبُوا وتَحَوَّلوا إليها ووَقعوا وانْغَمَسُوا فيها أسوأ وقوعٍ وتَحَوُّل – من الرَّكْس أيْ قَلْب الشيء علي رأسه وتَحَوّله من حالٍ حَسَنٍ إلي حالٍ سيّء – تارِكين أيّ إسلامٍ كانوا يُظهرونه أو أيّ عهدِ صُلْحٍ كانوا يَدَّعون الالتزام به.. ".. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.." أيْ فأمثال هؤلاء إنْ لم يتَرَكُوا التّعَرُّض لكم والعدوان عليكم بصورةٍ من الصور ولم يلتزموا الحِياد لا ضِدّكم ولا معكم، ولم يَنْقادوا اليكم مُسْتَسْلِمين طالِبين الصلح والأمان راضِين به غير مُعانِدين ولا مُخَالِفين مُرَاوِغِين، ولم يَكُفّوا أيديهم عنكم أيْ ولم يَمتنعوا عن قتالكم، فحينها خذوهم في الأسْر واقتلوهم في المعارك حينما يقاتلونكم كما تَأْسِرون وتقتلون أعداءكم تماما أينما ثقفتموهم أثناء القتال أيْ وجدتموهم لأنهم منهم لا منكم.. ".. وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿91﴾" أيْ وهؤلاء المَوْصُوفون بهذه الصفات الدنيئة – وليس المُسَالِمين من المنافقين الذين ذُكِرُوا سابقا – هم الذين قد جعل الله لكم بذلك القُبْح الذي فعلوه دليلاً واضحاً وسُلْطة مُبَرَّرَة عليهم وإذْنَاً وسَمَاحَاً في ضرورة قتالهم بسبب بدئهم بقتالكم وظهور غَدْرهم بكم ورفضهم لمسالمتكم
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿92﴾ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿93﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم، حيث بهذا يَأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفَوْضَيَ وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون
هذا، ومعني "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿92﴾" أيْ أيْ ولا يَحِلّ أبداً ولا يَحِقّ ولا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لإنسانٍ مؤمنٍ أن يقتل مؤمناً أخاً له في الإسلام إلا أن يقع منه ذلك خطأ غير مقصودٍ لا عَمْد فيه.. ".. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ فعليه في هذه الحالة الكفَّارَة وهي تحرير عَبْدٍ مؤمنٍ من العبيد ليُكَفّر عن خطئه عند الله يوم القيامة والذي كان غالبا بسبب درجةٍ مَا من درجات التّهَاوُن وعدم أخذ تمام الحَذَر بأنْ يُعَوِّض المجتمع المسلم عَمَّا فَقَده لأنَّ عِتْق الرقبة المؤمنة هو إحياء لها بجَعْلها حُرَّة فكأنه صَوَّبَ خطأه بأنْ أحيا نفساً في مُقابِل إماتته أخري بالخطأ.. ".. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.." أيْ وعليه أيضا تسليم ودَفْع دِيَة إلي أهله أيْ ورثته تعويضاً ومواساة لهم عَمَّا فقدوه بكل سماحةٍ ولُطْفٍ بلا مُمَاطَلَة تَدْفعهم للتّظَلّم والتّقاضِي وتزيد ألمهم، وهي مبلغ من المال هو مائة من الإبل أو ما يُعادِل ثمنها كما وَرَدَت بذلك سُنَّة الرسول ﷺ ، تُقَسَّم عليهم كما تُقَسَّم المواريث، ويَدْفعها بمفرده إنْ كان مستطيعاً أو بمشاركة عائلته كنوعٍ من التعاون فإنْ لم يستطيعوا تُدْفَع من بيت مال المسلمين من خلال الدولة المسلمة حتي لا يضيع حقّ أهل القتيل.. إلا أنْ يَتَصَدَّقوا بها عليه ويُسامحوه ويَتنازَلوا عنها كلها أو بعضها فلا شيء عليه ولهم أجرهم العظيم من ربهم الكريم في دنياهم وأخراهم لنشرهم روح التراحُم والتسامُح والتعاون في مجتمعهم وسيكون كل خيرٍ يُفْعَل بهذا المال الذي تركوه في ميزان حسناتهم يوم القيامة.. ".. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ فإن كان المقتول مؤمناً لكنَّ وَرَثَته أعداء مُحَارِبين للإسلام والمسلمين فلا يُعْقَل أن تُعْطَيَ لهم دِيَة يَسْتَقْوُون بها علي مزيدٍ من مُعادَاة المسلمين وإنما علي القاتل فقط تحرير رقبة مؤمنة تَنْطلق بحُرِّيتها في نَفْع المجتمع المسلم وتُعَوِّضه عَمَّا فقده مِن نفسٍ مؤمنة كانت نافعة له سواء داخل دولة مسلمة أو خارجها في دولة عَدُوَّة لها.. ".. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.." أيْ وإنْ كان المقتول سواء أكان كافراً أم مؤمناً وَرَثَته كفار لكنهم مُسَالِمين غير مُعْتَدِين يَعيشون آمِنين في دولة الإسلام أو حتي خارجها لكنْ بينكم أيها المسلمون وبينهم ودولتهم معاهدة سلامٍ فحُكْمهم كحُكْم المسلمين فلهم دِيَة تُسَلّم إليهم كما تُسَلّم للمسلمين تعويضاً ومواساة لهم عَمَّا فقدوه بكل سماحةٍ ولُطْفٍ بلا مُمَاطَلَة تَدْفعهم للتّظَلّم والتّقاضِي وتزيد ألمهم، مع تحرير رقبة مؤمنة تكون كفّارة للقاتل من خَطِئه عند الله يوم القيامة وتعويضاً للمجتمع المسلم عن فقدانه نفساً مسلمة أو كافرة مُسَالِمَة نافعة.. هذا، وتقديم الدِّيَة هنا على الكفّارة بتحرير الرقبة على العكس مِمَّا جاء فى أول الآية للتنبيه لأهمية المُسَارَعَة إلى تسليمها حتى لا يَتَرَدَّد القاتل فى دَفْعها لهم لأنهم غير مسلمين.. ".. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.." أيْ فمَن لم يجد عبْداً لتحريره أو لم يجد المال الذي يشتريه به أو ما شابه هذا من عقبات، فعليه في هذه الحالة أن يصوم شهرين مُتَوَاصِلَيْن فى أيامهما بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين إلا أن يكون الفطر بسبب عُذْرٍ كمرضٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ فإنه يُفْطِر ويَستكمل الباقي، فمَن لم يستطع الصوم أصلاً لسببٍ من الأسباب كمرضٍ مُزْمِنٍ أو كِبَرِ سِنٍّ أو غيره فلا شيء عليه لأنَّ الله تعالي لم يَذْكر في هذه الآية الكريمة لحالة القتل الخطأ غير الصيام لكنْ عند بعض العلماء عليه إن لم يستطع الصوم أن يُطْعِم سِتّين مسكينا بأن يُقَدِّم لهم ما في إمكاناته من طعامٍ مُعْتَدِلٍ يُناسبهم ويَكفيهم ويُشبعهم ما استطاع.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ مَن يملك قيمة العبد ولا يجده يَتصدَّق بثمنه للمحتاجين وقَدَّروا الثمن بعُشْر قيمة دِيَة القتل الخطأ.. ".. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ.." أيْ لكي يتوبَ الله عليه من خَطِئه الذي كان غالبا بسبب عدم أخذه تمام الحَذَر كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا في القتل الخطأ، ولكي يكون تهذيباً وتَدْريباً له علي تمام الاحتراس مستقبلا في كل شئون حياته فيَسعد بذلك في الداريْن.. إنَّ هذه التوبة ليست مِن إثم القتل الخطأ، لأنَّ الإثم في الآخرة مَرْفوع عن المُخْطِيء في القتل وغيره لأنه غير مقصود كما وَضَّح ذلك الرسول ﷺ بقوله "إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمّتِي الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه" ﴿حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما﴾، وإنما التوبة بالاستغفار وبِفِعْل الكفّارة أو بتنفيذ عقوبة دنيوية مَا في حال خطأٍ غير القتل إضافة إلي تعويض ما تَمَّ إتلافه بإعطاء أصحاب الحقوق والمجتمع حقّهم المُناسب تكون من إثم التقصير والتهاوُن وقِلّة التّثَبُّت والتّحَقّق، ولكي يظلّ المسلم بعد ذلك في حالة تَذَكّر دائم بحيث لا يَقع منه فى المستقبل ما وَقَعَ منه فى الماضى.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿92﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿93﴾" أيْ ومَن يَقتل مؤمناً مُتَعَمِّدَاً قَتْلَه فعقابه يوم القيامة الذى يستحقّه في مُقابَل هذه الجريمة التي هي من أكبر الكبائر دخول جهنم باقياً فيها مدة طويلة هائلة لا يعلم مقدارها إلا الله تعالي يُعَذّب بعذابها الذي لا يُوصَف، وغضب الله عليه – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كَرِهَه كراهية شديدة لفِعْلِه وانتقمَ منه بعقابه بما يُناسِب في الداريْن، ولَعَنَه أيْ طَرْده من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده، وجَهَّزَ له عذاباً عظيماً أيْ عذاباً هائلاً شديداً مُؤْلِماً مُوجِعَاً لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسِب فِعْله، في دنياه أولا حيث كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراه له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمن يَفعل ذلك، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. هذا، والقاتل إذا كان مسلما فإنه لا يُخَلّد في النار كخلود الكافر ولكنَّ خلوده يعني فترات هائلة إلي ما شاء الله، ولا زَالَت له توبة لقوله تعالي "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ وذلك بأن يَنْدَم بالعقل ويَعْزِم علي عدم العودة ويستغفر باللسان ويُقَدِّم نفسه للدولة ولأهل المقتول ليُقْتَصَّ منه ومن المُمكن أن يَعفو هم عنه ويُعَوِّضهم ربهم الكريم بسبب عفوهم بالعطاء العظيم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿178﴾، ﴿179﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن القِصَاص﴾، وبهذا يَضمن النجاة من العذاب
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿94﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿94﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا ضربتم الأرض بأرجلكم سائرين متنقلين عاملين أيَّ عمل في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة وكذلك ضاربين مجاهدين مقاتلين المعتدين، في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. فَتَبَيَّنُوا.." أيْ فعليكم أن تَتَثَبَّتوا وتَتأكّدوا مِن صِحَّة معلوماتكم وأقوالكم وتَصَرُّفاتكم قبل فِعْلها وتَتَأنّوا ولا تَتَعَجَّلوا عند التَّعامُل في أيِّ شأنٍ من الشئون ومَوْقِفٍ من المَوَاقِف، وإذا كان التّأنّي والتّثَبُّت في الأمر الصغير مطلوبا فإنه في الأمر الكبير أشدّ طَلَبَاً، عند قتال الأعداء إذا اعتدوا، حيث قد يحدث تحت اسم الجهاد في سبيل الله أن تختلط الأمور ويُقْتَل الأبرياء والإسلام يمنع ذلك أعظم المَنْع حتي ولو قُتِلَ بريءٌ واحدٌ أو حتي خُدِش أو جُرِح لأنه ما جاء أصلاً إلا لحماية الناس ورعايتهم وتنميتهم وإسعادهم في الداريْن.. إنه بهذا التّبَيُّن تَقِلّ الأخطاء كثيراً أو حتي تَنْعَدِم، ويَرْقَيَ الجميع ويَقْوُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. ".. وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ ولا تقولوا لمَن حَيَّاكم بالسَّلام مُظْهِرَاً إسلامه وعَمَله بأخلاقه حتي ولو كان ظاهريَّاً أنك لست مسلماً حقيقة بل أنت كاذب مُدَّعِي تريدون بذلك ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره حيث بعدم تصديقه قد تأخذون منه حقاً له ليس لكم وقد تقتلونه إنْ كنتم في قتالٍ تريدون ما يَملكه باعتباره كافراً مُعْتَدِيَاً مُؤَيِّدَاً للكفر وللمُعتدين أو ما شابه هذا من مَظَالِم وأخطاء يمنعها الإسلام منعاً تامَّاً، بل عليكم أن تَقْبَلُوا من الناس ظاهر أقوالهم وأفعالهم، وتُعاملوهم علي أساسها، ولا تَبحثوا فيما هو داخلهم ويفكرون فيه بعقولهم، وتظنون بهم ظنوناً سيئة وتَتَوَهَّمون بهم تُهَمَاً باطلة غير حقيقية، كما نَبَّهكم لذلك الرسول ﷺ بقوله "أفَلاَ شَقَقْتَ عن قَلْبِه..؟" ﴿جزء من حديث أخرجه مسلم وغيره﴾، فإنَّ النوايا بداخل العقول لا يعلمها إلا الله تعالي خالِق الخَلْق بينما البَشَر لا يعلمون إلا مَا يَظهر لهم من أقوالٍ وأفعالٍ، فهذا مِمَّا يُقَلّل الشكوك ويُصَفّي العقول ويزيد التعاون والترابُط فيَقْوَيَ المجتمع ويَسعد الجميع في الداريْن، مع مراعاة أن يظلّ الحَذَر المُعْتَدِل موجوداً مِمَّن قد يَظهر منهم أحياناً سوءاً مَا.. ".. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ.." أيْ لا تَطلبوا هذا العَرَض القليل الزائل من الحياة الدنيا بهذا الأسلوب لأنَّ الله عنده مغانم كثيرة حلال أعظم خيراً يُغنيكم بها عنه.. أيْ فإنْ كان قصدكم غنيمة مَا من غنائمها فإنَّ عند الله مالك الملك مغانم كثيرة حتماً يَعِدكم بها فاصبروا ولا تأخذوا ما تَشكّون فيه من أرزاقٍ – كأنْ تعتدوا مثلا علي مَن أظهر الإسلام مُتَشَكّكِين منه ونحو هذا – حتي يُعطيكم ربكم ما لا شكّ فيه وأطيعوه فيما يُوصِيكم به واعملوا بكل أخلاق إسلامكم وأخْلِصوا وأحْسِنوا يَرزقكم ويغنمكم كل ما تريدون وتأملون وتحبون من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، فلا يَدْفَعكم العَرَض الزائل القليل على ارتكاب ما لا يَصِحّ من أمثالكم الذين يُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فيفوتكم ما عند الله من خيرهما فما عنده خيرٌ وأبْقَىَ.. ".. كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.." أيْ كذلك كنتم سابقاً بَعِيدين عن أخلاق الإسلام كهذا الذي ألْقَيَ إليكم السلام فتَشُكّون في إسلامه فتَفَضَّلَ وأنْعَمَ الله بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه عليكم بأنْ يَسَّرَ لكم مَن يُحْسِن دعوتكم له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ويُحَبِّبه لكم ويُيَسِّر لكم أسباب التمسّك والعمل بأخلاقه وأعانكم سبحانه علي ذلك ويَسَّره لكم فلا تَنْسوا ذلك أبداً وتَذَكّروه دوْمَاً ليُعينكم هذا التّذَكّر لهذه النعمة العظيمة التي لا تُقَارَن بأيِّ نعمةٍ أخري علي أن تأخذوا أنتم أيضا بأيدي غيركم من جميع الناس مهما كانت درجة فسادهم وبُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم ومهما كانت ثقافاتهم ودياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم وبيئاتهم وعلومهم وأفكارهم لأنَّ العقول والفطرة فيها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ستَتَحَرَّك حتما إذا أحسنتم تحريكها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وإذا صبرتهم علي حُسْن دعوتهم لله وللإسلام كما فَعَل دُعاتكم له معكم مِن قَبْل وإذا قَبِلْتُم منهم ما يُظْهِرونه ولم تَتَشَكّكُوا فيهم فإنَّ الثقة من السابقين في اللاحقين – مع الحَذَر المُعْتَدِل – تُسَرِّع تَطَوّرهم في الخير وعملهم بالإسلام بينما التّشَكّك فيهم يُبْطِئه، وإذا استعنتم جميعا بربكم لِيُيَسِّر لكم عملكم بأخلاق إسلامكم كما وَعَدَ بذلك لمَن يبدأ بالاتّجاه نحوه والتّقَرُّب إليه ولو بخطوة كما جاء في الحديث " .. ومَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعَاً.." ﴿جزء من حديث قدسي أخرجه مسلم وغيره﴾، فلتأخذوا إذَن بأيدي غيركم قَدْر استطاعتكم لتسعدوا كلكم في دنياكم وأخراكم، ولكم أجركم العظيم فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. إنَّ الآية الكريمة تُذَكّر كل مسلمٍ أنَّ عليه وهو في حالة قوةٍ أنْ يَتذكّر أنه كان سابقا في حالة ضعفٍ فلا يَسْتَضْعِف بالتالي ضعيفاً فيَظلمه بل يُعاونه لِيَقْوَيَ، وإنْ كان في غِنَيً فلْيَتذكّر فَقْرَه السابق فيُغْنِي الفقير ولا يَتَعَالَيَ عليه، وإنْ كان في عِزّةٍ وأمانٍ فلْيَتَذَكّر الذلّة والخوف ولْيُعِن مَن هم فيهما علي الخَلاص منهما، وهكذا.. ".. فَتَبَيَّنُوا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتنبيه والتحذير علي أنَّ عليكم أيها المسلمون أن تَتَثَبَّتوا وتَتأكّدوا مِن صِحَّة معلوماتكم وأقوالكم وتَصَرُّفاتكم قبل فِعْلها وتَتَأنّوا ولا تَتَعَجَّلوا عند التَّعامُل في أيِّ شأنٍ من الشئون ومَوْقِفٍ من المَوَاقِف.. ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿94﴾" أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيرا أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿95﴾ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿96﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله بمَالِك ونفسك (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿95﴾" أيْ هذا حثٌّ وتشجيعٌ علي الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وغيره لأجره العظيم في الداريْن وتَنْفِيرٌ من التّخَلّف عنه بغير عُذْر لسوء نتائج ذلك فيهما.. أي لا يَتَساوَيَ حتماً عند الله تعالي العادِل، الذين يَقعدون ويَتَخَلّفون من المؤمنين، بسبب تكاسُلٍ أو انشغالٍ أو خوفٍ أو غيره، عن بَذْل الجهد في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، مع المُجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، في درجتهم وأجرهم العظيم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن مفهوم الجهاد وأنواعه وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾، إلاّ إذا كان القاعِدون عن الجهاد من أصحاب الضرَر أي مِمَّن بهم ضَرَر أيْ لهم عُذْر مَقْبُول عند الله في القعود كالمرضي والعُمْي والعُرْج والذين لا يَجِدُون ما يَتَجَهّزون به وككبار السِّنّ الضعفاء وما شابه هؤلاء، فإنَّ عُذْرهم يَرْفع عنهم اللّوْم ولا يُعْتَبَرُون من القاعِدين المُتَخَلّفين لأنَّ نواياهم بعقولهم بكل صدقٍ يعلمه الله تعالي بداخلهم أنه لوْلَا هذا الضرَر لكانوا مع هؤلاء المجاهدين وأنهم مع ضَرَرهم سيُقَدِّمون لهم ما استطاعوا مِمَّا يَملكون من دعاءٍ وخدماتٍ وأموالٍ ونحو هذا ولهم بذلك بإذن الله الأجر العظيم علي قَدْر ما يُقَدِّمُون ولا يُظْلَمُون شيئا.. ".. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً.." أيْ مَيَّزَ وزَادَ الله بتمام عَدْله وميزانه الدقيق الذي لا يَظلم مِقْدار ذرّة المجاهدينَ بأموالهم وأنفسهم علي القاعدين بعُذْرٍ بدرجةٍ رفيعةٍ عاليةٍ فوقهم في الجنة أيْ بزيادةٍ ووَفْرَةٍ في أجرهم عنهم لأنَّ المجاهدين قد عَرَّضُوا أنفسهم بالفِعْل علي أرض الواقع للمخاطر والأهوال وبذلوا أرواحهم وأموالهم فى سبيل الله.. ".. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.." أيْ والله يَعِد كُلَّاً من الفريقين حتماً الجنة مع اختلاف درجاتهم فيها، إضافة قطعاً إلي مَا يَعِدهم به في دنياهم من عِزّةٍ ونصرٍ ومكانةٍ أو فوزٍ بالاستشهاد ودخول أعلي درجات الجنات.. وهذا مدحٌ لكلٍّ منهما وتشجيعٌ للجميع ليَبذلوا أقصي جهودهم ما استطاعوا دون تقصيرٍ علي حسب ظروفهم وأحوالهم وجهودهم وبيئاتهم، وهو أيضا إزالة لاختلاط الأمور حيث قد يَتَوَهَّم أحدٌ مُخْطِئَاً أنَّ الفريق الثاني وهو الذي يَقْعُد عن الجهاد بعذرٍ مع نوايا صادقةٍ به عند الاستطاعة مَحْرومٌ من الأجر الدنيويّ والأخرويّ الذي يناله الفريق الأول! حاشا لله تعالي العدل أن يظلم أحدا ولو بمقدار ذرّة أو أقل!.. ".. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿95﴾" أيْ ومَيَّزَ وزَادَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين بغيرِ عُذْرٍ يَمنعهم عن الجهاد بأجرٍ عظيمٍ لا يُوصَف.. وفي هذا مزيد من التأكيد والحثّ والتشجيع علي الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وغيره لأجره العظيم في الداريْن والتَنْفِير من التّخَلّف عنه بغير عُذْرٍ لسوء نتائج ذلك فيهما
ومعني "دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿96﴾" أيْ هذا الأجر العظيم يكون مَرَاتِب ومنازِل مختلفة منه تعالي ومغفرة لذنوبهم ورحمة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذَرَّة ظلم، درجات في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم بسبب جهادهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿96﴾" أيْ وذلك لأنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما غفوراً لكم أيها الناس جميعا أيْ كثير المغفرة أيْ التغطية لذنوبكم وسترها عليكم والعفو عنكم ومُسامَحتكم فلا يُعاقبكم إذا تُبتم إليه واستغفرتموه وهو سبحانه رحيم دوْما بكم في كل أحوالكم أيْ كثير الرحمة أي الرفق والشَّفَقة والرأفة واللّيِن
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿97﴾ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴿98﴾ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿99﴾ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿100﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُهاجرين في سبيل الله، أي الذين يُهاجرون من أرضِ الذلّة والإهانة وعدم القُدْرة علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام، إلي أرضٍ أخري تكون لهم فيها عِزّة وكرامة وحرية في عملهم بكل أخلاق إسلامهم، حتي ولو كان العيش فيها أكثر خشونة وأقل راحة، لأنَّ الحياة الذليلة المهينة المُنْكَسِرَة لا قيمة لها والموت أفضل منها
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿97﴾" أيْ إنَّ الذين تَقْبِض الملائكة أرْوَاحهم وتُمِيتهم عند نهاية آجالهم وقد ظَلَموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذلّ والهَوَان وإقامتهم فى أرضٍ لم يستطيعوا أن يعملوا فيها بأخلاق إسلامهم وعدم هجرتهم إلى الأرض التى يُمكنهم بها ذلك رغم استطاعتهم لكنّهم يخافون علي مصالحهم وأموالهم ونحو هذا، أو ظلموا أنفسهم عموماً ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ.." أيْ أمثال هؤلاء وهم بهذا الحال تسألهم الملائكة سؤال ذمٍّ عند قَبْضِ أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم فى أىِّ حالٍ كنتم؟ أكنتم في حالِ وبلدِ عِزَّة أم ذِلّة؟ في أيِّ شيءٍ كنتم من أمر إسلامكم أكنتم في شكّ منه أم يَقينٍ حيث لم تكونوا مستطيعين العمل به فكيف رضيتم بذلك؟ كيف قَبِلْتم البَقاء في أرضٍ فيها ذِلّة دينكم وذِلّتكم وإهانتكم وعدم قُدْرتكم علي عملكم بأخلاقه واستطعتم الهجرة منها ولم تفعلوا؟ هل كنتم في المسلمين أم كنتم كافرين؟.. ".. قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ.." أى قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة مُعْتَذِرين عُذْرَاً واهِيَاً غير مَقْبولٍ عند الله تعالي كنا ضعفاء في أرضنا عاجزين عن دفع الظلم والقَهْر عنا يُذِلّنا غيرنا ولم نستطع الهجرة، وهو اعتذار قبيح غير صحيح وهم غير صادقين في ذلك لأنهم هم الذين كانوا في ذات أنفسهم ضعفاء بسبب حرصهم الشديد علي مصالحهم التي جعلتهم يَرْضون بالذلّ والهَوَان حفاظا عليها وقد ظهر قُبْحهم وكذبهم في عدم قبول الله لعذرهم وذَمّهم وتَوَعُّدهم بالعذاب – بينما قَبِلَ عُذْر المستضعفين حقيقة كما في الآية القادمة إذ لا يُكَلّف الله نفساً إلا وُسْعها – حيث قالت الملائكة لهم رافضة مُكَذّبة ذَامَّة لقولهم ".. أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.." أيْ هل لم تكن أرض الله واسعة فتخرجوا فيها من أرضكم إلى أرضٍ أخرى بحيث تأمنون على دينكم الإسلام وتَتَمَكّنون من العمل بأخلاقه بَدَلَ الذلّ الذي تُقيمون فيه؟ هل كانت ضَيِّقَة إلي هذا الحَدِّ بحيث لم تستطيعوا مُفَارَقَة مكانكم؟! لكنْ مَنَعَتكم مصالحكم!! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا وهو أيضا للتقرير أيْ قد تَقَرَّرَ عند كلّ أحدٍ أنها واسعة!!.. ".. فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿97﴾" أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ الآية الكريمة تُرْشِد كلَّ مسلم أن يُهاجر من أرضِ الذلّة والإهانة وعدم القُدْرة علي التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام، إلي أرضٍ أخري تكون له فيها عِزَّة وكرامة وحرية في عمله بكل أخلاق إسلامه، حتي ولو كان العيش فيها أكثر خشونة وأقل راحة، لأنَّ الحياة الذليلة المهينة المُنْكَسِرَة لا قيمة لها والموت أفضل منها.. إنكم أيها المسلمون إنْ لم تستطيعوا عبادتي أيْ طاعتي في أرضٍ ما وُأجْبِرْتم علي عبادة غيري، ومُنِعْتُم مِن تمَسّككم بإسلامكم كله أو حتي بعضه وُأكرهتم علي فِعْل الشرور والمَفَاسِد والأضرار، بإيذاءٍ شديدٍ أو سجنٍ شديد أو تضييقٍ حياتيٍّ شديد أو تهديدٍ شديد جادٍّ بقتلٍ أو ما شابه هذا، فانطلقوا مُهَاجِرين إلي أرضٍ غيرها آمِنة تتمكّنون فيها من التمسّك بالإسلام ولا تعبدوا أبداً غيري، ولا تَتَرَاجَعوا مُطْلَقَاً عن هذا بل تُصِرُّوا عليه وإلا تَعِستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴿98﴾" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره مَن كان مِن المُستضعفين حقيقة لا يستطيع الهجرة والانتقال ولا يُمكنه دَفْع الظلم والقَهْر عنه من الرجال الذين عجزوا حقا عن أن يُهاجروا لضعفهم أو مرضهم أو شيخوختهم أو النساء اللائى لا يستطعن الخروج وحدهنّ خوفا من الاعتداء عليهنّ أو الوالدان الصغار الذين لم يبلغوا الحُلُم بَعْد أو بَلَغوه بُلُوغَاً قريباً لكنهم ضعفاء لا يملكون مالا ولا عملا ولا قوة أو مَن شَابَهَ هؤلاء مِن أصحاب الأعذار الصحيحة الحقيقية المَقْبُولَة.. ".. لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴿98﴾" أيْ لأنهم لا يستطيعون قُدْرة علي التّحَوُّل مِن مكانٍ وحالٍ لآخر بحيث يَدْفعون الظلم والقَهْر عنهم ولا يعرفون طريقاً لذلك يُخَلّصهم مِمَّا هم فيه
ومعني "فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿99﴾" أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة لهم.. أيْ فهؤلاء المذكورون لعلّ الله أنْ يُسامحهم ويَغفر لهم ويَرحمهم ويَرْفع درجاتهم في مُقابِل صبرهم علي الأذي وذلك لعلمه بحقيقة أعذارهم وصِدْق نواياهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إياه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل تنبيههم علي أنّ تركَ الهجرة عند الذلّة وعدم القدرة علي العمل بأخلاق الإسلام أمرٌ شديدٌ حتى إنّ المُضطر لذلك لعذرٍ حقيقيٍّ مَا عليه ألاّ يَقبل بهذا الحال ويدعو الله دوْماً أن يُعينه علي أن يكون له حِيلَة عليها وأن يهتدي إليها سبيلا وينوي نوايا صادقة أنه لو سَمَحت له الفرصة قام بها.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿99﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو أيضا عن الذنوب، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العفو، وذلك لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، فهو الرحيم كثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿100﴾" أيْ هذا حثّ وتشجيعٌ علي الهجرة عند الاحتياج إليها لِمَا فيها مِن خَيْرَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة.. أيْ ومَن يُفارِق ويَترك مكان إقامته ووَطَنه ومجتمعه وأحبابه وممتلكاته وأعماله وعلاقاته، في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ مِن أجله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، أيْ من أجل الدفاع عنه ونُصْرته ونَشْره ليَسعد الناس به، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً.." أيْ يجد بإذن الله وفضله وكرمه وعوْنه وتيسيره لجهوده وأسبابه التي يجتهد في إحسان اتّخاذها، مع الوقت تدريجيا، في الأرض التي يُهاجِر إليها، مُرَاغَمَاً كثيراً أيْ أماكِن مُرَاغَمَة كثيرة يَتَحَوَّل إليها من أرضِ الرَّغَام أيْ التراب والطين والمقصود أرض الذلّ والهَوَان التي كان فيها إلي أراضٍ كثيرةٍ للمُرَاغَمَة أي يُرَاغِم منها أيْ فيها العِزّة والعُلُوّ والمَكَانَة والتّحْصِين والتي منها يُمْكِنه أن يُرْغِمَ ويُجْبِر هو أنف أعدائه في التراب أيْ يَصْرعهم أرْضاً فيه أيْ يَغلبهم ويذِلّهم بتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه ونَشْرها وهم الذين أرادوا إرغام أنفه في الطين أيْ إجباره علي تَرْكها ومَنْعها وهزيمته وإذلاله، ويَجِد كذلك سَعَة أيْ اتّسَاعَاً وزيادة في أرزاقه بكل أنواعها المالية والاجتماعية والفكرية والنفسية والعلمية واتّسَاعَاً في الحرية والحركة والانتقال والعِزّة والكرامة والمَكَانَة والعلم ونشر دعوة الإسلام وغير ذلك بفتح أبوابِ أرزاقٍ له لم يكن يَحْتَسِبها من عند ربه الرَّزّاق ذي القوة المَتين، وهذا أمرٌ يُثْبِت الواقع تحقّقه دوْمَاً لكلّ مَن يُهاجِر في سبيل الله لأنه وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقاً.. ".. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.." أيْ ومَن يَخرج مِن مكان إقامته مُفَارِقَاً تارِكَاً وطنه ومجتمعه وأحبابه وممتلكاته وأعماله وعلاقاته فارَّاً بدينه الإسلام مُحافِظَاً عليه مُتمسّكاً عامِلاً به مُدَافِعَاً عنه مُتَّجِهَاً إلي الله قاصِدَاً حبه ورضاه وأمنه ورعايته وتوفيقه وإسعاده في الداريْن وحُبّاً لرسوله ﷺ ونَصْرَاً لدينهما واستجابة إلي طلبهما بالهجرة عند الاحتياج إليها وإلي حيث يُمْكِنه عبادته أيْ طاعته ورسوله ﷺ ليسعد بذلك وإلي حيث يُمْكِنه دعوة مَن حوله لهما ولدينه الإسلام ليُبَلّغ رسالته للبَشَر ليَسعدوا مثله في دنياهم وأخراهم وإلي حيث يُمكنه فِعْل أيّ خيرٍ لهم من علمٍ وعملٍ وعوْنٍ وغيره ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله، برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة﴾، ثم يَلْحقه الموت في فترة هجرته أو حتي وهو في طريقه قبل أن يَصِل لمكان الهجرة فقد ثَبَتَ أجره كاملا وقد تَكَرَّم الله فجعل الأجر حقاً عليه وكأنه أصبح وثيقة عليه مُوَثّقّة للمُهاجِر للدلالة علي عظيم أجر الهجرة في سبيله وعظيم كَرَمه سبحانه وعظيم مَكَانَة المُهاجِر حيث يكون أجرها كاملا حتي ولو لم تكتمل بل بمجرّد خروجه من بيته لفِعْلها! فما بالنا بأجرها لو فُعِلَت وتَمَّت وتحَقّقت أهدافها لا شكّ أنه سيكون حتماً مُضاعَفَاً أضعافاً كثيرة بكرمه وعَدْله سبحانه!!.. إنَّ المُهاجِر يُطَمْئِنه ربه أنَّ له أجره الكامل حتي ولو مات في طريقه، لأنه نَوَىَ الهجرة وتحقيق أهدافها عند البدء فيها ولا تقصير منه في عدم إتمامها، فله إذَن أجره كله، أجر الهجرة والرحلة والحياة في مكانها وتحقيق أهدافها، فهل هناك من طَمْأَنَةٍ وضَمَانٍ وتشجيعٍ للمهاجرين بعد طمأنة وضمان وتشجيع الله تعالي الكريم الوَهَّاب الذي لا يُخْلِف وعده مُطلقا؟.. إنَّ هذا يدلّ على أنَّ المُهاجِر في سبيل الله له حتماً إحدى الحُسْنَيَيْن فهو إمَّا أنْ يُرْغِم أنف أعداء الله ويذِلّهم بسبب مُفَارَقته لهم واتّصاله بالخير والسَّعَة، وإمَّا أنْ يُدْركه الموت ويَصِلَ إلى السعادة الحقيقية حيث النعيم الخالد في أعلي درجات الجنات.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿100﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴿101﴾ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿102﴾ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴿103﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متمسّكاً بالصلاة أشدّ التمسّك، حتي في أكثر الأوقات صعوبة، سواء أكانت أوقات خوف، كوقت قتال الأعداء حين يعتدون ووقت الحروب، أم في أوقات تشبهها قد يَتَعَذّر فيها الصلاة، كالسفر، حيث المُتَغَيِّرات كثيرة وقد تكون مُفاجِئَة.. ولذا، ولِحِرْص الإسلام علي عوْن المسلمين علي عدم ترك الصلاة أبداً، لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، لذلك خَفّفَ الصلاة ذات الركعات الأربعة إلي ركعتين، حتي يتمكّن المسلم من أدائها بيُسْر ودون مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة وحتي لا تنقطع عنه منافعها وسعاداتها في دنياه وأخراه
هذا، ومعني "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴿101﴾" أيْ وإذا ضَرَبْتم في الأرض بأرجلكم سائرين مُتَنَقّلِين مُسافرين للتجارة والعمل والعلم ونحوه تَطلبون من رزق الله الحلال، وكذلك إنْ خِفْتم أنْ يُؤذيكم ويَهزمكم الذين كفروا عندما تجاهدون في سبيل الله لنشر الإسلام والدفاع عنه بالقتال أحيانا ضدّ مَن يَعتدي عليه بالقتال، فليس عليكم حَرَج ولا إثم في أنْ تَقْصُروا شيئاً من الصلاة أىْ تنقصوا منها وتجعلوها قصيرة بأن تجعلوا الصلوات ذوات الركعات الأربعة ركعتين فقط كما بَيَّنَ لكم ذلك الرسول ﷺ تيسيراً وتخفيفاً من الله عنكم ورحمة بكم وذلك لصعوبة التمسّك بها كلها في مثل أحوال السفر والقتال هذه حيث المُتَغَيِّرات كثيرة وقد تكون مُفاجِئَة فلا تُحْرَموا من سعادات ومنافع الصلاة مهما كانت الظروف.. ".. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴿101﴾" أيْ إنَّ الكافرين كانوا وما زالوا مستمرّين بالنسبة لكم أيها المسلمون عدوَّاً واضِحَاً في عَدَاوَته يريدكم دائما بكلّ شرٍّ فيجب عليكم بالتالي عند التّعامُل معهم أن تَحذروا دوْمَاً سُوءَهم ومكائدهم أشدّ الحَذَر لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما مثلهم
ومعني "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿102﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية الصلاة في جماعة أثناء قتال المُعتدين والتي تُسَمَّي "صلاة الخَوْف" والتي لا بُدَّ فيها من شِدَّة الحَذَر من العدو لأنه قد يَسْتَغِلّ فترة الصلاة للانقضاض علي المسلمين.. أيْ وإذا كنتَ في المسلمين أثناء القتال يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده يكون في هذا المقام فأردتَ أن تُقيمَ لهم الصلاة فى جماعةٍ لتزدادوا أجراً ورعاية من الله وأنتم تُقاتلون أعداءه وأعداءكم فعليك فى هذه الحالة أنْ تُقَسِّمهم إلى مجموعتين ثم بعد ذلك فلْتَقم مجموعة منهم معك فى الصلاة ومعهم أسلحتهم يُصَلّون بها ليكونوا مُسْتَعِدِّين للقتال دائما أمّا المجموعة الأخري فلتكن باتجاه العدو ليَحْرُسوكم منه، فإذا سَجَدوا أي الرجال القائمون معك فى الصلاة فليكونوا أيْ رجال المجموعة الأخرى مِن خَلْفِكم في مواجهة عدوكم، فإذا أتْمَمْتَ ركعتكَ الأولي تَتِمّ المجموعة الأولى ركعتهم الثانية ويُسَلّمون ثم تأتي المجموعة الأخرى التي لم تبدأ الصلاة فلْيَأْتَمّوا بك في ركعتهم الأولى وأنت في ركعتك الثانية ثم بَعْدَ انتهائك منها وتَسليمك يُكْمِلُوا هم بأنفسهم ركعتهم الثانية، وليأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم أيْ وعليهم أيضا أن يكونوا كمَن سَبَقَهم حَذِرِين أشدّ الحَذَر حامِلِين لأسلحتهم حتى إذا فاجأكم العدو بالهجوم كنتم دائما على استعدادٍ لمواجهته وعلى يقظةٍ تامَّةٍ مِن مَكْره.. ".. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً.." أيْ هذا بيانٌ لسبب الصلاة علي هذه الصورة، أنه يَتَمَنّي ويُريد ويُحبّ الذين كفروا لو تنشغلون عن سلاحكم وزادكم ومنافعكم وأشيائكم التي تستعملونها في قتالكم فيَنْقَضُّون ويشِدُّون عليكم دفْعَة وشَدَّة واحدة فيَقتلونكم ويَهزمونكم.. ".. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ.." أيْ ولا حَرَجَ ولا إثم عليكم أيها المسلمون إنْ كان بكم حالة مطرٍ شديدٍ كأنه أذَيَ لكم حيث يَمنعكم من القتال وكذلك إنْ كنتم مرضي بمرضٍ مانعٍ منه أن تتركوا سلاحكم وكونوا مع ذلك حَذِرِين أشدّ الحَذَر حتى إذا فاجأكم العدو بالهجوم كنتم دائما على استعدادٍ لمواجهته وعلى يقظةٍ تامَّةٍ مِن مَكْره.. ".. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿102﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ما داموا يُحْسِنون اتّخاذ أسباب النصر من الاستعانة بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وحُسْن استعدادهم بكلّ أنواع القوَيَ المُمْكِنَة ..أيْ إنَّ الله حتماً بالتأكيد جَهَّزَ للكافرين عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴿103﴾" أيْ فإذا أتْمَمْتُم وأدَّيْتُم الصلاة أيها المسلمون علي الصفة التي سَبَقَ ذِكْرها فدَاوِمُوا بعدها – وقبلها قطعاً – علي ذِكْر الله في جميع أحوالكم أي استحضروا دائما بداخل عقولكم ومشاعركم عظمة الله وهيبته في كل مكانٍ واذكروه دوْمَاً في جميع أحوالكم قائمين واقفين وقاعدين جالسين ومُضطجعين على جنوبكم ومُسْتَلْقِين علي ظهوركم.. وهذه الوَصِيَّة بالإكثار من ذِكْره تعالي في هذه الأحوال خصوصاً مع أنَّ مُدَاوَمَة وكثرة ذِكْره مطلوبة في كل وقتٍ لأنَّ الإنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء يكون في أشدّ الحاجَة لعَوْن الله وتأييده ونصره والتّوَسُّل إليه بالدعاء في أحواله هذه يكون أقرب للاستجابة.. هذا، والذكر عموماً يكون باللسان وبالعقل وبالعمل، باللسان تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وشكراً واستغفاراً ودعاءً وغيره، وبالعقل بتَدَبّر واستشعار هذه الأذكار لتُحَرِّك مشاعِر الخير بداخل المسلم فيَنطلق لعملِ خيرٍ علي أرض الواقع، وبالعمل باستحضار نوايا الخير بالعقل عند كل قولٍ يُقال وكل عملٍ يُعْمَل من علمٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ وربحٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جيدة وإنفاقٍ من مال وجهد وصحة وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليس عمل الخير مَقْصُورَاً فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام رغم أهمية ذلك، بل كل عاملٍ لله بطاعةٍ، أيّ طاعة، أيّ خيرٍ مسعدٍ للذات وللآخرين، يكون ذاكرا لله تعالي، وبهذا تكون الحياة كلها ذِكْرَاً لله ومعه، وليس بها أيّ وقت للشرّ! فيَسعد المسلم تمام السعادة فيها ثم أتمّ وأخلد في آخرته.. ".. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴿103﴾" أيْ فإذا كنتم في حالة اطمئنانٍ وأمانٍ واستقرارٍ وزَالَ خوفكم فحينها أدُّوُا الصلاة كاملة كما هي لأنَّ الصلاة كانت ولا زالَت وستستمرّ علي المؤمنين فرضاً مُحَدَّدَاً بأوقاتٍ لا يجوز تجاوزها بل لا بُدّ من أدائها خلال أوقاتها سواء في السفر أو في مكان الإقامة وفي الأمن أو الخوف، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من المحافظة التامَّة عليها مهما كانت الظروف والأحوال
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿104﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادةٍ قويةٍ لا تَنْكَسِر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال والآلام والجراح، في كل شئون حياتك، صغرت أم كبرت، الاقتصادية والعلمية والعملية والاجتماعية والسياسية وغيرها، خاصة عند قتال الأعداء إذا اعتدوا فتُقاتلهم بكل قُوَاك وتَدْفع اعتداءاتهم دفاعاً عن الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين بكل ما استطعت مِن قوَيَ مُتَعَدِّدَة
هذا، ومعني "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿104﴾" أيْ ولا تَضعفوا أبداً أيها المسلمون في طَلَبِ القوم الأعداء الذين يحاربون الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ومُلاَحَقتهم دوْمَاً باستمرارٍ ومُجاهَدَتهم بكل صور الجهاد المختلفة (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾، ولا تَمْنعكم الآلام مهما كانت عن مُتابَعتهم وحُسْن اتّخاذ أسباب مقاومتهم حتى يتمّ الله لكم النصر عليهم وهم الذين يَعتدون عليكم بمُحاولاتهم مَنْعكم من العمل بأخلاق إسلامكم بتَرْغِيبكم فيما هو مُخَالِف لها وتَرْهِيبكم بإيذائكم باتّباعكم إيّاها ويعتدون كذلك حتي بالقتال لمَنْع نشره للناس، وذلك الابْتِغَاء والطلَب لهم يكون بأنْ تتمسّكوا وتعملوا بكل قوةٍ بكل أخلاقه وتَنشروه بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة وتُدافعوا عنه بكل وسائل الدفاع المُمْكِنَة الفكرية والعلمية والإعلامية والاقتصادية والسياسية وغيرها وحتي العسكرية عند اعتدائهم بالقتال.. ".. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ.." أيْ هذا تَحْفيزٌ وتشجيعٌ للمسلمين لدَفْعهم للانطلاق في ابتغاء القوم وفي كل شئون الحياة عموماً بكلّ قوّةٍ وعِزَّةٍ لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة، كما أنَّ فيه تسلية وتخفيفاً عنهم وتثبيتاً وطَمْأَنَة وتبشيراً وإسعاداً لهم.. أيْ إنْ كنتم تَتَألّمُون أحيانا بألمٍ مَا قَلّ أو كَثُرَ فإنَّ غيركم يتألّمون أيضا مثلكم ومع ذلك يَصبرون عليه وينطلقون في شئون حياتهم ولا يَكُفّ المُعْتَدُون منهم عليكم عن عدائهم، فما لكم لا تَصبرون مثل صبرهم، فأنتم أوْلَىَ بذلك منهم، لأنكم تَرْجون وتَطلبون من الله كل الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الداريْن بينما هم لا يرجون ولا يطلبون ذلك ولا يعرفون عظيم فوائده، فالفرق إذَن هائل بينكم وبينهم ولا مُقَارَنَة بالقطع لأنَّ هذه الأمور حتماً تزيدكم قوة وإقداماً وحماسة ونشاطاً وانطلاقاً واستبشاراً بانتظار كلّ خيرٍ بحيث لا يَقِف أمامكم شيءٌ ويصبح كل صعبٍ سَهْلاً بإذن الله وتيسيره وعوْنه وتبشيره لكم، وبالتالي فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل وأنتم الأعْلَوْن بسبب اتصالكم بربكم وعملكم بإسلامكم وإحسان اتّخاذ أسباب نصركم أن تَهِنوا وبعضهم لم يفعلوا ذلك وهم الأدْنَيَ منكم قطعاً لأنهم يَفتقدون لهذا فاصبروا وانْطَلِقوا مُتَجَاوِزِين أيّ آلامٍ فأنتم حتماً أوْلَيَ منهم بهذا الصبر وهذا الانطلاق وهذا النصر المُنْتَظَر من ربكم في كل شئونكم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿140﴾، ﴿141﴾ من سورة آل عمران "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ"﴾.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿104﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿105﴾ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿106﴾ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿107﴾ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴿108﴾ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴿109﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿105﴾" أيْ نحن أوحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ.." أيْ لكي تَحكم بهذا الكتاب يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده بين الناس في قضاياهم المُتَعَدِّدَة بكل شئون حياتهم بما عَرَّفكَ وأعْلَمَكَ وأوْضَحه لك الله فيه من خلال الوَحْي حيث سيكون المَرْجِع الذي به الأصول والقواعد التي يَرْجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿105﴾" أيْ وإيَّاك ثم إيّاك أيها المسلم أن تكون للخائنين أيْ للغادِرين الخَسِيسين الذين يُنْكِرون الحقوق ويُضيعون الأمانات ولا يُحافظون علي العهود والمواثيق ولا يُوفون بها بل يُخْلِفون وعودهم ويَكِيدون المَكَائد ويَرْتَكِبون الجرائم، لا تكن أبداً لأمثال هؤلاء خصيماً أيْ مُدَافِعَاً عنهم، بل عليك أن تكون عادلاً دائما، في كل أقوالك وأفعالك وتصرّفاتك في كل شئون حياتك ومواقفها المختلفة وأنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة في الأموال وغيرها والمَعنويَّة كشهادةِ زُوُرٍ مثلاً أو نصيحةٍ مُضِرَّةٍ أو نحوها يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
ومعني "وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿106﴾" أيْ واسأل الله أيها المسلم دائما مَغْفِرَة ذنوبك وتُبْ إليه مَمَّا فعلت من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لك حتماً لأنه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ غفوراً أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿107﴾ أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم الدفاع عن الخائنين ومراعاة العدل في كلّ قولٍ وعملٍ حتي ولو كان ضِدّ النفس أو الأهل أو الأقارب أو أيّ مسلمٍ وعدم الظلم ضدّ أيّ أحدٍ حتي ولو كان كافرا.. أيْ ولا تُدافع أيها المسلم أبداً عن الذين يَخونون أنفسهم بشدّةٍ وإصرارٍ – ولفظ يختانون يُفيد المُبَالَغَة والإصرار والتكرار في الخيانة – بفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار واستمرارهم علي ذلك.. لقد خانوا أنفسهم حيث غَدَرُوا بها لأنَّ النفس أيْ الفطرة هي مسلمة أصلا تحب أن تعمل بالإسلام لتَسعد به في دنياها وأخراها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنهم بعقولهم اختاروا بكامل حرية إرادتها مُخَالَفَة الله ورسوله وخانوا الأمانة التي أعطاهم إيّاها وهي الإسلام فلم يحافظوا عليها ويعملوا بها بل خالفوها فأخذوا أنفسهم لِمَا يضرّها ويتعسها في الداريْن، كما أنهم بخياناتهم لغيرهم بعدم حفظ ما يُؤْتَمَنُون عليه من أماناتٍ عندهم لهم وعدم تأديتهم لها إليهم ومخالفاتهم لعهودهم معهم فإنَّ ضَرَر ذلك الدنيويّ حيث الخلافات والتعاسات والأخرويّ حيث الآثام يعود عليهم حتما، وكذلك فالضرَر الذي يُحْدِثوه لغيرهم من المسلمين وللناس عموماً يكون كأنه ضرَر لهم لأنهم كالجسد الواحد ما يُصيب بعضهم كأنه أصابهم كلهم إذ تعاسة البعض يعود أثره السَّيِّء علي الكلّ بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿107﴾" أيْ إِنَّ اللَّهَ حتما يَكْرَه مَن كان خَوَّانَاً أيْ كثير الخيانة، أثيماً أيْ كثير الفِعْل للآثام، أيْ للذنوب، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار، بكلّ أنواعها، سواء أكانت كفراً أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب خِيانته وإثمه.. فإيّاكم ثم إياكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثْل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم
ومعني "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴿108﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم يَخْتَفون ويَسْتترون من الناس خوفاً وخَجَلاً من اطّلاعهم على أعمالهم السيئة وعِتابهم وعِقابهم لهم، ولا يَستترون من الله ولا يَسْتَحْيُون منه ولا يَستشعرون مُراقبته لهم ولا يَخافون فقدان حبه وإسعاده في الداريْن بل وعذابه بما يُناسب فيهما رغم أنه هو حتماً الأحَقّ بأن يُخْجَل منه ويُخْشَىَ من عقابه لأنه هو تعالي معهم بعلمه وقُدْرته أينما كانوا مُطّلِع عليهم حين يدبِّرون ما لا يَقْبل ولا يُحبّ من القول والفِعْل إذ هو يعلم أيّ سوءٍ منهم حتي وهم يُدَبّرونه بدواخل عقولهم وفي الخفاء قبل قولهم وفِعْلهم إيّاه.. إنَّ قُبْح تصرّفهم هذا يدلّ علي بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴿108﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ مُحِيطَاً أيْ يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لأمثال هؤلاء! ولا يصعب عليه حتماً العلم بما يُبَيِّتُون!.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴿109﴾" أيْ ها أنتم أيها المُدافِعون عن الخائنين قد دافعتم عنهم في الحياة الدنيا مُبَرِّئِين إيّاهم من الخِيانَة بغير حقّ، فمَن هذا الذي يستطيع منكم أن يدافع عنهم أمام الله يوم القيامة بل مَن يكون عليهم يومها وكيلاً أىْ مُدَافِعَاً عنهم قائماً بتدبير أمورهم؟! لا شكّ أنه لن يكون هناك أيّ أحدٍ يُدافع عنهم يوم القيامة لأنّ كلّ إنسانٍ سيُجازَى بعمله بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً بكلّ عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ ولن ينفعه دفاع المُدافعين أو جدال المُجادلين.. ولفظ "ها" في اللغة يُفيد التنبيه لِمَا سيُقال لتنبيه المُخْطِئين لخطئهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك يُدافِع عن خائن ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿110﴾ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿111﴾ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿112﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا، ومعني "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿110﴾" أيْ هذا دعوة لكل مَن عَصَيَ مهما كان عِصْيانه أن يأتي لرحمات الله مُستغفراً ليسعد بها في دنياه وأخراه.. أيْ وأيّ أحدٍ يَفعل شَرَّاً مَا أو يظلم نفسه ومَن حوله فيتعسها ويتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، ثم يستغفر الله بعد فِعْله أيْ يسأله مَغْفِرَة ذنبه ويَتوب إليه مَمَّا فَعَلَ من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، لو فَعَلَ ذلك يَجِد فَوْر توبته أيْ قابَلَ حتماً وعَلِمَ واستشعرَ ولَمَسَ في حياته بشائر وآثار رحمات وخيرات أنَّ الله قد تابَ عليه مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك لِكَوْنه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، ولِكَوْنه أيضا رحيماً أيْ كثيرَ واسعَ الرحمةِ بالعالمين الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوْسَع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب﴾.. وفي هذا تشجيعٌ له وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿111﴾" أيْ ومَن يَعمل شَرَّاً فإنما يعمله علي حساب نفسه أيْ يَضرّها به في دنياه وأخراه فلا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله السَّيِّء حيث سيكون له في مُقابِله وبما يُناسبه درجة ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون له ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿111﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وعلي الشرّ شرَّا، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿112﴾" أيْ وأيّ أحدٍ يعمل ذنباً عظيماً أو شَرَّاً صغيراً – وعند بعض العلماء العكس أي الخطيئة هي الذنب الصغير والإثم الذنب الكبير وعند بعضهم هما بمعني واحد وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعني – ثم يَتَّهِم به بريئاً لم يعمله ويَنْسِبه إليه كذباً وظلماً وزُوُرَاً مع أنه هو الذي فَعَلَه ليُبَرِّيء نفسه فقد تَحَمَّلَ بسبب فِعْله هذا يوم القيامة بهتاناً أيْ إثم البُهْتان الذي عمله وهو أشدّ أنواع الكذب والافتراء الذي ليس له أيّ أصل ويَبْهَت العقل أي يُحَيِّره لشدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة وسيكون إثماً مُبِيناً أي واضحاً لا يَخفَيَ سُوؤه علي أحد، إضافة بالقطع إلي ما قد يَحدث له غالباً في دنياه بسبب سُوئِه هذا مِن بعضِ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة ما قد يَحدث له مِن ألمٍ وعذاب وكآبة وتعاسة
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿113﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿113﴾" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليك ورحمته أيْ رأفته وشفقته بك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم، بأنْ فَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكل البَشَر وإرشادكم إليها وتوفيقكم لها وتيسير أسبابها لكم وقبولها منكم وعدم تعجيل العقوبة لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم، وبأنْ جعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وبأنْ جعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها، وبأنْ أرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، وبأنْ يَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وبأنْ ثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَهَمَّت أيْ عَزَمَت وقَصَدَت لكن لم تَفْعَل وتُنَفّذ طائفة أي مجموعة منهم أيْ من الذين يخونون أنفسهم ومَنْ يَتَشَبَّه بهم أن يُضِلّوك أيها المسلم ويُضِلّوكم أيها المسلمون أيْ يُضَيِّعوك ويُضَيِّعوكم بأن يُبْعِدوكم عن العمل بأخلاق إسلامكم كلها أو بعضها ويَدْفعوكم لفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعكم فيها، وليس لهذا أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها، والحَسَد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات البُعْد عنه، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم، وكل ذلك يَفعلونه رغم أنه قد ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد ﷺ والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ.." أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفسادكم وأنتم ستَجتهدون في أن تقاوموهم ولا تَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية ﴿54﴾ من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم المُحسنين المُتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْماً به.. أيْ ولا يُمكن أبداً حاليا أو مستقبلا لأمثال هؤلاء الخائنين ومَن يَتَشَبَّه بهم أن يُصيبوكم بأيِّ شيءٍ وأيِّ قَدْرٍ من الضرَر أي السوء إلا بضَرَرٍ خفيفٍ نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً، لأنَّ ضَرَرَهم سيَعود عليهم أيضا كما هو إضلالهم، فلا تَتَوَهَّمُوا أنهم أقوياء فتخافوهم، وذلك لأنه ما دُمْتُم دائِمِي التَّوَاصُل مع ربكم دائمي الاستعانة به ودعائه، وما دمتم دائمي التواصُل مع الآخرين بحُسن العلاقات معهم، وما دمتم حُكماء رَزِينِين مُتَوَازِنِين مِقْدَامِين مُنَظّمِين مُنْضَبِطين صالحين مُثَقّفِين مُتَعَلّمِين مُسْتَقِرِّين هادئين صادقين أمينين أقوياء وبالجملة فيكم كل الصفات التي تُعينكم علي حياةٍ صحيحةٍ صالحةٍ مُتَطَوِّرَةٍ سَلِسَةٍ سعيدة، فأنتم حينئذ قد أحسنتم تَحْصِين ذواتكم من الإصابة بأيّ ضلالٍ أو ضَرَر! وإنْ أصابكم ضَرَرٌ مَا فسَتُحْسِنون قطعا التعامُل معه والخروج منه بأسرع وقتٍ مُمْكِنٍ وبأكثر خبراتٍ مُتَاحَةٍ وأقلّ خساراتٍ مُمْكِنَة ومُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، وذلك لأنكم قد تَحَصَّنْتم بالله أولا مالِك المُلْك أقوي الأقوياء ثم بالصحبة الصالحة حولكم من كل أهل الخير إضافة لذواتكم وأخلاقكم المَتِينة وتناصَحْتُم فيما بينكم وأَمَرْتُم بالمعروف ونَهيتهم عن المنكر، فكيف لمَن تَحَصَّن بهؤلاء أن يتأثّر بضَرَرٍ مَا؟! إنه ولا شكّ هو الأقوي والأعلي وما سيُصيبه مِمَّن يَكْرهه لنْ يَزِنَ عنده إلا جناح بعوضة!.. إنه إذا كان المسلمون بهذه الصفات، وهم كذلك بإذن الله لو تَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، فلن يَقِفَ قطعاً أمامهم أيُّ عدو يريد الاعتداء عليهم بإضلالٍ أو إفسادٍ أو حتي بقتالٍ أو غيره من صور العدوان صَغُرَ أم كَبُر، إنهم حتماً مُنتصرون بنصر ربهم ثم بقوة إرادتهم وحُسن إعدادهم، وعدوهم بالقطع سَيَفِرّ مُنْهَزِمَاً.. ".. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.." أيْ هذا مزيدٌ من البيان لِمَا أعطاه الله لرسوله الكريم وللبَشَر من خيرٍ ورعايةٍ والتقرير له والتأكيد عليه والتعليل لِمَا سَبَقَ ذِكْره من فضلٍ إذ هو بسبب إنزال الكتاب والحكمة، وهو بيان لأعظم فضلٍ ورحمة علي الرسول ﷺ والناس جميعا والذي يَتَفَرَّع منه كل الأفضال والرحمات والرعايات الأخري بعد ذلك حيث هو سبب كل خيرٍ وسعادةٍ لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. أيْ وأوحي الله إليك الكتاب وهو القرآن العظيم وبَيِّن لك مَعَانِيه وأخلاقِيَّاته وكيفية تطبيقها في حياتك لتُعَلّمها للناس ليسعدوا بها، وبَيَّنَ كذلك الحكمة لتُعَلّمهم إيّاها وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتك أيْ طريقتك في كلّ أقوالك وتصرّفاتك والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ".. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.." أيْ وعَلّمك بهما أيضا ما لم تكن تعلم مِن قَبْل إنزالهما عليك أيْ ما كنتَ أنت والناس تجهلونه من علومٍ غَيْبِيَّةٍ كالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار وكيفية الاستعداد لذلك بحُسن العمل، ومِن كيفية استنباط الأحكام من النصوص، ومن عِبَرٍ في أخبار وقصص وتصرّفات الرسل السابقين والأمم السابقة، وما شابه هذا من أصول العلوم التي تنتفعون وتَرْقُون وتَقْوُون وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم.. ".. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿113﴾" أيْ وبسبب كل هذا وغيره من أرزاقٍ ونِعَمٍ كان دائما عطاء الله وإحسانه الزائد عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل مُنْصِف عادل عظيماً هائلاً لا يُوصَف، فكونوا دَوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، وتَمَسَّكُوا بإسلامكم كشكرٍ عَمَلِيٍّ وحافظوا عليه وانْشروه وأحْسِنوا استخدامه بإسعاد ذواتكم وغيركم في الداريْن
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿114﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان كل كلامك نافعاً مُسْعِدَاً لك ولغيرك في الداريْن.. ولكي يكون كذلك، فاجتهد في التدريب علي استصحاب نوايا خيرٍ عامّةٍ بعقلك في أول نهارك أو كل فترةٍ حتي لا تنسي أو مع كل مجموعة أقوالٍ ما أمكن حسب مُتَغَيِّرات الكلام، لدوام التذكرة، ولكي تُحقّق أسعد نتائج منه في دنياك وأخراك، سواء أكان كلاماً في علمٍ أو عملٍ أو إنتاجٍ أو إنجازٍ أو ربحٍ أو بناءٍ أو تخطيطٍ أو ابتكارٍ أو تشجيعٍ علي خيرٍ من أيِّ نوعٍ أو نشرٍ للصلاح والعدل والتسامُح والتقارُب والتناصُح والإصلاح بين جميع الناس علي اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم ودياناتهم وعلومهم وأفكارهم، أمَّا الكلام الذي لا فائدة منه، والذي غالباً أو كثيراً لا يكون مصحوبا بنوايا خَيْرِيَّة من أيِّ نوع، فهو مُضَيِّع للأوقات والإنجازات، ولا يُفيد سعادة في الدنيا، ولا ثواب له في الآخرة، أمّا الكلام الذي يَضُرّ بصورةٍ ما من صور الضرَر، فهو حتماً مُتْعِس في الدنيا لمَن يقوله ولمَن يسمعه ويعمل به حيث سيَنشر الشرَّ والكآبة بينهم، ثم سيكون قطعاً أشدّ كآبة وتعاسة في الآخرة علي قَدْر ضَرَره
هذا، ومعني "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿114﴾" أيْ هذا تشجيعٌ للناس علي أن يكون كل كلامهم مُفِيدَاً مُسْعِدَاً ليستفيدوا وليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم، وأن يَسْكُتوا عن الكلام الذي لا فائدة منه ويَمتنعوا تماما عن أيِّ كلامٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ فيهما.. أيْ لا نَفْعَ ولا إسعادَ في كثيرٍ مِن كلامهم أيْ مِن كلام الناس إلا في كلامِ مَن أوْصَيَ بصدقةٍ أيْ بتَبَرُّعٍ بفِعْلِ خيرٍ مَا لهم بل ولعموم الخَلْق مِن كل أنواع الخير سواء أكان مالاً أم جهداً أم صحة أم وقتاً أم فِكْرَاً أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. أو في كلامِ مَن أمَرَ بمعروفٍ أيْ بكل ما هو معروفٍ عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام.. أو في كلامِ مَن يقوم بتدبيرِ إصلاحٍ وتوفيقٍ وتقريبٍ بين الناس في أيِّ شأنٍ من شئون حياتهم وعند اختلافهم أو خَصامهم لنَشْر التّآلُف والتّآخِي والتّحابّ والتّصافِي والتعاون والتّجَمُّع والأمان والإسعاد بينهم لأنَّ الصلحَ وحُسن توجيه أطراف الخصام بكل صِدْقٍ أمرٌ خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن يحفظ حُسن العلاقات بين كل أفراد المجتمع فيقوَيَ ويَرْقَيَ ويَسعد الجميع في الداريْن بينما بالخلاف والنزاع وسوء التوجيه والإرشاد والنُّصح يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما.. ".. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ.." أيْ ومَن يَفعل ذلك المَذْكُور من صدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس، يَفعل منه ما استطاع، طَلَبَاً لمَرْضاة الله أيْ وهو مُخْلِص مُحْسِن لا يُريد سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلب فقط ودائما وباستمرار رضاً تامَّاً من الله في دنياه أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿114﴾" أيْ فسوف نُعطيه عطاءً عظيماً هائلاً لا يُوصَف من كرمنا الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْله وصِدْقه ونتائجه حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿115﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُتَّبِعَاً لسبيل المؤمنين أيْ لطريقهم والذي هو طريق الله ورسوله والقرآن والإسلام، أيْ كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿115﴾" أيْ ومن كان في شِقٍّ أيْ جانبٍ، والرسول ﷺ في شِقٍّ مُقَابِل، أيْ خالَفه وعانَده وتكبَّر عليه وآذاه وعاداه وحاربه هو والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ.." أيْ وفَعَلَ كلّ ذلك بعدما اتَّضَحَ له تماما أين الهُدَيَ أي الرشاد من الضياع والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة من خلال رسل الله الكرام وآخرهم محمد ﷺ وكتبه وآخرها القرآن العظيم والمسلمين حوله الذين يَدْعونه لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بما يُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فليس له أيّ عذرٍ إذَن فيما يفعله ويَدَّعيه كذباً وزُوُرَاً من عدم معرفته أو نحو هذا من مُرَاوَغَات بل هو حتما مُعانِد مُكَذّب مُسْتَكْبِر مُصِرّ تمام الإصرار علي ما هو فيه.. ".. وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.." أي ويَسير خَلْفَ ويُطيع طريقاً ونظاماً غير طريق المؤمنين الذي هم عليه والذي هو طريق الله ورسوله والقرآن والإسلام طريق تمام الحقّ والعدل والخير والصلاح والأمان والسعادة في الداريْن فيَترك طريقهم ويَسير في طريق الكذب والظلم والشرّ والفساد والقلق والتعاسة فيهما.. ".. نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى.." أيْ نُوَجِّهه إلي ما تَوَجَّهَ إليه هو بكامل حرية إرادة عقله، أيْ نتركه وما تَوَجَّهَ إليه من الشرّ فلا نُوَفّقه للخير، أيْ فلمّا مَالَ وانحرَفَ وابتعدَ عن الحقّ مع علمه به وأصرّ واستمرّ على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يُحسن استخدام العقل ويستجيب للخير أَمَالَ الله تعالى عقله عن قبوله، أيْ فلما تَرَك وأهمل الإسلام، واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعه منه ويشاءه له أيْ يَتركه فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الزَّيْغ والشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغه عن فِعْل الخير لنفسه ولغيره والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هذا الزائغ هو الذين اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الزَّوَغَان الذي هو فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض من أمثاله قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!! (برجاء مراجعة الآية ﴿148﴾ من سورة البقرة، لمعرفة كيفية إحسان اختيار الاتّجاه في الحياة﴾.. ".. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿115﴾" أيْ ونَحْرِقه ونَشْوِي جسده يوم القيامة في عذاب نار جهنم بنارٍ ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم ،وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿116﴾ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿117﴾ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿118﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴿119﴾ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿120﴾ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴿121﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴿122﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿116﴾" أيْ إنَّ الله بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يَعفو ولا يَتجاوَز عمَّن أشرك به غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَرَ به أيْ كذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وماتَ علي شِرْكِه أو كفره، وسبب عدم المغفرة أنَّ المشرك أو الكافر لا يطلب العفو منه تعالي أصلا لأنه يلجأ لغيره ولا يَعرفه!! كما أنه لو سَمَحَ سبحانه في الأرض بالشرك لَتَعَدَّدَت الآلهة ولَأَطَاعَ كلُّ أحدٍ إلهه بما يأمره به والذي هو غير أوامر الإله الآخر فيَتَنازَع البَشَر ويختلفون ويقتتلون ولا يتّفقون فيتعسون حتما!!.. ولكنه يَعفو ويَتجاوَز قطعاً عمَّا غير ذلك الكفر والشرك من الذنوب، لمَن يشاء.. أيْ إنَّ المُشْرِكَ والكافر ومَن يَتَشَبَّه بهما في أقوالِ وأفعالِ شِرْكِهِم وكُفْرِهم لا بُدَّ أن يتوب من إشراكه وكفره أيْ يَرْجع عنه إلي ربه خالِقه ومُرَبِّيه وراعِيه ورازقه حتي يغفر له، وهذا هو معني "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر : 53﴾ أيْ بما فيها الشرك والكفر لكن يُشْتَرَط أن يتوب المُشْرِك أو الكافر قبل موته لأنَّ الإسلام يَمحو ما قبله مهما كان، أمَّا بالنسبة للمؤمن أيْ المُصَدِّق بربه ورسله وكتبه وآخرته فإنه مهما فَعَل مِن شرورٍ حتي ولو كانت كبائر شديدة الضرَر فإنَّ الله تعالي يغفر له حتماً إذا تابَ وما دام لم يَصِل إلي مرحلة أن يُشْرِك به شيئاً بأن استغفر منها ونَدمَ وعَزَمَ بالعقل علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، أمَّا إذا لم يَتُب قبل موته، فأَمْرُهُ إلي الله تعالي إنْ شاءَ عاقَبَه علي قَدْر شروره بكلّ عدلٍ وإنْ شاء رحمه، ورحمته وَسِعَت كلّ شيء، وهي دائما تَسْبِق غضبه، وسَيُسَوِّي له بالعدل حساب حسناته وسيئاته، فيعفو عنه كُلّيَّاً أو جُزْئِيَّاً إذا زادَت سيئاته عن حسناته مُقابِل مَصَائبَ مثلا أصيب بها أو بدعاء المؤمنين بعضهم لبعضٍ أو بشفاعَة الرسل والشهداء والصالحين أو حتي بغير شيءٍ فهو الغفور الرحيم الودود الكريم، ولكنْ سيكون في درجةٍ أقل قطعاً في الجنة عن مَن تابَ وفَعَل مِن الخير الكثير.. ".. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿116﴾" أيْ ومَن يشرك بالله فقد ضاعَ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنه سَاوَيَ بين المَخلوق والخالِق وعَبَدَ مَن لا يَسْتَحِقّ العبادة حيث عَبَدَ غير الله تعالي ربه أي مُرَبِّيه وخالِقه ورازِقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام.. إنه أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنه يفعل كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه يَتَوَهَّم أن لا حساب! وبالتالي ستجده دائما وحتما في دنياه في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿117﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لضلالهم وقُبْحِهم وتعطيلهم لعقولهم حيث يتركون عبادة الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ويعبدون مَخلوقاً مثلهم بل هو أضعف منهم!!.. أيْ ما يعبدون – أيْ هؤلاء المشركون – من دون الله أيْ غيره إلا إناثاً أيْ أوْثَانَاً أيْ أصناماً لا تَعقل ولا تَسمع ولا تُبْصِر ولا تَنفعهم ولا تَضرّهم بأيِّ شيءٍ بل هي لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولا ضَرَّاً وهي أصلا تحتاج إلي مَن يحميها كالأنثي الصغيرة الضعيفة التي تحتاج إلي مَن يرعاها ويحميها فكيف تَرْعَي وتحمي وتنفع هي غيرها؟!.. ولذلك سَمَّاها سبحانه إناثا، وأيضا لأنهم كانوا يختارون لمعظمها أسماء إناث كاللّاة ومَنَاة ونحوها ويُزَيِّنونها بزينة النساء ويُسَمَّون صَنَمَ كل قبيلة أنثي بني فلان، أيْ حتي هم كانوا يستضعفونها كما كانوا يستضعفون النساء في زمنهم!!.. ".. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿117﴾" أيْ وهم بعبادتهم هذه ما يعبدون في حقيقة الأمر أيْ يُطيعون إلا شيطاناً شديدَ التّمَرُّد مُتَجَاوِزَاً لكلّ الحدود مُتَجَرِّدَاً من أيّ خيرٍ مستمرّاً علي كلّ شرّ، فهم عابدون إذَن واقعيا للشيطان وعبادتهم لغير الله تعالي هي بسببه، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيٍّ يخطر بالعقل، فهم يَتّبِعون التفكير الشرّيّ بعقولهم، ويَتّبِعون كل شَرٍّ وأشرار وكل فسادٍ ومُفسدين، من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿118﴾" أيْ هذه بعض صفات الشيطان – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره أنه مَرِيد – ليَنْفر منه الجميع ويَحذروه ولا يَتّبِعوه.. أيْ طَرَدَه وأبْعَدَه الله من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة.. وكل مَن يُطيعه سيُعانِي بدرجةٍ من الدرجات علي حسب طاعته إيّاه طَرْد وإبْعاد الله له من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في دنياه فتَرَاه في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراه في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم في أخراه تزداد اللعنة عليه وينال عقابه النهائيّ الكامل المُناسب لشروره ومَفاسده وأضراره في نار جهنم.. ".. وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿118﴾" أيْ وقال مُؤَكّدَاً أني سأتّخِذ من خلقك بني آدم جزءاً مُعَيَّنَاً آخُذهم معي في طريقي الشرِّيِّ وهم الذين سيَستجيبون لي باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم، فكل مَن اختار طاعتي منهم سيكون من نصيبي.. فلْيَحْذَر ذلك إذَن كل عاقلٍ ولا يَتّبِعه حتي لا يكون من هذا النصيب ويَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما لو اتّبَعَه
ومعني "وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴿119﴾" أيْ وكذلك بكل تأكيدٍ سأضِلّهم أيْ أضَيِّعهم، بإبعادهم عن طريقك، طريق الحقّ والعدل والاستقامة، طريق الإسلام، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وآخُذهم في طريق الشرّ والتعاسة فيهما.. ".. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ.." أيْ وأيضا مع إضلالهم بالتأكيد سأمَنّيهم أيْ أعِدُهم من خلال تفكيرهم الشرِّيّ بعقولهم بأماني وآمال ووعود وَهْمِيَّة كاذبة خادِعَة ليست حقيقية تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معي في ضلالهم تائِهين دَوْمَاً فيه مِثْل تَمْنِيَتِهم بأنه لا بَعْثَ بعد الموت ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار فليفعلوا ما شاءوا من شرور أو أنهم سيُغْفَر لهم برحمة الله مهما فَعَلوا منها أو لو أرادوا توبة فلْيُؤَجِّلوها فالعُمْر طويل وما شابه هذا من أمْنِيَّات.. ".. وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ.." أيْ وسآمُرهم فيُطيعوني فيُقَطّعون آذان بعض الدّوَابِّ ليُعَلّموها بهذا القَطْع لكي لا تُباع ولا تُشْتَرَيَ ولا تَعمل ولا تُؤْكَل ولكنْ لِتُقَدَّم قَرَابين يتقرَّبون بها لأصنامهم التي يعبدونها غير الله لتَرْضَيَ عنهم وتُعينهم بما يدلّ علي تحريمهم ما أحلّ الله تعالي وتحليلهم ما حَرّمه وبالجملة عبادتهم أيْ طاعتهم لغيره ومُخَالَفتهم لإسلامه.. ".. وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.." أيْ وسآمُرهم فيُطيعوني فيُغَيِّرون خَلْق الله ظاهِريَّاً مادِّيَّاً بما يفعلونه من تغييرٍ مُشَوِّهٍ مُضِرٍّ في وجوههم وأجسادهم – أو حتي في حيواناتهم ونباتاتهم وغيرها من مخلوقات – بصورٍ مختلفةٍ ومِن تَشَبُّهٍ لبعض الرجال بالنساء والعكس، بما يُفيد ضِمْنَاً عدم الرضا بخِلْقته سبحانه والتّوَهُّم بأنَّ صَنْعته تحتاج إلي تعديلٍ أو استكمالٍ أو تحسين!!.. ويُغَيِّرون خَلْق الله كذلك باطِنِيَّاً مَعْنَوِيَّاً بمحاولة تغيير أخلاق الخير التي هي أخلاق الإسلام التي في الفطرة والتي هي قد خَلَقها الله مسلمة أصلا في كل إنسانٍ (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وذلك بفِعْل أخلاق شَرٍّ وضَرَرٍ وفسادٍ من توجيه عقولهم مُعانِدِين فطرتهم ومُخالِفين دين الله إسلامهم.. ".. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴿119﴾" أيْ ومَن يَجعل الشيطان وَلِيَّاً لأمره يَتَوَلّيَ أموره يُديرها له ويُوَجِّهه إليها ويَتّبعه فيها، من دون الله أيْ غير الله أيْ لا يَتّخِذ الله وَلِيَّاً ولا يَتّبعه ولا يُطيعه، فقد خَسِرَ خُسْراناً واضحاً حتماً ليس بعده خُسارة أشدّ منه حيث يأخذه لكل شرٍّ في كل شئونه فيَخسر ويَفْقِد دنياه فيَتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة علي قَدْر بُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسر حتماً أخراه يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. بينما لو اتّخَذَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمره وناصراً ومُعِينَاً له في كل شئون حياته، فهنيئاً له نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر له الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة..فلْيَحْذَر إذَن كل عاقلٍ أن يَتّخِذَ الشيطان وَلِيَّاً من دون الله ولْيَفعل كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه ليسعد تمام السعادة في الداريْن ولا يَخْسَر ويَتعس فيهما
ومعني "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿120﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتأكيد علي عدم اتّخاذ الشيطان وَلِيَّاً من دون الله تعالي أبداً ومزيدٌ من البيان لسبب ذلك التحذير والخُسْران المُبِين لمَن يَتَّبِعه.. أيْ الشيطان يُعْطِي أتْبَاعه وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم ويَعِدهم من خلال تفكيرهم الشرِّيّ بعقولهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معه في ضلالهم تائِهين دَوْمَاً فيه مِثْل تَمْنِيَتِهم بأنه لا بَعْثَ بعد الموت ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار فلْيَفعلوا ما شاءوا من شرور سيَسعدون بفِعْلها رغم أنها سعادة وَهْمِيَّة سَطْحِيَّة قِشْرِيَّة مُؤَقّتة سريعة الزوال يعقبها مرارات وتعاسات دائمات يُثْبِتها واقع الحياة أو أنهم سيُغْفَر لهم برحمة الله مهما فَعَلوا منها أو لو أرادوا توبة فلْيُؤَجِّلوها فالعُمْر طويل وما شابه هذا من وعود وأمْنِيَّات كاذبات.. ".. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿120﴾" أيْ والحال والواقع أنه ما يَعِدهم الشيطان إلا خِداعَاً ووَهْمَاً وليس حقيقياً بكل تأكيدٍ حيث لا صِحَّة له ولا دليل عليه إذ هو يَعِدهم ويُمَنّيهم بأمورٍ خادعةٍ ظاهرها يُغْرِيهم بالنفع وباطنها يُهلكهم الضرر في دنياهم وأخراهم
ومعني "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴿121﴾" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة حتماً مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم، ولا يجدون عنها مَهْرَبَاً يَهربون إليه ليَنجوا منها بل يَبقون فيها
ومعني "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴿122﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُتّبِعين للشيطان الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتماً سنُدخلهم في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.." أيْ صِدْقاً سيَتحقّق حتماً يوماً ما بالبَعْث وبالآخرة وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين والعاصِين، وهو مُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه فهو بالقطع ليس مِثْلَمَا يَعِد به الشيطان أتْباعه.. ".. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴿122﴾" أيْ ومَن قوله وكلامه أصدق مِن قول وكلام الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، أيْ لا أحدَ أبداً أصدق من الله قولاً في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم ﷺ ، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴿123﴾ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿124﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يعيشون في الأماني والأحلام دون تطبيقٍ لها علي أرض الواقع، بل كنتَ من الذين يُحسنون اتّخاذ أسباب النجاح في الحياة كاملة ما أمكن، من علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وبناءٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ، وصدقٍ وأمانةٍ وتعاونٍ، ونحو ذلك بما يُناسب الأهداف القريبة والبعيدة والأزمنة والأمكنة والإمكانات والقُدْرات، إضافة بالقطع، وأولا وأخيرا، حُسْن التواصُل مع الله تعالي القويّ العزيز الحكيم العليم الخبير بكلّ شيءٍ وطَلَب عَوْنه وتوفيقه وسَدَاده وقوّته ورزقه في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. فهذا هو القانون العادل للحياة والذي وَضَعه خالقها سبحانه لها، قانون الأسباب والنتائج، فمَن زَرَعَ حَصَدَ حتي ولو كان كافراً، ومَن لم يزرع لم يَحصد حتي ولو كان مسلما! كما نَبَّهنا تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾.. إنَّ المسلم، سواء أكان ذكراً أم أنثي، إنْ أحسنَ اتّخاذ الأسباب، حَقّق أهدافه بعوْن ربه وسَعِدَ في دنياه، ثم في أخراه – ما دام كان مُسْتَحْضِرَاً نوايا خيرٍ بعقله مع أقواله وأفعاله الخَيْريّة الدنيويّة – سيَنال ما هو أعظم وأتمّ وأخلد من نَعِيم الجِنان دون أن يُظْلَم أيّ شيءٍ حتي ولو كان مِقدار نُقْرَة صغيرة.. بينما المُسيء، سواء أكان مسلما أم كافرا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره، فله عذابه وتعاساته في الدنيا علي قَدْر إساءاته، ثم في الآخرة له ما هو أشدّ وأتْعَس، ولن يجد له أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمره ويُدافع عنه أو أيّ نَصِير يَنصره من الله، إلا أن يتوب في دنياه قبل موته.. هذا، والمسلم المُسِيء الذي لم يَتُبْ لن يجد أمامه إلا الله ليرحمه ويعفو عنه ويُعَوِّض بكرمه مَن أساءَ إليهم وأضَرَّ بهم، وهو الذي رحمته سَبَقَت غضبه وهو العَفوّ الغفور الرحيم
هذا، ومعني "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴿123﴾" أيْ ليس الوَعْد الحَقّ الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة وليس أمر السعادة في الدنيا والآخرة والنجاة من التعاسة فيهما يكون بمجرّد أمْنِيَّاتكم أيها المسلمون – جمع أُمْنِية وهي ما يَتَمَنّاه الإنسان ويَرْغَبه ويحبّه أن يتحقّق – ولا أُمْنِيَّات أهل الكتاب وهم اليهود والنصاري ولا أمنيّات أيّ أحدٍ من الناس بل يكون بعملٍ علي أرضِ الواقِع يَتَمَثّل في الإيمان بالله والعمل الصالح أيْ التصديق بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بأخلاق الإسلام.. ".. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴿123﴾" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ أمر تحصيل رضا الله وإسعاده في الداريْن ودخول الجنة والبُعْد عن النار ليس بالأماني.. أيْ مَن يعمل في دنياه شرَّاً مَا يُسيء ويَضُرّ سواء أكان مؤمنا أم كافرا وسواء قلّ هذا السوء أم كَثُر يأخذ جزاءه وعقابه عاجلا أو آجلا بما يُناسب في الدنيا والآخرة بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم، أيْ له عذابه وتعاساته في الدنيا علي قَدْر إساءاته، ثم في الآخرة له ما هو أشدّ وأتْعَس، ولن يَجِد له أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمره ويُدافع عنه أو أيّ نَصِير يَنصره من الله، إلا أن يتوب في دنياه قبل موته.. هذا، والمسلم المُسِيء الذي لم يَتُبْ لن يجد أمامه إلا الله ليرحمه ويعفو عنه ويُعَوِّض بكرمه مَن أساءَ إليهم وأضَرَّ بهم، وهو الذي رحمته سَبَقَت غضبه وهو العَفوّ الغفور الرحيم.. إنَّ في الآية الكريمة تخويفاً مِن فِعْل أيِّ شرٍّ مهما كان حقيراً لأنه مُضِرّ مٌتْعِسٌ في الداريْن
ومعني "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿124﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب من يعمل سوءاً الذي ذُكِرَ في الآية السابقة فإنَّ مَن يعمل من الأعمال الصالحات، بأيّ نوع من أنواع الخير، مِن ذكرٍ أو أنثي أي من عموم الناس، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهؤلاء تُضَاعَف لهم أجورهم أضعافا كثيرة علي قدْر تأثير أعمالهم وأقوالهم وإتقانها ونَفْعها وحُسْن النوايا بالعقل أثناء فِعْلها ونحو ذلك، وهم يدخلون الجنة في الآخرة حيث جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، ومَن يعمل خيراً مَا وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالك الملك كله!.. ".. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿124﴾" أيْ ولا يُنْقَصُون أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخيرية – أو الشَّرِّيَّة – مهما كان ضئيلاً ولو بمِقْدار نُقْرَة صغيرة.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم نقيراً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴿125﴾ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴿126﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً.. فالإخلاص والإحسان خُلُقان أساسان في الإسلام، ومنهما تتفرَّع كل أخلاقه الحَسَنَة المُسْعِدَة.. والإخلاص هو ألاّ تكون نواياك بداخل عقلك عند أيِّ قولٍ تقوله أو أيِّ عملٍ تعمله أن تطلب به أيَّ سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المَدْح الكاذب المُضِرّ المُتْعِس للمادِح حيث غالبا ما يكون كذبا وللمَمْدُوح حيث يُؤَدّي به إلي الغرور ومزيدٍ من الشرّ، وإنما تطلب به فقط حب الله تعالي ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. أيْ أنَّ الإخلاص هو أنْ تُخَلّص عملك الخَيْرِيّ من أيِّ شوائب شَرِّيَّة مهما صغرت، وهو أيضا تَخْلِيصٌ لأنظمة الإسلام وأخلاقيَّاته من أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة له مُضِرَّة مُتْعِسَة، فلا تعمل إلاّ بها خالصة تماما من أيٍّ من غيرها، كما يُفهم من قوله تعالي "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.." ﴿الزمر:3﴾.. أمَّا الإحسان فهو تمام الإتقان لكل أقوالك وأعمالك بحيث تكون دائما حَسَنَة علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ يحبه الله ورسوله ﷺ والإسلام، كما يُفْهَم من قوله ﷺ عن الإحسان في الحديث المعروف " .. أنْ تَعْبُدَ الله كأنّك تَرَاه فإنْ لم تكن تراه فإنه يَرَاك" ﴿جزء من حديث أخرجه البخاري﴾ فاستشعار هذا بالعقل سيَدْفع كل عاقلٍ حتماً لإجادة ما يقوم به تمام الجودة.. فيسعد الجميع بذلك في الداريْن.. والعكس صحيح بالتأكيد.. إنك إنْ فَعَلْتَ ما سَبَق، وتَمَسَّكتَ بكل أخلاق إسلامك، فقد أسلمتَ ذاتك لله تعالي، أسلمتَ تمام الإسلام
هذا، ومعني "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴿125﴾" أيْ هذا استفهام وسؤال للنفي أيْ ولا أحدَ أبداً أحسن ديناً ولا أعظم مكانَة وحالة وأجراً في الداريْن – والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون – مِمَّن أسلم وجهه لله أيْ مَن سَلَّمَ نفسه بالكامل بوَجهه أيْ بكُلّه أيْ بعَقله وفِكْره وقوله وفِعْله لرعاية ربه وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده باتّباعه لنظامه الذي أرْشَده إليه وأوْصاه به وهو الإسلام الذي يُنَظّم له كل شئون حياته علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرته تمام السعادة وثَبَتَ دائماً علي ذلك.. ومن معاني أن يُسْلِم لله كذلك أيْ يُخْلِص له سبحانه فلا يقول قولاً ولا يَفعل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. ويكون كذلك مع إسلام وجهه لله وإخلاصه له مُحْسِنَاً، أيْ يُحْسِن أيْ يُتْقِن كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله بحيث يكون دائما حَسَنَاً علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ يحبه الله ورسوله ﷺ والإسلام.. ".. وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا.." أيْ وسارَ خَلْفَ وأطاعَ مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. ".. وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴿125﴾" أيْ هذا ترغيبٌ في اتّباع مِلّة إبراهيم وتنبيهٌ لمَكَانته ومَكَانَة من يَتّبعها في الداريْن ويَتَشَبَّه به وبالرسول الكريم محمد ﷺ الذي اتّبَعَها.. أيْ وجَعَلَ واختارَ الله إبراهيمَ حبيباً وصَدِيقاً له بسبب كمال إسلام وَجْهَه له سبحانه، والخُلّة هي أعلي درجات المَحَبَّة والصَّدَاقَة، ومَن يَتَشَبَّه به سَيُحِبّه ربه كذلك، ومَن أَحَبَّه الله كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاءً عظيماً لِمَن يُسْلِم وجْهَه لله ويَتّبِع مِلّة إبراهيم حنيفا
ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴿126﴾" أيْ ومَن يُسْلِم وجهه لله فهو يُسْلِمه لمَن يَسْتَحِقّه وهو الله الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴿126﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه مُحِيطَاً أيْ يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ فيه وفيهم، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم سواء أكانت في سِرِّهم أو عَلَنِهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴿127﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يَحفظون للضعفاء حقوقهم ويُحسنون معاملتهم، ولا يَظلمون أحداً أبداً أيَّاً كان، استضعافاً له واستكباراً وظلماً، لأنَّ الظلم ظلمات وسَيِّئات، في الدنيا حيث يؤدّي إلي التّشاحُن والتّباغُض والتّباعُد والثأر والانتقام وفقدان الأمان وكل التعاسات، ثم في الآخرة أعظم من ذلك وأتمّ، خاصة إذا كان هذا الضعيف من النساء أو الولدان أو اليتامي أو الشيوخ أو المرضي أو العاجزين أو المساكين أو نحوهم (برجاء مراجعة الآية ﴿2﴾، ﴿6﴾ من سورة النساء للشرح والتفصيل عن معاملة اليتامي وأموالهم، ثم الآية ﴿273﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن صور الإنفاق علي المحتاجين﴾
هذا، ومعني "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴿127﴾" أيْ ويسألونك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – يَطلب منك الناس والمسلمون الفتوي والعلم في أمور وشئون وحقوق النساء، قل الله يبيِّن لكم بأوضح وأحكم وأعدل وأكمل وأسعد بيانٍ وفتوي وعلمٍ كلّ أمورهنّ وما لهنّ وما عليهنّ، فاعملوا بكل ما يُفتيكم ويُوصِيكم به فإنَّ فيه ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن.. ".. وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.." أيْ هذا تخصيصٌ بعد التعميم السابق ذِكْره من أجل التذكير والتنبيه الشديد علي الوَصِيَّة بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماماً بهم وتحذيراً تامَّاً من التفريط في حقوقهم.. أيْ ويُفتيكم الله كذلك فيما يُتْلَىَ عليكم في القرآن في أول السورة وغيرها كما بَيَّنَ لكم في الآية ﴿3﴾ وما بَعْدها (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ حيث أفتاكم في شأن يتامَىَ النساء اللاتي لا تُعطونهنّ ما فُرِضَ لهنّ من المَهْر وتُريدون وتُحبون أن تتزوجوهنّ بلا مَهْر مِثْلهنّ، لأنهنّ يتيمات ضعيفات، فيأمركم أن تتزوجوا غيرهنّ ولا تتزوجوهنّ إلا أن تَعْدِلُوا لهنّ في المَهْر، أو كنتم لا ترغبون في زواجهنّ فتَحْبِسُوهنّ عن الزواج لِتَرِثُوهنّ، فلا تَفعلوا ذلك، بل تَزَوَّجوها أو زَوِّجُوها لغيركم.. ".. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ.." أيْ ويُفتيكم أيضاً في الصغار أن تُعطوهم حقوقهم من الميراث – وغيره – مع الكبار ولا تأكلوها استضعافاً لهم كما بَيَّنَ لكم في الآية ﴿11﴾ من السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾.. ".. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ.." أيْ ويُفتيكم كذلك أن تُدِيروا كلّ شئون اليتامى المالية والتربوية وغيرها ذكوراً كانوا أو إناثاً بالعدل التامّ.. ".. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴿127﴾" أيْ وأيّ خيرٍ تفعلونه إمّا مع هؤلاء المذكورين أو مع غيرهم بأيِّ صورةٍ ومقدارٍ وفي أيِّ زمانٍ ومكانٍ طَلَبَاً لثواب الله وحبه وعوْنه وتوفيقه وعطائه وإسعاده الذي لا يُحْصَيَ في الدنيا والآخرة فإنَّ الله حتماً كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان به عليماً حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿128﴾ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿129﴾ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴿130﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الذين يُحسنون معاملة أزواجهم ويَحرصون علي سعادة بيوتهم وأسرهم وأبنائهم، فإنَّ الأسرة هي أساس وحَجَر من أُسُس وأحجار بناء المجتمع، فإذا صَلحت وسَعدت، صَلح وسَعد الجميع، في دنياهم وأخراهم.. والعكس صحيح قطعا (برجاء مراجعة الآية ﴿187﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿226﴾، ﴿237﴾ منها، ثم الآية ﴿37﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن أسباب السعادة الزوجية وكيفية تلافِي الخِلافات وحَلّها إذا وَقَعَت﴾
هذا، ومعني "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿128﴾" أيْ وإنْ زوجة خافت وتَوَقّعَت وعَلِمَت ببعض علاماتٍ من زوجها تَرَفّعا عن صُحْبتها، أو ابتعادَاً عنها وعدمَ إقبالٍ عليها وهو درجة أقلّ من النشوز، علي غير ما اعتادَا عليه قبل ذلك، لسببٍ من الأسباب، فلا حَرَجَ عليهما في الدنيا ولا إثم في الآخرة أنْ يتنازَلَ كل منهما عن بعض حقوقه وطَلَبَاته ولا يتمسَّك بها كلها فليس في ذلك أيَّ مُخَالَفَة للإسلام الذي يُوصِي بأن يحافظ كل فرد علي حقوقه بل لهما ثوابهما العظيم في أن يحاولا إصلاح ما بينهما بالصلح الجميل والتقريب، والعاقل منهما والأفضل والأكثر أجراً في الدرايْن هو الذي يبدأ به، رعاية لرابطة الزوجية وحفاظاً علي الأسرة والأبناء وإبقاءً على دوام الخير والاستقرار والسعادة، والصلح خيرٌ مُسْعِدٌ دائماً لا شرَّ فيه ومنافعه وسعاداته تَعُمّ الجميع في دنياهم وأخراهم وهو قطعاً خيرٌ من التّنازُع والتّخاصُم وتعاساته فيهما، فلْيَجتهد إذَن الطرفان بالعودة سريعا لأخلاق الإسلام باتّخاذ ما أمكن من وسائل الصلح بينهما بأنْ يُرَاجِع كل منهما ذاته وإسلامه ويعمل بما فاته من أخلاقه، ويتنازَل ويَتَقارَب ويَتَسامَح.. ".. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.." أيْ وإنَّ الذي يَمنع الصلح دائما هو أنَّ الشحَّ جُعِلَ حاضِراً مع النفوس مُلازِمَاً لها لا يُفارِقها لأنها مَفْطُورَة عليه، أيْ أحْضَرَ الله الأنفسَ الشحَّ أىْ فَطَرَ وخَلَقَ الله النفوس على الشحّ بما تملكه أيْ الحِرْص عليه وعدم التفريط فيه، ولقد فَطَرَها سبحانه كذلك من أجل الخير لا للشرّ أيْ لكي يُحافظ الإنسان علي ما معه ولا يُضيعه لكنْ إنْ زادَ الأمر وتَغَيَّرَ عَمَّا أراده الخالق وأصبح زائداً عن الحَدِّ بحيث يؤدّي إلي الشحّ بمعني الحرص الشديد والبُخل وعدم التنازُل عمَّا يملك من جهدٍ وصحة ومال وفكر وعلم وغيره من أجل نفع نفسه والآخرين فهنا يُصبح الأمر شرَّاً لأنه قد خَالَف أخلاق الإسلام وعلي العقل أن يتدخّل ويَضبط الحال بما يَتَمَاشَيَ مع هذه الأخلاقيّات (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وبالتالي فالذي يمنع الصلح أنَّ كلّ طَرَفٍ لا يَتسامَح أو يَتنازَل عن شيءٍ من حقّه، فعليهما إذَن أنْ يَنْتَبِها لهذا ويُحَكّما عقلهما ويَتَسامَحَا ويَتنازَلا ويَتصالَحَا ليَسعدا في الداريْن ولا يَتعسا فيهما.. ".. وَإِنْ تُحْسِنُوا.." أيْ وإنْ تكونوا دوْمَاً من المُحسنين أيْ الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله دائماً وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الزوجية والأسرِيَّة، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿128﴾" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيراً أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿129﴾" أيْ ولن تَقْدروا أيها الأزواج علي أن تُحَقّقوا العدل التامّ بين النساء – إنْ كان لكم أكثر من زوجة – في المَحَبَّة ومَيْل المشاعر بداخل العقل والجماع، حتي ولو حرصتم أشدّ الحرص علي ذلك وبذلتم فيه أكبر الجهد، فلن تَصِلُوا إلي كماله أبداً، وقد خَفّفْت عنكم فلا تأثمون لذلك حيث يصعب التّحَكّم فيه ويؤدّي إلي مَشَقّة غير مُحْتَمَلَة لأنَّ له أسبابا مُتَعَدِّدَة تختلف من شخصٍ لآخر ومن ظرفٍ ومكانٍ لآخر، أمَّا العدل في المَبيت عندهنّ والكساء والغذاء بما تحتاجه كلٌّ منهنّ والمعامَلَة الحسنة معهنّ بأخلاق الإسلام فهذا كله وما يُشْبهه مُسْتَطَاع لكم يمكنكم فِعْله وإنْ قَصَّرْتم فيه بلا عُذْرٍ أثمتم.. ".. فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ.." أيْ فإذا مِلْتُم إلى واحدةٍ منهنّ بالحبّ والجِماع بعد أنْ خَفّفَ الله عنكم وعَذَرَكم في هذا، وكان الأمر كذلك في الواقع، فلا تُبالِغُوا إذَن في المَيْل بحيث تَمِيلوا لها مَيْلاً كاملاً فتزيدوا في إرضائها والإقبال عليها حتى تَصِير الأخرى التي مِلْتُم عنها كالمُعَلّقة أىْ كالمرأة التي لا هي لها زوج فتَنَال منه حقوقها الزوجية ولا هي بمُطَلّقة فتَرجو من الله أن يرزقها بزوجٍ غيره يكرمها، ففي هذا ظلم وإثم وتعاسة في الداريْن، وإنما الواجب عليكم أن تُجاهِدوا أنفسكم حتى تَصِلُوا إلى الحقّ المُسْتَطَاع من العدل بين الزوجات.. وفي هذا ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ للذين لا يَعْدِلُون بين زوجاتهم.. ".. وَإِنْ تُصْلِحُوا.." أيْ وإنْ تُصلحوا ذواتكم بالعمل بكل أخلاق الإسلام وتعملوا الصالحات من الأعمال وتقوموا بإصلاح كلّ ما أفسدتموه بسبب أيِّ سوءٍ منكم قَدْر استطاعتكم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ وتُصْلِحوا فيما بينكم وبين زوجاتكم بإعادة العدل والمَوَدَّة والرحمة والتفاهُم والتعاون والتسامُح ونحو ذلك من أسباب السعادة الزوجية وتُصلحوا ما بينكم وبين مَن أسأتم إليهم عموماً لتعود لكم سعاداتكم حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. وَتَتَّقُوا.." أيْ وتَخافوا الله دائماً وتُراقِبوه وتُطيعوه وتَجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها العلاقات الزوجية والأسرِيَّة، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿129﴾" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴿130﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ التفرقة بينهما جائزة إذا لم ينفع الإصلاح، لأنَّ الافتراق مع الإحسان خيرٌ من المُعَاشَرَة السيئة، أيْ وإنْ صَعُبَ الصلح بين الزوجين ولم يستطيعا إصلاح ما بينهما ولم يستطع غيرهما أن يُصلح حالهما واختارا أنْ يتفرّقا أيْ يُفارِق كل منهما الآخر تَخَوّفاً مِن تَرْك حقوق الله التي أوجبها على كل واحد منهما، من خلال الطلاق، ويكون بالمعروف، أيْ بكل ما هو معروف عند العقل المُنْصِف العادل وعند الصالحين أنه خير مُسْعِد في الدنيا والآخرة وهو كلّ أخلاق الإسلام، أي يتمّ الفِراق بحُسْنِ مُعامَلَةٍ أيْ من غير سبٍّ ولا سوءِ تَصَرّفٍ ولا إكراهٍ لهنّ على أخذ شيءٍ من مالهنّ بل بكل خيرٍ وسَلاسَة وإعطاءٍ لحقوقهنّ إذا كان لهنّ باقِ مهرٍ وما شابه هذا.. ".. يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.." أيْ فإنْ فَعَلاَ ذلك التّفَرُّق بإحسانٍ فإنَّ الله يَعِدهما أنْ يَجعل كلَّ واحدٍ منهما مُسْتَغْنِيَاً عن الآخر بأن يَكْفيه من رزقه الواسع وكرمه وفضله ورحمته سواء أكان زوجاً آخر أسْعَدَ له أم مالاً أم راحة بالٍ أم علاقات طيّبة مُسْعِدَة أم كل هذا وغيره من أنواع أرزاقه سبحانه المُتَنَوِّعَة التي يَصْعب حَصْرها.. ".. وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴿130﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان واسعاً أيْ عظيماً كاملاً في الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه، وهو الحكيم دائماً في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴿131﴾ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿132﴾ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴿133﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴿131﴾" أيْ هذا بيانٌ أنه سبحانه واسِعٌ وأنه الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم.. أيْ وله تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وبالتالي وبما أنَّ المُلْك والسلطان كله لنا فنحن وحدنا لا غيرنا الذي يُشَرِّع لكم فعليكم أن تستجيبوا لِمَا نُوصِيكم به أيْ نجعله معكم وَصِيَّة تَحرصون عليها وتَهْتَمّون بتنفيذها من حُبِّنا لكم وحرصنا علي إسعادكم أيها المسلمون وأيها الناس إلي يوم القيامة وهو ذاته الذي وَصَّينا به جميع بني آدم منذ بدء الخَلْق ووَصّينا به الذين أُعْطُوا الكتاب من السابقين لكم كاليهود والنصاري وغيرهم والذي هو يُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولو تَرَكوه وخَالَفوه تَعِسُوا حتماً فيهما وهو أنْ اتّقوا الله أيْ خافوه دائماً وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴿131﴾" أيْ ويا أيّها الناس إنْ لم تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي بعد ما ذَكَرَه لكم من أدِلَّة قاطعة في آياته ومعجزاته في كونه وخلقه ولم تُصَدِّقوا برسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولم تَتَّبِعوا إسلامه وأنكرتم نِعَمه ولم تشكروها ونَسَبْتموها لغيره وما شابه هذا مِن سوءٍ، فإنَّ لله ما في السماوات وما في الأرض – واستخدام ذات الألفاظ كما في أول الآية هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها – وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان غنياً حميداً أيْ هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا! وهو الحَمِيد أي المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. إنه تعالي غَنِيّ عنكم وكفركم ولو جميعكم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتكم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد
ومعني "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿132﴾" أيْ وله سبحانه كل ما فيهما فهو خَلْقه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك.. واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿132﴾" أيْ اسْتَغْنُوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيداً مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولغيركم
ومعني "إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴿133﴾" أيْ مِمَّا يَدلّ علي أنكم أنتم أيها الناس الفقراء المُحتاجون إليه وأنه هو الغَنِيّ عن كلّ شيء، أنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابكم وإنهائكم من الحياة الدنيا في أيّ وقت، بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدكم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتكم وذرِّيَّات غيركم كما خلقكم أنتم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فانْتَبِهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾.. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴿133﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان علي ذلك الذهاب بكم والإتيان بآخرين، قديراً أي كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿134﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿134﴾" أيْ مَن كان يَطلب ويُحبّ عطاءَ وجزاءَ الدنيا وهو كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ فلا يقتصر في طلبه عليه فقط لأنَّ الله عنده عطاء الدنيا والآخرة معا حيث الجزاء والأجر الحَسَن الذي لا يُوصَف يوم القيامة فيما هو أعظم خيراً وسعادة وأتمّ وأخْلد يتمثّل في تمام الرضا والغُفْران والجنان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وذلك بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِباً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. وفي هذا دَفْعٌ وتشجيعٌ للناس ألاّ يَقْتَصِروا علي سؤال ثواب الدنيا فقط مع كوْن المسئول سبحانه مالِكَاً للثوابين كريماً وَهَّابَاً، وأنْ يَشْتَدّ طلبهم دائما فيما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد وهو الآخرة، لأنَّ مَن يَطلب قليلاً زائلاً مع أنه يمكنه أن يطلب عظيماً نَفِيسَاً خالداً فإنه ولا شكّ يحتاج لمراجعة حاله وفكره! وبالجملة فإنَّ الآية الكريمة تطلب منهم أنْ يُحسنوا طلب الدنيا والآخرة معا فإنَّ هذا سَهْل مَيْسُور لهم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، وأنْ يكونوا مِمَّن امتدحهم ربهم لقولهم "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" ﴿البقرة:201﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه تعالى عنده ثواب الداريْن فيُعْطِي كُلّاً ما يريده سواء مَن كان يريد الدنيا فقط ولا يريد الآخرة لأنه لا يُؤمن بها أو هو ناسٍ لها أو يريدهما معا كقوله تعالى "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" ﴿الشوري:20﴾ (برجاء مراجعتها أيضا لتكتمل المعاني﴾.. ".. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿134﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيراً أي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿135﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿135﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا قَوَّامِين جَمْع قَوَّام وهو المُبَالِغ في القيام بالشيء والإتيان به على أكمل وأحسن وجهٍ مُمْكِنٍ أيْ كونوا كثيري القيام بالقسط أيْ بالعدل أيْ قائمين دائماً باستمرارٍ به أيْ مُواظِبين عليه في كل أقوالكم وأعمالكم بكل شئون حياتكم ولا يمنعكم عنه أيّ مانع.. ".. شُهَدَاءَ لِلَّهِ.." أيْ وكونوا مُقِيمين للشهادة بالحقّ ابتغاءً لوجهِ الله لا لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة، فإنَّ الإيمان الحقّ وخُلُق الإسلام يَتَطَلّب ذلك، أيْ عليكم أيها المسلمون عند أدائكم للشهادة أن تُؤَدّوها بكل عدلٍ وصدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا، فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما.. ".. وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي القيام بالقسط والشهادة لله بالحقّ وعدم كتمانها أو تغييرها.. أيْ حتي ولو كانت هذه الشهادة الحقّ هي ضِدّ أنفسكم أو والديكم أو أقرب وأحبّ الناس إليكم، فلا يمنعكم الحب والحنان والبِرّ والتقدير وغيره من إقامة الشهادة علي هؤلاء ومِن باب أوْلَيَ غيرهم مِن الأجانب عنكم، ولا تجعلوا أبداً هذه العلاقات الوثيقة بينكم سَبَبَاً لنشر الظلم أو العوْن عليه.. ".. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي التزام الحقّ مع أيِّ أحد، مع الغَنِىّ والفقير والقويّ والضعيف والصغير والكبير والذكر والأنثي والمسلم وغير المسلم ومع الجميع، فلا يكون الغِنَي أو الفقر أو القوة أو الضعف أو الصغر أو الكبر أو الذكورة أو الأنوثة أو الإسلام أو غير الإسلام أو ما شابه هذا من أحوال الناس مقياساً للعدل أو الظلم، وإنما هو العدل وفقط، فلا يَأخُذ غَنِيٌّ مثلاً غير حقّه لأنه غَنِيّ قويّ! ولا يُظْلَم أيضا من أجل فقيرٍ علي اعتبار أنه غَنِيّ يَمكنه التّحَمُّل! كذلك لا يُظْلَم فقيرٌ لأنه ضعيف! ولا يَأخُذ غير حقّه بسبب ضعفه كرحمةٍ به وإشفاق!.. أىْ إنْ يَكُن المَشْهُود عليه غَنِيَّاً يُرْجَىَ في العادة أو يُخْشَىَ، أو فقيراً يُرْحَم في الغالب ولا يَخافه أحد، فلا تَمتنعوا عن الشهادة على الغَنِيّ طلباً لرضاه أو على الفقير شَفَقَة عليه، أو ما يُشْبِه هذا من حالات، لأنَّ الله تعالى أوْلَىَ بالفئتين وأرْحَم بهما من سائر الناس ومِن أيِّ راحِم ولولا أنَّ شهادة الحقّ لهما أو عليهما مصلحة لهما وللجميع لَمَا شَرَعها فرَاعُوا أمر الله تعالى الذي وَصَّاكم به بأن تقولوا العدل وتشهدوا بالحقّ دائما فهو أوْلَيَ وأسعد لكم فدينه الإسلام أوْلَيَ وأحقّ أن يُتَّبَعَ فيهما وفي كل شئون حياتكم فإنه سبحانه أعلم بمصالح وسعادات الناس وكلّ خَلْقه منكم.. ".. فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا.." أيْ وبالتالي فلا تَسِيروا خَلْف وتُطِيعوا الهوي وهو كل ما يُخالِف أخلاق الإسلام من شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فتَمِيلُوا مع الغَنِيِّ أو الفقير أو غيره فتَشهدوا له كذباً وزُورَاً وظلماً، فقد نهيتكم عن ذلك من أجل أن تعدلوا في أحكامكم وشهاداتكم فتكونوا عادِلِين، ومَنْعَاً لكم أنْ تَعْدِلوا بمعني أنْ تَمِيلوا وتَنْحَرِفوا عن الحقّ والعدل إلي الظلم.. وبالجملة فلا يَدْفَعكم الهَوَىَ إلي تَرْك العدل بل التزموا به علي كلّ حالٍ ومع أيِّ أحد.. ".. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿135﴾" أيْ واعلموا واحذروا أنكم إنْ تَلْوُوا ألسنتكم بالشهادة أيْ تُحَرِّفوها وتَخرجوا بها عن أداء ما يَتَرَتّب عليها أو تُعْرِضوا عنها أيْ تتركوها كلها وتكتموها أو تتركوا بعض كلماتها، وذلك ليَفْسَد معناها ولا تُحَقّق هدفها.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿135﴾" أيْ فإنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان بما تعملون خبيراً أي عليما بتمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فسارِعوا دائما بإحسان العمل إذَن وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامكم
تفسير الآية ﴿136﴾، ﴿137﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿136﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴿137﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿136﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – آمِنوا أيْ اثْبُتُوا علي إيمانكم ودَاوِمُوا علي ما أنتم عليه، مِن تصديقكم بوجود الله تعالي ووحدانيته فهو الإله الواحد بلا أيِّ شريك، ومِن التصديق برسوله ﷺ وبالكتاب الذي أَنْزَلَ عليه وهو القرآن العظيم، ووَاظِبوا علي طاعتهم التامّة بالعمل بكل أخلاق الإسلام، وكذلك آمِنوا بمعني اسْتَكْمِلُوا ما قد ترونه فيكم ناقصاً منها وصَحِّحُوا سريعاً ما قد يَحدث منكم من أخطاء أو تقصيرات أو هفوات تائبين منها علي الفور أوَّلاً بأوَّل، واثْبُتُوا وداوِموا علي تصديقكم بكل الكتب التي أنزلها مِن قبل القرآن علي رسله السابقين مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيمانكم بها استكمال لإيمانكم بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علي المؤمنين أن يَتَّصِفوا به وحتي لا يكون بينكم وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعكم من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم.. هذا، والآية الكريمة أيضا تدعو الذين آمَنوا مِن قَبْل نزول القرآن كاليهود والنصاري وغيرهم أن يؤمنوا به ويُسْلِموا ولا يَبْقوا علي يهوديتهم أو نصرانيتهم أو غير ذلك من الديانات.. ".. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿136﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السُّعَدَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التُّعَسَاء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن يُكَذّب ولا يُصَدِّق بوجود الله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار، ويُكَذّب بملائكته التي خَلَقها لتخدمه في تسيير شئون كوْنه ولخِدْمَة خَلْقه، ويُكَذّب ولا يُصَدِّق رسله الذين أرسلهم مُعَلّمين للبَشَر وقدواتٍ لهم يعلمونهم عمليا كيفية تطبيق دينهم الإسلام والذي هو في كتبه ورسالاته المُوحَاة إليهم منه والهادية المُسْعِدة للخَلْق، ويُكَذّب ولا يُصَدِّق بوجود اليوم الآخر الذي تنتهي عنده الحياة الدنيا وهو يوم القيامة حيث يقوم الناس للحساب علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسِب وبسبب عدم تصديقه يَفعل كل سوءٍ حيث لا حساب مِن وِجْهَة نظره.. ".. فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿136﴾" أيْ فقد ضاعَ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنه لم يَعْبُد أيْ لم يُطِع الله تعالي ربه أي مُرَبِّيه وخالِقه ورازِقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام.. إنه أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنه يفعل كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه يَتَوَهَّم أن لا حساب! وبالتالي ستجده دائما وحتما في دنياه في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراه سيكون له قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴿137﴾" أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ثم كفروا أيْ كذّبوا بعد تصديقهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ثم صَدَّقوا ثم كَذّبوا، ثم لم يكتفوا بذلك بل ازدادوا كفرا بهذه الرِّدَّة والرجوع عن الإسلام والتّحَلّل من أخلاقه تَمَثّلَ في مزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والفساد والمُعاداة للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والمقاومة لمَنْع نَشْره والإيذاء لمَن يَتّبعه والتشجيع له علي الارتداد عنه وما شابه هذا من علامات ازدياد سُوُئِهم، واسْتَمَرُّوا علي ذلك بلا توبة حتي موتهم.. ".. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴿137﴾" أيْ ليس مِن شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويُسْتَبْعَد أن يغفر لهم ما يفعلون مِن شَرّ، ما داموا مُصِرِّين عليه، لأنَّ غفرانه يَتَطَلّب توبة وامتناعاً عنه، ولا ليهديهم أيْ يرشدهم طريقا يُوَصِّلهم إلي الخير وهو العمل بالإسلام يسعدون به في الداريْن بأيِّ حالٍ من الأحوال لأنَّ هدايته تكون لمَن يَتّجِهون إلى الحقّ ويطلبونه فيُوَفّقهم بالتالي له ويُيَسِّر لهم أسبابه وهم قد تَمَادوا في كفرهم وأصَرُّوا عليه حتي موتهم واختاروا الضلال علي الهُدَيَ بكامل حرية إرادة عقولهم، ثم مَن يَتَكَرَّر منهم ارتدادهم عن إيمانهم بعدما ذاقوا سعاداته بل وازديادهم في كفرهم وإصرارهم عليه يدلّ علي أنَّ الإيمان صارَ عندهم أهْوَن وأخَسّ شيء وأنهم لا يَقتربون منه أيّ درجة حتي يكونوا مُؤَهَّلِين للمغفرة وهداية سبيل الجنة وأنهم لم يَتَقَدَّموا بأيّ خطوةٍ نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. فاسْتِبْعَاد المغفرة لهم وهدايتهم سبيلاً للخير هو بسبب اسْتِبْعَاد عودتهم للإيمان أثناء حياتهم واستمرارهم وثباتهم عليه وإلا لو عادوا له وثَبَتُوا غُفِرَ لهم وهُدُوا للخير حتماً من الغفور الرحيم الهادي الكريم.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿138﴾ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴿139﴾ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴿141﴾ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿142﴾ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿143﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن منافقا، لأنَّ المنافق يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة.. وهذا النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله
هذا، ومعني "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿138﴾" أيْ أَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم المنافقين وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون داخل عقولهم الشَّرّ بما في القرآن الكريم ليكون إنذاراً وتخويفاً لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما وهو أنَّ لهم عذاباً أليماً أيْ مُوجِعَاً مُهيناً ينتظرهم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. هذا، وفي لفظ "بَشّر" استهزاءٌ بهم وتحقيرٌ لشأنهم حيث يُبَشَّرُون بانتظارِ شيءٍ مَا لكنه ليس بما يَسُرّ كما هو مُعْتاد مع البُشْرَيَ ولكنه كل شرّ وتعاسة !!
ومعني "الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴿139﴾" أيْ الذين مِن صفاتهم السيئة والتي علي المسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا بها أبداً حتي لا يَتعسوا مثل تعاساتهم في الداريْن وأنْ يَحذروهم عند التّعامُل معهم أنهم يجعلون الكافرين أولياء لهم من غير المؤمنين، أيْ أولياء لأمورهم وليس المؤمنين، يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم فيها ويتحابّون ويَتناصرون فيما بينهم ويُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا.. ".. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴿139﴾" أيْ هل يَطلبون بلَهْفَةٍ ورغبة عند الكافرين العِزّة أيْ الرِّفْعَة والقوّة؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. فإذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا وتَعِسوا فيهما، لأنَّ العِزّة لله وحده كلها، ومَن اعْتَزَّ بغيره هَانَ وذلّ، فكلّ مَن كان يريد العِزَّة، أيْ يريد تمام الكرامة والشرف والمَكانَة والرِّفْعَة والقوة وألاّ يكون مَغلوباً ومَقْهُوراً لأيّ أحدٍ ويَحيا بلا أيّ ذِلّة، في دنياه وأخراه، فليَطلبها مِمَّن يملكها جميعها كلها وسيُعطيها له عِزّة حقيقية مستمرّة لا وَهْمِيَّة مُتَقَطّعة، يَطلبها من الله خالقه الكريم سبحانه وخالقها، وطَلَبها يكون بالاجتهاد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتوكّل عليه وحده ليُيَسِّرها له ويُسَدِّد خُطاه نحوها، بينما لو طَلَبَها من عند غيره من مخلوقاتٍ مثله والاعتماد عليهم، كطَلَبها مثلا من آلهة أخري تُعْبَد غيره تعالي ولا تَملك شيئا كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، أو من بَشَرٍ ضعيف مُعَرَّضٍ للمرض والضعف والفقر والموت ونحوه، فهذا وَهْم وانخداع وخسران كبير، لأنها ستكون عِزَّة مُرتبطة حتما بمُقابِلٍ ما، فهي إذن مُتقطّعَة لا دائمة سَطْحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة، حيث ستكون مَكانَة ما تُعْطَيَ – كمنصبٍ أو جاه أو مال أو نحوه – في مقابل فِعْل سوءٍ ما وإلا فلا مَكانَة! فالأمر إذن تمام الذلّة! فترْك أخلاق الإسلام إذن كلها أو بعضها وفِعْل عكسها بالتالي سيؤدّي حتما إلي ذلة في الدنيا تُساوِي مقدار ما تمّ ترْكه ثم إلي ما يُساويها من عذابٍ في الآخرة، فمَن كان مثلا كاذبا أو سارقا أو خائنا أو منافقا يُظْهِر خيراً ويخفِي شرَّاً أو ما شابه هذا ممّا يُخالِف الإسلام ستَرَاه حتما في ذلةٍ وانكسارٍ وانحطاطٍ علي قدْر سوئه كما يُثبت الواقع ذلك عمليا، ثم له في آخرته ما يَستحقّه علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾" أيْ ولقد أنْزَلَ الله عليكم أيها المسلمون في القرآن العظيم أنكم إذا سمعتم آيات الله يَكْفر بها الكافرون ويَستهزيء ويَسْتَهِين بها المُسْتَهْزِئون الساخِرون فعليكم فى هذه الأحوال ألاّ تقعدوا معهم وتتركوا مَجَالسهم حتى يتكلّموا فى حديثٍ آخر غير الكفر والاستهزاء بها.. إنه إذا كان عدم القعود معهم مطلوباً عند مجرّد سوءِ كلامهم فبالتالي ومِن بابِ أوْلَيَ يُطْلَب ضِمْنَاً عدم اتّخاذهم أولياء والاعتزاز بهم أبدا.. وفي هذا تذكيرٌ لكل مسلم أن يتجنّب تماما مجالس الكفر والنفاق والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، لأنها كلها مجالس مُضِرَّة مُتْعِسَة، لأنَّ فيها استهزاءً بأخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة لأنها تُنظّم كل شئونها صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، إلا إذا حَضَرَها وكان قوياً متمسّكاً عاملاً بكل أخلاق إسلامه ويَغْلِب علي ظنه حُسْن الرَّدّ والقُدْرَة علي الإقناع والدعوة بالقُدْوة وبالحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ ظَهَرَ عليهم تغيير الحديث والفِعْل وتحسينه فمِن المُمْكِن البقاء معهم والاستمرار لعلهم ينتفعون وينتهون ويعودن للخير فيسعدون، وإلاّ إنْ لم يستطع فلْيَنْصَرِف كارِهَاً لكل ذلك داخل نوايا عقله عازماً علي حُسْن دعوتهم في توقيتٍ ومكانٍ وبأسلوبٍ آخر مناسب.. ".. إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ.." أيْ إنكم إذا قعدتم معهم وهم على ما هم عليه ولم تتركوهم فأنتم بالتالي مِثْلهم في سُوئهم لأنكم رضيتم به والراضي بالسوء يكون كالفاعل له، فكل مَن جَلَسَ فى مجلسِ سوءٍ ولم يُنْكِر علي فاعِلِيه أيْ يَرْفض فِعْلهم بأسلوبٍ حكيمٍ مُناسبٍ وهو قادرٌ علي الإنكار عليهم يكون إثمه مثلهم، فإنْ لم يَقدر على الإنكار عليهم لعُذْرٍ من الأعذار مقبول والله تعالي أعلم بحاله فعليه ألاّ يَقعد معهم، فإنْ لم يستطع القيام لسببٍ مَا فلْيُنْكِر بقلبه أيْ يرفض بعقله، حتي لا تنطبق عليه هذه الآية الكريمة.. ".. إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾" أيْ هذا بيانٌ لسوء نهاية المُتَكَلّمين بالسوء المُنْغَمِسِين فيه ومَن يَرْضَيَ بسوئهم وتحذيرٌ شديدٌ حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ من المسلمين حتي لا يكون معهم، فإنَّ الله حتماً سيَجمع المنافقين والكافرين جميعاً يوم القيامة في عذاب جهنم الذي لا يُوصَف خالدين فيه – إضافة إلي عذاب وتعاسة الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدهم عن ربهم – لأنَّ هذين الفريقين كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتّوَاصِى بالشرور والمَفاسد والأضرار فسيَجمعهم سبحانه كلهم فيها في المُقابِل، فمَن يحبّ ألاّ يكون معهم فلا يَفعل إذَن مِثْلهم ولا يَرْضَيَ بفِعْلِهم
ومعني "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴿141﴾" أيْ هذا بيانٌ لصفةٍ سَيِّئةٍ أخري من صفات المنافقين حتي يَحْذرهم المسلمون عند التعامُل معهم فيُعاملونهم بما يُناسب ولا يَتَشَبَّهون بهم مُطلقا حيث هم يُحاولون دائماً الانتفاع من كل فريقٍ فيُظْهِرون أنهم مع المسلمين إذا كان لهم الغَلَبَة أو مع الكافرين إذا غَلَبُوا أحيانا فهم يَتَلَوَّنون بسرعةٍ من أجل مَدِّ اليَدِ لأيِّ فُتاتٍ من الدنيا مهما كان ضئيلاً وفي أيِّ مكانٍ وبأيِّ شكلٍ كان.. أيْ هُم الذين أيها المسلمون يَتَرَبَّصُون بكم أىْ يَنتظرون بتَرَقّبٍ ومُلاَحَظَةٍ مَا يحدث لكم من خيرٍ أو شَرٍّ أو مِن نصرٍ أو هزيمةٍ فإنْ كان لكم فتْحٌ من الله أيْ نصرٌ منه وغنيمة وتوسيع أرزاق وحُكْم وسلطة ونفوذ ونحو هذا قالوا على سبيل التّقَرُّب إليكم ألم نكن معكم فى الجهاد وغيره حيث نحن منكم فأعطونا جزءاً من الخير الذى جاءكم.. ".. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.." أيْ وإنْ حَدَثَ أحياناً للكافرين مقدارٌ مِن نصرٍ مَا – حينما يُقَصِّر المسلمون في أسباب النصر في شأنٍ مَا مِن شئون الحياة – قال هؤلاء المنافقون لهم أيضا علي سبيل التّقَرُّب والتّوَدُّد كما يفعلون مع المسلمين عند انتصارهم لينالوا شيئا منهم ألم نُحِطْكم بمساعداتنا بما قدَّمناه لكم، ونَحْمِكُم من المؤمنين فلم يَنتصروا عليكم، وذلك من خلال ما قُمْنا به من إضعافنا وتَخْذِيلنا لهم وتَجَسُّسنا على أحوالهم وإخباركم بما يَهمّكم من شئونهم؟ ومادام الأمر كذلك فأعطونا ما نَسْتَحِقّه في مُقابِل هذا.. ".. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين.. أىْ إذا كان هذا هو الحال السَّيِّء للمنافقين والكافرين والذي مِن المُمْكِن أن يضرّكم فى الدنيا، فأُبَشّركم أيها المسلمون بأنَّ الله سيَحكم بينكم وبينهم يوم القيامة بحُكْمِه العادل فيُجازيكم بكل خيرٍ وسعادة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ويُعاقبهم بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب سُوئهم في عذاب النار الذي لا يُوصَف.. ".. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴿141﴾" أيْ وأُبَشّركم أيضاً أنَّ الله لن يَجعلَ ويَسْمَحَ طريقاً يُؤدّي إلي تَسَلّط الكافرين واستيلائهم علي خيرات المسلمين وإذلالهم في الحياة الدنيا، وكذلك حتماً في الآخرة، إذا كانوا مسلمين حقّاً، أيْ متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم، مُتّخِذين ما استطاعوا من كل أسباب النجاح والنصر والتّقَدُّم، مُتَوَكّلِين علي ربهم، مُتَعاونين لا مُتَنَازِعِين فيما بينهم، فهذا هو الشرط، إنهم بهذا يَقودون ولا يُقادون، يُصبحون رؤساء لا مَرْؤوسين، مَتْبُوعِين لا تابِعين، يُوَجِّهون جميع الخَلْق لكلّ خيرٍ ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، فإنْ تَرَكوا هذا، تَسَاووا معهم، فلْيَنْتَصِر إذَن الأقوي، وهم الكافرون، وليكن لهم السلطان والسيادة علي الآخر! وفي ذلك حتماً أشدّ الذلّة والتعاسة في الداريْن، فلْيَحْذر المسلمون من ذلك حَذَرَاً شديداً ليسعدوا فيهما
ومعني "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿142﴾" أيْ إنَّ هؤلاء المنافقين من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة يَتَوَهَّمون أنهم يُخادعون أي يَغِشّون الله تعالي والمؤمنين بإظهارهم للخير وإخفائهم للشرّ! ولا يشعرون أيْ لا يَعلمون ولا يُدركون، إنْ كانوا كافرين أو كانوا مسلمين لكنْ ناسِين غافلين، أنَّ الله هو خادعهم وأنهم في حقيقة الأمر ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا! لأنَّ النتائج والأضرار السيئة لخِداعهم حتما ستعود عليهم عاجلا أو آجلا في دنياهم ثم أخراهم ولأنَّ مَن يَتَوَهَّم أنه يَخْدَع غيره ويظنه جاهلا عن خداعه وهو ليس كذلك بل هو عالِمٌ به مُتَجَهِّزٌ لإفشاله وعقابه عليه إنما هو قطعا يَخدع نفسه ولأنَّ الله تعالي أولا وأخيرا وحتما يعلم بتمام العلم كل أقوالهم وأفعالهم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانهم فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه وسيُحاسبهم ويُعاقبهم عليها كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. إنهم كذلك يَتَوَهَّمون أنهم يَغِشّون المؤمنين بنفاقهم هذا وهم في حقيقة الأمر أيضا ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا لأنه أيضا ضَرَر خِداعهم عائد عليهم حيث هم الذين ظَلّوا علي نفاقهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار وعلي خوفهم ورعبهم وقَلَقِهم من أن ينكشف أمرهم ويُحَاسَبوا علي شَرِّهم في كل لحظةٍ من لحظات حياتهم فتَعِسوا بذلك في الداريْن بينما ظَلّ المؤمنون علي سعاداتهم بأخلاق إسلامهم ولم يَتَضَرَّر حتما الله خالقهم سبحانه شيئا ولا المؤمنون – وحتي لو أصابهم بعض ضَرَرٍ منهم فإنه تعالي يُصَبِّرهم عليه ويُنَجِّيهم منه ويُثِيبهم في مقابله خيراً كثيراً في دنياهم وأخراهم – لأنهم بعوْن الله وتوفيقه كاشفوهم مع الوقت بعقولهم وبفِطْنَتِهم وبحَذَرهم، ومِن بعض تصرّفاتهم هم حيث أحيانا أو كثيرا تَفْلِت ألسنتهم ببعض أقوالٍ ويفعلون أفعالاً تُظْهِر وتُؤَكّد ما يدور في عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار، فهم إذَن مَخْدُوعون خاسرون لا خادعون فائزون، في الداريْن!!.. إنَّ خلاصة الآية الكريمة والمقصود منها أنَّ المنافقين لم يُخادِعوا مُطلقا الله بل هو خادعهم لعِلْمه بما يُسِرّون، ولم يخادعوا المؤمنين لأنَّ الله يَدْفَع عنهم ضَرَر خداعهم ويكشفه لهم، وإنما يخدعون أنفسهم لأنَّ ضَرَر المُخَادَعَة يعود عليهم وقتاً ما، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لتعطيلهم لعقولهم، الأمر الذي جعلهم كأنهم عديمى الشعور فاقِدى الإحساس والإدْراك.. ".. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿142﴾" أي ومن صفاتهم السيئة كذلك والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها حتي لا يَتعس مثلهم في الداريْن أنهم إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كَسْلانِين أيْ مُتَثَاقِلين مُتَبَاطِئين لا نشاط عندهم لأدائها ولا رغبة لهم فى القيام بها، لأنهم إمَّا يُخفون الكفر ولهذا فهم لا يعتقدون ثواباً فى فِعْلها ولا عقاباً على تَرْكها، وإمّا هم مسلمون لكنهم يُخفون شرَّاً حيث يَتَشَبّهون بهم ناسِين لآخرتهم ناسِين لآثار الصلاة عليهم حيث سعادتيّ الدنيا والآخرة، ولذلك فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم وهم في صلاتهم وفي كل أقوالهم وأفعالهم يُرَاءُون الناس حتي لا يُتَّهَمُوا بالكفر أو بترك أخلاق الإسلام أيْ يقولونها ويفعلونها لكي يَروهم فيَمدحوهم، فهم لم يقولوها ويفعلوها خالصة لله تعالي أيْ من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وإنما قالوها وفعلوها طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. ولذلك أيضا فحالهم ومِن صِفاتهم السيئة أنهم لا يَذْكرون الله إلا ذِكْرَاً قليلاً في أوقاتٍ قليلةٍ حينما يَرَاهم غيرهم فهم ليسوا مثل المسلمين الذين يَذكرون الله على كلّ حال ويُكْثِرون مِن ذِكْره سِرَّاً وعَلَنَاً وسواء مع الآخرين أم مُنْفَرِدِين (برجاء مراجعة صُوَر الذكر وفوائده وسعاداته في الداريْن في الآية ﴿152﴾ من سورة البقرة، لتكتمل المعاني﴾ بل هم ناسون لربهم ولدينهم تائهون في حياتهم تُعَسَاء حتماً فيها ثم في آخرتهم
ومعني "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿143﴾" أيْ مِن صِفاتهم السَّيِّئة كذلك كَوْنهم مُتَرَدِّدِين بين ذلك المذكور سابقاً وهو الإيمان والكفر، فلا هم صائِرين إلي جانب المؤمنين معهم ظاهراً وباطناً مَنْسُوبين حقيقة إليهم مُسْتَقِرِّين بينهم، ولا صائرين إلي الكافرين ظاهراً وباطناً باقين فيهم، بل ظَوَاهرهم مع المؤمنين، وبَوَاطِنهم مع الكافرين، ومنهم من هو في شكّ فأحيانا يَميل إلي هؤلاء وأحيانا إلي أولئك، والمقصود من هذا تحقيرهم وتَنْفير الفريقين من صُحْبتهم ليَنْبذهم ويَتركهم الفريقان، فكلّ فريقٍ حتي الكافرين يَحتقرهم ويَحذرهم لخِسَّتهم! إنهم دَوْمَاً في تَرَدُّدٍ وحيرةٍ وتَلَوُّنٍ من حالٍ لآخرٍ واضطرابٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ خوفاً من انكشاف أمرهم ومُعاقبتهم وفقدانهم منافعهم التي ينتفعونها من الفريقين.. إنَّ المنافقين يعيشون حياتهم خَسِيسِين مُنْحَطّين وَضِيعِين ذليلين تابعين مُتَشَكّكِين في كل ما حولهم خائفين منه.. إنهم بالتالي في تمام التعاسة قطعاً ويَنتظرهم حتماً في آخرتهم ما هو أعظم تعاسة.. ".. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿143﴾" أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟ وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ له يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهده ويُتابعه سبيلا أيْ طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿144﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الكافرين أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿144﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا الكافرين أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أن تَتّخِذوهم أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿144﴾" أيْ هل تريدون بفِعْلكم هذا بموالاتهم أن تجعلوا لله دليلاً واضحاً عليكم ضدّكم وسَبَبَاً لكي يُعاقبكم حيث قد نَهاكم ولم تستجيبوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ العقلاء حتماً لا يريدون أصلاً ذلك ومِن باب أوْلَيَ لا يفعلونه حتي لا يُعاقَبوا! وإنْ خالَفوا وفَعَلُوه استحقّوا قطعاً العقاب والذي سيَتَمَثّل في تَخَلّي الله عن رعايتهم ونصرهم وفي تسليط أعدائهم عليهم فيهزموهم ويذلّوهم ويَتحكّموا فيهم ويقودوهم بأنظمتهم الفاسدة المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم لمُخالَفتها لأخلاق الإسلام وما في ذلك من ذِلّة ومَهَانَةٍ وإبعادٍ منهم لهم عن أخلاق إسلامهم فيحيون تُعَساء في دنياهم ثم أعظم وأشدّ وأتمّ تعاسة في أخراهم، فلْيَحْذروا من ذلك حَذَرَاً شديداً، ولْيَتُوبوا سريعاً إنْ فَعَلوا شيئا من هذا، ليسعدوا فيهما
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿145﴾ ﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿146﴾ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴿147﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا كنتَ من التائبين، المُصْلِحين، المُعْتَصِمين بربهم، المُخْلصين، الشاكرين
هذا، ومعني "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿145﴾" أيْ هذا بيانٌ لفظاعة مصير المنافقين يوم القيامة، بعد عذابهم في دنياهم المُتَمَثّل في الخِسَّة والذلّة والقَلَق والاضطراب والتعاسة، حتي لا يَتَشَبَّه بهم أيّ أحد.. أيْ إنَّ المنافقين بسبب نفاقهم أيْ إظهارهم للخير وإخفائهم للشرّ وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات سيكونون في الطابق الأسفل من النار أيْ في أعمق مستوي حيث أشدّ العذاب والألم والتعاسة، لأنَّ ضَرَرهم أشدّ حتي من الكفّار الذين كفرهم وضَرَرهم واضح وبالتالي يَسْهل التعامُل معه وتَجَنّبه أمَّا هم فيُضِرُّون في الخَفاء ويَطعنون من الخَلْف فيَحتاج تَجَنّبهم لمزيدٍ من اتّخاذ الأسباب لكَشْفهم، وهذا الحال الفظيع وهذا الخلود هو في المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُخفون الكفر أمّا المنافقين من المسلمين الذين لا يُخفون كُفْراً ولكنْ شَرَّاً مَا مِن الشرور مع إسلامهم فإنهم يُحاسَبون علي قَدْرها إنْ لم يَتوبوا منها من غير الخلود في جهنم بل يخرجون بعد قضاء فترة عقوبتهم إلي أقلّ درجات الجنة.. ".. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿145﴾" أيْ ولا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهدهم ويُتابعهم نصيراً أي ناصراً ينصرهم بأنْ يُنقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئاً من أيِّ عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ يُناسبهم عندما ينزل بهم
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿146﴾" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَأَصْلَحُوا.." أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ.." أيْ وتَحَصَّنوا بالله دائما ولَجَأوا إليه وتوكّلوا أيْ اعتمدوا عليه وحده (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، واعتصموا برسوله الكريم ﷺ ، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظار باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله ﷺ يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.." أيْ وكانوا مُخْلِصين مُحسنين لله دينهم أيْ طاعتهم أيْ عند تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق دينهم الإسلام، أيْ يقولوا كلّ أقوالهم ويعملوا كل أعمالهم من أجل الله وحده لا من أجل غيره، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. ".. فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.." أيْ فهؤلاء المذكورون المَوْصوفون بهذه الصفات الطيبة، بالتوبة حيث الرجوع لربهم ولإسلامهم وبالإصلاح وبالاعتصام بالله وبإخلاص الدين له، بسببها يَخرجون حتماً من فريق المنافقين وما هم فيه من انحطاطٍ إلى صفوف المؤمنين وسُمُوِّهم وعُلُوِّهم، وفي هذا تشريفٌ لهم بسبب توبتهم وتشجيعٌ عليها.. إنهم في دنياهم سيكونون بعد ذلك قطعاً مع المؤمنين الصادقين الذين لم يَصْدر منهم نفاق أىْ معهم فى فضيلة الإيمان الصادق يُعين بعضهم بعضاً بعوْن ربهم علي كل خيرٍ وسعادةٍ لأنَّ التوبة الصادقة تمحو أيَّ سوءٍ سابق.. ثم هم في الآخرة سيَشتركون في الجنة مع المؤمنين في حُسْن جزائهم حسب درجات أعمالهم.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿146﴾" أي وسيُعطي الله المؤمنين بكل تأكيدٍ عطاءً عظيماً هائلاً لا يُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْلهم وصِدْقهم حيث كل خيرٍ وأمن وسعادة في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة
ومعني "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴿147﴾" أيْ هذا بيانٌ لكمال رحماته تعالي وتمام غِنَاه عن خَلْقه وتوضيحٌ لِمَتَيَ يكون العذاب.. أيْ ما يَستفيد الله بعذابكم؟ أيْ لا يَفعل ولا يَصنع بعذابكم شيئاً ولا حاجة له به! إنه لن يَنتفع بأيِّ شيءٍ من طاعتكم ولن يُضَرَّ بمعصيتكم لأنه كامل الغِنَيَ ولن يتأثّر مُلْكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ لا يُعَذّبكم الله ما دُمْتُم قد شكرتم وآمنتم، شكرتم نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، وآمَنْتم أي صَدَّقتم بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكتم وعملتم بكل أخلاق إسلامكم.. إنَّ الله تعالي لا يُعَذّب في الدنيا والآخرة بما يُناسب إلاّ مَن يَسْتَحِقّ العقاب وهو الذي يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لأنه ليس من العدل قطعاً مساواته بمَن يَفعل الخيرات والمصالح والمنافع والسعادات له ولغيره.. ".. وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴿147﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنه تعالي لا يُعَذّب الشاكرين المؤمنين.. أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه شاكراً أيْ كثير الشكر أي يَقبل القليل من عمل الخير ويُعطي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسِب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خير حتي ولو كان قليلا ليكون تشجيعا له علي الاستمرار فيه والزيادة منه فتزداد بذلك سعادة فاعله في الداريْن، وهو أيضا كان عليماً حيث عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .